العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)13%

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 432

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192963 / تحميل: 8374
الحجم الحجم الحجم
العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

المبحث الثالث

أقسام الجبر

١ - الجبر الديني:

يتمّ تصويره عن طريق جعل الفعل البشري محكوماً بإرادة إلهية تتحكّم به كيفما تشاء.

٢ - الجبر الفلسفي:

يتمّ تصويره عن طريق طرح مجموعة شبهات فلسفية تؤدّي إلى القول بالجبر.

٣ - الجبر المادي:

يتم تصويره عن طريق جعل الفعل البشري محكوماً بالعلل المادية من قبيل الوراثة والتعليم والعوامل المحيطيّة و....

توضيح الجبر المادي:

إنّ ملاحظة العوامل المكوّنة لشخصية الإنسان تفرض الحكم بأنّ الإنسان ليس له سوى الانقياد لما تملي عليه هذه العوامل.

العوامل المكوّنة لشخصية الإنسان:

١ - الوراثة:

إنّ الإنسان يتلقّى عن طريق الوراثة السجايا والصفات الحسنة أو الدنيئة لتكون العامل الأساس في بلورة سلوكه في المستقبل.

٢ - الثقافة والتعليم:

إنّ التعليم يحدّد للإنسان زاوية رؤيته إلى الحياة، فيكون سلوكه بعد ذلك وفق هذه الرؤية المفروضة عليه.

١٨١

٣ - المحيط والبيئة:

إنّ الأجواء التي يترعرع فيها الإنسان هي التي تحدّد نفسيته، وتحدّد له الطريق الذي ينبغي السير فيه.

يلاحظ عليه:

لا يوجد شكّ في تأثير هذه العوامل على تكوين شخصية الإنسان، ولكن لا يبلغ تأثير هذه العوامل درجة سلب الاختيار من الإنسان، بل تبقى لإرادة الإنسان واختياره القدرة على مواجهة هذه العوامل وعدم الانقياد لها عن طريق:

١ - التفكّر والتدبّر في صالح أعماله وطالح أفعاله وما يترتّب عليهما من آثار.

٢ - ترك الأجواء السلبية التي يعيش فيها، والهجرة إلى أجواء إيجابية(١) .

بعبارة أُخرى:

إنّ هذه العوامل ليس لها أي أثر في سلب اختيار الإنسان، لأ نّها لا تشكّل العلّة التامّة في صدور الفعل البشري، بل هي عوامل تحفّز الإنسان على القيام ببعض الأفعال، ويبقى الإنسان قادراً على مخالفة هذه العوامل والصمود أمام ضغوطاتها.

____________________

١- انظر: الإلهيات، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: ٢ / ٣١٧ - ٣١٨.

١٨٢

المبحث الرابع

الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار

الأدلة المبطلة للجبر:

١ - بطلان الشرايع والتكليف:

إنّ من وظائف الأنبياء إرشاد الناس إلى التكاليف الإلهية، ولا يمكن أداء هذه التكاليف إلاّ إذا كان الإنسان قادراً على فعل الشيء وتركه، ولهذا يكون مجيئ الأنبياء وإتيانهم بالشرائع والتكاليف دليلا على نفي الجبر عن ساحة أفعال وسلوك الإنسان، لأنّ القول بالجبر يؤدّي إلى القول ببطلان الشرائع والتكليف.

٢ - سقوط الثواب والعقاب:

لا يصح إثابة شخص أو معاقبته على فعل ليس من صُنعه، فإذا كان الإنسان مجبوراً في أفعاله وليس له دور في الفعل الذي يصدر عنه، فكيف يمكن إثابته على طاعة لم يفعلها، أو معاقبته على معصية لم يرتكبها.

٣ - التساوي بين المحسن والمسيئ:

لو كان الإنسان مجبراً في أفعاله لم يكن للمحسن ميزة على المسيء، ولم يكن فرقٌ بين المؤمن والكافر، بل سيكونان متساويين لأ نّهما ليسا إلاّ أداة تعكس ما أُجبرا عليه، فلهذا لا يصح بعد ذلك مدح أو ذم أحد على أفعاله.

٤ - عبثية الترغيب والتخويف:

إنّ ترغيب العباد على الأعمال الصالحة وتخويفهم من تركها لا داعي له فيما لو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله، لأنّ الترغيب والترهيب لا ينفعان إلاّ إذا كان

١٨٣

الإنسان مختاراً وقادراً على فعل أو عدم فعل ما يؤمر به أو يُنهى عنه.

٥ - عبثية مساعي المربّين:

إنّ القول بالجبر يؤدّي إلى أن تكون مساعي المربّين لإصلاح المجتمعات وحثّهم الناس على الفضيلة والأخلاق أمراً عبثياً لا فائدة منه، فتذهب جهود هؤلاء أدراج الرياح نتيجة عدم امتلاك الناس القدرة والاختيار على تغيير سلوكهم وأفعالهم.

٦ - نسبة الظلم إلى اللّه تعالى:

يلزم القول بالجبر أن يكون اللّه تعالى ظالماً - والعياذ باللّه - نتيجة جبره للعباد على المعصية ثمّ معاقبته إياهم إزاء المعاصي التي أجبرهم عليها، كما سينسب ظلم العباد بعضهم لبعض إلى اللّه فيما لو قلنا بأنّ اللّه تعالى هو الفاعل وليس للإنسان أي دور وأثر في صدور أفعاله، لأنّ فاعل الظلم يسمّى ظالماً.

٧ - احتجاج العاصي على اللّه تعالى:

لو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله، فإنّ العاصي سيكون من حقّه الاحتجاج على اللّه تعالى حينما يريد اللّه تعالى معاقبته على معاصيه، لأ نّه سيقول: كنت مجبوراً على فعل المعاصي، فكيف تعذّبني على أمر لم يكن لي الاختيار في فعله؟ في حين لا يصح احتجاج الإنسان على اللّه تعالى.

الأدلة المثبتة للاختيار:

١ - يجد كلّ إنسان من صميم ذاته أ نّه قادر على فعل بعض الأعمال أو تركها حسب ما يراه من مصلحة أو مفسدة أو نفع أو ضرر.

٢ - يفرّق كلّ إنسان عاقل بين الفعل الاختياري الذي يصدر عنه كتحريك يده، وبين أفعاله الاضطرارية كحركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق وعملية الهضم وإفرازات الغدد وغيرها من الأفعال التي لا اختيار له في صدورها(١) .

____________________

١- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثانية، مبحث: مكابرة الجبرية بضرورة العقل، ص١٠٢.

١٨٤

ردّ القرآن الكريم على القائلين بالجبر:

١ -( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ ) [الأنعام: ١٤٨]

توضيح:

قال الذين أشركوا: إنّ اللّه تعالى أجبرنا على الشرك، ولو شاء اللّه ما أشركنا، فردّ اللّه تعالى على مقولتهم هذه، وبيّن بأنّ هذه المقولة غير مبتنية على الأسس العلمية، وإنّما هي ناشئة من الظنون غير المعتبرة والادّعاءات الكاذبة.

٢ -( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ ) [الزخرف: ٢٠]

توضيح:

هذه الآية تشبه الآية السابقة، وقد بيّنت بأنّ الذين أشركوا باللّه تعالى، ثمّ قالوا بأنّ اللّه أجبرهم على ما فعلوا ولو شاء اللّه ما أشركوا، فإنّهم ذهبوا إلى هذا القول نتيجة جهلهم بالواقع ونتيجة قولهم الكذب على اللّه تعالى.

٣ - إنّ إبليس أوّل من قال بالجبر، فقال كما جاء في القرآن الكريم حكاية عنه:

( رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) [الحجر: ٣٩]

وكان هذا الأمر من جملة أسباب طرده عن رحمة اللّه تعالى.

بعض الآيات القرآنية النافية للجبر والمثبتة للاختيار:

إنّ القرآن الكريم مليء بالآيات البيّنات الدالة على نفي الجبر عن أفعال الإنسان وإثبات الاختيار له في سلوكه وتصرفاته، منها(١) :

الصنف الأوّل:

الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد ونسبته إليه، وأ نّه يمتلك الاختيار فيما

____________________

١- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، ص١٠٥ - ١١٢.

١٨٥

يفعله من خير أو شر، منها:

١ -( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ ) [البقرة: ٧٩]

٢ -( إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) [الرعد: ١١]

٣ -( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ ) [يوسف: ١٨]

٤ -( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) [المائدة: ٣٠]

٥ -( كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [المدّثّر: ٣٨]

٦ -( كُلُّ امْرِئ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) [الطور: ٢١]

٧ -( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ ) [فصّلت: ٤٦]

٨ -( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) [البقرة: ٢٨٦]

الصنف الثاني:

الآيات الدالة على نسبة أفعال العباد إليهم، ونفي الظلم عن اللّه تعالى، منها:

١ -( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ ) [آل عمران: ١٨٢]

٢ -( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ ) [الحجّ: ١٠]

٣ -( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) [غافر: ١٧]

٤ -( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ) [النساء: ٤٠]

١٨٦

٥ -( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [النحل: ١١٨]

٦ -( وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) [النساء: ٤٩]

٧ -( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [يس: ٥٤]

الصنف الثالث:

الآيات الدالة على وجود الإرادة والاختيار في العباد على إحداث أفعالهم، وأ نّهم مخيّرون في ما يعملونه من خير أو شر، منها:

١ -( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [فصّلت: ٤٠]

٢ -( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) [المدّثّر: ٣٧]

٣ -( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً ) [الكهف:٢٩]

٤ -( كَلاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) [المدّثّر: ٥٤ - ٥٥]

٥ -( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ) [المزمل: ١٩]

الصنف الرابع:

الآيات الدالة على ذمّ المخالفين لأوامر اللّه تعالى، ومعاتبتهم عن طريق الاستفهام الإنكاري، وهذا مايدل على أنّ الإنسان يمتلك الاختيار في أفعاله، لأ نّه لو كان مجبوراً لما صح ذمه أو معاتبته إزاء مخالفته لأوامر اللّه تعالى، ومن هذه الآيات:

١ -( وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً ) [الإسراء: ٩٤]

٢ -( وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) [النساء: ٣٩]

٣ -( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة: ٢٨]

٤ -( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) [المدّثّر: ٤٩]

١٨٧

٥ -( لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [آل عمران:٧١]

الصنف الخامس:

الآيات الدالة على أنّ اللّه تعالى يجزي العباد على أعمالهم وما كسبته أيديهم، وهذا ما يدل على أ نّهم أصحاب اختيار في أفعالهم، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لما صحّت مجازاتهم، ومن هذه الآيات:

١ -( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) [غافر: ١٧]

٢ -( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [الجاثية: ٢٨]

٣ -( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) [الأنعام: ١٦٠]

٤ -( لِتُجْزى كُلُّ نَفْس بِما تَسْعى ) [طه: ١٥]

٥ -( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ) [الأنعام: ٩٣]

٦ -( لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْس ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) [إبراهيم: ٥١]

٧ -( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) [طه: ١٢٤]

الصنف السادس:

الآيات الدالة على المسارعة إلى الأعمال الخيرية لطلب المغفرة من اللّه تعالى، وتلبية أوامره وتعاليمه، وهذا ما يدل على إثبات الاختيار للإنسان، لأ نّه لو كان مجبوراً لما صح تشجيعه على عمل الخير وطلب المغفرة، لأنّ هذا التشجيع سيكون عبثاً فيما لو لم يستطع الإنسان القيام بتلبيته، ومن هذه الآيات:

١ -( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ ) [آل عمران: ١٣٣]

٢ -( وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِز فِي الأَرْضِ ) [الأحقاف: ٣٢]

٣ -( وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ) [الزمر: ٥٤]

١٨٨

٤ -( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ) [الزمر: ٥٥]

الصنف السابع:

الآيات الدالة على اعتراف المجرمين بذنوبهم في يوم القيامة، وهذا ما يدل على أ نّهم كانوا أصحاب اختيار حين ارتكابهم للذنوب، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لأنكروا فعلهم للذنب، ونسبوا ذلك إلى اللّه تعالى، ومن هذه الآيات:

١ -( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَيْء إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلال كَبِير ) [الملك: ٨ - ٩]

٢ -( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحابِ السَّعِيرِ ) [الملك: ١١]

٣ -( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ * وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ * فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ ) [المدّثّر: ٤٢ - ٤٨]

الصنف الثامن:

الآيات الدالة على ندم المجرمين وطلبهم العودة إلى الدنيا ليعملوا الصالحات عندما يحدق بهم العذاب، واعترافهم بذنوبهم وما عملوا من سيّئات، وهذا ما يدل على أ نّهم كانوا يعلمون بأ نّهم أصحاب اختيار في أفعالهم، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لما ندموا، بل كان موقفهم تبرئة أنفسهم مما أجبروا عليه، ومن هذه الآيات:

١ -( قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوج مِنْ سَبِيل ) [غافر: ١١]

٢ -( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ) [المؤمنون: ٩٩ - ١٠٠]

٣ -( وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ ) [السجدة: ١٢]

٤ -( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [الزمر: ٥٨]

١٨٩

٥ -( رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ ) [فاطر: ٣٧]

الصنف التاسع:

الآيات الدالة على الاستعانة باللّه وطلب الرحمة والهداية منه على الأعمال الخيّرة، فلو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله لم يصح تشجيعه على الاستعانة باللّه، لأنّ التشجيع يكون لمن يمتلك الاختيار في الفعل والترك، فيتم تشجيعه ليكون ذلك محفزّاً له للقيام بفعل معيّن أو ترك فعل معين، ومن هذه الآيات:

١ -( اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا ) [الأعراف: ١٢٨]

٢ -( وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأعراف: ٢٠٠]

٣ -( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) [النحل: ٩٨]

٤ -( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) [الحمد: ٥]

الصنف العاشر:

الآيات الدالة على طلب العباد المغفرة من اللّه تعالى إزاء مخالفتهم لأوامره تعالى، فلو كان هؤلاء مجبورين في أفعالهم، فلا داعي لهم لطلب المغفرة، لأنّ ذلك يكون لمن يشعر بالتقصير، والمجبور لا يشعر بذلك. ومن هذه الآيات:

١ -( قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) [الأعراف: ٢٣]

٢ -( وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) [البقرة: ٢٨٥]

٣ -( فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ) [ص: ٢٤]

٤ -( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) [آل عمران: ١٣٥]

١٩٠

بعض الأحاديث الشريفة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار:

١ - قال الإمام علي(عليه السلام) ردّاً على نظرية الجبر في الأفعال: "... لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من اللّه، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن..."(١) .

٢ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... اللّه أعدل من أن يجبرهم [أي: يجبر العباد] على المعاصي ثمّ يعذبّهم عليها..."(٢) .

٣ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... إنّ اللّه عزّ وجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها..."(٣) .

٤ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... رجل يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم اللّه في حكمه..."(٤) .

٥ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ اللّه خلق الخلق، فعلم ما هم صائرون إليه، وأمرهم ونهاهم، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن اللّه"(٥) .

أثر الاختيار في أفعال الإنسان:

١ - تكمن قيمة الإنسان وأفضليته على سائر الخلق في كونه كائناً يمتلك العقل والاختيار، فلو قلنا بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى سلب قيمته وجعله بمثابة الجمادات في هذا العالم.

٢ - إنّ الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مسؤولا عن أفعاله وتصرّفاته.

٣ - إنّ الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مستحقاً للمدح والذم والثواب والعقاب.

____________________

١- الأصول من الكافي، الكليني: ج١، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و...، ح١، ص١٥٥.

٢- الأصول من الكافي، الكليني: ج١، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و...، ح١١، ص١٥٩.

٣- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب نفي الجبر والتفويض، ح٣، ص٣٥٠.

٤- المصدر السابق: ح٥، ص٣٥١.

٥- الأصول من الكافي، الكليني: ج١، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و...، ح٥، ص١٥٨.

١٩١

١٩٢

المبحث الخامس

أدلة القول بالجبر والردّ عليها

الدليل الأوّل:

إنّ إرادة الإنسان لا تمتلك القوام الذاتي، ولا يمتلك الإنسان القدرة على إيجاد إرادته بنفسه، بل هو محتاج في إيجاد إرادته إلى إرادة اللّه تعالى، ولا تحدث ارادة الإنسان إلاّ بإرادة اللّه تعالى(١) .

يرد عليه:

١ - اختار اللّه تعالى أن يكون العباد أصحاب إرادة في أفعالهم، فأعطاهم الإرادة، ثمّ أعطاهم قدرة الاختيار لتوجيه إرادتهم كيفما يشاؤون.

بعبارة أُخرى:

إنّ اللّه تعالى هو الذي منح العباد هذه الميزة بأن تكون لهم الإرادة في أفعالهم، فالإرادة - في الواقع - آلة لصدور الفعل من العبد، وإذا كانت آلة الاختيار من اللّه تعالى، فإنّ ذلك لا يستلزم الجبر.

٢ - إنّ إرادة اللّه عزّ وجلّ لم تتعلّق بصدور أفعال العباد منه تعالى بصورة مباشرة ومن دون واسطة، بل تعلّقت إرادة اللّه تعالى في مجال أفعال الإنسان الاختيارية أن لا تصدر من الإنسان إلاّ بعد إرادة الإنسان واختياره لها(٢) .

الدليل الثاني:

إنّ اللّه تعالى يعلم بأفعال العباد التي ستقع في المستقبل.

وما علم اللّه تعالى وقوعه فهو واجب الوقوع.

____________________

١- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج٣، الموقف ٥، المرصد ٦، المقصد ١، ص٢٢٣ - ٢٢٤.

٢- انظر: الميزان، العلاّمة الطباطبائي: ج١، تفسير سورة البقرة، آية ٢٦ - ٢٧، ص٩٩ - ١٠٠.

١٩٣

وما علم اللّه تعالى عدم وقوعه فهو ممتنع الوقوع.

ودون ذلك ينقلب العلم الإلهي إلى الجهل، وهو محال.

ومن هنا يثبت بأنّ الإنسان مجبور على فعل ما هو في علم اللّه تعالى(١) .

يرد عليه:

١ - لو صحّ القول بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله نتيجة علم اللّه تعالى بها، فسيكون اللّه تعالى أيضاً مجبوراً في أفعاله نتيجة علمه تعالى بما سيقع من أفعاله، فيلزم ذلك أن نقول بأنّ اللّه تعالى مجبور بأن يفعل ما يعلم! وهذا باطل(٢) .

٢ - إنّ اللّه تعالى لا يختار أن يعلم بأنّ الشخص الفلاني سيفعل كذا، ليكون هذا العلم علّة لذلك الفعل، وإنّما علمه تعالى عبارة عن انكشاف المعلوم عنده كما سيكون في الواقع(٣) .

٣ - يتعلّق علمه تعالى بكل شيء حسب الخصوصيات المتوفّرة في ذلك الشيء.

ومن هنا يكون تعلّق العلم الإلهي بأفعال الإنسان باعتبارها أفعال تصدر من فاعل يمتلك الاختيار، وهذا ما يؤكد وقوع أفعال الإنسان باختياره.

بعبارة أُخرى:

قال المجبّرة بأنّ ما علم اللّه وقوعه فهو واجب الوقوع.

فنقول لهم: علم اللّه تعالى بأنّ أفعال العباد لا تقع إلاّ باختيارهم، لأ نّه شاء أن يكون العباد أصحاب اختيار.

إذن يجب أن تقع أفعال العباد باختيارهم، لأنّ عدم وقوعها بهذه الصفة يوجب -

____________________

١- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج٣، الموقف ٥، المرصد ٦، المقصد ١، ص٢٢٣.

٢- انظر: تلخيص المحصل، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثالث: ص٣٤٠.

إشراق اللاهوت، عبد المطلب العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الرابعة، ص٣٩٠.

٣- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، الكلام في التكليف وحسنه و...، ص٢٤٧.

إشراق اللاهوت، عبد المطلب العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الثالثة، المبحث الثالث، ص٣٨٩.

١٩٤

حسب ادّعاء المجبرة - انقلاب علم اللّه إلى الجهل.

وبهذا يثبت أنّ الإنسان مختار وغير مجبور في أفعاله.

النتيجة:

إنّ "العلم" مجرّد انكشاف يحكي المعلوم ويبيّنه كما هو عليه، وليس للعلم أي تأثير على المعلوم في الواقع الخارجي.

مثال توضيحي:

إنّ نسبة المعلوم إلى العلم كنسبة الشيء إلى المرآة.

فالمرآة لا تؤثّر في الشيء، وإنّما تبيّنه كما هو عليه في الواقع الخارجي.

فإذا أرتنا المرآة شيئاً بصورة قبيحة، فليس هذا القبح مفروضاً من المرآة على ذلك الشيء، بل لأنّ ذلك الشيء قبيح في نفسه، عكست المرآة ما هو عليه، فأرتنا ذلك الشيء بصورة قبيحة(١) .

أمثلة عدم تأثير العلم في المعلوم:

١ - إخبار المتخصص عن الأنواء الجوية وتقلّبات الهواء، فلو كان العلم عاملا من عوامل إيجاد الشيء، لكان هذا المخبر من جملة أسباب وقوع هذه التقلّبات الجوّية.

٢ - إخبار الفلكي عن وقوع الكسوف أو الخسوف، إذ لو كان العلم مؤثّراً في إيجاد المعلوم، لكان هذا الفلكي من جملة أسباب وقوع هذا الكسوف والخسوف.

٣ - إخبار المدرّس عن مستوى الطالب في الامتحان القادم نتيجة معرفته به خلال فترة التدريس، فإذا صدق إخبار المدرّس، فلا يعني أنّ علم المدرِّس هو السبب في وصول الطالب إلى النتيجة التي أخبرها المدرِّس.

٤ - إخبار الطبيب الحاذق عن الحالة التي سيواجهها المريض، فإذا وقع الأمر كما قال الطبيب، فلا يعني أنّ الطبيب كان سبباً فيما أصاب المريض.

____________________

١- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، الكلام في التكليف وحسنه و... ص٢٤٦.

١٩٥

١٩٦

المبحث السادس

رأي الأشاعرة حول خلق اللّه لأفعال العباد

إنّ اللّه عزّ وجلّ هو المتفرّد بالخلق والإيجاد، وهو خالق كلّ شيء بلا استثناء، ولا خالق في الكون سوى اللّه تعالى، واللّه هو الخالق لأفعال الإنسان.

من أقوال أبي الحسن الأشعري حول خلق اللّه لأفعال العباد:

١ - "... لا خالق إلاّ اللّه، وإنّ أعمال العباد مخلوقة للّه بقدرته... وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً..."(١) .

٢ - "... لا خالق إلاّ اللّه، وإنّ سيئات العباد يخلقها اللّه، وإنّ أعمال العباد يخلقها اللّه عزّ وجلّ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً"(٢) .

٣ - "... من قضاء اللّه تعالى هو خلق ما هو جور كالكفر والمعاصي..."(٣) .

٤ - "... أمّا أنا فأقول: إنّ الشر من اللّه تعالى بأن خلقه شراً لغيره لا له"(٤) .

أدلة الأشاعرة على خلقه تعالى لأفعال العباد:

الدليل الأوّل:

الآيات القرآنية الدالة على خلقه تعالى لكلّ شيء، فإنّ هذه الآيات تفيد العموم، فيشمل ذلك أفعال العباد، فتكون أفعال العباد مخلوقة للّه.

ومن هذه الآيات قوله تعالى:

١ -( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء ) [الزمر: ٦٢]

____________________

١- الإبانة، أبو الحسن الأشعري: الفصل الثاني، ص٣٧.

٢- مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري: حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، ص٢٩١.

٣- اللمع، أبو الحسن الأشعري: الباب الخامس، ص٨١.

٤- المصدر السابق: ص٨٤.

١٩٧

٢ -( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْء ) [غافر: ٦٢]

٣ -( يا أَيُّهَا النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّهِ ) [فاطر: ٣]

٤ -( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) [الأعراف: ٥٤]

٥ -( إِنّا كُلَّ شَيْء خَلَقْناهُ بِقَدَر ) [القمر: ٤٩]

يرد عليه:

١ - إنّ المنهج السليم يقتضي شمولية النظر إلى آيات القرآن الكريم، وعدم الاقتصار على الآيات الدالة على خلقه تعالى لكلّ شيء وإهمال الآيات التي تنسب الخالقية إلى غير اللّه تعالى، من قبيل:

أوّلاً: قوله تعالى حكاية عن عيسى(عليه السلام):( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) [آل عمران: ٤٩]

ثانياً: قوله تعالى لعيسى(عليه السلام):( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) [المائدة: ١١٠]

ثالثاً: قوله تعالى للسامري وجماعته:( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) [العنكبوت: ١٧]

رابعاً: قوله تعالى:( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) [المؤمنون: ١٤]

خامساً: قوله تعالى:( وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ) [الصّافات: ١٢٥]

النتيجة:

إنّ الأشاعرة اتّبعوا منهجية التجزئة والتبعيض في التعاطي مع الآيات القرآنية، فتمسّكوا بالآيات التي تتلائم مع نظريتهم في خلق أفعال العباد، وأعرضوا عما يتغاير مع ما ذهبوا إليه.

٢ - يدرك الباحث عند نظرته الشمولية إلى الآيات القرآنية بأنّ الآيات التي تنسب خلق كلّ شيء إلى اللّه عزّ وجلّ ليست إلاّ في مقام بيان إحاطته تعالى الكاملة وقدرته التامّة ونفوذ أمره الشامل لجميع الكون بلا استثناء، ولا يوجد أي

١٩٨

تناف بين هذه الشمولية وبين قدرة العباد على الخلق، لأنّ قدرة العباد تستمد وجودها من اللّه تعالى، واللّه تعالى قادر على سلبها في كلّ آن.

٣ - سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أفعال العباد: أهي مخلوقة للّه تعالى، فقال (عليه السلام):

"لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها، وقد قال سبحانه:( أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [التوبة: ٣]، ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنّما تبرّأ من شركهم وقبائحهم"(١) .

٤ - سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): هل غير الخالق الجليل خالق؟

قال(عليه السلام): "إن اللّه تبارك وتعالى يقول:( تَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) فقد أخبر أنّ في عباده خالقين وغير خالقين، منهم عيسى صلى اللّه عليه، خلق من الطين كهيئة الطير بإذن اللّه، فنفخ فيه، فصار طائراً بإذن اللّه، والسامري خلق لهم عجلا جسداً له خوار"(٢) .

٥ - إنّ القول بأنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء لا يعني أ نّه تعالى هو السبب المباشر لخلق كلّ شيء، بل قد يكون الخلق صادراً من الإنسان، ولكنه يُنسب إلى اللّه عزّ وجلّ، لأ نّه تعالى هو الذي أعطى الإنسان القدرة على الخلق.

مثال ذلك:

يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة بأنّ مجرّد نسبة الفعل إلى اللّه عزّ وجلّ لا يعني كونه تعالى هو السبب المباشر لهذا الفعل، بل قد يصدر الفعل من غير اللّه، ولكنّه ينسب إلى اللّه تعالى للعلّة التي ذكرناها.

ومن هذه الموارد:

أوّلاً - فعل التوفّي:

١ - نسبته إلى ملك الموت:( قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) [السجدة: ١١]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) [الزمر: ٤٢]

____________________

١- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، باب ١، ذيل ح٢٩، ص٢٠.

٢- المصدر السابق: ج٤، كتاب التوحيد، باب٥، ح١، ص١٤٧ - ١٤٨.

١٩٩

ثانياً - فعل الرزق:

١ - نسبته إلى العباد:( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) [النساء: ٥]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات: ٥٨]

ثالثاً - فعل الزرع:

١ - نسبته إلى العباد:( كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ ) (١) [الفتح: ٢٩]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) [الواقعة: ٦٣ - ٦٤]

رابعاً - فعل الغلبة:

١ - نسبته إلى العباد:( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) [المجادلة: ٢١]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا... ) [المجادلة: ٢١]

فنسب اللّه عزّ وجلّ فعل الغلبة لنفسه ولرسله في وقت واحد.

خامساً - فعل الخلق (وهو المرتبط بهذا المبحث)

١ - نسبته إلى العباد:( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) [آل عمران: ٤٩]

( فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) [المؤمنون: ١٤]

٢ - نسبته إلى اللّه تعالى:( اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء ) [الزمر: ٦٢]

ملاحظة مهمة:

ذكرنا بأنّ الفعل الذي يصدر من الإنسان ينسب أيضاً إلى اللّه تعالى، وذلك لأ نّه

____________________

١- قوله: (الزُّرّاعَ) تتضمن نسبة فعل الزراعة إلى الإنسان.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

٢

السلطة التنفيذيّة

المراد بالسلطة التنفيذيّة في مصطلح اليوم هو هيئة الوزراء، وما يتبعها من دوائر ومديريّات منتشرة في أنحاء البلاد، ويكون مهمّتها تنفيذ ما يقرّره مجلس الشورى من تصميمات، وقرارات، ومخطّطات في شتّى حقول الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالي يقع على عاتقها مهمّة إدارة البلاد بصورة مباشرة، وهذه السطة لا تتحدّد ـ في عصرنا ـ بتشكيلات محدّدة كمّاً أو كيفاً بحيث لا تتعدّاها بل تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن فهي تزيد أو تنقص، وتضاف مديريّة أو تحذف، أو يدمج بعض في بعض تبعاً للحاجة.

وهيئة الوزراء التي تتصدّر هذه السلطة إمّا أن :

أ ـ ينتخبها الحاكم الأعلى المنتخب للبلاد رأساً.

ب ـ أو ينتخبها مجلس الشورى.

ج ـ أو تنتخبها الاُمّة مباشرةً، وإن كان هذا نادراً.

وعلى أي تقدير فإنّ الذي لا بدّ منه هو أن تكون السلطة التنفيذيّة ـ وفي مقدمتها الوزراء موضع رضا الاُمّة، وذلك يحصل بإحدى الطرق المذكورة، وإن كان الدارج الآن

٢٨١

هو انتخابها عن طريق الحاكم الأعلى، مع موافقة مجلس الشورى.

وإنّما يجب أن تكون هذه السلطة موضع رضا الاُمّة لأنّها تتسلّم زمام السلطة المباشرة على نفوس الناس وأموالهم وأرواحهم، وهذا التسلّط والتصرّف يؤول إلى الاستبداد إذا لم يكن منوطاً برضا الناس، وموافقتهم وإرادتهم.

وهذا هو ما أكّد عليه الدين الإسلاميّ في نظامه السياسيّ، فقد أشار الإمام عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام إلى ذلك ـ في عهده المعروف للأشتر النخعيّ لـمّا ولاّه على مصر حيث وصّاه بأن يتحرّى رضا الرعيّة إذ قال: « وليكن أحبّ الاُمور أليك أوسطها في الحقِّ، وأعمَّها في العدل، وأجمعها لرضا الرَّعيَّة، فإنَّ سخط الخاصَّة ـ يُجحفُ برضا العامّة، وإنَّ سخط الخاصَّة يُغتفرُ مع رضا العامّة »(١) .

هذا والحديث عن السلطة التنفيذيّة يستدعي البحث في ثلاثة اُمور :

أوّلاً: إثبات ضرورة وجود هذه السلطة في الحياة الاجتماعيّة جنباً إلى جنب مع السلطة التشريعيّة، والحاكم الأعلى للبلاد.

ثانياً: استعراض ما كانت عليه هذه السلطة في ( العهد النبوي ) خاصّةً وما آلت إليه فيما بعد.

ثالثاً: بيان الكيفيّة التي يجب أن تكون عليه الآن.

وإليك بيان هذه الاُمور تدريجياً.

ضرورة السلطة التنفيذيّة :

لا ريب أنّ القوانين الإسلاميّة التي شرّعها الله سبحانه للبشريّة وأنزلها عليهم، وكذا ما يستنبطه الفقهاء والمجتهدون أو تقرّره السلطة التشريعيّة من برامج على ضوء التعاليم الإسلاميّة لم تكن إلّا لإدارة المجتمع. فلم يكن تشريع كلّ تلك الشرائع، ولا

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

٢٨٢

وضع جميع تلك البرامج عملاً اعتباطيّاً، بل كانت لأجل التنفيذ والتطبيق، وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وفقها، فالقانون مهما كان راقياً وصالحاً ليس بكاف وحده في إصلاح المجتمع وإصلاح شؤونه، بل لا بدّ من إجرائه، وتنفيذه في الصعيد العمليّ.

إنّ الكتاب والسنّة زاخران بأحكام حقوقيّة ومدنيّة وجزائيّة وسياسيّة كثيرة وواسعة الأطراف والأبعاد وهي غير خافية على كلّ من له أدنى إلمام بهذين المصدرين الإسلاميّين العظيمين.

ففيهما الأمر الصريح والأكيد بقطع يد السارق:( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ) وجلد الزاني والزانية:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) ( النور: ٢ ).

إلى غير ذلك من القوانين والحدود. ولقد حثّ الشارع الكريم على إجراء هذه الحدود وتنفيذ هذه القوانين، والتعاليم حثّاً أكيداً لا يترك لمتعلّل عذراً فقد ورد عن الإمام عليّعليه‌السلام أنّه قال: « سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: لن تقدس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقَّه من القوي غير متعتع »(١) .

وروى ابن أبي الحديد المعتزليّ أنَّه خرج رجل من أهل الشام في وقعة صفين فنادى بين الصفّين: يا عليّ ابرز أليّ، فخرج إليه عليّعليه‌السلام فقال: إنّ لك يا عليّ لقدماً في الإسلام والهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء المسلمين وتأخّر هذه الحروب حتّى ترى رأيك ؟ فقالعليه‌السلام : « وما هو ؟ » قال: ترجع إلى عراقك فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع نحن إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين الشام ؟ فقال عليّعليه‌السلام : « قد عرفت ما عرضت إنّ هذه لنصيحة وشفقة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه، فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

إنّ الله تعالى ذكره لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة في الأغلال في جهنَّم »(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٥٣).

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

٢٨٣

ولـمـّا سرقت المرأة المخزوميّة ما سرقت ـ في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأراد اُسامة بن زيد الشفاعة في حقّها، فكلّم النبيّ في أمرها، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتشفع في حدّ من حدود الله » ؟!

ثمّ قام فخطب وقال: « أيّها الناسُ إنَّما هلك الَّذين من قبلكُم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ »(١) .

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة وحدّ يقام لله في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحاً »(٢) .

وفي حديث مفصّل وقضية مطوّلة قال الإمام عليّعليه‌السلام : « أللّهم إنّك قلت لنبيّك فيما أخبرته من دينك: يا محمّد من عطَّل حدَّاً من حدودي فقد عاندني وطلب بذلك مضادَّتي »(٣) .

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أيضاً: « لابدَّ للنَّاس من إمام يقوم بأمرهم وينهاهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدوَّ، ويقسّم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذّرهم ما فيه مضارّهم، إذا كان الأمر والنهي أحد أسباب بقاء الخلق وإلاّ سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع ويفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد فتمام أمر البقاء والحياة في الطَّعام والشَّراب والمساكن والنكاح من النّساء والحلال الأمر والنَّهي »(٤) .

وعن الإمام الباقر محمد بن عليّعليه‌السلام : « إنّ الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الاُمّةُ ـ إلى يوم القيامة ـ إلّا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله. وجعل لمن تعدَّى الحدَّ حدَّاً »(٥) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: « حدّ يقام في الأرض أزكى فيها من مطر أربعين

__________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١١٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، والخراج: ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨.

(٤) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى نقلاً عن تفسير النعمانيّ: ٥٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٣١١.

٢٨٤

ليلة وأيّامها »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً أنه قال: « لا تبطل حدود الله في خلقه ولا تبطل حقوق المسلمين بينهم »(٢) .

وقال الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إقامة حدّ خير من مطر أربعين صباحاً »(٣) .

وقال الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام في تفسير قول الله عز وجل:( يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ( الروم: ١٩ ): « ليس يحييها بالقطر، ولكن يبعث الله رجالاً فيحيون العدل فتحيا الأرض لأحياء العدل، لإقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحاً »(٤) .

إلى غير ذلك من الأحاديث الصريحة التي تحث على إجراء الحدود، مضافاً إلى الآيات القرآنيّة الكريمة التي تحثّ بدورها على العمل بأحكام الله سبحانه، دون فرق بين ما تعلّق منها بالفرد أو المجتمع وتندّد بالذين يعلمون الكتاب، ويعرفون ما فيه من التعاليم والأحكام ولا يعملون بها.

بيد أنّ تنفيذ الأحكام والقوانين المتعلّقة بالمجتمع، وإجراء الحدود لا يمكن أن يفوّض إلى عامّة الناس وسوادهم فلا يعني ذلك إلّا شيوع الفوضى، وضياع الحقوق، واضطراب الحدود بين الافراط والتفريط، ولهذا لابدّ من جهاز تنفيذيّ خاصّ يتولّى هذه المهمّة الاجتماعيّة الحساسّة ويقوم بهذا الدور الخطير.

ومن العجيب أنّ موضوع الهيئة التنفيذيّة رغم كونه من أبرز ما أشار إليه الإسلام بل وصرّح به في نظام الحكومة الإسلاميّة ؛ قد تعرّض لتجاهل بعض الباحثين حول الإسلام بل وإنكارهم ؛ فقد أخذ بعض المستشرقين ـ فيما أخذ ـ على الإسلام فقدانه لجهاز تنفيذيّ ونظام حكوميّ يضمن تنفيذ القوانين، ويضفي على الإسلام طابع المنهج

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١٨: ٣٠٨، ٣١٥.

(٣ و ٤) نفس المصدر: ٣٠٨.

٢٨٥

الصالح لقيادة البشريّة حتّى في الصعيد السياسيّ فقال ما ملخّصه: « إنّ الإسلام مشتمل على قوانين وسنن رفيعة تتكفّل سعادة المجتمع فرديّاً واجتماعيّاً بيد أنّ ما جاء به الإسلام لا يتجاوز حدود التوصية الاخلاقيّة والإرشاد المعنويّ دون أن يكون لديه ما يضمن تنفيذها من سلطات وأجهزة، فإنّنا لم نلمس في التعاليم الإسلاميّة الموجودة أي إشارة إلى هيئة تنفيذيّة تقوم بإجراء الأحكام، وتنفيذ القوانيين ولذلك تعتبر الشريعة الإسلاميّة غير كافية من هذه الناحية، وعاجزةً عن التطبيق ».

هذا هو خلاصة ماقاله بعض المستشرقين، ولكن لو رجع صاحب هذه المقالة إلى الكتاب والسنّة، ولاحظ ما طفحت به الكتب الفقهيّة الإسلاميّة من سياسات اجتماعيّة، وحقوق مدنيّة، وتدابير جزائيّة عهد إجراؤها إلى الحاكم الإسلامي ؛ للمس وجود الهيئة التنفيذيّة في النظام الإسلاميّ بجوهره وحقيقته وإن لم يكن بتفصيله المتعارف الآن.

فأيّ تصريح بوجود الجهاز التنفيذيّ أكثر صراحةً من إيكال قسم كبير من القضايا الاجتماعيّة، والاُمور الجزائيّة إلى ( الحاكم الشرعي ) حيث نجد الكتب الفقهيّة زاخرةً بعبارات: عزّره الحاكم، أدّبه الحاكم، نفاه الحاكم، طلّق عنه الحاكم، حبسه الحاكم، خيّره الحاكم(١) . وما شابه من الاُمور المخوّلة إلى الحاكم الإسلاميّ، وهو يوحي بوجود جهاز تنفيذيّ في النظام الإسلاميّ، لأنّ أكثر تلك المهام هي من صلاحيات السلطة التنفيذيّة المتعارفة الآن.

هذا مضافاً إلى أنّ موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يؤكّد عليهما الدين الإسلاميّ أشدّ تأكيد يعتبر من أوضح الأدلّة على لزوم مثل هذا الجهاز التنفيذيّ حتّى يمكن القول ـ بدون مبالغة ـ أنّ المقصود بالقائمين بهذه الفريضة الكبرى، والوظيفة العظمى هو ( الهيئة التنفيذيّة ).

__________________

(١) راجع هذا الجزء: ٢٣ ـ ٣٠.

٢٨٦

الآمرون بالمعروف هم السلطة التنفيذيّة :

إنّ النظر العميق في فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وأحكامهما ومسائلهما، وشروطهما يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم ( السلطة التنفيذيّة ) التي تقع على عاتقها مهمّة إجراء الأحكام، وتنفيذها وصيانتها في المجتمع الإسلاميّ. ولابدّ ـ قبل إثبات هذا الأمر ـ من تقديم مقدّمة حول هذه الفريضة الإسلاميّة العظمى فنقول: تعتبر وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) أصلاً مبتكراً، وفريضةً بديعةً جاء بها الإسلام وهي ممّا لم يعهد لها نظير في الأنظمة الوضعيّة البشريّة فقد فرض الدين الإسلاميّ ـ بموجب هذه الفريضة ـ على أتباعه أن ينشروا الخير والمعروف بين الناس، ويزجروا عن الشرّ والمنكر، ولا يكونوا متفرّجين أو ساكتين اتّجاه ما يجري في المجتمع ويقع من إظهار المنكر أو تضييع للمعروف.

ولقد انطلق الإسلام ـ في إيجابه لهذه الفريضة العظيمة ـ من حقيقة اجتماعيّة مسلّمة وهي: أنّ أعضاء المجتمع الواحد الذين يعيشون في بيئة واحدة، مشتركون في المصير فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله، ولو كان هناك شرّ لشمل الجميع أيضاً ولم يختصّ بمرتكبه. ومن هناك يجب أن تتحدّد تصرّفات الأفراد في هذا المجتمع، وتتحدّد حريّاتهم بمصالح الاُمّة، ولا تتخطّاها.

ولقد شبّه الرسول الأكرم وحدة المصير للمجتمع الواحد بأحسن تشبيه حيث مثّل أفراد المجتمع بركاب سفينة في عرض البحر، إذا تهددها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه بحجّة أنّه مكان يختصّ به. ولا يرتبط بالآخرين، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّةً. وهذا هو أفضل تشبيه لاشتراك المجتمع الواحد في المصير، والمسير(١) .

كما أنّه لو أصيب أحد أفراد المجتمع بالوباء لم يجز له أن يتجوّل في البلاد بحجّة

__________________

(١) راجع روض الجنان للشيخ أبي الفتوح الرازيّ.

٢٨٧

أنّه حرّ ؛ لأنّ ذلك يعرّض سلامة الآخرين للخطر، فلا بدّ أن يتحدّد تجوّله، تجنيباً للمجتمع من كوارث ذلك المرض.

إنّ هذه الأمثلة وأشباهها توضّح أهميّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ومكانتهما ومدى أثرهما في سلامة المجتمع واستقامته وصلاحه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظارة عموميّة، ورقابة صارمة تمنع من تفشّي المنكر وتساعد على نمو الخير، وازدهاره. وهما إلى جانب ذلك سبب قويّ في بقاء الدين، واستمرار الرسالة الإلهيّة.

ولقد وردت في التأكيد على هذه المهمّة الخطيرة آيات قرآنيّة كثيرة، وأحاديث، تأمر الجميع بالقيام بالدعوة إلى الخير، وإنكار المنكر، وهي معلومة وواضحة لكلّ من له أدنى إلمام بالشريعة الإسلاميّة.

نعم، ربّما يُتوهّم من بعض الآيات خلاف ذلك، وهي تلك الآيات التي يتمسّك بها بعض طلاب الراحة والعافية واتّباع الهوس لسدّ باب التبليغ والدعوة، أو للتخلّص من تحمّل مشكلاتها، وصعوبتها، ومن تلك الآيات قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة: ١٠٥ ).

وقد رفع المفسّرون النقاب عن وجه هذه الآية وفسّرها الأمين الطبرسيّ في تفسيره مجمع البيان بقوله: « إنّ الآية لا تدل على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤخذ بذنوب العاصي »(١) .

بيد أنّ لنا توضيحاً آخر لمفاد هذه الآية وهو: أنّ الآية تشير إلى سيرة عقلائيّة وقضيّة عقليّة وهي أنّ على من يريد إصلاح المجتمع أن يبدأ بنفسه ثمّ يتعرّض لإصلاح الآخرين فما لم يصلح المرء نفسه ليس له أن يؤدّب غيره، وإلى ذلك يشير الإمام عليّعليه‌السلام قائلاً: « من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبهُ بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣: ٢٥٤.

٢٨٨

ومؤدّبهم »(١) .

وبالجملة أنّ الآية ناظرة إلى الاجتماعات الفاسدة الغارقة في الفساد والانحراف فإنّ الطريق الوحيد لإصلاحها هو الابتداء بإصلاح الذات وعدم توقّع أي إصلاح للغير قبل ذلك ؛ وأن لا يترك إصلاح نفسه بحجّة أنّ المجتمع فاسد وإليه يشير قوله سبحانه:( لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ويؤيد ذلك قول النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ».

فقيل: يا رسول، من الغرباء ؟ فقال: « الَّذين يصلحون إذا أفسد الناس من سنَّتي »(٢) .

وهذا الحديث يرفع التوهّم حول الآية خصوصاً إذا قرئ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يصلحون » بصيغة اللازم، فإلى هذا المعنى تشير الآية المذكورة. وعلى أي تقدير فالآية لا ترتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تمتّ بهما بصلة.

ولقد كفى في أهميّة هذه الوظيفة أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد بلغا من الأهميّة والأثر حتّى صارا أفضل من الجهاد إذ قال الإمام عليّعليه‌السلام : « وما أعمال البرّ كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجّيّ »(٣) .

ووجه هذه الأفضليّة على الجهاد وسائر أعمال البرّ هو أنّ ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بكلا قسميه ( الفرديّ والاجتماعيّ ) كما سيوافيك بيانهما مكافحة داخليّة، والجهاد كفاح خارجيّ. والاُولى متقدّمة على الثانية، فلو لم يصلح الداخل لم يصلح الخارج، وما دام الداخل غير مستعدّ للإصلاح لا يمكن للمسلمين أن يخطوا أيّة خطوة لإصلاح الخارج.

كما ويؤكّد ضرورة إنكار المنكر وحرمة تركه قوله تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي

__________________

(١) نهج البلاغة: ـ الحكم ـ الرقم (٧٣).

(٢) جامع الاُصول ١٠: ٢١٢، أخرجه الترمذي.

(٣) نهج البلاغة: قصار الحكم الرقم (٣٧٤).

٢٨٩

الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) ( النساء: ١٤٠ ).

فهذه الآية تدلّ على أنّ السكوت على المنكر يوجب أن يكون الساكت على الذنب كالمرتكب له، ولأجل ذلك قال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنَّما يجمع الناسُ الرِّضى والسَّخطُ وإنَّما عقر ناقة ثمود رجُل واحد فعمَّهُم الله بالعذاب لـمّا عمّوهُ بالرِّضى »(١) .

ثمّ إنّ الغور في هذه الوظيفة الإسلاميّة ومعرفة شروطها وفروعها وآثارها الحيويّة يستدعي إفراد رسالة مفصّلة خاصّة بذلك.

غير أنّنا نقتصر هنا على ذكر ما يرتبط ببحثنا وهو إثبات وجود ( السلطة التنفيذيّة ) في نظام الحكم الإسلاميّ فنقول: إنّ النظر في مهمّة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) يقضي بأنّ الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر يتمثّلون ـ في الحكومة الإسلاميّة ـ في ( الهيئة التنفيذيّة ) فليست هذه السلطة في حقيقة الأمر إلّا القائمين بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على صعيدهما الاجتماعيّ العموميّ. والوقوف على هذا المطلب يحتاج إلى التنبيه على أنّ فريضة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) تنقسم إلى وظيفتين :

١. وظيفة فرديّة.

٢. وظيفة اجتماعيّة عموميّة.

وهما يختلفان ماهيّةً وشروطاً حسبما نعرف ذلك من الكتاب والسنّة كما سيوافيك بيانه.

أمّا الكتاب فنجده يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على المجتمع، أي على كلّ فرد فرد من أعضاء الاُمّة الإسلاميّة، وتارةً على جماعة خاصّة من المجتمع الإسلاميّ وإلى القسم الأوّل ( الفردي ) يشير قوله تعالى:( وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة (٢٠١).

٢٩٠

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة: ٧١ ).

وقوله تعالى:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ) ( التوبة: ١١٢ ).

وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) ( آل عمران: ١١٠ ).

إلى غير ذلك من الآيات، والخطابات الموجّهة إلى المجتمع بصورة عامّة.

وإلى القسم الثاني تشير الآيات التي تضع هذه الوظيفة على عاتق جماعة خاصّة وتعبّر عنها ب‍ ( أمّة ) وفي ذلك قوله سبحانه:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( العمران: ١٠٤ ).

ومن المعلوم أنّ الاُمّة عبارة عن جماعة خاصّة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، وهي وإن كانت تطلق أحياناً على الفرد الواحد كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ ) ( النحل: ١٢٠ ) لكنه إطلاق واستعمال غير شائع فلا تحمل الآية عليه. وقد فسّر الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام هذه الآية بقوله: « وسُئل عن الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجب هو على الاُمّة جميعاً ؟ فقال: لا، فقيل لهُ: ولم ؟ قال: إنَّما هُو على القوي الـمـُطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضَّعيف والدَّليلُ على ذلك كتاب الله عزَّ وجلَّ قوله:( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمّة يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ) فهذا خاص غير عام كما قال الله عزَّ وجلَّ:( وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أمّة يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( الأعراف: ١٥٩ ) ولم يقل: على أمّة موسى ولا على كُلِّ قومه، وهم يومئذ اُمم مختلفة والاُمّة واحد فصاعداً كما قال الله عزَّ وجلَّ:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمّة قَانِتًا للهِ ) »(١) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٠.

٢٩١

وقوله تعالى:( إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج: ٤١ ).

فهذه الآية تشير ـ بوضوح ـ إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورين في الآية هو من النوع الذي يحتاج إلى المكنة والقدرة والسلطة، فالوصف فيه وصف للمؤمنين الذين تمكّنوا من السلطة وبالتالي فهو وصف للجهاز الحاكم والسلطة التنفيذيّة، ولا يمكن إرجاعه إلى عامّة المسلمين لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوجّبين على الكافة لا يختصّ بظرف المكنة في الأرض، ولا يتقيد بقيد السلطة، بل تجب مراتبه قلباً ولساناً في جميع الأحوال بل يمكن أن يقال أيضاً إنّ الدعوة والتبليغ حتى باللسان على قسمين :

قسم يمكن أن يقوم به كلّ مسلم عارف بضروريات الإسلام من واجبها وحرامها.

وقسم لا يمكن أن يقوم به إلّا فرقة من كلّ طائفة ممّن صرفوا أوقاتهم وأعمارهم في تعلّم الدين بعمقه وتفاصيله وجزئيّاته، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:( وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ( التوبة: ١٢٢ ).

وقد سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن قول رسول الله: « اختلافُ أُمّتي رحمة » فقال: « صدقوا في هذا النَّقل » فقلت: إن كان أختلافهم رحمةً فاجتماعهم عذاب قال: « ليس حيثُ تذهب وذهبوا، إنَّما أراد قولُ الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهُم الله أن ينفروا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويختلفوا إليه فيتعلّموا ثمَّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أرادهم من البلدان لا اختلافهم في الدين إنّما الدّينُ واحد »(١) .

__________________

(١) تفسير البرهان ٢: ١٧٢ ومعاني الاخبار: ١٥٧ وعلل الشرائع ١: ٦٠ وقد نقلها صاحب الوسائل في ٨: ١٠١ ـ ١٠٢.

٢٩٢

وأمّا الأحاديث والأخبارُ الواردة في شأن وظيفة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فهي أيضاً تُقسِّم هذه الفريضة إلى قسمين :

قسم لا يحتاج القيام به الى جهاز خاص وقدرة وتمكّن، لأنّه لا يتجاوز القلب واللسان والوجه. وقسم يتوقّف القيام به على الجهاز والقوَّة والسّلطة.

وإلى القسم الأوّل يشير ما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ قال: « من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه فهو ميّت بين الأحياء »(١) .

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: « أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة »(٢) .

وقالعليه‌السلام أيضاً: « أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة »(٣) .

وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام إذ قال: « حسبُ المؤمن غيراً ( أي غيرة ) إذا رأى منكر أن يعلم الله عزَّ وجلَّ من قلبهُ إنكاره »(٤) .

وهذا القسم من الأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر يشملُ كلّ فرد من أفراد المسلمين ولا يتجاوز القلب والوجه واللسان ويمكن لأيِّ فرد من الأفراد القيام به ؛ إذ لا يحتاج إلى تكلّف مؤنة، ولا توفّر قوَّة وسلطة وهو بالتالي يعمُّ كلّ مسلم آمراً ومأموراً حاكماً ومحكوماً.

وأمّا القسم الثاني ؛ وهي الأحاديث التي تجعل الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دعامةً لأقامة الفرائض، وسبيلاً إلى أمن الطرق والمسالك، وردِّ المظالم، وردع الظَّالم، ووسيلةً إلى عمارة الأرض والانتصاف من الأعداء وهي اُمور لا تتحقّق إلّا بجهاز قادر متمكِّن فهي كالتالي :

قال الإمام محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام : « إنَّ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض والنَّهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء بها

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٤، ٤١٣.

(٣ و ٤) وسائل الشيعة ١١: ٤١٣، ٤٠٩.

٢٩٣

تأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم وتعمّر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر »(١) .

ومن المعلوم أنّ الأمر والنّهي المؤدّيين إلى أمان الطّرق والمسالك وعمارة الأرض والانتصاف من الأعداء للمظلومين لا يتيسّر إلّا بجهاز تنفيذيّ قويّ، وسلطة إجرائيّة قادرة تتحمّل عبء الأمر والنّهي على المستوى العموميّ وبواسطة الأجهزة والتشكيلات، هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأنبياء في الحديث لعلّه يوحي بأنّ الأمر والنهي المذكورين هنا هو ما كان مقروناً بالحاكميّة والسلطة على غرار ما كان للأنبياء: حيث كانوا يمارسون مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ غالباً ـ من موقع السلطة والحاكميّة والولاية لا من موقع الفرد ومن موضع التبليغ ومجرد الوعظ والإرشاد الفرديّ.

وعن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: « لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرِّ فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء »(٢) .

وقال الإمام عليّعليه‌السلام : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمه الفيء وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها »(٣) .

ومن البين أنّ مخالفة الظالم وردعه وإيقافه عند حدّه، وتقسيم المال بين المسلمين بصورة عادلة وأخذ الصدقات والموارد الماليّة، الذي يعني التنظيم الاقتصاديّ على المستوى العام للمجتمع، لا يتأتّى عن طريق الأمر والنهي الفرديين والمنحصرين في إطار الموعظة بل يحصل ويتحقّق بوجود جهاز تنفيذيّ حاكم وسلطة إجرائيّة تتولّى إدارة دفّة البلاد وفق تعاليم الإسلام، فإنّ مثل هذا الأمر والنهي يحتاج إلى استعمال القوّة

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥، ٣٩٨.

(٣) وسائل الشيعة ١١: ٤٠٣، وقد ورد مثلها عن الإمام الحسين بن عليّ في تحف العقول: ١٧١ ( طبعة بيروت ).

٢٩٤

لإجراء الحدود والعقوبات وتنفيذ الأحكام الجزائيّة، وهي اُمور لا يمكن أن تتحقّق إلّا في ظلّ سلطة وجهاز تنفيذيّ.

من هنا ؛ تكون الوظيفة العموميّة وما يترتّب عليها من الحبس والتأديب والقصاص وما شابه ؛ مقتضية لوجود سلطة تنفيذيّة يعهد إليها الأمر والنهي الاجتماعيين العموميين، الذين فيهما صلاح عامّة الناس، واستقامة اُمورهم عامّة ويمكن إستفادة هذا المطلب من كلام للسيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام إذ قالت: « والأمرُ بالمعروف مصلحة للعامَّة »(١) .

إذ أي أمر بالمعروف يمكن أن يكون مصلحة للعامّة إذا لم يكن القائم به جهاز ذو قدرة وسلطان يقوم بذلك عن طريق التشكيلات والتنفيذ العام.

كما ويمكن استفادة ذلك أيضاً من كلام الإمام عليّعليه‌السلام إذ قال: « أخذ الله على العُلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم وسغب مظلوم »(٢) .

فكيف يمكن منع الظالم من ظلمه، ومنع المستغلّ من الاستئثار بلقمة الفقير، إلّا بجهاز وسلطة خاصّة، فليس العلماء المذكورون في هذا الحديث إلّا ذلك الجهاز التنفيذيّ القادر على الإجراء.

وكذا يستفاد هذا الأمر من كلام آخر للإمامعليه‌السلام وهو يتحدّث عن الوالي وماله وما عليه: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطَّلة من حدودك »(٣) .

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ـ المتوفّى عام ( ٣٨٠ ه‍ ) ـ ص ١٢، ومعاني الأخبار: ٣٣٦.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة (٣).

(٣) نهج البلاغة: الخطبة (١٢٧) شرح عبده، وقد ورد نظيره عن الإمام الحسين بن عليّ إذ قال: « أللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك » راجع تحف العقول: ١٧٢ ( طبعة بيروت ).

٢٩٥

فكيف يمكن أمان المظلومين، وإقامة الحدود المعطّلة وإظهار الإصلاح العام في البلاد وتطبيق سنن الله وأحكامه بلا استثناء إلّا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المعتمدين على السلطة والناشئين عن جهاز تنفيذيّ ؟

إذ كيف يمكن قيام الفرد أو الأفراد بكلّ ذلك وهو بحاجة إلى قدرة وتمكّن ونفوذ أمر وسلطان ؟

ويمكن تأييد ضرورة وجود هذه السلطة واختصاص هذا النوع من ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) الذي يتجاوز القلب والوجه واللسان ويتعدّاه إلى ( اليد ) وإستعمال القوة والسلطة ؛ بتنديد الله بالربانيّين والأحبار الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهم المسؤولون عن ذلك لأنّهم كانوا في مقام الإمرة وفي موقع السلطة فقال الله تعالى:( وَتَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) ( المائدة: ٦٢ ـ ٦٣ ).

وقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى تفسير هذه بقوله: « أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حينما عملوا من المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك وأنَّهم لـمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الرَّبانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات »(١) .

وهكذا تفيد نصوص الكتاب والسنّة وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أحدهما وظيفة جميع الأفراد والآخر وظيفة سلطة قادرة

وبذلك يجمع بين الطائفتين من الآيات والروايات اللتين يضع قسم منها هذه الوظيفة على عاتق الجميع، وقسم منها على عاتق جماعة خاصّة ؛ فالأوّل راجع إلى الوظيفة الفرديّة منهما، فهو الذي يجب على الجميع، والثاني راجع إلى الوظيفة الاجتماعيّة التي تختصّ باُمّة متمكّنة من السلطة.

وممّا يدلّ على هذا إلى جانب تلك النصوص فتاوى الفقهاء ـ في باب الحدود ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ١١: ٣٩٥.

٢٩٦

والتي تضافرت على أنّه لو وجب قتل مسلم قصاصاً لم يجز لأحد أن يقتص منه غير ولي الدم بإذن الحاكم أو الحاكم نفسه، فلو قتله غيره كان عليه القود، ولا يتوهّم أنّ من وجب عليه إجراء الحدّ، يكون مهدور الدم بالنسبة إلى كلّ واحد فإنّه توهّم باطل فإنّ من وجب عليه الحد والقصاص على أقسام :

١. إمّا أن يكون مهدور الدم لكلّ أحد كساب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الكافر الحربيّ، فإنّه إذا قتله المسلم أو الذمي لا قود عليهما. ولكنّهما يعزّران لتدخلهما في أمر الحاكم.

٢. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى المسلمين كالمرتد الفطريّ، فإذا قتله المسلم لا قود عليه، ولو قتله الذميّ فعليه قود، ومع ذلك فيعزّر المسلم لو قتله للتدخّل المذكور.

٣. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من له القصاص ( أي وليّ الدم ) ومن إليه القصاص ( أي الحاكم ) كالقاتل المسلم ظلماً فلا يجوز لغير ولي الدم أو الحاكم قتله(١) .

٤. أن يكون مهدور الدم بالنسبة إلى من إليه الحكم، كاللائط والزاني المحصن.

كما أنّ ممّا يدلّ على وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أنّ الفقهاء ذكروا للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شروطاً أربعة هي :

١. أن يكون عارفاً بالمعروف من المنكر.

٢. أن يحتمل تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثّر لم يجب عليه شيء.

٣. أن يكون الفاعل للمنكر مصرّاً على الاستمرار فلو لاحت منه إمارة الامتناع أو قلع عنه، سقط الإنكار.

٤. أن لا يكون في الإنكار مفسدة، فلو ظنّ توجّه الضرر إليه، أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط(٢) .

__________________

(١) راجع جواهر الكلام ونظائر هذه المسألة من ص ١٥٩ ـ ١٩٨ الجزء ٤١.

(٢) شرائع الإسلام: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٩٧

ومن المعلوم ؛ أنّ الشرط الثاني ( احتمال التأثير ) والثالث ( الإصرار على المنكر ) من شروط القسم الفرديّ من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا الاجتماعيّ منهما إذ لا يعتبر في الاجتماعيّ من هذه الفريضة احتمال التأثير، بل للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة فيقتصّ من القاتل أو الجارح، ويقطع يد السارق سواء أكان هناك تأثير أم لا.

كما أنّ للحاكم أن يجري الحدود والعقوبات المقرّرة سواء كرّر المجرم أم لم يكرّر جريمته ومعصيته، ولأجل هذا يجب التمييز والفصل بين الأمر والنهي الفردي، والأمر والنهي الاجتماعيّ العموميّ لاختلافهما في الشروط والغايات. ولا شكّ أنّ هذه المغايرة والتمايز يكشف ـ وبمعونة ما سبق وما يأتي من الأدّلة ـ عن أنّ القسم الثاني من هذه الفريضة هو من شأن سلطة تنفيذيّة وجهاز حكم وليس من شأن الأفراد.

دفع إشكال حول الأمر والنهي :

ربما يتوهّم أحد أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطويان على مجرّد طلب فعل المعروف وطلب ترك المنكر وهذا ممّا لا يتحقّق في إجراء حدّ القتل أو الرجم على المحكوم بهما، فكيف يمكن أن نعتبرهما من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الطلب الإنشائي الذي هو من قبيل المفهوم، وإن لم يكن موجوداً في إجراء حدّ القتل والرجم لكنّه فيه واقعيّة الطلب وحقيقته وأثره، إذ باجراء هذين الحدّين تنعدم المنكرات واقعاً، ولو بالنسبة للآخرين، وهذا نظير قوله سبحانه:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة: ١٧٩ ) فإن قتل القاتل وإن كان سلباً لحياته لكنّه إحياء للنفوس الاُخرى. وهو هدف القصاص، ولأجل ذلك كانت العرب تقول في مورد القصاص « القتل أنفى للقتل ».

وخلاصة القول أنّ الأثر المطلوب من إجراء الحدود وإن كان منفيّاً بالنسبة إلى الجاني نفسه ولكنّه موجود بالنسبة إلى المجتمع.

٢٩٨

هذا وممّا يؤكد وجود نوعين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنّ علماء الإسلام ذكروا للمحتسب وهو من يقوم بالأمر والنهي الاجتماعيّين شروطاً لا تعتبر في القسم الفرديّ من هذه الفريضة.

فقد قال ابن الاخوة القرشيّ في كتابه معالم القربة في أحكام الحسبة :

الحسبة من قواعد الاُمور الدينيّة، وقد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها وهي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله وإصلاح بين الناس، قال الله تعالى:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ( النساء: ١١٤ ).

والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة والكشف عن اُمورهم ومصالحهم ( وفي نسخة اُخرى: وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم ومساكنهم وطرقاتهم ) وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

ومن شروط المحتسب أن يكون: ( مسلماً ) ( حرّاً ) ( بالغاً ) ( عاقلاً ) ( عدلاً ) ( قادراً )(١) .

ومن المعلوم أنّ ( الحريّة ) و ( البلوغ ) و ( العدالة ) ليست شروطاً في القسم الفرديّ من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فهذا التباين في الشرائط والصلاحيّات يكشف ـ بوضوح ـ عن تنوّع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى نوعين مختلفين: فرديّ، وعموميّ، والأوّل هو وظيفة كلّ فرد من أفراد المسلمين، بينما يختصّ الثاني بجهاز وسلطة ويتطلّب وجودها في الحياة الإسلاميّة.

وظيفة المحتسب والسلطة التنفيذيّة :

وممّا يدلّ على اختصاص القسم الاجتماعيّ من وظيفة ( الأمر بالمعروف والنهي

__________________

(١) معالم القربة في أحكام الحسبة لابن الاخوة: ٧.

٢٩٩

عن المنكر ) والمسمّى بالحسبة، بالسلطة التنفيذيّة ؛ مطالبة الإمام عليّعليه‌السلام أحد ولاته على بعض الأمصار بأن يقوم بها ـ وهو في موقع الحكم ـ باعتبار أنّ ذلك أحد مسؤوليّاته ووظائفه وهو يتولّى اُمور المسلمين إذ قال: « من الحقّ عليك حفظُ نفسك والاحتسابُ على الرَّعيّة بجهدك فإنّ الّذي يصلُ إليك من ذلك ( أي من جانب الله ) أفضلُ من الّذي يصلُ بك ( أي من جانب الناس ) ».

وقد أشار صاحب كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة فروقاً بين المحتسب والمتطوّع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ قال: ( وأمّا ما بين المحتسب المتولّي من السلطان وبين المنكر المتطوّع من عدّة أوجه :

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب ـ بحكم الولاية ـ وفرضه على غيره داخل تحت فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، وقيام المتطوّع به من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه في ما يجب إنكاره، وليس المتطوّع منصوباً للاستعداء.

الرابع: على المحتسب إجابة من استعداه وليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعواناً لأنّه عمل هو له منصوب، وإليه مندوب وليكون له أقهر، وعليه أقدر، وليس للمتطوّع أن يتّخذ لذلك أعواناً.

السادس: أنّ له أن يعزّر في المنكرات الظاهرة ولا يتجاوز بها الحدود، وليس للمتطوّع أن يعزّر.

السابع: أن يرتزق على حسبته من بيت المال وليس للمتطوّع أن يرتزق على إنكار منكر إلى غير ذلك.

فهذه وجوه الفرق بين من يحتسب بولاية السلطان ( أي يقوم بالقسم الاجتماعيّ

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432