العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)9%

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 432

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192937 / تحميل: 8371
الحجم الحجم الحجم
العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

العدل عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

٣٠١

المبحث الرابع

التناسب بين الذنوب والعقاب الأخروي(١)

قد يستشكل البعض بأنّ العقوبة الأُخروية قاسية من حيث الكميّة والكيفية، وطويلة من حيث المدّة بحيث لا يوجد تناسب بينها وبين مخالفة الإنسان لأوامر ونواهي اللّه تعالى، وهذا مما لا ينسجم مع العدل الإلهي.

جواب هذا الإشكال:

إنّ الإجابة على هذا الإشكال تتطلّب بيان أنواع العقوبة التي تنقسم إلى عدّة أنواع.

أنواع العقوبات:

أوّلاً: العقوبة الاعتبارية(٢) :

وهي العقوبة التي تقنّن، ليكون أثرها الردع عن ارتكاب المخالفة، وتكون هذه العقوبة من قبيل العقوبات الجزائية المنتشرة في المجتمعات البشرية والموضوعة بواسطة التقنين الإلهي وغير الإلهي.

فائدة العقوبة الاعتبارية:

الردع عن ارتكاب المخالفة والحيلولة دون تكرارها من قبل صاحب المخالفة أو من قبل غيره.

____________________

١- انظر: العدل الإلهي، مرتضى المطهري، ترجمة محمّد عبد المنعم الخاقاني: الفصل السادس: الجزاء الأخروي، ثلاثة أنواع من المكافأة، ص٢٥٥ - ٢٧٠.

٢- إنّ المقصود من "الاعتبار" في هذا المقام هو أنّ العلاقة بين المخالفة والعقوبة هنا "جعلية"، بحيث يتم الاتّفاق عليها، وليست العلاقة هنا "واقعية" أو "حقيقية".

٣٠٢

التناسب بين المخالفة والعقوبة الاعتبارية:

لا يخفى أنّ الضرورة توجب وجود التناسب بين العقوبة الاعتبارية وبين المخالفة، لأنّ الهدف من هذه العقوبة هو الردع عن ارتكاب المخالفة، وليس الهدف منها التشفّي والانتقام، ولهذا ينبغي أن يراعي المقنّن لهذا النمط من العقوبة جانب التناسب بين المخالفة والعقوبة.

تنبيه:

إنّ العقوبة الاعتبارية الرادعة تكون نافعة في الحياة الدنيوية فقط، وهي غير نافعة في الحياة الأُخروية أبداً، لأنّ الحياة الأُخروية ليست دار عمل حتّى يكون المقصود من معاقبة فاعل القبيح أن لا يرتكب القبيح مرّة أُخرى.

ثانياً: العقوبة السببيّة:

إنّ اللّه تعالى جعل نظام الأسباب في هذا العالم، بحيث يكون لبعض الأُمور والأسباب أثر وضعي يناله الإنسان عند تخطّيه لحدود هذا النظام.

مثال:

١ - إنّ اللّه تعالى خلق النار سبباً للإحراق، والشخص الذي لا يبالي بهذا النظام السببي ويضع يده في النار، فإنّه سيصاب بالأذى، ويكون هذا الأذى عقوبة له إزاء مخالفته لهذا النظام.

٢ - إنّ تناول الإنسان للسم يؤدّي - وفق نظام الأسباب - إلى تسمّمه أو موته، لأنّ التسمّم أو الموت أثر وضعي ونتيجة طبيعية لشرب السمّ، وكلّ من لا يراعي هذا الأمر، فهو لا ينال سوى عقوبة مخالفته لنظام الأسباب.

تنبيه:

إنّ القاعدة الأساسية الحاكمة على العقوبة السببية هي العلّة والمعلول، فالنار وشرب السم علّة، والاحتراق والتسمّم أو الموت معلول لهما، وإذا جاءت العلّة التامّة فإنّ المعلول يأتي تبعاً لها بصورة قاطعة.

٣٠٣

التناسب بين المخالفة والعقوبة السببية:

إنّ العقوبة السببية التي ينالها الإنسان نتيجة تجاوزه لنظام الأسباب ليست عقوبة اعتبارية وقانونية حتّى يقال لابدّ من مراعاة التناسب بين المخالفة والعقوبة، بل إنّ لهذه العقوبة أثراً وضعياً يعمل وفق نظام الأسباب الذي جعله اللّه تعالى في هذا العالم.

بعبارة أُخرى:

إنّ مسألة التناسب بين المخالفة والعقوبة تتعلّق بالعقوبة الاعتبارية التي تكون فيها العلاقة بين المخالفة والعقوبة علاقة اعتبارية واتّفاقية.

وأمّا إذاكانت العلاقة بين المخالفة والعقوبة علاقة واقعية، فلا يكون مجال للحديث عن مسألة التناسب بين المخالفة والعقوبة، لأنّ العقوبة فيها تكون نتيجة لازمة للعمل.

مثال:

١ - إنّ من الخطأ أن يقال حول من يشرب السم فيموت: إنّ هذا المسكين قد ارتكب مخالفة لمدّة خمس دقائق، فلماذا عوقب بهذا العقاب القاسي الذي أدّى إلى موته؟

٢ - إذا قيل لشخص: لا تلق بنفسك من قمّة الجبل وإلاّ سيكون جزاؤك الموت، فإنّه لا يحق له الاعتراض قائلا: ما هو التناسب بين معاندتي وهذا الجزاء الشاق.

٣ - إنّ غفلة السائق لحظة واحدة قد تؤدّي به إلى أضرار فادحة تدوم مدّة العمر، والعمل هنا يتمّ فترة وجيزة ولكن العقوبة تكون دائمية، ومع هذا لا يصح القول بأنّ العقوبة لماذا لا تناسب المخالفة في هذا المجال؟

ثالثاً: العقوبة التكوينية:

ترتبط العقوبة الأخروية بالذنوب ارتباطاً تكوينياً، وهذا الارتباط أقوى من العقوبة التي ذكرناها في القسم السابق، بحيث لا تكون فيه الصلة بين المخالفة والعقوبة مثل العقوبة الاعتبارية ولا مثل العقوبة السببية، وإنّما تكون الصلة بينهما

٣٠٤

صلة "الاتّحاد".

معنى ذلك:

إنّ الثواب الذي يجده المحسن في الآخرة عبارة عن تجسيم لأعماله الحسنة التي قام بها في الدنيا.

وإنّ العقاب الذي يجده المسيء في الآخرة عبارة عن تجسيم لأعماله السيئة التي ارتكبها في الدنيا.

الشواهد القرآنية:

١ -( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْس ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) [آل عمران: ٣٠]

٢ -( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) [الكهف: ٤٩]

٣ -( يَوْمَئِذ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّة شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة: ٦ - ٨]

٤ -( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) [النساء: ١٠] أي: إنّ الذين يأكلون مال اليتيم ظلماً، فهم - في الواقع - يأكلون ناراً، ولكنهم لا يدركون هذه الحقيقة في هذه الدنيا، وبمجرّد انتقالهم إلى عالم الآخرة سيجدون النار في بطونهم.

٥ -( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَد... ) [الحشر: ١٨]أي: سيحصد الإنسان في الآخرة ما زرعه لنفسه في الدنيا، ولهذا ينبغي أن يكون الإنسان حذراً فيما يقدّمه لآخرته.

النتيجة:

إنّ الجزاء الذي يحصل عليه الإنسان في الآخرة تجسيم لأعماله التي قام بها في الدنيا، وإنّ النعيم والعذاب في الآخرة هما نفس العمل الصالح والسيء الذي قام به الإنسان في الدنيا.

٣٠٥

تنبيه:

إنّ القول بتجسيم أعمال الإنسان لا يعني حصر النعيم والعذاب الأخروي في هذا المجال وإنكار جنة ونار منفصلتين عن وجود الإنسان وعمله، لأنّ النصوص الدينية تبيّن بوضوح بأنّ لكلٍّ من الجنة والنار وجودين مستقلين يرد إليهما الإنسان حسب أعماله.

التناسب بين المخالفة والعقوبة التكوينية:

إنّ العقوبة التكوينية التي يجدها الإنسان في الآخرة لها علاقة تكوينية بالمخالفة التي ارتكبها في الدنيا، وهذه العقوبة عبارة عن حضور نفس المخالفة يوم القيامة، فلهذا لا يوجد مجال للبحث حول التناسب وعدمه في هذا النمط من العقوبات التي هي عين المخالفة وتجسيم لها.

الغرض الإلهي من العقاب الأخروي:

تبيّن مما ذكرناه في مبحث التناسب بين المخالفة والعقاب الأُخروي، أنّ السؤال حول الغرض الإلهي من العقاب الأُخروي غير صحيح، لأنّ العذاب الأُخروي أثر وضعي للأعمال القبيحة التي ارتكبها الإنسان في الدنيا، وهو عبارة عن حضور نفس العمل القبيح يوم القيامة.

بعبارة أُخرى:

إنّ العقوبة الأُخروية تجسيم للذنوب والمعاصي التي ارتكبها الإنسان في الدنيا، وهذه العقوبة نظير احتراق يد من يضع يده في النار فتحترق، فكما لا يصح السؤال عن غرض هذا الاحتراق، فإنّه لا يصح السؤال عن غرض العقاب الأُخروي، وقد قال تعالى:( وَما كَانَ الله ليظَلمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [العنكبوت: ٤٠].

٣٠٦

المبحث الخامس

مناقشة رأي الأشاعرة حول الثواب والعقاب

يرى الأشاعرة بأنّ الثواب والعقاب من أفعال اللّه عزّ وجلّ، واللّه تعالى يفعل بعباده ما يشاء، فإن شاء أثابهم، وإن شاء عاقبهم.

أقوال بعض علماء أهل السنة:

قال الفضل بن روزبهان: "مذهب الأشاعرة... أ نّه [تعالى] لو عذّب عباده بأنواع العذاب من غير صدور الذنب عنهم يجوز له ذلك... فالعباد كلّهم ملك للّه تعالى، وله التصرّف فيهم كيف يشاء"(١) .

قال القاضي عضد الدين الإيجي: "الثواب فضل وعد به، فيفي به من غير وجوب"(٢) .

قال سعد الدين التفتازاني في كتابه شرح المقاصد: "لا يجب على اللّه تعالى شيء، لا ثواب على الطاعة ولا العقاب على المعصية"(٣) .

قال أبو حامد الغزالي: "ندّعي أ نّه تعالى إذا كلّف العباد فأطاعوه، لم يجب عليه الثواب، بل إن شاء أثابهم، وإن شاء عاقبهم، وإن شاء أعدمهم ولم يحشرهم، ولا

____________________

١- دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج١، المسألة ٣، المبحث ١١، المطلب ٧، مناقشة الفضل، ص٤٢٢.

٢- المواقف، عضد الدين الإيجي: ج٣، الموقف ٦، المرصد ٢، المقصد ٦، ص٤٩٧.

ثم علّل المؤلف سب ضرورة وفائه تعالى بالثواب وإن لم تبلغ هذه الضرورة حدّ الوجوب قائلا: "لأنّ الخلف في الوعد نقص، تعالى اللّه عنه".

٣- شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج٥، المقصد ٦، الفصل ٢، المبحث ٩، ص١٢٧.

ولا يخفى أن ما أنكره سعد الدين التفتازاني هو الوجوب، ولكنه ذكر: "إلاّ أنّ الخلف في الوعد نقص لا يجوز أن ينسب إلى اللّه تعالى، فيثيب المطيع البته إنجازاً لوعده..." شرح المقاصد: ٥/١٢٦.

٣٠٧

يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين!"(١) .

يرد عليه:

ناقشنا هذا الرأي في الفصول السابقة، وملخّص ما يمكن الإشارة إليه في هذا المقام:

١ - إنّ اللّه تعالى يفعل ما يشاء، ولكن لا يخفى بأنّ اللّه تعالى حكيم وعادل، وهو لا يشاء جَزافاً وعبثاً، وإنّما تكون مشيئته وفق حكمته وعدله، ولهذا لا يصدر من اللّه تعالى أي ظلم أو فعل قبيح.

٢ - إنّ ملكية الشيء لا تعني امتلاك المالك حقّ التصرّف بها على خلاف موازين الحكمة والعدل.

ولهذا نجد العقلاء يذمّون من يتلف أمواله بلا سبب عقلائي، مع علمهم بمالكيته لتلك الأموال.

واللّه تعالى على رغم كونه مالكاً لكلّ شيء وقادراً على كلّ شيء، ولكنه مع ذلك حكيم، وإنّ حكمته تمنعه من فعل القبيح.

ولهذا قال تعالى:( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْم وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) [هود: ١١٧].

____________________

١- الاقتصاد في الاعتقاد، أبو حامد الغزالي: القطب الثالث، الدعوى الخامسة، ص١١٦.

٣٠٨

٣٠٩

الفصل العاشر

اللطف

معنى اللطف

أقسام اللطف

وجوب اللطف

أثر اللطف

تنبيهات حول اللطف

اللطف والمفسدة

الإشارة إلى اللطف الإلهي في القرآن الكريم

مناقشة رأي الأشاعرة حول اللطف الإلهي

٣١٠

٣١١

المبحث الأوّل

معنى اللطف

معنى اللطف (في اللغة)(١)

إنّ للّطف في الصعيد اللغوي عدّة معاني، منها: الرفق واللين والدنو.

فيقال: لطف به، أي: رفق به.

وألطف اللّه بالعبد، أي: أرفق به، وأوصل إليه ما ينفعه برفق، ووفّقه وعصمه، فهو لطيف.

ومن معاني اللطف في اللغة أيضاً: الدقّة والظرافة، فهو ضدّ الضخامة والكثافة.

والاسم: اللطافة.

فيقال: لطف الشيء، أي: صغر ودقّ.

ولطف اللّه بهذا المعنى، أي: دقّته وظرافته في خلق الأشياء.

معنى اللطف (في الاصطلاح العقائدي):

اللطف: مايدعو المكلَّف إلى فعل الطاعة وترك المعصية بحيث يجعله أقرب إلى امتثال أوامر اللّه تعالى وأبعد عن ارتكاب نواهيه(٢) .

____________________

١- انظر: أقرب الموارد، المصباح المنير، المعجم الوسيط، المنجد في اللغة: مادة (لطف).

٢- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب: الكلام في اللطف، ص١٨٦.

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص١٣٠.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، القول في اللطف و...، ص٢٩٧.

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثالث، ص١١٧.

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص٢٥٣.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (١٢)، ص٤٤٤.

إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص٢٧٦.

اللوامع الالهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الثاني، ص٢٢٧.

٣١٢

الشرط الأساس في اللطف (بمعناه العقائدي)

إنّ الشرط الأساس في اللطف: أن لا يبلغ حدّ القهر والإلجاء، بل يكون المكلَّف مع وجود هذا اللطف مختاراً في فعل الطاعة وترك المعصية(١)(٢) .

دليل ذلك:

إنّ "الاختيار" هو الشرط الأساس للتكليف، وبما أنّ بلوغ اللطف حدّ القهر والإلجاء ينافي الاختيار، فلهذا يشترط أن لا يبلغ اللطف حدّاً ينافي الاختيار(٣) .

تنبيه:

إنّ الهدف الأساس من اللطف هو:

١ - تقوية الدواعي إلى فعل الخير.

٢ - تقوية الصوارف عن فعل الشر.

ولهذا يكون اللطف بمثابة:

١ - التشجيع على فعل الخير، وإزاحة العقبات أمام الإنسان، ليكون أقرب إلى فعل الطاعة.

٢ - التنفير من فعل الشر، وجعل العقبات أمام الإنسان، ليكون أبعد عن فعل المعصية.

____________________

١- انظر: كتب المنقذ من التقليد، قواعد المرام، مناهج اليقين، إرشاد الطالبين واللوامع الإلهية المذكورة في المصدر السابق.

٢- يخرج بهذا القيد "القدرة" و"الآلات" المطلوبة لأداء التكليف.

لأنّ المكلَّف لا يستطيع أداء التكليف من دون "القدرة" و"الآلات"، ولكنه يستطيع أداء التكليف من دون "اللطف".

ويعود السبب إلى أنّ "اللطف" مجرّد "تحفيز" و"بعث" وليس له أي أثر في الصعيد الخارجي.

انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، المبحث الخامس، ص٢٥٢.

إرشاد الطالبين، مقداد السيوري، مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص٢٧٧.

٣- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (١٢)، ص٤٤٤.

إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص٢٧٧.

٣١٣

الصلة بين "اللطف" وبين "التوفيق" و"العصمة"(١) :

إنّ اللطف هو ما يبعث ويحفّز المكلَّف على فعل الطاعة ويزجره عن فعل المعصية: وفي هذه الحالة:

١ - إذا استجاب الإنسان لهذا البعث والتحفيز، واختار فعل الطاعة:

فسيطلق على هذا "اللطف" اسم "التوفيق".

لأنّ الإنسان استطاع في ظلّ هذا اللطف أن ينال التوفيق في فعل الطاعة.

٢ - إذا استجاب الإنسان لهذا البعث والتحفيز، وترك فعل المعصية:

فسيطلق على هذا "اللطف" اسم "العصمة".

لأنّ الإنسان استطاع في ظلّ هذا اللطف أن يعصم نفسه من فعل المعصية.

توضيح ذلك:

١ - يُقال: "وفّق اللّه فلاناً على فعل الطاعة".

أي: هيّأ اللّه له ما يبعثه ويحفّزه على فعل الطاعة، فاستجاب هذا الشخص باختياره لهذا البعث والتحفيز، وانتفع مما هيّأ اللّه تعالى له من أسباب، حتّى تمكّن بذلك أن يكون فعله موافقاً لطاعة اللّه تعالى.

٢ - يقال: "عصم اللّه فلاناً من فعل المعصية".

أي: هيّأ اللّه له ما يبعثه ويحفّزه على ترك المعصية، فاستجاب هذا الشخص باختياره لهذا البعث والتحفيز، وانتفع مما هيّأ اللّه تعالى له من أسباب، حتّى تمكّن بذلك أن يعصم نفسه ويمنعها من فعل المعصية.

____________________

١- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في اللطف، ص١٨٦.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، القول في اللطف و...، ص٣٠٦.

إرشاد الطالبين،العلاّمة الحلّي: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص٢٧٧.

٣١٤

المبحث الثاني

أقسام اللطف

ينقسم اللطف باعتبار فاعله إلى(١) :

١ - ما يكون من فعل اللّه تعالى.

٢ - ما يكون من فعل المكلَّف في حقّ نفسه.

٣ - ما يكون من فعل المكلَّف في حقّ غيره.

أمثلة ذلك:

أولاً: أمثلة اللطف الذي يكون من فعل اللّه تعالى:

١ - بعث الأنبياء ونصب الحجج ودعمهم بالمعاجز والكرامات وغيرها مما تجعل المكلَّفين أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.

٢ - جعل الشريعة سمحاء بعيدة عن التعقيد أو الغموض.

٣ - الوعد والوعيد واستخدام اسلوب الترغيب والترهيب من أجل إثارة رغبة المكلَّف إلى فعل الطاعة وإثارة الرهبة إزاء فعل المعصية.

٤ - التدخّل الإلهي لإزالة العوائق والحواجز الموجودة في طريق الطاعة وجعل الموانع في طريق المعصية.

____________________

١- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص١٣٢.

المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج١، القول في اللطف و...، ص٣٠٤.

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثالث، ص١١٨.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (١٢)، ص٤٤٥.

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص٢٥٤.

إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص٢٧٦.

اللوامع الالهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الثاني، ص٢٢٧.

٣١٥

٥ - الآلام التي جعلها اللّه تعالى في بعض الأحيان وسيلة لاستيقاظ الغافلين وعودتهم إلى الإيمان بعد الابتعاد عنه.

الثاني: أمثلة اللطف الذي يكون من فعل المكلَّف في حقّ نفسه:

١ - تعلّم الأحكام الشرعية وغيرها من الأمور التي يبيّنها اللّه تعالى للمكلَّفين، ليكونوا أقرب إلى امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه.

٢ - توفير الإنسان لنفسه الأرضية والأجواء المناسبة التي تحفّزه على فعل الطاعة وترك المعصية.

الثالث: أمثلة اللطف الذي يكون من فعل المكلَّف في حقّ غيره:

١ - تبليغ الأنبياء للرسالة الإلهية، وبذلهم المزيد من الجهد من أجل دعوة الناس إلى الهداية وسبيل الحقّ.

٢ - قيام بعض الناس بمهمّة تلقّي العلوم والمعارف الإلهية من أجل توعية الناس ورفع مستواهم الديني، وهذه المهمّة هي الملقاة على عاتق العلماء والدعاة.

٣ - فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أوجبها اللّه تعالى على جميع المكلَّفين، ليكونوا في ظلّها أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.

٤ - المبادرة إلى أي عمل يؤدّي إلى توفير الأجواء المناسبة لامتثال الأوامر الإلهية والابتعاد عن نواهيه، من قبيل: بناء الأماكن التي تقرّب العباد إلى اللّه تعالى، أو دعم المشاريع التي تهيّىء الأرضية لفعل الطاعات وترك المعاصي.

٣١٦

المبحث الثالث

وجوب اللطف

إنّ حكمة اللّه تعالى وجوده وكرمه تقتضي منه اللطف بالعباد.

دليل وجوب اللطف:

إنّ غرض اللّه تعالى من تكليف العباد هو أن يبلغوا الكمال عن طريق فعل الطاعة وترك المعصية.

فإذا كان هناك شيء يؤدّي فعله إلى:

١ - أن يختار المكلَّف فعل الطاعة ويترك فعل المعصية.

٢ - أن يكون المكلَّف أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.

فإنّ الحكمة الإلهية تقتضي فعل ذلك الشيء.

لأنّ عدم فعله يستلزم نقض الغرض من تكليف العباد.

ونقض الغرض قبيح ومناف للحكمة.

واللّه تعالى منزّه عن ذلك.

فنستنتج بأنّ الحكمة الإلهية تقتضي فعل اللطف(١) .

____________________

١- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في اللطف، ص١٩٤.

شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: حقيقة اللطف ووجوبه، ص١٠٧.

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، ص١٠٢.

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثالث، ص١١٨.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (١٢)، ص٤٤٤.

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص٢٥٣.

إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، تحقيق حول قاعدة اللطف، ص٢٧٦ - ٢٨٨.

اللوامع الالهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الثاني، ص٢٢٧.

٣١٧

مثال ذلك:

إذا دعا أحد الأشخاص غيره إلى ضيافته.

وكان غرض صاحب الدعوة أن يأتي ذلك الشخص المدعو إلى هذه الضيافة.

وعلم صاحب الدعوة بأنّ المدعو لا يأتيه إلاّ إذا استعمل معه أسلوباً معيّناً.

فإذا لم يستعمل صاحب الدعوة هذا الأسلوب مع المدعو.

فإنّه سيكون ناقضاً لغرضه(١) .

تنبيه:

ذهب الشيخ المفيد إلى أنّ وجوب اللطف على اللّه تعالى يكون من جهة اقتضاء جوده وكرمه.

وليس هذا الوجوب من جهة اقتضاء عدله تعالى.

ولهذا فإنّ امتناع اللّه تعالى عن اللطف لا يكون ظلماً.

وإنّما يكون منافياً للجود والكرم الإلهي(٢) .

____________________

١- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثالث، ص١١٨.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (١٢)، ص٤٤٥.

اللوامع الالهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الثاني، ص٢٢٧.

٢- انظر: أوائل المقالات، الشيخ المفيد: القول: ٢٨، القول في اللطف والأصلح، ص٥٩.

٣١٨

المبحث الرابع

أثر اللطف

ليس اللطف الإلهي علّة تامّة تجبر المكلَّفين على فعل الطاعة وترك المعصية.

بل اللطف عبارة عن "بعث" و"تحفيز" فقط.

فإذا لم يستجب بعض المكلّفين لهذا اللطف.

فإنّهم سيحرمون أنفسهم من هذا اللطف نتيجةً لسوء اختيارهم(١) .

تفريعات ذلك:

أولاً: إنّ عدم تأثير اللطف الإلهي على الكافر لا يعني:

"عدم وجود هذا اللطف بذريعة أنّه لو كان لترك أثره"

لأنّ اللطف الإلهي مجرّد "بعث" و"تحفيز" منه تعالى بحيث يجعل المكلَّف أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.

وليس اللطف الإلهي إرادة حتمية منه تعالى ليترك أثره على المكلّف بصورة قهرية.

ثانياً: إنّ عدم تأثير اللطف الإلهي على الكافر لا يعني:

"عجز اللّه عن هداية الكافر".

لأ نّه تعالى شاء أن يكون الإنسان مختاراً في أفعاله العبادية.

واللطف الإلهي - في الواقع - مجرّد "بعث" و"تحفيز" منه تعالى بحيث يكون

____________________

١- انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، المبحث الخامس، ص٢٥٤.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (١٢)، ص٤٤٦.

٣١٩

الإنسان معه أقرب إلى امتثال أوامر اللّه تعالى والانتهاء عن نواهيه.

وليس اللطف الإلهي إرادة حتمية وتكوينية منه تعالى ليكون عدم تأثيره دالاً على العجز الإلهي.

ثالثاً: لو كان اللطف الإلهي أمراً يجبر الإنسان على الإيمان ولو كان كافراً، فإنّ الكفّار سيحتجّون على اللّه تعالى بأنّهم لم يؤمنوا لأنّه تعالى حرمهم من لطفه.

ويكون بذلك للكفّار حجّة على اللّه تعالى.

ولكن الأمر ليس كذلك، وإنّما الحجّة البالغة للّه تعالى.

واللطف عبارة عن "باعث" و"محفّز" فقط.

ويبقى الإنسان هو المسؤول عن أفعاله الاختيارية(١) .

____________________

١- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج٣، تفسير آية ١٦٥ من سورة النساء ص٢١٨.

٣٢٠

المبحث الخامس

تنبيهات حول اللطف

١ - إنّ الإنسان قد يخطىء في تشخيص اللطف، فيحكم على ما فيه مفسدة بأنّه من اللطف، وهو غير ملتفت إلى وجود المفسدة فيه.

ولهذا ينبغي أن لا يحكم الإنسان على شيء بأ نّه من اللطف إلاّ بعد بلوغ مرحلة اليقين بانتفاء المفسدة من ذلك الشيء(١) .

٢ - إنّ اللطف لا ينحصر تحقّقه دائماً في فعل معيّن، بل قد تكون مجموعة أفعال تؤدّي كلّ واحدة منها دور اللطف المطلوب(٢) .

٣ - إنّ للّه تعالى لطفاً لا يمنحه إلاّ لمن ينتفع منه.

وأمّا الّذين لا ينفعهم هذا النمط من اللطف، ولا يؤدّي بهم إلى فعل الطاعة وترك المعصية، فإنّه تعالى سيحرمهم من هذا اللطف(٣) .

بعبارة أخرى:

إنّ اللطف الإلهي ينقسم إلى قسمين:

أوّلاً: لطف عام

____________________

١- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثالث، المسألة (١٢)، ص٤٤٥.

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الخامس، ص٢٥٣.

٢- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص١٣٣.

٣- ذهب المحقّق الحلّي والشيخ سديد الدين الحمصي إلى حرمان الكافر من اللطف بصورة مطلقة، ولكن التقسيم المذكور لاحقاً أكثر دقّة وشمولية.

انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، ص١٠٢.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، القول في اللطف و...، ص٣٠٣.

٣٢١

وهو من قبيل إرسال الرسل لهداية الناس.

وهذا اللطف يفعله اللّه لجميع المكلّفين إتماماً للحجّة عليهم.

ثانياً: لطف خاص

وهو من قبيل دعم المكلَّفين بما يجعلهم أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية.

ويكون هذا اللطف للعباد الذين ينتفعون منه، وأمّا الذين لا ينتفعون منه فإنّهم هم الذين يحرمون أنفسهم من هذا اللطف، لأ نّه تعالى لو يعلم انتفاعهم من لطفه هذا لفعله بهم.

قال تعالى:( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لاََسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) [الأنفال: ٢٣].

أي: لو علم اللّه انتفاع هؤلاء المشركين من اللطف، لألطف عليهم وأسمعهم الجواب عن كلّ ما يسألونه، ولكنه علم بأنّهم لا ينتفعون ولا يفيدهم هذا اللطف، فلهذا أهملهم.

وقال الشيخ الطبرسي حول تفسير هذه الآية: "وفي هذا دلالة على أنّ اللّه تعالى لا يمنع أحداً من المكلّفين اللطف، وإنّما لا يلطف لمن يعلم أنّه لا ينتفع به"(١) .

ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول قوله تعالى:( تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمات لا يُبْصِرُونَ ) [البقرة: ١٧].

قال(عليه السلام): "إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال، منعهم المعاونة واللطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم"(٢) .

____________________

١- مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج٤، تفسير آية ٢٣ من سورة الأنفال، ص ٨١٨.

٢- عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق: ج١، باب ١١، ح١٦، ص١١٣.

٣٢٢

المبحث السادس

اللطف والمفسدة

إنّ ما يقابل "اللطف" هو "الإفساد".

وتطلق "المفسدة" على مايدعو المكلَّف إلى فعل المعصية وترك الطاعة، بحيث يكون المكلَّف مع هذه الدعوة أقرب إلى فعل ما نهاه اللّه تعالى عنه، وأبعد عن امتثال أوامره تعالى(١) .

تنبيهات:

١ - لا يصح أبداً نسبة الإفساد إلى اللّه تعالى.

لأنّ الإفساد في جميع الأحوال قبيح، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح.

٢ - لا يمكن القول بأنّ اللّه تعالى بما أنّه خلق "الشهوة" في الإنسان، فإنّه المسبِّب في إفساده.

لأنّ الشهوة بحدّ ذاتها ليست مفسدة.

وإنّما الإفساد يكمن في طغيانها(٢) .

وطغيان الشهوة أمر يرتبط باختيار الإنسان.

وقد أمر اللّه تعالى الإنسان بضبط شهواته والسيطرة على زمامها.

ولهذا لو أدّت الشهوة إلى الإفساد بسبب طغيانها.

____________________

١- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الرابع، ص١٣٠.

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، ص١٠١.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، القول في اللطف و...، ص٢٩٨.

٢- بعبارة أخرى: إنّ الشهوة بذاتها أمر ضروري للإنسان، وهي التي تدفع الإنسان إلى نيل متطلّباته في الحياة. ولا تعتبر الشهوة مصدراً للإفساد إلاّ بعد أن يطلق الإنسان العنان لها ويفسح لها مجال الطغيان وتجاوز الحدّ.

٣٢٣

فإنّ الإنسان يكون هو المسؤول عن ذلك، لأنّه هو السبب في طغيانها.

ولا يصح نسبة هذا الإفساد إلى اللّه سبحانه وتعالى.

٣ - إنّ بعض المكلّفين - سواء كانوا من الجن والإنس - يسيؤون الاستفادة من الاختيار الذي مكّنهم اللّه تعالى منه، فيختارون سبيل الغي والضلال، ثمّ يصبحون بعد ذلك مصدراً لإفساد الآخرين.

ومثال ذلك: إبليس والشياطين وغيرهم من الإنس والّذين يفعلون ما يقرّب الآخرين إلى فعل المعاصي ويبعّدهم عن فعل الطاعات.

وينسب "الإفساد" في هذا المقام إلى هؤلاء العصاة، لأنّهم اتجهوا نحوه باختيارهم.

ولا يصح نسبة هذا الإفساد إلى اللّه تعالى.

لأنّه تعالى أمر الإنس والجن بفعل ما هو حسن، ونهاهم عن فعل ما هو قبيح، ويكون هؤلاء هم المسؤولون فيما لو اختاروا سبيل الإفساد.

فينسب الإفساد إليهم ولا ينسب إلى اللّه تعالى أبداً.

٤ - إنّ اللّه تعالى لا يفعل الإفساد أبداً، لأنّه حكيم، ولكنّه قد يحجب ألطافه عن البعض لدواع مختلفة من قبيل معاقبتهم إزاء ارتكابهم المعاصي أو نتيجة علمه تعالى بعدم انتفاعهم من اللطف فيما لو منحهم ذلك(١) .

ومن هذا القبيل قوله تعالى:

( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَة لايُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لايَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) [الأعراف: ١٤٦]

( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) (٢)

____________________

١- سنبيّن هذا الموضوع بصورة مفصّلة في الفصل الثاني عشر: الهداية والإضلال.

٢- ورد بيان معنى هذه الآية في المبحث السابق.

٣٢٤

[الأنفال: ٢٣].

٣٢٥

المبحث السابع

الإشارة إلى اللطف الإلهي في القرآن الكريم

١ -( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَد أَبَداً ) [النور: ٢١].

أي: لولا ألطاف اللّه بكم ومعونته لكم، لكنتم أقرب إلى المفسدة، ولكنه تعالى قد ألطف بكم وأعانكم من منطلق رحمته بحيث جعلكم أقرب إلى تزكية أنفسكم(١) .

٢ -( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً ) [النساء:٨٣].

أي: لولا الألطاف الإلهية بكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليلاً(٢) .

٣ -( وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) [المؤمنون: ٧٥].

أي: إنّنا لو كشفنا الضرّ عنهم لاستمروا في طغيانهم يتردّدون، وهذا ما فيه فساد لهم، ولهذا فإنّنا نلطف بهم ولا نرفع هذا الضرّ عنهم(٣) .

٤ -( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّة وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ) [الزخرف: ٣٣ - ٣٤].

أي: لو فعل اللّه ما ذكره لاجتمع الناس على الكفر، ولكنّه تعالى لم يفعل ذلك لما

____________________

١- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج٧، تفسير آية ٢١ من سورة النور، ص٢١٠.

٢- انظر: المصدر السابق: ج٣، تفسير آية ٨٣ من سورة النساء، ص١٢٦.

٣- انظر: المصدر السابق: ج٧، تفسير آية ٧٥ من سورة المؤمنين، ص١٨١.

٣٢٦

فيه من المفسدة، بل يفعل اللّه ما فيه اللطف للعباد حفاظاً عليهم من الانجراف في أودية الكفر والضلال(١) .

____________________

١- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطوسي: ج٩، تفسير آية ٤٣ و ٤٤ من سورة الزخرف، ص٧٢.

٣٢٧

المبحث الثامن

مناقشة رأي الأشاعرة حول اللطف الإلهي

يعتقد الأشاعرة بأنّ اللّه تعالى هو الذي يخلق أفعال العباد سواء كانت هذه الأفعال طاعة أو معصية، ويذهب هؤلاء إلى "أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه تعالى وحده"(١) .

ومن هذا المنطلق عرّف الأشاعرة اللطف بأنّه عبارة عن عدم خلق اللّه قدرة فعل المعصية في العبد.

ومن هنا لا يعصي الشخص الذي يشمله اللطف الإلهي "إذ لا قدرة له على المعصية"(٢) .

وعرّف بعض الأشاعرة اللطف بأنّه يعني: أن لا يخلق اللّه تعالى الذنب في العبد(٣) .

يرد عليه:

يستلزم هذا الرأي القول بالجبر، لأنّ من لا يمتلك القدرة على فعل المعصية يكون مجبوراً على عدم فعلها.

ويترتّب عليه عدم استحقاق الإنسان الثواب بتركه للمعصية، لأنّه كيف يستحق الثواب على تركه للمعصية وهو لا يمتلك القدرة على فعلها. وإنّما يكون الثواب لمن يمتلك القدرة على فعل المعصية، ولكنّه يتركها باختياره، فيكون مستحقاً للثواب

____________________

١- المواقف، عضدالدين الايجي، ج٣، الموقف ٥، المرصد ٦، المقصد ١، ص٢٠٨.

٢- شرح المقاصد، سعدالدين التفتازاني: ج٤، المقصد ٥، الفصل ٦، المبحث ٢، ص٣١٢ - ٣١٣.

٣- انظر: المصدر السابق.

٣٢٨

إزاء هذا الاختيار(١) .

____________________

١- للمزيد راجع في هذا الكتاب: الفصل السابع: الجبر والتفويض.

٣٢٩

الفصل الحادي عشر

الأصلح

معنى الأصلح

وجوب فعل الأصلح

الأصلح في خلق العالم

٣٣٠

٣٣١

المبحث الأوّل

معنى الأصلح

معنى الأصلح (في اللغة):

الأصلح عبارة عن أفعل تفضيل "الصلاح".

والصلاح ضدّ الفساد.

قال تعالى:( وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) [الأعراف: ٨٥].

والمصلحة: "ما يتعاطاه الإنسان من الأعمال الباعثة على نفعه أو نفع قومه"(١) .

معنى الأصلح (في الاصطلاح العقائدي):

يظهر من المتكلّمين: أنّ "المصلحة" عندهم تساوى "المنفعة".

قال السيّد المرتضى: الصلاح عبارة عن النفع... ويقال عند التزايد "أصلح" كما يقال "أنفع"(٢) .

وقال أيضاً: "الأصلح في باب الدنيا هو فعل المنافع واللذات الخالية من وجه قبح"(٣) .

____________________

١- انظر: مفردات القرآن، الراغب الاصفهاني: باب: صلح.

المنجد: مادة (صلح).

٢- الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص١٩٩.

٣- شرح جمل العلم والعمل، السيّد المرتضى: لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص١٠٩.

وانظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس: الكلام في فعل الأصلح، ص١٤٠.

٣٣٢

المبحث الثاني

وجوب(١) فعل الأصلح

إنّ الأصلح ينقسم إلى قسمين(٢) :

١ - الأصلح في الدين: ومصالح الدين هي "الألطاف".

ولا إشكال في أنّ اللّه تعالى حكيم، وهو يفعل دائماً ما هو الأصلح بالعباد في أمور دينهم. وقد بينّا "اللطف الإلهي" في الفصل السابق.

٢ - الأصلح في الدنيا: ومصالح الدنيا هي الأُمور التي ينتفع بها الأحياء بشرط أن لا تكون هذه الأُمور قبيحة(٣) ، ووجوب فعله تعالى لهذا المعنى من "الأصلح" هو الذي وقع النزاع حوله بين العلماء.

الآراء حول وجوب أو عدم وجوب فعله تعالى للأصلح:

١ - عدم الوجوب.

٢ - الوجوب.

الرأي الأوّل: عدم وجوب فعله تعالى للأصلح (أي: لا يجب على اللّه تعالى في الدنيا أن يفعل بالعباد ما هو أنفع لهم في دنياهم).

أدلة ذلك:

____________________

١- نؤكّد مرّة أخرى بأنّ الوجوب على اللّه تعالى لا يعني أنّه تعالى مكلّف بأنّ يفعل كذا وكذا، بل معناه أنّ عدم فعله تعالى لكذا وكذا لا ينسجم مع صفاته الكمالية.

انظر: بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج٥٩، كتاب السماء والعلم، باب ٢٤: عصمة الملائكة...، ص٣١٠.

٢- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج١، القول في اللطف والمصلحة والمفسدة، ص٢٩٨.

٣- قال السيّد المرتضى: "لا يحسن فعل ذلك [أي: فعل] الأصلح إلاّ مع التعرّي من المفاسد".

الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص٢٠٥.

٣٣٣

الدليل الأوّل:

وجوب الأصلح يستلزم المحال.

توضيح ذلك:

ما من أصلح (أي: أنفع للعباد) إلاّ وهناك فعل أصلح منه، وهو مع ذلك خال عن المفسدة.

فلو كان الأصلح واجباً لوجب على اللّه تعالى أن يقوم بأفعال غير متناهية، وكلّها أصلح، وهذا محال.

ولهذا ينبغي القول بعدم وجوب فعل الأصلح على اللّه تعالى مطلقاً(١) .

يلاحظ عليه:

١ - إنّ البحث حول الأصلح يشمل المنافع التي يمكن وقوعها، وأمّا المحال فهو خارج عن البحث.

قال العلاّمة الحلّي: "إنّ الفعل إنّما يجب على اللّه تعالى من حيث الحكمة، إذا كان مُمكناً، أمّا إذا كان ممتنعاً فلا، وما لا يتناهى يستحيلُ إيجاده"(٢) .

٢ - إنّ الأصلح مرتبة واحدة، ولهذا فإنّ الزيادة التي يتصوّرها البعض ليست داخلة في دائرة الأصلح، بل هي خارجة عنه، ولهذا لا يتجه الوجوب إليها، فتكون هذه الزيادة خارجة عن البحث.

قال نصير الدين الطوسي: " لا يقال: فأيُّ مرتبة فُرضت، أمكن الزيادةُ عليها، ويدخل بذلك تحت ما لا نهاية له.

لأ نّا نقول: نمنع كونَه أصلح، لأنَّا فرضنا الأصلح مرتبة، فالزائد ليس أصلح"(٣) .

____________________

١- انظر: الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص٢٠١ - ٢٠٢.

شرح جمل العلم والعمل، السيّد المرتضى: لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص١٠٩ - ١١٠.

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس، ص١٤٠.

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج٢، لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص١١٠.

٢- مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث العاشر، ص٢٦٢.

٣- كشف الفوائد، نصير الدين الطوسي: الباب الثالث، الفصل الأوّل، وجوب الأصلح، ص٢٥٣.

٣٣٤

الدليل الثاني على عدم وجوب فعله تعالى للأصلح:

لو كان الأصلح واجباً لم يستحق اللّه الشكر منّا على ما يفعله بنا من الإحسان والإنعام، لأنّ الذي يقوم بفعل يجب عليه، فإنّه لا يستحق الشكر، وإنّما الشكر يكون للمتفضّل الذي له أن يفعل وله أن لا يفعل(١) .

يلاحظ عليه:

١ - إنّ "الوجوب" الذي يتنافى مع استحقاق الشكر هو "الوجوب" بمعنى "الاضطرار" و"عدم الاختيار"، ولكن المقصود من "الوجوب" هنا غير هذا المعنى، وإنّما المقصود من الوجوب هنا أنّ العدل والحكمة الإلهية تقتضي أن يفعل اللّه تعالى كذا، لأنّ تركه لهذا الفعل يؤدّي إلى الإخلال بعدله وحكمته ويوجب اتّصافه تعالى بأوصاف يتنزّه عنها(٢) .

٢ - إنّ شكرنا للّه تعالى إزاء فعل الأصلح يكون من قبيل شكرنا له تعالى إزاء إعطائه "الثواب" و"العوض".

و"إعطاء الثواب" و"إعطاء العوض" أمران يجبان على اللّه تعالى بمقتضى عدله وحكمته.

ولكننا - مع ذلك - نشكر اللّه تعالى إزاءهما.

ولكن لا يكون شكرنا له تعالى إزاء ما يجب عليه تعالى.

وإنّما يكون شكرنا له تعالى إزاء ما تفضّل به علينا.

وتفضّله تعالى في هذا المقام أنّه خلقنا ومنحنا العقل وكلّفنا وأوجد فينا الأسباب التي تجعلنا ممن يشملهم "الثواب" و"العوض" الإلهي.

وكان بإمكانه تعالى أن لا يخلقنا أو لا يمنحنا العقل، فنكون ممن لا يشملهم

____________________

١- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص٢٠٧.

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس، ص١٤٢.

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج٢، لايجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص١٠٩.

٢- انظر: البراهين القاطعة، محمّد جعفر الاسترآبادي: ج٢، المقصد ٣، الفصل ٣، المقام ٥، ص٤٥٥.

٣٣٥

"الثواب" و"العوض" الإلهي.

ولكنّه تعالى خلقنا ومنحنا العقل من باب التفضّل، وبذلك أصبحنا ممن يقتضي عدله أن لا يظلمنا.

فيكون شكرنا للّه تعالى إزاء هذا التفضّل.

وتعتبر مسألة الشكر إزاء فعل الأصلح أيضاً من هذا القبيل(١) .

الدليل الثالث على عدم وجوب فعله تعالى للأصلح:

لو كان فعل الأصلح واجباً لم يكن للدعاء أيّة فائدة.

لأنّه إذا كان كلّ ما يفعله اللّه تعالى هو الأصلح الذي يجب أن يفعله، فعندئذ لا يمكن تغيير هذا الواجب، فينتفي دور الدعاء.

ولكن بما أنّ للدعاء دوراً، فلهذا نستنتج بأنّه تعالى لا يجب عليه فعل الأصلح.

يلاحظ عليه:

لا يوجب هذا الاستدلال نفي فعله تعالى للأصلح، لأنّ اللّه تعالى يفعل بالعباد ما هو أصلح لهم وفق ما تقتضيه الحكمة، وقد اقتضت حكمته تعالى أن يجعل للعباد بعض "الأسباب" التي يحصلون بها على المزيد من المنافع، ومن هذه الأسباب "الدعاء".

فالأصلح في هذا المقام للعباد أن تتاح لهم الفرصة ليصلوا إلى منافعهم عن طريق تمسّكهم بالأسباب.

فمن يتمسّك بهذه الأسباب، فإنّه يصل إلى المنافع إن شاء اللّه تعالى.

ومن لا يتمسّك بهذه الأسباب، فإنّه يحرم نفسه بنفسه من هذه المنافع.

الرأي الثاني: وجوب فعله تعالى للأصلح(٢) :

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام): "إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلاّ

____________________

١- انظر: إشراق اللاهوت، عميد الدين العبيدلي: المقصد الحادي عشر، المسألة الخامسة: ص٣٩٧.

٢- أي: وجوب فعله تعالى الأنفع للعباد في الدنيا.

٣٣٦

الأصلح لهم"(١) .

تنبيه مهم:

ينبغي الالتفات في هذا الصعيد إلى حقيقة مهمّة وهي:

إنّ الأصلح في الدنيا لا يكون دائماً في مطلق إيصال الشيء النافع للعبد.

بل قد يكون الأصلح للعبد في الدنيا حرمانه من المنافع الدنيوية.

لأنّ المنافع الدنيوية ليست بنفسها ملاكاً عند اللّه تعالى في تعامله مع العباد.

وإنّما الملاك عند اللّه تعالى هو المنافع الأخروية للعباد.

وعلى ضوء هذا الملاك يتعامل اللّه تعالى مع العباد في إيصال الأنفع إليهم.

ورد في الحديث الشريف:

عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل، عن اللّه عز وجل، قال: "قال اللّه تبارك وتعالى:

إنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك.

وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك.

وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالسقم، ولو صحّحت جسمه لأفسده ذلك.

وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك.

إنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإنّي عليم خبير"(٢) .

قال الشيخ المفيد:

"إنّ اللّه تعالى لا يفعل بعباده ما داموا مكلَّفين إلاّ أصلح الأشياء لهم في دينهم ودنياهم، وأنّه لا يدّخرهم صلاحاً ولا نفعاً، وأنّ من أغناه فقد فعل به الأصلح في التدبير، وكذلك من أفقره ومن أصحّه ومن أمرضه فالقول فيه كذلك"(٣) .

____________________

١- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب ٦٢: باب أنّ اللّه تعالى لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم، ح٩، ص٣٩٢.

٢- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب ٦٢، ح١، ص٣٨٨.

٣- أوائل المقالات، الشيخ المفيد: القول ٢٨: القول في اللطف والأصلح، ص٥٩.

٣٣٧

٣٣٨

المبحث الثالث

الأصلح في خلق العالم

إنّ كيفية نظام الوجود وقوانين الكون هي الأفضل والأكثر إتقاناً حسب ما اقتضته الحكمة والرحمة الإلهية، بحيث لا يمكن تصوّر أحسن منه في تنظيم عالم الإمكان مع لحاظ الأهداف المطلوبة.

الأدلة المثبتة للنظام الأحسن:

١ - إنّ اللّه تعالى حكيم، ولا يفعل إلاّ الأفضل والأحسن حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

٢ - إنّ اللّه تعالى عالم بجميع جهات حسن وقبح الأفعال، والحكيم يختار دائماً ما هو الأحسن والأكمل.

٣ - إنّ اللّه تعالى غني عن العالمين، وهو في منتهى الجود والكرم والعطاء، ولا يوجد ما يمنع اللّه من إيجاد الأحسن حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.

٣٣٩

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432