العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)9%

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 432

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192998 / تحميل: 8378
الحجم الحجم الحجم
العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

من جهة في الإعراض عن اللّه تعالى والاتّكال على الأسباب فحسب، ومن جهة أُخرى التوكّل على اللّه من دون التمسّك بالأسباب، لأنّ هذا الأمر ليس من التوكّل، بل هو من التواكل المذموم.

١٣ - إنّ اللجوء إلى الأسباب والمسببات لا يعني خروجها عن حيطة ملكوت اللّه سبحانه وتعالى وسلطان مشيئته، بل إنّ جميع الأسباب تعمل في ظلّ مشيئة اللّه تعالى وفي إطار هيمنته المطلقة.

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر المفسّر وفق نظام الأسباب:

يندفع الإنسان الذي يؤمن بهذا المعنى من مفهوم القضاء والقدر إلى اتّباع الطريق الصحيح في جميع المراحل التالية التي يمرّ بها خلال سلوكه العملي في الحياة:

أوّلاً - قبل العمل:

١ - يندفع الإنسان إلى بذل المزيد من الجدّ والاجتهاد والسعي من أجل التعرّف على نظام الأسباب، والسير على ضوئه من أجل الوصول إلى أفضل النتائج وأجود الثمرات والانجازات.

٢ - يزداد اهتمام الإنسان بمسألة التخطيط واتّباع الخطوات المدروسة، لأ نّه يعي بعد إيمانه بالقضاء والقدر بأنّ العالم يحكمه نظام سببي دقيق بحيث لا يمكن الوصول إلى الأهداف إلاّ عن طريق مراعاة هذا النظام.

ثانياً - أثناء العمل:

١ - يعي الإنسان بوجود نظم وعدم وجود فوضى في هذا الكون، ويدرك أنّ السنن والأسباب تمثّل التدبير الإلهي ومشيئته في كيفية وصول الإنسان إلى أهدافه في هذه الحياة.

٢ - يندفع الإنسان إلى التمسّك بالأسباب التي أوجدها اللّه تعالى والاستفادة منها بأقصى حدّ ممكن من أجل حصد أكبر قدر ممكن من النتائج والثمار المطلوبة.

١٦١

ثالثاً - بعد العمل:

١ - إذا كانت النتيجة مطلوبة: يحمد الإنسان ربّه ويشكره على ما هيّأ له من أسباب النجاح.

٢ - إذا كانت النتيجة غير مطلوبة:

أوّلا: لا يلوم الإنسان نفسه، ولا تضعف عزيمته، ولا يشعر بالحسرة والندامة، لأ نّه يدرك بأ نّه أدّى ما كان عليه، فيسلّم أمره إلى اللّه تعالى ويحمده على كلّ حال.

ثانياً: يقوم الإنسان بدراسة الأسباب من جديد، لأنّ فشله في العمل قد يكون نتيجة خطئه في التمسّك بالأسباب، وقد تعينه دراسة الأسباب من جديد إلى معرفة الطريق الصحيح الذي يوصله إلى هدفه المطلوب.

تنبيه:

إنّ النتيجة الحاصلة من التمسّك بالأسباب تختلف من شخص إلى آخر، لعدّة عوامل منها اختلاف الناس فيما وهبهم اللّه تعالى من استعداد وقدرة وقابلية.

وينبغي للإنسان أن يرضى بما قدّر اللّه تعالى له من استعداد وقدرة، وليس عليه سوى السعي في إطار ما لديه من قابلية.

كما ينبغي للإنسان أن يعلم بأنّ المواهب التي أعطاها اللّه له ليست مزايا، بل هي وسيلة لاختباره في هذه الحياة، وسيحاسب اللّه تعالى كلّ إنسان حسب ما يمتلك من هذه المواهب.

آداب التمسّك بنظام الأسباب:

ينبغي للإنسان حين تمسّكه بالأسباب أن:

١ - يتّكل ويعتمد على اللّه تعالى لا على الأسباب.

٢ - يعي بأنّ اللّه تعالى هو الذي هيّأ له الأسباب ويسّر له السعي والعمل.

١٦٢

٣ - يعلم حين العمل بأ نّه لم يستطع ذلك إلاّ بحول اللّه تعالى وقوّته.

٤ - يستعين بخالق الأسباب وهو اللّه تعالى، ولا يغفل عنه عند تمسّكه بالأسباب.

القول باستقلال نظام الأسباب:

ذهب البعض إلى القول باستقلال الأسباب واستغنائها عن اللّه تعالى، وقالوا بأنّ اللّه تعالى كفّ يده عن العالم، وفوّض الكون بيد نظام الأسباب والمسببات.

يرد عليه:

١ - إنّ وصول الإنسان إلى الأهداف عن طريق التمسّك بالأسباب لا يعني انعزال هذه الأسباب عن اللّه تعالى، بل هذه الأسباب - في الواقع - هي النظام الذي أراد اللّه تعالى أن يتمّ من خلاله تحقّق الأشياء في هذا العالم.

٢ - إنّ تحقّق الأُمور عن طريق الأسباب في هذا العالم لا يعني خروج الأمر عن إرادة اللّه تعالى، لأنّ هذه الأسباب - في الواقع - لا تمتلك التأثير المستقل، ولا تعمل بنفسها، بل تعمل بقدرة اللّه تعالى، وفي ظل مشيئته.

٣ - إنّ الأسباب الموجودة في هذا العالم لا تحدِّد قدرة اللّه تعالى أبداً، ولا يكون الباري مغلول اليدين أمام الأسباب التي وضعها بنفسه، بل اللّه تعالى كما كانت له القدرة على إيجادها، فله القدرة على تغييرها ومحوها أو إثباتها كيفما يشاء.

تنبيه:

إنّ التصّرف الإلهي في الكون لا يعني بالضرورة تبديل وخرق السنن الطبيعية الموجودة في هذا العالم، بل شاء اللّه تعالى أن يكون تصرّفه في الكون وفق المجرى الطبيعي وحسب الأسباب الموجودة فيه.

النتيجة:

إنّ القول باستقلال الأسباب يؤدّي إلى:

أوّلا: تحويل نظام الأسباب إلى أوثان تُعبد من دون اللّه.

١٦٣

ثانياً: عزل اللّه تعالى عن سلطانه وتنفيذ إرادته في هذا العالم.

ثالثاً: سلب روح عبودية اللّه تعالى من الإنسان خلال تعامله في الحياة.

١٦٤

المبحث السادس

الرضا بقضاء اللّه تعالى وقدره

وجوب الرضا بقضاء اللّه وقدره:

١ - قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "قال اللّه جلّ جلاله: من لم يرض بقضائي ولم يؤمن بقدري فليلتمس إلهاً غيري"(١) .

٢ - قال الإمام علي(عليه السلام) لأحد الأشخاص: "... وإن كنت غير قانع بقضائه وقدره فاطلب رباً سواه"(٢) .

توضيحات:

١ - يجب الرضا بقضاء اللّه وقدره، لأ نّه تعالى لا يقضي إلاّ بالحق، ولا يقدّر إلاّ ما كان صواباً، ولا يفعل إلاّ ما كان عدلا.

٢ - إنّ معنى الرضا بالقضاء والقدر الإلهي وفق تفسيره بكتابة اللّه تعالى لأفعال العباد في اللوح المحفوظ وإخباره الملائكة بها هو الرضا بهذه الكتابة والإخبار(٣) .

٣ - إنّ معنى الرضا بالقضاء والقدر الإلهي وفق تفسيره بالأمر والنهي الإلهي هو القبول والاستسلام والإيمان والإذعان بما كلّف اللّه به العباد من أوامر ونواه وأحكام.

٤ - إنّ معنى الرضا بالقضاء والقدر الإلهي وفق تفسيره بنظام الأسباب يعني

____________________

١- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب٦٠: باب القضاء والقدر و...، ح١١، ص٣٦٠.

٢- المصدر السابق: ح١٣، ص٣٦١.

٣- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة الثامنة، ص٤٣٣.

١٦٥

الرضا بالنظام الذي اقتضته الحكمة الإلهية وأرادت جريانه في هذا العالم.

٥ - إنّ اللّه سبحانه وتعالى قضى وقدّر أن يكون الإنسان حرّاً مختاراً في سلوكه، والرضا بقضاء اللّه وقدره لا يعني الرضا بكلّ ما يفعله الإنسان، وإنّما هو الرضا بأنّ اللّه تعالى خلق الإنسان حرّاً ومختاراً في سلوكه وتصرّفاته.

٦ - لا يعني الرضا بالقضاء والقدر الإلهي أن يتّجه الإنسان نحو التكاسل ويترك الأسباب ويرضى بكلّ ما يجري عليه، لأنّ الإنسان مكلّف بتغيير الواقع السيء الذي هو فيه، ولا يجوز له الاستسلام والقعود عن العمل في الحالات التي يكون قادراً على التغيير.

١٦٦

المبحث السابع

أقسام القضاء والقدر(١)

التقسيم الأوّل:

١ - القضاء والقدر العلمي.

٢ - القضاء والقدر العيني.

القضاء العلمي: وهو عبارة عن علم اللّه عزّ وجلّ بوجود الأشياء وإبرامها، ومعرفته بتحقّقها أو عدم تحقّقها.

القدر العلمي: وهو عبارة عن علم اللّه عزّ وجلّ بخصوصيات ومقدار جميع الأشياء التي ستوجد.

القضاء العيني: وهو عبارة عن ضرورة وجود الشيء في الخارج عند وجود علّته التامّة.

القدر العيني: وهو عبارة عن الخصوصيات التي يكتسبها الشيء من علله عند تحقّقه(٢) .

التقسيم الثاني:

١ - القضاء والقدر التكويني: وهو أنّ اللّه تعالى جعل حدّاً محدوداً لما أراد

____________________

١- هذه التقسيمات مقتبسة من آراء العلماء حول معنى القضاء والقدر، وهي الآراء التي ذكرناها في المبحث الرابع والخامس من هذا الفصل.

٢- تنبيه: ينسجم هذا التقسيم مع الرأي الثالث للقضاء والقدر، أي: تفسير القضاء والقدر بنظام الأسباب، وأمّا على ضوء الرأي الأوّل، أي: تفسير القضاء والقدر بما يكتبه اللّه في اللوح المحفوظ فمعنى القضاء والقدر مغاير لما ورد في هذا المقام، وقد ذكرناه في محلّه عند بيان الرأي الأوّل.

١٦٧

خلقه، ثمّ أوجده وفق ذلك القدر.

٢ - القضاء والقدر التشريعي: وهو أنّ اللّه تعالى بيّن الأحكام التي يريدها من العباد، وبيّن حدودها ومقاديرها وأمرهم بالالتزام بها.

١٦٨

المبحث الثامن

خصائص القضاء والقدر

١ - إنّ القضاء والقدر أمران متلازمان، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، لأنّ أحدهما بمنزلة الأساس وهو "القدر"، والآخر بمنزلة البناء وهو "القضاء"(١) .

٢ - إنّ القضاء والتقدير الفعليّين من صفات اللّه الفعلية، لأ نّهما يتعلّقان بالموجودات الممكنة، ولا يكون لهما وجود خارجي إلاّ بوجود الخلقة.

٣ - إنّ القضاء والقدر الفعليّين (العينيّين) مخلوقان للّه تعالى.

قال الإمام الصادق(عليه السلام): "إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق اللّه، واللّه يزيد في الخلق ما يشاء"(٢) .

معنى خلق اللّه للقضاء والقدر:

لا تتحقّق أي ظاهرة في الكون، ولا تصل إلى مرتبة الوجود إلاّ بعد توفّر أسبابها وتعيين قدرها من قبل الأسباب، واللّه سبحانه وتعالى هو الخالق للأسباب، فلهذا ينسب خلق القضاء والقدر إليه تعالى(٣) .

٤ - إنّ المألوف والمتداول على الألسنة هو أن يقال: "القضاء والقدر"، فيقدّم "القضاء" على "القدر"، ولكن "القدر" - في الواقع - مقدّم على "القضاء" في مراتب الفعل الإلهي، لأنّ اللّه تعالى يقدّر ثمّ يقضي، ولا يقضي شيئاً إلاّ بعد تحديد قدره.

____________________

١- انظر: لسان العرب، ابن منظور: مادة (قضى).

٢- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب ٦٠: باب القضاء والقدر، ح١، ص٣٥٤.

٣- للمزيد راجع المبحث الخامس من هذا الفصل.

١٦٩

أدلة تقدّم القدر على القضاء:

١ - قوله تعالى:( إِنّا كُلَّ شَيْء خَلَقْناهُ بِقَدَر ) [القمر: ٤٩] أي: لا يكون قضاء من دون سبق قدر، وبعبارة أُخرى: إنّ القضاء الإلهي لا يتحقّق ما لم تتكامل المقتضيات وتتمّ المقادير المعيّنة بشروطها.

٢ - قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ اللّه عزّ وجلّ قدّر المقادير ودبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام"(١) .

٣ - قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "قدّر اللّه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"(٢) .

٤ - قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ اللّه إذا أراد شيئاً قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه"(٣) .

٥ - إنّ "القدر" هو تحديد الشيء وتبيين مقداره ومعالمه، ولهذا فهو يدخل في المقدّمات، ولكن "القضاء" يكون بمثابة النتيجة التي تأتي بعد المقدّمات، ولهذا يكون "القدر" قبل "القضاء".

____________________

١- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب ٦٠: باب القضاء والقدر و...، ح٢٢، ص٣٦٦.

٢- المصدر السابق: ح٧، ص٣٥٨.

٣- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، باب ٣: القضاء والقدر و...، ح٦٤، ص١٢١.

١٧٠

المبحث التاسع

الفهم الخاطى للقضاء والقدر

تشويه مفهوم القضاء والقدر:

١ - حاولت بعض السلطات الجائرة تشويه العديد من المفاهيم الدينية وتفريغها من محتواها الحقيقي - منها القضاء والقدر - لأسباب ترتبط بخدمة مصالحها السياسية.

٢ - إنّ بعض وعّاظ السلاطين والسذّج من الدعاة روّجوا المعنى الخاطئ للقضاء والقدر عن طريق مدح الكسل والخمول والتقوقع باسم فضل الزهد والصبر والتوكّل.

٣ - لا ينبغي القول بأنّ الاختلاف في مختلف العصور الإسلامية حول معنى القضاء والقدر هو اختلاف علمي فحسب، لأنّ المشكلة لا تقتصر على البُعد العلمي فقط، بل المشكلة - في الواقع - تكمن في مبادرة السلطات الجائرة - عن طريق الاستعانة بامكاناتها الضخمة وقدراتها الواسعة - إلى ترويج المعنى الخاطئ للقضاء والقدر.

الفهم الخاطئ للقضاء والقدر:

إنّ الإنسان مجبور في جميع أفعاله وتصرّفاته بما قضى اللّه تعالى له وقدّر(١) .

تبعات الفهم الخاطئ للقضاء والقدر:

١ - التلبّس بالعقلية المستسلمة التي تركن إلى الوهن والتكاسل والعجز والخمول

____________________

١- سيُناقش هذا الرأي بصورة مفصّلة في الفصل القادم المرتبط بالجبر والتفويض.

١٧١

نتيجة اعتقادها بالمعنى الخاطئ للقضاء والقدر.

٢ - وهن العزائم وتثبيط الهمم وشّل الإرادة وتعطيل السعي وبث روح الكسل بالتقاعس عن العمل.

٣ - تفشّي الانحطاط والتخلّف والفشل في أوساط الواقع الاجتماعي نتيجة إمحاء دواعي السعي من الخواطر وغلّ الأيدي عن العمل.

٤ - الشعور بالعجز عن الإبداع والاتّكال على الظروف والفرص المحتملة والاستسلام للوضع الراهن من دون المبادرة إلى تغييره.

٥ - الوقوف مكتوفي الأيدي في وجه الكوارث نتيجة إيثار البطالة والكسل، ومن ثمّ الوقوع في المصائب والنكبات والآلام والضعف والذل.

٦ - الميل في معظم الأحيان إلى الخرافة والشعوذة بدلا من التمسّك بالأسباب الطبيعية الكامنة وراء الوقائع، وبدلا من البحث عن العلاقات السببية الموجودة بين الظواهر.

٧ - تفسير التخلّف تفسيراً دينياً على أساس القضاء والقدر، ومن ثمّ تضعيف صلة بعض أبناء المجتمع - ولا سيما الشباب - بالدين واندفاعهم إلى التخلّي عن الأسس والمبادئ الدينية من أجل نيل التقدّم والاندماج في مسارات التحديث.

٨ - انتشار الفساد وظهور الكفر وعلو الباطل في الأرض، وغير ذلك من التبعات الناتجة من القراءة المعرفية المغلوطة لعقيدة القضاء والقدر والانسياق وراء الفهم الخاطئ لها.

تنبيهات:

١ - إنّ عقيدة القضاء والقدر قد امتزجت بالجبر في نفوس بعض المسلمين وينبغي للطبقة الواعية في المجتمع أن تبادر إلى تصحيح هذه العقيدة مما طرأ عليها من مفاهيم مغلوطة.

٢ - من الخطأ أن يقتصر حديثنا عن القضاء والقدر عند مواقع فشلنا وعجزنا أو

١٧٢

عند الحديث عن نجاح الآخرين، في حين لا نرى أيّة إثارة لهذه المسألة عند الحديث عن نجاحنا في العمل.

٣ - إنّ الفقر والحرمان الناتج من التكاسل عن العمل، وعدم السعي في طلب الرزق هو فقر ناتج من اختيار الإنسان، ولا يحق لصاحبه أن يحمّل هذا الأمر على التقدير الإلهي، لأنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما قدّر الفقر لهذا الشخص المتكاسل لتمسّكه بأسباب الفقر واختياره الحرمان بنفسه.

٤ - لا يحقّ للإنسان المتكاسل الذي لا يصل إلى أهدافه وآماله نتيجة كسله وخموله أن يلقي اللوم على غيره وأن يسلّي نفسه بكلمات من قبيل: الحظ والصدفة وعدم التوفيق والقضاء والقدر و....

معالجة الفهم الخاطئ للقضاء والقدر:

١ - إنّ القضاء والقدر عقيدة قرآنية، ولا يعني وقوع البعض في الفهم الخاطئ لهذه العقيدة المبادرة إلى إلغائها كما تفعل الاتّجاهات العلمانية، بل ينبغي تصحيح هذا المفهوم في الواقع الفردي والاجتماعي وفق ما تقتضيه الحقيقة.

٢ - إنّ الشريعة الإسلامية واجهت الرؤية الاستسلامية التي تصوّر الإنسان مخلوقاً لا قدرة له على تغيير وإصلاح الواقع الذي هو فيه، وأشارت مراراً إلى قدرة الإنسان على تغيير ما هو عليه عن طريق التمسّك بالأسباب التي جعلها اللّه تعالى وسيلة للتغيير والإصلاح.

٣ - لو كان قصد الإسلام من تبيين مسألة القضاء والقدر الدعوة إلى الكسل والخمول لما أتعب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه في الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيله، ولما تحمّل من المشركين ما تحمّل.

١٧٣

١٧٤

الفصل السابع

الجبر والتفويض

معنى الجبر والاختيار

مذهب الجبرية

أقسام الجبر

الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار

ردّ أدلة القول بالجبر

رأي الأشاعرة حول خلق اللّه لأفعال الإنسان

الاستطاعة وأثر قدرة الإنسان في أفعاله

الكسب عند الأشاعرة

التفويض عند المعتزلة

مناقشة نظرية التفويض

القدرية

أفعال العباد عند مذهب أهل البيت(عليهم السلام)

الأمر بين الأمرين

١٧٥

١٧٦

المبحث الأوّل

معنى الجبر والاختيار (لغة واصطلاحاً)

معنى الجبر (في اللغة):

الجبر هو الإكراه والإرغام والقهر.

والجبر في الفعل هو الحمل على الفعل بالقسر والغلبة(١) .

معنى الجبر (في الاصطلاح العقائدي):

هو إجبار اللّه العباد على ما يفعلون، خيراً كان أو شراً، حسناً كان أو قبيحاً، دون أن يكون للعباد أية إرادة أو قدرة أو اختيار على الرفض والامتناع(٢) .

بعبارة أُخرى:

إنّ أفعال الإنسان كلّها للّه تعالى، والإنسان كالآلة الجامدة يسيّره اللّه بإرادته واختياره، من دون أن يمتلك الإنسان أية إرادة أو اختيار في أفعاله، وإنّما يصدر الفعل منه وهو مجبر عليه.

معنى الاختيار (في اللغة والاصطلاح العقائدي):

الاختيار هو التمكّن من فعل الشيء وتركه(٣) .

____________________

١- راجع: لسان العرب، ابن منظور: مادّة (جبر).

٢- انظر: المصطلحات الإسلامية، مرتضى العسكري: ١٤٨.

٣- راجع: لسان العرب، ابن منظور: مادّة (خير).

وللمزيد راجع: المصطلحات الإسلامية، مرتضى العسكري: ١٤٩.

١٧٧

المبحث الثاني

مذهب الجبرية

ذهب المذهب الجبري إلى أنّ الإنسان مجبور في جميع أفعاله، وهو كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة بين يدي الأمواج، وأنّ نسبة الأفعال إلى الإنسان مجازية كما تنسب إلى النباتات والجمادات، فيقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرّك الحجر، وطلعت الشمس وما شابه ذلك(١) .

أوّل طائفة إسلامية قالت بالجبر:

الجهمية

أصحاب جهم بن صفوان(٢) وكانت عقيدتهم بأنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنّما هو مجبور في أفعاله ; لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنّما يخلق اللّه تعالى فيه الأفعال كما يخلقها في سائر الجمادات، وتنسب الأفعال إلى الإنسان مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، فيقال: أثمرت الشجرة، وتحرّك الحجر و...(٣) .

____________________

١- انظر: مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري: ذكر قول الجهمية، ص٢٧٩.

الملل والنحل، الشهرستاني: ج١، الباب الأوّل، الفصل الثاني: الجبرية، ١ - الجهمية، ص٨٧.

٢- جهم بن صفوان: هو أبو محرز جهم بن صفوان الراسبي.

قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (رقم ١٥٨٤):

"الضال المبتدع، رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمته روى شيئاً، ولكنه زرع شراً عظيماً".

وذكر عنه الطبري في تاريخه (حوادث سنة ١٢٨):

كان كاتباً للحارث بن سريج الذي خرج في خراسان في آخر دولة بني أمية.

٣- انظر: مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري: ذكر قول الجهمية، ص٢٧٩.

الفرق بين الفرق، عبد القادر الاسفرائيني: الباب الثالث، الفصل السادس، ص٢١١.

الملل والنحل، الشهرستاني: ج١، الباب الأوّل، الفصل الثاني: ص٨٦.

١٧٨

تنبيهان:

١ - انقرض هذا المذهب في أواخر القرن الرابع الهجري، ولم يبق له أثر(١) .

٢ - إنّ نظرية الجبر - بصورة عامة - لها جذور تاريخية قبل الإسلام، ثمّ بقيت هذه النظرية بعد مجيء الإسلام معشعشة في عقول بعض المسلمين الذين لم يؤسّسوا معتقداتهم على أساس المباني الإسلامية الصحيحة.

دوافع القول بالجبر:

أوّلاً - اللجوء إلى أصل يرفع عن كاهل الإنسان مسؤولية الالتزام، ومن ثمّ الحصول على الحرّية المطلقة، والانحلال عن كلّ قيد، واتّباع الأهواء وتلبية الرغبات والشهوات النفسانية من دون الالتزام بأي مبدأ.

ثانياً - مبادرة بعض السلطات الجائرة إلى ترويج هذا المفهوم من أجل:

١ - تبرير أعمالهم المنحرفة والإجرامية.

٢ - الاستمرار بسياسة التنكيل والبطش ضدّ مخالفيهم.

٣ - إخماد الثورات التي تقوم ضدّهم من قبل الجهات المعارضة لهم.

٤ - توفير الأجواء المناسبة لاستقرار عروشهم وانغماسهم في ملذّاتهم الدنيوية.

مفاسد القول بالجبر:

١ - تحطيم أركان أساسية من المنظومة الدينية، سنذكرها في المبحث الرابع من هذا الفصل عند بيان الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار.

٢ - اندفاع الإنسان إلى الكسل والخمول والانقياد للوضع المتردّي، وعدم بذل الجهد والسعي لتغيير هذا الوضع نتيجة عدم الاعتقاد بامتلاك القدرة على التأثير والتغيير.

٣ - تبرئة النفس عن ارتكاب الأعمال المخالفة للدين والأخلاق، وجعل هذه

____________________

١- انظر: العروة الوثقى، جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده، إعداد: هادي خسرو شاهي: ص١١٥.

١٧٩

العقيدة ذريعة للاتّجاه نحو الفساد والانحلال.

٤ - إطلاق أيدي الظالمين لإهلاك الحرث والنسل، وارتكاب كلّ ما يؤدّي إلى الدمار والفساد، وتقييد أيدي المظلومين والمستضعفين عن القيام بأي ردّ فعل أمام الظالمين.

١٨٠

المبحث الثالث

أقسام الجبر

١ - الجبر الديني:

يتمّ تصويره عن طريق جعل الفعل البشري محكوماً بإرادة إلهية تتحكّم به كيفما تشاء.

٢ - الجبر الفلسفي:

يتمّ تصويره عن طريق طرح مجموعة شبهات فلسفية تؤدّي إلى القول بالجبر.

٣ - الجبر المادي:

يتم تصويره عن طريق جعل الفعل البشري محكوماً بالعلل المادية من قبيل الوراثة والتعليم والعوامل المحيطيّة و....

توضيح الجبر المادي:

إنّ ملاحظة العوامل المكوّنة لشخصية الإنسان تفرض الحكم بأنّ الإنسان ليس له سوى الانقياد لما تملي عليه هذه العوامل.

العوامل المكوّنة لشخصية الإنسان:

١ - الوراثة:

إنّ الإنسان يتلقّى عن طريق الوراثة السجايا والصفات الحسنة أو الدنيئة لتكون العامل الأساس في بلورة سلوكه في المستقبل.

٢ - الثقافة والتعليم:

إنّ التعليم يحدّد للإنسان زاوية رؤيته إلى الحياة، فيكون سلوكه بعد ذلك وفق هذه الرؤية المفروضة عليه.

١٨١

٣ - المحيط والبيئة:

إنّ الأجواء التي يترعرع فيها الإنسان هي التي تحدّد نفسيته، وتحدّد له الطريق الذي ينبغي السير فيه.

يلاحظ عليه:

لا يوجد شكّ في تأثير هذه العوامل على تكوين شخصية الإنسان، ولكن لا يبلغ تأثير هذه العوامل درجة سلب الاختيار من الإنسان، بل تبقى لإرادة الإنسان واختياره القدرة على مواجهة هذه العوامل وعدم الانقياد لها عن طريق:

١ - التفكّر والتدبّر في صالح أعماله وطالح أفعاله وما يترتّب عليهما من آثار.

٢ - ترك الأجواء السلبية التي يعيش فيها، والهجرة إلى أجواء إيجابية(١) .

بعبارة أُخرى:

إنّ هذه العوامل ليس لها أي أثر في سلب اختيار الإنسان، لأ نّها لا تشكّل العلّة التامّة في صدور الفعل البشري، بل هي عوامل تحفّز الإنسان على القيام ببعض الأفعال، ويبقى الإنسان قادراً على مخالفة هذه العوامل والصمود أمام ضغوطاتها.

____________________

١- انظر: الإلهيات، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: ٢ / ٣١٧ - ٣١٨.

١٨٢

المبحث الرابع

الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار

الأدلة المبطلة للجبر:

١ - بطلان الشرايع والتكليف:

إنّ من وظائف الأنبياء إرشاد الناس إلى التكاليف الإلهية، ولا يمكن أداء هذه التكاليف إلاّ إذا كان الإنسان قادراً على فعل الشيء وتركه، ولهذا يكون مجيئ الأنبياء وإتيانهم بالشرائع والتكاليف دليلا على نفي الجبر عن ساحة أفعال وسلوك الإنسان، لأنّ القول بالجبر يؤدّي إلى القول ببطلان الشرائع والتكليف.

٢ - سقوط الثواب والعقاب:

لا يصح إثابة شخص أو معاقبته على فعل ليس من صُنعه، فإذا كان الإنسان مجبوراً في أفعاله وليس له دور في الفعل الذي يصدر عنه، فكيف يمكن إثابته على طاعة لم يفعلها، أو معاقبته على معصية لم يرتكبها.

٣ - التساوي بين المحسن والمسيئ:

لو كان الإنسان مجبراً في أفعاله لم يكن للمحسن ميزة على المسيء، ولم يكن فرقٌ بين المؤمن والكافر، بل سيكونان متساويين لأ نّهما ليسا إلاّ أداة تعكس ما أُجبرا عليه، فلهذا لا يصح بعد ذلك مدح أو ذم أحد على أفعاله.

٤ - عبثية الترغيب والتخويف:

إنّ ترغيب العباد على الأعمال الصالحة وتخويفهم من تركها لا داعي له فيما لو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله، لأنّ الترغيب والترهيب لا ينفعان إلاّ إذا كان

١٨٣

الإنسان مختاراً وقادراً على فعل أو عدم فعل ما يؤمر به أو يُنهى عنه.

٥ - عبثية مساعي المربّين:

إنّ القول بالجبر يؤدّي إلى أن تكون مساعي المربّين لإصلاح المجتمعات وحثّهم الناس على الفضيلة والأخلاق أمراً عبثياً لا فائدة منه، فتذهب جهود هؤلاء أدراج الرياح نتيجة عدم امتلاك الناس القدرة والاختيار على تغيير سلوكهم وأفعالهم.

٦ - نسبة الظلم إلى اللّه تعالى:

يلزم القول بالجبر أن يكون اللّه تعالى ظالماً - والعياذ باللّه - نتيجة جبره للعباد على المعصية ثمّ معاقبته إياهم إزاء المعاصي التي أجبرهم عليها، كما سينسب ظلم العباد بعضهم لبعض إلى اللّه فيما لو قلنا بأنّ اللّه تعالى هو الفاعل وليس للإنسان أي دور وأثر في صدور أفعاله، لأنّ فاعل الظلم يسمّى ظالماً.

٧ - احتجاج العاصي على اللّه تعالى:

لو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله، فإنّ العاصي سيكون من حقّه الاحتجاج على اللّه تعالى حينما يريد اللّه تعالى معاقبته على معاصيه، لأ نّه سيقول: كنت مجبوراً على فعل المعاصي، فكيف تعذّبني على أمر لم يكن لي الاختيار في فعله؟ في حين لا يصح احتجاج الإنسان على اللّه تعالى.

الأدلة المثبتة للاختيار:

١ - يجد كلّ إنسان من صميم ذاته أ نّه قادر على فعل بعض الأعمال أو تركها حسب ما يراه من مصلحة أو مفسدة أو نفع أو ضرر.

٢ - يفرّق كلّ إنسان عاقل بين الفعل الاختياري الذي يصدر عنه كتحريك يده، وبين أفعاله الاضطرارية كحركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق وعملية الهضم وإفرازات الغدد وغيرها من الأفعال التي لا اختيار له في صدورها(١) .

____________________

١- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثانية، مبحث: مكابرة الجبرية بضرورة العقل، ص١٠٢.

١٨٤

ردّ القرآن الكريم على القائلين بالجبر:

١ -( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ ) [الأنعام: ١٤٨]

توضيح:

قال الذين أشركوا: إنّ اللّه تعالى أجبرنا على الشرك، ولو شاء اللّه ما أشركنا، فردّ اللّه تعالى على مقولتهم هذه، وبيّن بأنّ هذه المقولة غير مبتنية على الأسس العلمية، وإنّما هي ناشئة من الظنون غير المعتبرة والادّعاءات الكاذبة.

٢ -( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ ) [الزخرف: ٢٠]

توضيح:

هذه الآية تشبه الآية السابقة، وقد بيّنت بأنّ الذين أشركوا باللّه تعالى، ثمّ قالوا بأنّ اللّه أجبرهم على ما فعلوا ولو شاء اللّه ما أشركوا، فإنّهم ذهبوا إلى هذا القول نتيجة جهلهم بالواقع ونتيجة قولهم الكذب على اللّه تعالى.

٣ - إنّ إبليس أوّل من قال بالجبر، فقال كما جاء في القرآن الكريم حكاية عنه:

( رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) [الحجر: ٣٩]

وكان هذا الأمر من جملة أسباب طرده عن رحمة اللّه تعالى.

بعض الآيات القرآنية النافية للجبر والمثبتة للاختيار:

إنّ القرآن الكريم مليء بالآيات البيّنات الدالة على نفي الجبر عن أفعال الإنسان وإثبات الاختيار له في سلوكه وتصرفاته، منها(١) :

الصنف الأوّل:

الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد ونسبته إليه، وأ نّه يمتلك الاختيار فيما

____________________

١- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، ص١٠٥ - ١١٢.

١٨٥

يفعله من خير أو شر، منها:

١ -( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ ) [البقرة: ٧٩]

٢ -( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) [الرعد: ١١]

٣ -( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) [يوسف: ١٨]

٤ -( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) [المائدة: ٣٠]

٥ -( كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [المدّثّر: ٣٨]

٦ -( كُلُّ امْرِئ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) [الطور: ٢١]

٧ -( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ ) [فصّلت: ٤٦]

٨ -( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) [البقرة: ٢٨٦]

الصنف الثاني:

الآيات الدالة على نسبة أفعال العباد إليهم، ونفي الظلم عن اللّه تعالى، منها:

١ -( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ ) [آل عمران: ١٨٢]

٢ -( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ ) [الحجّ: ١٠]

٣ -( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) [غافر: ١٧]

٤ -( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ) [النساء: ٤٠]

١٨٦

٥ -( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [النحل: ١١٨]

٦ -( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) [النساء: ٤٩]

٧ -( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [يس: ٥٤]

الصنف الثالث:

الآيات الدالة على وجود الإرادة والاختيار في العباد على إحداث أفعالهم، وأ نّهم مخيّرون في ما يعملونه من خير أو شر، منها:

١ -( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [فصّلت: ٤٠]

٢ -( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) [المدّثّر: ٣٧]

٣ -( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً ) [الكهف:٢٩]

٤ -( كَلاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) [المدّثّر: ٥٤ - ٥٥]

٥ -( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) [المزمل: ١٩]

الصنف الرابع:

الآيات الدالة على ذمّ المخالفين لأوامر اللّه تعالى، ومعاتبتهم عن طريق الاستفهام الإنكاري، وهذا مايدل على أنّ الإنسان يمتلك الاختيار في أفعاله، لأ نّه لو كان مجبوراً لما صح ذمه أو معاتبته إزاء مخالفته لأوامر اللّه تعالى، ومن هذه الآيات:

١ -( وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً ) [الإسراء: ٩٤]

٢ -( وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) [النساء: ٣٩]

٣ -( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة: ٢٨]

٤ -( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) [المدّثّر: ٤٩]

١٨٧

٥ -( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [آل عمران:٧١]

الصنف الخامس:

الآيات الدالة على أنّ اللّه تعالى يجزي العباد على أعمالهم وما كسبته أيديهم، وهذا ما يدل على أ نّهم أصحاب اختيار في أفعالهم، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لما صحّت مجازاتهم، ومن هذه الآيات:

١ -( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) [غافر: ١٧]

٢ -( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [الجاثية: ٢٨]

٣ -( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) [الأنعام: ١٦٠]

٤ -( لِتُجْزى كُلُّ نَفْس بِما تَسْعى ) [طه: ١٥]

٥ -( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ) [الأنعام: ٩٣]

٦ -( لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْس ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) [إبراهيم: ٥١]

٧ -( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) [طه: ١٢٤]

الصنف السادس:

الآيات الدالة على المسارعة إلى الأعمال الخيرية لطلب المغفرة من اللّه تعالى، وتلبية أوامره وتعاليمه، وهذا ما يدل على إثبات الاختيار للإنسان، لأ نّه لو كان مجبوراً لما صح تشجيعه على عمل الخير وطلب المغفرة، لأنّ هذا التشجيع سيكون عبثاً فيما لو لم يستطع الإنسان القيام بتلبيته، ومن هذه الآيات:

١ -( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ ) [آل عمران: ١٣٣]

٢ -( وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِز فِي الأَرْضِ ) [الأحقاف: ٣٢]

٣ -( وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ) [الزمر: ٥٤]

١٨٨

٤ -( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) [الزمر: ٥٥]

الصنف السابع:

الآيات الدالة على اعتراف المجرمين بذنوبهم في يوم القيامة، وهذا ما يدل على أ نّهم كانوا أصحاب اختيار حين ارتكابهم للذنوب، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لأنكروا فعلهم للذنب، ونسبوا ذلك إلى اللّه تعالى، ومن هذه الآيات:

١ -( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَيْء إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلال كَبِير ) [الملك: ٨ - ٩]

٢ -( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحابِ السَّعِيرِ ) [الملك: ١١]

٣ -( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ * وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ * فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ ) [المدّثّر: ٤٢ - ٤٨]

الصنف الثامن:

الآيات الدالة على ندم المجرمين وطلبهم العودة إلى الدنيا ليعملوا الصالحات عندما يحدق بهم العذاب، واعترافهم بذنوبهم وما عملوا من سيّئات، وهذا ما يدل على أ نّهم كانوا يعلمون بأ نّهم أصحاب اختيار في أفعالهم، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لما ندموا، بل كان موقفهم تبرئة أنفسهم مما أجبروا عليه، ومن هذه الآيات:

١ -( قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوج مِنْ سَبِيل ) [غافر: ١١]

٢ -( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ) [المؤمنون: ٩٩ - ١٠٠]

٣ -( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ ) [السجدة: ١٢]

٤ -( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [الزمر: ٥٨]

١٨٩

٥ -( رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ ) [فاطر: ٣٧]

الصنف التاسع:

الآيات الدالة على الاستعانة باللّه وطلب الرحمة والهداية منه على الأعمال الخيّرة، فلو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله لم يصح تشجيعه على الاستعانة باللّه، لأنّ التشجيع يكون لمن يمتلك الاختيار في الفعل والترك، فيتم تشجيعه ليكون ذلك محفزّاً له للقيام بفعل معيّن أو ترك فعل معين، ومن هذه الآيات:

١ -( اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا ) [الأعراف: ١٢٨]

٢ -( وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأعراف: ٢٠٠]

٣ -( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) [النحل: ٩٨]

٤ -( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) [الحمد: ٥]

الصنف العاشر:

الآيات الدالة على طلب العباد المغفرة من اللّه تعالى إزاء مخالفتهم لأوامره تعالى، فلو كان هؤلاء مجبورين في أفعالهم، فلا داعي لهم لطلب المغفرة، لأنّ ذلك يكون لمن يشعر بالتقصير، والمجبور لا يشعر بذلك. ومن هذه الآيات:

١ -( قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) [الأعراف: ٢٣]

٢ -( وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) [البقرة: ٢٨٥]

٣ -( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ) [ص: ٢٤]

٤ -( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) [آل عمران: ١٣٥]

١٩٠

بعض الأحاديث الشريفة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار:

١ - قال الإمام علي(عليه السلام) ردّاً على نظرية الجبر في الأفعال: "... لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من اللّه، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن..."(١) .

٢ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... اللّه أعدل من أن يجبرهم [أي: يجبر العباد] على المعاصي ثمّ يعذبّهم عليها..."(٢) .

٣ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... إنّ اللّه عزّ وجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها..."(٣) .

٤ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... رجل يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم اللّه في حكمه..."(٤) .

٥ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ اللّه خلق الخلق، فعلم ما هم صائرون إليه، وأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن اللّه"(٥) .

أثر الاختيار في أفعال الإنسان:

١ - تكمن قيمة الإنسان وأفضليته على سائر الخلق في كونه كائناً يمتلك العقل والاختيار، فلو قلنا بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى سلب قيمته وجعله بمثابة الجمادات في هذا العالم.

٢ - إنّ الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مسؤولا عن أفعاله وتصرّفاته.

٣ - إنّ الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مستحقاً للمدح والذم والثواب والعقاب.

____________________

١- الأصول من الكافي، الكليني: ج١، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و...، ح١، ص١٥٥.

٢- الأصول من الكافي، الكليني: ج١، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و...، ح١١، ص١٥٩.

٣- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب نفي الجبر والتفويض، ح٣، ص٣٥٠.

٤- المصدر السابق: ح٥، ص٣٥١.

٥- الأصول من الكافي، الكليني: ج١، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و...، ح٥، ص١٥٨.

١٩١

١٩٢

المبحث الخامس

أدلة القول بالجبر والردّ عليها

الدليل الأوّل:

إنّ إرادة الإنسان لا تمتلك القوام الذاتي، ولا يمتلك الإنسان القدرة على إيجاد إرادته بنفسه، بل هو محتاج في إيجاد إرادته إلى إرادة اللّه تعالى، ولا تحدث ارادة الإنسان إلاّ بإرادة اللّه تعالى(١) .

يرد عليه:

١ - اختار اللّه تعالى أن يكون العباد أصحاب إرادة في أفعالهم، فأعطاهم الإرادة، ثمّ أعطاهم قدرة الاختيار لتوجيه إرادتهم كيفما يشاؤون.

بعبارة أُخرى:

إنّ اللّه تعالى هو الذي منح العباد هذه الميزة بأن تكون لهم الإرادة في أفعالهم، فالإرادة - في الواقع - آلة لصدور الفعل من العبد، وإذا كانت آلة الاختيار من اللّه تعالى، فإنّ ذلك لا يستلزم الجبر.

٢ - إنّ إرادة اللّه عزّ وجلّ لم تتعلّق بصدور أفعال العباد منه تعالى بصورة مباشرة ومن دون واسطة، بل تعلّقت إرادة اللّه تعالى في مجال أفعال الإنسان الاختيارية أن لا تصدر من الإنسان إلاّ بعد إرادة الإنسان واختياره لها(٢) .

الدليل الثاني:

إنّ اللّه تعالى يعلم بأفعال العباد التي ستقع في المستقبل.

وما علم اللّه تعالى وقوعه فهو واجب الوقوع.

____________________

١- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج٣، الموقف ٥، المرصد ٦، المقصد ١، ص٢٢٣ - ٢٢٤.

٢- انظر: الميزان، العلاّمة الطباطبائي: ج١، تفسير سورة البقرة، آية ٢٦ - ٢٧، ص٩٩ - ١٠٠.

١٩٣

وما علم اللّه تعالى عدم وقوعه فهو ممتنع الوقوع.

ودون ذلك ينقلب العلم الإلهي إلى الجهل، وهو محال.

ومن هنا يثبت بأنّ الإنسان مجبور على فعل ما هو في علم اللّه تعالى(١) .

يرد عليه:

١ - لو صحّ القول بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله نتيجة علم اللّه تعالى بها، فسيكون اللّه تعالى أيضاً مجبوراً في أفعاله نتيجة علمه تعالى بما سيقع من أفعاله، فيلزم ذلك أن نقول بأنّ اللّه تعالى مجبور بأن يفعل ما يعلم! وهذا باطل(٢) .

٢ - إنّ اللّه تعالى لا يختار أن يعلم بأنّ الشخص الفلاني سيفعل كذا، ليكون هذا العلم علّة لذلك الفعل، وإنّما علمه تعالى عبارة عن انكشاف المعلوم عنده كما سيكون في الواقع(٣) .

٣ - يتعلّق علمه تعالى بكل شيء حسب الخصوصيات المتوفّرة في ذلك الشيء.

ومن هنا يكون تعلّق العلم الإلهي بأفعال الإنسان باعتبارها أفعال تصدر من فاعل يمتلك الاختيار، وهذا ما يؤكد وقوع أفعال الإنسان باختياره.

بعبارة أُخرى:

قال المجبّرة بأنّ ما علم اللّه وقوعه فهو واجب الوقوع.

فنقول لهم: علم اللّه تعالى بأنّ أفعال العباد لا تقع إلاّ باختيارهم، لأ نّه شاء أن يكون العباد أصحاب اختيار.

إذن يجب أن تقع أفعال العباد باختيارهم، لأنّ عدم وقوعها بهذه الصفة يوجب -

____________________

١- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج٣، الموقف ٥، المرصد ٦، المقصد ١، ص٢٢٣.

٢- انظر: تلخيص المحصل، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثالث: ص٣٤٠.

إشراق اللاهوت، عبد المطلب العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الرابعة، ص٣٩٠.

٣- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، الكلام في التكليف وحسنه و...، ص٢٤٧.

إشراق اللاهوت، عبد المطلب العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الثالثة، المبحث الثالث، ص٣٨٩.

١٩٤

حسب ادّعاء المجبرة - انقلاب علم اللّه إلى الجهل.

وبهذا يثبت أنّ الإنسان مختار وغير مجبور في أفعاله.

النتيجة:

إنّ "العلم" مجرّد انكشاف يحكي المعلوم ويبيّنه كما هو عليه، وليس للعلم أي تأثير على المعلوم في الواقع الخارجي.

مثال توضيحي:

إنّ نسبة المعلوم إلى العلم كنسبة الشيء إلى المرآة.

فالمرآة لا تؤثّر في الشيء، وإنّما تبيّنه كما هو عليه في الواقع الخارجي.

فإذا أرتنا المرآة شيئاً بصورة قبيحة، فليس هذا القبح مفروضاً من المرآة على ذلك الشيء، بل لأنّ ذلك الشيء قبيح في نفسه، عكست المرآة ما هو عليه، فأرتنا ذلك الشيء بصورة قبيحة(١) .

أمثلة عدم تأثير العلم في المعلوم:

١ - إخبار المتخصص عن الأنواء الجوية وتقلّبات الهواء، فلو كان العلم عاملا من عوامل إيجاد الشيء، لكان هذا المخبر من جملة أسباب وقوع هذه التقلّبات الجوّية.

٢ - إخبار الفلكي عن وقوع الكسوف أو الخسوف، إذ لو كان العلم مؤثّراً في إيجاد المعلوم، لكان هذا الفلكي من جملة أسباب وقوع هذا الكسوف والخسوف.

٣ - إخبار المدرّس عن مستوى الطالب في الامتحان القادم نتيجة معرفته به خلال فترة التدريس، فإذا صدق إخبار المدرّس، فلا يعني أنّ علم المدرِّس هو السبب في وصول الطالب إلى النتيجة التي أخبرها المدرِّس.

٤ - إخبار الطبيب الحاذق عن الحالة التي سيواجهها المريض، فإذا وقع الأمر كما قال الطبيب، فلا يعني أنّ الطبيب كان سبباً فيما أصاب المريض.

____________________

١- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، الكلام في التكليف وحسنه و... ص٢٤٦.

١٩٥

١٩٦

المبحث السادس

رأي الأشاعرة حول خلق اللّه لأفعال العباد

إنّ اللّه عزّ وجلّ هو المتفرّد بالخلق والإيجاد، وهو خالق كلّ شيء بلا استثناء، ولا خالق في الكون سوى اللّه تعالى، واللّه هو الخالق لأفعال الإنسان.

من أقوال أبي الحسن الأشعري حول خلق اللّه لأفعال العباد:

١ - "... لا خالق إلاّ اللّه، وإنّ أعمال العباد مخلوقة للّه بقدرته... وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً..."(١) .

٢ - "... لا خالق إلاّ اللّه، وإنّ سيئات العباد يخلقها اللّه، وإنّ أعمال العباد يخلقها اللّه عزّ وجلّ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً"(٢) .

٣ - "... من قضاء اللّه تعالى هو خلق ما هو جور كالكفر والمعاصي..."(٣) .

٤ - "... أمّا أنا فأقول: إنّ الشر من اللّه تعالى بأن خلقه شراً لغيره لا له"(٤) .

أدلة الأشاعرة على خلقه تعالى لأفعال العباد:

الدليل الأوّل:

الآيات القرآنية الدالة على خلقه تعالى لكلّ شيء، فإنّ هذه الآيات تفيد العموم، فيشمل ذلك أفعال العباد، فتكون أفعال العباد مخلوقة للّه.

ومن هذه الآيات قوله تعالى:

١ -( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء ) [الزمر: ٦٢]

____________________

١- الإبانة، أبو الحسن الأشعري: الفصل الثاني، ص٣٧.

٢- مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري: حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، ص٢٩١.

٣- اللمع، أبو الحسن الأشعري: الباب الخامس، ص٨١.

٤- المصدر السابق: ص٨٤.

١٩٧

٢ -( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْء ) [غافر: ٦٢]

٣ -( يا أَيُّهَا النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّهِ ) [فاطر: ٣]

٤ -( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) [الأعراف: ٥٤]

٥ -( إِنّا كُلَّ شَيْء خَلَقْناهُ بِقَدَر ) [القمر: ٤٩]

يرد عليه:

١ - إنّ المنهج السليم يقتضي شمولية النظر إلى آيات القرآن الكريم، وعدم الاقتصار على الآيات الدالة على خلقه تعالى لكلّ شيء وإهمال الآيات التي تنسب الخالقية إلى غير اللّه تعالى، من قبيل:

أوّلاً: قوله تعالى حكاية عن عيسى(عليه السلام):( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) [آل عمران: ٤٩]

ثانياً: قوله تعالى لعيسى(عليه السلام):( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) [المائدة: ١١٠]

ثالثاً: قوله تعالى للسامري وجماعته:( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) [العنكبوت: ١٧]

رابعاً: قوله تعالى:( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) [المؤمنون: ١٤]

خامساً: قوله تعالى:( وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ) [الصّافات: ١٢٥]

النتيجة:

إنّ الأشاعرة اتّبعوا منهجية التجزئة والتبعيض في التعاطي مع الآيات القرآنية، فتمسّكوا بالآيات التي تتلائم مع نظريتهم في خلق أفعال العباد، وأعرضوا عما يتغاير مع ما ذهبوا إليه.

٢ - يدرك الباحث عند نظرته الشمولية إلى الآيات القرآنية بأنّ الآيات التي تنسب خلق كلّ شيء إلى اللّه عزّ وجلّ ليست إلاّ في مقام بيان إحاطته تعالى الكاملة وقدرته التامّة ونفوذ أمره الشامل لجميع الكون بلا استثناء، ولا يوجد أي

١٩٨

تناف بين هذه الشمولية وبين قدرة العباد على الخلق، لأنّ قدرة العباد تستمد وجودها من اللّه تعالى، واللّه تعالى قادر على سلبها في كلّ آن.

٣ - سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أفعال العباد: أهي مخلوقة للّه تعالى، فقال (عليه السلام):

"لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها، وقد قال سبحانه:( أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [التوبة: ٣]، ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنّما تبرّأ من شركهم وقبائحهم"(١) .

٤ - سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): هل غير الخالق الجليل خالق؟

قال(عليه السلام): "إن اللّه تبارك وتعالى يقول:( تَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) فقد أخبر أنّ في عباده خالقين وغير خالقين، منهم عيسى صلى اللّه عليه، خلق من الطين كهيئة الطير بإذن اللّه، فنفخ فيه، فصار طائراً بإذن اللّه، والسامري خلق لهم عجلا جسداً له خوار"(٢) .

٥ - إنّ القول بأنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء لا يعني أ نّه تعالى هو السبب المباشر لخلق كلّ شيء، بل قد يكون الخلق صادراً من الإنسان، ولكنه يُنسب إلى اللّه عزّ وجلّ، لأ نّه تعالى هو الذي أعطى الإنسان القدرة على الخلق.

مثال ذلك:

يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة بأنّ مجرّد نسبة الفعل إلى اللّه عزّ وجلّ لا يعني كونه تعالى هو السبب المباشر لهذا الفعل، بل قد يصدر الفعل من غير اللّه، ولكنّه ينسب إلى اللّه تعالى للعلّة التي ذكرناها.

ومن هذه الموارد:

أوّلاً - فعل التوفّي:

١ - نسبته إلى ملك الموت:( قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) [السجدة: ١١]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) [الزمر: ٤٢]

____________________

١- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، باب ١، ذيل ح٢٩، ص٢٠.

٢- المصدر السابق: ج٤، كتاب التوحيد، باب٥، ح١، ص١٤٧ - ١٤٨.

١٩٩

ثانياً - فعل الرزق:

١ - نسبته إلى العباد:( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) [النساء: ٥]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات: ٥٨]

ثالثاً - فعل الزرع:

١ - نسبته إلى العباد:( كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ ) (١) [الفتح: ٢٩]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) [الواقعة: ٦٣ - ٦٤]

رابعاً - فعل الغلبة:

١ - نسبته إلى العباد:( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) [المجادلة: ٢١]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا... ) [المجادلة: ٢١]

فنسب اللّه عزّ وجلّ فعل الغلبة لنفسه ولرسله في وقت واحد.

خامساً - فعل الخلق (وهو المرتبط بهذا المبحث)

١ - نسبته إلى العباد:( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) [آل عمران: ٤٩]

( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) [المؤمنون: ١٤]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء ) [الزمر: ٦٢]

ملاحظة مهمة:

ذكرنا بأنّ الفعل الذي يصدر من الإنسان ينسب أيضاً إلى اللّه تعالى، وذلك لأ نّه

____________________

١- قوله: (الزُّرّاعَ) تتضمن نسبة فعل الزراعة إلى الإنسان.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432