مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)10%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77247 / تحميل: 11579
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وحدّث المنهال بن عمر قال: رأيت رأس الحسينعليه‌السلام بدمشق أمام الرؤوس ورجل يقرأ سورة الكهف، فلمـّا بلغ:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) . وإذ الرأس يخاطبه بلسان فصيح:« وأعجبُ مِنْ أصحابِ الكهفِ قتلِي وحَمْلي » (١) . وفي هذا الحال كُلّه لم ينقطع الدَّمُ من الرأس الشريف، وكان طريّاً، ويُشمّ منه رائحةٌ طيّبة(٢) .

 وبالرغم من جدّ يزيد في محو آثار أهل البيتعليهم‌السلام ، واحتقار حرم النّبّوة حتّى أنزلهم في الخربة التي لا تكنّهم من حرٍّ ولا برد(٣) ، واستعماله القسوة بالرأس المـُقدّس؛ من صلبه على باب الجامع الاُموي(٤) ، وفي البلد ثلاثة أيّام(٥) ، وعلى باب داره(٦) .

لم يزل أهل الشام - ومَن حضر فيها من غيرهم - يُشاهدون كراماتٍ باهراتٍ من الرأس الزاهر لا تصدر إلا من نبيٍّ أو وصيِّ نبيٍّ، فأحرجهم الموقف؛ خصوصاً بعد ما وقفت العقيلة زينب الكبرى سلام اللّه عليها في ذلك المجلس المغمور بالتمويهات والأضاليل، فأفادت النّاس بصيرة بنوايا ابن ميسون السيّئة، وموقفه من الشريعة الطاهرة، وأنّه لم يرد إلا استئصال آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث لم يُعهد في

 ____________________

 (١) الخرائج والجرائح للراوندي ٢ / ٥٧٧، الصراط المستقيم للعاملي / ١٧٩، فيض القدير في شرح الجامع الصغير للمنّاوي ١ / ٢٦٥، سُبل الهدى والرَّشاد للصالحي الشامي ١١ / ٧٦.

 (٢) الخطط المقريزيّة ٤ / ٢٨٤.

 (٣) الأمالي للشيخ الصدوق / ٢٣٢، روضة الواعظين / ١٩٢، إقبال الأعمال لابن طاووس ٣ / ١٠١، الأنوار النّعمانيّة ٣ / ٢٤٦.

 (٤) الأمالي للشيخ الصدوق / ٢٣٠، روضة الواعظين / ١٩١.

 (٥) الخطط المقريزيّة ٢ / ١٢٩.

 (٦) العوالم / ٤٤٣.

٢٨١

 الإسلام مثل هذا الفعل الشنيع خصوصاً مع عيال النّبّي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذلك الذي ما زال يهتف في مواقفه الكريمة باحترام المرأة وعدم التعرّض لها بسوء، وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يُشدّد النّكير إذا بلغه في مغازيه قتل النّساء(١) ، حتّى إنّ جماعة من المسلمين لمـّا استأذنوه لقتل ابن أبي الحقيق أذن لهم، وأمرهم بعدم التعرّض للنساء والصبيان وهُم مشركون(٢) .

وعلى سيرته مشى المسلمون، وإنّ سيّدهم أمير المؤمنينعليه‌السلام لمـّا أنزل عائشة في الدار، قال له رجل من الأزد: واللّه، لا تفلتنا هذه المرأة. فغضب أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال:« صهْ، لا تهتُكْنَ سِتْراً، ولا تَدخلْنَ دارَاً، ولا تُهيّجنَ امرأةً بِأَذًى وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وسفهنَ أُمَرَاءَكُمْ وصلحاءَكُمْ؛ فَإِنَّهُنَّ ضعافٌ، ولقد كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيُكافِئ المرْأةَ بالضَّربِ فَيُعَيَّرُ بِهَا عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ، فلا يَبلُغنِّي عنْ أحدٍ تعرَّضَ لامرأةٍ فأنكلُ بِهِ » (٣) .

 من هذا عرف النّاس ضلال يزيد وتيهه في الباطل؛ فاكثروا اللائمة عليه حتّى مَن لم ينتحل دينَ الإسلام.

 وحديثُ رسول ملك الروم مع يزيد في مجلسه أحدث هزّةً

 ____________________

 (١) مسند أحمد بن حنبل ١ / ٢٥٦، صحيح مسلم ٤ / ٢١ و ٥ / ١٤٤، سنن ابن ماجة ٢ / ٩٤٧، وغيرها من المصادر.

 (٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٨٤، البداية والنّهاية لابن كثير ٤ / ١٥٧، السّيرة النّبويّة لابن هشام ٣ / ٧٤٧.

 (٣) تاريخ الطبري ٣ / ٥٤٤، الكامل في التاريخ ٣ / ٢٥٧، وقسم منه في نهج البلاغة بشرح محمّد عبده ٣ / ٥١٥، الكافي للكليني ٥ / ٣٩.

٢٨٢

 في المجلس، وعرف يزيد الإنكار منهم، وأنّه لم تُجدِ فيهم تلك التمويهات؛ وكيف تٌجدي وقد سمع مَن حضرَ المجلس صوتاً عالياً من الرأس المـُقدّس لمـّا أمر يزيد بقتل ذلك الرسول:« لا حَولَ ولا قوةَ إلاّ باللّهِ » (١) . وأيّ أحد رأى أو سمع قبل يوم الحسينعليه‌السلام رأساً مقطوعاً ينطق بالكلام الفصيح؟ وهل يقدر ابنُ ميسون أنْ يقاوم أسرار اللّه، أو يُطفئ نوره تعالى شأنه؟! كلاّ.

 ولقد أنكرت عليه زوجته هند بنت عمرو بن سهيل، وكانت عند عبد اللّه بن عامر بن كريز، وهو ابن خال عثمان بن عفان، فإنّ عامراً وأروى اُمَّ عثمان اُمُّهم اُمّ حكيم البيضاء بنت عبد المـُطّلب بن هاشم بن عبد مناف، فأجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد بها(٢) ؛ فإنّها لمـّا أبصرت الرأس الزاهي مصلوباً على باب دارها، ورأت الأنوار النّبويّة تتصاعد إلى عنان السّماء، وشاهدت الدَّمَ يقطر منه طرياً، أدهشها الحالُ، وعظم مصابه في قلبها، فلم تتمالك دون أنْ دخلت على يزيد في مجلسه، مهتوكة الحجاب، وهي تصيح: رأسُ ابن بنت رسول اللّه على دارنا!

فقام إليها وغطّاها، وقال لها: أعولي وابكي على الحسين؛ فإنّه صريخة بني هاشم، عجّل عليه ابن زياد(٣) .

____________________

 (١) العوالم / ٤٤٣.

 (٢) مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٨١، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٦٢ / ٨٥، تاريخ الطبري ٤ / ٤٥٦، الكامل في التاريخ ٤ / ٨٤، وفي هذه المصادر وغيرها اسمها هند بنت عبد اللّه بن عامر بن كريز، وليس عبد اللّه بن عامر زوجها بل أبوها.

 (٣) المصادر المـُتقدّمة باختلاف في بعض الألفاظ.

٢٨٣

 ورأت في منامها كأنّ رجالاً نزلوا من السّماء وطافوا برأس الحسينعليه‌السلام يُسلّمون عليه، ولمـّا انتبهت جاءت إلى الرأس فأبصرت نوراً حوله، فطلبت يزيد لتقصّ عليه الرؤيا، فإذا هو في بعض الغرف يبكي ويقول: مالي ولحسين! وقد رأى مثل ما رأت(١) ، فأصبح يزيد ومِلء اُذنه حديث الأندية عن القسوة التي استعملها والجور الشديد، فلم يرَ مناصاً من إلقاء التبعة على عاتق ابن زياد وتبعيداً للسُّبّة عنه، ولكنّ الثابت لا يزال، وهذا هو السّرُّ في إنشاء كتاب صغير وصفه المؤرّخون بأنّه مثل ( اُذن الفأرة )، أرفقه بكتابه الكبير إلى الوالي بأخذ البيعة من المدينة عامّة، وفي الكتاب الصغير إلزام الحسينعليه‌السلام بالبيعة وإنْ أبى تضرب عنقه(٢) .

وليس الغرض من إنشاء الكتاب الصغير إلا أنّ يزيد لمـّا كان عالماً بأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجعله خليفة، ولا كانت بيعته ممّا اتَّفق عليها صلحاءُ الوقت وأشرافُ الاُمّة، وما صدر من الموافقة منهم، يوم أرادها أبوه معاوية، إنّما هو للوعيد والتهديد، فأراد يزيد أنْ يُخلِّي رسمياتهِ عن الأمر بقتل الحسينعليه‌السلام ، بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه النّاس وخطّؤوه، تدرّع بالعذر بخلوِّ كتابه للعامل بهذا الفعل، وإنّما هو شي جاء به من قِبَلِ نفسه، وكان له المجال حينئذ في إلقاء التبعة على العامل.

 ولكن هلمّ واقرأ العجيب الغريب في إحياء العلوم ج٣ ص١٠٦، في الآفة الثامنة من آفات اللسان، فهناك ترى الغزالي تائهاً

 ____________________

 (١) بحار الأنوار ٤٠ / ٨٠.

 (٢) تاريخ الطبري ٤ / ٢٥٠، الكامل في التاريخ ٤ / ١٤، البداية والنّهاية ٨ / ١٥٧.

٢٨٤

 في الغلواء لمـّا وشجت عليه عروق النّصب والتحيّز إلى الاُمويِّين، فأبى أنْ يلعن قاتل الحسينعليه‌السلام حتّى على الإجمال، فيُقال: ( لعنة اللّه على قاتل الحسين )، مُعلّلاً باحتمال موته بعد التوبة! وقد فاته أنّ التائب إنْ قُبلت توبته لا يشمله اللعن، فإذاً أيّ بأس إذا قيل: لعنة اللّه على قاتل الحسينعليه‌السلام ، لولا ذلك العداء المحتدم بين الحوائج والبغض لأهل هذا البيت الطاهرعليهم‌السلام ؟!

وأغرب من ذلك قياسه يزيد بوحشي قاتل حمزة أسد اللّه وأسد رسوله، فقال فيه: إنّ وحشي تاب عن الكفر والقتل جميعاً، ولا يجوز أنْ يُلعن مع أنّ [ القتلة ] كبيرة، فإذا لم يُقيّده بالتوبة وأطلق كان فيه خطر. . إلى آخره(١) .

 لا قياس بين يزيد ووحشي؛ فإنّ وحشيَّاً قتل حمزة وهو كافر، فلمَّا أسلم سقطت عنه كُلُّ تبعة كانت عليه؛ لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله، بخلاف يزيد؛ فإنّه قتل الحسينعليه‌السلام وهو يظهر الإسلام، وقد ارتدّ بقتله؛ إمّا لأنّ الحسينعليه‌السلام إمامٌ معصومٌ، أو لتشفّيه بذلك من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما صنعه مع خاله وجدّه يوم بدر.

 على أنّ من المقطوع به أنّ مَن باء بذلك الإثم العظيم، وهو قتلُ الحسينعليه‌السلام ، لا يتوفّق للتوبة نهائياً؛ فإنّه من الذنوب التي لا تدع صاحبها أنْ يتحيّز إلى خير أبداً.

 كما أنّ من المقطوع به أنّ وحشياً وإنْ أظهر الإسلام أمام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

 ____________________

 (١) إحياء علوم الدِّين للغزالي ٣ / ١٨٦، الآفة الثامنة في اللعن.

٢٨٥

وسكت عنه النّبيُّ، وقال:« غيّبْ وجهَكَ عنِّي » (١) . فلا يختم له بالصّلاح والسّعادة أبداً، ولا يأتي يوم القيامة وعليه شارة الهدى، وقد قتل سيّد الشُّهداء حمزة بن عبد المـُطّلب الشاهد للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة.

كيف لا يُلعن يزيد وقد جوّز العلماء المـُنقّبون لعنه، وصرّحوا بخروجه عن طريقة الإسلام، كما أفصح عن ذلك شعره؛ فإنّه لمـّا وردت عليه سبايا آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأشرفوا على ثنيّة جيرون، ونعب الغراب، قال(٢) :

لمـّا بَدَتْ تلكَ الحُمولُ وأشرَقَتْ

تلكَ الشُّموسُ على رُبَى جَيرونِ

نعبَ الغُرابُ فقلتُ قُلْ أو لا تَقُلْ

فقدْ اقتضيتُ مِنَ الرَّسولِ دُيونِي

____________________

(١) فتح الباري ٧ / ٢٨٤، المـُعجم الأوسط للطبراني ٢ / ٢٢٢، الاستيعاب لابن عبد البر ٤ / ٦٥، اُسد الغابة لابن الأثير ٥ / ٨٤، تهذيب التهذيب لابن حجر ١١ / ١٠٠، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٢٥١، الوافي بالوفيات للصفدي ٢٧ / ٢٥٣، وذكر ابن الأثير في اُسد الغابة ٥ / ٨٤: قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: مات وحشيٌّ في الخمر. أخرجه الثلاثة، وفي شرح مسند أبي حنيفة لملاّ علي القاري / ٥٢٨، وابن كثير في البداية والنّهاية ٤ / ٢٢، السّيرة النّبويّة لابن هشام ٣ / ٥٩٢، السّيرة الحلبيّة للحلبي ٢ / ٥٣٨، واللفظ للأوّل، وقال ابن الهمام: بلغني أنّ وحشيّاً لم يزل يُحدُّ في الخمر حتّى خُلع من الديوان، فكان ابن عمر يقول: لقد علمت أنّ اللّه تعالى لم يكنْ ليدع قاتل حمزةرضي‌الله‌عنه هذا.

 (٢) روح المعاني للآلوسي ٢٦ / ٧٢، في تفسير قوله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) .

٢٨٦

 فمن اُولئك العلماء القاضي أبو يعلى، وأحمد بن حنبل، وابن الجوزي(١) ، والكيا الهراسي(٢) ، والشيخ محمّد البكري، وسعد

____________________

(١) قال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ ٢ / ٢٦٦: وذكر جدّي أبو الفرج في كتاب الردّ على المـُتعصِّب العنيد المانع من ذمّ يزيد، وقال: سألني سائل، فقال: ما تقول في يزيد بن معاوية؟ فقلت له: يكفيه ما به. فقال: أتجوّز لعنته؟ فقلتُ: قد أجازها العلماء الورعون، منهم أحمد بن حنبل؛ فإنّه ذكر في حقِّ يزيد ما يزيد على اللعنة.

قال جدِّي: وأخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الباقي البزّار، أنبأنا أبو إسحاق البرمكي، أنبأنا أبو بكر بن عبد العزيز بن جعفر، أنبأنا أحمد بن محمّد الخلاّل، حدّثنا محمّد بن علي عن مهنّا بن يحيى، قال: سألت أحمد بن حنبل عن يزيد بن معاوية، فقال: هو الذي فعل ما فعل! قلتُ: وما فعل؟ قال: نهب المدينة! قلتُ: فتذكرْ عنه الحديثَ؟ قال: لا، ولا كرامة، لا ينبغي لأحد أنْ يكتب عنه الحديث.

وحكى جدّي أبو الفرج عن القاضي أبي يعلى الفرّاء في كتابه ( المعتمد في الاُصول ) بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل، قال: قلتُ لأبي: إنّ قوماً ينسبوننا إلى توالي يزيد، فقلتُ: فلم لا تلعنه؟ فقال: فمتَى رأيتني لعنتُ شيئاً؟! يا بُنيَّ، لِمَ لا يُلعن مَن لعنهُ اللّه في كتابه؟ فقلتُ: وأين لعنَ اللّهُ يزيدَ في كتابه؟

فقال: في قوله تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * اُولئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) سورة محمّد / ٢٢ - ٢٣. فهل يكون فسادٌ أعظم من القتل؟

وفي رواية: لمَّا سأله صالح، فقال: يا بُنيَّ، ما أقول في رجل لعنه اللّه في كتابه؟! وذكره.

قال جدّي: وصنّف القاضي أبو يعلى الفرّاء كتاباً ذكر فيه بيان مَن يستحقّ اللّعن، وذكر منهم يزيد، وقال في الكتاب المذكور: الممتنع من جواز لعن يزيد؛ إمّا أنْ يكون غيرَ عالم بذلك، أو منافقاً يُريد أنْ يُوهم بذلك، وربّما استفزّ الجهّال بقولهعليه‌السلام :« المؤمنُ لا يكونُ لعّاناً » .

قال القاضي أبو الحسن: وهذا محمول على مَن لا يستحقّ اللّعنَ.

فإنْ قيل: فقوله تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ) نزلت في منافقي اليهود؟ قلتُ: فقد أجاب جدّي عن هذا في كتابه ( الردّ على المـُتعصِّب العنيد ) وقال في الجواب: إنّ الذي نقل هذا مقاتل بن سليمان، ذكره في تفسيره، وقد أجمع عامّة المـُحدّثين على كذبه؛ كالبخاري، ووكيع، والسّاجي، والسّعدي، والرازي، والنّسائي، وغيرهم.

وقال: فسرّها أحمد بأنّها في المسلمين، فكيف يقبل قول أحدٍ إنّها نزلت في المنافقين؟!

فإنْ قيل: فقد قال النّبيُّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم:« أوّل جيشٍ يغزو القسطنطينية مغفورٌ له ». ويزيد أوّل مَن غزاها؟ قلنا: فقد قال النّبيُّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم:« لعنَ اللّهُ مَنْ أخافَ مَدينتي ». والآخر ينسخ الأوّل.

٢٨٧

.....................................................................

____________________

وأمّا قوله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم:« أوّل جيشٍ يغزو القسطنطينية... » . فإنّما يعني أبا أيّوب الأنصاري؛ لإنّه كان فيهم.

ولا خلاف أنّ يزيد أخاف أهل المدينة وسبى أهلها، ونهبها وأباحها، وتُسمى وقعة الحرّة...

 وقال جدّي في كتاب ( الردّ على المـُتعصِّب العنيد ): ليس العجب من قتال ابن زياد الحسين، وتسليطه عمر بن سعد على قتله والشّمر، وحمل الرؤوس إليه، وإنّما العجب من خذلان يزيد، وضربه بالقضيب ثناياه، وحمل آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم سبايا على أقتاب الجمال، وعزمه على أنْ يدفع فاطمة بنت الحسين إلى الرجل الذي طلبها، وإنشاد أبيات ابن الزَّبعري: ليت أشياخي ببدر شهدوا ...

 وردّه الرأس إلى المدينة وقد تغيّر ريحه، وما كان مقصوده إلاّ الفضيحة وإظهار رائحته للنّاس، أفيجوز أنْ يفعل هذا بالخوارج؟! أليس إجماع المسلمين أنّ الخوارج والبغاة يُكفَّنون ويُصلّى عليهم ويُدفنون؟!

 وكذا قول يزيد: لي أنْ أسبيكم - لمـّا طلب الرجل فاطمة بنت الحسين -، قول لا يقنع لقائله وفاعله اللّعنة! ولو لمْ يكُنْ في قلبه أحقادٌ جاهليّة، وأضغان بدريّة لاحترم الرأس لمـّا وصل إليه، ولم يضربه بالقضيب، وكفّنه ودفنه، وأحسنَ إلى آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم.

قلتُ: والدليل على صحة هذا؛ إنّه استدعى ابن زياد إليه وأعطاه أموالاً عظيمة وتحفاً كثيرة، وقرّب مجلسه ورفع منزلته، وأدخله على نسائه وجعله نديمه، وسكر ليلة فقال للمُغنّي: غنِّ. ثُمّ قال يزيد بديهاً:

اسقنِي شربةً تُروِّي فُؤادِي

ثُمّ مِلْ فاسقِ مثلَها ابنَ زيادِ

صاحبَ السّرِّ والأمانةِ عنْدي

ولتسديدِ مَغنمِي وجهادِي

قاتلَ الخارجيِّ أعنِي حُسيناً

ومُبيدَ الأعداءِ والْحُسّادِ

وقال ابن عقيل: وممّا يدلّ على كفره وزندقته - فضلاً عن جواز سبّه ولعنته - أشعارهُ التي أفصح فيها بالإلحاد، وأبان عن خبث الضّمير وسوء الاعتقاد، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها:

عُليّةُ هاتِي واعلنِي وترنَّمِي

بذلكَ إنّي لا اُحبُّ التناجيَا

حديثُ أبي سُفيانَ قِدماً سَمَا بهَا

إلى اُحدٍ حتَّى أقامَ البواكيَا

٢٨٨

......................................................................

____________________

ألا هاتِي فاسقِينِي على ذاك قهوةً

تَخيَّرهَا العنْسيُّ كَرْماً شآميَا

إذا مَا نَظرْنا في اُمورٍ قديمةٍ

وجدنَا حَلالاً شُربَها مُتواليَا

وإنْ مِتُّ يا اُمَّ الاُحيمرِ فانكَحِي

ولا تأمَلِي بعدَ الفراقِ تلاقيَا

فإنَّ الّذي حُدّثتِ عنْ يوم بعثِنا

أحاديثُ طسمٍ تجعلُ القلبَ ساهيَا

إلى غير ذلك ممّا نقلتُه من ديوانه، ولهذا تطّرق إلى هذه الاُمّة العار بولايته عليها، حتّى قال أبو العلاء المعرّي يُشير بالشّنار إليها:

أَرَى الأَيّامَ تَفعَلُ كُلَّ نُكرٍ

فَما أَنا في العَجائِبِ مُستَزيدُ

أَلَيسَ قُرَيشُكُمْ قَتَلَتْ حُسَيناً

وكانَ عَلى خِلافَتِكُم يَزيدُ

قلتُ: ولمـّا لعنه جدّي أبو الفرج على المنبر ببغداد بحضرة الإمام النّاصر وأكابر العلماء، قام جماعة من الجفاة من مجلسه فذهبوا، فقال جدّي: ( أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) سورة هود / ٩٥.

وحكى لي بعضُ أشياخنا عن ذلك اليوم: أنّ جماعة سألوا جدّي عن يزيد، فقال: ما تقولون في رجل ولي ثلاث سنين؛ في السّنة الاُولى قتل الحسين، وفي السّنة الثانية أخاف المدينة وأباحها، وفي السّنة الثالثة رمى الكعبة بالمجانيق وهدّمها وحرّمها؟

فقالوا: يُلعن. فقال: فالعنوه.

تذكرة الخواصّ / ٢ - ٢٦٥ - ٢٨٠، وارجع لكلام ابن الجوزي - الجدّ - في كتاب الردّ على المـُتعصِّب العنيد / ١٣ - ١٧.

(٢) وفيات الأعيان ٣ / ٢٨٧، فوات الوفيات ٢ / ٦٤١، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليٍّعليه‌السلام / ٣٠٢، السّيرة الحلبيّة ١ / ٣٦٧.

٢٨٩

التفتازاني(١) ، وسبط ابن الجوزي(٢) .

وقال الجاحظ: إنّ المنكرات التي اقترفها يزيد؛ من قتل الحسينعليه‌السلام ، وإخافته أهل المدينة، وهدم الكعبة، وحمل بنات رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا، وقرعه ثنايا الحسينعليه‌السلام بالعود، هل تدلّ هذه القسوة والعلظة على نصب وسوء رأيّ، وحقد و بغضاء، ونفاق ويقين مدخول، أمْ تدلّ على الإخلاص، وحبِّ النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله والحفظ له، وصحّة السّيرة؟!وعلى هذا فلا يعدو الفسقَ والضلال، وذلك أدنى مناله. فالفاسق ملعونٌ، ومَن نهى عن شتمِ الملعونِ فملعون(٣) .

وقال العلاّمة الآلوسي: لا توقّف في لعن يزيد؛ لكثرة أوصافه الخبيثة، وارتكابه الكبائر في جميع أيّام تكاليفه، ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكّة، والطامّة الكبرى ما فعله بأهل البيتعليهم‌السلام ، ورضاه بقتل الحسين على جدّه وعليه أفضل الصلاة والسّلام، واستبشاره بذلك وإهانته بأهل بيته ممّا تواتر معناه.

والذي يغلب على ظنّي أنّ الخبيث لمْ يكُنْ مُصدّقاً بالرسالة، وأنّ مجموع ما فعله مع أهل حرم اللّه وأهل نبيّه وعترته الطيّبين

 ____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٦٧.

 (٢) تذكرة الخواصّ ٢ / ٢٦٥ - ٢٨٠.

 (٣) رسائل الجاحظ / ٢٩٨، الحادية عشر في بني اُمّية.

٢٩٠

الطاهرين في الحياة وبعد الممات، وما ورد منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقائه ورقة من المصحف الشريف في قذر، ولا أظنّ أمره خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك، ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلاّ الصبر، ليقضِ اللّهُ أمراً كان مفعولا.

ولو سُلّم أنّ الخبيث كان مسلماً، فهو مُسلمٌ جَمعَ من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان، وأنا اذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين، ولو لم يُتصوّر أنْ يكون له مَثلٌ من الفاسقين، والظاهر أنّه لم يتُبْ، واحتمال توبته أضعف من إيمانهِ.

ويُلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة، فلعنة اللّه عليهم أجمعين، وعلى أنصارهم وشيعتهم ومَن مال ميلهم إلى يوم الدِّين، ما دمعت عينٌ على أبي عبد اللّه الحسينعليه‌السلام .

ويُعجبني قول شاعر العصر عبد الباقي أفندي العُمري:

يزيدُ على لعنِي عريضُ جنابِهِ

فأغدُو بهِ طولَ المَدَى ألعنُ اللَّعنَا

ومَن يخشى القيل والقال بلعن ذلك الضليل، فليقل: لعنَ اللّهُ مَن رضي بقتل الحسينعليه‌السلام ، ومَن آذى عترة النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله بغير حقٍّ، ومَن غصبهم حقّهم. فإنّه يكون لاعناً له؛ لدخوله تحت العموم دخولاً أوَّلياً في نفس الأمر.

ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ سوى ابن العربي المالكي وموافقيه؛ فإنّهم على ظاهر ما نُقل عنهم لا يُجوّزون لعن مَن رضي بقتل الحسينعليه‌السلام ، وذلك لَعمري، هو الضلال البعيد الذي كاد

٢٩١

يزيد على ضلال يزيد... إلى آخره(١) .

وبعد هذا فهل يتوقّف أحد من لعنِ يزيد والبراءة منه؟! وإنْ كان فليس [ هذا ] إلاّ الضَّلال والعناد، أعاذ الله أولياءه من شرّ الحقد.

لمـّا كثرت اللائمة على يزيد خشي الفتنة وانقلاب الأمر، فتداركه بإرجاع السّجادعليه‌السلام والعيال إلى وطنهم، ومكّنهم ممّا يريدون برأس الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء ودفنه مع الجسد، ولم يختلف في ذلك اثنان من علماء الإماميّة المعروفين بالبحث والتنقيب؛ ومن هنا نسبه المجلسي في البحار إلى المشهور بين العلماء(٢) .

وفي روضة الواعظين صفحة ١٦٥(٣) قال: ردّ الرأس إلى الجسد.

وقال ابن نما في مُثير الأحزان صفحة ٥٨: إنّه المـُعوّل عليه(٤) .

وفي اللهوف لابن طاووس صفحة ١١٢(٥) : عليه عملُ الإماميّة.

وقال ابن شهر آشوب في المناقب ٢ / ٢٠٠: ذكر المرتضى في بعض رسائله أنّ رأس الحسينعليه‌السلام اُعيد إلى بدنه في كربلاء(٦) .

وقال الطوسي: ومنه زيارة الأربعين(٧) .

وفي مقتل العوالم صفحة ١٥٤: إنّه المشهور بين علمائنا(٨) .

____________________

(١) روح المعاني للآلوسي ٢٦ / ٧٤، في تفسير قوله تعالى( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) الآية.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ١٤٤.

(٣) روضة الواعظين / ١٩٢.

(٤) مُثير الأحزان / ٨٥.

(٥) اللهوف في قتلى الطفوف / ١١٤.

(٦) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٣١.

(٧) تهذيب الأحكام ٦ / ١١٤.

(٨) العوالم / ٣٢٧، والعبارة: وذكر المرتضى في بعض مسائله: أنّ رأس الحسينعليه‌السلام ردّ إلى بدنهعليه‌السلام بكربلاء من الشام، وضُمَّ إليه.

٢٩٢

وهو ظاهر الطبرسي في إعلام الورى صفحة ١٥١(١) ، والسيّد في رياض المصائب.

وأمّا باقي الرؤوس فلم يتعرّض لها أرباب المقاتل، ولكنْ في نفَس المهموم صفحة ٢٥٣، ورياض الأحزان صفحة ١٥٥، عن حبيب السّير: إنّ يزيد سلّم جميع الرؤوس إلى علي بن الحسينعليه‌السلام ، فألحقها بالأبدان الطاهرة في العشرين من صفر، ثُمّ توجّه إلى المدينة(٢) . ولعلّ الاعتبار يُساعده؛ فإنّ يزيد لمـّا نقم عليه النّاس وكثر الاضطراب، لم يرَ بُدّاً من موافقة الإمام السّجادعليه‌السلام على كُلّ ما يُريد، وإخراجهم من الشّام عاجلاً.

نعم، ذكر العلاّمة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة ٤ / ٢٩٠ القسم الأوّل: أنّه رأى في سنة ١٣٢١ هـ في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهداً وضع على بابه صخرة مكتوب عليها: هذا مدفن رأس العبّاس بن عليٍّ، ورأس عليِّ الأكبر بن الحسينعليه‌السلام ، ورأس حبيب بن مظاهر.

قال: ثُمّ إنّه انهدم بعد ذلك بسنين هذا المشهد، واُعيد بناؤه، واُزيلت هذه الصخرة، وبُني ضريح داخل المشهد، ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء، ولكنَّ الحقيقة أنّه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المـُقدّم ذكرها بحسب ما كان موضوعاً على بابه كما مرّ، وهذا المشهد الظنّ القوي بصحة نسبته؛ لأنّ الرؤوس بعد حملها إلى دمشق والطواف بها، وانتهاء غرض يزيد من إشهار

____________________

(١) إعلام الورى ١ / ٤٧٦.

(٢) معالي السّبطين ٢ / ١٩١.

٢٩٣

الغلبة والتنكيل بأهلها والتَّشفّي، لا بدّ أنّ تُدفن في إحدى المقابر، فدُفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة باب الصغير، وحُفظ محلُّ دفنها، والله أعلم... إلى آخره(١) .

هذا ما ذكره السيّد (أيّده الله)، ولو اطّلع على حبيب السّير لاعتقد عدم صحة الدفن هناك، على أنّ التغيير الذي ذكره يدلّنا على أنّ الحفظة لذلك المشهد لهم غرضٌ آخر، وليس بالمستبعد أنّ ذلك المشهد محلّ صلب الرؤوس.

وحقيق أنْ يُقال في كُلّ منها:

هامةٌ في الحَياةِ طاوَلتِ الشُّهبَ

ومَا نالَها هُبوبُ الرِّياحِ

أنِفَتْ بعدَ موتٍها التُّربِ فاختا

رَتْ لهَا مَسكناً رُؤوسَ الرِّماحِ

____________________

(١) أعيان الشيعة ١ / ٦٢٧.

٢٩٤

مشهدُ الكفَّين:

لم يفتأ شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ، كما أنّهم يقتصّون آثارهم في معارفهم وتعاليمهم، يتبرّكون بتعيين كُلّ ما يتعلّق بهم؛ من مشهد أو معبد أو مقام فيتّبعونها بالحفاوة والتبجيل، ويرَون ذلك من متممّات الولاء ولوازم الاتّباع والمشايعة، وهو كما يرَون؛ لأنّه إمّا مشهد يُزار، أو معبد يُقصد للعبادة، أو محلُّ مسرّةٍ فيسرّهم ذلك، أو موقفُ مأساةٍ فيستاؤون لهم، وهذا هو التشيّع المحض، والاقتداء الصحيح.

ومن ذلك ما نشاهده في كربلاء المـُشرّفة من المقام ( لكفَّي أبي الفضل ) اللذين تناقلتهما الألسن، وأخذ حديثهما الخلف عن السّلف، والسّيرة المستمرّة بين الإماميّة كافية في القطع بثبوت ( المقامين )، ولولاها لانتقض الأمر في كثير من المشاهد والمعابد والمقامات.

يقع مقام ( الكفّ اليُمنى ) في جهة الشمال الشرقي على حدّ محلّة باب بغداد، ومحلّة باب الخان، قريباً من باب الصحن المـُطهّر الواقعة في الجهة الشرقية، وعلى جدار المقام شُبّاكٌ صغيرٌ، وعلى جبهته بيتان بالفارسيّة لم يُكتب اسم ناظمهما، ولا تاريخ البناء، ولا وضع الشبّاك، والبيتان:

افتاد دست راست خدايا زِپيكرم

بَر دامَنِ حُسين بِرسان دَستِ ديگرم

٢٩٥

دست چپم بجاست

اگر نيست دست راست

امّا هزار حيف كه

يك دست بى صداست

ويقع مقام ( الكفّ اليسرى ) في السّوق الصغير، القريب من الباب الصغير للصحن الواقعة في الجنوب الشرقي، ويُعرف بسوق باب العبّاس الصغير، وعلى الجدار شُبّاكٌ، وكُتب بالقاشاني عليه: هذا نظم الشيخ محمّد المعروف بالسّراج:

سَلْ إذا ما شئتَ واسْمَعْ واعلَمِ

ثُمّ خُذْ منِّي جوابَ المـُفهمِ

إنَّ فِي هذا المـُقامِ انقَطعَتْ

يَسْرةُ العبَّاسِ بحرِ الكَرمِ

هاهُنا يا صاحُ طاحَتْ بعدَما

طاحتْ اليُمنَى بجنبِ العلْقَمِ

اِجرِ دَمعَ العَينِ وابْكيهِ أساً

حُقَّ أنْ يُبكَى بدمعٍ مِنْ دَم

٢٩٦

الزيارة:

ذكرنا فيما تقدّم أنّ الزيارة من المأثور عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، ولكمال فضله وعلمه الجمّ، وورعه الموصوف وكراماته الخارجة عن حدّ الإحصاء، كان في المثول حول مرقده الأقدس بداعي الزلفى إلى المولى تعالى مزيدٌ لرسوخ العقيدة بأمر الدِّين، وتعريف للاُمّة بما وجب من حقّ اللّه تعالى على خلقه، وإنّ العبد كيف يجب عليه بذل ذاته في مرضاة الله عزّ وجل.

ثُمّ إنّ الزيارة وإنْ كانت مجرّد الحضور عند المزور، والسّلام عليه بأيِّ لفظ جاء به المسلّم، كما يؤيّده حديث مسلم بن ظبيان عن الصادقعليه‌السلام :« إذا أتيتَ القبرَ - يعني قبر الحسينعليه‌السلام -فقُلْ: صلّى اللّه عليكَ يا أبا عبد اللّه، فقد تمّتْ زيارتُكْ » (١) .

ولكنّ الألفاظ الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام يلزم الاحتفاظ به؛ لأنّها اشتملت على ما يناسب مقام المزور من الخواصِّ، وما له من جهاد نافع في سبيل الدِّين، مضافاً إلى ما فيها من التأدّب عند أداء السّلام عليه. فالقول المأثور من أهل البيتعليهم‌السلام في السّلام عليهم، أو على أحد أولادهم أو أصحابهم راجح، ومن هنا أفتى صاحب الرسائل فيها، وخاتمة المـُحدّثين النّوري في المستدرك باستحباب زيارة

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٤٤، تهذيب الأحكام ٦ / ١١٥.

٢٩٧

الحسينعليه‌السلام بالزِّيارة المأثورة وآدابها، ولا خصوصيّة له على غيره من أئمّة الهدىعليهم‌السلام ، وبذلك المناط يتسرّى إلى غيرهم.

ومَن يقرأ ما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في زيارة أبي الفضل بتدبّر وإمعان، يعرف رجحان الأخذ بقولهعليه‌السلام ، وإنّ الزائر مهما يبلغ من المعرفة والكمال لا يحيط خبراً بحقيقة أبي الفضل، وما يليق بجليل قدره وعظيم منزلته.

ومن هنا كان الراجح للزائر عند زيارة العبّاس أنْ يقف مواجهاً له، مستدبراً القبلة، كما هو الشأن في زيارة المعصومينعليهم‌السلام ، وهو مقتضى التأدّب أمام قمر بني هاشم؛ فإنّ زيارته ميِّتاً كزيارته حيَّاً ( والشُّهداءُ أحياءٌ عندَ ربِّهم يُرزَقون ). ولا شّك أنّه لو كان حيّاً ودخل عليه الزائر، فلا يُسلّم عليه إلاّ مواجهاً له.

ويشهد لذلك ما في مزار البحار ص١٦٥ عن المفيد وابن المشهدي والشهيد الأوّل، أنّهم قالوا: إنّ الزائر للعبّاس يقف أوّلاً على باب السّقيفة ويستأذن للدخول فيقول: سلامُ الله وسلامُ ملائكته... إلى آخره، ثُمّ يدخل وينكبُّ على القبر ويقول: السّلامُ عليكَ أيها العبد الصالح... إلى آخره، ثُمّ ينحرف إلى عند الرأس فيُصلّي ويدعو، ويعود إلى الضريح ويقف عند الرجلين، ويقول: السّلام عليك يا أبا الفضل العبّاس... إلى آخره(١) .

وقد يُدّعى أنّ هذه العبارة، وما رواه ابن قولويه عن أبي حمزة الثمالي، يقتضي الوقوف على قبر العبّاس من دون تخصيص بجهة من الجهات؛ فإنّ العبارة: ثُمّ ادخل وانكبّ على القبر، وقل... إلى آخره(٢) .

____________________

(١) المزار للشيخ المفيد / ١٢٠، المزار للمشهدي / ٣٨٩، وعنهما بحار الأنوار ٩٨ / ٢١٧.

(٢) كامل الزيارات / ٤٤٠.

٢٩٨

ولم يُبيّن كيفيّة الانكباب؛ هل أنّه من جهة القبلة، كما هو شأن زيارة الإمام المعصومعليه‌السلام ، أو من جهة عكسها، أو من جهة الرّجلين أو الرّأس؟ إلاّ أنّ المـُنصرف من الإطلاق إرادة جهة القبلة؛ خصوصاً لو كان الباب التي يدخل منها إلى الروضة المـُطهَّرة في ذلك الزمان كما عليه اليوم، وحينئذ تكون زيارة أبي الفضل على حدّ زيارة المعصومعليه‌السلام ، مواجهاً له مستدبراً القبلة.

فالتوقّف عن رجحان مواجهته حال الزيارة في غير محلّه، واستظهار المجلسي تخيير الوقوف في زيارته محلُّ المناقشة؛ فإنّه لم يرد عن الأئمّةعليهم‌السلام خبرُ التفصيل بين المعصومعليه‌السلام وغيره: باستحباب المواجهة له في الأوّل واستقبال القبلة في الثاني.

وغاية ما ورد في زيارة الحسين وأبيهعليهما‌السلام مواجهة القبر وجعل القبلة بين كتفيه، وهناك أخبار مطلقة بالوقوف على قبريهما كإطلاقها على قبري الجوادين والعسكريِّين والرِّضاعليهم‌السلام ، فلا تخصيص للمعصوم على غيره.

وما ورد في صفة زيارة المؤمنين من استقبال القبلة، ووضع اليد على القبر، والتوقيع المروي في الإقبال عن صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه:« إذا أردتَ زيارةَ الشُّهداءِ فقف عند رجلَي الحسين عليه‌السلام ، فاستقبل القبلة بوجهك؛ فإنّ هناك حومة الشُّهداء، وقُمْ وأشر إلى عليِّ بن الحسين، وقل: السّلام عليك يا أوّل قتيل من نسلِ خيرِ سليلٍ... ». إلى آخره(١) .

____________________

(١) المزار للمشهدي / ٤٨٦، إقبال الأعمال لابن طاووس ٣ / ٧٣، وعنه البحار ٤٥ / ٦٤.

٢٩٩

أخصّ من المـُدّعى، على أنّ الاعتبار يشهد بأنّ السّلام والثناء على المزور يستدعي مواجهته لا استدباره.

وكيف يكون الحال، فأبو الفضل ممتاز عن سائر المؤمنين بخواصٍّ لا يأتي البيان على حصرها، كيف وقد بلغ من الدرجات الرفيعة ما يغبطه عليها جميع الشُّهداء والصدِّيقين، وقد أعلمنا الإمام الصادقعليه‌السلام بالزيارة التي علّمها أبا حمزة الثمالي: بأنّ لأبي الفضل مكانة سامية ودرجات عالية لا ينالها إلا اُولوا العزم من الرُّسل.

فرجحان مواجهته عند السّلام عليه متعيّنٌ كما هو الحال في أئمّة الهدىعليهم‌السلام ، وبذلك أفتى شيخنا الحجّة الشيخ عبد الحسين مباركقدس‌سره في بشارة الزائرين، ثُمّ قال: ولَعمر أبيه الطّاهر صلوات اللّه وسلامه عليهما إنّه بذلك لحقيق جدير؛ فإنّه ابن سيّد الوصيّينعليه‌السلام ، والمواسي ريحانة خير الخلق أجمعينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن هنا كان بعض العارفين من العلماء الأعلام يُقدّم زيارة العبّاس على زيارة الحسينعليهما‌السلام ؛ لأنّه بابه في الحوائج - وهو في محلّه - وعليه العمل منذ عهد قديم، وفي هذا يقول الأديب السيّد مهدي الأعرجيرحمه‌الله :

قصدتُكَ قبلَ ابنِ النّبيِّ مُحمّدٍ

وأدمُعُ عينِي كالحَيا فِي انْسكابِهَا

لأنَّكَ فِي كُلِّ الحوائجِ بابُهُ

وهلْ يقصدونَ الدَّارَ مِنْ غيرِ بابِهَا

٣٠٠

صلاةُ الزيارة:

إنّ من الراجح المـُؤكّد صلاة ركعتين بعد الفراغ من زيارة أبي الفضلعليه‌السلام ، ويشهد له ما في مزار البحار ص١٦٥ عن مزار المفيد وابن المشهدي من الرواية عن الأئمّةعليهم‌السلام في كيفية زيارته وبعدها، قال: ثُمّ انحرف إلى عند الرأس فصلِّ ركعتين، ثُمّ صلِّ بعدهما ما بدا لك(١) .

وذكر السيّد ابن طاووس في مصباح الزائر الصلاة ركعتين بعد الفراغ من الزيارة، كما أنّ الشيخ المفيد وابن المشهدي وابن طاووس ذكروا في مزاراتهم عند زيارة العبّاس يوم عيد الفطر والأضحى، وليلة عرفة ويومها، الأمر بركعتي الزيارة بعد الفراغ منها(٢) .

وجاء في زيارة الأربعين: إنّ جابر الأنصاري زار العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، ثُمّ صلّى ركعتين، ومن البعيد جدّاً أنْ يكون الحكم ممنوعاً منه عند الأئمّةعليهم‌السلام ، ولا يعلمه مثل جابر المـُتخرّج من مدرستهم الكبرى، أو أنّه كان يغضُّ الطرف عن هذا المنع، بل ظاهر الفعل أنّهما ركعتي الزيارة، وأنَّه لِما عَلِمَهُ من أئمّتهعليهم‌السلام فسار على نهجهم.

____________________

(١) المزار للشيخ المفيد / ١٢٣، المزار للمشهدي / ١٧٩، المزار للشهيد الأوّل / ٢٨٠، بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٨.

(٢) المصادر السّابقة.

٣٠١

وإنّ من المـُستبعد جدّاً أنْ يُثبت هؤلاء الأعاظم، وهم عمد المذهب المـُنقّبون في الآثار، مثل هذه الوظائف من دون تخريج عن أئمّتهم؛ بحيث يتورّطون في التشريع المـُحرَّم والبدعة التي لا تُقال عثرتها، ( كلا وحاشا )، بل لم يودعوا في كتبهم ومزاراتهم إلاّ ما وقفوا عليه عن أئمّتهم، وإنْ لمْ نُحط به خبراً ككثير ممّا وقفوا عليه.

وقد ذكر السيّد ابن طاووس في آخر مصباح الزائر، أنّ ما وقع اختياره عليه في هذا الكتاب قد وصل على الوجه الذي استحسنه واعتمد عليه من جهة الرواية. وذكر ابن المشهدي في أوّل مزاره، أنّ ما أودعه في الكتاب ما حصل لديه من الروايات الواردة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام (١) . إذاً، فكيف يسعنا نسبة ما أودعوه في كتبهم إلى محضِ آرائهم من دون تخريج عن أهل البيتعليهم‌السلام ؟!

ولقد أفادنا بصيرة في تأكيد هذا شيخُ المـُحقّقين الشيخ أسد الله الكاظميقدس‌سره في كشف القناع ص٢٣٠، وحاصل ما ذكره:

إنّ من الجائز أنْ يحصل لبعض حَمَلة أسرار الأئمّةعليهم‌السلام العلم بقول الإمام الغائبعليه‌السلام عن الأبصار؛ إمّا بنقل أحد سفرائه سرّاً على وجهٍ يُفيد اليقين، وإمّا بتوقيعه ومكاتبته كذلك، وإمّا بالسّماع منهعليه‌السلام مشافهة على وجه لا يُنافي الرؤية في زمن الغيبة، فلا يسعه التصريح بما حصله من الحكم على هذه الوجوه، ولمْ يجدْ في الأدلة ما يدلّ عليه، ولمْ يكُنْ مخصوصاً بذلك الحكم، وممنوعاً عن إظهاره لسائر النّاس، فلا مندوحة حينئذ من إظهار هذا الذي أطَّلع عليه بصورة

____________________

(١) المزار للمشهدي / ٢٧.

٣٠٢

الاتّفاق عليه والتَّسالم، وهذا هو الأصل في كثير من الزيارات والآداب والأعمال المعروفة التي تداولت بين الإماميّة، ولا مُستند ظاهر من أخبارهم، ولا من كتب قدمائهم الواقفين على آثار الأئمّةعليهم‌السلام وأسرارهم.

ومن ذلك ما رواه والد العلاّمة الحلّي والسيّد ابن طاووس عن السيّد الكبير العابد رضي الدِّين محمّد بن محمّد الأزدي الحسيني، المجاور بالمشهد الأقدس الغروي، عن صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) في طريق الاستخارة بالسّبحة، وكما سمعه منه صلوات اللّه عليه ابن طاووس في السّرداب، وكدعاء العلوي المصري المعروف الذي علّمه محمّد بن علي العلوي الحسني المصري في حائر الحسينعليه‌السلام وقد أتاه في خمس ليال حتّى تعلّمه(١) .

وهذا هو الأصل في كثير من الأقوال المجهولةِ القائل، فيكون المـُطّلع على قول الإمامعليه‌السلام لمـّا وجده مُخالفاً لما عليه الإماميّة أو معظمهم، ولم يتمكّن من إظهاره على وجهه، وخشي أنْ يضيع الحقُّ جعله قولاً من أقوالهم، واعتمد عليه، وأفتى به من دون تصريح بدليله.

فتحصّل من ذلك: إنّ العلماء لم يدّعوا في كتبهم حكماً من الأحكام من دون أنْ يعثروا عليه عن أئمّتهم، وقد يكون بطريق المشافهة من إمام العصر أرواحنا له الفداء، فما ذكره المشايخ المـُتقدّمون في مزاراتهم من صلاة ركعتي الزيارة بعد الفراغ من زيارة أبي الفضل لا ينبغي الوقفة في رجحانه عند أهل البيتعليهم‌السلام ؛ إذ لعلّه وصل إليهم بالخصوص وإنْ جهلنا طريق الوصول إليهم.

____________________

(١) بحار الأنوار ٥١ / ٣٠٧، مُعجم أحاديث المهدي / ٤٨٧.

٣٠٣

ولو تنازلنا عن ذلك، لدلّنا حديث أبي حمزة الثمالي المروي في كامل الزيارات ص٢٤٠ عن الإمام الصادقعليه‌السلام الواردة في زيارة الحسينعليه‌السلام ، المشتملة على المـُقدّمات والمقارنات الكثيرة، وفيه قال الصادقعليه‌السلام :« فإذا فرغتَ فصلِّ ما أحببت، إلاّ أنّ ركعتي الزيارة لا بدّ منهما عند كُلِّ قبرٍ » (١) . فإنّه أثبت بعمومه رجحان ركعتي الزيارة عند كُلِّ مزور، وليس له مُخصّص يدفع العموم.

وخلوّ بعض الروايات الواردة في زيارة غير المعصومينعليهم‌السلام من التعرّض لركعتي الزيارة لا ينهض لمصادمة العموم، فالعامّ مُحكم في موارده حتّى يجيء المـُخصِّص المـُخرّج. كما أنّ خلوّ رواية أبي حمزة الثمالي الواردة في زيارة العبّاسعليه‌السلام عن ذكر صلاة الزيارة لا يدلّ على عدم المشروعية؛ والتنصيص في زيارة المعصومينعليهم‌السلام لا يدلّ على عدم المشروعية في غيرهم. فهذا العموم، وما ذُكر في مزارات مَن تقدّم ذكرهم من النّص عليها، كافٍ في المشروعية والرجحان.

فما حُكي عن بعض معاصري العلاّمة المجلسي من منع صلاة الزيارة لغير المعصومينعليهم‌السلام (٢) ، مستدلاّ ً بخلوِّ الأخبار الواردة في زياراتهم عنها، في غير محلّه؛ لِما عرفتَ من الدليل عليه، مضافاً إلى ما حكاه المجلسي في مزار البحار ص١٨٠، عن مؤلّف المزار الكبير، عن صفوان الجمّال، عن الصادقعليه‌السلام من

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤١٧، بحار الأنوار ٩٧ / ١٣٣.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٣٧٨.

٣٠٤

الأمر بصلاة ركعتي الزيارة بعد الفراغ من زيارة علي الأكبر(١) ، ويتمّ في أبي الفضل بعدم القول بالفصل.

وفيه: عن المزار الكبير(٢) ومزار الشهيد(٣) ، بعد ذكر زيارة مسلم بن عقيل، قال: ثُمّ انحرف إلى عند الرأس فصلِّ ركعتين، ثُم صلِّ بعدهما ما بدا لك. وظاهره أنّ الركعتين للزيارة، ولكنّه نقل عن مزار السيّد ابن طاووس التصريح بذلك؛ فإنّه بعد الفراغ من الزيارة قال: ثُمّ تُقبّل الضريح وتُصلِّي صلاة الزيارة، وتهدي ثوابها له، ثمّ تُودّعه وتنصرف(٤) .

وفي مزار البحار عند ذكره زيارة هاني بن عروة، قال: ثُمّ صلِّ صلاة الزيارة وأهدها له، وادعُ لنفسك بما شئت، وودّعه وانصرف(٥) .

وعلى ما تقدّم من أنّ هؤلاء الأعلام لم يدعوا في مزاراتهم إلاّ ما رووه عن أئمّتهم، أو وجدوه مرويّاً واعتمدوا عليه. ويتضح لنا رجحان ركعتّي الزيارة لمسلم وهانئ، على أنّ الإطلاق المذكور يشملهم، فإذاً في أبي الفضلعليه‌السلام بطريق أولى.

____________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ / ٩٨.

(٢) المزار للمشهدي / ١٧٩.

(٣) المزار للشهيد الأوّل / ٢٨٠.

(٤) بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٨.

(٥) بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٩.

٣٠٥

تقبيلُ القبر:

ممّا يدلّ على رجحان تقبيل قبر العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام ما رواه في مزار البحار ص١٨٠، عن مؤلّف المزار الكبير، عن صفوان الجمّال، عن الصادقعليه‌السلام ... وساق الزيارة للحسين إلى أنّ قال:

 « ثُمّ تأتي إلى قبرِ العبّاس بنِ عليٍّ، وتقول: السّلامُ عليكَ أيُّها الوليُّ... إلى أنْ قال:ثُمّ تنكبُّ على القبرِ وتُقبّلهُ، وتقول: بأبي واُمِّي يا ناصر دين اللّه! السّلام عليك يابن أمير المؤمنين، السّلام عليك يا ناصر الحُسينِ الصدِّيق، السّلام عليك يا شهيدُ ابنُ الشَّهيدِ، السّلامُ عليكَ منِّي أبداً ما بقيتُ، وصلّى اللهُ على مُحمّدٍ وآلِ مُحمّدٍ » (١) .

وفيه كفاية لمَن يتطلّب النّصّ على المشروعية والرجحان، ويضاف إليه ما ذكره المفيد وابن المشهدي وابن طاووس في مزاراتهم؛ فإنّهم قالوا بعد الاستئذان: ثُمّ ادخل وانكبّ على القبر، وقُلْ: السّلام عليك أيّها العبد الصالح... إلى آخره.

ولهذا وأمثاله كان شيخ المـُحقّقين ونخبة المـُرتاضين، مُجدّد المذهب في المئة الثانية عشر محمّد باقر البهبهاني إذا دخل إلى

____________________

(١) المزار للمشهدي / ٤٣٣، بحار الأنوار ٩٨ / ٢٦١.

٣٠٦

حرم أبي الفضلعليه‌السلام يُقبّل عتبة الباب كما يفعل في حرم سيّد الشُّهداءعليه‌السلام (١) ، وفعلُ هذا المـُتبحّرِ حُجّةٌ، وعملهُ أكبر برهان لمَن يتَّبع الحقّ:( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ) (٢) .

____________________

(١) أسرار الشهادة / ٦٦.

(٢) سورة يونس / ٣٥.

٣٠٧

أولادُه وأحفادُه:

كان للعباس من الأولاد خمسة: عبيد اللّه(١) ، والفضل(٢) ، والحسن(٣) ، والقاسم(٤) ، وبنتان.

وعدّ ابن شهر آشوب من الشُّهداء في الطَّفِّ ولد العبّاس محمّد(٥) .

فأمّا عبيد اللّه والفضل فاُمّهما لبابة بنت عبيد اللّه بن العبّاس بن عبد المـُطّلب، واُمّها اُمّ حكيم جويرية بنت خالد بن قرظ الكنانية، كانت من أجمل النّساء وأوفرهنّ عقلاً، ولمـّا قتل بسر بن أرطأة ولديها عبد الرحمن وقثم، وكانا صبيِّين صغيرين، وهي تنظر إليهما، فقدتْ الصبر وأخذها الوجد، فكانت تدور في البيت ناشرة شعرها، وتقول في رثائهما(٦) :

يا مَن أَحسَّ بِإبنيَّ اللّذين هُما

كالدرّتينِ تَشظّى عنهُما الصَّدفُ

____________________

(١) مستدركات علم الرجال للنمازي ٦ / ٢١٦.

(٢) الجريدة في أنساب العلويّين ٤ / ٣١٨.

(٣) الجوهرة في نسب الإمام علي / ٥٧.

(٤) الجريدة في أنساب العلويّين ٤ / ٣٥١.

(٥) الجريدة في أنساب العلويّين / ٥٨٨.

(٦) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٣، تاريخ مدينة دمشق ١٠ / ١٥٣، بلاغات النّساء لابن طيفور / ٢٠٢، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٨٤.

٣٠٨

يا مَن أَحسّ بإبنيَّ اللّذين هُما

سَمْعي وقلبي فمُخِّي اليومَ مُختَطَفُ

نُبئتُ بُسراً وَما صدّقت ما زَعموا

مِن قَولِهمْ وَمنَ الإفكِ الّذي اقترفوا

أَنحى عَلى وَدَجي إبنيَّ مُرهَفة

مَشحوذةً وَكذاك الإفكُ يُقترفُ

حتّى لَقيتُ رِجالاً مِن اُرومتهِ

شمّ الاُنوفِ لهُمْ في قومِهمْ شرفُ

فَالآنَ أَلعنُ بُسراً حقَّ لعنَتهِ

هَذا لَعمر أبي بُسرٍ هو السَّرفُ

مَن دلَّ والهةً حرّى مُولَّهة

عَلى صبيَّينِ ضلاّ إذْ غدا السّلف

فسمع قولها هذا رجلٌ من أهل اليمن فرقَّ لها، واتَّصل ببسرٍ حتّى وثق به، ثُمّ احتال لقتل ابنَي بسرٍ، فخرج بهما إلى وادي أوطاس فقتلهما وهرب، وقال(١) :

يا بُسرُ بُسرَ بني أرطأةَ ما طَلعتْ

شمسُ النَّهارِ ولا غابتْ على النّاسِ

خيرٌ مِنَ الهاشميِّينِ الذينَ هُمُ

عينُ الهُدَى وسمامُ الأسوقِ القاسِي

ماذا أردْتَ إلى طِفلَيْ مُولَّهةٍ

تبكِي وتُنشدُ مَنْ أثكلتَ في النّاسِ

____________________

(١) الأغاني ١٥ / ٤٥.

٣٠٩

أمَّا قتلتَهُما ظُلماً فقدْ شَرقتْ

مِنْ صاحِبَيكَ قناتي يومَ أوطاسِ

فاشرَبْ بكأسِهمَا ثُكْلىً كما شَربتْ

اُمُّ الصَّبيَّينِ أو ذاقَ ابنُ عبّاسِ

ولمـّا بلغ قتلهما أمير المؤمنينعليه‌السلام دعا على بُسر، فقال:« اللهمَّ، اسلبهُ دينَهُ وعقلَهُ » (١) . فخرف بُسر حتّى كان يلعب بخرئه، ويقول لمَن حضر: انظروا كيف يُطعمني هذان الغلامان ابنا عبيد اللّه هذا الخرء. فشدّوا يديه إلى ورائه ليُمنع من ذلك، فانجا يوماً في مكانه وأهوى بفمه ليتناول منه، فمُنع منه، فقال: أنتم تمنعوني وعبد الرحمن وقثم يُطعماني؟! وبقي على هذا حتّى مات في سنة ٨٦ هجرية أيّام الوليد بن عبد الملك(٢) .

خلف على لبابة بعد أبي الفضلعليه‌السلام زيد بن الحسن بن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فأولدها نفيسة، تزوّجها الوليد بن عبد الملك بن مروان(٣) ، فولدت له ولداً. فكان زيد بن الحسن يفد إلى الوليد ويجلس معه على السّرير ويُكرمه؛ لمكان ابنته عنده، ووهب له ثلاثين ألف دينار دفعة واحدة(٤) .

وخلف عليها بعد زيد بن الحسن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فولدت له القاسم(٥) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٨، أنساب الأشراف / ٤٦٠، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٨٥.

(٢) مروج الذهب ٢ / ١٥٥.

(٣) تذكرة الخواصّ ٢ / ٧١.

(٤) سرّ السّلسلة العلويّة للبخاري / ٢٩.

(٥) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣١.

٣١٠

واتَّفق أرباب النّسب على انحصار عقب العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام في ولده عبيد اللّه، وزاد الشيخ الفتوني العقب للحسن بن العبّاس، وكان عبيد اللّه من كبار العلماء، موصوفاً بالجمال والكمال والمروءة، مات سنة ١٥٥ هجرية(١) .

تزوّج من ثلاث عقائل كرام: رقيّة بنت الحسن بن عليعليه‌السلام ، وبنت معبد بن عبد اللّه بن عبد المـُطّلب، وبنت المـُسوّر بن مخرمة الزُّبيري(٢) .

ولعبيد اللّه هذا منزلة كبيرة عند السّجادعليه‌السلام كرامة لموقف أبيه ( قمر بن هاشم )، وكان إذا رأى عبيد اللّه رقَّ واستعبر باكياً، فإذا سُئل عنه، قال:« إنِّي أذكرُ موقفَ أبيهِ يومَ الطَّفِّ، فما أملك نفسي » .

وانحصر عقب عبيد اللّه في وَلده الحسن، وكان لاُمّ ولد، عاش سبعاً وستّين سنة، أولد الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس خمسة:

١ - الفضل.

٢ - حمزة.

٣ - إبراهيم.

٤ - العبّاس.

٥ - عبيد الله.

وكُلّهم أجلاّء فُضلاء اُدباء(٣) .

____________________

(١) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣١.

(٢) سرّ السّلسلة العلويّة / ٩٠ وذكر أنهنّ أربعة بإضافة اُمِّ عليِّ بن الحسين بن علي.

(٣) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣١.

٣١١

فأمّا الفضل فكان لسناً مُتكلّماً فصيحاً، شديد الدِّين، عظيم الشجاعة، مُحتشماً عند الخلفاء(١) ، ويُقال له: ( ابن الهاشميّة ).

أعقب من ثلاثة: جعفر، والعبّاس الأكبر، ومحمّد، ولكُلٍّ منهم أولادٌ فيهم الاُدباء.

فمنهم أبو العبّاس الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس، كان خطيباً شاعراً، وقع عقبه إلى قم وطبرستان، وله أبيات في موقف جدّه العبّاس يوم الطَّفِّ نذكرها في فصل المديح(٢) .

وأمّا حمزة فيُشبه جدّه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، خرج توقيع المأمون بخطّه، وفيه: يُعطَى لحمزة بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس بن أمير المؤمنين مئة ألف درهم؛ لشبهه بجدّه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

تزوّج(٣) زينب بنت الحسين بن علي بن عبد اللّه بن جعفر الطيّار المعروف بـ ( الزينبي )، نسبة إلى اُمّه زينب بنت أمير المؤمنينعليهما‌السلام . وكان حفيده محمّد بن علي بن حمزة متوّجاً شاعراً، نزل البصرة، وروى الحديث عن الرِّضاعليه‌السلام وغيره، مات سنة ٢٨٦ هـ(٤) .

وسيأتي في ترجمة ابن أخيه الحمزة صاحب المشهد بقرب الحلّة: إنّ اُمَّ صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) التجأت إلى بيته.

وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد ج٢ ص٦٣، وقال: كان راوية للأخبار، وهو صدوقٌ، وله الرواية عن جماعة كثير(٥) .

____________________

(١) سرّ السّلسلة العلويّة / ٩٠، المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٢.

(٢) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين.

(٣) سرّ السّلسلة العلويّة / ٩١.

(٤) عمدة الطالب / ٣٥٨.

(٥) تاريخ بغداد ٣ / ٣٢٨.

٣١٢

وفي تهذيب التهذيب ج٩ ص٣٥٢ وصفه بالعلوي البغدادي، ونقل عن ابن أبي حاتم: أنّه صدوق ثقة(١) .

وأمّا إبراهيم ويُعرف بـ (جردقة) كان من الفُقهاء الاُدباء والزُّهاد، وابنه عليٌّ أحد الأجواد، له جاه وشرف، مات سنة ٢٦٤ هـ، أولد تسعة عشر ولداً. ومن أحفاده: أبو الحسن عليُّ بن يحيى بن عليِّ بن إبراهيم جردقة، كان خليفة أبي عبد اللّه بن الداعي على النّقابة ببغداد(٢) .

وعبد اللّه بن عليِّ بن إبراهيم جردقة جاء إلى بغداد، ثُمّ سكن مصر، وكان يمتنع من التحدّث بها ثُمّ حدّث، وعنده كُتب تُسمّى ( الجعفريّة ) فيها فقه على مذهب الشيعة، توفّي في مصر، في رجب سنّة ثلاثمئة واثني عشر(٣) .

وقال أبو نصر البخاري في سرّ السّلسلة، في العبّاس بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس السّقا: ما رُؤي هاشميٌّ أعضب لساناً منه ولا أجرأ(٤) .

قدم بغداد في أيّام الرشيد وأقام في صحبته، ثُمّ صحب المأمون بعده، وكان من رجال بني هاشم فصاحة وشعراً(٥) ؛ ولجلالته وفضله وبلاغته وفصاحته يُكنّى عند الرشيد(٦) .

ومن شعره في إخاء أبي طالب لعبد اللّه والد الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(١) تهذيب التهذيب ٩ / ٣١٤.

(٢) عمدة الطالب / ٣٢٤.

(٣) تاريخ بغداد ١٠ / ٣٤٥.

(٤) سر السّلسلة العلويّة / ٩٠، عمدة الطالب / ٣٥٩.

(٥) تاريخ الإسلام للذهبي ١٣ / ٢٤٦، الوافي بالوفيات ١٦ / ٣٧٠.

(٦) عمدة الطالب / ٣٥٩.

٣١٣

إنّا وإنَّ رسولَ اللّهِ يجمَعُنا

أبٌ واُمٌّ وجدٌّ غيرُ مَوصومِ

جاءتْ بِنا ربَّةٌ مِنْ غيرِ اُسرتِهِ

غرَّاءُ مِنْ نسلِ عُمرانَ بنِ مَخزُومِ

حزناً يهادونَ مَنْ يسعَى ليُدرِكهَا

قرابةَ مَن حَواها غيرُ مسهومِ

رزقاً مِنَ اللّهِ أعطانَا فضيلتَهُ

والنّاسُ مِنْ بينِ مرزوقٍ ومحرُومِ (١)

وفي المجدي ممّا رثى به أخاه محمداً:

وارَى البَقيعُ محمّداً

للّهِ ما وارَى البقِيعُ

مِن نائلٍ ونَدَى ومعْ

رُوفٍ إذا ظنَّ المنوعُ

وَحياً لأيتام وأرْ

مَلةٍ إذا جفَّ الرَّبيعُ

ولَّى فولَّى الجودُ والْ

معروفُ والحسبُ الرَّفيعُ(٢)

وقال: وله أيضاً:

وقالتْ قُريشٌ لنَا مَفْخرٌ

رفيعٌ على النّاسِ لا يُنكَرُ

____________________

(١) تاريخ بغداد ١٢ / ١٢٦، أعيان الشيعة ٧ / ٤١٣.

(٢) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٦.

٣١٤

بنا تفْخَرونَ على غَيرِنا

فأمّا علينا فلا تفْخَروا(١)

أولد العبّاس عشرة ذكور: منهم عبد اللّه، واُمّه أفطسيّة، كان أديباً شاعراً.

فمِن شعره ما في المـُجدي:

وإنّي لاَستَحْيي أخِي أنْ أبرَّهُ

قريباً وأنْ أجفوهُ وهوَ بعيدُ

عليَّ لإخواني رقيبٌ مِنَ الهوى

تَبيدُ اللّيالي وهو ليسَ يَبيدُ(٢)

وفي سرّ السّلسلة: قدم على المأمون فتقدّم عنده، ولمـّا سمع بموته، قال: استوى النّاس بعدك يابن عبّاس. ومشى في جنازته، وكان يُسمِّيه: الشيخ ابن الشيخ(٣) .

وفي العُمدة: كان من أحفاد العبّاس السّقا أبو الطيّب محمّد بن حمزة بن عبد اللّه بن العبّاس بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس السّقا، من أكمل النّاس مروءة وسماحة، وصلة رحم وكثرة معروف، مع فضل كثير وجاه واسع. اتّخذ بمدينة الأردن - وهي طبرية - ضياعاً وأموالاً، فحسده طغج بن جفِّ الفرغاني، فدسّ إليه جُنداً قتلوه في بُستان له بطبرية، في صفر سنة ٢٩١ هـ.

ورثته الشعراء، فمِن ذلك ما في المـُجدي:

أيُّ رُزءٍ جَنَى على الإسلامِ

أيُّ خَطبٍ مِن الخُطوبِ الجِسامِ (٤)

____________________

(١) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٦.

(٢) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٧، عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٩.

(٣) عمدة الطالب / ٣٥٩.

(٤) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٧.

٣١٥

ويُقال لعقبه: بنو الشهيد.

وترجمه المـُرزباني في مُعجم الشعراء ص٤٣٥، وقال: شاعر الافتخار بآبائه، وكان في أيّام المتوكّل وبعده، وهو القائل:

وإنِّي كريمٌ مِنْ أكارِمِ سادةٍ

أكفُّهُمُ تَندَى بجزلِ المواهِبِ

هُمُ خيرُ مَنْ يَحفَى وأفضلُ ناعلٍ

وذروةُ هضبِ العُربِ مِنْ آلِ غالبِ

هُمُ المَنُّ والسّلوى لِدانٍ بودِّهِ

وكالسُّمِّ في حَلقِ العدوِّ المـُجانبِ(١)

وترجم له شيخنا الجليل العلاّمة ميرزا عبد الحسين الأميني في شعراء الغدير ج٣ ص٣، طبع النّجف.

وأمّا عبيد اللّه بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس السّقاعليه‌السلام ، ففيه يقول محمّد بن يوسف الجعفري: ما رأيتُ أحداً أهيباً ولا أهيأً ولا أمرَأً من عبيد اللّه بن الحسن. تولّى إمارة الحرمين مكّة والمدينة والقضاء بهما أيّام المأمون سنة ٢٠٤ هجرية(٢) ، وفي سنة ٢٠٤ هـ، وسنة ٢٠٦ هـ ولاّه إمارة الحاجّ(٣) . مات ببغداد في زمن المأمون، وكانت اُمّه واُمُّ أخيه العبّاس اُمَّ ولد(٤) .

وقع عقب عليِّ بن عبيد اللّه قاضي الحرمين إلى دمياط، ويُقال لهم: بنو هارون، وإلى فسا ويُقال لهم: بنو الهدهد، وإلى اليمن.

وأمّا الحسن بن عبيد اللّه الأمير القاضي، فأولد عبد الله. كان له

____________________

(١) الوافي بالوفيات ٢ / ٢٢٠، الغدير ٣ / ٢.

(٢) تاريخ بغداد ١٠ / ٣١٣.

(٣) تاريخ الطبري ٧ / ١٥٦.

(٤) تاريخ بغداد ١٠ / ٣١٣.

٣١٦

إحدى عشر ذكراً لهم أعقابٌ، منهم: القاسم بن عبد الله بن الحسن بن عبيد الله، قاضي الحرمين، ابن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس الشهيد السّقا. له خطر بالمدينة، وأحد أصحاب الرأي، لسناً مُتكلّماً، سعى بالصلح بين بني علي وجعفر، وهو صاحب أبي محمّد الحسن العسكريعليه‌السلام (١) .

فأحفاد العبّاس كُلّهم أجلاّء، لهم المكانة العالية بين النّاس؛ لأنّهم بين فقهاء ومُحدّثين، ونسّابين واُمراء واُدباء، ولا بدع بعد أنْ عرق فيهم ( أبو الفضل )، فحووا عنه المزايا الحميدة والصفات الجميلة، فكانت ملامح الشرف والسّؤدد تلوح على أسارير جبهاتهم، وملء أهابهم علم وعمل، وحشو الرَّدى هيبة ومنعة.

ومنهم السيّد الجليل صاحب الحرم المنيع والقبة السّامية ( الحمزة )، المدفون بالمدحتية قرب الحلّة.

____________________

(١) عمدة الطالب / ٣٤٩.

٣١٧

الحمزة:

من أحفاد أبي الفضل السيّد الجليل أبو يعلى الحمزة بن القاسم بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس بن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد كتب الشيخ الجليل العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي صحائفَ غُرٍّ في حياته، نذكرها بنصِّها:

قال: كان أبو يعلى أحد علماء العترة الطاهرة، وفذّاً من أفذاذ بيت الوحي، وأوحدي من سروات المجد من هاشم. روى الحديث فأكثر، واختلف إليه العلماء للأخذ منه، منهم: الشيخ الأجل أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري، وأحد أعاظم الشيعة ومن حملة علومهم، توفِّي سنة ٣٨٥ هـ.

والحسين بن هاشم المؤدِّب، وعلي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق، وكلاهما من مشايخ الصدوق ابن بابويه القمّي، وعلي بن محمّد القلانسي، من مشايخ الشيخ المـُبجّل أبي عبد الله الحسين بن عبيد الله الغضائري، وأبو عبد الله الحسين بن علي الخزاز القمّي(١) .

ويظهر من هذا أنّه كان في طبقة ثقة الإسلام الكُليني، قد أدرك القرنين: آخر الثالث وأواخر الرابع؛ ولأجله عقد له الشيخ العلاّمة الشيخ آقا بزرگ الرازي في كتابه ( نابغة الرواة في رابعة المئات ) ترجمة ضافية، فهو من علماء الغَيبة الصغرى.

____________________

(١) رجال النّجاشي / ١٤٠، نقد الرجال للتفرشي ٢ / ١٦٧، رجال العلاّمة / ١٢١، رجال ابن داود / ٨٥.

٣١٨

وله من الآثار والمآثر: كتاب التوحيد، وكتاب الزيارات والمناسك، وكتاب الرّد على محمّد بن جعفر الأسدي، وكتاب مَن روى عن جعفر بن محمّدعليهما‌السلام من الرجال، استحسنه النّجاشي والعلاّمة، ولهذا ترجمه شيخنا الرازي في مصفّى المقال في مُصنِّفي علماء الرجال، وأسند النّجاشي إلى هذه الكتب عن ابن الغضائري عن القلانسي عن سيّدنا المـُترجَم.

وإليك كلمات العلماء في الثناء عليه:

قال النّجاشي والعلاّمة: إنّه ثقة جليل القدر من أصحابنا، كثير الحديث(١) .

وقال المجلسي في الوجيزة: ثقة(٢) .

وفي تنقيح المقال للعلاّمة المامقاني: السيّد [ الجليل ] حمزة، ثقةٌ جليل القدر، عظيم المنزلة(٣) .

وفي الكنى والألقاب لشيخنا المـُحدّث الشيخ عبّاس القُمّي: إنّه أحد علماء الإجازة وأهل الحديث، وقد ذكره أهل الرجال في كتبهم وأثنوا عليه بالعلم والورع(٤) .

إنّ دون مقام سيّدنا المـُترجَم أنْ نقول فيه: إنّه من مشايخ الإجازة الذين هُم في غنى عن أيِّ تزكية وتوثيق، كما نصّ به الشهيد الثاني، وتلقّاه من بعده بالقبول؛ فإنّ ذلك شأن مَن لا يُعرف وجُهلت شخصيته، وإنّ مكانة سيّدنا أبي يعلى فوق ذلك كُلِّه على ما عرفته من نصوص علماء الرجال.

____________________

(١) رجال النّجاشي / ١٤٠، ٣٦٤.

(٢) بحار الأنوار ٥٣ / ٢٨٧.

(٣) تنقيح المقال ١ / ٣٧٦.

(٤) الكنى والألقاب للقُمّي ١ / ١٨٧.

٣١٩

ومن كراماته المـُريبة على حدِّ الإحصاء، المشهودة من مرقده المـُطهّر، فهو من رجالات أهل البيتعليهم‌السلام ، المعدودين من أعيان علمائهم بكُلّ فضيلة ظاهرة ومأثرة باهرة: والشَّمسُ معروفةٌ بالعينِ والأثرِ.

فليس هو ممّن نتحرّى إثبات ثقته حتّى نتشبّث بأمثال ذلك. نعم، كثرة روايته للحديث تنمّ عن فضل كثار من غزارة علمه؛ ومِن قولهمعليهم‌السلام :« اعرفوا منازلَ الرِّجال منّا بقَدر روايتهم عنّا » . فإنّ ذلك يشفّ عن التصلّب في أمرهم، والتضلّع بعلومهم، والبثِّ لمعارفهم، وبطبع الحال إنّ كُلاً من هذه يُقرّب العبد إلى اللّه تعالى وإليهمعليهم‌السلام زلفى، فكيف بمَن له الحظوة بها جمعاء، كسيّدنا المـُترجَم، على نسبه المـُتألِّق المـُتَّصل بدوحهم القُدسيِّ اليانع؟!

أمّا مشايخه في الرواية فجماعة عرفناهم بعد الفحص في المـُعجم وكتب الحديث؛ كرجال الطوسي، وفهرست النّجاشي، وإكمال الدِّين للصدوق، منهم:

١ - الشيخ الثّقة الجليل سعد بن عبد الله الأشعري.

٢ - محمّد بن سهل بن ذارويه القُمّي.

٣ - الحسن بن ميثل.

٤ - عليُّ بن عبد بن يحيى.

٥ - جعفر بن مالك الفزاري الكوفي.

٦ - أبو الحسن عليُّ بن الجنيد الرازي.

٧ - وأجلّ مشيخته عمّه مستودع ناموس الإمامة، والمؤتمن على وديعة المهيمن سبحانه، أبو عبد الله - أو عبيد اللّه - محمّد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاسعليه‌السلام .

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394