العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)13%

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 432

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192985 / تحميل: 8378
الحجم الحجم الحجم
العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

المبحث الخامس

غرض التكليف(١)

إنّ تكليف اللّه تعالى للعباد:

١ - ليس فيه غرض: وهو محال، لأنّ التكليف لغير غرض عبث، وفعل العبث قبيح، واللّه تعالى منزّه من فعل القبيح.

٢ - فيه غرض: وهو الصحيح.

وهذا الغرض:

١ - مضرّ: وهو محال، لأ نّه قبيح، واللّه تعالى منزّه من فعل القبيح.

٢ - مفيد: وهو الصحيح.

وهذه الفائدة:

١ - تعود للّه تعالى، وهو محال، لأ نّه يستلزم النقص والحاجة في ذاته تعالى، واللّه تعالى كامل وغني في ذاته وصفاته.

____________________

١- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في التكليف، فصل في بيان الغرض، ص ١١٠.

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسألة العدل، في الغرض من التكليف، ص١١٥.

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الثالث، ص١١١.

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج٢، فصل في التكليف وما يتعلّق به، ص١٠٦، ١٠٧.

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة السابعة، الركن الثالث، البحث الثاني، ص١٥٨ - ١٥٩.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، الكلام في التكليف و...، ص٢٤٨.

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الرابع، ص٢٥٠.

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع: في العدل، ص٧١.

إشراق اللاهوت، عميد الدين العُبيدي: المقصدالعاشر، المسألة الثالثة، المبحث الثاني، ص٣٣٨.

إرشاد الطالبيين، مقداد السيوري: مباحث العدل، كون التكليف حسن، ص٢٧٢ - ٢٧٣.

٢٦١

٢ - تعود لغير اللّه تعالى: وهو الصحيح.

وهذا الغير هو:

١ - غير المكلَّف: وهو غير صحيح، لأنّ المكلَّف هو المتحمّل مشقة التكليف، فينبغي أن يكون هو المنتفع لا غيره.

٢ - المكلَّف: وهو الصحيح.

وهذه الفائدة التي يحصل عليها المكلَّف هي:

١ - جلب نفع أو دفع ضرر (أي: الحصول على الثواب والاجتناب عن العقاب): وهو غير صحيح، لأنّ الكافر الذي يموت على كفره مكلّف مع أنّ تكليفه لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً.

٢ - تعريض(١) للنفع وتحذير من الضرر (أي: تعريض للثواب وتحذير من العقاب): وهو الصحيح.

حديث شريف:

قال الإمام علي(عليه السلام):

"أ يّها الناس!

إنّ اللّه تبارك وتعالى لمّا خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة.

فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم.

والتعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنهي.

والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد.

والوعد لا يكون إلاّ بالترغيب.

والوعيد لا يكون إلاّ بالترهيب.

والترغيب لا يكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم وتلذّه أعينهم.

والترهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك.

____________________

١- معنى التعريض - كما ذكرنا سابقاً - هو جعل المكلّف بحيث يتمكّن من الوصول إلى النفع الذي عُرِّض له.

٢٦٢

ثمّ خلقهم في داره.

وأراهم طرفاً من اللذات، ليستدلّوا به على ما ورائهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنة.

وأراهم طرفاً من الآلام، ليستدلوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة، ألا وهي النار.

فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنهم.

وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها"(١) .

انقطاع التكليف:

ينبغي أن يكون التكليف منقطعاً ومحدّداً بفترة زمنية معيّنة، لأنّ التكليف يتبعه الحصول على الثواب الإلهي، ودوام التكليف يوجب عدم إمكان الحصول على ذلك الثواب، فلهذا ينبغي أن يكون التكليف الذي فيه مشقة منقطعاً، ليصل المكلّف بعد ذلك إلى الثواب الذي لا مشقة فيه(٢) .

إشكال وردّ:

أشكل البعض:

إذا كان الغرض الإلهي من تكليف العباد هو أن يعطيهم النفع، فإنّ اللّه تعالى قادر على إيصال هذا النفع إليهم من غير واسطة التكليف، فلهذا يكون التكليف عبثاً(٣) .

يرد عليه:

١ - إنّ اللّه تعالى هو الذي خلق نظام الأسباب، وهو الذي شاءت حكمته أن تتوقّف بعض الأُمور على البعض الآخر في الواقع الخارجي، ولهذا لا يكون توسّط

____________________

١- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، باب ١٥، ح١٣، ص٣١٦.

٢- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل، ص١٠٣، ١٠٤.

الذخيرة، الشريف المرتضى: فصل: في وجوب انقطاع التكليف، ص١٤١.

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج٢، وجوب انقطاع التكليف، ص١٠٩.

٣- انظر: التفسير الكبير، فخر الدين الرازي: ج١٠، تفسير آية ٥٦ من سورة الذاريات، ص١٩٣.

٢٦٣

الفعل من أجل الوصول إلى الغرض عبثاً.

٢ - ليس الغرض الإلهي من تكليف العباد: أن يعطيهم النفع.

وإنّما الغرض الإلهي من تكليف العباد: أن يصلوا إلى الكمال.

والوصول إلى الكمال على نحوين:

أوّلاً: إجباري.

ثانياً: اختياري.

وبما أنّ الوصول إلى الكمال بالإجبار لا قيمة له، فإنّ اللّه تعالى منح العباد الاختيار، وجعل التكليف سبيلا لتكاملهم.

٢٦٤

النتيجة:

إنّ الغرض الإلهي من تكليف العباد هو أن يصلوا إلى التكامل الاختياري.

ولا يتحقّق هذا التكامل إلاّ عن طريق اختيار الإنسان الكمال بنفسه.

وقد جعل اللّه تعالى التكليف سبيلا يصل من خلاله الإنسان باختياره إلى الكمال المطلوب.

ولهذا لا يوجد أي عبث في هذا الصعيد.

٢٦٥

المبحث السادس

شروط حسن التكليف(١)

شروط التكليف:

١ - وجود المكلَّف، لأنّ تكليف المعدوم عبث(٢) .

٢ - انتفاء المفسدة فيه، لأنّ وجودها قبيح(٣) .

٣ - تقدّمه على وقت الفعل زماناً يتمكّن فيه المكلَّف من معرفة التكليف والامتثال به بالصورة المطلوبة، لأنّ التكليف يكون في غير هذه الحالة تكليفاً بما لا يطاق، وهو قبيح(٤) .

٤ - إمكان وقوعه، لأنّ التكليف بالمستحيل قبيح(٥) .

٥ - أن لا يتعلّق التكليف بالمباح، وإنّما يتعلّق بما يستحق به الثواب كالواجب والمندوب وترك القبيح، لأنّ التكليف بما لا يستحق الثواب عبث، وهو قبيح(٦) .

____________________

١- سنكتفي في هذا المبحث - مراعاة للاختصار - بذكر المصادر في الهامش بصورة موجزة، ويستطيع القارئ مشاهدة هذه المصادر بصورة مفصّلة في نهاية المبحث.

٢- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: ١٣٤.

٣- انظر: الذخيرة: ١١٠، تقريب المعارف: ١٢١، تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، مناهج اليقين: ٢٥١، النافع يوم الحشر: ٧٢، اللوامع الإلهية: ٢٢٣.

٤- انظر: الذخيرة: ١٠٠، تقريب المعارف: ١٢٣، تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، مناهج اليقين: ٢٥١، اللوامع الإلهية: ٢٢٢.

٥- انظر: الذخيرة: ١١٢، الاقتصاد: ١١٢، المنقذ من التقليد: ١/ ٢٨٨، مناهج اليقين: ٢٥١، إرشاد الطالبين: ٢٧٤ - ٢٧٥، اللوامع الإلهية: ٢٢٣.

٦- تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، قواعد المرام: ١١٧، المنقذ من التقليد: ١ / ٢٨٨، نهج الحقّ: ١٣٦، مناهج اليقين: ٢٥١، إرشاد الطالبين: ٢٧٤ - ٢٧٥، اللوامع الإلهية: ٢٢٣.

٢٦٦

شروط المكلِّف:

١ - أن يكون حكيماً ومنزّهاً عن فعل القبيح والإخلال بالواجب، لأ نّه لو كان فاعلا للقبيح ومخلاًّ بالواجب لجاز تكليفه بالقبائح وإخلاله في إعطاء الثواب إزاء التكليف، وهذا قبيح(١) .

٢ - أن يكون عالماً بحسن وقبح الفعل الذي يكلّف به، لئلا يكلِّف بالقبيح، من قبيل الأمر بفعل القبيح(٢) .

٣ - أن يكون عالماً بمقدار الثواب والعقاب الذي يستحقه كلّ مكلَّف عند الطاعة أو المعصية، حتّى لا يكون مضيّعاً لحقّ المكلَّفين(٣) .

٤ - أن يكون قادراً على إيصال المستحق حقّه، لأنّ عدم القدرة في هذا المجال تستلزم العجز والظلم، وكلاهما محال على اللّه تعالى(٤) .

٥ - أن يكون له غرض في التكليف، لأنّ التكليف من دون غرض قبيح، وقد ذكرنا هذا الأمر في المبحث السابق(٥) .

٦ - أن يقوم بتقوية دواعي المكلَّف فيما يكلِّفه(٦) بحيث يمكّنه من فعل ما يؤمر به وترك ما يُنهى عنه(٧) .

شروط المكلَّف:

١ - أن يكون قادراً على ما يكلَّف به، لأنّ التكليف بما لا يطاق قبيح، واللّه تعالى

____________________

١- انظر: الذخيرة: ١٠٧، تقريب المعارف: ١١٤، الاقتصاد: ١٠٨، تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، قواعد المرام: ١١٦، مناهج اليقين: ٢٥١، إرشاد الطالبين: ٢٧٤، اللوامع الإلهية: ٢٢٢.

٢- انظر: تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، قواعد المرام: ١١٦، المنقذ من التقليد: ١/٢٨٩، مناهج اليقين: ٢٥١، النافع يوم الحشر: ٧٢، إرشاد الطالبين: ٢٧٤، اللوامع الإلهية: ٢٢٢.

٣- انظر: الذخيرة: ١٠٧، الاقتصاد: ١٠٨، تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، قواعد المرام: ١١٦، المنقذ من التقليد: ١/٢٨٩، مناهج اليقين: ٢٥١، إرشاد الطالبين: ٢٧٤، اللوامع الإلهية: ٢٢٢.

٤- انظر: المصادر المذكورة في الهامش السابق، ماعدا كتاب المنقذ من التقليد.

٥- راجع مبحث غرض التكليف من هذا الفصل.

٦- لا يخفى بأنّ المقصود من تقوية الدواعي هي التي لا تبلغ حدّ الإلجاء والجبر المنافي للتكليف.

٧- انظر: الذخيرة: ١١٢، تقريب المعارف: ١٢١، الاقتصاد: ١١٢.

٢٦٧

منزّه عن فعل القبيح(١) ، وسنبيّن تفاصيل هذا الشرط في المبحث الأخير من هذا الفصل.

٢ - أن يكون متمكّناً من الأدوات التي يحتاج إليها في أداء ما يُكلَّف به، لأنّ التكليف مع فقدان الأدوات يكون بمنزلة التكليف بما لا يطاق، وهو قبيح(٢) .

٣ - أن لا يكون مجبوراً فيما كُلِّف به، لأنّ من شروط التكليف أن يكون الإنسان مختاراً لفعل الخير أو الشر(٣) .

٤ - أن يكون عالماً أو متمكّناً من العلم بما كُلِّف به(٤) ، كما ينبغي أن يكون متمكّناً من التمييز بين ما كلِّف به وبين ما لم يكلّف به(٥) ، لأنّ التكليف لا يكون إلاّ بعد إقامة الحجّة.

تنبيه:

لا يخفى أنّ العلم بالتكليف والتمييز بينه وبين غيره يحتاج إلى كمال العقل، ولهذا يشترط أن يكون المكلَّف كامل العقل(٦) .

الجاهل بالتكليف

أقسام الجاهل بالتكليف:

١ - الجاهل القاصر: وهو الذي لم يتمكّن من طلب العلم لمانع أو لقصور في ذاته.

٢ - الجاهل المقصِّر: وهو الذي تمكّن من طلب العلم، ولكنه ترك ذلك عمداً أو

____________________

١- انظر: الذخيرة: ١٠٠، تقريب المعارف: ١٢٨، الاقتصاد: ١١٦، تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، قواعد المرام: ١١٦، المنقذ من التقليد: ١/٢٥٢، مناهج اليقين: ٢٥١، النافع يوم الحشر: ٧٣، إرشاد الطالبين: ٢٧٤ - ٢٧٥، اللوامع الإلهية: ٢٢٢.

٢- انظر: الذخيرة: ١٠٠ و ١٢٣، تقريب المعارف: ١٢٨، الاقتصاد: ١١٨، تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، قواعد المرام: ١١٧، مناهج اليقين: ٢٥١، إرشاد الطالبين: ٢٧٥.

٣- انظر: الاقتصاد: ١٢٠، المنقذ من التقليد: ١/٢٨٨.

٤- انظر: الذخيرة: ١٢١، الاقتصاد: ١١٧، تجريد الاعتقاد: ٢٠٣، المنقذ من التقليد: ١/٢٥٢، اللوامع الإلهية: ٢٢٢.

٥- انظر: قواعد المرام: ١١٦، مناهج اليقين: ٢٥١، إرشاد الطالبين: ٢٧٥.

٦- انظر: الذخيرة: ١٢١، الاقتصاد: ١١٧، المنقذ من التقليد: ١/٢٨٩، نهج الحقّ: ١٣٥.

٢٦٨

إهمالا.

حكم الجاهل بالتكليف:

١ - إنّ الجاهل القاصر معذور عند اللّه تعالى ولا عقاب عليه، لأنّ اللّه تعالى لا يعاقب أحداً إلاّ بعد البيان ووصول البرهان، وقد ورد في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)بأنّ الذين لم تتمّ عليهم الحجّة في الدنيا يُكلَّفون في الآخرة، ويُحدّد هناك مصيرهم عن طريق ذلك التكليف(١) .

٢ - إنّ الجاهل المقصِّر في معرفة التكليف غير معذور، وهو مسؤول عند اللّه تعالى ومعاقب على تقصيره.

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول قوله تعالى:( قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) [الأنعام: ١٤٩]:

"إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟

فإن قال: نعم.

قال له: أفلا عملت بما علمت؟

وإن قال: كنت جاهلا.

قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل؟

فتلك الحجّة البالغة"(٢) .

تتمة:

إنّ الحجّة - عند المتكلّمين - هي ما توجب القطع وتفيد العلم وتقطع العذر(٣) .

وتنقسم الحجّة إلى قسمين:

١ - باطنية: وهي العقول.

____________________

١- انظر: بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، باب ١٣: الأطفال ومن لم يتم عليهم الحجّة في الدنيا، ص ٢٨٨ - ٢٩٧.

٢- الأمالي، الشيخ الطوسي: المجلس الأوّل، ح١٤، ص١١.

٣- انظر: الفوائد البهية، محمّد حمود العاملي: ج١، الفصل الأوّل، الباب الخامس، ص٣٠٢.

٢٦٩

٢ - ظاهرية: وهي الرسل والكتب السماوية.

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"حجّة اللّه على العباد النبي، والحجّة فيما بين العباد وبين اللّه العقل"(١) .

____________________

١- الكافي، الشيخ الكليني: ج١، كتاب العقل والجهل، ح٢٢، ص٢٥.

٢٧٠

مصادر هذا المبحث بصورة مفصّلة:

انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب: الكلام في الاستطاعة و...، فصل: في إبطال تكليف ما لا يطاق، ص١٠٠، وباب: الكلام في التكليف، فصل في صفات المكلِّف تعالى، ص ١٠٧، وفصل: في بيان الغرض بالتكليف و...، ص١١٠، وفصل: في بيان صفات الأفعال التي يتناولها التكليف، ص١١٢، وفصل: في الصفات والشرائط التي يكون عليها المكلَّف، ص١٢١ و١٢٣.

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة: في التكليف، ص١١٤، ١٢١، ١٢٣، ١٢٨.

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الثالث: في الكلام في التكليف، صفات المكلّف، ص١٠٨، الفعل الذي يتناوله التكليف، ص١١٢، الصفات التي يجب أن يكون عليها المكلَّف، ص١١٦، ١١٧ و ١٢٠.

تجريد الاعتقاد، نصيرالدين الطوسي: المقصد الثالث، الفصل الثالث: في أفعاله، التكليف، ص٢٠٣.

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني، البحث الرابع والبحث الخامس، ص١١٦، ١١٧.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، القول في أن اللّه تعالى كلّف كلّ من أكمل شروط التكليف فيه، ص٢٥٢، القول في الشروط التي باعتبارها يحسن التكليف، ص٢٨٨، ٢٨٩.

نهج الحقّ: العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المطلب الثامن عشر، ص١٣٥، ١٣٦.

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الرابع، ص٢٥١.

إرشاد الطالبين: مقداد السيوري: مباحث العدل، شرائط التكليف: ٢٧٤، ٢٧٥.

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الأوّل، ص٢٢٢، ٢٢٣.

٢٧١

المبحث السابع

تكليف من لم تتمّ عليهم الحجّة في الدنيا

إنّ الذين لم تتمّ عليهم الحجّة في الدنيا، ولم يتحقّق تكليفهم فيها، فإنّ تكليفهم سيكون في الآخرة.

وبذلك التكليف يتمّ تحديد مصيرهم:

فإن فازوا في ذلك التكليف الإلهي فمصيرهم الجنة.

وإن خسروا في ذلك التكليف الإلهي فمصيرهم النار.

أحاديث شريفة واردة في هذا المجال:

١ - قال الإمام محمّد بن على الباقر(عليه السلام): "إذا كان يوم القيامة احتجّ اللّه عزّ وجلّ على خمسة:

على الطفل.

والذي مات بين النبيين.

والذي أدرك النبي وهو لا يعقل.

والأبله.

والمجنون الذي لا يعقل.

والأصم والأبكم.

فكلّ واحد منهم يحتجّ على اللّه عزّ وجلّ.

قال: فيبعث اللّه إليهم رسولا فيؤجّج لهم ناراً فيقول لهم:

ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها.

فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً.

٢٧٢

ومن عصى سيق إلى النار"(١) .

٢ - قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام):

"... إذا كان يوم القيامة اُتِيَ:

بالأطفال

والشيخ الكبير الذي قد أدرك السنّ(٢) ولم يعقل من الكبر والخرف

والذي مات في الفترة بين النبيين

والمجنون

والأبله الذي لا يعقل

فكلّ واحد [منهم] يحتجّ على اللّه عزّ وجلّ

فيبعث اللّه تعالى إليهم ملكاً من الملائكة

فيؤجّج ناراً

فيقول: إنّ ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها

فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً

ومن عصاه سيق إلى النار"(٣) .

تنبيهات:

١ - قال الشيخ الصدوق: "إنّ قوماً من أصحاب الكلام ينكرون ذلك ويقولون:

إنّه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء تكليف

____________________

١- الخصال، الشيخ الصدوق: باب الخمسة، ح٣١، ص٢٨٣.

الفصول المهمة، الشيخ الحرّ العاملي: ج١، باب ٥٦، ح٨ [٣١١]، ص٢٨٢.

بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، باب ١٣، ح٢، ص٢٨٩ - ٢٩٠.

٢- وردت عبارة "أدرك النبي" بدل "أدرك السن" في:

الفصول المهمة، الشيخ الحرّ العاملي: ج١، باب ٥٦، ح١ [٣٠٤]، ص٢٧٨.

بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، باب ١٣، ح٣، ص٢٩٠.

٣- معاني الأخبار، الشيخ الصدوق: نوادر الأخبار، ح٨٦، ص٤٠٨.

٢٧٣

ودار الجزاء للمؤمنين إنّما هي الجنة

ودار الجزاء للكافرين إنّما هي النار.

وإنّما يكون هذا التكليف من اللّه عزّ وجلّ في غير الجنة والنار، فلا يكون كلّفهم في دار الجزاء، ثمّ يصيّرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم.

فلا وجه لإنكار ذلك"(١) .

٢ - قال الشيخ الصدوق حول الأحاديث الشريفة المبيّنة بأنّ أولاد المشركين والكفار مع آبائهم في النار:

"... أطفال المشركين والكفار مع آبائهم في النار لا يصيبهم من حرّها لتكون الحجّة أوكد عليهم متى أمروا يوم القيامة بدخول نار تؤجّج لهم مع ضمان السلامة متى لم يثقوا به ولم يصدّقوا وعده في شيء قد شاهدوا مثله"(٢) .

٣ - قال العلاّمة الحلّي: "ذهب بعض الحشوية(٣) إلى أنّ اللّه تعالى يعذّب أطفال المشركين، ويلزم الأشاعرة تجويزه، والعدلية كافة على منعه، والدليل عليه أنّه قبيح عقلا، فلا يصدر منه تعالى"(٤) .

٤ - إنّ قوله تعالى:( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمان أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) [الطور: ٢١] لا تدل على إلحاق مطلق الذرية بآبائهم المؤمنين، بل تدل على إلحاق الذرية المؤمنة بآبائهم المؤمنين.

والذرية التي لم ينكشف إيمانها في الدنيا، فإنّ الاختبار الإلهي لها في الآخرة يبيّن إيمانها وعدم إيمانها.

فإن اتّبعت هذه الذرية آباءها في الإيمان، فإنّها ستلحق بآبائها.

____________________

١- الخصال، الشيخ الصدوق: باب الخمسة، ذيل ح٣١، ص٢٨٣.

٢- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق: ج٣، أبواب القضايا والأحكام، ب ١٥١، ذيل ح ٤ [١٥٤٦]، ص٣١٨.

٣- للتعرّف على الحشوية راجع: بحوث في الملل والنحل، جعفر سبحاني: ج١، ص١٢٤ والفصل الخامس.

٤- كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة العاشرة، ص٤٣٦.

٢٧٤

وإن لم تتبع هذه الذرية آباءها في الإيمان، فإنّها لا تلحق بآبائها.

بعبارة أُخرى:

تبيّن هذه الآية بأنّ الذرية إذا اتّبعت آباءها بالإيمان ولكنها لم تبلغ درجة الآباء في الإيمان، فإنّ اللّه تعالى سيلحق هذه الذرية بالآباء، وذلك لتقرّ عين الآباء باجتماعهم معهم في الجنة(١) .

"فإن قيل: كيف يلحقون بهم في الثواب ولم يستحقوه.

فالجواب: إنّهم يلحقون بهم في الجمع لا في الثواب والمرتبة"(٢) .

تتمة:

تكليف ولد الزنا:

إنّ ولد الزنا غير مقصّر أبداً، ولا يمكن التنقيص منه نتيجة سوء فعل أبويه.

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"إنّ ولد الزنا يستعمل، إن عمل خيراً جُزي به، وإن عمل شراً جُزي به"(٣) .

قال العلاّمة المجلسي بعد ذكره لهذا الحديث الشريف:

"هذا الخبر موافق لما هو المشهور بين الإمامية من أنّ ولد الزنا كسائر الناس مكلّف بأصول الدين وفروعه، ويجري عليه أحكام المسلمين من إظهار الإسلام، ويثاب على الطاعات ويعاقب على المعاصي"(٤) .

تنبيه:

لا يمكن الأخذ ببعض الأحاديث الدالة على أنّ في ولد الزنا منقصة تنافي

____________________

١- قال الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية: "قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحق اللّه عزّ وجلّ الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم".

التوحيد، الشيخ الصدوق: باب ٦١، ح٧، ص٣٨٣.

٢- مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج٩، تفسير آية ٢١ من سورة الطور.

٣- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، باب ١٢، ح١٤، ص٢٨٧.

٤- المصدر السابق: ص ٢٨٧ - ٢٨٨.

٢٧٥

الاختيار، لأنّ هذه الأحاديث معارضة للآيات القرآنية الدالة على أنّه تعالى ليس بظلاّم للعبيد(١) .

____________________

١- للمزيد راجع: صراط الحقّ، محمّد آصف المحسني: ج٢، المقصد ٥، القاعدة ١٢، ص٤٠٣ - ٤١١.

٢٧٦

المبحث الثامن

التكليف بما لا يطاق

ذكرنا فيما سبق بأنّ من شروط حسن التكليف أن يكون المكلَّف قادراً على ما يُكلَّف به، لأنّ تكليف ما لا يطاق قبيح، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح، ولكن ذهب الأشاعرة إلى عكس هذا القول، ولهذا تطلّب الأمر تسليط المزيد من الأضواء على هذا الموضوع.

أدلة قبح التكليف بما لا يطاق:

١ - إنّ العقل يحكم على نحو البداهة والضرورة بقبح التكليف بما لا يطاق(١) .

٢ - إنّ المكلَّف عاجز عن امتثال التكليف بما لا يطاق، وتكليف العاجز ومؤاخذته عليه ينافي العدل والحكمة الإلهية(٢) .

٣ - إنّ غاية التكليف هي أن يفعل المكلَّف ما كُلِّف به، وتنتفي هذه الغاية فيما لو كان التكليف فوق استطاعة المكلَّف، فيكون التكليف - في هذه الحالة - عبثاً، والعبث قبيح(٣) .

____________________

١- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في الاستطاعة و...، ص١٠٠.

شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل وما يتّصل بذلك، ص٩٩.

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة في التكليف، ص١١٢.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، القول في تكليف ما لا يطاق، ص٢٠٣.

٢- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل، قبح تكليف...، ص٩٨ - ٩٩.

نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المطلب الثامن، ص٩٩.

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج٢، قبح تكليف من ليس بقادر، ص١٠٥.

٣- انظر: إشراق اللاهوت، عميد الدين العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الرابعة، ص٣٨٩.

٢٧٧

نفي التكليف بما لا يطاق في القرآن الكريم:

ورد في القرآن الكريم جملة من الآيات الدالة بوضوح على أنّ اللّه تعالى لا يكلِّف العباد إلاّ قدر وسعهم وطاقتهم، منها قوله تعالى:

١ -( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) [البقرة: ٢٨٦]

٢ -( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها ) [الطلاق: ٧]

٣ -( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) [الحج: ٧٨]

٤ -( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [البقرة: ١٨٥]

نفي التكليف بما لا يطاق في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام):

ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) العديد من النصوص الدالة بوضوح على أنّ اللّه تعالى لا يكلّف العباد إلاّ قدر وسعهم وطاقتهم، ومن هذه الأحاديث الشريفة:

١ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "ما كلّف اللّه العباد إلاّ ما يطيقون"(١) .

٢ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... ليس من صفته [عزّ وجلّ] الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون"(٢) .

٣ - الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... كلّ شيء أُمر الناس بأخذه فهم متّسعون له، وما لا يتّسعون له فهو موضوع عنهم..."(٣) .

٤ - الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام): "... إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها، ولا يحمّلها فوق طاقتها..."(٤) .

٥ - الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): سأله الراوي عن اللّه عزّ وجلّ هل يكلّف

____________________

١- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب١، ح٦٦، ص٤١.

٢- المصدر السابق: ح٢٩، ص١٩.

٣- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب١، ح٥١، ص٣٦.

٤- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب ٥٩: باب نفي الجبر والتفويض، ح٩، ص٣٥٢.

٢٧٨

عباده ما لا يطيقون؟ فقال(عليه السلام): "كيف يفعل ذلك وهو يقول:( وَما رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبِيدِ ) "(١) .

تنبيهان:

١ - إنّ التكليف بما لا يطاق قبيح، من غير فرق بين:

أوّلاً: أن يكون نفس التكليف بذاته محال.

ثانياً: أن يكون التكليف ممكناً بالذات، ولكنّه خارج عن إطار قدرة المكلَّف.

٢ - إنّ القيام بالتكاليف الإلهية يختلف باختلاف طاقة العباد، وكلّ إنسان مكلّف بأداء الواجبات وترك المحرمات بقدر طاقته.

رأي الأشاعرة حول التكليف بما لا يطاق:

جوّز الأشاعرة أن يكلّف اللّه تعالى العباد بما لا يطيقون، وقالوا بأنّ التكليف بما لا يطاق جائز، ولا يمتنع عليه تعالى أن يكلّف العباد بما هو فوق وسعهم وطاقتهم وما لا يقدرون عليه(٢) .

تنبيه:

ذكر بعض الأشاعرة بأنّ مرادهم من القول بجواز تكليف اللّه العباد بما لا يطيقون هو "إمكان الوقوع" فقط، وأمّا "الوقوع" فإنّه لم يقع في نطاق التشريع، وذلك لقوله تعالى:( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها ) (٣) .

بعبارة أُخرى:

إنّ اللّه تعالى يجوز له أن يكلّف العباد فوق وسعهم وطاقتهم، ولكنه لم يفعل

____________________

١- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب١، ح١٧، ص١١.

٢- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج٣، الموقف ٥، المرصد ٦، المقصد ٧، ص٢٩٠ و٢٩٢.

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج٤، المقصد ٥، الفصل ٥، المبحث ٤، ص٢٩٦.

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج١، المسألة ٣، المبحث ١١، المطلب ١، مناقشة الفضل، ص٣٢٧، والمطلب ٨، مناقشة الفضل، ص٤٢٥.

٣- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج٣، الموقف ٥، المرصد ٦، المقصد ٧، ص٢٩١ و٢٩٣.

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج١، المسألة ٣، المبحث ١١، المطلب ٨، مناقشة الفضل، ص٤٢٥.

٢٧٩

ذلك.

أدلة الأشاعرة على جواز التكليف بما لا يطاق ومناقشتها:

الدليل الأوّل:

إنّ اللّه تعالى يمتلك الحرّية المطلقة، فلهذا يجوز له أن يكلّف العباد بأيّ وجه أراد، ولو كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق، لأ نّه تعالى يفعل ما يشاء(١) .

يرد عليه:

إذا كان الأمر كذلك، فينبغي القول بأنّ اللّه تعالى يجوز له الكذب على العباد، لأ نّه يمتلك الحرّية المطلقة، ويفعل ما يشاء، فتزول حينئذ الثقة بأنبيائه وكتبه السماوية.

ولكن الأمر ليس كذلك، لأنّ اللّه تعالى على رغم امتلاكه الحرية المطلقة في الفعل، فإنّه حكيم وعادل، ولا يصدر منه ما ينافي جلالة قدره وعظمة شأنه(٢) .

بعبارة أُخرى:

إنّ أيّ دليل يتمسّك به الأشاعرة لإثبات عدم إخباره تعالى بالكذب، فهو دليل على عدم تكليفه تعالى بما لا يطاق.

الدليل الثاني:

لو كان تكليف اللّه العباد بما لا يطيقون قبيحاً، لما وقع ذلك، ولكنه وقع، ومنه أنّ اللّه تعالى كلّف أبا لهب بأن يؤمن بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويصدّق بكلّ ما أخبر به، ومن جملة ما أخبر به(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنّ أبا لهب لا يؤمن، فيكون تكليف أبي لهب: "أن يؤمن بأ نّه لا يؤمن"، وهو جمع بين النقيضين، وهذا تكليف بما لا يطاق، وقد وقع من قبل اللّه

____________________

١- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج٣، الموقف ٥، المرصد ٦، المقصد ٧، ص٢٩٠.

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج٤، المقصد ٥، الفصل ٥، المبحث ٤، ص٢٩٦.

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج١، المسألة ٣، المبحث ١١، المطلب ٨، مناقشة الفضل، ص٤٢٥.

٢- انظر: كنز الفوائد، أبو الفتح الكراجكي: ج١، قبح التكليف بما لا يطاق، ص١٠٨ - ١٠٩.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

أخبرني أبو بكر أحمد بن محمّد بن عبد الواحد المروذي ، حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن محمّد الحافظ ـ بنيسابور ـ قال : سمعت أبا حامد أحمد بن محمّد المُقرئ الفقيه الواعظ يقول : سمعت أبا العبّاس محمّد بن إسحاق الثقفي يقول : لمّا انصرف قتيبة بن سعيد إلى الري ، سألوه أنْ يحدّثهم فامتنع وقال : أُحدّثكم بعد أنْ حضر مجالسي أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وعليّ بن المديني، وأبو بكر ابن أبي شيبة ، وأبو خيثمة ؟ ! قالوا له : فإنّ عندنا غلاماً يسرد كلّ ما حدّثت به مجلساً مجلساً ، قم يا أبا زرعة ، فقام أبو زرعة ، فسرد كلّ ما حدّث به قتيبة ، فحدّثهم قتيبة .

حدّثنا محمّد بن يوسف القطّان النيسابوري ـ لفظاً ـ أخبرنا محمّد بن عبد الله بن محمّد بن حمدَويه الحافظ قال : سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد الرّازي يقول : سمعت أبا عبد الله محمّد بن مسلم بن وارة يقول : كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور ، فقال رجلٌ مِن أهلِ العراق : سمعت أحمد بن حنبل يقول : صحّ مِن الحديث سبعمِئة ألف حديث وكسر ، وهذا الفتى : ـ يعني أبا زرعة ـ قد حفظ ستمِئة ألف .

أخبرنا أبو سعد الماليني ، حدّثنا عبد الله بن عدي قال : سمِعت الحسن ابن عثمان التستري يقول : كلّ حديثٍ لا يعرفه أبو زرعة الرّازي ليس له أصل .

حدّثني أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن علّي السوذرجاني ـ لفظاً ، بأصبهان ـ وأبو طالب يحيى بن عليّ بن الطيّب الدسكري ـ لفظاً ، بحلوان ـ قال يحيى حدّثنا ، وقال الآخر : أنبأنا أبو بكر ابن المُقرئ ، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن جعفر القزويني ـ بمصر ـ قال سمعت محمّد بن إسحاق الصاغاني يقول ـ في حديث ذكره مِن حديث الكوفة فقال : هذا أفادنيه أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم ، فقال له بعض مَن حضر : يا أبا بكر ، أبو زرعة مِن أولئك الحفّاظ الذين رأيتهم ؟ وذكر جماعة من الحفّاظ ، منهم الفلاس .

فقال : أبو زرعة أعلاهم ؛ لأنّه جمَع الحفظ مع التقوى والورع ، وهو يشبه بأبي عبد الله أحمد بن حنبل.

٣٢١

أخبرنا أبو نعيم الحافظ : حدّثنا الحسن بن محمّد الزعفراني ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن عمر ، حدّثنا أبو بكر ابن بحر ، حدّثنا محمّد بن الهيثم بن عليّ النسوي ، قال : لمّا أن قدِم حمدون البرذعي على أبي زرعة لكتابة الحديث، دخل عليه فرأى في داره أواني وفرشاً كثيراً ، قال : وكان ذلك لأخيه، فهمّ أنْ يرجع ولا يكتب عنه ، فلمّا كان من اللّيل رأى كأنّه على شط بركة، ورأى ظلّ شخص في الماء، فقال : أنت الذي زهدت في أبي زرعة ؟ ! أعلمت أنّ أحمد بن حنبل كان من الأبدال ، فلمّا أنْ مات أبدل الله مكانه أبا زرعة .

أخبرنا الماليني : أخبرنا عبد الله بن عيدي ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن سليمان القطّان، حدّثنا أبو حاتم الرّازي، حدّثني أبو زرعة عبدي الله بن عبد الكريم بن يزيد القرشي ، وما خلّف بعده مثله علماً وفهماً ، وصيانةً وحذقاً ، وهذا ما لا يُرتاب فيه ، ولا أعلم مِن المشرق والمغرب مَن كان يفهم من هذا الشأن مثله ، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل .

وقال ابن عدي : سمعت عبد الملك بن محمّد يقول : سمعت ابن خراش يقول : كان بيني وبين أبي زرعة موعد أنْ أُبكّر عليه فأُذاكره ، فبكّرت فمررت بأبي حاتم وهو قاعدٌ وحده ، فدعاني فأجلسني معه يُذاكرني حتّى أصبح النهار ، فقلت له : بيني وبين أبي زرعة موعد ، فجئت إلى أبي زرعة والناس عليه منكبّون ، فقال لي : تأخّرت عن الموعد ؟ قلت : بكّرت فمررت بهذا المستوحش فدعاني فرَحِمته لِوحدته ، وهو أعلا إسناداً منك ، وضربت أنت بالدست أو كما قال .

أخبرنا أبو منصور محمّد بن عيسى بن عبد العزيز البزّاز ـ بهمذان ـ حدّثنا صالح بن أحمد بن محمّد الحافظ قال : سمعت القاسم بن أبي صالح يقول : سمعت أبا حاتم الرّازي يقول : أبو زرعة إمام.

أخبرنا البرقاني : أخبرنا عليّ بن عمر الدارقطني ، أخبرنا الحسن بن رشيق ، حدّثنا عبد الكريم بن أبي عبد الرحمان النسائي عن أبيه ، ثمّ حدّثني الصوري ، أخبرنا الخصيب بن عبد الله قال : ناولني عبد الكريم ـ وكتب لي بخطّه ـ قال : سمعت أبي يقول : عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرّازي ثقةٌ.

٣٢٢

أخبرنا الماليني : أخبرنا عبد الله بن عدي قال : سمعت أبا يعلى الموصلي يقول : ما سمعنا بذكرِ أحدٍ في الحفظ إلاّ كان اسمه أكثر مِن رؤيته ، إلاّ أبو زرعة الرّازي ، فإنّ مشاهدته كانت أعم من اسمه ، وكان قد جمع حفظ الأبواب ، والشيوخ ، والتفسير ، وغير ذلك ، وكتبنا بانتخابه بواسط ستّة آلاف .

أخبرنا هناد بن هارون النسفي : أخبرنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن سليمان الحافظ ـ ببخارى ـ أخبرنا أبو الأزهر ناصر بن محمّد بن النضر الأسدي ـ بكرمينية ـ قال سمعت أبا يعلى أحمد بن عليّ بن المثنّى يقول : رحلْتُ إلى البصرة لِلِقاء المشايخ أبي الربيع ، الزهراني ، وهدبة بن خالد ، وسائر المشايخ ، فبينا نحن قُعود في السفينة ، إذا أنا برجلٍ يسأل رجلاً فقال : ما تقول ـ رحمك الله ـ في رجلٍ حلف بطلاق امرأته ثلاثاً أنّك تحفظ مِئة ألف حديث ؟ فأطرق رأسه مليّاً ثمّ رفع فقال : اذهب يا هذا وأنت بارٌّ في يمينك ، ولا تعد إلى مثل هذا ، فقلت من الرجل ؟ فقيل لي : أبو زرعة الرّازي ، كان ينحدر معنا إلى البصرة .

أخبرنا الماليني : حدّثنا عبد الله بن عدي قال : سمعت أبي عدي بنعبد الله يقول : كنت بالري ـ وأنا غلام في البزّازين ـ فحلف رجلٌ بطلاقِ امرأته أنّ أبا زرعة يحفظ مِئة ألف حديث ، فذهب قومٌ إلى أبي زرعة بسبب هذا الرجل هل طلّقت امرأته أم لا ؟ فذهبْت معهم ، فذكر لأبي زرعة ما ذكر الرجل ، فقال : ما حمله على ذلك ؟ فقيل له :

٣٢٣

قد جرى الآن منه ذلك ، فقال أبو زرعة : قل له يمسك امرأته... ) (١) .

ترجمة أبي حاتم الرّازي

وكذلك أبو حاتم الرّازي المتوفّى سنة ٢٧٧ :

قال الذهبي : ( محمّد بن إدريس أبو حاتم الرّازي ، الحافظ ، سمع الأنصاري وعبيد الله بن موسى.

وعنه : د ، س ، ووَلَده عبد الرحمان بن أبي حاتم ، والمحاملي قال موسى بن إسحاق الأنصاري : ما رأيت أحفظ منه مات في شعبان سنة ٢٧٧ )(٢) .

وقال السمعاني : ( إمامُ عصره والمرجوع إليه في مشكلات الحديث ، مِن مشاهير العلماء المذكورين ، الموصوفين بالفضل والحفظ والرحلة ، ولقي العلماء )(٣) .

وقال ابن حجر: ( د ، س ، ق محمّد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي ، أبو حاتم الرّازي ، الحافظ الكبير ، أحد الأئمّة.... روى عنه : أبو داود والنسائي وابن ماجة في التفسير... وقال الحاكم أبو أحمد في الكنى : أبو

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد ١٠ / ٣٢٦ ـ ٣٣٧ .

(٢) الكاشف ٣ : ٦ / ٤٧٦١ .

(٣) الأنساب ٢ : ٢٧٩ .

٣٢٤

حاتم محمّد بن إدريس ، روى عنه : محمد بن إسماعيل الجعفي وابنه عبد الرحمان... ورفيقه أبو زرعة... وآخرون .

قال أبو بكر الخلال : أبو حاتم إمامٌ في الحديث ، روى عن أحمد مسائلَ كثيرةٌ وقعت إلينا متفرّقة ، كلّها غريب .

وقال ابن خراش : كان مِن أهل الأمانة والمعرفة .

وقال النسائي : ثقةٌ .

وقال اللاّلكائي : كان إماماً ، عالماً بالحديث ، حافظاً له ، متقناً متثبّتاً .

وقال الخطيب : كان أحد الأئمّة الحفّاظ الأثبات ، مشهوراً بالعلم ، مذكوراً بالفضل... مات بالري ٢٧٧ )(١) .

تكلّم الذهلي في البخاري

وممّن تكلّم في البخاري مِن الأئمّة الأعلام : محمّد بن يحيى الذهلي ، فقد قدح فيه وطعن ، وبدّعه في الدين ، ومنع من الكتابة عنه والحضور عنده ، قال السبكي بترجمة البخاري :

( قال أبو حامد ابن الشرقي : رأيت البخاري في جنازة سعيد بن مروان والذهلي يسأله عن الأسماء والكنى والعِلل ، ويمرّ فيه البخاري مثل السهم ، فما أتى على هذا شهر حتّى قال الذهلي : ألا مَن يختلف إلى مجلسه فلا يأتنا ، فإنّهم كتبوا إلينا من بغداد أنّه تكلّم في اللّفظ ، ونهيناه فلم ينته ، فلا تقربوه .

قلت : كان البخاري ـ على ما رُوي وسنحكي ما فيه ـ ممّن قال : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وقال محمّد بن يحيى الذهلي : مَن زَعم أنّ لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو مُبتَدِع لا يُجالَس ولا يُكلَّم ، ومَن زعم أنّ القرآن مخلوقٌ فقد كفر ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) تهذيب التهذيب ٩ : ٢٨ ـ ٣٠ .

٣٢٥

وقال ابن حجر : ( قال أبو حامد ابن الشرقي : سمعت محمّد بن يحيى الذهلي يقول : القرآن كلامُ الله غير مخلوق ، ومَن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدِع لا يُجالَس ولا يُكلَّم ، ومَن ذهب بعد هذا إلى محمّد بن إسماعيل فاتّهموه ، فإنّه لا يحضر مجلسه إلاّ مَن كان على مذهبه )(١) .

نقد دفاع القوم عن البخاري

ثمّ إنّ القوم حاولوا تخليص البخاري مِن هذه الورطة ، فأتعبوا أنفسهم وجهدوا كثيراً... فقد جاء في كتاب( الطبقات ) بعد ما تقدَّم :

( وإنّما أراد محمّد بن يحيى ـ والعِلم عند الله ـ ما أراده أحمد بن حنبل كما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي ، مِن النّهي عن الخوض في هذا ، فلم يرد مخالفة البخاري ، وإنْ خالفه وزعم أنّ لفظه الخارج مِن بين شفة المحدّثين قديم ، فقد باء بإثمٍ عظيم ، والظنّ به خلاف ذلك ، وإنّما أراد هو وأحمد وغيرهما مِن الأئمّة النهي عن الخوض في مسائل الكلام ، وكلام البخاري عندنا محمولٌ على ذكر ذلك عند الاحتياج إليه ، فالكلام عند الاحتياج واجب ، والسكوت عنه عند عدم الاحتياج سنّة .

فافهم ذلك ودع خرافات المؤرّخين ، واضرب صفحاً عن تمويهات الضالّين ، الذين يظنّون أنّهم مُحدّثون وأنّهم عند السنّة واقفون ، وهُم عنها مبعدون .

وكيف يظنّ بالبخاري أنّه يذهب إلى شيء مِن أقوال المعتزلة ، وقد صحّ عنه فيما رواه الفربري وغيره أنّه قال : إنّي لأستجهل مَن لا يكفّر الجهميّة ، ولا يرتاب المنصف في أنّ محمّد بن يحيى الذهلي لحقته الحسد التي لم يسلم منها إلاّ أهل العصمة ، وقد سأل بعضهم البخاري عمّا بينه وبين محمّد بن يحيى فقال البخاري : كم يعتري محمّد بن يحيى الحسد في العلم ، والعلم رزقُ الله يعطيه مَن يشاء ، ولقد أطرف البخاري وأبان عن عظيم ذكائه حيث قال ـ وقد قال له أبو عمرو الخفّاف أنّ الناس خاضوا في قولك : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ـ يا أبا عمرو، أحفظ ما أقول لك ، مَن زعم مِن أهل نيسابور وقومس والري وهمدان ، وبغداد والكوفة والبصرة ، ومكّة والمدينة : أنّي قلت لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، فهو كذّاب ، فإنّي لم أقله ، إلاّ أنّي قلت : أفعال العباد مخلوقة .

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري : ٤٩٢ .

٣٢٦

قلت : تأمّل كلامه ما أذكاه ! ومعناه ـ والعلم عند الله ـ إنّي لم أقل لفظي بالقرآن مخلوق ، لأنّ الكلام في هذا خوض في مسائل الكلام وصفات الله التي لا ينبغي الخوض فيها إلاّ للضرورة ، ولكنّي قلت أفعال العباد مخلوقة ، وهو قاعدة مغنية عن تخصيص هذه المسألة بالذكر ، فإنّ كلّ عاقلٍ يعلم أنّ لفظنا مِن جملةِ أفعالنا ، وأفعالنا مخلوقة ، فألفاظنا مخلوقة .

ولقد أفصح بهذا المعنى في رواية أُخرى صحيحة عنه ، رواها حاتم بن أحمد الكيدري فقال : سمعت مسلم بن الحجّاج ، فذكر الحكاية وفيها : أنّ رجلاً قام إلى البخاري فسأله عن اللّفظ بالقرآن فقال : أفعالنا مخلوقةٌ وألفاظنا من أفعالنا ، وفي الحكاية : أنّه وقع بين القوم إذ ذاك اختلاف على البخاري ، فقال بعضهم : قال لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وقال آخرون : لم يقل .

قلت : فلم يكن الإنكار إلاّ على مَن تكلّم في القرآن ، فالحاصل ما قدّمناه في ترجمة الكرابيسي ، من أنّ أحمد بن حنبل وغيره من السادات الموفّقين ، نهوا عن الكلام في القرآن جملةً ، وإنْ لم يُخالفوا في مسألة اللفظ فيما نظنّه فيهم إجلالاً لهم وفهماً مِن كلامهم في غير رواية ، ودفعاً لمحلّهم عن قول لا يشهد له معقول ولا منقول ، وهو أنّ الكرابيسي والبخاري وغيرهما مِن الأئمّة الموفّقين أيضاً أفصحوا بأنّ لفظهم مخلوقٌ لمّا احتاجوا إلى الإفصاح ، هذا إنْ ثبت عنهم الإفصاح بهذا ، وإلاّ فقد نقلنا لك قول البخاري أنّ مَن نقل عنه هذا فقد كذِب عليه .

٣٢٧

فإنْ قلت : إذا كان حقّاً لِمَ لا يفصح به ، قلت : سبحان الله ، قد أنبأناك أنّ السرّ فيه في الخوض في علم الكلام ، خشية أنْ يَجُرَّ الكلام فيه إلى ما لا ينبغي ، وليس كلّ علمٍ يُفصح به ، فاحفظ ما نُلقيه إليك واشدد عليه يدَيك ، ويعجبني ما أنشد الغزالي في منهاج العابدين لبعض أهل البيت(١) :

إِنّي لأَكتُم مِن عِلمي جَواهِرَهُ كي

لا يَرى الحقُّ ذي جَهلٍ فَيَفتَنِنا

يا رُبَّ جَوهَرِ عِلمٍ لَو أَبوحُ بِهِ

لقيلَ لي أَنتَ مِمَّن يَعبدُ الوَثَنا

وَلاسَتَحَلَّ رِجالٌ صَالِحُون دَمي

يَرَونَ أَقبَحَ ما يَأتونَهُ حَسَنا

وَقَد تَقَدَّمَ في هَذا أَبو حَسَنٍ

إِلى الحُسَينِ وَوَصّى قَلبَهُ الحَسنا

أقـول :

لكن كلام السبكي مُتهافت وركيك ، ألا ترى أنّه يُبادر إلى إنكار وقوع الخلاف بين الذهلي والبخاري ، ثمّ يرجع فيرمي الذهلي بالحسد للبخاري ، ثمّ تارةً يؤيّد القول بخلق التلفّظ بالقرآن ، وأُخرى ينكر أنْ يكون البخاري قائلاً بذلك !!

والحاصل : أنّه قد ذكر ثلاثة وجوه في الدفاع عن البخاري .

أحدها : عدم الخلاف بين الذهلي والبخاري في المسألة .

والثاني : إنّ ما قال الذهلي في البخاري ليس إلاّ عن الحسد له .

والثالث : إنّه لم يثبت عن البخاري القول بأنّ لفظي بالقرآن مخلوق .

ـــــــــــــــــــ

(١) منهاج العابدين : ٥ نسبه للإمام زين العابدينعليه‌السلام .

٣٢٨

لكن الأوّل واضح البطلان ، ولا سبيل لحمل كلام الذهلي في البخاري على أنّه إنّما كان نهياً عن الخوض في علم الكلام ، وكيف يقول هذا ؟ وهو ينقل عن الذهلي تكفير البخاري والردّ عليه والتكلّم فيه والمنع من الذهاب إليه والحضور عنده ؟ وكيف يدّعي عدم وقوع الخلاف ؟ وقد جاء في كتابه قبل هذا : ( قصّته مع محمّد بن يحيى الذهلي ) فقال : ( قال الحسن بن محمّد بن جابر : قال لنا الذهلي لمّا ورد البخاري بنيسابور : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاستمعوا منه ، فذهب الناس إليه واقبلوا على السماع منه ، حتّى ظهر الخلل في مجلس الذهلي ، فحسده بعد ذلك وتكلّم فيه... )(١) .

وذكر ابن حجر في مقدّمة شرح البخاري : ( ذكر ما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللّفظ ، وما حصل له مِن المحنة بسبب ذلك وبراءته ممّا نسب إليه ) فقال :

( قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخه : قدِم البخاري بنيسابور سنة خمسٍ وثلاثين ، فأقام بها مدّة يحدّث على الدوام ، قال : سمعت محمّد بن حازم البزّار يقول : سمعت الحسن بن محمّد بن جابر يقول : سمعت محمّد بن يحيى يقول : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه .

قال : فذهب الناس إليه واقبلوا على السماع منه ، حتّى ظهر الخلل في مجلس محمّد بن يحيى .

قال : فتكلّم فيه بعد ذلك ) .

قال : ( وقال أبو أحمد ابن عدي : ذكر لي جماعة مِن المشايخ : أنّ محمّد ابن إسماعيل لمّا ورد نيسابور واجتمع الناس عنده ، حسده بعض شيوخ الوقت ، فقال لأصحاب الحديث : إنّ محمّد بن إسماعيل يقول : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، فلمّا حضر المجلس قام إليه رجلٌ فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول في اللّفظ بالقرآن ، مخلوقٌ هو أو غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يُجِبه ثلاثاً ، فألحّ عليه ، فقال البخاري : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، وأفعال العباد مخلوقة ، والامتحان بدعة ، فشغب الرجل وقال : قد قال لفظي بالقرآن مخلوق ) قال : ( وقال الحاكم : لمّا وقع بين البخاري وبين محمّد بن يحيى في مسألة اللّفظ ، انقطع الناس عن البخاري إلاّ مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة فقال الذهلي : ألا مَن قال باللّفظ فلا يحضرنا مجلسنا ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة للسبكي ٢ : ٢٢٨ .

٣٢٩

قال : ( قال الحاكم أبو عبد الله : سمعت محمّد بن صالح بن هاني يقول : سمعت أحمد بن مسلمة النيسابوري يقول : دخلت على البخاري فقلت : يا أبا عبد الله ، إنّ هذا الرجل مقبولٌ بخراسان خصوصاً في هذه المدينة ، وقد لجّ في هذا الأمر حتّى لا يقدر أحد أنْ يكلّمه ، فما ترى ؟ قال : فقبض على لحيته وقال :( .. وأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) ، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً ولا طلباً للرياسة ، وإنّما أبَت نفسي الرجوع إلى الوطن لغَلَبة المخالفين ، وقد قصدني هذا الرجل حسَداً لِمَا آتاني الله ثمّ قال لي : يا أبا أحمد ، إنّي خارج غداً لتتخلّصوا مِن حديثه لأجلي ) .

وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبد الله ابن الأخرم قال : ( لمّا قام مسلم بن الحجّاج وأحمد بن مسلمة مِن مجلس محمّد بن يحيى بسببالبخاري قال الذهلي : لا يُساكنني هذا الرجل في البلد ، فخشي البخاري وسافر (١) .

وكيف يجتمع القول بعدم وقوع الخلاف مع دعوى حسد الذهلي للبخاري ؟

لكنّ دعوى الحسد أيضاً لا تحلّ المشكلة ، ولا تنفعهم بل تضرّهم ، لأُمور :

ترجمة الذهلي

الأوّل : جلالة قدر الذهلي وعظمته كما بتراجمه ، فقد ذكروا أنّه مِن مشايخ البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة والنسائي وآخرين من كبار الأئمّة ، وأنّ ابن أبي داود لقّبه بـ ( أمير المؤمنين في الحديث ) :

قال الذهبي : ( وعنه : خ والأربعة وابن خزيمة وأبو عوانة وأبو علي الميداني ، ولا يكاد البخاري يفصح باسمه لِما وقَع بينهما قال ابن أبي داود : حدّثنا محمّد بن يحيى ، وكان أمير المؤمنين في الحديث .

وقال أبو حاتم : هو إمامُ أهل زمانه توفّي ٢٥٨ وله ستّ وثمانون )(٢) .

وقال السمعاني : ( إمام أهل نيسابور في عصره ، ورئيس العلماء ومقدّمهم )(٣) .

وقال الصفدي : ( الإمام الذهلي ، مولاهم ، النيسابوري ، الحافظ ، سمع مِن خلقٍ كثير ، روى عنه الجماعة خلا مسلم ، قال : ارتحلت ثلاث رحلات

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري = مقدّمة فتح الباري : ٤٩٢ .

(٢) الكاشف ٣ : ٨٨ / ٥٢٧٤ .

(٣) الأنساب ٣ : ١٨١ .

٣٣٠

وأنفقت مِئةً وخمسين ألفا ً. قال النسائي : ثقةٌ مأمون قال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف : رأيت محمّد بن يحيى في المنام فقلت : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي قلت : ما فُعِل بحديثك ؟ قال : كُتِب بماء الذهب ورُفِع في عِلّيّين )(١) .

فهذ مقامات الذهلي ومنازله كما يقولون ، فكيف يصدّق مع هذا رميه بالحسد للبخاري ، وأنّ كلّ ما قاله فيه مِن التكفير وغيره هو عن الحسد له ؟ اللّهمّ إلاّ أنْ يلتجأ المدافعون عن البخاري إلى تكذيب هؤلاء المادحين للذهلي ، وهذه شناعةٌ عظيمة وداهيةٌ كبيرة بلا ارتياب ، فإنّه مصداق الهرب مِن المطر والوقوف تحت الميزاب !!

الأمر الثاني :

إنّ هذا الوجه ـ المُبطل للوجه السابق ـ لا ينفع القوم بل يضرّهم ؛ لأنّه إذا ثبت حسد الذهلي ـ كما ذكر السبكي ونصَّ عليه البخاري ـ وأنّه كان مِن أجل الرياسة وحبّ الدنيا ، توجّه الطعن إلى البخاري مرّةً أُخرى ، وصار دليلاً آخر على عدم احتياطه وتورّعه في الرواية والفتيا ؛ لأنّ الأُمور التي حكاها الحاكم والسبكي وابن حجر العسقلاني مثبتة ، لكون الذهلي فاسقاً ضالاًّ لا يجوز الأخذ منه والرواية عنه ، لكنّ البخاري قد أخرج عنه في صحيحه كما في( تهذيب الكمال ) (٢) و( تهذيب التهذيب) (٣) و( تقريب التهذيب ) (٤) و( الكاشف ) (٥) وغيرهما .

ـــــــــــــــــــ

(١) الوافي بالوفيات ٥ : ١٨٦ / ٢٢٣٥ .

(٢) تهذيب الكمال ٢٦ : ٦٢٢ / ٥٦٨٦ .

(٣) تهذيب التهذيب ٩ : ٤٥٢ / ٨٤٣ .

(٤) تقريب التهذيب ٢ : ٢٢٦ / ٧١٩٣ .

(٥) الكاشف ٣ : ٨٨ / ٥٢٧٤ .

٣٣١

وكيف جاز له أنْ يُخرج عنه في كتابه الذي لم يُخرج فيه عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام ؟

ومِن الطرائف أنْ يلتزم بالرواية عنه ، وإخراجها في كتابه ولو مع عدم التصريح باسمه ؟!

إنّه إنْ كان ثقةٌ يصلح للرواية عنه ، فالإخراج عنه مع إخفاء اسمه حسدٌ له مِن البخاري ، وإنْ كان مِن المجروحين عنده ، فالإخراج عنه بهذه الكيفيّة خيانةٌ وتدليس !!

الأمر الثالث :

إنّه إذا ثبت حسدُ الذهلي للبخاري وقدحه تضليله إيّاه ، وذمّ البخاري للذهلي وتكلّمه فيه ، توجّه إلى أهل السنّة ما أورده الشاه عبد العزيز الدهلوي في( التحفة الاثني عشريّة ) بعنوان الطعن على أهل الحق ، مِن وجود التكاذب والتحاسد بين قدماء الأصحاب وردّ بعضهم على البعض ، كتأليف هشام بن الحكم كتاباً في الردّ على هشام بن سالم الجواليقي ومؤمن الطاق .

يقول الدهلوي : ( والعجب ، إنّ قدماء الإماميّة وقدوتهم ، الذين تنتهي إليهم سلاسل أسانيد أهل الأخبار منهم ، كهشام بن الحكم ، وهشام بن سالم الجواليقي ، وصاحب الطاق ، قد وقع بينهم أشدّ التكاذب والتحاسد ، وكانوا يكذِّبون بعضهم بعضاً في الروايات الواقعة بينهم ، عن الأئمّة الثلاثة السجّاد والباقر والصادقعليهم‌السلام ويضلّلون ويكفّرون فيما بينهم ، كما أنّ لهشام ابن الحكم كتاباً في الردّ على الجواليقي وصاحب الطاق ذكر ذلك النجاشي ، فسقط جميع أخبارهم عن حيّز الاعتبار وتساقط بالتعارض )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) التحفة الاثني عشريّة : ١١٨ الباب الرابع .

٣٣٢

لكنّ المناظرة وردّ البعض على البعض في المسائل العلميّة أمرٌ ، والإهانة والتكذيب بل التضليل والتكفير أمرٌ آخر ، فهشام بن الحكم وضع كتاباً في الردّ على هشام بن سالم في مسالة اختلفا فيها ، أمّا ما كان بين الذهلي والبخاري فهو الحسد والتضليل والتكفير، كما هو صريح عبارات القوم ، وهو الذي ينتهي إلى سقوط أخبارهم عن حيّز الاعتبار وتساقطها بالتعارض .

وأمّا إنكار السبكي أنْ يكون البخاري قائلاً : لفظي بالقرآن مخلوق ، فليس إلاّ مكابرةً منه ؛ لأنّه بنفسه قد حكى ذلك عن البخاري ، كما أنّ ابن حجرٍ أيضاً رواه ، قال السبكي :

( قال محمّد بن يوسف الفربري : سمعت محمّد بن إسماعيل يقول : وأمّا أفعال العباد مخلوقة ، فقد ثنا عليّ بن عبد الله ، ثنا مروان بن معاوية ، ثنا أبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة قال : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته ) .

وسمعت عبيد الله بن سعيد ، سمعت يحيى بن سعيد يقول : ما زلت أسمع أصحابنا يقولون أفعال العباد مخلوقة .

قال البخاري : حركاتهم وأصواتهم و أكسابهم وكتابتهم مخلوقة ، فأمّا القرآن المتلو المُثبت في المصاحف ، المسطور المكتوب المُوعى في القلوب ، فهو كلام الله ليس بمخلوق .

قال الله تعالى :( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..... ) .

وقال : يُقال فلانٌ حسنُ القراءة ورديُّ القراءة ، ولا يُقال حسنُ القرآن ولا رديّ القرآن ، وإنّما ينسب إلى العباد القراءة ؛ لأنّ القرآن كلام الربّ والقراءة فعل العبد ، وليس لأحدٍ أنْ يشرع في أمر بغير علم ، كما زعم بعضهم أنّ القرآن بألفاظنا وألفاظنا

٣٣٣

به ، شيء واحد ، والتلاوة هي المتلو ، والقراءة هي المقروء...)(١) .

وقال ابن حجر في( مقدمة فتح الباري ) :

( قال حاتم بن أحمد بن محمود : سمعت مسلم بن الحجّاج يقول : لمّا قدِم محمّد بن إسماعيل نيسابور ، ما رأيت عالماً ولا والياً فعَل به أهل نيسابور ما فعلوا به ، فاستقبلوه مِن مرحلتين من البلد أو ثلاث ، فقال محمّد بن يحيى الذهلي في مجلسه : مَن أراد أنْ يستقبل محمّد بن إسماعيل غداً فليستقبله ، فإنّي أستقبله ، فاستقبله محمّد بن يحيى وعامّة علماء نيسابور ، فدخل البلد .

فقال محمّد بن يحيى : لا تسألوه مِن شيء مِن الكلام ، فإنْ أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه ، وشمت بنا كلّ أباضيّ وجهميّ ومرجئ بخراسان ، فازدحم الناس على محمّد بن إسماعيل حتّى امتلأت الدار والسطوح ، فلمّا كان اليوم الثاني أو الثالث مِن يوم قدومه ، قام إليه رجلٌ فسأله عن اللّفظ بالقرآن ، فقال : أفعالنا مخلوقةٌ وألفاظنا من أفعالنا ، فقال : فوقع بين الناس اختلاف ؛ فقال بعضهم : قال لفظي بالقرآن مخلوق ، وقال بعضهم : لم يقل ، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتّى قام بعضهم إلى بعض قال : فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم )(٢)

وأيضاً قال ابن حجر : ( قال الحاكم : حدّثنا أبو بكر ابن أبي الهيثم ، ثنا الفربري قال : سمع محمّد بن إسماعيل يقول : أمّا أفعال العباد مخلوقة ، فقد حدّثنا عليّ ابن عبد الله ، ثنا مروان بن معاوية ، ثنا أبو مالك عن ربعي ، عن حذيفة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله يصنع كلّ صانع وصنعته ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة ٢ : ٣٢٨ ـ ٢٢٩ .

(٢) هدي الساري : ٤٩١ .

٣٣٤

قال : وسمعت عبيد الله بن سعيد ـ يعني أبا قدامة السرخسي ـ سمعت يحيى ابن سعي يقول : لا زلت أسع أصحابنا يقولون إنّ أفعال العباد مخلوقة وقال محمّد بن إسماعيل : حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة ، فأمّا القرآن المبين المكتوب في المصاحف الموعى في القلوب ، فهو كلام الله تعالى غير مخلوق( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ... ) (١) .

وأمّا ما ذكره أخيراً في مقام الدفاع عن البخاري ، وأنّه ( ليس كلّ علمٍ يُفصح به ) فهو اعتراف بجواز التقيّة واستعمالها ، فلماذا يرمون أهل الحقّ ـ المستعملين التقيّة مِن حكّام الجور وعملائهم ـ بأنواع التُهم ؟ ويسمّون ( التقيّة ) بـ ( النفاق ) ؟

وعلى الجملة ، فإنّ قول البخاري بمقالة ( لفظي بالقرآن مخلوق ) وتضليل الذهلي إيّاه بهذا السبب ، أمرٌ ثابت لا ريب فيه ، وكذلك سائر علماء القوم ، يكفّرون مَن قال بذلك .

وهذا الذهبي ينصّ في غير موضع مِن تاريخه على أنّ هذه المقالة هي مذهب الجهميّة .

والعجب أنّ السبكي ينقل عن الذهبي هذا الكلام ـ بترجمة الحسين الكرابيسي ـ ويضطرب أمامه أشدّ الاضطراب .

قال السبكي : ( وممّا يدلّك أيضاً على ما نقوله ، وأنّ السلف لا ينكرون أنّ لفظنا حادثٌ ، وأنّ سكوتهم إنّما هو عن الكلام في ذلك ، لا عن اعتقاده : أنّ الرواة رَوَوا أنّ الحسين بلَغَه كلام أحمد فيه فقال : لأقولنّ مقالةً حتّى يقول

ـــــــــــــــــــ

(١) هدي الساري : ٤٩١ .

٣٣٥

أحمد بخلافها فيُكفّر ، فقال : لفظي بالقرآن مخلوقٌ ، وهذه الحكاية قد ذكرها كثير مِن الحنابلة ، وذكرها شيخنا الذهبي في ترجمة الإمام أحمد وفي ترجمة الكرابيسي ، فانظر إلى قول الكرابيسي فيها إنّ مخالفها يُكفّر ، والإمام أحمد ـ فيما نعتقده ـ لم يخالفها ، وإنّما أنكر أنْ يتكلّم في ذلك .

فإذا تأمّلت ما سطرناه ، ونظرت قول شيخنا في غير موضعٍ من تاريخه ، إنّ مسألة اللفظ ممّا يرجع إلى قولِ جهم ، عرفت أنّ الرجل لا يدري في هذه المضائق ما يقول ، وقد أكثر هو وأصحابه من ذك جهم بن صفوان ، وليس قصدهم إلاّ جعل الأشاعرة ـ الذين قدر الله لقدرهم أنْ يكون مرفوعاً ، ولزومهم للسنّة أنْ يكون مجزوماً به ومقطوعا ـ فرقةً جهميّة .

واعلم أنّ جهماً شرٌّ مِن المعتزلة ـ كما يدريه مَن ينظر الملل والنحل ويعرف عقائد الفِرَق ـ بل هو شرّ مِن القائلين بها ؛ لمشاركته إيّاهم فيما قالوه وزيادته عليهم بطامّات ، فما كفى الذهبي أنْ يشير إلى اعتقاد ما يتبرّأ العقلاء عن قوله ، من قدم الألفاظ الجارية على لسانه ، حتّى ينسب هذه العقيدة إلى مثل الإمام أحمد بن حنبل وغيره مِن السّادات ، ويدّعي أنّ المُخالف فيها يرجع إلى قول جهم ، فليته درى ما يقول ، والله يغفر لنا وله ، ويتجاوز عمّن كان السبب في خوض مثل الذهبي في مسائل هذا الكلام ، وإنّه ليعزّ عليّ الكلام في ذلك .

ولكن كيف يسعنا السكوت ؟ وقد ملأ شيخنا تاريخه بهذه العظائم التي لو وقف عليها العاميّ لأضلّته ضلالاً مبيناً ، ولقد يعلم الله منّي كراهيّة الإزراء لشيخنا ، فإنّه مُفيدنا ومعلّمنا ، وهذا النور اليسير الحديثي الذي عرفناه منه استفدناه ، ولكن أرى أنّ التنبيه على ذلك حتمٌ لازمٌ في الدين )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) طبقات الشافعيّة ٢ : ١١٨ ـ ١٢٠ .

٣٣٦

قول البخاري بخلق الإيمان

وكما قال البخاري بخلق التلفّظ بالقرآن ، كذلك قال بخلق الإيمان ، وهو كفرٌ عند الجمهور وخاصةً الحنفيّة منهم ، يقول صاحب كتاب( الفصول والأحكام ) وهو حفيد صاحب( الهداية ) ما هذا نصّه :

( مَن قال بخلق القرآن فهو كافر ، وكذا مَن قال بخلق الإيمان فهو كافر ورُوي عن بعض السلف أنّه روى عن أبي حنيفة : إنّ الإيمان غير مخلوق وسئل الشيخ الإمام أبو بكر محمّد بن الفضل عن الصّلاة خلف مَن يقول بخلق الإيمان قال : لا تصلّوا خلفه وذكر أبو سهل بن عبد الله ـ وهو أبو سهل الكبير ـ عن كثير مِن السلف : إنْ من قال : القرآن مخلوقٌ فهو كافر ، ومن قال : الإيمان مخلوقٌ فهو كافر .

وحُكي أنّه وقعَت هذه المسألة بفرغانة ، فأُتي بمَحضر منها إلى أئمّة بخارى ، فكتب فيه الشيخ الإمام أبو بكر ابن حامد ، والشيخ الإمام أبو حفص الزاهد ، والشيخ الإمام أبو بكر الإسماعيلي : إنّ الإيمان غير مخلوق ، ومَن قال بخلقه فهو كافر .

وقد خرج كثير مِن الناس مِن بخارى ، منهم محمّد بن إسماعيل صاحب الجامع ، بسبب قولهم : الإيمان مخلوق ) .

ترجمة صاحب الفصول

وصاحب كتاب( الفصول والأحكام ) من العلماء الأعلام المرموقين بين الفقهاء الحنفيّة ، وقد ترجم له الكفوي حيث قال : ( الشيخ الإمام أبو الفتح زين الدين ، صاحب الفصول العادية ، عبد الرحيم بن أبي بكر عماد الدين بن برهان الدين صاحب الهداية عليّ بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني الرشداني .

تفقّه على أبيه عماد الدين ابن صاحب الهداية ، وعلى صاحب مطلع المعاني حسام الدين العلياري ، تلميذ الشيخ الإمام مجد الدين المفتي صاحب الفصول محمّد بن محمود الأسروشني ، وهو تلميذ القاضي الإمام ظهير الدين الحسن بن عليّ المرغيناني ، وهو أخذ العلم عن برهان الدين عبد العزيز بن عمر ابن مازه ، عن شمس الأئمّة السرخسي ، عن

٣٣٧

شمس الأئمّة الحلواي ، عن أبي عليّ النسفي ، عن أبي بكر محمّد بن الفضل ، عن الأُستاذ عبد الله السندمولي ، عن أبي عبد الله بن أبي حفص الكبير ، عن محمّد ، عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى .

رأيت في آخر فصوله : يقول جالب هذه الخصائل النفيسة ، وكاتب هذه المسائل الأنيسة ، أبو الفتح بن أبي بكر بن عليّ بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني نسباً ، والسمرقندي منشأً ، بعد تقديم الحمد لله والصلاة على محمّد عبده ونبيّه ، والثناء عليه وعلى آله في صباح كلّ يوم وعشيّة إلى آخر كلامه .

ثمّ قال : نجزت كتابته في أواخر شعبان سنة إحدى وخمسين وستّمئة )(١) .

تصريح ابن دحية بانحراف البخاري عن أهل البيت

وقد كان ما لاقاه البخاري من الإهانة والتضليل ، من كبار الأئمّة ، كأبيزرعة وأبي حاتم والذهلي وأئمّة بخارى ، جزاءً لانحرافه عن أمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين عليهم‌السلام ، وإزرائه لهم وكتمانه فضائلهم ومناقبهم في دار الدنيا ، الأمر الذي صرَّح به العلاّمة ذو النسبين ابن دحية في كتاب ( شرح أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) حيث قال :

( ترجم البخاري في صحيحه في وسط المغازي ما هذا نصّه : بعث عليّ ابن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجّة الوداع : حدّثني أحمد بن عثمان قال : ثنا شريح بن مسلمة قال : ثنا إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق قال : حدّثني أبي ، عن أبي إسحاق سمعت البراء : بعثنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليم ، ثمّ بعث عليّاً بعد ذلك مكانه فقال : مر أصحاب خالد ، مَن شاء منهم أن يُعقّب معك فليُعَقِّب ، ومَن شاء فليقبل ، فكنت ممّن عَقَّب معه قال : فغنمت أَوَاقي ذات عدد .

ـــــــــــــــــــ

(١) كتائب أعلام أخبار من فقهاء مذهب النعمان المختار ـ مخطوط .

٣٣٨

حدّثني محمّد بن بشار قال : ثنا روح بن عبادة قال : ثنا عليّ بن سويد ابن منجوق ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس ، وكنت أبغض عليّاً ، وقد اغتسل ، فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا ، فلمّا قدمنا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت له ذلك ، فقال :( يا بريدة ، أتبغض عليّاً )؟ فقلت : نعم قال :( لا تبغضه ، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك ) .

قال ذو النسبين رحمه الله :

أورده البخاري ناقصاً مُبتّراً كما ترى ، وهي عادته في إيراد الأحاديث التي مِن هذا القبيل ، وما ذاك إلاّ لسوء رأيه في التنكّب عن هذه السبيل .

وأورده الإمام أحمد بن حنبل كاملاً محقّقاً ، إلى طريق الصحّة فيه موفّقاً ، فقال فيما حدّثني القاضي العدل ، بقيّة مشايخ العراق ، تاج الدين أبو الفتح محمّد بن أحمد بن المندائي ـ قراءة عليه ، بواسط العراق ـ بحقّ سماعه على الثقة الرئيس أبي القاسم ابن الحصين ، بحقّ سماعه على الثقة الواعظ أبي عليّ الحسين ابن المذهب ، بحق سماعه على الثقة أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي ، بحقّ سماعه مِن الإمام أبي عبد الرحمان عبد الله ، بحق سماعه على أبيه إمام أهل السنّة أبي عبد الله أحمد بن حنبل قال : ثنا يحيى بن سعيد ، ثنا عبد الجليل قال : انتهيت إلى حلقةٍ فيها أبو مِجلَز وابنا بريدة ، فقال عبد الله ابن بريدة : أبغضتُ عليّاً بغضاً لم أبغضه أحداً قط .

قال : وأحببت رجلاً لم أُحبّه إلاّ على بغضه عليّاً قال : بعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ، وما أصحبه إلاّ على بغضه عليّاً قال : فأصبنا سبياً قال : فكتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابعث علينا مَنْ يخمّسه قال : فبعث إلينا عليّاً ، وفي السبي وصيفة هي أفضل مَن في السبي ، قال : فخمّس وقسّم ، فخرج ورأسه يقطر ، فقلنا : يا أبا الحسن ، ما هذا ؟ قال : ألم ترَوا إلى الوصيفة التي كانت في السبي ، فإنّي قسّمت وخمّست فصارت في الخُمس ، ثمّ صارت في أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ صارت في آل عليّ ووقعْت بها .

٣٣٩

قال : فكتب الرجل إلى نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلت : ابعثني ، فبعثني مصدّقاً قال : فجعلت اقرأ الكتاب وأقول : صدَق صدَق ، فأمسَك يدي والكتاب قال :( أتبغض عليّاً )؟ قال : قلت : نعم قال :( فلا تبغضه ، وإنْ كنت تحبّه فازدد لهُ حبّاً ، فو الذي نفس محمّدٍ بيده ، لنصيب آل عليّ في الخُمس أفضل مِن وصيفة ) . قال : فما كان مِن الناس أحد بعد قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبّ إليّ مِن عليّ .

قال عبد الله : فو الذي لا إله غيره ، ما بيني وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

في هذا الحديث غير أبي بريدة )(١) .

وقال ابن دحية في موضعٍ آخر من كتابه المذكور ، بعد نقل حديثٍ عن مسلم :

( بدأنا بما أورده مسلم ؛ لأنّه أورده بكماله ، وقطّعه البخاري وأسقط منه على عادته كما ترى ، وهو ممّا عِيب عليه في تصنيفه على ما جرى ، ولا سيّما إسقاطه لذكر عليّرضي‌الله‌عنه ) .

ترجمة أبي الخطّاب ابن دحية

ولا يخفى أنّ أبا الخطّاب ابن دحية مِن أكبر علماء القوم وأشهر حفّاظهم .

قال ابن خلّكان بترجمته :

( أبو الخطّاب عُمر بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن الجميل بن فَرَح بن خلف بن قَومِس بن مُزْلال بن مَلاّل بن بدر بن دِحْية بن فروة الكلبي ، المعروف بذي النسَبَين ، الأندلسي البلنسي الحافظ نقلتُ نسبَه على هذه الصّورة من خطّه .

كان يذكر أنّ أُمّه : أمة الرحمان بنت أبي عبد الله بن أبي البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( رضي الله عنهم ) ، فلهذا كان يكتب بخطّه : ذو النّسبين بين دحية والحسين ، وكان يكتب أيضاً سبط أبي البسام ، إشارة إلى ذلك .

ـــــــــــــــــــ

(١) المستكفى في أسماء النبيّ المصطفى ـ مخطوط .

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432