مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)20%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77215 / تحميل: 11571
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

صلاةُ الزيارة:

إنّ من الراجح المـُؤكّد صلاة ركعتين بعد الفراغ من زيارة أبي الفضلعليه‌السلام ، ويشهد له ما في مزار البحار ص١٦٥ عن مزار المفيد وابن المشهدي من الرواية عن الأئمّةعليهم‌السلام في كيفية زيارته وبعدها، قال: ثُمّ انحرف إلى عند الرأس فصلِّ ركعتين، ثُمّ صلِّ بعدهما ما بدا لك(١) .

وذكر السيّد ابن طاووس في مصباح الزائر الصلاة ركعتين بعد الفراغ من الزيارة، كما أنّ الشيخ المفيد وابن المشهدي وابن طاووس ذكروا في مزاراتهم عند زيارة العبّاس يوم عيد الفطر والأضحى، وليلة عرفة ويومها، الأمر بركعتي الزيارة بعد الفراغ منها(٢) .

وجاء في زيارة الأربعين: إنّ جابر الأنصاري زار العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، ثُمّ صلّى ركعتين، ومن البعيد جدّاً أنْ يكون الحكم ممنوعاً منه عند الأئمّةعليهم‌السلام ، ولا يعلمه مثل جابر المـُتخرّج من مدرستهم الكبرى، أو أنّه كان يغضُّ الطرف عن هذا المنع، بل ظاهر الفعل أنّهما ركعتي الزيارة، وأنَّه لِما عَلِمَهُ من أئمّتهعليهم‌السلام فسار على نهجهم.

____________________

(١) المزار للشيخ المفيد / ١٢٣، المزار للمشهدي / ١٧٩، المزار للشهيد الأوّل / ٢٨٠، بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٨.

(٢) المصادر السّابقة.

٣٠١

وإنّ من المـُستبعد جدّاً أنْ يُثبت هؤلاء الأعاظم، وهم عمد المذهب المـُنقّبون في الآثار، مثل هذه الوظائف من دون تخريج عن أئمّتهم؛ بحيث يتورّطون في التشريع المـُحرَّم والبدعة التي لا تُقال عثرتها، ( كلا وحاشا )، بل لم يودعوا في كتبهم ومزاراتهم إلاّ ما وقفوا عليه عن أئمّتهم، وإنْ لمْ نُحط به خبراً ككثير ممّا وقفوا عليه.

وقد ذكر السيّد ابن طاووس في آخر مصباح الزائر، أنّ ما وقع اختياره عليه في هذا الكتاب قد وصل على الوجه الذي استحسنه واعتمد عليه من جهة الرواية. وذكر ابن المشهدي في أوّل مزاره، أنّ ما أودعه في الكتاب ما حصل لديه من الروايات الواردة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام (١) . إذاً، فكيف يسعنا نسبة ما أودعوه في كتبهم إلى محضِ آرائهم من دون تخريج عن أهل البيتعليهم‌السلام ؟!

ولقد أفادنا بصيرة في تأكيد هذا شيخُ المـُحقّقين الشيخ أسد الله الكاظميقدس‌سره في كشف القناع ص٢٣٠، وحاصل ما ذكره:

إنّ من الجائز أنْ يحصل لبعض حَمَلة أسرار الأئمّةعليهم‌السلام العلم بقول الإمام الغائبعليه‌السلام عن الأبصار؛ إمّا بنقل أحد سفرائه سرّاً على وجهٍ يُفيد اليقين، وإمّا بتوقيعه ومكاتبته كذلك، وإمّا بالسّماع منهعليه‌السلام مشافهة على وجه لا يُنافي الرؤية في زمن الغيبة، فلا يسعه التصريح بما حصله من الحكم على هذه الوجوه، ولمْ يجدْ في الأدلة ما يدلّ عليه، ولمْ يكُنْ مخصوصاً بذلك الحكم، وممنوعاً عن إظهاره لسائر النّاس، فلا مندوحة حينئذ من إظهار هذا الذي أطَّلع عليه بصورة

____________________

(١) المزار للمشهدي / ٢٧.

٣٠٢

الاتّفاق عليه والتَّسالم، وهذا هو الأصل في كثير من الزيارات والآداب والأعمال المعروفة التي تداولت بين الإماميّة، ولا مُستند ظاهر من أخبارهم، ولا من كتب قدمائهم الواقفين على آثار الأئمّةعليهم‌السلام وأسرارهم.

ومن ذلك ما رواه والد العلاّمة الحلّي والسيّد ابن طاووس عن السيّد الكبير العابد رضي الدِّين محمّد بن محمّد الأزدي الحسيني، المجاور بالمشهد الأقدس الغروي، عن صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) في طريق الاستخارة بالسّبحة، وكما سمعه منه صلوات اللّه عليه ابن طاووس في السّرداب، وكدعاء العلوي المصري المعروف الذي علّمه محمّد بن علي العلوي الحسني المصري في حائر الحسينعليه‌السلام وقد أتاه في خمس ليال حتّى تعلّمه(١) .

وهذا هو الأصل في كثير من الأقوال المجهولةِ القائل، فيكون المـُطّلع على قول الإمامعليه‌السلام لمـّا وجده مُخالفاً لما عليه الإماميّة أو معظمهم، ولم يتمكّن من إظهاره على وجهه، وخشي أنْ يضيع الحقُّ جعله قولاً من أقوالهم، واعتمد عليه، وأفتى به من دون تصريح بدليله.

فتحصّل من ذلك: إنّ العلماء لم يدّعوا في كتبهم حكماً من الأحكام من دون أنْ يعثروا عليه عن أئمّتهم، وقد يكون بطريق المشافهة من إمام العصر أرواحنا له الفداء، فما ذكره المشايخ المـُتقدّمون في مزاراتهم من صلاة ركعتي الزيارة بعد الفراغ من زيارة أبي الفضل لا ينبغي الوقفة في رجحانه عند أهل البيتعليهم‌السلام ؛ إذ لعلّه وصل إليهم بالخصوص وإنْ جهلنا طريق الوصول إليهم.

____________________

(١) بحار الأنوار ٥١ / ٣٠٧، مُعجم أحاديث المهدي / ٤٨٧.

٣٠٣

ولو تنازلنا عن ذلك، لدلّنا حديث أبي حمزة الثمالي المروي في كامل الزيارات ص٢٤٠ عن الإمام الصادقعليه‌السلام الواردة في زيارة الحسينعليه‌السلام ، المشتملة على المـُقدّمات والمقارنات الكثيرة، وفيه قال الصادقعليه‌السلام :« فإذا فرغتَ فصلِّ ما أحببت، إلاّ أنّ ركعتي الزيارة لا بدّ منهما عند كُلِّ قبرٍ » (١) . فإنّه أثبت بعمومه رجحان ركعتي الزيارة عند كُلِّ مزور، وليس له مُخصّص يدفع العموم.

وخلوّ بعض الروايات الواردة في زيارة غير المعصومينعليهم‌السلام من التعرّض لركعتي الزيارة لا ينهض لمصادمة العموم، فالعامّ مُحكم في موارده حتّى يجيء المـُخصِّص المـُخرّج. كما أنّ خلوّ رواية أبي حمزة الثمالي الواردة في زيارة العبّاسعليه‌السلام عن ذكر صلاة الزيارة لا يدلّ على عدم المشروعية؛ والتنصيص في زيارة المعصومينعليهم‌السلام لا يدلّ على عدم المشروعية في غيرهم. فهذا العموم، وما ذُكر في مزارات مَن تقدّم ذكرهم من النّص عليها، كافٍ في المشروعية والرجحان.

فما حُكي عن بعض معاصري العلاّمة المجلسي من منع صلاة الزيارة لغير المعصومينعليهم‌السلام (٢) ، مستدلاّ ً بخلوِّ الأخبار الواردة في زياراتهم عنها، في غير محلّه؛ لِما عرفتَ من الدليل عليه، مضافاً إلى ما حكاه المجلسي في مزار البحار ص١٨٠، عن مؤلّف المزار الكبير، عن صفوان الجمّال، عن الصادقعليه‌السلام من

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤١٧، بحار الأنوار ٩٧ / ١٣٣.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٣٧٨.

٣٠٤

الأمر بصلاة ركعتي الزيارة بعد الفراغ من زيارة علي الأكبر(١) ، ويتمّ في أبي الفضل بعدم القول بالفصل.

وفيه: عن المزار الكبير(٢) ومزار الشهيد(٣) ، بعد ذكر زيارة مسلم بن عقيل، قال: ثُمّ انحرف إلى عند الرأس فصلِّ ركعتين، ثُم صلِّ بعدهما ما بدا لك. وظاهره أنّ الركعتين للزيارة، ولكنّه نقل عن مزار السيّد ابن طاووس التصريح بذلك؛ فإنّه بعد الفراغ من الزيارة قال: ثُمّ تُقبّل الضريح وتُصلِّي صلاة الزيارة، وتهدي ثوابها له، ثمّ تُودّعه وتنصرف(٤) .

وفي مزار البحار عند ذكره زيارة هاني بن عروة، قال: ثُمّ صلِّ صلاة الزيارة وأهدها له، وادعُ لنفسك بما شئت، وودّعه وانصرف(٥) .

وعلى ما تقدّم من أنّ هؤلاء الأعلام لم يدعوا في مزاراتهم إلاّ ما رووه عن أئمّتهم، أو وجدوه مرويّاً واعتمدوا عليه. ويتضح لنا رجحان ركعتّي الزيارة لمسلم وهانئ، على أنّ الإطلاق المذكور يشملهم، فإذاً في أبي الفضلعليه‌السلام بطريق أولى.

____________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ / ٩٨.

(٢) المزار للمشهدي / ١٧٩.

(٣) المزار للشهيد الأوّل / ٢٨٠.

(٤) بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٨.

(٥) بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٩.

٣٠٥

تقبيلُ القبر:

ممّا يدلّ على رجحان تقبيل قبر العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام ما رواه في مزار البحار ص١٨٠، عن مؤلّف المزار الكبير، عن صفوان الجمّال، عن الصادقعليه‌السلام ... وساق الزيارة للحسين إلى أنّ قال:

 « ثُمّ تأتي إلى قبرِ العبّاس بنِ عليٍّ، وتقول: السّلامُ عليكَ أيُّها الوليُّ... إلى أنْ قال:ثُمّ تنكبُّ على القبرِ وتُقبّلهُ، وتقول: بأبي واُمِّي يا ناصر دين اللّه! السّلام عليك يابن أمير المؤمنين، السّلام عليك يا ناصر الحُسينِ الصدِّيق، السّلام عليك يا شهيدُ ابنُ الشَّهيدِ، السّلامُ عليكَ منِّي أبداً ما بقيتُ، وصلّى اللهُ على مُحمّدٍ وآلِ مُحمّدٍ » (١) .

وفيه كفاية لمَن يتطلّب النّصّ على المشروعية والرجحان، ويضاف إليه ما ذكره المفيد وابن المشهدي وابن طاووس في مزاراتهم؛ فإنّهم قالوا بعد الاستئذان: ثُمّ ادخل وانكبّ على القبر، وقُلْ: السّلام عليك أيّها العبد الصالح... إلى آخره.

ولهذا وأمثاله كان شيخ المـُحقّقين ونخبة المـُرتاضين، مُجدّد المذهب في المئة الثانية عشر محمّد باقر البهبهاني إذا دخل إلى

____________________

(١) المزار للمشهدي / ٤٣٣، بحار الأنوار ٩٨ / ٢٦١.

٣٠٦

حرم أبي الفضلعليه‌السلام يُقبّل عتبة الباب كما يفعل في حرم سيّد الشُّهداءعليه‌السلام (١) ، وفعلُ هذا المـُتبحّرِ حُجّةٌ، وعملهُ أكبر برهان لمَن يتَّبع الحقّ:( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ) (٢) .

____________________

(١) أسرار الشهادة / ٦٦.

(٢) سورة يونس / ٣٥.

٣٠٧

أولادُه وأحفادُه:

كان للعباس من الأولاد خمسة: عبيد اللّه(١) ، والفضل(٢) ، والحسن(٣) ، والقاسم(٤) ، وبنتان.

وعدّ ابن شهر آشوب من الشُّهداء في الطَّفِّ ولد العبّاس محمّد(٥) .

فأمّا عبيد اللّه والفضل فاُمّهما لبابة بنت عبيد اللّه بن العبّاس بن عبد المـُطّلب، واُمّها اُمّ حكيم جويرية بنت خالد بن قرظ الكنانية، كانت من أجمل النّساء وأوفرهنّ عقلاً، ولمـّا قتل بسر بن أرطأة ولديها عبد الرحمن وقثم، وكانا صبيِّين صغيرين، وهي تنظر إليهما، فقدتْ الصبر وأخذها الوجد، فكانت تدور في البيت ناشرة شعرها، وتقول في رثائهما(٦) :

يا مَن أَحسَّ بِإبنيَّ اللّذين هُما

كالدرّتينِ تَشظّى عنهُما الصَّدفُ

____________________

(١) مستدركات علم الرجال للنمازي ٦ / ٢١٦.

(٢) الجريدة في أنساب العلويّين ٤ / ٣١٨.

(٣) الجوهرة في نسب الإمام علي / ٥٧.

(٤) الجريدة في أنساب العلويّين ٤ / ٣٥١.

(٥) الجريدة في أنساب العلويّين / ٥٨٨.

(٦) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٣، تاريخ مدينة دمشق ١٠ / ١٥٣، بلاغات النّساء لابن طيفور / ٢٠٢، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٨٤.

٣٠٨

يا مَن أَحسّ بإبنيَّ اللّذين هُما

سَمْعي وقلبي فمُخِّي اليومَ مُختَطَفُ

نُبئتُ بُسراً وَما صدّقت ما زَعموا

مِن قَولِهمْ وَمنَ الإفكِ الّذي اقترفوا

أَنحى عَلى وَدَجي إبنيَّ مُرهَفة

مَشحوذةً وَكذاك الإفكُ يُقترفُ

حتّى لَقيتُ رِجالاً مِن اُرومتهِ

شمّ الاُنوفِ لهُمْ في قومِهمْ شرفُ

فَالآنَ أَلعنُ بُسراً حقَّ لعنَتهِ

هَذا لَعمر أبي بُسرٍ هو السَّرفُ

مَن دلَّ والهةً حرّى مُولَّهة

عَلى صبيَّينِ ضلاّ إذْ غدا السّلف

فسمع قولها هذا رجلٌ من أهل اليمن فرقَّ لها، واتَّصل ببسرٍ حتّى وثق به، ثُمّ احتال لقتل ابنَي بسرٍ، فخرج بهما إلى وادي أوطاس فقتلهما وهرب، وقال(١) :

يا بُسرُ بُسرَ بني أرطأةَ ما طَلعتْ

شمسُ النَّهارِ ولا غابتْ على النّاسِ

خيرٌ مِنَ الهاشميِّينِ الذينَ هُمُ

عينُ الهُدَى وسمامُ الأسوقِ القاسِي

ماذا أردْتَ إلى طِفلَيْ مُولَّهةٍ

تبكِي وتُنشدُ مَنْ أثكلتَ في النّاسِ

____________________

(١) الأغاني ١٥ / ٤٥.

٣٠٩

أمَّا قتلتَهُما ظُلماً فقدْ شَرقتْ

مِنْ صاحِبَيكَ قناتي يومَ أوطاسِ

فاشرَبْ بكأسِهمَا ثُكْلىً كما شَربتْ

اُمُّ الصَّبيَّينِ أو ذاقَ ابنُ عبّاسِ

ولمـّا بلغ قتلهما أمير المؤمنينعليه‌السلام دعا على بُسر، فقال:« اللهمَّ، اسلبهُ دينَهُ وعقلَهُ » (١) . فخرف بُسر حتّى كان يلعب بخرئه، ويقول لمَن حضر: انظروا كيف يُطعمني هذان الغلامان ابنا عبيد اللّه هذا الخرء. فشدّوا يديه إلى ورائه ليُمنع من ذلك، فانجا يوماً في مكانه وأهوى بفمه ليتناول منه، فمُنع منه، فقال: أنتم تمنعوني وعبد الرحمن وقثم يُطعماني؟! وبقي على هذا حتّى مات في سنة ٨٦ هجرية أيّام الوليد بن عبد الملك(٢) .

خلف على لبابة بعد أبي الفضلعليه‌السلام زيد بن الحسن بن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فأولدها نفيسة، تزوّجها الوليد بن عبد الملك بن مروان(٣) ، فولدت له ولداً. فكان زيد بن الحسن يفد إلى الوليد ويجلس معه على السّرير ويُكرمه؛ لمكان ابنته عنده، ووهب له ثلاثين ألف دينار دفعة واحدة(٤) .

وخلف عليها بعد زيد بن الحسن الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فولدت له القاسم(٥) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٨، أنساب الأشراف / ٤٦٠، الكامل في التاريخ ٣ / ٣٨٥.

(٢) مروج الذهب ٢ / ١٥٥.

(٣) تذكرة الخواصّ ٢ / ٧١.

(٤) سرّ السّلسلة العلويّة للبخاري / ٢٩.

(٥) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣١.

٣١٠

واتَّفق أرباب النّسب على انحصار عقب العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام في ولده عبيد اللّه، وزاد الشيخ الفتوني العقب للحسن بن العبّاس، وكان عبيد اللّه من كبار العلماء، موصوفاً بالجمال والكمال والمروءة، مات سنة ١٥٥ هجرية(١) .

تزوّج من ثلاث عقائل كرام: رقيّة بنت الحسن بن عليعليه‌السلام ، وبنت معبد بن عبد اللّه بن عبد المـُطّلب، وبنت المـُسوّر بن مخرمة الزُّبيري(٢) .

ولعبيد اللّه هذا منزلة كبيرة عند السّجادعليه‌السلام كرامة لموقف أبيه ( قمر بن هاشم )، وكان إذا رأى عبيد اللّه رقَّ واستعبر باكياً، فإذا سُئل عنه، قال:« إنِّي أذكرُ موقفَ أبيهِ يومَ الطَّفِّ، فما أملك نفسي » .

وانحصر عقب عبيد اللّه في وَلده الحسن، وكان لاُمّ ولد، عاش سبعاً وستّين سنة، أولد الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس خمسة:

١ - الفضل.

٢ - حمزة.

٣ - إبراهيم.

٤ - العبّاس.

٥ - عبيد الله.

وكُلّهم أجلاّء فُضلاء اُدباء(٣) .

____________________

(١) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣١.

(٢) سرّ السّلسلة العلويّة / ٩٠ وذكر أنهنّ أربعة بإضافة اُمِّ عليِّ بن الحسين بن علي.

(٣) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣١.

٣١١

فأمّا الفضل فكان لسناً مُتكلّماً فصيحاً، شديد الدِّين، عظيم الشجاعة، مُحتشماً عند الخلفاء(١) ، ويُقال له: ( ابن الهاشميّة ).

أعقب من ثلاثة: جعفر، والعبّاس الأكبر، ومحمّد، ولكُلٍّ منهم أولادٌ فيهم الاُدباء.

فمنهم أبو العبّاس الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس، كان خطيباً شاعراً، وقع عقبه إلى قم وطبرستان، وله أبيات في موقف جدّه العبّاس يوم الطَّفِّ نذكرها في فصل المديح(٢) .

وأمّا حمزة فيُشبه جدّه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، خرج توقيع المأمون بخطّه، وفيه: يُعطَى لحمزة بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس بن أمير المؤمنين مئة ألف درهم؛ لشبهه بجدّه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

تزوّج(٣) زينب بنت الحسين بن علي بن عبد اللّه بن جعفر الطيّار المعروف بـ ( الزينبي )، نسبة إلى اُمّه زينب بنت أمير المؤمنينعليهما‌السلام . وكان حفيده محمّد بن علي بن حمزة متوّجاً شاعراً، نزل البصرة، وروى الحديث عن الرِّضاعليه‌السلام وغيره، مات سنة ٢٨٦ هـ(٤) .

وسيأتي في ترجمة ابن أخيه الحمزة صاحب المشهد بقرب الحلّة: إنّ اُمَّ صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) التجأت إلى بيته.

وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد ج٢ ص٦٣، وقال: كان راوية للأخبار، وهو صدوقٌ، وله الرواية عن جماعة كثير(٥) .

____________________

(١) سرّ السّلسلة العلويّة / ٩٠، المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٢.

(٢) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين.

(٣) سرّ السّلسلة العلويّة / ٩١.

(٤) عمدة الطالب / ٣٥٨.

(٥) تاريخ بغداد ٣ / ٣٢٨.

٣١٢

وفي تهذيب التهذيب ج٩ ص٣٥٢ وصفه بالعلوي البغدادي، ونقل عن ابن أبي حاتم: أنّه صدوق ثقة(١) .

وأمّا إبراهيم ويُعرف بـ (جردقة) كان من الفُقهاء الاُدباء والزُّهاد، وابنه عليٌّ أحد الأجواد، له جاه وشرف، مات سنة ٢٦٤ هـ، أولد تسعة عشر ولداً. ومن أحفاده: أبو الحسن عليُّ بن يحيى بن عليِّ بن إبراهيم جردقة، كان خليفة أبي عبد اللّه بن الداعي على النّقابة ببغداد(٢) .

وعبد اللّه بن عليِّ بن إبراهيم جردقة جاء إلى بغداد، ثُمّ سكن مصر، وكان يمتنع من التحدّث بها ثُمّ حدّث، وعنده كُتب تُسمّى ( الجعفريّة ) فيها فقه على مذهب الشيعة، توفّي في مصر، في رجب سنّة ثلاثمئة واثني عشر(٣) .

وقال أبو نصر البخاري في سرّ السّلسلة، في العبّاس بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس السّقا: ما رُؤي هاشميٌّ أعضب لساناً منه ولا أجرأ(٤) .

قدم بغداد في أيّام الرشيد وأقام في صحبته، ثُمّ صحب المأمون بعده، وكان من رجال بني هاشم فصاحة وشعراً(٥) ؛ ولجلالته وفضله وبلاغته وفصاحته يُكنّى عند الرشيد(٦) .

ومن شعره في إخاء أبي طالب لعبد اللّه والد الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(١) تهذيب التهذيب ٩ / ٣١٤.

(٢) عمدة الطالب / ٣٢٤.

(٣) تاريخ بغداد ١٠ / ٣٤٥.

(٤) سر السّلسلة العلويّة / ٩٠، عمدة الطالب / ٣٥٩.

(٥) تاريخ الإسلام للذهبي ١٣ / ٢٤٦، الوافي بالوفيات ١٦ / ٣٧٠.

(٦) عمدة الطالب / ٣٥٩.

٣١٣

إنّا وإنَّ رسولَ اللّهِ يجمَعُنا

أبٌ واُمٌّ وجدٌّ غيرُ مَوصومِ

جاءتْ بِنا ربَّةٌ مِنْ غيرِ اُسرتِهِ

غرَّاءُ مِنْ نسلِ عُمرانَ بنِ مَخزُومِ

حزناً يهادونَ مَنْ يسعَى ليُدرِكهَا

قرابةَ مَن حَواها غيرُ مسهومِ

رزقاً مِنَ اللّهِ أعطانَا فضيلتَهُ

والنّاسُ مِنْ بينِ مرزوقٍ ومحرُومِ (١)

وفي المجدي ممّا رثى به أخاه محمداً:

وارَى البَقيعُ محمّداً

للّهِ ما وارَى البقِيعُ

مِن نائلٍ ونَدَى ومعْ

رُوفٍ إذا ظنَّ المنوعُ

وَحياً لأيتام وأرْ

مَلةٍ إذا جفَّ الرَّبيعُ

ولَّى فولَّى الجودُ والْ

معروفُ والحسبُ الرَّفيعُ(٢)

وقال: وله أيضاً:

وقالتْ قُريشٌ لنَا مَفْخرٌ

رفيعٌ على النّاسِ لا يُنكَرُ

____________________

(١) تاريخ بغداد ١٢ / ١٢٦، أعيان الشيعة ٧ / ٤١٣.

(٢) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٦.

٣١٤

بنا تفْخَرونَ على غَيرِنا

فأمّا علينا فلا تفْخَروا(١)

أولد العبّاس عشرة ذكور: منهم عبد اللّه، واُمّه أفطسيّة، كان أديباً شاعراً.

فمِن شعره ما في المـُجدي:

وإنّي لاَستَحْيي أخِي أنْ أبرَّهُ

قريباً وأنْ أجفوهُ وهوَ بعيدُ

عليَّ لإخواني رقيبٌ مِنَ الهوى

تَبيدُ اللّيالي وهو ليسَ يَبيدُ(٢)

وفي سرّ السّلسلة: قدم على المأمون فتقدّم عنده، ولمـّا سمع بموته، قال: استوى النّاس بعدك يابن عبّاس. ومشى في جنازته، وكان يُسمِّيه: الشيخ ابن الشيخ(٣) .

وفي العُمدة: كان من أحفاد العبّاس السّقا أبو الطيّب محمّد بن حمزة بن عبد اللّه بن العبّاس بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس السّقا، من أكمل النّاس مروءة وسماحة، وصلة رحم وكثرة معروف، مع فضل كثير وجاه واسع. اتّخذ بمدينة الأردن - وهي طبرية - ضياعاً وأموالاً، فحسده طغج بن جفِّ الفرغاني، فدسّ إليه جُنداً قتلوه في بُستان له بطبرية، في صفر سنة ٢٩١ هـ.

ورثته الشعراء، فمِن ذلك ما في المـُجدي:

أيُّ رُزءٍ جَنَى على الإسلامِ

أيُّ خَطبٍ مِن الخُطوبِ الجِسامِ (٤)

____________________

(١) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٦.

(٢) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٧، عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٩.

(٣) عمدة الطالب / ٣٥٩.

(٤) المـُجدي في أنساب الطالبيِّين / ٢٣٧.

٣١٥

ويُقال لعقبه: بنو الشهيد.

وترجمه المـُرزباني في مُعجم الشعراء ص٤٣٥، وقال: شاعر الافتخار بآبائه، وكان في أيّام المتوكّل وبعده، وهو القائل:

وإنِّي كريمٌ مِنْ أكارِمِ سادةٍ

أكفُّهُمُ تَندَى بجزلِ المواهِبِ

هُمُ خيرُ مَنْ يَحفَى وأفضلُ ناعلٍ

وذروةُ هضبِ العُربِ مِنْ آلِ غالبِ

هُمُ المَنُّ والسّلوى لِدانٍ بودِّهِ

وكالسُّمِّ في حَلقِ العدوِّ المـُجانبِ(١)

وترجم له شيخنا الجليل العلاّمة ميرزا عبد الحسين الأميني في شعراء الغدير ج٣ ص٣، طبع النّجف.

وأمّا عبيد اللّه بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس السّقاعليه‌السلام ، ففيه يقول محمّد بن يوسف الجعفري: ما رأيتُ أحداً أهيباً ولا أهيأً ولا أمرَأً من عبيد اللّه بن الحسن. تولّى إمارة الحرمين مكّة والمدينة والقضاء بهما أيّام المأمون سنة ٢٠٤ هجرية(٢) ، وفي سنة ٢٠٤ هـ، وسنة ٢٠٦ هـ ولاّه إمارة الحاجّ(٣) . مات ببغداد في زمن المأمون، وكانت اُمّه واُمُّ أخيه العبّاس اُمَّ ولد(٤) .

وقع عقب عليِّ بن عبيد اللّه قاضي الحرمين إلى دمياط، ويُقال لهم: بنو هارون، وإلى فسا ويُقال لهم: بنو الهدهد، وإلى اليمن.

وأمّا الحسن بن عبيد اللّه الأمير القاضي، فأولد عبد الله. كان له

____________________

(١) الوافي بالوفيات ٢ / ٢٢٠، الغدير ٣ / ٢.

(٢) تاريخ بغداد ١٠ / ٣١٣.

(٣) تاريخ الطبري ٧ / ١٥٦.

(٤) تاريخ بغداد ١٠ / ٣١٣.

٣١٦

إحدى عشر ذكراً لهم أعقابٌ، منهم: القاسم بن عبد الله بن الحسن بن عبيد الله، قاضي الحرمين، ابن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس الشهيد السّقا. له خطر بالمدينة، وأحد أصحاب الرأي، لسناً مُتكلّماً، سعى بالصلح بين بني علي وجعفر، وهو صاحب أبي محمّد الحسن العسكريعليه‌السلام (١) .

فأحفاد العبّاس كُلّهم أجلاّء، لهم المكانة العالية بين النّاس؛ لأنّهم بين فقهاء ومُحدّثين، ونسّابين واُمراء واُدباء، ولا بدع بعد أنْ عرق فيهم ( أبو الفضل )، فحووا عنه المزايا الحميدة والصفات الجميلة، فكانت ملامح الشرف والسّؤدد تلوح على أسارير جبهاتهم، وملء أهابهم علم وعمل، وحشو الرَّدى هيبة ومنعة.

ومنهم السيّد الجليل صاحب الحرم المنيع والقبة السّامية ( الحمزة )، المدفون بالمدحتية قرب الحلّة.

____________________

(١) عمدة الطالب / ٣٤٩.

٣١٧

الحمزة:

من أحفاد أبي الفضل السيّد الجليل أبو يعلى الحمزة بن القاسم بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس بن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد كتب الشيخ الجليل العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي صحائفَ غُرٍّ في حياته، نذكرها بنصِّها:

قال: كان أبو يعلى أحد علماء العترة الطاهرة، وفذّاً من أفذاذ بيت الوحي، وأوحدي من سروات المجد من هاشم. روى الحديث فأكثر، واختلف إليه العلماء للأخذ منه، منهم: الشيخ الأجل أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري، وأحد أعاظم الشيعة ومن حملة علومهم، توفِّي سنة ٣٨٥ هـ.

والحسين بن هاشم المؤدِّب، وعلي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق، وكلاهما من مشايخ الصدوق ابن بابويه القمّي، وعلي بن محمّد القلانسي، من مشايخ الشيخ المـُبجّل أبي عبد الله الحسين بن عبيد الله الغضائري، وأبو عبد الله الحسين بن علي الخزاز القمّي(١) .

ويظهر من هذا أنّه كان في طبقة ثقة الإسلام الكُليني، قد أدرك القرنين: آخر الثالث وأواخر الرابع؛ ولأجله عقد له الشيخ العلاّمة الشيخ آقا بزرگ الرازي في كتابه ( نابغة الرواة في رابعة المئات ) ترجمة ضافية، فهو من علماء الغَيبة الصغرى.

____________________

(١) رجال النّجاشي / ١٤٠، نقد الرجال للتفرشي ٢ / ١٦٧، رجال العلاّمة / ١٢١، رجال ابن داود / ٨٥.

٣١٨

وله من الآثار والمآثر: كتاب التوحيد، وكتاب الزيارات والمناسك، وكتاب الرّد على محمّد بن جعفر الأسدي، وكتاب مَن روى عن جعفر بن محمّدعليهما‌السلام من الرجال، استحسنه النّجاشي والعلاّمة، ولهذا ترجمه شيخنا الرازي في مصفّى المقال في مُصنِّفي علماء الرجال، وأسند النّجاشي إلى هذه الكتب عن ابن الغضائري عن القلانسي عن سيّدنا المـُترجَم.

وإليك كلمات العلماء في الثناء عليه:

قال النّجاشي والعلاّمة: إنّه ثقة جليل القدر من أصحابنا، كثير الحديث(١) .

وقال المجلسي في الوجيزة: ثقة(٢) .

وفي تنقيح المقال للعلاّمة المامقاني: السيّد [ الجليل ] حمزة، ثقةٌ جليل القدر، عظيم المنزلة(٣) .

وفي الكنى والألقاب لشيخنا المـُحدّث الشيخ عبّاس القُمّي: إنّه أحد علماء الإجازة وأهل الحديث، وقد ذكره أهل الرجال في كتبهم وأثنوا عليه بالعلم والورع(٤) .

إنّ دون مقام سيّدنا المـُترجَم أنْ نقول فيه: إنّه من مشايخ الإجازة الذين هُم في غنى عن أيِّ تزكية وتوثيق، كما نصّ به الشهيد الثاني، وتلقّاه من بعده بالقبول؛ فإنّ ذلك شأن مَن لا يُعرف وجُهلت شخصيته، وإنّ مكانة سيّدنا أبي يعلى فوق ذلك كُلِّه على ما عرفته من نصوص علماء الرجال.

____________________

(١) رجال النّجاشي / ١٤٠، ٣٦٤.

(٢) بحار الأنوار ٥٣ / ٢٨٧.

(٣) تنقيح المقال ١ / ٣٧٦.

(٤) الكنى والألقاب للقُمّي ١ / ١٨٧.

٣١٩

ومن كراماته المـُريبة على حدِّ الإحصاء، المشهودة من مرقده المـُطهّر، فهو من رجالات أهل البيتعليهم‌السلام ، المعدودين من أعيان علمائهم بكُلّ فضيلة ظاهرة ومأثرة باهرة: والشَّمسُ معروفةٌ بالعينِ والأثرِ.

فليس هو ممّن نتحرّى إثبات ثقته حتّى نتشبّث بأمثال ذلك. نعم، كثرة روايته للحديث تنمّ عن فضل كثار من غزارة علمه؛ ومِن قولهمعليهم‌السلام :« اعرفوا منازلَ الرِّجال منّا بقَدر روايتهم عنّا » . فإنّ ذلك يشفّ عن التصلّب في أمرهم، والتضلّع بعلومهم، والبثِّ لمعارفهم، وبطبع الحال إنّ كُلاً من هذه يُقرّب العبد إلى اللّه تعالى وإليهمعليهم‌السلام زلفى، فكيف بمَن له الحظوة بها جمعاء، كسيّدنا المـُترجَم، على نسبه المـُتألِّق المـُتَّصل بدوحهم القُدسيِّ اليانع؟!

أمّا مشايخه في الرواية فجماعة عرفناهم بعد الفحص في المـُعجم وكتب الحديث؛ كرجال الطوسي، وفهرست النّجاشي، وإكمال الدِّين للصدوق، منهم:

١ - الشيخ الثّقة الجليل سعد بن عبد الله الأشعري.

٢ - محمّد بن سهل بن ذارويه القُمّي.

٣ - الحسن بن ميثل.

٤ - عليُّ بن عبد بن يحيى.

٥ - جعفر بن مالك الفزاري الكوفي.

٦ - أبو الحسن عليُّ بن الجنيد الرازي.

٧ - وأجلّ مشيخته عمّه مستودع ناموس الإمامة، والمؤتمن على وديعة المهيمن سبحانه، أبو عبد الله - أو عبيد اللّه - محمّد بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاسعليه‌السلام .

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و قوله:( وَ لا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ) ظاهر السياق أنّه معطوف على موضع قوله:( يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا ) و فائدته الدلالة بوجه على ما يعلّل به تمنّيهم الموت، و هو أنّهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شي‏ء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم، و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم محيط فيودّون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالى حديثاً مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم.

و أمّا قوله تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جميعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: ١٨، فسيجي‏ء إن شاء الله تعالى أنّ ذلك إنّما هو لإيجاب ملكة الكذب الّتي حصّلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شي‏ء.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً ) الآية: عن سلام الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و أبان بن تغلب عن أبي عبداللهعليه‌السلام : نزلت في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في عليعليه‌السلام .

ثمّ قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا و عليّ أبوا هذه الاُمّة.

أقول: و قال البحرانيّ في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روى ذلك صاحب الفائق.

و روى العيّاشيّ هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفرعليه‌السلام . و الّذي تعرّض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الّذي بحثنا عنه في مبحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنسانيّ لوجود الإنسان و المربّي له، فمعلّم الإنسان و مربّيه للكمال أبوه فمثل النبيّ و الوليّ عليهما أفضل الصلاة أحقّ أن يكون أباً للمؤمن المهتدي به، المقتبس من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسمانيّ الّذي

٣٨١

لا شأن له إلّا المبدئيّة و التربية في الجسم فالنبيّ و الوليّ أبوان، و الآيات القرآنيّة الّتي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيّين.

و في تفسير العيّاشيّ، أيضاً عن أبي صالح عن أبي العبّاس في قول الله:( وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ ) قال: الّذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال: الصاحب في السفر.

أقول: قوله: الّذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربى و الجنب معاً و إن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن جدّه قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم على الأفواه فلا تكلّم، و تكلّمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و اُنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً.

و اعلم، أنّ الأخبار كثيرة من طرق أهل السنّة في أنّ الآيات نازلة في حقّ اليهود، و هي و إن كان يؤيّدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرّض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادّخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم على الكفّ عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إيّاهم و إخزائهم لهم، و إفساد الأمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظريّ منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها على كثرتها.

و اعلم أيضاً أنّ الأخبار الواردة عن النبيّ و آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إحسان الوالدين و ذي القربى و اليتامى و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حدّ الإحصاء على معروفيّتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها ههنا على أنّ لكلّ منها وحده مواقع خاصّة في القرآن، ذكر ما يخصّها من الأخبار هناك أنسب.

٣٨٢

( سورة النساء آية ٤٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏ حَتّى‏ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّى‏ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى‏ أَوْ عَلَى‏ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُور( ٤٣)

( بيان)

قد تقدّم في الكلام على قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) البقرة: ٢١٩، أنّ الآيات المتعرّضة لأمر الخمر خمس طوائف، و أنّ ضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أنّ هذه الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا ) الآية نزلت بعد قوله تعالى:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حسناً ) النحل: ٦٧، و قوله:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و قبل قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثمّ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) المائدة: ٩٠، و هذه آخر الآيات نزولاً.

و يمكن بوجه أن يتصوّر الترتيب على خلاف هذا الّذي ذكرناه فتكون النازلة أوّلاً آية النحل ثمّ الأعراف ثمّ البقرة ثمّ النساء ثمّ المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصّة النهي القطعيّ عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهياً من غير تفسير ثمّ الّذي في سورة البقرة نهياً باتّاً لكنّ المسلمين كانوا يتعلّلون في الاجتناب حتّى نهوا عنها نهياً جازماً في حال الصلاة في سورة النساء، ثمّ نهياً مطلقاً في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلّك إن تدبّرت في مضامين الآيات رجّحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، و لم تجوّز بعد النهي الصريح الّذي في آية البقرة

٣٨٣

النهي الّذي في آية النساء المختصّ بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلّا أن نقول إنّ النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.

و أمّا وقوع الآية بين ما تقدّمها و ما تأخّر عنها من الآيات فهي كالمتخلّلة المعترضة إلّا أنّ ههنا احتمالاً ربّما صحّح هذا النحو من التخلّل و الاعتراض - و هو غير عزيز في القرآن - و هو جواز أن تتنزّل عدّة من الآيات ذات سياق واحد متّصل منسجم تدريجاً في خلال أيّام ثمّ تمسّ الحاجة إلى نزول آية أو آيات و لمّا تمّت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخلّلة و ليست بأجنبيّة بحسب الحقيقة و إنّما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهّم لازم الدفع، أو مسّ حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثمّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) الآيات القيامة: ٢٠، انظر إلى موضع قوله:( لا تُحَرِّكْ‏ - إلى قوله -بَيانَهُ ) .

و على هذا فلا حاجة إلى التكلّف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط ما بعدها بها، على أنّ القرآن إنّما نزل نجوماً، و لا موجب لهذا الارتباط إلّا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتّصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا - إلى قوله -ما تَقُولُونَ ) المراد بالصلاة المسجد، و الدليل عليه قوله:( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) ، و المقتضي لهذا التجوّز قوله حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أنّ المقصود إفادة أنّكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون ربّ العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، و هذا المعنى - كما ترى - يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكنّ الصلاة لمّا كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة - على السنة - و كان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام على ما ترى.

٣٨٤

و على هذا فقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون و ليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.

قوله تعالى: ( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) المائدة: ٦.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضل عن أبي الحسنعليه‌السلام في قول الله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قال: هذا قبل أن تحرّم الخمر.

أقول: ينبغي أن تحمّل الرواية على أنّ المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلّا فهي مخالفة للكتاب فإنّ آية الأعراف تحرّم الخمر بعنوان أنّه إثم صريحاً، و آية البقرة تصرّح بأنّ في الخمر إثماً كبيراً فقد حرّمت الخمر في مكّة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكّيّة و لم يختلف أحد في أنّ هذه الآية ( آية النساء ) مدنيّة، و مثل هذه الرواية عدّة روايات من طرق أهل السنّة تصرّح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً و لا متناعساً و لا متثاقلاً فإنّها من خلل النفاق فإنّ الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى يعني من النوم.

أقول: قوله: فإنّها من خلل النفاق استفادعليه‌السلام ذلك من قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، فالمتمرّد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامهعليه‌السلام و يكون تفسيراً للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر.

و قد وردت روايات اُخر في تفسيره بالنوم رواها العيّاشيّ في تفسيره عن الحلبيّ في روايتين، و الكلينيّ في الكافي بإسناده عن زيد الشحّام عن الصادقعليه‌السلام ، و بإسناده عن زرارة عن الباقرعليه‌السلام ، و روى هذا المعنى أيضاً البخاريّ في صحيحة عن أنس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٨٥

( سورة النساء الآيات ٤٤ - ٥٨)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّوا السّبِيلَ( ٤٤) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ نَصِير( ٤٥) مِنَ الّذِينَ هَادُوا يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِن لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيل( ٤٦) يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُم مِن قَبْلِ أَن نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى‏ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُول( ٤٧) إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى‏ إِثْماً عَظِيم( ٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكّيْ مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيل( ٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى‏ بِهِ إِثْماً مُبِين( ٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَءِ أَهْدَى‏ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل( ٥١) أُولئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِير( ٥٢) أَم لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِير( ٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى‏ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيم( ٥٤) فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَن صَدّ عَنْهُ وَكَفَى‏ بِجَهَنّمَ سَعِير( ٥٥) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيم( ٥٦) وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلّا ظَلِيل( ٥٧) إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِير( ٥٨)

٣٨٦

( بيان)

آيات متعرّضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين الله، و أوضح ما تنطبق على اليهود، و هي ذات سياق واحد متّصل، و الآية الأخيرة:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها ) الآية، و إن ذكر بعضهم أنّها مكّيّة، و استثناها في آيتين من سورة النساء المدنيّة، و هي هذه الآية، و قوله تعالى:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية: النساء: ١٧٦، على ما في المجمع لكنّ الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنّها في الإرث، و قد شرع في المدينة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، قد تقدّم في الكلام على الآيات (٣٦ - ٤٢) أنّها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حقّ اليهود.

و بالجملة يلوح من هذه الآيات أنّ اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودّة و يظهرون لهم النصح فيفتّنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدّهم في التقدّم و التعالي، و هذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حقّ اليهود أو في حقّ من كان يسار اليهود و يصادقهم ثمّ تنحرف عن الحقّ بتحريفهم، و يميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثمّ يأمر بالبخل.

و هذا هو الّذي يستفاد من قوله:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَ الله أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ) إلى آخر الآية.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - أنّ ما نبيّنه لكم تصديق ما بيّناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء أنّك ترى اليهود الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب أي حظّاً منه لا جميعه كما يدّعون لأنفسهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يريدون أن تضلّوا السبيل فإنّهم و إن لقوكم ببشر الوجه،

٣٨٧

و ظهروا لكم في زيّ الصلاح، و اتّصلوا بكم اتّصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربّما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم لكنّهم ما يريدون إلّا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرّنّكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإيّاكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوّقة و إلقاءآتهم المزخرفة و أنتم تقدّرون أنّهم أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوّة و كفى بالله وليّاً، و كفى بالله نصيراً، فأيّ حاجة مع ولايته و نصرته إلى ولايتهم و نصرتهم.

قوله تعالى: ( مِنَ الّذينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ - إلى قوله -فِي الدِّينِ ) ( من ) في قوله:( مِنَ الّذينَ ) ، بيانيّة، و هو بيان لقوله في الآية السابقة:( الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) ، أو لقوله:( بِأَعْدائِكُمْ ) ، و ربّما قيل: إنّ قوله: مِنَ الّذينَ هادُوا خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، و التقدير: من الّذين هادوا قوم يحرّفون، أو من الّذين هادوا من يحرّفون، قالوا: و حذف الموصوف شائع كقول ذي الرمّة:

فظلوا و منهم دمعه سابق له

و آخر يشني دمعة العين بالمهل

يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه و قد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إمّا بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، و إمّا بتفسير ما ورد عن موسىعليه‌السلام في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحقّ كما أوّلوا ما ورد في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بشارات التوراة، و من قبل أوّلوا ما ورد في المسيحعليه‌السلام من البشارة، و قالوا: إنّ الموعود لم يجي‏ء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلى اليوم.

و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ) ، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله:( يُحَرِّفُونَ ) ، و يكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير

٣٨٨

المحلّ الّذي ينبغي أن يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقّه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكّم و الاستهزاء، و كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال:( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.

و قوله:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) أصل اللّيّ الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحقّ، و الإزراء و الإهانة في صور التأدّب و الاحترام فإنّ المؤمنين كانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ما كانوا يكلّمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منّا حتّى نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحريّ بمقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذمّوا به في هذه الآية، و هو قوله تعالى:( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) ثمّ فسّره بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ثمّ عطف عليه كعطف التفسير قوله:( وَ راعِنا ) ثمّ ذكر أنّ هذا الفعال المذموم منهم ليّ بالألسن، و طعن في الدين فقال:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أنّهم قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ ) كون هذا القول منهم و هو مشتمل على أدب الدين، و الخضوع للحقّ خيراً و أقوم ممّا قالوه (مع اشتماله على اللّيّ و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام) مبنيّ على مقايسة الأثر الحقّ الّذي في هذا الكلام الحقّ على ما يظنّونه من الأثر في كلامهم و إن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحقّ و بين الأثر المظنون حقّاً، و المعنى: أنّهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر ممّا يقدّرون في أنفسهم لهذا اللّيّ و الطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللهوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ الله خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) الجمعة: ١١.

قوله تعالى: ( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) تأييس للسامعين

٣٨٩

من أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنّه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفّقون للإيمان، و لذلك قيل: لو أنّهم قالوا، الدالّ على التمنّي المشعر بالاستحالة.

و الظاهر أنّ الباء في قوله:( بِكُفْرِهِمْ ) للسببيّة دون الآية، فإنّ الكفر يمكن أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعاً قاطعاً لكنّهم لمّا كفروا (و سيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم) لعنهم الله بسبب ذلك لعناً ألزم الكفر عليهم إلزاماً لا يؤمنون بذلك إلّا قليلاً فافهم ذلك.

و أمّا قوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) فقد قيل: إنّ( قَلِيلًا ) حال، و التقدير: إلّا و هم قليل أي لا يؤمنون إلّا في حال هم قليل، و ربّما قيل: إنّ( قَلِيلًا ) صفة لموصوف محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلّا إيماناً قليلاً، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أنّ اتّصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو من قبيل الوصف بحال المتعلّق أي إيماناً المؤمن به قليل.

و أمّا ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة، و ذكر أنّ المعنى: فلا يؤمنون إلّا قليلاً من الإيمان لا يعتدّ به إذ لا يصلح عمل صاحبه، و لا يزكّي نفسه، و لا يرقّي عقله فقد أخطأ، فإنّ الإيمان إنّما يتّصف بالمستقرّ و المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أمّا القلّة و تقابلها الكثرة فلا يتّصف بهما، و خاصّة في مثل القرآن الّذي هو أبلغ الكلام.

على أنّ المراد بالإيمان المذكور في الآية أمّا حقيقة الإيمان القلبيّ في مقابل النفاق أو صورة الإيمان الّتي ربّما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره على أيّ معنى من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام ممّا لا ريب فيه، و الآيات القرآنيّة ناصّة فيه، قال تعالى:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) النساء: ٩٤، مع أنّ الّذي يستثني الله تعالى منه قوله:( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، كان يكفي فيه أقلّ درجات الإيمان أو الإسلام الظاهريّ بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا كسائر المسلمين.

و الّذي أوقعه في هذا الخطأ ما توهّمه أنّ لعنه تعالى إيّاهم بكفرهم لا يجوز

٣٩٠

أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدّر أنّ القلّة وصف الإيمان و هي ما لا يعتدّ به من الإيمان حتّى يستقيم قوله:( لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، و قد غفل عن أنّ هذه الخطابات و ما تشتمل عليه من صفات الذمّ و المؤاخذات و التوبيخات كلّ ذلك متوجّهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع، فالّذي لحقه اللّعن و الغضب و المؤاخذات العامّة الاُخرى إنّما هو المجتمع اليهوديّ من حيث أنّه مجتمع مكوّن فلا يؤمنون و لا يسعدون و لا يفلحون، و هو كذلك إلى هذا اليوم و هم على ذلك إلى يوم القيامة.

و أمّا الاستثناء فإنّما هو بالنسبة إلى الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضاً لذلك الحكم، و المحوج إلى هذا الاستثناء أنّ الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ ) حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد - و إن كان ذلك نفياً عنهم من حيث جهة الاجتماع - و كان يمكن فيه أن يتوهّم أنّ الحكم شامل لكلّ واحد واحد منهم بحيث لا يتخلّص منه أحد استثني فقيل:( إلّا قَلِيلًا ) فالآية تجري مجرى قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) النساء: ٦٦.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ) إلخ الطمس محو أثر الشي‏ء، و الوجه ما يستقبلك من الشي‏ء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدّم الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الاُمور المعنويّة كما يستعمل في الاُمور الحسّيّة، و الأدبار جمع دبر بضمّتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالى:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) الأعراف: ١٦٣، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها ) البقرة: ٦٦.

و قد كانت الآيات السابقة - كما عرفت - متعرّضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، و انجرّ القول إلى أنّهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلّا قليلاً فعمّ الخطاب لجميع

٣٩١

أهل الكتاب - على ما يفيده قوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) و دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الّذي نزّله مصدّقاً لما معهم، و أوعدهم بالسخط الّذي يلحقهم لو تمرّدوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتّبعانهم اتّباعاً لا ريب فيه.

و ذلك ما ذكره بقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) ، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه الّتي يتوجّه بها البشر نحو مقاصدها الحيويّة ممّا فيه سعادة الإنسان المترقّبة و المرجوّة لكن لا المحو الّذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و بطلان آثارها بل محواً يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة الّتي فطر عليها لكن لمّا كانت منصوبة إلى الأقفية و مردودة على الأدبار لا تقصد إلّا ما خلّفته وراءها، و لا تمشي إليه إلّا القهقرى.

و هذا الإنسان - و هو بالطبع و الفطرة متوجّه نحو ما يراه خيراً و سعادة لنفسه - كلّما توجّه إلى ما يراه خيراً لنفسه، و صلاحاً لدينه أو لدنياه لم ينل إلّا شرّاً و فساداً، و كلّما بالغ في التقدّم زاد في التأخّر، و ليس يفلح أبداً.

و أمّا لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدّم من آيات أصحاب السبت الّتي تخبر عن مسخهم قردة.

و على هذا فلفظة( أَوْ ) في قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، على ظاهرها من إفادة الترديد، و الفرق بين الوعيدين أنّ الأوّل أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلّا في بعض كيفيّاتها، و الثاني أعني اللّعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانيّة إلى خلقة حيوانيّة كالقردة.

فهؤلاء إن تمرّدوا عن الامتثال - و سوف يتمرّدون على ما تفيده خاتمة الآية - كان لهم إحدى سخطتين: إمّا طمس الوجوه، و إمّا اللّعن كلعن أصحاب السبت لكنّ الآية تدلّ على أنّ هذه السخطة لا تعمّهم جميعهم حيث قال:( وُجُوهاً ) فأتى بالجمع المنكّر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكّر، و لتنكير الوجوه و عدم تعيينه نكتة اُخرى هي أنّ المقام لمّا كان مقام الإيعاد و التهديد، و هو إيعاد للجماعة بشرّ لا يحلق إلّا ببعضهم كان إبهام الأفراد الّذين يقع عليهم السخط الإلهيّ أوقع في الإنذار و التخويف لأنّ

٣٩٢

وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كلّ واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسّه هذا العذاب البئيس، و هذه الصناعة شائعة في اللّسان في مقام التهديد و التخويف.

و في قوله تعالى:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، حيث أرجع فيه ضمير( هم ) الموضوع لاُولي العقل إلى قوله:( وُجُوهاً ) كما هو الظاهر تلويحاً أو تصريحاً بأنّ المراد بالوجوه الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم، و بذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه و ردّها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، و يقوى بذلك احتمال أنّ المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر، و إدراك الواقعيّات على واقعيّتها إلى حال الاعوجاج و الانحطاط الفكريّ بحيث لا يشاهد حقّاً إلّا أعرض عنه و اشمأزّ منه، و لا باطلاً إلّا مال إليه و تولّع به.

و هذا نوع من التصرّف الإلهيّ مقتاً و نقمة نظير ما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مرّة وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الأنعام: ١١٠.

فتبيّن ممّا مرّ أنّ المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرّف إلهيّ في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحقّ و تجنّب الباطل إلى اتّباع الباطل و الاحتراز عن الحقّ في باب الإيمان بالله و آياته كما يؤيّده صدر الآية:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، و كذا تبيّن أنّ المراد باللّعن المذكور فيها المسخ.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم و يكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة، و فيه: أنّ قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ينافي ذلك كما تقدّم بيانه.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس الخذلان الدنيويّ فلا يزالون على ذلّة و نكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلّا بدّلها الله عليهم سراباً لا خير فيه، و فيه: أنّه و إن كان لا يبعد كلّ البعد لكنّ صدر الآية - كما تقدّم - ينافيه.

و ربّما قيل: إنّ المراد به إجلاؤهم و ردّهم ثانياً إلى حيث خرجوا منه، و قد

٣٩٣

اُخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام و فلسطين، و قد جاؤوا منهما، و فيه أنّ صدر الآية بسياقه يؤيّد غير ذلك كما عرفته.

نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد به تقليب أفئدتهم، و طمس وجوه باطنهم من الحقّ إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله و آياته، ثمّ إنّ الدين الحقّ لمّا كان هو الصراط الّذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلّا بركوبه و الاستواء عليه، و ليس للناكب عنه إلّا الوقوع في كانون الفساد، و السقوط في مهابط الهلاك، قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا ) الروم: ٤١، و قال تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ ) الأعراف: ٩٦، و لازم هذه الحقيقة أنّ طمس الوجوه عن المعارف الحقّة الدينيّة طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال و تمهّد الأمن و سؤدد الاستقلال و الملك، و كلّ ما يطيب به العيش، و يدرّ به ضرع العمل اللّهمّ إلّا على قدر ما نسرّب الموادّ الدينيّة في مجتمعهم و على هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلّها أو كلّها.

قوله تعالى: ( وَ كانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا ) إشارة إلى أنّ الأمر لا محالة واقع، و قد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم و إنزال السخط عليهم، و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، و غير ذلك في آيات كثيرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) ظاهر السياق أنّ الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا: فإنّكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، و الله لا يغفر أن يشرك به فيحلّ عليكم غضبه و عقوبته فيطمس وجوهكم بردّها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتّب آثار الشرك الدنيويّة من طمس أو لعن عليه.

و هذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، و قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ

٣٩٤