مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)10%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77226 / تحميل: 11576
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فقال عبد المـُطّلب: مدّ يدَك. فمدّ يده فضرب بيده على يد أبي طالب، ثم قال عبد المـُطّلب: الآن خُفف عليَّ الموت. ولم يزل يُقبّله ويقول: أشهدُ أنّي لم أرَ أحداً في وُلدي أطيبَ ريحاً منك، ولا أحسنَ وجهاً(١) .

وفرح أبو طالب بهذه الحظوة من أبيه العطوف، وراح يدّخر لنفسه السّعادة الخالدة بكفالة نبيّ الرحمة، فقام بأمره، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود والعرب وقريش، وكان يؤثره على أهله ونفسه، وكيف لا يؤثره وهو يشاهد من ابن أخيه - ولمـّا يبلغ التاسعة من عمره - هيكل القدس يملأ الدست هيبةً ورجاحة، أكثر ضحكه الابتسام، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع.

وإذا وضع له الطعام والشراب لا يتناول منه شيئاً إلاّ قال:« بسمِ اللّهِ الأحد » . وإذا فرغ من الطعام حمد اللّه وأثنى عليه، وإنْ رصده في نومه شاهد َالنّور يسطع من رأسه إلى عنان السّماء(٢) .

وكان يوماً معه بذي المجاز، فعطش أبو طالب ولم يجد الماء، فجاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صخرة هناك وركلها برجله، فنبع من تحتها الماء العذب(٣) . وزاد على ذلك، توفر الطعام القليل في بيته حتّى أنّه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله منه شيئاً(٤) . وهذا وحده كافٍ في الإِذعان بأنّ أبا طالب كان على يقين من نبوّة ابن أخيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) كمال الدِّين وتمام النّعمة / ١٧٢، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ١٥ / ١٤٣.

(٢) انظر: مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٦ - ٣٧، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ١٥ / ٢٣٥.

(٣) السّيرة الحلبيّة ١ / ١٩١.

(٤) المصدر نفسه ١ / ١٨٩.

٤١

أضف إلى ذلك قوله في خطبته لمـّا أراد أنْ يزوّجه من خديجة: وهو واللّه، بعد هذا له نبأٌ عظيم، وخطرٌ جليل(٤) . وفي وصيّته لقريش: إنّي اُوصيكم بمحمّدٍ خيراً؛ فإنّه الأمينُ في قريش، والصدّيقُ في العرب، وهو الجامع لكُلِّ ما أوصاكم به، وقد جاء بأمرٍ قِبَله الجنان(٥) .

ولمـّا جاء العبّاس بن عبد المـُطّلب يخبره بتألّب قُريش على معاداة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال له: إنّ أبي أخبرني أنّ الرسول على حقٍّ، ولا يضرّه ما عليه قريش من معاداة له، وإنّ أبي كان يقرأ الكتب جميعاً، وقال: إنّ من صُلبي نبيّاً، لوددت أنّي أدركته فآمنت به، فمَن أدركه فليؤمن به(١) .

واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب، مع أنّه كان يقرؤها مثله، يدلّنا على تفنّنه في تنسيق القياس وإقامة البرهان على صحة النّبوّة، وأنّ الواجب اعتناق شريعته الحقَّة؛ أمّا هو نفسه، فعلى يقين من أنّ رسالة ابن أخيهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتمة الرُّسل، وهو أفضل مَن تقدّمه قبل أنْ يشرق نور النّبوّة على وجه البسيطة،

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٢٦، إمتاع الأسماع للمقريزي ٦ / ٢٩، تفسير البحر المحيط ٣ / ١١٠.

(٢) السّيرة الحلبيّة ٢ / ٤٩، الغدير ٧ / ٣٦٦، وقد ذكر المصادر المـُوردة للحديث.

(٣) الفتوح لابن أعثم الكوفي ٢ / ٥٥٧، الغدير ٧ / ٣٤٨، وقد ذكر المصادر المـُوردة للحديث، ثمّ قال، قال الأميني: أترى أنّ أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مُطمئناً به، وينشط رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذا التنشيط لأوّل يومه، ويأمره بإرشاد أمره والإشادة بذكر اللّه، وهو مُخبت بأنّه هو ذلك النّبي الموعود بلسان أبيه والكتب السّالفة، ويتكهّن بخضوع العرب له؛ أتراه سلام اللّه عليه يأتي بهذه كلِّها ثُمّ لا يؤمن به؟! إنّ هذا إلاّ اختلاق.

٤٢

ولم تُجهل لديه صفات النّبي المبعوثصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى هذا الأساس؛ أخبر بعضُ أهل العلم من الأحبار حينما أسرّ إليه بأنّ ابن أخيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الروح الطيّبة، والنّبي المـُطهّر على لسان التوراة والإنجيل، فاستكتمه أبو طالب الحديثَ كي لا يفشوا الخبر، ثمّ قال له: إنّ أبي أخبرني أنّه النّبيُّ المبعوث، وأمر أنْ أستر ذلك؛ لئلاّ يغرى به الأعادي.

ولو لمْ يكن مُعتقداً صدق الدَّعوة، لما قال لأخيه حمزة لمـّا أظهر الإسلام:

فصَبْراً أبا يَعلَى على دينِ أحمدٍ

وكُنْ مُظهراً للدِّين وُفّقتَ صابِرَا

وحطْ مَن أتى بالدِّين مِن عندِ ربِّهِ

بصدقٍ وحقٍّ لا تكُنْ حمزَ كافرَا

فقدْ سَرّني إذْ قلتَ إنّك مُؤمنٌ

فكُنْ لرسولِ اللّهِ في اللّهِ ناصرَا

ونادِ قُريشاً بالذي قَدْ أتيتَهُ

جهاراً وقُلْ ما كان أحمدُ ساحرَا(١)

وقال رادّاً على قريش:

أَلَمْ تَعْلَموا أنّا وجدنا محمّداً

نبيّاً كموسى خُطَّ في أوّلِ الكُتُبِ(٢)

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ٥٦، كنز الفوائد للكراجكي / ٧٩، الغدير ٧ / ٣٥٧، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٧٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ / ٥٧، كنز الفوائد للكراجكي / ٧٩، البداية والنّهاية لابن كثير ٣ / ١٠٨، السّيرة النّبويّة لابن هشام ١ / ٢٣٥.

٤٣

وقال:

وأَمسَى ابنُ عبدِ اللّهِ فينا مُصدّقاً

على سَخَطٍ مِنْ قَومِنا غيرَ مُعتبِ (١)

وقال:

أمينٌ مُحبٌّ في العبادِ مُسوّمٌ

بخاتمِ ربٍّ قاهرٍ للخواتمِ

يرى النّاسُ بُرهاناً عليه وهيّبةً

وما جاهلٌ في فعلِهِ مثلُ عالمِ

نبيٌّ أتاه الوحيُ منْ عندِ ربِّهِ

فمَنْ قال لا يقرعْ بها سنَّ نادمِ (٢)

وممّا خاطب به النّجاشي:

تَعَلَّمْ خيارَ النّاسِ أنّ مُحمّداً

نبيٌّ كموسى والمسيحِ بنِ مريمِ(١)

أتَى بالهُدى مثلَ الذي أتيَا بهِ

فكُلٌّ بأمرِ اللّه يهدي ويَعصمُ(٢)

وإنّكُمُ تتلونَهُ في كتابكُمْ

بِصدقِ حديثٍ لا حديثِ المـُترجمِ

فلا تجعلوا للّهِ نِدَّاً وأسلموا

فإنّ طريقَ الحقِّ ليسَ بمُظلِمِ

وقال:

اذهبْ بُنيَّ فمَا عليكَ غَضاضَة

اذهبْ وقرَّ بذاك مِنكَ عُيون

واللّهِ لنْ يَصلوا إليكَ بجمعِهمْ

حتّى اُوسّدَ في التّرابِ دفينا

ودعوتني وعلمتُ أنّكَ ناصحي

ولقد صدقتَ وكُنتَ قَبلُ أمينا

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ٥٨، سيرة ابن إسحاق / ١٤٥، الدّر النّظيم للعاملي / ٢١٦.

(٢) كنز الفوائد للكراجكي / ٧٩، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٧٣.

(١) ورد المصراع الثاني من البيت في مصدره الأساس بهذا النحو: وزيرٌ لموسى والمسيحِ بن مريمِ. وما أثبتناه فهو من ديوان أبي طالب / ١٣٩، وهو الصحيح والأوفق مما ذُكر.(موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

(٢) في البيت إقواءٌ بيّن.(موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

٤٤

وذكرتَ دِيناً لا محالةَ أنّهُ

مِنْ خير أديانِ البريَّةِ دِينا(١)

وبعد هذه المصارحة، هل يخالج أحداً الريبُ في إيمان أبي طالب؟

وهل يجوز على مَن يقول:«... إنّا وجدنا محمّداً نبيّاً كموسى... » إلاّ الاعتراف بنبوّته والإقرار برسالته كالأنبياء المـُتقدّمين؟

وهل يكون إقرار بالنّبوّة أبلغ من قوله:« وأَمسَى ابنُ عبدِ اللّهِ فينا مُصدّقاً...؟ » وهل فرق بين أنْ يقول المـُسلم: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله، وبين أنْ يقول:

وإنْ كانَ أحمدُ قَدْ جاءَهُمْ

بصدقٍ ولم يُتَّهمْ بالكَذبْ؟(١)

أو يعترف الرجلُ بأنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله كموسى وعيسىعليهما‌السلام جاء بالهدى والرشاد مثل ما أتيا به، ثُمّ يُحكم عليه بالكفر؟

وهل هناك جملة يعبّر بها عن الإسلام أصرح من قول المسلم:

وذكرتَ دِيناً لا محالةَ أنّهُ

مِنْ خير أديانِ البريَّةِ دِينا؟

كلّا، ولو لم يعرف أبو طالب من ابن أخيه الصدقَ فيما أخبر به لَما قال له بمحضر قريش؛ ليريهم من فضله وهو به خبيرٌ وجنانُهُ طامنٌ: « يابن أخي، اللّه أرسلك »؟

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٠١، بحار الأنوار ٣٥ / ٨٧، الغدير ٧ / ٣٣٤، فتح الباري ٧ / ١٤٨، تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ١ / ٤٣٥، الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزمخشري ٢ / ١٢، تفسير الثعلبي ٤ / ١٤١، تفسير البغوي ٢ / ٩١، زاد المسير لابن القيّم ٢ / ١٧، تاريخ الإسلام للذهبي ١ / ١٥٠، البداية والنّهاية لابن كثير ٣ / ٥٦، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٦٢، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نقلت هذا الشعر بتمامه أو بعض المقاطع منه.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٦٢، سيرة ابن إسحاق / ١٤٤.

٤٥

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« نعم » .

قال: إنّ للأنبياء معجزةً وخرقَ عادةٍ، فأرنا آية؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« يا عمُّ، ادعُ تلك الشجرةَ وقُل لها، يقول لك محمّدٌ بنُ عبد اللّه: أقبلي بإذن اللّه » . فدعاها أبو طالب، فأقبلت حتّى سجدت بين يديه، ثُمّ أمرها بالانصراف فانصرفت، فقال أبو طالب: أشهدُ أنّك صادق. ثُمّ قال لابنه عليعليه‌السلام : يا بُنيَّ الزمه(١) .

وقال يوماً لعليٍّعليه‌السلام : ما هذا الذي أنت عليه؟

قال:« يا أبة، آمنتُ باللّهِ ورسولهِ، وصدّقتُ بما جاء به، ودخلتُ معه واتَّبعتُهُ » . فقال أبو طالب: أما أنّه لا يدعكَ إلاّ إلى خير فالزمه(٢) .

وهل يجد الباحث بعد هذا كُلّه ملتحداً عن الجزم بأنّ شيخ الأبطح كان مُعتنقاً للدّين الحنيف، ويكافح طواغيت قريش حتّى بالائتمام مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته وإنْ أهمله فريق من المؤرّخين؛ رعايةً لِما هُم عليه من حُبّ الوقيعة في أبي طالب ورميه بالقذائف؛ حنقاً على ولده (الإمام) الذي لم يتسنّ لهم أي غميزة فيه، فتحاملوا على اُمّه وأبيه إيذاءً له، وإكثاراً لنظائر مَن يرومون إكباره وإجلاله ممّن سبق منهم الكفر، وحيث لمْ يسعهم الحطُّ من كرامة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الوصيّعليه‌السلام عمدوا إلى أبويهما الكريمين، فعزوا إليهما الطّامّات، وربما ستروا ما يُؤثر عنهما من الفضائل إيثاراً لما يروقهم اثباته!!

____________________

(١) بحار الأنوار ٣٥ / ١١٥، الغدير ٧ / ٣٩٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٠١، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣ / ٢٠٠، تفسير الثعلبي ٥ / ٨٥، تاريخ الطبري ٢ / ٥٨، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٦، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ٢ / ٣٠١.

٤٦

ويشهد لذلك ما ذكره بعض الكتّاب عند ذكرى أسرى بدر، فقال: وكان من الأسرى عمُّ النّبي، وعقيل ابن عمّه ( أخو علي )(١) !

فإنّه لو كان غرضه تعريف المأسور، لكان في تعريف عقيل بأنّه ابن عمّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كفاية، كما اكتفى في تعريف العبّاس بأنّه عَمُّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يحتج أنْ يكتب بين قوسين (أخو علي)! وأنت تعرف المراد من ذكر هذه الكلمة بين قوسين، وإلى أيّ شيء يرمز بها الكاتب، ولكن فاته الغرض، وهيهات الذي أراد ففشل!

ثُمّ جاء فريق آخر من المؤرّخين يحسبون حصر المصادر في ذوي الأغراض المستهدفة، وأنّ ما جاؤوا به حقائق راهنة، فاقتصر على مرويّاتهم ممّا دبَّ ودرج، وفيها الخرافات وما أوحته إليهم الأهواء والنّوايا السيّئة؛ ومن هنا اُهملت حقائق ورويت أباطيل، فعزوا إلى أبي طالب قوله: إنّي لا اُحبّ أنْ تعلوني اُستي »!(٢)

____________________

(١) تاريخ الاُمّة العربية / ٨٤، مطبعة الحكومة - بغداد / ١٩٣٩ م.

(٢) مُسند أحمد ١ / ٩٩، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٠٢، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى باختصار، والبزّار والطبراني في الأوسط، وإسناده حسن. مُسند أبي داود الطيالسي / ٢٦، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٦.

والجدير بالذكر أنّ الحديث ورد عن طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن حبّة العرني، عن علي، وعليه فالكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في سند الحديث، والثاني: في متن الحديث؛ أمّا سند الحديث فلا يحتاج إلى كثير مؤونة؛ لأنّ يحيى بن سلمة بن كهيل ضعيف، قال الذهبي في ميزان الاعتدال ٤ / ٣٨١ / ٩٥٢٧: يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه، قال أبو حاتم وغيره: منكر الحديث. =

٤٧

ثُمّ رووا عنه أنّه قال لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هذا الدِّين؟

قال رسول اللّه:« دينُ اللّه ودينُ ملائكتهِ ورُسلهِ، ودين أبينا إبراهيم، بعثني اللّه به إلى العباد، وأنت أحقُّ مَن دعوته إلى الهدى، وأحقُّ مَن أجابني » .

____________________

= وقال النّسائي: متروك. وقال عباس عن يحيى: ليس بشيء، لا يُكتب حديثه.

وقال محمّد بن إبراهيم بن أبي العنس: أخبرني يحيى بن سلمة، قال: كان سفيان الثوري يجيء إلى أبي وهو غلامٌ عليه أقبية يسمع منه، فكان أبي يُعيّرني به، ويقول: انظر إلى هذا الغلام يجيء من بني ثور رغبة في الحديث، وأنت هاهنا لا ترغب فيه! وارجع إلى غيره تجد ترجمته كما ذُكرت.

وأمّا النّاحية الثانية المتعلقة بمتن الحديث، فنقول: إنّ صاحب السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٦ قال بعد أنْ ذكر الحديث: وهذا - كما لا يخفى - ينبغي أنْ يكون صَدرَ منه قبل ما تقدّم من قوله لابنه جعفر: صِلْ جناح ابن عمِّك وصلِّ على يساره، لمـّا رأى النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله يُصلّي وعليٌّ على يمينه.

فاذاً لابُدّ من تَخطّي هذا الأمر وإثبات أنّ هذا القول صدر بعد ما أوصى جعفر بالصلاة مع النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّى له إثبات ذلك، مع ما عرفته من حال السّند؟!

أضف إلى ذلك أنّه قال: وذكر أنّ أبا طالب قال لعليٍّ: أي بُني، ما هذا الذي أنت عليه؟ فقال:« يا أبتِ، آمنتُ باللّه ورسولِهِ، وصدّقتُ ما جاء به، ودخلتُ معه واتَّبعتُهُ » . فقال: أما أنّه لمْ يدعكَ إلاّ إلى خير فالزمه. وعليه فيكون الحديث المـُتقدّم باطلاً؛ لأنّ المعروف خلافه.

يُضاف إلى ذلك تناقض آخر، إذ ذكروا أنّ أبا طالب مات مُشركاً، لا لأجل هذه المقولة: إنّي لا اُحبّ أنْ تعلوني اُستي؛ بل لأجل ما ذكروا من قول أبي طالب: إنّي لأعلم أنّ ما يقوله ابنُ أخي لحقٌّ، ولولا أنّي أخاف أنْ تُعيّرُني نساءُ قريشٍ لاتّبعته. فيكون عدم الاتّباع لأجل هذا لا إلى ما تقدّم.

فاذاً الحديث ضعيف سنداً، ومن الجهة الاُخرى فيه مشاكل مقنية تأبى قبوله أو التّصديق به، فيكون من مُختلقات العثمانيين.

٤٨

فقال أبو طالب: إنّي لا استطيع أنْ اُفارق ديني ودين آبائي. واللّه، لا يخلص إليك من قريش شيءٌ تكرههُ ما حييت(١) .

فحسبوا من هذا الكلام أنّ أبا طالب ممّن يعبد الأوثان، كيف! وهو على التوحيد أدلّ.

وجوابه: هذا من أنفس التورية وأبلغ المحاورة؛ فإنّ مراده من قوله لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله عقيب قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أنت أحقُّ مَن دعوته » . إنّي لا أستطيعُ أنْ اُفارق ديني ودين آبائي؛ الاعتراف بإيمانه، وأنّه باقٍ على الملّة البيضاء، وحنيفيّة إبراهيم الخليلعليه‌السلام الذي هو دين الحقّ والهدى، وهو دينه ودين آبائه، ثُمّ زاد أبو طالب في تطمين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمـُدافعة عنه مهما كان باقياً في الدُّنيا.

نعم، مَن لا خبرة له بأساليب الكلام وخواصّ التورية يحسب أنّ أبا طالب أراد بقوله: إنّي لا اُفارق ديني الخضوع للأصنام، فصفّق طرباً واختال مرحاً. وجاء الآخر يعتذر عنه: بأنّه كان يراعي بقوله هذا، الموافقة لقريش؛ ليتمكّن من كلائة النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتمشية دعوته.

نحن لا نُنكر أنّ شيخ الأبطح كان يلاحظ شيئاً من ذلك، ويروقه مداراة القوم في ما يمسّ بكرامة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله للحصول على غايته الثمينة، لكنّا لا نوافقهم في كلّ ما يقولون: من انسلاله عن الدِّين الحنيف انسلالاً باتّاً؛ فإنّه خلاف الثابت من سيرته حتّى عند رواة تلكم المـُخزيات، ومُهملي الحقائق النّاصعة حذراً عمّا لا يُلائم خطّتهم، فلقد كان يُراغم اُولئك الطواغيت بما هو أعظم من التّظاهر بالإيمان، والائتمام بالصلاة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٥٨، الكامل في التاريخ ٢ / ٥٨.

٤٩

وإنّ شعرّه الطافح بذكر النّبوّة والتصديق بها سرت به الركبان، وكذلك أعماله النّاجعة حول دعوة الرسالة:

ولولاَ أبُو طَالبٍ وابنِهِ

لما مَثِّلَ الدِّين شَخْصاً فَقامَا

فَذاكَ بِمكَّةَ آوَى وحَامَا

وهذا بيثرِبَ جَسّ الحِمامَا

تَكفّلَ عَبدُ مُناف بأمرٍ

وأَودَىَ فَكَان عليٌّ تَمامَا

فللهِ ذا فَاتِحٌ للهُدَى

وللّه ذا للمَعالِي خِتامَا

وما ضرَّ مَجدَ أبي طَالبٍ

عَدوٌّ لَغَا أو جَهولٌ تعامَى(١)

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٨٤، قال ابن أبي الحديد المعتزلي: وصنّف بعض الطالبيين في هذا العصر كتاباً في إسلام أبي طالب وبعثه إليّ، وسألني أنْ أكتب عليه بخطّي نظماً أو نثراً، أشهد فيه بصحة ذلك وبوثاقة الأدلّة عليه، فتحرّجتُ أنْ أحكم بذلك حكماً قاطعاً؛ لما عندي من التوقّف فيه، ولم استجزْ أنْ أقعد عن تعظيم أبي طالب؛ فإنّي أعلمُ أنّه لولاه لما قامت للإسلام دعامة، وأعلمُ أنّ حقّه واجبٌ على كلّ مسلم في الدُّنيا إلى أنْ تقوم السّاعة، فكتبت على ظاهر المجلد: ولـولاَ أبُـو طَـالبٍ وابنِهِ

على أنّا نقول: إنّ الأدلّة على إيمانه كثيرة، بينما الأدلّة المنقولة عن عدم إيمانه، فيها ما هو مرفوض؛ لأنّ في أسانيدها مَن كان يُبغض عليَّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، كحديث الضحضاح من النّار؛ فإنّه رواية المغيرة بن شعبة، وهو معلوم البغض والعداوة لأهل البيتعليهم‌السلام ولعليعليه‌السلام بالخصوص؛ حيث كان يسبُّه على المنابر، ويُقيم الخطباء على سبِّه، فمثل هذا الشخص لا تحلّ عنه الرواية مُطلقاً فضلاً عن روايته عن حال أهل البيتعليهم‌السلام .

والخُلاصة: إنّ أبا طالب مؤمنٌ باللّه ورسوله لعدّة أدلّة لا مطعن لها، ولا تحتاج إلى تأويل، وهي كالتالي:

١ - الأشعار الكثيرة التي أطلقها أبو طالب في حقّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي فيها التصريح بإيمانه وتصديقه برسالة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ - إنّ فاطمة بنت أسد - زوجة أبي طالب - من المـُسلمات الأوّليّات، وقد بقيت على نكاح أبي طالب إلى أنْ مات، ولم يُفرِّقها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أمر بتفريقهما.

٣ - بعض الأحاديث المنقولة عن أبي طالب والتي تدلّ على إسلامه.

=

٥٠

وأمّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فيخرس البليغ عن أنْ يأتي على صفاته، ويقف الكاتب مُتردّداً، وما عساه أنْ يقول في مَن قال فيه أبوه أبو طالب، لمـّا فزعت قريش إليه ليلة ولادة أمير المؤمنينعليه‌السلام إذ أبصروا عجائب لم يروها، ولم يسمعوا بها:

« أيّها النّاس، سيظهر في هذه الليلة وليٌّ من أولياء اللّه، يُكمّل فيه خصالَ الخير، ويُتمّ به الوصيّين، وهو إمام المتقين وناصر الدِّين، وقامع المشركين وغيظ المنافقين، وزين العابدين ووصيِّ رسول ربِّ العالمين؛ إمامُ هدىً، ونجم علاً ومُصباح دجىً، ومبيد الشرك والشبهات، وهو نفس اليقين ».

____________________

٤ - محبَّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي طالب معلومة مشهورة، فهذا يدلّ على إيمانه؛ لأنّ اللّه تعالى أمر ببغض المـُشركين والتَّبري منهم، فلو كان مشركاً لأبغضه.

السّنن الكبرى للبيهقي ٩ / ١٣١، مجمع الزوائد للهيثمي ٦ / ١٥٠ و١٥١، وقال عقيبه: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، و٩ / ١٢٠ و١٢٣ و١٢٤ و٣٧١، مُسند أبي داود الطيالسي / ٣٢٠، المـُصنّف للصنعاني ١١ / ٢٢٨، ح٢٠٣٩٥، المـُصنّف لابن أبي شيبة الكوفي ٧ / ٤٩٦، ح ١٥ و٥٠٠، ح ٣٣ وح ٣٥ وح ٣٧ و٥٠٤، ح ٥٦ و٨ / ٥٢٠، ح ٢ وح ٧ و٥٢٢، ح ١٠ وح ٢٢، مُسند ابن راهويه ١ / ٢٥٣، ح ٢١٩، مُسند سعد بن أبي وقاص / ٥١، ح ١٩، كتاب السنّة لابن عاصم / ٥٩٤، ح ١٣٧٩ وح ١٣٨٠، السّنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٦، ح ٨١٤٩ و٨١٥١ و١٠٨، ح ٨٣٩٩ وح ٨٤٠٠ وح ٨٤٠١ وح ٨٤٠٢ وح ٨٤٠٣ وح ٨٤٠٤ وح ٨٤٠٥ وح ٨٤٠٦ وح ٨٤٠٧ وح ٨٤٠٨ وح ٨٤٠٩ و١٢٣، ح ٨٤٣٩ و١٤٥، ح ٨٥١١، و١٧٢، ح ٨٥٨٧ و١٧٨، ح ٨٦٠١ و١٧٩، ح ٨٦٠٢ و١٨٠، ح٨٦٠٣، خصائص أمير المؤمنين للنّسائي / ٤٩ و٥٠ و٥١ و٥٢ و٥٣ و٥٥ و٥٦ و٥٧ و٥٨ و٥٩ و٦٠ و٦١ و٦٢ و٨٢ و١١٦، صحيح ابن حبان ١٥ / ٣٧٩ و٣٨٠ و٣٨٢، المعجم الأوسط للطبراني ١ / ٢٣٩، و٦ / ٥٩، المعجم الصغير للطبراني ٢ / ١١، المعجم الكبير للطبراني ٦ / ١٢٧ و٧ / ١٣ و١٧ و٣٥ و٧٧، الاستيعاب لابن عبد البر ٢ / ٧٨٧ و٣ / ١٠٩٩، الدرر في اختصار المغازي والسّير لابن عبد البر / ١٩٨ و١٩٩ و٢٠٠، رياض الصالحين للنووي / ١٠٨ و١٤٥.

٥١

ولم يزل يُكرّر هذا القول، وهو يتخلّل سكك مكّة وأسواقها حتّى أصبح(١) .

ويقول رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« ضربةُ عليٍّ عمرَو بن ود تعدل عِبادةَ الثقلين » (٢) . وقال يوم خيبر:« لأعطينّ الراية رجلاً يُحبُّ اللّهَ ورسولَهُ ويُحبُّهُ اللّهُ ورسولُهُ، لا يرجع حتّى يفتح » . فأعطاها لعليٍّعليه‌السلام ، وكان الفتح على يده(٣) .

وبعد هذا فلنقف عن الإتيان بما أودع اللّه فيه من نفسيات وغرائز، شكرها له الإسلام. نعم، يجب أنْ نلفت القارئ إلى شيء أكثر البحث فيه رواة الحديث، وهو: الإسلام حال الصغر، وتردّدت الكلمة في الجوامع، وتضاربت فيها الأقوال، ولا يهمّنا إطالة القول فيها:

____________________

(١) روضة الواعظين للنيسابوري / ٧٨، بحار الأنوار ٣٥ / ١٠٢.

(٢) ورد بهذا اللفظ في عوالي اللآلئ لابن جمهور الإحسائي ٤ / ٨٦، وورد بلفظ:« ضربةُ عليٍّ يوم الخندق أفضلُ من أعمال اُمّتي إلى يوم القيّامة » . وفي المـُستدرك على الصحيحين للحاكم ٣ / ٣٢، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ٢ / ١٤، تاريخ بغداد للبغدادي ١٣ / ١٩، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٥٠ / ٣٣٣.

وكلا الحديثين معناهما واحد؛ لأنّ الأفضليّة في الأعمال تعني المعادلة إنْ لم تكن أكثر، والاُمّة شاملة للثقلين مع الأنس والجنّ.

(٣) ورد الحديث بألفاظ مختلفة في: مُسند أحمد ١ / ١٨٥ و٣٣١ و٢ / ٣٨٤ و٤ / ٥٢ و٥ / ٣٣٣ و٣٥٨، صحيح البخاري ٤ / ١٢ و٢٠ و٢٠٧ و٥ / ٧٦، كتاب المغازي - باب غزوة خيبر، كتاب الجهاد والسّير - باب دعاء النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، صحيح مسلم ٥ / ١٩٥، كتاب الجهاد والسّير - باب غزوة خيبر، و٧ / ١٢٠ و١٢١ و١٢٢، كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل عليٍّرضي‌الله‌عنه ، سنن ابن ماجه ١ / ٤٤، ح١١٧، سنن الترمذي ٥ / ٣٠٢ ح٣٨٠٨، فضائل الصحابة للنسائي / ١٥ و١٦، المـُستدرك على الصحيحين للحاكم ٣ / ٣٨ و١٠٩ و١٣٢ و٤٣٧.

٥٢

١ - فإنّا لا نقول: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أوّل مَن آمن، وإن كانْ هو أوّل مَن وافق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على مبدأ الإسلام لمـّا صدع بالأمر، ولكنّا نقول: متى ( كفر ) عليٌّ حتّى يُؤمن؟! وإنّما كان هو وصاحب الدعوة الإلهيّة عارفين بالدِّين وتعاليمه، مُعتنقين له منذ كيانهما في عالم الأنوار قبل خلق الخلق، غير أنّ ذلك العالم مبدأ الفيض الأقدس، ووجودهما الخارجي مجراه، فمحمّدٌ نبيٌّ وعليٌّ وصيٌّ، وآدم بين الماء والطّين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

٢ - على أنّ نبيّ الإسلام، وهو العارف بأحكامه، والذي خطّط لنّا التكاليف قبل إسلام ابن عمِّه، وأنجز له جميع ما وعده به؛ من الإخوّة والوصاية والخلافة يوم أجاب دعوته، وآزره على هذا الأمرِ وقد اُحجم عنه عندما نزلت آية:( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (١) .

وهل ترى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذ يجدُ في شريعته عدم

____________________

(١) سورة الشعراء / ٢١٤، وحديثُ الإنذار ورد في مصادر مُتعدّدة، وبأسانيد لا بأس بها، فورد بلفظ:« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوه » . في: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣ / ٢١١، شواهد التنزيل للحسكاني ١ / ٤٨٦، تفسير البغوي ٣ / ٤٠٠، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٢ / ٤٩، مناقب علي بن أبي طالب وما نزل من القرآن في عليٍّ لابن مردويه الأصفهاني / ٢٩٠، تاريخ الطبري ٢ / ٦٣، وقد حذفه في تفسيره، فقال في جامع البيان ١٩ / ١٤٩:« فأيّكم يُؤازرني على هذا الأمر، على أنْ يكون أخي وكذا وكذا» !! وكذلك فعل ابن كثير في البداية والنّهاية ٣ / ٥٣، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ٦٣.

وبلفظ:« فأيّكم يُبايعني على أنْ يكون أخي وصاحبي... » في: مُسند أحمد ١ / ١٥٩، مجمع الزوائد للهيثمي ٨ / ٣٠٢ وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، السّنن الكبرى للنسائي ٥ / ١٢٦، خصائص أمير المؤمنين للنسائي / ٨٦، تفسير ابن كثير ٣ / ٣٦٣، الطبقات الكبرى لابن سعد ١ / ١٨٧، تهذيب الكمال المزي ٩ / ١٤٧، إمتاع الأسماع للمقريزي ٥ / ١٧٨.

٥٣

الجدوى بإسلام مثل عليعليه‌السلام لصغره، إلاّ أنّه حاباه؟ كلاّ وحاشا ...!

وإنّما قابله بكلّ ترحيب، وخوّله ما لا يخوّل أحداً صحة إسلامه عنده، بحيث كان على أساس رصين، فاتّخذه رِدءاً كمن اعتنق الدِّين عن قلبٍ شاعرٍ ولبٍّ راجحٍ وعقليةٍ ناضجة؛ يغتنم بذلك محاماته، ومرضاة أبيه في المستقبل.

وإذا أكبرنا النّبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كلّ مداهنة ومصانعة، فلا نجد مسرحاً في المقام لأيّ مقال، إلاّ أنْ نقول: إنّ إسلام عليعليه‌السلام كان عن بصيرة وثبات مقبول عند اللّه ورسوله، وكان ممدوحاً منهما عليه.

كما تمدّح بذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام غير مرّة، وهو أعرف الاُمّة بتعاليم الدِّين بعد النّبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:« أنا الصدّيقُ الأكبرُ، لا يقولُها بعدي إلاّ كاذبٌ مفترٍ؛ صلّيتُ مع رسول اللّه قبل النّاس بسبع سنين » (١) .

____________________

(١) سنن ابن ماجة ١ / ٤٤، وقال مُحقق السّنن الشيخ محمّد عبد الباقي في الزوائد: إسناده صحيح، رواه الحاكم في المـُستدرك عن المنهال، وقال: صحيح على شرط الشيخين، المـُستدرك للحاكم ٣ / ١١٢، المـُصنّف لابن أبي شيبة ٧ / ٤٩٨، كتاب السُّنّة لابن أبي عاصم / ٥٨٤، السّنن الكبرى للنسائي، خصائص أمير المؤمنين للنسائي / ٤٦، تفسير الثعلبي ٥ / ٨٥.

ومَن يقول: بأن عليّاً أسلم صغير. نردُّ عليه، فنقول: قد رووا كما في صحيح مسلم ١ / ١٣٣، وفتح الباري ١٠ / ٣٥٤: أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزلت عليه ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ). دعا رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قريشاً، وقال:« يا بَني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النّار... يا بَني عبد المـُطّلب، أنقذوا أنفسكم من النّار، يا فاطمة، أنقذي نفسك من النّار؛ فإنّي لا أملكُ لكم مِنَ اللّه شيئاً... » . مع أنّ فاطمة سلام اللّه عليها كانت صغيرة؛ إذ هذه الآية في بدء الدعوة العلنية، وفاطمة سلام اللّه عليها لا يتجاوز عمرها ثمان سنين، ومع ذلك دعاها النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الإسلام وهي لم تُكلّف بعد، وتصحيح دعوتها باعتبار كونها مميَّزة تفهم فلذلك خاطبها، فكذلك عليُّ بن أبي طالبعليه‌السلام فأسلم وهو يعرف ما يقول؛ فلذلك يصحُّ إسلامُهُ ويكون أوّل المسلمين، وإلاّ إنْ رُفض ذلك، فيلزم سقوطُ رواية الصحاح حول فاطمة سلام اللّه عليها؛ إذ كيف يقبل مخاطبتها ودعوتها إلى الإسلام وهي صغيرة، ولا يقبل إسلام عليِّ بن أبي طالب لكونه صغيراً؟! فإنّ ذلك قسمة ضيزى.

ومن هذا تندفع جميع الإشكالات الموجودة على صغر إسلام عليِّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

٥٤

وقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أنت أوّلُ المـُؤمنينَ إيماناً وإسلاماً » (١) .

كما مدحته الصحابة بذلك - وهم أبصر من غيرهم - يوم كانوا يغترفون من مستقى العلم ومنبع الدِّين.

وعلى هذا الأساس تظافر الثناء عليه من العلماء والمؤلّفين، والشعراء وسائر طبقات الاُمّة بأنّه أوّل مَن أسلم، لكن هناك ضالع في سيره حَسبَ شيئاً فخانته هاجستًه وهوى إلى مدحرة الباطل، فقال: إنّ عليّاً أسلم وهو صغير؛ يُريد بذلك الحطَّ من مقامه وليس هناك.

٣ - ولو تنازلنا عن جميع ذلك، فمِنْ أين عَلِمنا أنّ اشتراط البلوغ في التكليف كان مشروعاً في أوّل البعثة؟ فلعلّه كبقية الأحكام التدريجيّة نزل به الوحي فيما بعد، ولقد حكى الخفاجي في شرح الشفا ٣ / ١٢٥، في باب دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على صبيٍّ، عن البرهان الحلبي والسّبكي: إنّ اشتراط الأحكام بالبلوغ إنّما كان بعد واقعة اُحد. وعن غيرهما: إنّه بعد الهجرة. وفي السّيرة الحلبيّة ١ / ٣٠٤: إنّ الصبيان يومئذ مكلّفون، وإنّما رُفع القلمُ عن الصبيِّ عام خيبر. وعن البيهقي: إنّ

____________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٢٥.

٥٥

الأحكام إنّما تعلّقت بالبلوغ في عام الخندق أو الحديبية، وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز(١)(٢) .

٤ - على أنّا معاشر الإماميّة نعتقد في أئمّة الدِّين، بأنّهم حاملون أعباء الحُجّة، متحلّون بحليّ الفضائل كُلّها منذ الولادة، كما بُعث عيسى في المهد نبيّاً، واُوتي الحكم يحيى صبيّاً، غير أنّهم بين مأمور بالكلام، أو مأمور بالسّكوتِ حتّى يأتي أوانُه، فلهم أحكامٌ خاصّة غير أحكام الرعيّة، ومِن أقلّها قبول إجابة الدعوة ونحوها.

____________________

(١) هامش مصباح الفقاهة للسيّد الخوئي ٢ / ٥١١.

(٢) السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٥ وقال عقيب هذا الكلام: وقد ذكروا أنّ الزبير بن العوّام أسلم وهو ابن ثمان سنين، وقيل: ابن خمس عشرة سنة، وقيل: ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل: ابن ستّ عشرة سنة.

وممّا يدلّ للأوّل، ما جاء عن بعضهم: كان عليٌّ، والزبير وطلحة، وسعد بن أبي وقاص وُلدوا في عام واحد. وممّا يدلّ أيضاً، ما جاء في كلام بعض آخر: أسلم عليُّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام وهما ابنا ثمان سنين، وإجماعهم على أنّ عليّاً لم يكن يبلغ الحلم يردّ القول بأنّ عمره كان إذ ذاك عشر سنين؛ أي: بناءً على أنّ سنَّ إمكان الاحتلام تسع سنين كما تقول به أئمَّتُناعليهم‌السلام .

ثمّ قال، أقول، قال بعضُ متأخِّري أصحابنا: وإنّما صحّت عبادة الصبيِّ المـُميّز ولم يصح إسلامُهُ؛ لأنّ عبادته نفلٌ، والإسلام لا يُتنفَّل به، وعلى هذا مع ما تقدّم يشكل ما في الإمتاع.

وأمّا عليُّ بن أبي طالب، فلم يكُنْ مُشركاً باللّه أبداً؛ لأنّه كان مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كفالته كأحد أولاده؛ يتبعه في جميع اُموره، فلم يحتجْ أنْ يدَّعي الإسلامَ، فيُقال: أسلم.

ثُمّ رأيت في الحديث ما يدلّ لما في الإمتاع، وهو: ثلاثة ما كفروا باللّه قَط: مؤمن آل ياسين، وعليُّ بن أبي طالب، وآسية امرأة فرعون.

والذي في العرائس، روي عن النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:« سبّاق الاُممِ ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين: حزقيلُ مؤمنُ آل فرعون، وحبيبُ النّجار صاحب ياسين، وعليُّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهم، وهو أفضلهم... » .

٥٦

فإذاً لا مساغ لأيّ أحد البحث في المسألة.

هذه هي السّلسلة الذهبيّة التي تحلّى بها أبو الفضلعليه‌السلام ، وهي ( آباؤه الأكارم )، وقد اتّحد مع كُلِّ حلقة منها الجوهرُ الفرد لإثارة الفضائل، فما منهم إلاّ مَن أخذ بعضادتي الشرف، وملك أزمّة المجد والخطر، قد ضَمّ إلى طيب المَحتِد عظمة الزعامة، وإلى طهارة العنصر نزاهة الإيمان، فلا ترى أيّاً منهم إلاّ منارَ هدىً وبحرَ ندىً، ومثالَ تُقىً وداعية إلى التوحيد وإلى بسالة وبطولة، وإباء وشِمم.

وهم الّذين عرّقوا في سيّدنا العبّاسعليه‌السلام هذه الفضائل كُلّها، وإنْ كان القلم يقف عند انتهاء السّلسلة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلا يدري اليراع ما يخطّ من صفات الجلال والجمال، وأنّه كيف عرّقها في وَلدهِ المحبوب ( قمر الهاشميّين ).

٥٧

الأعمام:

هلمّ معي أيّها القارئ لنقرأ صحيفة بيضاء مختصرة من حياة أعمام أبي الفضلعليه‌السلام ، الّذين هُم أغصان تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السّماء؛ فإنّ للعمومة عِرقاً يضرب في نفسيّات المولود من فضائل وفواضل، وقد جاء في الحديث:« الولدُ، كما يُشبهُ أخوالَهُ يُشبهُ أعمامَهُ » (١) .

____________________

(١) ورد في كمال الدِّين وتمام النّعمة للصدوق / ٣١٤، حدّثنا أبي ومحمّد بن الحسنرضي‌الله‌عنهما ، قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه... عن أبي جعفر الثاني محمّد بن عليعليه‌السلام ، قال:« أقبل أميرُ المؤمنين عليه‌السلام ذات يوم، ومعه الحسن بن علي عليه‌السلام ، وسلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام مُتّكئ على يد سلمان، فدخل المسجد الحرام فجلس، إذ أقبل رجل حَسن الهيئة واللباس، فسلّم على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فرد عليه‌السلام فجلس، ثُمّ قال:

يا أمير المؤمنين، أسألك عن ثلاث مسائل، إنْ أخبرتني بهنّ علمتُ أنّ القوم ركبوا من أمرك ما أقضي عليهم أنّهم ليسوا بمأمونين في دُنياهم ولا في آخرتهم، وإنْ تكُنْ الاُخرى علمتُ أنّك وهم شرعٌ سواء.

فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام : سلني عمّا بدا لك. فقال: أخبرني عن الرجل إذا نام، أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى؟ وعن الرجل كيف يُشبه ولدُهُ الأعمامَ والأخوالَ؟

فالتفت أمير المؤمنين إلى أبي محمّد الحسن، فقال: يا أبا محمّد، أجبه. فقال: أمّا ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين تذهب روحه؛ فإنّ روحه مُتعلِّقة بالريح، والريح مُتعلِّقة بالهواء إلى وقت ما يتحرك صاحبها لليقظة، فإنْ أذن اللّه عزّ وجل بردِّ تلك الروح إلى صاحبها، جذبت تلك الروحُ الريحَ، وجذبت تلك الريحُ الهواءَ، فرجعت الروحُ فاُسكنت في بدن صاحبها...

وأمّا ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه وأخواله؛ فإنّ الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلبٍ ساكنٍ، وعروقٍ هادئة، وبدنٍ غيرِ مُضطرب، فأسكنت تلك الروحُ النّطفةَ في جوف الرحم، خرج الولد يُشبه أباه واُمّه، وإنْ هو أتاها بقلبٍ غيرِ ساكنٍ، وعروقٍ غيرِ هادئةٍ، وبدنٍ مُضطربٍ، اضطربت تلك النّطفة فوقعت في حال اضطرابها على بعض العروق، فإنْ وقعت على عِرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه، وإنْ وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الرجل أخواله » .

٥٨

وقبل الإتيان على ما حباهم به المولى من الآلاء، نستعرض اليسير من حياة عَمِّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الّذي لم يزل يفتخر به في مواطن شتّى، ألا وهو الحمزة بن عبد المـُطّلب.

وما أدراك ما حمزة، وما هو! وهل تعلم ماذا عنى نبيُّ العظمة من وصفه بـ« أسد اللّه وأسد رسوله » (١) ؟ وهل أنّه أراد الشدّة والبسالة فحسب؟ لا؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أفصح مَن نطق بالضّاد، وكلامُه فوق كلام البلغاء، فلو كان يُريد خصوص الشجاعة لكان حقّ التعبير أنْ يأتي بلفظ ( الأسد ) مُجرّداً عن الإضافة إلى اللّه سبحانه وإلى رسوله، كما هو المـُطّرد في التشبيه به نظماً ونثراً.

وحيث أضافه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذات الجلالة والرسالة فلا بدّ أنْ يكون لغاية هناك اُخرى، وليست هي إلاّ إفادة إنّ ما فيه مِن كرٍّ وإقدام، وبطش وتنمّر مخصوص في نصرة كلمة اللّه العُليا، ودعوة

____________________

(١) الكافي للكليني ١ / ٢٢٤، ح٢، كامل الزيارات لابن قولويه / ٦٢، الأمالي للشيخ الصدوق / ٥٤٧، المـُستدرك للحاكم ٢ / ١١٩ و٣ / ١٩٨، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ٢٦٨، وقال: ورجاله إلى قائله رجال الصحيح. فتح الباري ٧ / ٢٨٦، بلفظ: إنّ حمزة مكتوب في السّماء، أسد اللّه وأسد رسوله. وغيرها من المصادر الكثيرة.

٥٩

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا أربى من غيره وأرقى، فكان سلام اللّه عليه من عمد الدِّين، وأعلام الهداية؛ ولذلك وجب عليه الاعتراف بفضله، وبما حباه المولى سبحانه من النّزاهة التي لا ينالها أحد من الشهداء، وكان ذلك من مكمّلات الإيمان، ومتمّمات العقائد الحقّة.

يشهد له ما في كتاب ( الطرف ) للسيّد ابن طاووس: إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لحمزة في الليلة التي اُصيب في يومها:« إنّك ستغيب غيبةً بعيدةً، فما تقول لو سألك اللّهُ عن شرائع الإسلام، وشروط الإيمان؟ » . فبكى حمزة، وقال: أرشدني وفهّمني. فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :« تشهد للّه بالوحدانيّة، ولمحمّد بالرسالة، ولعليٍّ بالولاية، وأنّ الأئمّة من ذُرِّيّة الحسين، وأنّ فاطمة سيّدة نساء العالمين، وأنّ جعفر الطيّار مع الملائكة في الجنّة ابن أخيك، وأنّ محمّداً وآله خيرُ البريّة » . قال حمزة: آمنت وصدّقت. ثُمّ قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« وتشهد بأنّك سيّد الشهداء، وأسد اللّه وأسد رسوله » .

فلمـّا سمع ذلك حمزة اُدهش وسقط لوجهه، ثُمّ قبّل عينَي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال: اُشهدك على ذلك، واُشهِدُ اللّه وكفى باللّه شهيداً(١) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٦٥ / ٣٩٥.

٦٠

وإنّ التأمّل في الحديث يُفيدنا منزلة كبرى لحمزة من الدِّين والإيمان لا تحدّ، وإلاّ فما الفائدة في هذه البيعة والاعتراف بعد ما صدر منه بمكّة من الشهادة للّه بالوحدانية ولرسوله بالنّبوّة؟ ولكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد لهذه الذات الطاهرة التي حلّقت بصاحبها إلى ذروة اليقين، التحلّي بأفضل صفات الكمال، وهو التسليم لأمير المؤمنينعليه‌السلام بالولاية العامّة، ولأبنائه المعصومينعليهم‌السلام بالخلافة عن جدّهم الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك مرتبة اُخرى لا يبلغ مداها أحد، وهي اعتراف حمزة وشهادته بأنّه سيّد الشهداء، وأنّه أسد اللّه وأسد رسوله، وأنّ ابن أخيه الطيّار مع الملائكة في الجنّة، وهذه خاصّة لم يكلّف بها العباد فوق ما عرفوه من منازل أهل البيت المعصومينعليهم‌السلام ، وإنمّا هي من مراتب السّلوك والكشف واليقين.

وإذا نظرنا الى إكبار الأئمّةعليهم‌السلام لمقامه - وهم أعرف بنفسيّات الرجال، حتّى أنّهم احتجّوا على خصومهم بعمومته وشهادته دون الدِّين، كما احتجّوا بنسبتهم إلى الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ هناك رجالاً بذلوا أنفسهم دون مرضاة اللّه تعالى - استفدنا درجة عالية تُقرّب من درجاتهمعليهم‌السلام . فهذا أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول:« إنّ قوماً استشهدوا في سبيل اللّه من المهاجرين، ولكلٍّ فضلٌ، حتّى إذا استشهد شهيدُنا، قيل: سيّد الشهداء. وخصّه رسول اللّه بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه » (١) .

____________________

(١) الاحتجاج ٣ / ٢٥٩، بحار الأنوار ٢٢ / ٢٧٢ و٢٣ / ٥٨ و٧٨ / ٣٤٨، نهج السّعادة للمحمودي ٤ / ١٩٢، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ١٨١، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب / ٣٧٢، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ٣ / ٤٤٦.

٦١

وفي يوم الشورى احتجّ عليهم به، فقال:« أنشدكم اللّه، هل فيكم أحدٌ له مثل عمّي حمزة أسد اللّه وأسد رسوله؟ » (١). وقال الإمام المجتبىعليه‌السلام في بعض خطبه:« وكان ممّن استجاب لرسول اللّه عمّه حمزة، وابن عمّه جعفر، فقُتلا شهيدين في قتلى كثيرة معهما من أصحاب رسول اللّه، فجعل حمزة سيّد الشهداء » (٢) . وقال سيّد الشهداء أبو عبد اللّهعليه‌السلام يوم الطَّفِّ:« أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟! » (٣).

إلى غير ذلك ممّا جاء عنهم في الإشادة بذكره، حتّى إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يزل يُكرّر الهتاف بفضله، ويُعرّف المهاجرين والأنصار بما امتاز به أسدُ اللّه وأسدُ رسوله من بينهم؛ كي لا يقول قائل، ولا يتردّد مُسلمٌ عن الإذعان بما حبا اللّه تعالى سيّد الشهداء من الكرامة، فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد

____________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق / ٥٥٥، الأمالي للشيخ الطوسي / ٥٥٤، بحار الأنوار ٢٢ / ٢٨٠، المناقب للخوارزمي / ٣١٤، الدّر النّظيم / ٣٣، كتاب الولاية لابن عقدة / ١٦٣، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس / ٤١٢، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٢ / ٤٣٤، ميزان الاعتدال للذهبي ١ / ٤٤٢، لسان الميزان لابن حجر ٢ / ١٥٧، وغيرها من المصادر.

(٢) الأمالي للشيخ الطوسي / ٥٦٣، حلية الأبرار للبحراني ٢ / ٧٤، بحار الأنوار ١٠ / ١٤١ و٢٢ / ٢٨٣، كتاب الولاية لابن عقدة / ١٨٥.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٩٧، مثير الأحزان للحلّي / ٣٧، تاريخ الطبري ٤ / ٣٢٢، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٤ / ٦٢، الدّر النّظيم / ٥٥٢.

٦٢

المـُطّلب، أنا محمّد رسول اللّه، ألا إنّي خُلقتُ مِن طينةٍ مرحومةٍ في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي، وحمزة وجعفر » (١) .

والغرض من هذا ليس إلاّ التعريف بخصوص فضل عمّه وابن عمّه؛ فلذلك لم يتعرّض لخلق الأئمّةعليهم‌السلام ، بل ولا شيعتهم المخلوقين من فاضل طينتهم - كما في صحيح الآثار -، وإنّما ذكر نفسه ووصيّه لكونهما من اُصول الإسلام والإيمان.

كما أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم فتح البصرة، لمـّا صرّح بفضل سبعة من ولد عبد المـُطّلب، قال:« لا ينكرُ فضلَهم إلاّ كافرٌ، ولا يجحدُهُ إلاّ جاحدٌ، وهم: النّبي محمّد ووصيّه، والسّبطان، والمهدي، وسيّد الشهداء حمزة، والطيّار في الجنان جعفر » (٢) . لم يقصد

____________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٢٧٥، التوحيد للشيخ الصدوق / ٢٠٤، الأمالي للشيخ الطوسي / ٤١٠، بحار الأنوار ١١ / ٣٨٠ و٢٢ / ٣٧٤، غاية المرام للبحراني ٥ / ١١٧.

(٢) الكافي ١ / ٤٥٠، ح٣٤، عنه بحار الأنوار ٢٢ / ٢٨٢، ح٤١.

والمؤلّف نقل مضمون الرواية ونصّ الرواية كالتالي: عن أصبغ بن نباتة الحنظلي، قال: رأيت أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم افتتح البصرة، وركب بغلة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثُمّ قال:« أيّها النّاس، ألا اُخبركم بخيرِ الخلقِ يوم يجمعُهُم اللّه؟ » . فقام إليه أبو أيوب الأنصاري، فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدّثنا؛ فإنّك كنت تشهد ونغيب. فقال:« إنّ خير الخلق يوم يجمعُهُم اللّهُ تعالى سبعةٌ من ولد عبد المـُطّلب، لا ينكرُ فضلَهُم إلاّ كافرٌ، ولا يجحدُ به إلاّ جاحدٌ » .

فقام عمّار بن ياسررحمه‌الله ، فقال: يا أمير المؤمنين، سمّهم لنا لنعرفهم. فقال:« خيرُ الخلق يوم يجمعُهُم اللّه الرُّسل، وإنّ أفضلَ الرُّسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ أفضلَ كُلِّ اُمّة بعد نبيِّها وصيُّ نبيِّها حتّى يُدركه نبيٌّ، ألا وإنّ أفضلَ الأولياء وصيُّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا وإنّ أفضلَ الخلق بعد الرُّسلِ الشهداء، ألا وإنّ أفضلَ الشهداء حمزة بن عبد المـُطّلب وجعفر بن أبي طالب، له جناحان يطير بهما في الجنّة، لم يُنحل أحدٌ من هذه الاُمّة جناحان غيره؛ شيءٌ أكرم اللّه به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرّفه، والسّبطان الحسن والحسين، والمهدي عليهم‌السلام ، يجعله اللّه مَن شاء منّا أهل البيت » . ثُمّ تلا هذه الآية:( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَاُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولَـئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً ) . سورة النّساء / ٦٩.

٦٣

بذلك إلاّ التنويه بفضل عمّه وأخيه، فقرن شهادتهما بمَن نهض في سبيل الدّعوة الإلهيّة وهم أركان الإسلام والإيمان. ولو لم تكن لسيّد الشهداء حمزة وابن أخيه الطيّار كلُّ فضيلة سوى شهادتهما للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة؛ لكفى أنْ لا يتطّلب الإنسان غيرهما.

قال أبو عبد اللّه الصادقعليه‌السلام :« إذا كان يوم القيامة وجمع اللّهُ تبارك وتعالى الخلائق، كان نوح (صلّى اللّه عليه) أوّل مَن يُدعى به، فيُقال له: هل بلّغتْ؟ فيقول: نعم. فيُقال له: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمّد بن عبد اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال:فيخرج نوح (صلّى اللّه عليه) ويتخطّى النّاس حتّى يأتي إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو على كثيب المسك، ومعه عليٌّ عليه‌السلام ، وهو قول اللّه عزّ وجل: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (١) . فيقول نوح لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمّد، إنّ اللّه تبارك وتعالى سألني: هل بلّغت؟ فقلتُ: نعم. فقال: مَن يشهد لك؟ قلتُ: محمّد. فيقول: يا جعفر، يا حمزة، اذهبا واشهدا أنّه قد بلّغ ».

فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام :« فحمزةُ وجعفرٌ هما الشَّاهدان للأنبياء عليهم‌السلام بما بلّغوا » .

____________________

(١) سورة الملك / ٢٧.

٦٤

فقال الراوي: جُعلت فداك! فعليٌّعليه‌السلام أين هو؟ فقال:« هو أعظمُ منزلة مِن ذلك » (١) .

وهذه الشهادة لا بدّ أنْ تكون حقيقية، بمعنى أنّها تكون عن وقوفٍ بمعالم دين نوحعليه‌السلام ، وأديان الأنبياء الّذين هما الشاهدان لهم بنصّ الحديث، وإحاطة شهوديّة بها وبمعارفها، وبمواقعها وبوضعها في الموضع المقرّر له، وإلاّ لما صحّت الشهادة.

وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن من الشهادة عند إطلاقها، فهي ليست شهادة علميّة، بمعنى حصول العلم لهما من عصمة الأنبياء بأنّهم وضعوا ودائع نبوّاتهم في مواضعها، ولو كان ذلك كافياً لما طُولبوا بمَن يشهد لهم؛ فإنّ جاعل العصمة فيهم - جلّ شأنه - أعرف بأمانتهم، لكنّه لضرب من الحكمة أراد سبحانه وتعالى أنْ يجري الأمر على اُصول الحكم يوم فصل القضاء. ثُمّ إنّ هذه الشهادة ليست فرعيّة، بمعنى أنّهما يشهدان عن شهادة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ المطلوب في المحاكم هي الشهادة الوجدانيّة فحسب.

فإذا تقرّر ذلك، فحسبُ حمزة وجعفر من العلم المتدفّق خبرتهما بنواميس الأديان كُلِّها، والنّواميس الإلهيّة جمعاء، أو وقوفهما بحقِّ اليقين، أو بالمعاينة في عالم الأنوار، أو المشاهدة في عالم الأظلّة والذكر لها في عالم الشهود والوجود. ومن المستحيل بعد تلك الإحاطة أنْ يكونا جاهلَين بشيء من نواميس الإسلام.

____________________

(١) الكافي للكليني ٨ / ٢٦٧، ح ٣٩٢، وعنه بحار الأنوار للمجلسي ٧ / ٢٨٣، ح٤.

٦٥

طالب:

إنّ الثابت عند المـُحقّقين إسلام طالب بن أبي طالب من أوّل الدعوة؛ فإنّ المتأمّل إذا نظر بعين البصيرة إلى أبي طالب، وقد ضَمّ أولاده أجمع والنّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم، لا يفارقونه في جميع الأحوال مع ما يشاهدونه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الآيات الباهرات؛ لا يرتاب في صدق الدعوى، وقد أفصح عنه شعره(١) :

إذا قِيلَ مَنْ خَيرُ هذا الوَرى

قَبيِلاً وأكرَمَهم اُسرَهْ

أنافَ بعَبِدِ مُنافٍ أبٌ

وفَضلّهُ هَاشِمُ الغُرّهْ

لقد حَلّ مَجدُ بَنِي هَاشمٍ

مَكانَ النّعائِمِ والنّثرهْ

وخَيرُ بَنِي هَاشِمٍ أحمدٌ

رَسولُ الإلهِ عَلى فَترهْ

وإنّ في حديث جابر الأنصاري ما يُفيد منزلة أرقى من مجرّد الإسلام؛ يقول قلت لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أكثر النّاس يقولون: إنّ أبا طالب مات كافراً.

____________________

(١) إيمان أبي طالب للشيخ المفيد / ٣٥، بحار الأنوار ٣٥ / ١٦٥، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٧٨.

٦٦

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« يا جابر، ربّك أعلم بالغيب؛ إنّه لمـّا كانت الليلة التي اُسرِيَ بِي فيها إلى السّماء انتهيت إلى العرش، فرأيت أربعة أنوار، فقلتُ: إلهي، ما هذه الأنوار؟ فقال: يا مُحمّد، هذا عبد المـُطّلب، وهذا أبو طالب، وهذا أبوك عبد اللّه، وهذا أخوك طالب. فقلتُ: إلهي وسيّدي، فِيم نالوا هذه الدرجة؟ قال: بكتمانِهم الإيمان، والصبر على ذلك حتّى ماتوا » (١) .

وروى الكليني في روضة الكافي عن الصادقعليه‌السلام :« كان طالب مسلماً قبل بدر، وإنّما أخرَجَتْهُ قريشٌ كرهاً، فنزل رجَّازوهم يرتجزونْ، ونزل طالب يرتجز:

يا ربِّ إمّا يغزُوَنْ بطالبِ

في مَقنبٍ من هذه المقانبِ

في مَقنَبِ المـُحاربِ المـُغالبِ

يَجعلُهُ المَسلُوبَ غيرُ السّالبِ(٢)

وروى محمّد بن المـُثنّى الحضرمي: أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقي

____________________

(١) روضة الواعظين / ٨١، وعنه في بحار الأنوار ٣٥ / ١٦، ح١٢، الدّر النّظيم للعاملي / ٢٣٤.

(٢) روضة الكافي للكليني ٨ / ٣٧٥، عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٠، وعن الكافي في بحار الأنوار ١٩ / ٢٩٤، ح٣٨، المـُجدي في أنساب الطالبيين للعلوي / ٣١٨، تاريخ الطبري ٢ / ١٤٤، الكامل في التاريخ ٢ / ١٢١، الوافي بالوفيات ١٦ / ٢٢٢، البداية والنّهاية ٣ / ٣٢٥، السّيرة النبويّة لابن هشام الحميري ٢ / ٤٥١، السّيرة النبويّة لابن كثير ٢ / ٤٠٠.

٦٧

أبا رافع مولى العبّاس بن عبد المـُطّلب يوم بدر فسأله عن قومه، فأخبره أنّ قريشاً أخرجوهم مُكرَهين(١) . ويشهد له ما رواه ابن جرير: أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم بدر:« إنّي لأعرفُ رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد اُخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمَن لقي منكم أحداً منهم فلا يقتله، ومَن لقيَ العبّاس بن عبد المـُطّلب فلا يقتله؛ إنّما خرج مُستَكرهاً » (٢) .

وقد اختلف في موت طالب؛ فقيل: إنّه لمـّا خرج إلى بدر فُقد ولم يُعرف خبره. وقيل: أقحمه فرسُهُ في البحر فغرق. وليس من البعيد أنّ قريشاً قتلته حينما عرفت منه الإسلام، وعرفت مصارحته بالتفاؤل بمغلوبيَّتهم، وكان حاله كحال سعد بن عبادة لمـّا رماه الجنّ

____________________

(١) الاُصول السّتة عشر من الاُصول الأوّليّة / ٢٥٩، وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٧ / ١٠: عن ابن عباس -رضي‌الله‌عنهما - قال: كان ناسٌ من أهل مكّة قد أسلموا، وكانوا مُستخفين بالإسلام، فلمـّا خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم مُكرهين.

قلت: أخرج البخاري بعضه، رواه البزّار، ورجاله رجال الصحيح غير محمّد بن شريك، وهو ثقة.

أقول: وفي إخفاء الأسماء عادة قديمة عند القوم، ولهم تضلّع كبير فيها يعرفها مَن سَبَر كلماتهم، ولاحظ أقوالهم. وللّه مع ما يُسمَّون بـ ( أهل السُّنَّة والحديث ) شؤون لا تخفى.

(٢) بحار الأنوار ١٩ / ٣٠٤، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ١٨٣، تفسير القرطبي ٨ / ٤٩، تفسير ابن كثير ٢ / ٣٤٠، الطبقات الكبرى لابن سعد ٤ / ١٠، تاريخ الطبري ٢ / ١٥١، الكامل في التاريخ ٢ / ١٢٨، تاريخ الإسلام ٢ / ٥٨ و١٢٠، البداية والنّهاية ٣ / ٣٤٨، السّيرة النّبويّة لابن هشام الحميري ٢ / ٤٥٨، السّيرة النّبويّة لابن كثير ٢ / ٤٣٦، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ٤ / ٤٩، السّيرة الحلبيّة للحلبي ٢ / ٤١٣.

٦٨

( لو صدقت الأوهام )(١) .

____________________

(١) لم يُعرف حال طالب بن أبي طالب بشيء، غير ذكر له: مَن خرج مُكرَهاً من بني هاشم إلى معركة بدر. وأمّا حاله بعدها فهو مجهولٌ عند المـُحدّثين والمؤرّخين.

قال ابن سعد في الطبقات الكبرى ١ / ١٢١: كان اسم أبي طالب عبدَ مناف، وكان له من الولد طالب بن أبي طالب، وكان المـُشركون أخرجوه وسائر بني هاشم إلى بدر كرهاً... فلمـّا انهزموا لم يُوجد في الأسرى، ولا في القتلى، ولا رجع إلى مكّة، ولا يُدرى ما حلّ به، وليس له عقب. ومثله في تاريخ الطبري ٢ / ١٤٣، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ١٢١.

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٨١٧: وذكروا أنّ ثلاثة نفر ذهبوا على وجوههم فهاموا، ولم يُوجد ولم يُسمع لهم بأثر؛ طالب بن أبي طالب. ومثله في اُسد الغابة ٣ / ١١٢، وغيرها من المصادر الكثيرة التي اتّفقت على جهالة حال طالب بعد معركة بدر، وهذا شيء غريب مُلفتٌ للنظر؛ خصوصاً وأنّ المؤرّخين ركَّزوا على بني هاشم وذكرِ أخبارِهم وسيَرهم!

ثُمّ إنّ المؤلِّف شبّهه - على بُعد - بسعد بن عبادة الأنصاري المعروف في وقعة السّقيفة، وموقفه من أبي بكر وعمر من معارضته وعدم مبايعته لهما، وهذا الصحابي اختُلف في موته.

قال ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٥٩٩: ولم يختلفوا أنّه وُجد ميّتاً في مغتسله، وقد اخضرّ جسدُهُ ولم يشعروا بموته حتّى سمعوا قائلاً - ولا يرون أحداً -:

قَتلنَا سيّدَ الخَزْ

رجِ سعدَ بنَ عبادَهْ

رميناهُ بسهمٍ

فلَمْ يُخطِ فؤادَهْ

ويُقال: إنّ الجنّ قتلته.

قال السيّد الأمين في أعيان الشيعة ٧ / ٢٢٥، وقيل: إنّ الذي رماه المغيرةُ بنُ شعبة، وقيل: شخصاً غيره رماه كلّ واحد بسهم، واُشيع أنّ الجنّ رمته، وقالت البيتين.

ويُحكى عن بعض الأنصار، أنّه قال:

وما ذنبُ سعدٍ أنّهُ بالَ قائماً

ألا رُبَّما حقَّقْتَ فعلَكَ بالغدرِ

يقولون سعدٌ شقّتْ الجنُّ بطَنَهُ

ولكنَّ سعداً لم يُبايع أبا بكرِ

وفي الاستيعاب: لم يختلفوا أنّه وُجد ميّتاً في مغتسله، وقد اخضرّ جسده ولم يشعروا بموته حتّى سمعوا قائلاً يقول - ولا يرون أحد -: نحن قتلنا... البيتين، ويُقال: إنّ الجنّ قتلته. وياليت شعري، وما ذنبه إلى الجنِّ حتّى تقتله الجنّ؟! ويُنقل عن محمّد بن جرير الطبري - وكأنّه الشيعي -، وفي مؤلّفه عن أبي علقمة، قلتُ لابن عبادة، وقد مال النّاس إلى بيعة أبي بكر: ألا تدخل فيما دخل فيه المـُسلمون؟ قال: إليك عنّي، فواللّه، لقد سمعتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:« إذا أنا متُّ تضلّ الأهواء، ويرجعُ النّاس على أعقابِهم، فالحقُّ يومئذٍ مع عليٍّ، وكتابُ اللّه بيده » . لا نُبايع أحداً غيره. فقلتُ له: هل سمع هذا الخبر أحدٌ غيرك من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال: اُناسٌ في قلوبهم أحقادٌ وضغائنٌ. قلتُ: بل نازعتك نفسك أنْ يكون هذا الأمر لك دون النّاس. فحلف أنّه لم يهمّ بها ولم يُردها، وأنّهم لو بايعوا عليّاً لكان أوّلَ مَن بايعه.

٦٩

عقيل:

كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيّبة، وممّن رضي عنهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ النّظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أوّل الدعوة، وكان هذا مجلبة للحبّ النّبوي؛ حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء من: رسوخ الإيمان في جوانحه، وعمل الخيرات بجوارحه، ولزوم الطاعة في أعماله، واقتفاء الصدق في أقواله، فقول النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله له:« إنّي اُحبّك حُبّين: حُبّاً لك، وحبّاً لحبِّ أبي طالب لك » (١) . إنّما هو لأجل هاتيك المآثر، وليس من المعقول كون حُبّه لغاية شهويّة، أو لشيء من عرض الدنيا.

____________________

(١) ورد هذا الحديث بألفاظه المختلفة في المصادر التالية: بحار الأنوار ٣٥ / ١٥٧ و٤٢ / ١١٥، المـُستدرك للحاكم ٣ / ٥٧٦، مجمع الزوائد ٩ / ٢٧٣، المعجم الكبير للطبراني ١٧ / ١٩١، الاستيعاب ٣ / ١٠٧٨، الطبقات الكبرى ٤ / ٤٤، معرفة الثقات للعجلي ١ / ٣٨٣، تاريخ مدينة دمشق ٢٠ / ٥٥ و٤١ / ١٨، اُسد الغابة ٣ / ٤٢٢، سير أعلام النّبلاء ١ / ٢١٩، تاريخ الإسلام للذهبي ٤ / ٨٤، الوافي بالوفيات ٢٠ / ٦٣، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٢٥ و١٤ / ٧٠، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٢.

قال المؤلِّف: ولكنّه في المجالس - مجلس ٢٧ - روى عن ابن عباس: أنّ عليّاًعليه‌السلام قال لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أتحب عقيلاً؟ » . قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أي واللّه، إنّي لأحبُّه حُبّين: حُبّاً لرسول اللّه، وحُبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولدَهُ لمقتولٌ في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيونُ المؤمنين، وتُصلّي عليه الملائكة المـُقرّبون » . ثُمّ بكى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جرت دموعه على صدره، وقال:« إلى اللّه أشكو ما تلقَى عترتي بعدي » .

وهو في الأمالي للشيخ الصدوق / ١٩١ ح٢٠١/٣، وعنه بحار الأنوار ٢٢ / ٢٨٨، ح٥٨.

٧٠

إذاً فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة؛ وقد حدته قوةُ الإيمان إلى أنْ يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنينعليه‌السلام بلسان حديد، خلّده عاراً عليهم مدى الحقب والأعوام(١) .

على أنّ حُبَّ أبي طالب له لم يكن لمحض النّبوّة؛ فإنّه لم يكن ولده البكر، ولا كان أشجع ولده، ولا أوفاهم ذمّة، ولا ولده الوحيد، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأبي المساكين جعفر الطيّار، وهو أكبرهم سنّاً، وإنّما كان ( شيخ الأبطح ) يُظهر مرتبة من الحُبِّ له مع وجود ولده (الإمام) وأخيه الطيّار؛ لجمعه الفضائل والفواضل، موروثة ومكتسبة.

وبعد أنْ فرضنا أنّ أبا طالب حجّة وقته، وأنّه وصيٌّ من الأوصياء، لم يكن يحابي أحداً بالمحبّة وإنْ كان أعزّ ولده، إلاّ أنْ يجده ذلك الإنسان الكامل الذي يجب في شريعة الحقِّ ولاؤه؛ ولا شكّ أنّ عقيلاً لم يكن على غير الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الإيمان والوحدانية للّه تعالى، وكيف يشذّ عن خاصّته وأهله وهو وإيّاهم في بيت واحد، وأبو طالب هو المـُتكفّل

____________________

(١) قال العلاّمة الأميني في الغدير ١٠ / ٢٦١: قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إنّ عليّاً قد قطعك وأنا وصلتُك، ولا يرضيني منك إلاّ أنْ تلعنه على المنبر.

قال: أفعل. فصعد المنبر، ثُمّ قال - بعد أنْ حمدَ اللّهَ وأثنى عليه، وصلّى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله -: أيّها النّاس، إنّ معاوية بن أبي سفيان قد أمرني أنْ ألعن عليَّ بن أبي طالب فالعنوه، فعليه لعنةُ اللّه والملائكة والنّاس أجمعين.

ثُمّ نزل، فقال له معاوية: إنّك لمْ تُبيّن مَن لعنت منهما، بيّنه. فقال: واللّه، لا زدتُ حرفاً ولا نقصت حرفاً، والكلام إلى نيّة المـُتكلّم.

العقد الفريد ٢ / ١٤٤، المستطرف ١ / ٥٤.

والكلام فيه تورية لطيفة، ولعنٌ لمعاوية من قِبل عقيل.

٧١

تربيته وإعاشته، فلا هو بطارده عن حوزته، ولا بمبعده عن حومته، ولا بمتضجّر منه على الأقل.

وكيف يتظاهر بحُبِّه ويدنيه منه - كما يعلمنا النّص النّبوي السّابق - لو لمْ يتوثّق من إيمانه ويتيقّن من إسلامه، غير أنّه كان مُبطناً له كما كان أبوه من قبل وأخوه طالب؛ وإنْ كُنّا لا نشكّ في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيّار وأمير المؤمنينعليهما‌السلام . وحينئذ لم يكن عقيل بدعاً من هذا البيت الطاهر الّذي بُني الإسلام على علاليه، فهو مؤمن بما صدع به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ هتف داعية الهدى.

كما لبّت هذا الهتاف اُختهم اُمّ هاني، فكانت من السّابقات إلى الإيمان، كما عليه صحيح الأثر، وفي بيتها نزل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن معراجه، وهو في السّنة الثالثة من البعثة، وحدّثها بأمره قبل أنْ يخرج إلى النّاس، وكانت مُصدّقة له، غير أنّها خشيت تكذيب قريش إيّاه، وعليه فلا يُعبأ بما زعم من تأخّر إسلامها إلى عام الفتح سنة ثمان من الهجرة(١) .

____________________

(١) في مناقب ابن شهر آشوب ١ / ١١٠، إنّها ماتت في أيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ابن حجر في تقريب التهذيب ٢ / ٦٧٣، ٨٨٢١ نصّ على وفاتها في خلافة معاوية، وعليه فليست هي المعنيّة بما في كامل الزيارات / ١٩٥: وأقبلت إليه بعضُ عمّاته تقول: أشهد يا حسين، لقد سمعت قائلاً يقول:

وإنّ قَتيلَ الطّفِّ من آلِ هَاشمٍ

أذلَّ رِقَاباً مِنَ قُريشٍ فَذلّتِ

انتهى كلام المؤلِّف.

أقول: مضافاً إلى ذلك، فإنّ المـُحدّثين ذكروا أنّ قائل هذه الأبيات سليمان بن قتّة الخُزاعي. وارجع إلى: مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٦٣، مثير الأحزان لابن نما الحلّي / ٨٩، الاستيعاب لابن عبد البر ١ / ٣٩٤، نظم درر السّمطين / ٢٢٦، تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ٢٥٩، اُسد الغابة ٢ / ٢٢، تهذيب الكمال ٦ / ٤٤٧، سير أعلام النّبلاء ٣ / ٣١٨، تاريخ الإسلام ٥ / ١٠٨، البداية والنّهاية ٨ / ٢٣٠.

٧٢

وما عسى أنْ يقول القائل في اُمّهم - زوج شيخ الأبطح - بعد شهادة الرسول الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّها من الطاهرات الطيّبات المؤمنات في جميع أدوار حياتها.

والعجب ممّن اغتر بتمويه المـُبطلين؛ فدوّن تلك الفرية زعماً منه أنّها من فضائل سيّد الأوصياء، وهي: إنّ فاطمة بنت أسد دخلت البيت الحرام وهي حاملة بعليٍّعليه‌السلام ، فأرادت أنْ تسجد لهُبل فمنعها عليٌّعليه‌السلام وهو في بطنها!(١) . وقد فات المسكين أنّ في هذه الكرامة طعناً بتلك الذات المـُبرّأة من رجس الجاهليّة ودنس الشرك؛ وكيف يكون أشرف المخلوقات بعد خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله المتكوّن من النّور الإلهي مُودَعاً في وعاء الكفر والجحود؟!

كما أنّهم أبعدوها كثيراً عن مستوى التعاليم الإلهيّة، ودروس خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله المـُلقاة عليها كُلَّ صباح ومساء، وفيها ما فرضه المهيمن - جلّ شأنه - على الاُمّة جمعاء من الإيمان بما حبى ولدها الوصيَّعليه‌السلام بالولاية على المؤمنين حتّى اُختصّ بها دون الأئمّة من أبنائهعليهم‌السلام ؛ وإنْ كانوا نوراً واحداً، وطينة واحدة.

ولقد غضب الإمام الصادقعليه‌السلام على مَن سمّاه أمير المؤمنين، وقال:« مه، لا يصلح هذا الاسم إلاّ لجدّي أمير المؤمنين » .

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة للحلبي ١ / ٤٢٢، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي ٨ / ٧٠.

٧٣

فرووا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على قبرها وصاح:« ابنك عليٌّ لا جعفر ولا عقيل » . ولما سُئل عنه، أجاب:« إنّ المَلكَ سألَها عمّن تُدين بولايته بعد الرسول، فخجلت أنْ تقول ولدي » (١) .

أمن المعقول أنْ تكون تلك الذات الطاهرة، الحاملة لأشرف الخلق بعد النّبوّة بعيدة عن تلك التعاليم المـُقدّسة؟! وهل في الدِّين حياء؟! نعم، أرادوا أنْ يزحزحوها عن الصراط السّوي، ولكن فاتهم الغرض وأخطؤوا الرمية؛ فإنّ الصحيح من الآثار ينصّ على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا أنزلها في لحدها، ناداها بصوت رفيع:« يا فاطمة، أنا محمّدٌ سيّدُ وُلدِ آدمَ ولا فخر، فإذا أتاك منكرٌ ونكيرٌ فسألاك: مَن ربّك؟ فقولي: اللّهُ ربّي، ومحمّدٌ نبيِّي، والإسلامُ ديني، والقرآنُ كتابي، وابني إمامي ووليّي » . ثمّ خرج من القبر، وأهال عليها التُّراب(٢) . ولعلّ هذا خاصّ بها ومَن جرى مجراها من الزّاكين الطيّبين، وإلاّ فلم يعهد في زمن الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولي بعده؛ فإنّه كتخصيصها بالتكبير أربعين مع أنّ التكبير على الأموات خمس.

وبالرغم من هاتيك السّفاسف التي أرادوا بها الحطّ من مقام والدة الإمامعليه‌السلام ، أظهر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الاُمّة ما أعرب عن مكانتها من الدِّين، وأنّها بعين فاطر السّماء حين كفّنها بقميصه الذي لا يبلى؛ لتكن مستورة يوم يعرى الخلق، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة

____________________

(١) الفضائل لابن شاذان / ١٠٣، مستدرك الوسائل ٢ / ٣٤٢.

(٢) روضة الواعظين للنيسابوري / ١٤٢، بحار الأنوار ٧٨ / ٣٥١، ح ٢٢ عن مجالس الصدوق، بشارة المصطفى للطبري / ٣٧٢.

٧٤

لرغبتها فيه عند ما حدّثها عن أهوال القبر، وما يكون فيه من ضغطة ابن آدم.

فتحصّل: إنّ هذا البيت الطاهر (بيت أبي طالب) بيتُ توحيدٍ وإيمانٍ، وهدى ورشاد، وإنّ مَن حواه البيت رجالاً ونساءً كُلّهم على دين واحد منذ هتف داعية الهُدى وصَدعَ بأمر الرسالة، غير أنّهم بين مَن جاهر باتّباع الدعوة، وبين مَن كتم الإيمان لضرب من المصلحة.

٧٥

السّفر إلى الشام:

لقد كانت الروايات في سفر عقيل إلى الشام، في أنّه على عهد أخيه الإمام أو بعده، متضاربة، واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النّهج ٣ / ٨٢ أنّه بعد شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وجزم به العلاّمة الجليل السيّد علي خان في الدرجات الرفيعة، وهو الذي يقوى في النّظر بعد ملاحظة مجموع ما يُؤثر في هذا الباب؛ وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيِّين عند أهل البيتعليهم‌السلام إلى معاوية في تلك الظروف القاسية، بعد أنْ اضطرّتهم إليه الحاجة، وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النّفس، والكفّ من بوادر الرَّجل، فلا هُم بملومين بشيء من ذلك، ولا يحطّ من كرامتهم عند الملأ الديني؛ فإنّ للتقيّة أحكاماً لا تُنقض، ولا يُلام المـُضطرّ على أمر اضطرّ إليه.

على أنّ عقيلاً لم يُؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامةٍ، ولا خضوع له عند كرامة، وإنّما المأثور عنه الوقيعة فيه، والطعن في حسبه ونسبه، والحطّ من كرامته، والإصحار بمطاعنه، مشفوعة بالإشارة إلى فضل أخيه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

من ذلك أنّ معاوية قال له: يا أبا يزيد، أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك؟ فقال عقيل: مررت والله، بعسكر أخي، فإذا ليلٌ كليل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونهارٌ كنهار رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّ رسول

٧٦

اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس في القوم؛ ما رأيت إلاّ مُصلّياً، ولا سمعت إلاّ قارئاً، ومررت بعسكرك، فاستقبلني قوم من المـُنافقين ممّن نفر برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العقبة(١) .

وقال له معاوية: إنّ عليّاً قطع قرابتك وما وصلك. فقال له عقيل: واللّه، لقد أجزلَ العطيّة وأعظَمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسنَ ظنّه باللّه إذ ساء به مثلك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته إذ خنتُم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أباً لك؛ فإنّه عمّا تقول بمعزل(٢) . ثُمّ صاح: يا أهل الشام، عنّي فاسمعوا لا عن معاوية، إنّي أتيت أخي عليّاًعليه‌السلام فوجدته رجلاً قد جعل دنياه دون دينه، وخشي اللّه على نفسه، ولم تأخذه في اللّه لومة لائم... وإنّي أتيت معاوية فوجدته قد جعل دينه دون دنياه، وركب الضلالة واتّبع هواه، فأعطاني ما لمْ يعرق فيه جبينُه، ولم تكدح فيه يمينُه؛ رزقاً أجراه اللّه على يديه، وهو المـُحاسَب عليه دوني، لا محمود ولا مشكور.

ثُمّ التفت إلى معاوية، فقال: أما واللّه يابن هند، ما تزال منك سوالف يمرّها منك قول وفعل؛ فكأنّي بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر. فأطرق معاوية ساعة، ثُمّ قال: مَن يعذرني من بني هاشم. ثُمّ أنشد يقول:

اُزيدُهُمُ الإكرامَ كَي يشعَبُوا العَصَا

فيأبَوا لدَى الإكرامِ أنْ لا يُكرَمُوا

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٢٥.

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٦١.

٧٧

وإذا عَطَفتني رقَّتانِ عَليهمُ

نَأوا حَسداً عنّي فكانوا هُمُ هُمُ

واُعطيهمُ صَفوَ الإخا فكأنَّنِي

معاً وعطايايَ المـُباحةَ عَلقَمُ

واُغضِي عَنِ الذَّنبِ الّذي لا يُقيلُهُ

مِنَ القومِ إلاّ الهَزْبَريُّ المـُقَمَّمُ

حُباً واصطباراً وانعطافاً ورقَّةً

وأكظمُ غيظَ القلبِ إذْ ليسَ يُكظَم

أما واللّه يابن أبي طالب، لولا أنْ يُقال: عجل معاوية لخرقٍ ونكل عن جوابك، لتركتُ هامتَكَ أخفَّ على أيدي الرِّجال من حَوي الحنظل.

فأجابه عقيل:

عذيرُكَ مِنهُمْ مَنْ يلومُ عليهمُ

ومَنْ هو مِنهُمْ في المقالةِ أظلَمُ

لَعمرُكَ ما أعطيتَهُمْ منكَ رأفة

ولكنْ لأسبابٍ وحولَكَ علقَمُ

أبَى لهُمُ أنْ ينزلَ الذلُّ دارَهمْ

بنو حُرَّةٍ زُهرٌ وعقلٌ مُسلّمُ

وإنَّهُمُ لمْ يقبَلوا الذّلَّ عنوةً

إذا ما طغَى الجبَّارُ كانوا هُمُ هُمُ

فدونَكَ ما أسْدَيتَ فاشدُدْ يداً بِه

وخيرُكُمُ المبْسوطُ والشرَّ فالزموا

ثُمّ رمى المئة ألف درهم، ونفض ثوبه وقام ومضى، فلم يلتفت إليه.

فكتب إليه معاوية: أمّا بعد، يا بني عبد المـُطّلب، أنتم واللّه فروعُ قَصي، ولبابُ عبد مناف، وصفوةُ هاشم، فأين أحلامكم الراسية وعقولكم الكاسية، وحفظكم الأواصر وحبكم العشائر، ولكم الصفح

٧٨

الجميل والعفو الجزيل، مقرونان بشرف النّبوّة وعزّ الرسالة، وقد والله، ساءني ما كان جرى، ولنْ أعود لمثله إلى أنْ اُغيّب في الثرى.

فكتب إليه عقيل:

صَدقتَ وقلتَ حقّاً غيرَ أنّي

أرَى ألا أراكَ ولا ترانِي

ولستُ أقولُ سُوءاً في صدِيقي

ولكنِّي أصدُّ إذا جفاني

فكتب إليه معاوية وناشده في الصفح، وأجازه مئة ألف درهم حتّى رجع(١) . فقال له معاوية: لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ عقيل:

وإنّي امرُؤٌ منّي التَّكرُّمُ شيمةٌ

إذا صاحبِي يوماً على الهَونِ أضمَرَا

ثُمّ قال: أيم اللّه يا معاوية، لئن كانت الدُّنيا أفرشتك مهادها، وأظلّتك بسرادقها، ومدّت عليك أطناب سلطانها، ما ذاك بالذي يزيدك منّي رغبةً ولا تخشّعاً لرهبة. فقال معاوية: لقد نعتها أبو يزيد نعتاً هشّ له قلبي. وأيم اللّه يا أبا يزيد، لقد أصبحت كريماً وإلينا حبيباً، وما أصبحتُ أضمر لك إساءة(٢) .

هذا حال عقيل مع معاوية، وحينئذ فأيّ نقص يلمّ به والحالة هذه؟!

____________________

(١) الدرجات الرفيعة / ١٦٣ - ١٦٤.

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٦٤.

٧٩

وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنّه لا صحة لما رواه المتساهلون في النّقل من كونه مع معاوية بصفين؛ فإنّه ممّا لم يُتأكد إسنادُهُ ولا عُرِفَ متنُه، ويُضادُه جميعُ ما ذكرناه، كما يبعده كتابه من مكّة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام حين أغار الضحّاك على الحيرة وما والاها، وذلك بعد حادثة صفين، وهذه صورة الكتاب: لعبد اللّه أمير المؤمنين، من عقيل بن أبي طالب: سلام عليك، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد، فإنّ اللّه حارسك من كُلّ سوء، وعاصمك من كُلّ مكروه وعلى كُلّ حال، فإنّي خرجت إلى مكّة معتمراً، فلقيت عبد اللّه بن أبي سرح مُقبلاً من ( قديد ) في نحو من أربعين شابّاً من أبناء الطُّلقاء، فعرفت المنكر في وجوههم، فقلت: إلى أين يا أبناء الشانئين؟ أبمعاوية لاحقون؛ عداوة للّه منكم غير مُستنكَرة، تُريدون إطفاء نور اللّه وتبديل أمره؟ فأسمعني القوم وأسمعتهم، فلمـّا قدمت مكّة سمعت أهلها يتحدّثون أنّ الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء، ثُمّ انكفأ راجعاً سالماً، وإنّ الحياة في دهرٍ جرّأ عليك الضحّاك لذميمة، وما الضحّاك إلاّ فقع بقرقر.

وقد توهّمت حيث بلغني ذلك أنّ شيعتك وأنصارك خذلوك، فاكتب إليّ يابن أبي برأيك؛ فإنْ كنتَ الموت تُريد، تحمّلتُ إليك ببَني أخيك وولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا متّ؛ فواللّه، ما اُحبّ أنْ أبقى في الدُّنيا بعدك فواق ناقة، واُقسم بالأعزّ الأجل، إنّ عيشاً نعيشه بعدك لا هنئ ولا مرئ ولا نجيع، والسّلام.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394