مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77234 / تحميل: 11577
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وإنّ التأمّل في الحديث يُفيدنا منزلة كبرى لحمزة من الدِّين والإيمان لا تحدّ، وإلاّ فما الفائدة في هذه البيعة والاعتراف بعد ما صدر منه بمكّة من الشهادة للّه بالوحدانية ولرسوله بالنّبوّة؟ ولكنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أراد لهذه الذات الطاهرة التي حلّقت بصاحبها إلى ذروة اليقين، التحلّي بأفضل صفات الكمال، وهو التسليم لأمير المؤمنينعليه‌السلام بالولاية العامّة، ولأبنائه المعصومينعليهم‌السلام بالخلافة عن جدّهم الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك مرتبة اُخرى لا يبلغ مداها أحد، وهي اعتراف حمزة وشهادته بأنّه سيّد الشهداء، وأنّه أسد اللّه وأسد رسوله، وأنّ ابن أخيه الطيّار مع الملائكة في الجنّة، وهذه خاصّة لم يكلّف بها العباد فوق ما عرفوه من منازل أهل البيت المعصومينعليهم‌السلام ، وإنمّا هي من مراتب السّلوك والكشف واليقين.

وإذا نظرنا الى إكبار الأئمّةعليهم‌السلام لمقامه - وهم أعرف بنفسيّات الرجال، حتّى أنّهم احتجّوا على خصومهم بعمومته وشهادته دون الدِّين، كما احتجّوا بنسبتهم إلى الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ هناك رجالاً بذلوا أنفسهم دون مرضاة اللّه تعالى - استفدنا درجة عالية تُقرّب من درجاتهمعليهم‌السلام . فهذا أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول:« إنّ قوماً استشهدوا في سبيل اللّه من المهاجرين، ولكلٍّ فضلٌ، حتّى إذا استشهد شهيدُنا، قيل: سيّد الشهداء. وخصّه رسول اللّه بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه » (١) .

____________________

(١) الاحتجاج ٣ / ٢٥٩، بحار الأنوار ٢٢ / ٢٧٢ و٢٣ / ٥٨ و٧٨ / ٣٤٨، نهج السّعادة للمحمودي ٤ / ١٩٢، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ١٨١، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب / ٣٧٢، ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ٣ / ٤٤٦.

٦١

وفي يوم الشورى احتجّ عليهم به، فقال:« أنشدكم اللّه، هل فيكم أحدٌ له مثل عمّي حمزة أسد اللّه وأسد رسوله؟ » (١). وقال الإمام المجتبىعليه‌السلام في بعض خطبه:« وكان ممّن استجاب لرسول اللّه عمّه حمزة، وابن عمّه جعفر، فقُتلا شهيدين في قتلى كثيرة معهما من أصحاب رسول اللّه، فجعل حمزة سيّد الشهداء » (٢) . وقال سيّد الشهداء أبو عبد اللّهعليه‌السلام يوم الطَّفِّ:« أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟! » (٣).

إلى غير ذلك ممّا جاء عنهم في الإشادة بذكره، حتّى إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يزل يُكرّر الهتاف بفضله، ويُعرّف المهاجرين والأنصار بما امتاز به أسدُ اللّه وأسدُ رسوله من بينهم؛ كي لا يقول قائل، ولا يتردّد مُسلمٌ عن الإذعان بما حبا اللّه تعالى سيّد الشهداء من الكرامة، فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد

____________________

(١) الخصال للشيخ الصدوق / ٥٥٥، الأمالي للشيخ الطوسي / ٥٥٤، بحار الأنوار ٢٢ / ٢٨٠، المناقب للخوارزمي / ٣١٤، الدّر النّظيم / ٣٣، كتاب الولاية لابن عقدة / ١٦٣، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس / ٤١٢، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٤٢ / ٤٣٤، ميزان الاعتدال للذهبي ١ / ٤٤٢، لسان الميزان لابن حجر ٢ / ١٥٧، وغيرها من المصادر.

(٢) الأمالي للشيخ الطوسي / ٥٦٣، حلية الأبرار للبحراني ٢ / ٧٤، بحار الأنوار ١٠ / ١٤١ و٢٢ / ٢٨٣، كتاب الولاية لابن عقدة / ١٨٥.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٩٧، مثير الأحزان للحلّي / ٣٧، تاريخ الطبري ٤ / ٣٢٢، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٤ / ٦٢، الدّر النّظيم / ٥٥٢.

٦٢

المـُطّلب، أنا محمّد رسول اللّه، ألا إنّي خُلقتُ مِن طينةٍ مرحومةٍ في أربعة من أهل بيتي: أنا وعلي، وحمزة وجعفر » (١) .

والغرض من هذا ليس إلاّ التعريف بخصوص فضل عمّه وابن عمّه؛ فلذلك لم يتعرّض لخلق الأئمّةعليهم‌السلام ، بل ولا شيعتهم المخلوقين من فاضل طينتهم - كما في صحيح الآثار -، وإنّما ذكر نفسه ووصيّه لكونهما من اُصول الإسلام والإيمان.

كما أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم فتح البصرة، لمـّا صرّح بفضل سبعة من ولد عبد المـُطّلب، قال:« لا ينكرُ فضلَهم إلاّ كافرٌ، ولا يجحدُهُ إلاّ جاحدٌ، وهم: النّبي محمّد ووصيّه، والسّبطان، والمهدي، وسيّد الشهداء حمزة، والطيّار في الجنان جعفر » (٢) . لم يقصد

____________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٢٧٥، التوحيد للشيخ الصدوق / ٢٠٤، الأمالي للشيخ الطوسي / ٤١٠، بحار الأنوار ١١ / ٣٨٠ و٢٢ / ٣٧٤، غاية المرام للبحراني ٥ / ١١٧.

(٢) الكافي ١ / ٤٥٠، ح٣٤، عنه بحار الأنوار ٢٢ / ٢٨٢، ح٤١.

والمؤلّف نقل مضمون الرواية ونصّ الرواية كالتالي: عن أصبغ بن نباتة الحنظلي، قال: رأيت أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم افتتح البصرة، وركب بغلة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثُمّ قال:« أيّها النّاس، ألا اُخبركم بخيرِ الخلقِ يوم يجمعُهُم اللّه؟ » . فقام إليه أبو أيوب الأنصاري، فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدّثنا؛ فإنّك كنت تشهد ونغيب. فقال:« إنّ خير الخلق يوم يجمعُهُم اللّهُ تعالى سبعةٌ من ولد عبد المـُطّلب، لا ينكرُ فضلَهُم إلاّ كافرٌ، ولا يجحدُ به إلاّ جاحدٌ » .

فقام عمّار بن ياسررحمه‌الله ، فقال: يا أمير المؤمنين، سمّهم لنا لنعرفهم. فقال:« خيرُ الخلق يوم يجمعُهُم اللّه الرُّسل، وإنّ أفضلَ الرُّسل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ أفضلَ كُلِّ اُمّة بعد نبيِّها وصيُّ نبيِّها حتّى يُدركه نبيٌّ، ألا وإنّ أفضلَ الأولياء وصيُّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا وإنّ أفضلَ الخلق بعد الرُّسلِ الشهداء، ألا وإنّ أفضلَ الشهداء حمزة بن عبد المـُطّلب وجعفر بن أبي طالب، له جناحان يطير بهما في الجنّة، لم يُنحل أحدٌ من هذه الاُمّة جناحان غيره؛ شيءٌ أكرم اللّه به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرّفه، والسّبطان الحسن والحسين، والمهدي عليهم‌السلام ، يجعله اللّه مَن شاء منّا أهل البيت » . ثُمّ تلا هذه الآية:( وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَاُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولَـئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً ) . سورة النّساء / ٦٩.

٦٣

بذلك إلاّ التنويه بفضل عمّه وأخيه، فقرن شهادتهما بمَن نهض في سبيل الدّعوة الإلهيّة وهم أركان الإسلام والإيمان. ولو لم تكن لسيّد الشهداء حمزة وابن أخيه الطيّار كلُّ فضيلة سوى شهادتهما للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة؛ لكفى أنْ لا يتطّلب الإنسان غيرهما.

قال أبو عبد اللّه الصادقعليه‌السلام :« إذا كان يوم القيامة وجمع اللّهُ تبارك وتعالى الخلائق، كان نوح (صلّى اللّه عليه) أوّل مَن يُدعى به، فيُقال له: هل بلّغتْ؟ فيقول: نعم. فيُقال له: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمّد بن عبد اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال:فيخرج نوح (صلّى اللّه عليه) ويتخطّى النّاس حتّى يأتي إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو على كثيب المسك، ومعه عليٌّ عليه‌السلام ، وهو قول اللّه عزّ وجل: ( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (١) . فيقول نوح لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمّد، إنّ اللّه تبارك وتعالى سألني: هل بلّغت؟ فقلتُ: نعم. فقال: مَن يشهد لك؟ قلتُ: محمّد. فيقول: يا جعفر، يا حمزة، اذهبا واشهدا أنّه قد بلّغ ».

فقال أبو عبد اللّهعليه‌السلام :« فحمزةُ وجعفرٌ هما الشَّاهدان للأنبياء عليهم‌السلام بما بلّغوا » .

____________________

(١) سورة الملك / ٢٧.

٦٤

فقال الراوي: جُعلت فداك! فعليٌّعليه‌السلام أين هو؟ فقال:« هو أعظمُ منزلة مِن ذلك » (١) .

وهذه الشهادة لا بدّ أنْ تكون حقيقية، بمعنى أنّها تكون عن وقوفٍ بمعالم دين نوحعليه‌السلام ، وأديان الأنبياء الّذين هما الشاهدان لهم بنصّ الحديث، وإحاطة شهوديّة بها وبمعارفها، وبمواقعها وبوضعها في الموضع المقرّر له، وإلاّ لما صحّت الشهادة.

وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن من الشهادة عند إطلاقها، فهي ليست شهادة علميّة، بمعنى حصول العلم لهما من عصمة الأنبياء بأنّهم وضعوا ودائع نبوّاتهم في مواضعها، ولو كان ذلك كافياً لما طُولبوا بمَن يشهد لهم؛ فإنّ جاعل العصمة فيهم - جلّ شأنه - أعرف بأمانتهم، لكنّه لضرب من الحكمة أراد سبحانه وتعالى أنْ يجري الأمر على اُصول الحكم يوم فصل القضاء. ثُمّ إنّ هذه الشهادة ليست فرعيّة، بمعنى أنّهما يشهدان عن شهادة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ المطلوب في المحاكم هي الشهادة الوجدانيّة فحسب.

فإذا تقرّر ذلك، فحسبُ حمزة وجعفر من العلم المتدفّق خبرتهما بنواميس الأديان كُلِّها، والنّواميس الإلهيّة جمعاء، أو وقوفهما بحقِّ اليقين، أو بالمعاينة في عالم الأنوار، أو المشاهدة في عالم الأظلّة والذكر لها في عالم الشهود والوجود. ومن المستحيل بعد تلك الإحاطة أنْ يكونا جاهلَين بشيء من نواميس الإسلام.

____________________

(١) الكافي للكليني ٨ / ٢٦٧، ح ٣٩٢، وعنه بحار الأنوار للمجلسي ٧ / ٢٨٣، ح٤.

٦٥

طالب:

إنّ الثابت عند المـُحقّقين إسلام طالب بن أبي طالب من أوّل الدعوة؛ فإنّ المتأمّل إذا نظر بعين البصيرة إلى أبي طالب، وقد ضَمّ أولاده أجمع والنّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله معهم، لا يفارقونه في جميع الأحوال مع ما يشاهدونه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الآيات الباهرات؛ لا يرتاب في صدق الدعوى، وقد أفصح عنه شعره(١) :

إذا قِيلَ مَنْ خَيرُ هذا الوَرى

قَبيِلاً وأكرَمَهم اُسرَهْ

أنافَ بعَبِدِ مُنافٍ أبٌ

وفَضلّهُ هَاشِمُ الغُرّهْ

لقد حَلّ مَجدُ بَنِي هَاشمٍ

مَكانَ النّعائِمِ والنّثرهْ

وخَيرُ بَنِي هَاشِمٍ أحمدٌ

رَسولُ الإلهِ عَلى فَترهْ

وإنّ في حديث جابر الأنصاري ما يُفيد منزلة أرقى من مجرّد الإسلام؛ يقول قلت لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أكثر النّاس يقولون: إنّ أبا طالب مات كافراً.

____________________

(١) إيمان أبي طالب للشيخ المفيد / ٣٥، بحار الأنوار ٣٥ / ١٦٥، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٧٨.

٦٦

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« يا جابر، ربّك أعلم بالغيب؛ إنّه لمـّا كانت الليلة التي اُسرِيَ بِي فيها إلى السّماء انتهيت إلى العرش، فرأيت أربعة أنوار، فقلتُ: إلهي، ما هذه الأنوار؟ فقال: يا مُحمّد، هذا عبد المـُطّلب، وهذا أبو طالب، وهذا أبوك عبد اللّه، وهذا أخوك طالب. فقلتُ: إلهي وسيّدي، فِيم نالوا هذه الدرجة؟ قال: بكتمانِهم الإيمان، والصبر على ذلك حتّى ماتوا » (١) .

وروى الكليني في روضة الكافي عن الصادقعليه‌السلام :« كان طالب مسلماً قبل بدر، وإنّما أخرَجَتْهُ قريشٌ كرهاً، فنزل رجَّازوهم يرتجزونْ، ونزل طالب يرتجز:

يا ربِّ إمّا يغزُوَنْ بطالبِ

في مَقنبٍ من هذه المقانبِ

في مَقنَبِ المـُحاربِ المـُغالبِ

يَجعلُهُ المَسلُوبَ غيرُ السّالبِ(٢)

وروى محمّد بن المـُثنّى الحضرمي: أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقي

____________________

(١) روضة الواعظين / ٨١، وعنه في بحار الأنوار ٣٥ / ١٦، ح١٢، الدّر النّظيم للعاملي / ٢٣٤.

(٢) روضة الكافي للكليني ٨ / ٣٧٥، عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٠، وعن الكافي في بحار الأنوار ١٩ / ٢٩٤، ح٣٨، المـُجدي في أنساب الطالبيين للعلوي / ٣١٨، تاريخ الطبري ٢ / ١٤٤، الكامل في التاريخ ٢ / ١٢١، الوافي بالوفيات ١٦ / ٢٢٢، البداية والنّهاية ٣ / ٣٢٥، السّيرة النبويّة لابن هشام الحميري ٢ / ٤٥١، السّيرة النبويّة لابن كثير ٢ / ٤٠٠.

٦٧

أبا رافع مولى العبّاس بن عبد المـُطّلب يوم بدر فسأله عن قومه، فأخبره أنّ قريشاً أخرجوهم مُكرَهين(١) . ويشهد له ما رواه ابن جرير: أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم بدر:« إنّي لأعرفُ رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد اُخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمَن لقي منكم أحداً منهم فلا يقتله، ومَن لقيَ العبّاس بن عبد المـُطّلب فلا يقتله؛ إنّما خرج مُستَكرهاً » (٢) .

وقد اختلف في موت طالب؛ فقيل: إنّه لمـّا خرج إلى بدر فُقد ولم يُعرف خبره. وقيل: أقحمه فرسُهُ في البحر فغرق. وليس من البعيد أنّ قريشاً قتلته حينما عرفت منه الإسلام، وعرفت مصارحته بالتفاؤل بمغلوبيَّتهم، وكان حاله كحال سعد بن عبادة لمـّا رماه الجنّ

____________________

(١) الاُصول السّتة عشر من الاُصول الأوّليّة / ٢٥٩، وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٧ / ١٠: عن ابن عباس -رضي‌الله‌عنهما - قال: كان ناسٌ من أهل مكّة قد أسلموا، وكانوا مُستخفين بالإسلام، فلمـّا خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم مُكرهين.

قلت: أخرج البخاري بعضه، رواه البزّار، ورجاله رجال الصحيح غير محمّد بن شريك، وهو ثقة.

أقول: وفي إخفاء الأسماء عادة قديمة عند القوم، ولهم تضلّع كبير فيها يعرفها مَن سَبَر كلماتهم، ولاحظ أقوالهم. وللّه مع ما يُسمَّون بـ ( أهل السُّنَّة والحديث ) شؤون لا تخفى.

(٢) بحار الأنوار ١٩ / ٣٠٤، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ١٨٣، تفسير القرطبي ٨ / ٤٩، تفسير ابن كثير ٢ / ٣٤٠، الطبقات الكبرى لابن سعد ٤ / ١٠، تاريخ الطبري ٢ / ١٥١، الكامل في التاريخ ٢ / ١٢٨، تاريخ الإسلام ٢ / ٥٨ و١٢٠، البداية والنّهاية ٣ / ٣٤٨، السّيرة النّبويّة لابن هشام الحميري ٢ / ٤٥٨، السّيرة النّبويّة لابن كثير ٢ / ٤٣٦، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ٤ / ٤٩، السّيرة الحلبيّة للحلبي ٢ / ٤١٣.

٦٨

( لو صدقت الأوهام )(١) .

____________________

(١) لم يُعرف حال طالب بن أبي طالب بشيء، غير ذكر له: مَن خرج مُكرَهاً من بني هاشم إلى معركة بدر. وأمّا حاله بعدها فهو مجهولٌ عند المـُحدّثين والمؤرّخين.

قال ابن سعد في الطبقات الكبرى ١ / ١٢١: كان اسم أبي طالب عبدَ مناف، وكان له من الولد طالب بن أبي طالب، وكان المـُشركون أخرجوه وسائر بني هاشم إلى بدر كرهاً... فلمـّا انهزموا لم يُوجد في الأسرى، ولا في القتلى، ولا رجع إلى مكّة، ولا يُدرى ما حلّ به، وليس له عقب. ومثله في تاريخ الطبري ٢ / ١٤٣، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ / ١٢١.

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٨١٧: وذكروا أنّ ثلاثة نفر ذهبوا على وجوههم فهاموا، ولم يُوجد ولم يُسمع لهم بأثر؛ طالب بن أبي طالب. ومثله في اُسد الغابة ٣ / ١١٢، وغيرها من المصادر الكثيرة التي اتّفقت على جهالة حال طالب بعد معركة بدر، وهذا شيء غريب مُلفتٌ للنظر؛ خصوصاً وأنّ المؤرّخين ركَّزوا على بني هاشم وذكرِ أخبارِهم وسيَرهم!

ثُمّ إنّ المؤلِّف شبّهه - على بُعد - بسعد بن عبادة الأنصاري المعروف في وقعة السّقيفة، وموقفه من أبي بكر وعمر من معارضته وعدم مبايعته لهما، وهذا الصحابي اختُلف في موته.

قال ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٥٩٩: ولم يختلفوا أنّه وُجد ميّتاً في مغتسله، وقد اخضرّ جسدُهُ ولم يشعروا بموته حتّى سمعوا قائلاً - ولا يرون أحداً -:

قَتلنَا سيّدَ الخَزْ

رجِ سعدَ بنَ عبادَهْ

رميناهُ بسهمٍ

فلَمْ يُخطِ فؤادَهْ

ويُقال: إنّ الجنّ قتلته.

قال السيّد الأمين في أعيان الشيعة ٧ / ٢٢٥، وقيل: إنّ الذي رماه المغيرةُ بنُ شعبة، وقيل: شخصاً غيره رماه كلّ واحد بسهم، واُشيع أنّ الجنّ رمته، وقالت البيتين.

ويُحكى عن بعض الأنصار، أنّه قال:

وما ذنبُ سعدٍ أنّهُ بالَ قائماً

ألا رُبَّما حقَّقْتَ فعلَكَ بالغدرِ

يقولون سعدٌ شقّتْ الجنُّ بطَنَهُ

ولكنَّ سعداً لم يُبايع أبا بكرِ

وفي الاستيعاب: لم يختلفوا أنّه وُجد ميّتاً في مغتسله، وقد اخضرّ جسده ولم يشعروا بموته حتّى سمعوا قائلاً يقول - ولا يرون أحد -: نحن قتلنا... البيتين، ويُقال: إنّ الجنّ قتلته. وياليت شعري، وما ذنبه إلى الجنِّ حتّى تقتله الجنّ؟! ويُنقل عن محمّد بن جرير الطبري - وكأنّه الشيعي -، وفي مؤلّفه عن أبي علقمة، قلتُ لابن عبادة، وقد مال النّاس إلى بيعة أبي بكر: ألا تدخل فيما دخل فيه المـُسلمون؟ قال: إليك عنّي، فواللّه، لقد سمعتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:« إذا أنا متُّ تضلّ الأهواء، ويرجعُ النّاس على أعقابِهم، فالحقُّ يومئذٍ مع عليٍّ، وكتابُ اللّه بيده » . لا نُبايع أحداً غيره. فقلتُ له: هل سمع هذا الخبر أحدٌ غيرك من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال: اُناسٌ في قلوبهم أحقادٌ وضغائنٌ. قلتُ: بل نازعتك نفسك أنْ يكون هذا الأمر لك دون النّاس. فحلف أنّه لم يهمّ بها ولم يُردها، وأنّهم لو بايعوا عليّاً لكان أوّلَ مَن بايعه.

٦٩

عقيل:

كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيّبة، وممّن رضي عنهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ النّظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أوّل الدعوة، وكان هذا مجلبة للحبّ النّبوي؛ حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء من: رسوخ الإيمان في جوانحه، وعمل الخيرات بجوارحه، ولزوم الطاعة في أعماله، واقتفاء الصدق في أقواله، فقول النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله له:« إنّي اُحبّك حُبّين: حُبّاً لك، وحبّاً لحبِّ أبي طالب لك » (١) . إنّما هو لأجل هاتيك المآثر، وليس من المعقول كون حُبّه لغاية شهويّة، أو لشيء من عرض الدنيا.

____________________

(١) ورد هذا الحديث بألفاظه المختلفة في المصادر التالية: بحار الأنوار ٣٥ / ١٥٧ و٤٢ / ١١٥، المـُستدرك للحاكم ٣ / ٥٧٦، مجمع الزوائد ٩ / ٢٧٣، المعجم الكبير للطبراني ١٧ / ١٩١، الاستيعاب ٣ / ١٠٧٨، الطبقات الكبرى ٤ / ٤٤، معرفة الثقات للعجلي ١ / ٣٨٣، تاريخ مدينة دمشق ٢٠ / ٥٥ و٤١ / ١٨، اُسد الغابة ٣ / ٤٢٢، سير أعلام النّبلاء ١ / ٢١٩، تاريخ الإسلام للذهبي ٤ / ٨٤، الوافي بالوفيات ٢٠ / ٦٣، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ / ٢٥ و١٤ / ٧٠، السّيرة الحلبيّة ١ / ٤٣٢.

قال المؤلِّف: ولكنّه في المجالس - مجلس ٢٧ - روى عن ابن عباس: أنّ عليّاًعليه‌السلام قال لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أتحب عقيلاً؟ » . قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أي واللّه، إنّي لأحبُّه حُبّين: حُبّاً لرسول اللّه، وحُبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولدَهُ لمقتولٌ في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيونُ المؤمنين، وتُصلّي عليه الملائكة المـُقرّبون » . ثُمّ بكى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى جرت دموعه على صدره، وقال:« إلى اللّه أشكو ما تلقَى عترتي بعدي » .

وهو في الأمالي للشيخ الصدوق / ١٩١ ح٢٠١/٣، وعنه بحار الأنوار ٢٢ / ٢٨٨، ح٥٨.

٧٠

إذاً فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة؛ وقد حدته قوةُ الإيمان إلى أنْ يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنينعليه‌السلام بلسان حديد، خلّده عاراً عليهم مدى الحقب والأعوام(١) .

على أنّ حُبَّ أبي طالب له لم يكن لمحض النّبوّة؛ فإنّه لم يكن ولده البكر، ولا كان أشجع ولده، ولا أوفاهم ذمّة، ولا ولده الوحيد، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأبي المساكين جعفر الطيّار، وهو أكبرهم سنّاً، وإنّما كان ( شيخ الأبطح ) يُظهر مرتبة من الحُبِّ له مع وجود ولده (الإمام) وأخيه الطيّار؛ لجمعه الفضائل والفواضل، موروثة ومكتسبة.

وبعد أنْ فرضنا أنّ أبا طالب حجّة وقته، وأنّه وصيٌّ من الأوصياء، لم يكن يحابي أحداً بالمحبّة وإنْ كان أعزّ ولده، إلاّ أنْ يجده ذلك الإنسان الكامل الذي يجب في شريعة الحقِّ ولاؤه؛ ولا شكّ أنّ عقيلاً لم يكن على غير الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الإيمان والوحدانية للّه تعالى، وكيف يشذّ عن خاصّته وأهله وهو وإيّاهم في بيت واحد، وأبو طالب هو المـُتكفّل

____________________

(١) قال العلاّمة الأميني في الغدير ١٠ / ٢٦١: قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إنّ عليّاً قد قطعك وأنا وصلتُك، ولا يرضيني منك إلاّ أنْ تلعنه على المنبر.

قال: أفعل. فصعد المنبر، ثُمّ قال - بعد أنْ حمدَ اللّهَ وأثنى عليه، وصلّى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله -: أيّها النّاس، إنّ معاوية بن أبي سفيان قد أمرني أنْ ألعن عليَّ بن أبي طالب فالعنوه، فعليه لعنةُ اللّه والملائكة والنّاس أجمعين.

ثُمّ نزل، فقال له معاوية: إنّك لمْ تُبيّن مَن لعنت منهما، بيّنه. فقال: واللّه، لا زدتُ حرفاً ولا نقصت حرفاً، والكلام إلى نيّة المـُتكلّم.

العقد الفريد ٢ / ١٤٤، المستطرف ١ / ٥٤.

والكلام فيه تورية لطيفة، ولعنٌ لمعاوية من قِبل عقيل.

٧١

تربيته وإعاشته، فلا هو بطارده عن حوزته، ولا بمبعده عن حومته، ولا بمتضجّر منه على الأقل.

وكيف يتظاهر بحُبِّه ويدنيه منه - كما يعلمنا النّص النّبوي السّابق - لو لمْ يتوثّق من إيمانه ويتيقّن من إسلامه، غير أنّه كان مُبطناً له كما كان أبوه من قبل وأخوه طالب؛ وإنْ كُنّا لا نشكّ في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيّار وأمير المؤمنينعليهما‌السلام . وحينئذ لم يكن عقيل بدعاً من هذا البيت الطاهر الّذي بُني الإسلام على علاليه، فهو مؤمن بما صدع به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ هتف داعية الهدى.

كما لبّت هذا الهتاف اُختهم اُمّ هاني، فكانت من السّابقات إلى الإيمان، كما عليه صحيح الأثر، وفي بيتها نزل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن معراجه، وهو في السّنة الثالثة من البعثة، وحدّثها بأمره قبل أنْ يخرج إلى النّاس، وكانت مُصدّقة له، غير أنّها خشيت تكذيب قريش إيّاه، وعليه فلا يُعبأ بما زعم من تأخّر إسلامها إلى عام الفتح سنة ثمان من الهجرة(١) .

____________________

(١) في مناقب ابن شهر آشوب ١ / ١١٠، إنّها ماتت في أيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ابن حجر في تقريب التهذيب ٢ / ٦٧٣، ٨٨٢١ نصّ على وفاتها في خلافة معاوية، وعليه فليست هي المعنيّة بما في كامل الزيارات / ١٩٥: وأقبلت إليه بعضُ عمّاته تقول: أشهد يا حسين، لقد سمعت قائلاً يقول:

وإنّ قَتيلَ الطّفِّ من آلِ هَاشمٍ

أذلَّ رِقَاباً مِنَ قُريشٍ فَذلّتِ

انتهى كلام المؤلِّف.

أقول: مضافاً إلى ذلك، فإنّ المـُحدّثين ذكروا أنّ قائل هذه الأبيات سليمان بن قتّة الخُزاعي. وارجع إلى: مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٦٣، مثير الأحزان لابن نما الحلّي / ٨٩، الاستيعاب لابن عبد البر ١ / ٣٩٤، نظم درر السّمطين / ٢٢٦، تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ٢٥٩، اُسد الغابة ٢ / ٢٢، تهذيب الكمال ٦ / ٤٤٧، سير أعلام النّبلاء ٣ / ٣١٨، تاريخ الإسلام ٥ / ١٠٨، البداية والنّهاية ٨ / ٢٣٠.

٧٢

وما عسى أنْ يقول القائل في اُمّهم - زوج شيخ الأبطح - بعد شهادة الرسول الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّها من الطاهرات الطيّبات المؤمنات في جميع أدوار حياتها.

والعجب ممّن اغتر بتمويه المـُبطلين؛ فدوّن تلك الفرية زعماً منه أنّها من فضائل سيّد الأوصياء، وهي: إنّ فاطمة بنت أسد دخلت البيت الحرام وهي حاملة بعليٍّعليه‌السلام ، فأرادت أنْ تسجد لهُبل فمنعها عليٌّعليه‌السلام وهو في بطنها!(١) . وقد فات المسكين أنّ في هذه الكرامة طعناً بتلك الذات المـُبرّأة من رجس الجاهليّة ودنس الشرك؛ وكيف يكون أشرف المخلوقات بعد خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله المتكوّن من النّور الإلهي مُودَعاً في وعاء الكفر والجحود؟!

كما أنّهم أبعدوها كثيراً عن مستوى التعاليم الإلهيّة، ودروس خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله المـُلقاة عليها كُلَّ صباح ومساء، وفيها ما فرضه المهيمن - جلّ شأنه - على الاُمّة جمعاء من الإيمان بما حبى ولدها الوصيَّعليه‌السلام بالولاية على المؤمنين حتّى اُختصّ بها دون الأئمّة من أبنائهعليهم‌السلام ؛ وإنْ كانوا نوراً واحداً، وطينة واحدة.

ولقد غضب الإمام الصادقعليه‌السلام على مَن سمّاه أمير المؤمنين، وقال:« مه، لا يصلح هذا الاسم إلاّ لجدّي أمير المؤمنين » .

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة للحلبي ١ / ٤٢٢، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي ٨ / ٧٠.

٧٣

فرووا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف على قبرها وصاح:« ابنك عليٌّ لا جعفر ولا عقيل » . ولما سُئل عنه، أجاب:« إنّ المَلكَ سألَها عمّن تُدين بولايته بعد الرسول، فخجلت أنْ تقول ولدي » (١) .

أمن المعقول أنْ تكون تلك الذات الطاهرة، الحاملة لأشرف الخلق بعد النّبوّة بعيدة عن تلك التعاليم المـُقدّسة؟! وهل في الدِّين حياء؟! نعم، أرادوا أنْ يزحزحوها عن الصراط السّوي، ولكن فاتهم الغرض وأخطؤوا الرمية؛ فإنّ الصحيح من الآثار ينصّ على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا أنزلها في لحدها، ناداها بصوت رفيع:« يا فاطمة، أنا محمّدٌ سيّدُ وُلدِ آدمَ ولا فخر، فإذا أتاك منكرٌ ونكيرٌ فسألاك: مَن ربّك؟ فقولي: اللّهُ ربّي، ومحمّدٌ نبيِّي، والإسلامُ ديني، والقرآنُ كتابي، وابني إمامي ووليّي » . ثمّ خرج من القبر، وأهال عليها التُّراب(٢) . ولعلّ هذا خاصّ بها ومَن جرى مجراها من الزّاكين الطيّبين، وإلاّ فلم يعهد في زمن الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولي بعده؛ فإنّه كتخصيصها بالتكبير أربعين مع أنّ التكبير على الأموات خمس.

وبالرغم من هاتيك السّفاسف التي أرادوا بها الحطّ من مقام والدة الإمامعليه‌السلام ، أظهر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الاُمّة ما أعرب عن مكانتها من الدِّين، وأنّها بعين فاطر السّماء حين كفّنها بقميصه الذي لا يبلى؛ لتكن مستورة يوم يعرى الخلق، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة

____________________

(١) الفضائل لابن شاذان / ١٠٣، مستدرك الوسائل ٢ / ٣٤٢.

(٢) روضة الواعظين للنيسابوري / ١٤٢، بحار الأنوار ٧٨ / ٣٥١، ح ٢٢ عن مجالس الصدوق، بشارة المصطفى للطبري / ٣٧٢.

٧٤

لرغبتها فيه عند ما حدّثها عن أهوال القبر، وما يكون فيه من ضغطة ابن آدم.

فتحصّل: إنّ هذا البيت الطاهر (بيت أبي طالب) بيتُ توحيدٍ وإيمانٍ، وهدى ورشاد، وإنّ مَن حواه البيت رجالاً ونساءً كُلّهم على دين واحد منذ هتف داعية الهُدى وصَدعَ بأمر الرسالة، غير أنّهم بين مَن جاهر باتّباع الدعوة، وبين مَن كتم الإيمان لضرب من المصلحة.

٧٥

السّفر إلى الشام:

لقد كانت الروايات في سفر عقيل إلى الشام، في أنّه على عهد أخيه الإمام أو بعده، متضاربة، واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النّهج ٣ / ٨٢ أنّه بعد شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وجزم به العلاّمة الجليل السيّد علي خان في الدرجات الرفيعة، وهو الذي يقوى في النّظر بعد ملاحظة مجموع ما يُؤثر في هذا الباب؛ وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيِّين عند أهل البيتعليهم‌السلام إلى معاوية في تلك الظروف القاسية، بعد أنْ اضطرّتهم إليه الحاجة، وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النّفس، والكفّ من بوادر الرَّجل، فلا هُم بملومين بشيء من ذلك، ولا يحطّ من كرامتهم عند الملأ الديني؛ فإنّ للتقيّة أحكاماً لا تُنقض، ولا يُلام المـُضطرّ على أمر اضطرّ إليه.

على أنّ عقيلاً لم يُؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامةٍ، ولا خضوع له عند كرامة، وإنّما المأثور عنه الوقيعة فيه، والطعن في حسبه ونسبه، والحطّ من كرامته، والإصحار بمطاعنه، مشفوعة بالإشارة إلى فضل أخيه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

من ذلك أنّ معاوية قال له: يا أبا يزيد، أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك؟ فقال عقيل: مررت والله، بعسكر أخي، فإذا ليلٌ كليل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونهارٌ كنهار رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّ رسول

٧٦

اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس في القوم؛ ما رأيت إلاّ مُصلّياً، ولا سمعت إلاّ قارئاً، ومررت بعسكرك، فاستقبلني قوم من المـُنافقين ممّن نفر برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة العقبة(١) .

وقال له معاوية: إنّ عليّاً قطع قرابتك وما وصلك. فقال له عقيل: واللّه، لقد أجزلَ العطيّة وأعظَمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسنَ ظنّه باللّه إذ ساء به مثلك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته إذ خنتُم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أباً لك؛ فإنّه عمّا تقول بمعزل(٢) . ثُمّ صاح: يا أهل الشام، عنّي فاسمعوا لا عن معاوية، إنّي أتيت أخي عليّاًعليه‌السلام فوجدته رجلاً قد جعل دنياه دون دينه، وخشي اللّه على نفسه، ولم تأخذه في اللّه لومة لائم... وإنّي أتيت معاوية فوجدته قد جعل دينه دون دنياه، وركب الضلالة واتّبع هواه، فأعطاني ما لمْ يعرق فيه جبينُه، ولم تكدح فيه يمينُه؛ رزقاً أجراه اللّه على يديه، وهو المـُحاسَب عليه دوني، لا محمود ولا مشكور.

ثُمّ التفت إلى معاوية، فقال: أما واللّه يابن هند، ما تزال منك سوالف يمرّها منك قول وفعل؛ فكأنّي بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر. فأطرق معاوية ساعة، ثُمّ قال: مَن يعذرني من بني هاشم. ثُمّ أنشد يقول:

اُزيدُهُمُ الإكرامَ كَي يشعَبُوا العَصَا

فيأبَوا لدَى الإكرامِ أنْ لا يُكرَمُوا

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ١٢٥.

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٦١.

٧٧

وإذا عَطَفتني رقَّتانِ عَليهمُ

نَأوا حَسداً عنّي فكانوا هُمُ هُمُ

واُعطيهمُ صَفوَ الإخا فكأنَّنِي

معاً وعطايايَ المـُباحةَ عَلقَمُ

واُغضِي عَنِ الذَّنبِ الّذي لا يُقيلُهُ

مِنَ القومِ إلاّ الهَزْبَريُّ المـُقَمَّمُ

حُباً واصطباراً وانعطافاً ورقَّةً

وأكظمُ غيظَ القلبِ إذْ ليسَ يُكظَم

أما واللّه يابن أبي طالب، لولا أنْ يُقال: عجل معاوية لخرقٍ ونكل عن جوابك، لتركتُ هامتَكَ أخفَّ على أيدي الرِّجال من حَوي الحنظل.

فأجابه عقيل:

عذيرُكَ مِنهُمْ مَنْ يلومُ عليهمُ

ومَنْ هو مِنهُمْ في المقالةِ أظلَمُ

لَعمرُكَ ما أعطيتَهُمْ منكَ رأفة

ولكنْ لأسبابٍ وحولَكَ علقَمُ

أبَى لهُمُ أنْ ينزلَ الذلُّ دارَهمْ

بنو حُرَّةٍ زُهرٌ وعقلٌ مُسلّمُ

وإنَّهُمُ لمْ يقبَلوا الذّلَّ عنوةً

إذا ما طغَى الجبَّارُ كانوا هُمُ هُمُ

فدونَكَ ما أسْدَيتَ فاشدُدْ يداً بِه

وخيرُكُمُ المبْسوطُ والشرَّ فالزموا

ثُمّ رمى المئة ألف درهم، ونفض ثوبه وقام ومضى، فلم يلتفت إليه.

فكتب إليه معاوية: أمّا بعد، يا بني عبد المـُطّلب، أنتم واللّه فروعُ قَصي، ولبابُ عبد مناف، وصفوةُ هاشم، فأين أحلامكم الراسية وعقولكم الكاسية، وحفظكم الأواصر وحبكم العشائر، ولكم الصفح

٧٨

الجميل والعفو الجزيل، مقرونان بشرف النّبوّة وعزّ الرسالة، وقد والله، ساءني ما كان جرى، ولنْ أعود لمثله إلى أنْ اُغيّب في الثرى.

فكتب إليه عقيل:

صَدقتَ وقلتَ حقّاً غيرَ أنّي

أرَى ألا أراكَ ولا ترانِي

ولستُ أقولُ سُوءاً في صدِيقي

ولكنِّي أصدُّ إذا جفاني

فكتب إليه معاوية وناشده في الصفح، وأجازه مئة ألف درهم حتّى رجع(١) . فقال له معاوية: لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ عقيل:

وإنّي امرُؤٌ منّي التَّكرُّمُ شيمةٌ

إذا صاحبِي يوماً على الهَونِ أضمَرَا

ثُمّ قال: أيم اللّه يا معاوية، لئن كانت الدُّنيا أفرشتك مهادها، وأظلّتك بسرادقها، ومدّت عليك أطناب سلطانها، ما ذاك بالذي يزيدك منّي رغبةً ولا تخشّعاً لرهبة. فقال معاوية: لقد نعتها أبو يزيد نعتاً هشّ له قلبي. وأيم اللّه يا أبا يزيد، لقد أصبحت كريماً وإلينا حبيباً، وما أصبحتُ أضمر لك إساءة(٢) .

هذا حال عقيل مع معاوية، وحينئذ فأيّ نقص يلمّ به والحالة هذه؟!

____________________

(١) الدرجات الرفيعة / ١٦٣ - ١٦٤.

(٢) الدرجات الرفيعة / ١٦٤.

٧٩

وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنّه لا صحة لما رواه المتساهلون في النّقل من كونه مع معاوية بصفين؛ فإنّه ممّا لم يُتأكد إسنادُهُ ولا عُرِفَ متنُه، ويُضادُه جميعُ ما ذكرناه، كما يبعده كتابه من مكّة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام حين أغار الضحّاك على الحيرة وما والاها، وذلك بعد حادثة صفين، وهذه صورة الكتاب: لعبد اللّه أمير المؤمنين، من عقيل بن أبي طالب: سلام عليك، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد، فإنّ اللّه حارسك من كُلّ سوء، وعاصمك من كُلّ مكروه وعلى كُلّ حال، فإنّي خرجت إلى مكّة معتمراً، فلقيت عبد اللّه بن أبي سرح مُقبلاً من ( قديد ) في نحو من أربعين شابّاً من أبناء الطُّلقاء، فعرفت المنكر في وجوههم، فقلت: إلى أين يا أبناء الشانئين؟ أبمعاوية لاحقون؛ عداوة للّه منكم غير مُستنكَرة، تُريدون إطفاء نور اللّه وتبديل أمره؟ فأسمعني القوم وأسمعتهم، فلمـّا قدمت مكّة سمعت أهلها يتحدّثون أنّ الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء، ثُمّ انكفأ راجعاً سالماً، وإنّ الحياة في دهرٍ جرّأ عليك الضحّاك لذميمة، وما الضحّاك إلاّ فقع بقرقر.

وقد توهّمت حيث بلغني ذلك أنّ شيعتك وأنصارك خذلوك، فاكتب إليّ يابن أبي برأيك؛ فإنْ كنتَ الموت تُريد، تحمّلتُ إليك ببَني أخيك وولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا متّ؛ فواللّه، ما اُحبّ أنْ أبقى في الدُّنيا بعدك فواق ناقة، واُقسم بالأعزّ الأجل، إنّ عيشاً نعيشه بعدك لا هنئ ولا مرئ ولا نجيع، والسّلام.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394