اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)0%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام
الصفحات: 214

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 214
المشاهدات: 63135
تحميل: 7439

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63135 / تحميل: 7439
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقال له يحيى بن أكثم: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه.

فقال أبو جعفرعليه‌السلام :(هذه أمة لرجل من الناس، نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهَر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها واحدة، فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له) .

قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟ قالوا: لا والله إن أمير المؤمنين أعلم وما رأى.

فقال: ويحكم! إن أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإن صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال. أما علمتم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحداً في سنّه غيره، وبايع الحسن والحسينعليهما‌السلام وهما ابنا دون الست سنين، ولم يبايع صبياً غيرهما، أو لا تعلمون ما اختص الله به هؤلاء القوم؟! وإنهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم. فقالوا: صدقت ياأمير المؤمنين ثم نهض القوم.

فلما كان من الغد أُحضر الناس وحضر أبو جعفرعليه‌السلام وسار القوّاد والحجّاب والخاصة والعمّال لتهنئة المأمون وأبي جعفرعليه‌السلام فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة، فيها بنادق مسك وزعفران، معجون في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة، وعطايا سنية، وإقطاعات، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق يده له، ووضعت البدر، فنثر ما فيها على القوّاد وغيرهم، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا. وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين، ولم يزل مكرماً لأبي جعفرعليه‌السلام معظماً لقدره مدة حياته، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته)(١) .

ـــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥٠ / ٧٤ ـ ٧٩.

١٠١

حقيقة العلاقة بين الإمامعليه‌السلام والمأمون

بعد استعراضنا لقضية زواج الإمامعليه‌السلام من بنت المأمون وبيان ملابساتها وما دار خلالها من نقاش وسجال وحوار، نسجل الملاحظات الآتية لبيان الثغرة في علاقة المأمون العباسي بالإمام الجوادعليه‌السلام .

١ ـ كان المأمون يدرك جيداً أن الجوادعليه‌السلام هو الوارث الحقيقي لخط الإمامة وهو القائد الشرعي لأمة جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذلك تعامل في تخطيطه السياسي معه تعاملاً جادّاً بصفة أن الإمامعليه‌السلام كان قطباً مهماً من أقطاب الساحة السياسية الإسلامية وقائداً مطاعاً من قبل الطليعة الواعية في الأمة مع ما يمتلكه من مكانة واحترام في نفوس قطّاعات واسعة من الأمة.

وقد أعلن المأمون تصوره هذا أمام العباسيين عندما قالوا له: يا أمير المؤمنين أتزوج ابنتك وقرة عينك صبياً لم يتفقه في دين الله ؟ ولا يعرف حلاله من حرامه؟ ولا فرضاً من سنة ؟ ولأبي جعفرعليه‌السلام إذ ذاك تسع سنين، فلو صبرت له حتى يتأدب ويقرأ القرآن ويعرف الحلال من الحرام.

فقال المأمون: (إنه لأفقه منكم وأعلم بالله ورسوله وسنته وأحكامه، وأقرأ لكتاب الله منكم وأعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وظاهره وباطنه وخاصه وعامه وتنزيله وتأويله، منكم). لذلك لابدّ أن يكون المأمون مع الإمام الجوادعليه‌السلام مخططاً له بعناية وحنكة. وهذا يفسر البعد الضخم الذي اكتسبه زواج الجوادعليه‌السلام من بنت المأمون ومدى اهتمام المأمون به من قبل القوّاد والحجّاب والخاصّة.

٢ ـ على أساس النقطة السابقة فقد تظاهر المأمون بحبه وتقديره للإمام الجوادعليه‌السلام طالباً بذلك:

أ ـ كسب الجماهير المسلمة الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام بصفته من الموالين والمكرمين لآل الرسول، وهو نظير ما يقوم به السياسيون المعاصرون من رفعهم للشعارات التي تطمح الأمة إلى تحقيقها.

ب ـ التغطية على جريمة قتله للإمام الرضاعليه‌السلام ، وذلك بإظهار الحب والشفقة والاحترام لولده الجوادعليه‌السلام وبهذا التصرف استطاع المأمون أن يخدع الرأي العام.

٣ ـ كانت علاقة المأمون بالجوادعليه‌السلام كعلاقته السابقة مع أبيه الإمام الرضاعليه‌السلام ، تنطوي على أغراض سياسية أي أنه كان ظاهرها حسناً جميلاً وباطنها يتضمّن النيّة الشريرة والمكر السيئ !!

١٠٢

لقد كاد المأمون للإمام الجوادعليه‌السلام ، ولكنه لم يستطع تحقيق أغراضه في الانتقاص منه وإسقاطه، فكانت آخر محاولة له مع الجواد هي تزويجه لبنته، فقد روي فيالكافي :

عن محمد بن الريّان أنّه قال: (احتال المأمون على أبي جعفرعليه‌السلام بكل حيلة، فلم يمكنه فيه شيء فلما اعتلّ وأراد أن يبني عليه ابنته دفع إلى مئتي وصيفة من أجمل ما يكون إلى كل واحدة منهن جاماً فيه جوهر يستقبلن أبا جعفرعليه‌السلام إذا قعد في موضع الأخيار فلم يلتفت إليهن وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب، طويل اللحية فدعاه المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان في شيء من أمر الدنيا فأنا أكفيك أمره، فقعد بين يدي أبي جعفرعليه‌السلام فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار، وجعل يضرب بعوده ويغنّي، فلما فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت إليه يميناً ولا شمالاً، ثم رفع إليه رأسه وقال:(اتق الله يا ذا العثنون) . قال: فسقط المضراب من يده والعود، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات، قال: فسأله المأمون عن حاله فقال: لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبداً)(١) .

يتجلّى لنا من هذه الرواية أن المأمون احتال بكل حيلة لإظهار عدم صلاحية الإمام الجوادعليه‌السلام للإمامة والقيادة أمام الناس وأنه أولى منه بالخلافة والقيادة، لكنه فشل في ذلك مما اضطرّه لتجريب أسلوب آخر يحتوي به حركة الإمام، وذلك بتزويجه ابنته. على أنّ هذا الزواج كان تحديداً للإمام وليس إكراماً له، كما أنه قد كشف عن واقعه مآله وعاقبته التي تجلّت في اغتيال أم الفضل للإمام الجوادعليه‌السلام ، كما سيأتي تفصيله.

أمّا توجّهات قاضي القضاة ابن أكثم في التصدي لإحراج الإمام بالأسئلة الصعبة فما كانت إلاّ بدافع من المأمون، والرواية الآتية تدل على ذلك:

قال المأمون ليحيى بن أكثم: أطرح على أبي جعفر محمد بن علي الرضاعليهما‌السلام مسألة تقطعه فيها. فقال: يا أبا جعفر، ما تقول في رجل نكح امرأة على زنا أيحل أن يتزوجها ؟ فقالعليه‌السلام :(يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره، إذ لا يؤمَن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثاً كما أحدثت معه. ثم يتزوج بها إن أراد، فإنما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً ثم اشتراها فأكل منها حلالاً) . فانقطع يحيى(٢) .

ـــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥، نقلاً عن حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

(٢) تحف العقول: ٤٥٤.

١٠٣

ولكن دهاء المأمون وحنكته السياسية جعلاه يظهر الفرح عندما يجيب الإمام الجوادعليه‌السلام على المشكلات من المسائل فتظهر توجهات ابن أكثم وكأنها توجهات فردية. وهذا لون من ألوان السياسة المتبعة حتى الآن وهي ان القائد يُظهر الودّ لجهة ما، لكنه يأمر أتباعه وأذنابه بمحاربة تلك الجهة.

وإذا انطلت هذه الأحابيل على البسطاء فإنها لم تنطل على الموالين للإمامعليه‌السلام ففي رواية نقلها الكليني تفيد أن بعض الأوساط السياسية آنذاك كانت غير منخدعة بتزويج المأمون ابنته للإمام الجوادعليه‌السلام بل كانت تحتمل وجود مكيدة سياسية خلف العملية. فعن محمد بن علي الهاشمي قال: (دخلت على أبي جعفرعليه‌السلام صبيحة عرسه حيث بنى بابنة المأمون ـ وكنت تناولت من الليل دواء ـ فأول من دخل عليه في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت أن أدعو بالماء، فنظر أبو جعفرعليه‌السلام في وجهي وقال:(أظنك عطشان ؟) ، فقلت: أجل. فقال:ياغلام ـ أو :ياجارية ـاسقنا ماءً . فقلت في نفسي: الساعة يأتونه بماء يسمّونه به، فاغتممت لذلك، فأقبل الغلام ومعه الماء، فتبسم في وجهي، ثم قال:ياغلام ناولني الماء ، فتناول الماء فشرب، ثم ناولني فشربت، ثم عطشت أيضاً وكرهت أن أدعو بالماء، ففعل ما فعل في الأولى، فلمّا جاء الغلام ومعه القدح قلت في نفسي مثل ما قلت في الأولى، فتناول القدح ثم شرب، فناولني وتبسم)(١) .

فلقد كان هذا الهاشمي يتوقّع اغتيال الإمامعليه‌السلام في ظلّ العداء الذي يكنّه المأمون وجهازه الحاكم للإمامعليه‌السلام ، لذلك اغتمّ عندما طلب الإمامعليه‌السلام الماء.

السبب في تزويج المأمون ابنته للإمام الجوادعليه‌السلام

انّ هذا الزواج إضافة لما سيحققه من دعاية للمأمون تُظهر حبّه وولاءه لأهل البيتعليهم‌السلام ، فإنّ ثمة سبباً آخر نرجّحه على غيره ونراه السبب الأساس وهو وضع الجاسوس والرقيب الخاص على الإمامعليه‌السلام يلازمه في بيته، يحصي عليه سكناته وحركاته ويرفعها إلى الجهة التي زرعته وهكذا كانت أم الفضل ابنة المأمون العبّاسي مع الإمام الجوادعليه‌السلام .

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٨١.

١٠٤

موقف العباسيين:

اتّسم موقف العباسيين بالحقد والتعصب والسذاجة. فقد استاءوا مما تصوروه من تساهل المأمون مع الإمامعليه‌السلام فقد كانت المظاهر تؤثر عليهم كثيراً، دون إدراكهم البعد العميق والحقيقي الذي كان يقصده المأمون وقد استفاد المأمون من وضعهم هذا عندما راح يفنّد مزاعمهم فيظهر وكأنه موال حقيقةً لأهل البيتعليهم‌السلام .

موقف الإمام الجوادعليه‌السلام من ابن الأكثم:

لقد تصدى الإمامعليه‌السلام للرد على ابن الأكثم وإظهار عجزه أمام الناس للأسباب الآتية.

أ ـ إثبات إمامته وعلمه أمام الناس في وقت راحت الجهات المعادية تشن حملة إعلامية شديدة على الإمام بادعائها انهعليه‌السلام لا يفقه من الدين شيئاً وذلك لصغر سنه.

ب ـ أن تفنيده وإفحامه لابن الأكثم كان يعتبر تفنيداً وإفحاماً للنظام الحاكم باعتبار أنّ ابن الأكثم عالم المأمون وقاضي قضاته.

ج ـ تثقيف الناس وكشف العلم الصحيح لهم من خلال الإجابات على أسئلته.

مدة إمامة الجوادعليه‌السلام في عهد المأمون:

استلم الإمام الجوادعليه‌السلام منصب الإمامة ونهض بأعباء قيادة الأمة سنة (٢٠٣ هـ) بعد شهادة أبيه الإمام الرضاعليه‌السلام ، وكان المأمون قد تسنّم منبر الخلافة وقتذاك. وتوفي المأمون سنة (٢١٨ هـ) بالبدندون من أقصى الروم ونقل إلى طوس فدفن فيها(١) .

وبذلك يكون الإمام الجوادعليه‌السلام قد قضى خمس عشرة سنة من إمامته التي استمرت سبع عشرة سنة في خلافة المأمون، وهذا يعني أنّ أغلب سنوات إمامته كانت في فترة حكم المأمون.

ـــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء: ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

١٠٥

٢ ـ المعتصم العباسي

المعتصم هو أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد ولد سنة ثمانين ومئة، كذا قال الذهبي. وقال الصولي: في شعبان سنة ثمان وسبعين.

وأمه أم ولد من مولدات الكوفة اسمها ماردة وكانت أحظى الناس عند الرشيد. وكان ذا شجاعة وقوة وهمّة وكان عرياً من العلم، لقب بالمعتصم وهو أبعد ما يكون من الاعتصام بالله عَزَّ وجَلَّ.

وكان فاسد الأخلاق له غلام يقال له عجيب وكان مشغوفاً به.

وقد استمر على نهج أخيه في إثارة فتنة خلق القرآن. فسلك ما كان المأمون عليه وختم به عمره من امتحان الناس بخلق القرآن، فكتب إلى البلاد وأمر المعلمين أن يعلّموا الصبيان ذلك وقاسى الناس منه مشقة في ذلك وقتل عليه خلقاً من العلماء، وضرب الإمام أحمد بن حنبل وكان ضربه في سنة عشرين. قيل فجلده حتى غاب عقله وتقطع جلده وقيده وحبسه(١) .

لقد كان المعتصم محدود التفكير ميالاً للقسوة في تعامله مع خصومه السياسيين وغيرهم، وكان يفتقد كثيراً من مقومات الحنكة السياسية في إدارة شؤون الدولة، وقد تعرّض حكمه لكثير من صور الاضطرابات السياسية في أقاليم عديدة من الدولة العباسية(٢) .

وقد هيمن الجيش على الحكم في عصره بعد أن مال المعتصم إلى أخواله الأتراك وكوّن منهم جيشاً خاصاً، وأغدق عليهم الأموال الطائلة مما أثار حفيظة العسكريين العرب، وأثار النزعة القومية في المجتمع.

وتعتبر سياسة المعتصم هذه أخطر ما واجهته الدولة العباسية في مسيرتها. وقد ساءت الأحوال بعد المعتصم، واستشرى خطر العسكريين في الدولة وقاموا بالانقلابات العسكرية على الخلفاء الذين حاولوا تقليص سلطاتهم.

ـــــــــ

(١) مجلة دراسات وبحوث: ص ٩٤.

(٢) راجع الكامل لابن الأثير: ٥ / ٢٣٢ ـ ٢٦٥: ثورة الطالقان بقيادة محمد بن القاسم العلوي، وثورة الزط في البصرة، وثورة بابك الخرمي، وتحرك الروم إلى زبطرة وغيرها من بلاد الإسلام، وثورة المبرقع في فلسطين وغيرها.

١٠٦

المعتصم والطليعة الإسلامية الواعية:

على خلفية الخلاف العقائدي الشديد بين أئمة أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم المؤمنين من جهة والخلافة العباسية وأتباعها من جهة أخرى، استمر العداء بين الخطين وإن اتخذ في كل فترة لوناً أو درجة من الشدة، ولم يكن المعتصم بمنفصل عن سياسة أسلافه المعادين لأهل البيتعليهم‌السلام وحزبهم.

لقد كاد للإسلام وخطه الصحيح فواجه معارضة شديدة من أهل البيتعليه‌السلام وشيعتهم وسنتناول الانتفاضات التي انطلقت في عصره خلال فصل قادم.

الإمام الجوادعليه‌السلام والمعتصم:

لم تكن المدة التي قضاها الإمام الجوادعليه‌السلام في خلافة المعتصم طويلة فهي لم تتجاوز السنتين، كان ختامها شهادة الإمامعليه‌السلام على يد النظام المنحرف، وفيما يلي استعراض للعلاقة بين الإمام الجوادعليه‌السلام والمعتصم.

أ ـ استقدام الإمامعليه‌السلام إلى بغداد:

لقد خشي المعتصم من بقاء الإمام الجوادعليه‌السلام بعيداً عنه في المدينة، لذلك قرر استدعاءه إلى بغداد، حتى يكون على مقربة منه يحصي عليه أنفاسه ويراقب حركاته، ولذلك جلبه من المدينة، فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة عشرين ومائتين، وتوفي بهاعليه‌السلام في ذي القعدة من هذه السنة(١) .

لقد كان هذا الاستقدام بمثابة الإقامة الجبرية تتبعه عملية أكبر وهي التصفية الجسدية.

ب ـ اغتيال الإمام الجوادعليه‌السلام :

كان وجود الإمام الجوادعليه‌السلام يمثل خطراً على النظام الحاكم لما كان يملكه هذا الإمام من دور فاعل وقيادي للأمة، لذلك قررت السلطة أن تتخلّص منه مع عدم استبعادها وجود العلاقة بين الإمام القائد والتحركات النهضوية في الأمة.

ـــــــــ

(١) كشف الغمة: ٢ / ٣٦١.

١٠٧

فقد روى المؤرخون عن زرقان صاحب ابن أبي دُوَاد قاضي المعتصم قوله: (رجع ابن أبي دُوَاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال وددت اليوم أني قد مت منذ عشرين سنة، قال قلت له: ولم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له: وكيف كان ذلك ؟ قال: إن سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي فسألناه عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع ؟ قال: فقلت: من الكرسوع. قال: وما الحجة في ذلك ؟ قال: قلت: لأن اليد هي الأصابع والكفّ إلى الكرسوع(١) ، لقول الله في التيمم ( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) (٢) واتفق معي ذلك قوم.

وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: وما الدليل على ذلك ؟ قالوا: لأن الله لمّا قال:( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) في الغسل دلّ ذلك على أن حدّ اليد هو المرفق.

قال: فالتفت إلى محمد بن عليعليه‌السلام فقال: ما تقول في هذا ياأبا جعفر ؟ فقال:(قد تكلم القوم فيه ياأمير المؤمنين) ، قال: دعني ممّا تكلموا به ! أي شيء عندك ؟ قال:(اعفني عن هذا ياأمير المؤمنين) ، قال: أقسمت عليك بالله لمّا أخبرت بما عندك فيه.

فقال:(أمّا إذا أقسمت عليّ بالله إني أقول أنهم اخطئوا فيه السنّة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكفّ) ، قال: وما الحجة

ـــــــــ

(١) الكرسوع: كعصفور: طرف الزند الذي يلي الخنصر الناتئ عند الرسغ.

(٢) المائدة (٥): ٥.

١٠٨

في ذلك ؟ قال:(قول رسول الله: السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ ) (١) يعني بهذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) وما كان لله لم يقطع) .

قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.

قال ابن أبي دواد: قامت قيامتي وتمنّيت أني لم أك حيّاً.

قال زرقان: قال ابن أبي دؤاد: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة، فقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة وأنا أكلّمه بما أعلم أني أدخل به النار، قال: وما هو ؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل شطر هذه الأمة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء ؟

قال: فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً. قال: فأمر اليوم الرابع فلاناً من وزرائه بأن يدعوه (أي الجوادعليه‌السلام ) إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه وقالعليه‌السلام :(قد علمت أني لا أحضر مجالسكم) ، فقال: إني إنما ادعوك إلى الطعام وأحب أن تطأ ثيابي، وتدخل منزلي فأتبرّك بذلك، فقد أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك فصار إليه، فلمّا طعم منها أحس السمّ فدعا بدابّته فسأله رب المنزل أن يقيم. قالعليه‌السلام :(خروجي من دارك خير لك) ، فلم يزل

ـــــــــ

(١) الجن (٧٢): ١٨.

١٠٩

يومه ذلك وليله في خلفة حتى قبض عليه‌السلام ) (١) .

لقد كان الإمام الجوادعليه‌السلام يتوقع استشهاده بعد هذا الاستدعاء فقد روي عن إسماعيل بن مهران قوله: (لمّا أُخرج أبو جعفرعليه‌السلام من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه قلت له عند خروجه: جُعلت فداك، إني أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك ؟ قال: فكرّ بوجهه إليَّ فقال:(عند هذه يُخاف عليّ، الأمرُ من بعدي إلى ابني علي) (٢) .

لقد درس المعتصم أكثر السبل التي يستطيع بها أن يصفي الإمام فاعليةً وأقلَّها ضرراً، فلم يجد أفضل من أم الفضل بنت أخيه المأمون للقيام بهذه المهمّة فهي التي تستطيع أن تقتله بصورة أكيدة دون أن تثير ضجة في الأمة، مستغلاً نقطتين في شخصيتها، هما:

١ ـ كونها تنتمي للخط الحاكم انتماءً حقيقياً، فهي بنت المأمون وعمّها المعتصم، وليست بالمستوى الإيماني الذي يجعلها تنفك عن انتمائها النسبي هذا، لذلك كانت تخضع لتأثيراته وتنفذ ما يريده ضد الإمام.

٢ ـ غيرتها وحقدها على الإمام بسبب تسريه وتزوّجه من نساء أخريات خصوصاً وأنها لم تلد للإمام وإنما رزق الإمام من غيرها ولده الهاديعليه‌السلام .

ولقد كان أمر غيرتها شائعاً بين الناس لذلك قال المؤرخون: (وقد روى الناس أن أم الفضل كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر وتقول: إنه يتسرى

ـــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥٠ / ٥ ـ ٧.

(٢) الإرشاد: ٢ / ٢٩٨.

١١٠

علي ويغيرني. فكتب إليها المأمون: يا بنيّة إنا لم نزوجك أبا جعفر لنحرّم عليه حلالاً، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها)(١) .

ولم تخل هذه الفترة من الاعتداءات الظاهرية على الإمامعليه‌السلام من أذناب السلطة، ومن ذلك ما فعله عمر بن فرج الرخجي الرجل المعادي لأهل البيتعليهم‌السلام والعامل عند السلطة العباسية. فمثلاً روى المؤرخون عن محمد بن سنان قوله: دخلت على أبي الحسن الهاديعليه‌السلام فقال:(يا محمد حدث بآل فرج حدث ؟) فقلت: مات عمر. فقال:(الحمد لله على ذلك) ، أحصيت أربعاً وعشرين مرة، ثم قال:(أو لا تدري ما قال ـ لعنه الله ـ لمحمد بن علي أبي؟) قال: قلت: لا، قال:(خاطبه في شيء، فقال: أظنّك سكران، فقال أبي: اللهمّ إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً فأذقه طعم الحرب وذلّ الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حُرب ماله، وما كان له، ثم أُخذ أسيراً فهو ذا مات) (٢) .

استشهاد الإمام الجوادعليه‌السلام

تحدثنا عن دوافع المعتصم في اغتيال الإمام الجوادعليه‌السلام وعن اختياره أم الفضل لتنفيذ الجريمة. ومما يشير إلى أسباب استغلال المعتصم لأُمّ الفضل وكيفية تحريضها على الإقدام على قتل الإمامعليه‌السلام ما روي من شدة غيرتها أيام أبيها وتوريطها لأبيها على ارتكاب جريمة قتل الإمام من قبل المأمون نفسه.(٣)

قال أبو نصر الهمداني: (حدثتني حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى بن

ـــــــــ

(١) كشف الغمة: ٢ / ٣٥٨.

(٢) بحار الأنوار: ٥٠/٦٢ ـ ٦٣.

(٣) حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٦٤.

١١١

جعفر عمّة أبي محمد الحسن بن عليعليهما‌السلام قالت: لمّا مات محمّد بن عليّ الرّضاعليه‌السلام أتيت زوجته أم عيسى(١) بنت المأمون فعزّيتها فوجدتها شديدة الحزن والجزع عليه تقتل نفسها بالبكاء والعويل، فخفت عليها أن تتصدّع مرارتها فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خُلقه وما أعطاه الله تعالى من الشّرف والإخلاص ومَنَحَهُ من العزّ والكرامة، إذ قالت أم عيسى: ألا أخبرك عنه بشيء عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار ؟ قلت: وما ذاك ؟ قالت: كنت أغار عليه كثيراً وأراقبه أبداً وربما يسمعني الكلام فأشكو ذلك إلى أبي فيقول يابنيّة احتمليه فإنّه بضعة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبينما أنا جالسة ذات يوم إذ دخلت عليّ جارية فسلّمت، فقلت: من أنت ؟ فقالت: أنا جارية من ولد عمّار بن ياسر وأنا زوجة أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضاعليه‌السلام زوجك. فدخلني من الغيرة ما لا أقدر على احتمال ذلك هممت أن أخرج وأسيح في البلاد وكاد الشيطان أن يحملني على الإساءة إليها، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها، فلمّا خرجت من عندي المرأة نهضت ودخلت على أبي وأخبرته بالخبر وكان سكراناً لا يعقل. فقال: ياغلام عليّ بالسّيف، فأتى به، فركب وقال: والله لأقتلنّه ، فلمّا رأيت ذلك قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت بنفسي وبزوجي وجعلت ألطم حرّ وجهي، فدخل عليه والدي وما زال يضربه بالسيف حتى قطعه.

ثم خرج من عنده وخرجت هاربة من خلفه فلم أرقد ليلتي فلمّا ارتفع النّهار أتيت أبي فقلت: أتدري ما صنعت البارحة ؟ قال: وما صنعتُ ؟ قلت: قتلتَ ابن

ـــــــــ

(١) أم عيسى هي كنية أخرى لأُم الفضل، واسمها زينب، كما في بعض النصوص.

١١٢

الرّضاعليه‌السلام ، فبرق عينه وغشي عليه ثم أفاق بعد حين وقال: ويلك ما تقولين ؟ قلت: نعم والله يا أبه دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسّيف حتى قتلته، فاضطرب من ذلك اضطراباً شديداً وقال: عليّ بياسر الخادم فجاء ياسر. فنظر إليه المأمون وقال: ويلك ما هذا الّذي تقول هذه ابنتي قال: صدقَتْ يا أمير المؤمنين فضرب بيده على صدره وخدّه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون هلكنا بالله وعطبنا وافتضحنا إلى آخر الأبد ، ويلك يا ياسر فانظر ما الخبر والقصة عنهعليه‌السلام ؟ وعجّل عليّ بالخبر فإن نفسي تكاد أن تخرج السّاعة فخرج ياسر وأنا ألطم حرّ وجهي، فما كان ياسر من أن رجع، فقال: البشرى ياأمير المؤمنين. قال: لك البشرى فما عندك ؟ قال ياسر: دخلت عليه فإذا هو جالس وعليه قميص ودواج وهو يستاك فسلّمت عليه وقلت: ياابن رسول الله أحب أن تهب لي قميصك هذا أصلي فيه وأتبرك به، وإنما أردت أن أنظر إليه وإلى جسده هل به أثر السّيف فوالله كأنّه العاج الّذي مسّه صفرة ما به اثر. فبكى المأمون طويلاً وقال: ما بقى مع هذا شيء إنّ هذا لعبرة للأوّلين والآخرين.

وقال: ياياسر أما ركوبي إليه وأخذي السّيف ودخولي عليه فإني ذاكر له وخروجي عنه فلست أذكر شيئاً غيره ولا أذكر أيضاً انصرافي إلى مجلسي فكيف كان أمري وذهابي إليه، لعن الله هذه الابنة لعناً وبيلاً، تقدّم إليها وقل لها يقول لك أبوك والله لئن جئتني بعد هذا اليوم شكوت أو خرجت بغير إذنه لانتقمنّ له منك. ثم سر إلى ابن الرّضا وابلغه عني السّلام واحمل إليه عشرين ألف دينار وقدّم إليه الشهري الّذي ركبته البارحة، ثم أمر بعد ذلك الهاشميّين أن يدخلوا عليه بالسّلام ويسلّموا عليه. قال ياسر: فأمرت لهم بذلك ودخلت أنا أيضاً معهم وسلّمت عليه وأبلغت التّسليم ووضعت المال بين يديه وعرضت الشّهري عليه فنظر إليه ساعة ثم تبسّم.

فقالعليه‌السلام :(ياياسر هكذا كان العهد بيننا وبينه حتّى يهجم علي، أما علم أن لي ناصراً وحاجزاً يحجز بيني وبينه) . فقلت: ياسيّدي ، ياابن رسول الله ، دع عنك هذا العتاب واصفح، والله وحق جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يعقل شيئاً من أمره وما علم أين هو من أرض الله وقد نذر لله نذراً صادقاً وحلف إن لا يسكر بعد ذلك أبداً، فإن ذلك من حبائل الشّيطان، فإذا أنت ياابن رسول الله أتيته فلا تذكر له شيئاً ولا تعاتبه على ما كان منه.

١١٣

فقالعليه‌السلام :(هكذا كان عزمي ورأيي والله) ، ثم دعا بثيابه ولبس ونهض وقام معه الناس أجمعون حتى دخل على المأمون فلمّا رآه قام إليه وضمّه إلى صدره ورحّب به ولم يأذن لأحد في الدخول عليه ولم يزل يحدّثه ويستأمره، فلمّا انقضى ذلك قال أبو جعفر محمّد بن علي الرّضاعليه‌السلام :(يا أمير المؤمنين) ، قال: لبيّك وسعديك. قال:(لك عندي نصيحة فاقبلها) .

قال المأمون: بالحمد والشكر فما ذاك ياابن رسول الله؟

قالعليه‌السلام :(أحب لك أن لا تخرج باللّيل فإني لا آمن عليك من هذا الخلق المنكوس وعندي عقد تحصّن به نفسك وتحرّز به من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات، كما أنقذني الله منك البارحة ولو لقيت به جيوش الرّوم والتّرك واجتمع عليك وعلى غلبتك أهل الأرض جميعاً ما تهيّأ لهم منك شيء بإذن الله الجبّار. وإن أحببت بعثت به إليك لتحترز به من جميع ما ذكرت لك) . قال: نعم، فاكتب ذلك بخطّك وابعثه إليّ، قال:(نعم) .

قال ياسر: فلمّا أصبح أبو جعفرعليه‌السلام بعث إليَّ فدعاني فلمّا صرت إليه وجلست بين يديه دعا برقّ ظبي من أرض تهامة ثم كتب بخطّه هذا العقد. ثم قالعليه‌السلام :(ياياسر احمل هذا إلى أمير المومنين وقل له: حتى يصاغ له قصبة من فضّة منقوش عليها ما أذكره بعده فإذا أراد شدّه على عضده فليشدّه على عضده الأيمن وليتوضّأ وضوءاً حسناً سابغاً وليصل أربع ركعات يقرأ في كلّ ركعة: فاتحة الكتاب مرّة وسبع مرّات: آية الكرسي وسبع مرات: شهد الله وسبع مرّات والشمس وضحاها وسبع مرّات: واللّيل إذا يغشى وسبع مرّات: قل هو الله أحد. فإذا فرغ منها فليشدّه على عضده الأيمن عند الشّدائد والنوائب يسلم بحول الله وقوته من كلّ شيء يخافه ويحذره وينبغي أن لا يكون طلوع القمر في برج العقرب ولو أنه غزى أهل الرّوم وملكهم لغلبهم بإذن الله وبركة هذا الحرز) .

١١٤

وروي أنه لمّا سمع المأمون من أبي جعفر في أمر هذا الحرز هذه الصفات كلّها غزا أهل الرّوم فنصره الله تعالى عليهم ومنح منهم من المغنم ما شاء الله ولم يفارق هذا الحرز عند كلّ غزاة ومحاربة وكان ينصره الله عَزَّ وجَلَّ بفضله ويرزقه الفتح بمشيّته أنَّه وليّ ذلك بحوله وقوته)(١) .

ويقول المؤرخون إن أم الفضل ارتكبت جريمتها بحقّ الإمام الجوادعليه‌السلام عندما سقته السمّ. فقد روي: (أنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفرعليه‌السلام وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه لأنّه وقف على انحرافها عن أبي جعفرعليه‌السلام وشدّة غيرتها عليه... فأجابته إلى ذلك وجعلت سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي فقال:(ما بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر) ، فماتت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها، صارت ناصوراً فانفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك العلّة، حتى احتاجت إلى الاسترفاد)(٢) .

وأثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ولسانه يلهج بذكر الله تعالى، وقد انطفأت باستشهاده شعلة مشرقة من الإمامة والقيادة المعصومة في الإسلام.

لقد استشهد الإمام الجوادعليه‌السلام على يد طاغية زمانه المعتصم العباسي وقد انطوت بموته صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أضاءت الفكر ورفعت منار العلم والفضيلة في الأرض.

ـــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥٠ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) بحار الأنوار: ٥٠ / ١٧.

١١٥

تجهيزه ودفنه:

وجُهّز بدن الإمامعليه‌السلام فغسّل وأدرج في أكفانه، وبادر الواثق والمعتصم فصليا عليه(١) ، وحمل الجثمان العظيم إلى مقابر قريش، وقد احتفت به الجماهير الحاشدة، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله فقد ازدحمت عشرات الآلاف في مواكب حزينة وهي تردد فضل الإمام وتندبه، وتذكر الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون في فقدهم للإمام الجوادعليه‌السلام وحفر للجثمان الطاهر قبر ملاصق لقبر جده العظيم الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام فواروه فيه وقد واروا معه القيم الإنسانية وكل ما يعتز به الإنسان من المثل الكريمة(٢) .

عن أبي جعفر المشهدي بإسناده عن محمد بن رضيّة عن مؤدّب لأبي الحسن (الهاديعليه‌السلام )، قال: (إنه كان بين يديَّ يوماً يقرأ في اللوح إذ رمى اللوح من يده وقام فزعاً وهو يقول:(إنا لله وإنا إليه راجعون مضى والله أبي عليه‌السلام ) فقلت: من أين علمت هذا ؟ فقالعليه‌السلام :(من إجلال الله وعظمته شيء لا أعهده) . فقلت: وقد مضى، قال:(دع عنك هذا ، ائذن لي أن أدخل البيت وأخرج إليك واستعرضني بآي القرآن إن شئت أقل لك بحفظ) ، فدخل البيت فقمت ودخلت في طلبه إشفاقاً مني عليه وسألت عنه فقيل دخل هذا البيت وردّ الباب دونه وقال لي:(لا تؤذن عليّ أحداً حتى أخرج عليكم) .

ـــــــــ

(١) إن الصلاة من قبل المعتصم والواثق على الإمامعليه‌السلام إنما هو للتعتيم الإعلامي على قتل الإمامعليه‌السلام والمعروف أن المعصومعليه‌السلام يقوم بتجهيز المعصوم والصلاة عليه. فلا مانع من حضور الإمام الهاديعليه‌السلام عند تجهيز أبيه الجوادعليه‌السلام . راجع النص من الإمام الهادي على حضوره تغسيل وصلاة ودفن أبيه في مسند الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ١٢٥ ـ ١٢٦.

(٢) حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٦٣.

١١٦

فخرجعليه‌السلام إليَّ متغيّراً وهو يقول:(إنا لله وإنا إليه راجعون مضى والله أبي) ، فقلت: جعلت فداك، قد مضى؟ فقال:(نعم ، وتولّيت غسله وتكفينه وما كان ذلك لِيلَي منه غيري) ، ثم قال لي:(دع عنك واستعرضني آي القرآن إن شئت أفسر لك تحفظه) فقلت: الأعراف. فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ:( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * *وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ... ) (١) .

عمره وتاريخ استشهاده

أما عمر الإمام الجوادعليه‌السلام حين قضى نحبه مسموماً فكان خمساً وعشرين سنة(٢) على ما هو المعروف، وهو أصغر الائمة الطاهرين الاثني عشرعليهم‌السلام سنّاً، وقد أمضى حياته في سبيل عزة الإسلام والمسلمين ودعوة الناس إلى رحاب التوحيد والإيمان والتقوى.

واستشهد الإمام الجوادعليه‌السلام سنة (٢٢٠ هـ) يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي القعدة، وقيل: لخمس ليال بقين من ذي الحجة وقيل: لست ليال خلون من ذي الحجة، وقيل: في آخر ذي القعدة(٣) .

فسلام عليه يوم ولد ويوم تقلّد الإمامة وجاهد في سبيل ربّه صابراً محتسباً ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.

ـــــــــ

(١) الثاقب: ٢٠٤.

(٢) حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٦٤.

(٣) الكافي: ١ / ٤٩٧ / ١٢، إعلام الورى عن ابن عياش، التهذيب: ٦ / ٩٠.

١١٧

الفصل الثالث: متطلّبات عصر الإمام الجوادعليه‌السلام

بعد أن وقفنا في الفصلين السابقين على ملامح عصر الإمام الجوادعليه‌السلام وطبيعة تعامل الحكّام مع الإمامعليه‌السلام وخطّه الرسالي والجماعة الصالحة التي تقف إلى جانب الإمام الحق الذي تمثّل مسيرته خطّ الهداية الربّانية للبشرية.. لابدّ أن نقف في هذا الفصل على مجمل متطلّبات عصر الإمام الجوادعليه‌السلام الخاص بظروفه ومستجداته الثقافية والسياسية والاجتماعية من خلال مجموعة المهام الرسالية التي جُعلت في الشريعة الإسلامية على عاتق أهل البيتعليهم‌السلام بشكل عام وعلى عاتق (التاسع منهم) الإمام الجواد بشكل خاص.

وذلك لأن أهل البيتعليهم‌السلام هم أهل بيت النبوّة والرسالة الذين ربّاهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيديه الكريمتين وجعلهم الدرع الحصينة التي تقي الرسالة من أن يتلاعب بها الحكّام ووعّاظ السلاطين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنها تقي الأمة الإسلامية من السقوط والتردّي إلى المهوى السحيق، بعد أن أصبحت الأمة الإسلامية هي الأمة الحية التي لابدّ لها أن تحمل مشعل الحضارة الإسلامية والربّانية إلى العالم أجمع، وقد مُنيت بصدمة كبيرة تمثّلت في الانحراف الذي طال القيادة السياسية والذي أخذ يستشري في سائر مجالات الحياة الإسلامية.

والإمام الجوادعليه‌السلام في عصره الخاص أمام مجموعة من الإنجازات التي حققها آباؤه الطاهرون في هذين الحقلين المهمّين، كما أنّه أمام مستجدات ومتغيّرات في الوضع السياسي والاجتماعي والديني بعد أن سمحت الدولة الإسلامية للتيارات المنحرفة لتعمل بحرّية في الساحة الإسلامية وذلك لأن الحكام المنحرفين قد استهدفوا إضعاف جبهة أهل البيت الرسالية دون مواجهة علنية سافرة.

والإمام الجوادعليه‌السلام لابدّ أن يوازن ويوائم بين المهامّ والمسؤوليات الرسالية من جهة، والإمكانات وما يمكن تحقيقه في هذا الظرف الخاص من جهة أخرى للاقتراب من الأهداف الكبرى والنهائية التي رسمتها له الشريعة وصاحبها وجعلت منه قيّماً رسالياً وقائداً ربّانياً قد نذر نفسه لله تعالى ولرسالته الخالدة.

من هنا يتّضح لنا ما يتطلبه العصر الخاص بالإمام الجوادعليه‌السلام وما ينبغي أن يقوم به من دور فاعل في الساحة الإسلامية وما يحققه من انجازات خاصة بالجماعة الصالحة.

١١٨

إذاً نقسّم البحث عن هذه المتطلّبات إلى بحثين أساسييّن:

الأوّل: متطلّبات الساحة الإسلامية العامة.

الثاني: متطلّبات الجماعة الصالحة.

أما متطلّبات الساحة الإسلامية العامّة فتتلخّص فيما يلي:

١ ـ إثبات جدارة خط أهل البيتعليهم‌السلام للقيادة الرسالية لجمهور المسلمين وجدارة الإمام الجوادعليه‌السلام بشكل خاص لمنصب القيادة الربّانية.

٢ ـ الردّ على محاولات التسقيط والاستفزاز التي كان يقوم بها الخطّ الحاكم ضد أهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم.

٣ ـ التمهيد العام لدولة الحق المرتقبة رغم محاولات السلطة للقضاء على قضية الإمام المهديعليه‌السلام بأشكال شتى.

٤ ـ مواجهة الانحرافات والبدع والتيارات المنحرفة في الساحة الإسلامية.

٥ ـ التوجّه إلى هموم أبناء الأمة الإسلامية.

وأما متطلّبات الخط الرسالي والجماعة الصالحة فهي كما يلي:

١ ـ تجسيد ظاهرة الإمامة المبكّرة، من خلال تخطي القوانين الطبيعية.

٢ ـ تعميق البناء الثقافي والروحي والتربوي للجماعة الصالحة.

٣ ـ إحكام تنظيم الجماعة الصالحة وإعدادها لدور الغيبة الطويلة.

٤ ـ التمهيد لإمامة الهادي المبكّرة رغم الظروف الحرجة.

٥ ـ التمهيد للإمام الغائب المنتظر بما يتناسب مع حراجة الظرف والإعداد الفكري والروحي لعصر الغيبة المرتقب إعداداً يتناسب مع صعوبات الظرف الخاص.

وسوف نقدم البحث عن متطلّبات الساحة الإسلامية العامة في هذا الفصل، ونرجئ البحث عن متطلبات الجماعة الصالحة إلى فصول لاحقة إن شاء الله تعالى.

١١٩

الباب الرابع: وفيه فصول:

الفصل الأول: الإمام الجوادعليه‌السلام و متطلّبات الساحة الإسلامية العامّة.

الفصل الثاني: الإمام الجوادعليه‌السلام ومتطلّبات الجماعة الصالحة.

الفصل الثالث: مدرسة الإمام الجوادعليه‌السلام وتراثه.

الفصل الأول: الإمام الجوادعليه‌السلام و متطلّبات الساحة الإسلامية العامّة

١ ـ أهل البيتعليه‌السلام والقيادة الرسالية

لم يستطع المأمون العبّاسي أن يحقّق نواياه الخفية في تسقيط شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام وإخراجها من القلوب العامرة بحب أهل البيتعليهم‌السلام ، لأنّ الإمام الرضاعليه‌السلام استطاع أن يخترق العقول والنفوس على مستوى اجتماعي عام، فتلألأت شخصيته العملية وتجلّت ذاته السامية للقريب والبعيد.

ولم يجد المأمون لنفسه طريقاً إلاّ أن يتخلّص من تواجد الإمام وحضوره الفاعل في الساحة الإسلامية من خلال تصفيته الجسديّة; لأن ترك الإمام ليرجع إلى المدينة بعدما طار صيته وتلألأت شخصيته سوف يطيح بعرش المأمون والعباسيين بسرعة، وبقاؤه في عاصمة الخلافة لم يكن بأقل تأثيراً من إبعاده إلى المدينة من حيث الآثار السلبية على عرش المأمون والآثار الايجابية لصالح خط الإمام الرسالي.

والنقطة الثانية التي جدّ فيها العباسيون بشكل عام وتجلّت في سلوك المأمون السياسي بشكل خاص هي قلقهم من قضية الإمام المهدي الموعود والمنتظر الذي قد وعد الله به الأمم ليرأب به الصدع ويلمّ به الشعث ويقضي به على أعمدة الجور والطغيان، فالخطر الذي قد أنذر به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكّام الطغاةوبشّر به المؤمنين والمستضعفين بدأ يقترب منهم، لما أفصح به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيان نسب الإمام المهديعليه‌السلام وموقعه القيادي حين نصّ على أنه التاسع من ولد الحسينعليه‌السلام حتى ذكر اسمه واسم أبيه ومجموعة من صفاته وخصائصه وعلائمه.

١٢٠