اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام
الصفحات: 214

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65989 / تحميل: 8236
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه، بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(1) .

ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة، وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده.

كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام)، وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر، واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد، مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف، وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة، وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد، ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً.

فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد، خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف.

ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ؛ كابن هبيرة،

____________________

(1) يقول في خبر طويل بعد أن نزل الغاضرية وقد أدركه الليل، وهدأت العيون ونامت، أقبل بعد أن اغتسل يريد القبر الشريف يقول: حتّى إذا كنت على باب الحير... وساق في خبره وقد كرّر لفظ الباب حيث يقول بعد ذلك: فلمّا انتهيت إلى باب الحائر... (إقبال الأعمال - لابن طاووس / 28)، ومجلد المزار من بحار الأنوار 22 / 120.

٦١

وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر.

فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم.

وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب، من الممكن أن نقول: أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم، وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس.

وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(2) .

وقيل: إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة، ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون (عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة) التربة الزاكية، وازدحموا على القبر

____________________

(1) جاء في مزار بحار الأنوار - للمولى محمّد باقر المجلسي / 120 ما نصه: (عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين (عليه السّلام) مستخفياً من أهل الشام حتّى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر، فلمّا دنوت منه... حتّى كاد يطلع الفجر أقبلت... فقلت له عافاك الله، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني ها هنا... وصلّيت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام.

(2) ذكر هذا القبر صاحب كنز المصائب دون إسناد، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يُعتمد عليه كثيراً؛ لِما حُشي متنه من الأخبار الغير واردة.

وقد ذكر هذا الخبر عند سرده لما دار بين المختار ومصعب بن الزبير، وعدد المواقع التي دارت بينهم والتي انتصر في جميعها المختار، =

٦٢

كازدحام الناس على الحجر الأسود(1) .

لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر، واستقصوا أمد البقية من الفترة، المختار بن أبي عبيدة الثقفي، ومصعب، وابن أخيه حمزة؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي، والباقر(2) محمّد بن علي (عليه السّلام) (لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية) يشفان عن خوف ووجل.

وممّا يؤيد وجود بناء بسيط (بل له بعض الشأن) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة، ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(3) ، حيث يقول في خبر: «... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات، فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي، وتقول:...، ثمّ إذا استقبلت القبر...، ثمّ اجلس عند رأسه الشريف...، ثمّ تحوّل عند رجليه...، ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين...، ثمّ تأتي قبور الشهداء»(4) .

وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه): «إذا أتيت باب الحير

____________________

= وهزيمة مصعب، إلى أن تمكّن مصعب من المختار آخر الأمر.

وإذ لم ترد مثل هذه الأخبار في الكتب التأريخية - والمعروف بل المحقّق أنّه لم يكن بين المختار ومصعب من مواقف سوى ما كان بالمذار، ثمّ تحصّن المختار بقصر إمارة الكوفة إلى أن قُتل -؛ لذا قلّ الاعتماد على ما ورد في هذا الكتاب من قيام المختار بتشييد قبر الحسين (عليه السّلام)، وإن كان المحلّ مناسب لإعطاء مثل هذه النسبة له.

كيف لا وقد قام المختار بأخذ ثأر الحسين (عليه السّلام)، وقتل قاتليه وصلبهم، وأحرق بعضهم بالنار؟ فلا يبعد من أن يقوم بتشييد قبره الشريف، إلاّ أنّنا نحكم بوقوع مثل هذا الأمر وجداناً لا استناداً على ما ورد في هذا الكتاب؛ للأسباب السالفة.

(1) تاريخ الطبري 7 / 70، وكان ذلك سنة 65 هـ.

(2) مجلد المزار 22 / 110.

(3) فقد توفي الصادق (عليه السّلام) سنة 148، والثمالي توفي في زمن المنصور.

(4) مجلد المزار / 145.

٦٣

فكبر الله أربعاً، وقل:...»(1) .

وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول: ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم، وتقول:...(2) .

وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول: «فإذا أتيت باب الحائر فقف... وقل:... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس، وقل:...، ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل:...، ثمّ توجه إلى الشهداء وقل:...»(3) .

وفي خبر آخر عن صفوان يقول: «فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل:...، ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل:...»(4) . وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً.

فخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه).

ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته، ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك، ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين، وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام).

ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد، وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام)، ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح، فتوارد الزائرون

____________________

(1) المصدر نفسه / 148.

(2) المصدر نفسه / 105.

(3) المصدر نفسه / 159.

(4) المصدر نفسه / 179.

٦٤

لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً، واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(1) ، وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي.

فلمّا كانت أيام الرشيد(2) ، وكانت قد استقرّت الأوضاع، وثبتت دعائم الحكم، وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة، فأرغمت أنوفهم الحمية، وأخمدت نفوسهم الطاهرة، فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم، فسلكوا سلوك بني اُميّة؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره، فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر، وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(3) ، ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها.

فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل، فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف، وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً.

ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء، واستنشقوا ريح الحرية، ولم يتعرّض لذلك، وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد - وهو شعار العباسيِّين - بلبس الخضرة - وهو شعار العلويِّين -، وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا

____________________

(1) مروج الذهب - للمسعودي 2 / 171.

(2) الظاهر إنّ الرشيد لم يتعرّض لقبر الحسين (عليه السّلام) إلاّ في اُخريات أيامه، ولعل سبب ذلك غضبه ممّا كان يشاهد من إقبال الناس لزيارة الحسين (عليه السّلام) وتعظيمه والسكنى بجواره، وكان قبل ذلك يجري ما أجرته أمّ موسى من الأموال على الذين يخدمون قبر الحسين في الحير. انظر الطبري 10 / 118. (عادل)

(3) روى ذلك محمّد بن الحسن الطوسي في أماليه / 206 طبع إيران، بسنده إلى جرير بن عبد الحميد، وذكر أنّه عندما سمع جرير بالخبر رفع يديه قائلاً: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً. فلم نقف على معناه حتّى الآن.

٦٥

ابن موسى الكاظم (عليه السّلام)، ولعل ذلك كيد منه، وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين، واسترضاء لمناصريه الخراسانيين.

وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف، وبنى عليه لهذه الفترة(1) ، وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط، دليل على تشييد قبر الحسين(2) بعد مضي الرشيد إلى طوس.

وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً، واتخذت دوراً حوله، وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره، إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف، وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب، وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها، فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها، فبعثت إليه بجارية وكان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها.

فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟

قالت: إلى قبر الحسين (عليه السّلام).

فاستطير غضباً(3) ، وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان، فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية - وكان الديزج يهودياً قد أسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه، وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق، فمضى لذلك وعمل بما أمر به، وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر، فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم

____________________

(1) نزهة الحرمين - للعلاّمة السيد حسن الصدر (مخطوط) نقلاً عن تسلية المجالس.

(2) انظر مقاتل الطالبيِّين - لأبي الفرج الإصبهاني / 341 ط النجف.

(3) المصدر نفسه / 386.

٦٦

إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء عليه(1) ، فحار الماء عند حدود قبره الشريف(2) ، ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل، ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(3) ، فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور، ولم يعهد مثله إلى هذا الحد.

فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة، فوطّن نفسه على المخاطر، وساعده رجل من العطّارين، فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية، وخرجا منها نصف الليل، فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف، فخفى عليهما موضعه، فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق، وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق، فزاراه وانكبّا عليه، وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب.

فقال الأشناني للعطّار: أي رائحة هذه؟

فقال: والله ما شممت مثلها بشيء من العطر.

فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً.

وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر، وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام)، مقرّباً لهم، رافعاً مكانتهم، معظّماً قدرهم، ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام)، ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(4) ، وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين.

ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً؛ لعدم تعرّض أخلافه له؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم، وانحلال أمرهم، وتسلّط الأتراك عليهم، وانشغالهم بأنفسهم.

وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا

____________________

(1) المصدر نفسه / 386.

(2) المصدر نفسه / 386.

(3) المصدر نفسه / 387.

(4) فرحة الغري - لعبد الكريم بن طاووس.

٦٧

الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة، وأنفقه على العسكر، واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(1) ، إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه؛ لقصور يده، وضعف شأنه لا لشيء آخر.

وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(2) ، فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(3) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(4) ، وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه.

وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة (370 هـ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(5) ، وكان آل بويه يناصرون الشيعة.

وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء، وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد.

____________________

(1) المناقب - لابن شهر آشوب، وكان ذلك سنة 511 هـ.

(2) فرحة الغري / 61.

(3) جاء في بحر الأنساب (العائد لخزانة المرحوم الشيخ عبد الحسين شيخ العراقيين الطهراني) عند ذكره لنسب المعتضد بالله العباسي بقوله: وأمر بعمارة مشهد الغري بالكوفة ومشهد كربلاء، وافتقد الخزائن بدار الخلافة، فأخرج منها ما وجده من نهب الواثق من مال مشهد الحسين بن علي (عليه السّلام) وأعاده إليه.

(4) فرحة الغري، وكان محمّد بن زيد هذا دائم التصدّق على العلويِّين في المشاهد؛ فقد بعث في خلافة المعتضد بالله اثنين وثلاثين ألف دينار لمحمد بن ورد ليفرّقها على العلويِّين. (انظر الكامل 6 / 80، والطبري 12 / 346).

(5) تسلية المجالس - لمحمد المجدي (بالفارسية)، طبع حجر.

٦٨

(وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام»(1) .

وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق، وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(2) ، فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته، إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء، وفي أيّ تاريخ كان ذلك(3) ، ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي

____________________

(1) فرحة الغري / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 9 / 110 ط ليدن، و7 / 295 من ط القاهرة، والمنتظم - لابن الجوزي 7 / 283، البداية - لابن كثير 12 / 4، والنجوم الزاهرة - لابن تغري بردى 4 / 241.

(3) ذكر كلّ من العلاّمة السيد حسن الصدر الكاظمي في نزهة الحرمين / 35، والعلامة السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 4 / 302، ومن أخذ عنهما، أنّ أبا محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان وزير سلطان الدولة البويهي هو الذي جدّد بناء الحائر بعد وقوع هذا الحريق، لكن المصادر التي عوّلوا عليها لم تنسب إلى ابن سهلان هذا سوى بناء سور الحائر وليس تجديد بنائه، كما في المنتظم 7 / 283، والبداية والنهاية 12 / 16، ومجالس المؤمنين / 211، والنجوم الزاهرة 4 / 259.

هذا فضلاً عن أنّ ابن سهلان بدأ ببناء سور الحائر في سنة 400 هـ، أيّ قبل وقوع الحريق بسبعة أعوام، وهي نفس السنة التي أمر ببناء سور على مشهد أمير المؤمنين(عليه السّلام). (الكامل 7 / 249. ط القاهرة).

فقد ورد في المنتظم 7 / 246: وفي جمادى الأولى (سنة 400 هجـ) بدأ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان أبو محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان قد زار هذا المشهد، وأحبّ أن يؤثر فيه مؤثراً، ثمّ ما نذر لأجله أن يعمل عليه سوراً حصيناً مانعاً؛ لكثرة مَنْ يطرق الموضع من العرب، وشرع في قضاء هذا النذر، ففعل وعمل السور، وأحكم وعرض، ونصبت عليه أبواب وثيقة وبعضها حديد، وتمّم وفرغ منه، وتحسّن المشهد به، وحسن الأثر فيه. (عادل).

٦٩

شيّده عضد الدولة، إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف، أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق.

هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة، وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني، وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(1) .

____________________

(1) زينة المجالس - لمحمد المجدي (مخطوط) باللغة الفارسية / 84، والمجدي من معاصري الشيخ البهائي، وقد صنّف كتابه هذا سنة 1004 هجـ، فقد جاء فيه: إلى أن أمر السلطان أويس الإيلكاني، وابنه السلطان حسين ببناء عمارة عالية.

وللسيد المؤلّف (عبد الحسين) ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، خطر لي أن أثبتها هنا، يقول: ذكر سماحة السيد محسن الأمين العاملي في المجلد 3 / 593، من أعيان الشيعة، قال فضيلته عن آخر كتاب الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي الحلّي المجاور بالنجف الأشرف، في نسخته المخطوطة في خزانة العلوية الذي تمّت كتابته في محرّم سنة 755 هجـ، قال: (في هذه السنة احترقت الحضرة الغروية (صلوات الله على مشرّفها)، وعادت العمارة وأحسن منها في سنة 760 سبعمئة وستون). انتهى.

أقول: هذا الحريق هو الذي ذكره ابن مهنا الداودي في العمدة / 5، ولكنّه لم يذكر اسم المجدّد للبناء الذي شيّد على الروضة المطهّرة الحيدرية، حيث المدّة تقارب زمن البناء الذي قام به السلطان أويس، وولده السلطان حسين الإيلكانية في سنة (767) على قبر الحسين (سلام الله عليه) الموجود اليوم على الروضة الطاهرة.

من المقتضي أن يكون السلطان حسين الإيلكاني هو منفرداً أقام البناء على الروضة الطاهرة الحيدرية، وبالخاصة لموقع قبورهم التي ظهرت في سنة الخامس عشر بعد الثلاثمئة والألف هـ وسط الصحن الشريف ما يلي باب الطوسي، أحد أبواب الصحن الشريف، في القسم الشمالي من الروضة الزاكية؛ إذ ظهر سرب فيه ثلاثة قبور على أحدهم في القاشاني مرقوم (توفي الشاهزاده الأعظم معزّ الدين عبد الواسع في 15 جمادى الأوّل سنة 790)، وعلى لوح القبر الثاني (هذا ضريح الطفل الصغير سلالة السلاطين الشاهزادة ابن الشيخ أويس (طاب ثراه). توفي يوم الأربعاء حادي عشر محرّم الحرام سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة).

وعلى لوح القبر الثالث (هذا قبر الشاهزادة سلطان بايزيد (طاب ثراه). توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة هلالية)، وعلى قبر آخر (هذا قبر المرحومة السعيدة بايندة السلطان).

وقد ابتدأ حكم الأسرة الإيلكانية الجلائرية في بغداد وآذربايجان بعد موت أبي سعيد بن أولجياتو محمّد خدابنده بقليل بالشيخ حسن الكبير، تقريباً بين سنة تسع وثلاثين وسبعمئة، أو سنة الأربعون، وكانت وفاته سنة 757 هـ، ثمّ تلاه في الحكم ولده السلطان أويس سنة 757 هـ، وتوفي سنة 776 هـ، ثمّ تلاه ولده السلطان حسين من سنة 776 هـ، إلى أن توفي في سنة 784 هـ، ثمّ تلا السلطان حسين أخوه السلطان أحمد الجلائري ابن أويس، إلى أن قُتل في تبريز بين سنة ثلاث عشرة وثمانمئة وأربع عشرة، وبه تقريباً انتهت أيامهم.

٧٠

وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(1) فيما يلي الرأس الشريف، وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني، وذكره في كتابه المسمّى بـ (الكشكول).

وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف (1216)، ومن موضعه، عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة

____________________

(1) جاء في كتاب (دلائل الدين) تأليف عبد الله ابن الحاج هادي ما ترجمته: روى عن السجّاد (عليه السّلام): أنّ الله تعالى ذكر في القرآن أنّ السيدة مريم (عليها السّلام) عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها، وذهبت إلى كربلاء - بصورة معجزة - بجنب نهر الفرات، وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (عليه السّلام)، وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم إلى دمشق.

ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (عليه السّلام) - على ما أتذكر - أنّ صخرة على مقربة من قبر الحسين نُصبت في الحائط قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أنّ الرأس الشريف قد حزّ على هذه الصخرة، ويقولون أنّ المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً.

٧١

الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة: (واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216) هـ.

وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس، وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(1) إلى القبر الشريف،

____________________

(1) عندما دخل الشاه إسماعيل الصفوي الأوّل - مؤسس الدولة الصفوية في إيران والذي يرتقي نسبه إلى الإمام السابع موسى بن جعفر (عليه السّلام) - بغداد فاتحاً سنة 914 هـ كان همّه الأول هو التبرّك بزيارة أجداده الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، فقصد زيارة مرقد الحسين (عليه السّلام)، وعمل ثوباً حريرياً لقبره الشريف، وعلّق اثنى عشر قنديلاً من الذهب أطراف القبر، وفرش تلك الحضيرة القدسية بالبسط، وجلّله بأنواع الحرير والإستبرق، وبذل الأموال الكثيرة لللائذين بقبره الشريف، ثمّ خرج قاصداً النجف الأشرف. (وقد ترجم النص المتقدّم العلاّمة المؤلّف عن (حبيب السير) لخواند مير بالفارسية - مخطوط في 3 مجلدات في مكتبة المؤلّف سنة 1008 هـ).

وقد جاء أيضاً في (عالم آراى عباسي) لإسكندر منشي جـ 2 عن زيارة هذا الشاه ما ترجمته: توجه الشاه من بغداد إلى تربة كربلاء بعد إخلاص النيّة، وتشرّف بزيارة مرقد الحسين المنوّر وشهداء كربلاء، وقد زيّن الروضة وأنعم على المجاورين، ثمّ توجه من هناك إلى زيارة علي المرتضى (عليه السّلام) عن طريق الحلّة. راجع أيضاً فارسنامه ناصري 1 / 93.

وزار كربلاء أيضاً الشاه عباس الأول الصفوي، فقد جاء في فارسنامه ناصري ما ترجمته: غادر الشاه عباس الأول الصفوي أصفهان في سنة 1033 هجري متجهاً نحو بغداد، وفي غرّة ربيع الأوّل من نفس السنة دخل بغداد فاتحاً...، ثمّ توجه إلى النجف الأشرف في محرّم الحرام، وعلى بعد (30) كيلو متر ترجّل عن فرسه وخلع نعله، وأنعم على كافة سكنة النجف، وتوجه بعد ذلك مسروراً فرحاً إلى زيارة كربلاء وطاف بالبقعة الطاهرة، ثمّ أقفل راجعاً إلى بغداد وزار الإمامين الكاظمين وسامراء.

وفي ربيع هذه السنة أعاد الكرّة لزيارة كربلاء والنجف الأشرف، وقبل أعتاب هاتين الحضرتين أدّى لوازم الزيارة، وأهدى من الصناديق القيمة والطنافس الحريرية المطرّزة والديباج الشيء الكثير، ورجع مقفلاً إلى بغداد، وأعاد الزيارة مرّة أخرى إلى الروضة الحسينيّة.

وانظر أيضاً =

٧٢

ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها، إلاّ أنّه بلغني - ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر، والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى (بصافي صفا) نسبة إلى الصفويِّين، وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان، والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف، فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما)، وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام)، ومقبرة خواجه ربيع، والقدم كاه.

وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان - الشرقي والغربي - كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه، ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره، ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد

____________________

= عالم آراي عباسي، وهناك مصدر لا بدّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص هو (تاريخ دهامر الألماني) الذي تُرجم من اللغة الفرنسية إلى الفارسية باسم: سلطان التواريخ، في تاريخ سلاطين آل عثمان، يقع في ثلاث مجلدات ضخام، تحتوي على 72 باباً، ينتهي به مؤلفه إلى آخر عهد عبد الحميد الأول العثماني، بعد حرب الروس والأتراك وعقد معاهدة (كنارجة).

وفي سنة 1034 هـ أعاد السلطان مراد الرابع العثماني العراق إلى حوزة دولته، وفي 27 جمادى الأولى سنة 1039 هـ احتل بغداد مرّة أخرى الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول، وزار كربلاء في سنة 1048 هـ في يوم عيد، فقبّل أعتاب ضريح سيد الشهداء وأخيه العباس بعد أن أنذر النذور، وأكرم ذوي الحاجة. (روضة الصفاي ناصري المجلد الثامن).

وفي سنة 1156 هـ توجه نادر شاه من النجف الأشرف إلى تقبيل أعتاب الحسين (عليه السّلام) الذي حرمه مطاف ملائكة الرحمن، وقدّمت زوجته رضية سلطان بيكم كريمة الشاه سلطان حسين الصفوي عشرين ألف نادري لتعمير جامع الحرم الشريف (التاريخ النادري).

٧٣

ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه.

وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(1) عملوا موضعية الكُتيبة

____________________

(1) وقد شيّد هذا الإيوان الكبير في سنة 1281 هـ من قبل المرحوم ميرزا موسى وزير طهران، لتكون مقبرة له ولعائلته، وقد جدّد المرايا والكُتيبة القرآنية، وزوّق جدرانها الداخلية بالكاشي النفيس.

وقد نظم الشاعر (قلزم) الذي كان من الشعراء الشهيرين في تلك الفترة، هذه القصيدة بالمناسبة:

اي نمودار حريمت حرم عرش برين

ظـل دركـاهت خـركه زده بر عليين

قـدسيان بسته بفرمان تو از عرش كمر

آسمان سوده در ايوان تو بر فرش جبين

بـوده دارلـت شـاهنشه اقـليم شهود

بـيشكا رانـت فـرمان ده سرحد يقين

ظل خركاه تو را قبله كند روح القدس

خاك دركاه تو را سجده برد حور العين

از ازل تـاج شـهادة جه نهادي بر سر

شـد ترا ملك شفاعت همه در زير نكين

از بـهاي كـهر باك تو اين توده خاك

كعبه دين شود وشد سجده كه أهل زمين

إلى أن يقول:

قـصة طـور كـليم الله فاخلع نعليك

هـمه از خاك درت مظهر آيات مبين

عكس از شمسه ايوان تو شد شمس فلك

بر تو اوبر همه كون مكان كشت مكين

سـاكـنان حـرم وجـلال مـلكوت

هـه بـرخاك رهـت بايد خاك نشين

=

٧٤

الموجودة اليوم من المرايا، رُقمت بهذه الآية:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً

____________________

=

بـهر فـراشي حجابت هر شام وسحر

قيصر أز روم كمر بندى وفقفور أز جين

إلى أن يقول:

اين هـمان وادى دوروا تـش شـوق

صـه جـه موسى باميد قبسي خاك نشين

انـدرين عـهد هـمايون از فـو ظـفر

رايـت دولـت اسـلام بر از جرخ برين

شـاه شـاهان جهان ظل خدا كهف زمان

خـسرو مـلك مـلل بـادشاه دولت ودين

شـهـر بـازيكه زأواز كـوي سـخطش

تـااب درشـده در جـحمه كـوه طـنين

مـير فـرخنده نـزادى زد راوكـه بـود

افـتـاب فـلك ورفـعت كـوه وتـمكين

داشـت جـون كوهري آراسته نور صفا

كـرد ايـن صـفه ايـوان صفارا ترين

دولت نـاصرى وسـعى امـام مـلت

أنـدرين عـهد بـود مـحيي آثار جنين

افـتـخار فـضلا قـبله أربـاب فـلاح

بـيشواى دو جـهان بـادشاه شرع مبين

انـكه از بـندكي صـاحب روضـه باك

شـده بـرخا جـكي علم ازل صدر تشين

جون زفيض كف موسى شد اين طور صفا

..........................................

كـلك قـلزم بي تاريخ سخنور شده وكفت

بـا كـف مـوسى آراسـته طـور سنين

٧٥

وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... ) .

هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية، وجصّصها من الخارج(1) .

وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر، وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري.

وقام أغا محمّد خان (الخصي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(2) .

وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر، مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله:

كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت

در كبند حسين علي زيب بافت زر

1207 هـ

____________________

(1) لم نعثر على مصدر هذا الخبر، ولكنّه قد جاء في كلشن خلفاء (ص 102 وجه) لنظمي زاده بالتركية: أنّ الوالي علي باشا الوند زادة، بأمر من السلطان مراد الثالث العثماني قد جدّد بناء جامع الحسين وقبّته المنوّرة، وذلك سنة 984 هـ.

وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء المشهورين بأبيات مطلعها:

بـحمد الله كه از عون الهي

نـموده خـدمت شاه شهيدان

شه كشور ستان خاقان اعظم

مـراد بن سليم ابن سليمان

وقد وهم الأستاذ حسن الكليدار في كتابه (مدينة الحسين / 38) إذ ذكر أنّ هذه الأبيات قد قيلت بمناسبة تشييد القبّة من قبل مراد الرابع العثماني، إلاّ أنّ الصحيح ما ذكرناه. (عادل)

(2) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ - للسان الملك سبيهر / 33 سنة 1206 هـ.

٧٦

وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري - أحد ملوك إيران - شبكة فضية(1) ، وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف، وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض.

وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه - ملك أود - سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة.

ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب: (هو الله الموفّق المستعان، قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان، وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن، وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان).

وعلى الفردة الثانية، الجانب الأيسر تتمته: (وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، السلطان الأعظم والخاقان الأكرم، سلطان الهند، محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه، وأسكنه فسيح جناته)، وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين).

وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة، وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف، وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(2) (شيخ العراقين) من قبل شاه

____________________

(1) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 63.

(2) جاء في مستدرك الوسائل - للعلاّمة النوري 3 / 397 في ترجمة الشيخ عبد الحسين الطهراني: (شيخي وأستاذي ومَنْ إليه في العلوم الشرعية استنادي، أفقه الفقهاء، وأفضل العلماء، العالم الرباني، الشيخ عبد الحسين الطهراني... حتّى يقول: وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، وأقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات).

وقد توفي في الكاظمية في 22 شهر رمضان سنة 1286 هـ، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في إحدى حجرات الصحن الحسيني.

٧٧

إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ، وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه.

وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول:

بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد

زخـاك أوست بائين كاخ خضرا

نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب

زنـور أو مـنور روي غـبرا

بـراي كـشوار عـرش يـعني

حـسين بـن عـلي دلبند زهرا

بـناي سـال أو جابر همي كوي

أز ايوان شـكست كـسرى

بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ

وله تأريخ بالعربية:

لـله إيوانٌ سما رفعةً

فطاول العرشَ به الفرشُ

قال لسانُ الغيب تأريخه

أنت لأملاك السما عرشُ

ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير، في القسم الغربي من الصحن؛ لظهور الصدع فيه.

وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف، هذه العبارة: (مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ).

وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة: (واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين، ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ).

٧٨

ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي، فوق الشباك: (عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ).

ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل، قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني، وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية.

إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع

أنهار كربلاء

(النهرين): فرعان يشتقان من عمود الفرات، ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني، ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء، يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(1) ، ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(2) :

قال أبو الفرج: لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى، تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: قلت له: أين تريد؟

قال: أريد النهرين. ومعه الصياد العبدي.

قلت: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل.

قال: اُريد نهري كربلاء (وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات)، فقلت له: النجاء قبل الصبح. فخرجنا فلمّا

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 61 ط القاهرة.

(2) الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم - لجمال الدين الشامي جـ 2 خط.

٧٩

جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان، فخرجنا مسرعين، فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة، فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى، فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى، ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به.

(فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة، ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى، فقال: اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا، فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا).

وذكر ابن كثير في البداية(1) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال: كنّا مع الحسين بنهري كربلاء. وأورد ابن شهر آشوب في المناقب: مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(2) .

قال الطبري(3) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح، وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة، وزع بينهم العمال؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية، فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته.

وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(4) ابتداء أمر القرامطة: وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان، ومقامه بموضع يُقال له: النهرين، يظهر الزهد والتقشّف، ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة.

إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة

____________________

(1) ج 8 / 188.

(2) المناقب 4 / 83، ط بمبي.

(3) ج 4 / 17، ط ليدن.

(4) ج 8 / 159، ط الاستقامة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فقولك: (إن الله قدير) خبّرت أنه لا يعجزه شيء، فنفيت بالكلمة العجز وجعلت العجز سواه.

وكذلك قولك: (عالم) إنما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل سواه، وإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع، ولا يزال من لم يزل عالماً .

فقال الرجل: فكيف سمّينا ربنا سميعاً ؟

فقال:لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس وكذلك سمّيناه بصيراً لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار، من لون أو شخص أو غير ذلك، ولم نصفه ببصر لحظة العين وكذلك سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك، وموضع النشوء منها، والعقل والشهوة للفساد والحدب على نسلها وإقام بعضها على بعض، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار، فعلمنا أن خالقها لطيف بلا كيف، وإنما الكيفية للمخلوق المكيّف.

وكذلك قويّاً لا بقوة البطش المعروف من المخلوق، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً.

فربّنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضدّ ولا ندّ ولا كيف ولا نهاية ولا تبصار بصر، ومحرّم على القلوب أن تمثّله، وعلى الأوهام أن تحدّه، وعلى الضمائر أن تكوّنه، جلّ وعزَّ عن أداة خلقه وسمات بريّته، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً) (١) .

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٣٥٤ ـ ٣٥٦.

١٤١

مكافحة الغلو:

من الانحرافات الخطيرة التي انتشرت عند البعض الغلو بأهل البيتعليهم‌السلام . وقد وقف الائمة من أهل البيتعليهم‌السلام بالمرصاد للمغالين فيهم فردّوهم وأفحموهم وأمروا أتباعهم بالابتعاد عنهم.

وقد سار الإمام الجوادعليه‌السلام على نهج آبائه في هذه المسألة وكان حذراً من نشأة بذور الغلو، كما يظهر ذلك من خلال ترصّده لبعض الممارسات ومن الأدلة على هذا الأمر، ما ذكره المؤرخون عن الحسين بن محمد الأشعري حيث قال: (حدثني شيخ من أصحابنا يقال له عبد الله بن رزين قال: كنت مجاوراً بالمدينة مدينة الرسول وكان أبو جعفرعليه‌السلام يجيء في كل يوم مع الزوال إلى المسجد فينزل إلى الصخرة ويمرّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسلّم عليه، ويرجع إلى بيت فاطمة ويخلع نعله فيقوم فيصلّي فوسوس إليّ الشيطان، فقال: إذا نزل فاذهب حتى تأخذ من التراب الذي يطأ عليه فجلست في ذلك اليوم انتظره لأفعل هذا.

فلمّا أن كان في وقت الزوال أقبلعليه‌السلام على حمار له فلم يزل في الموضع الذي كان ينزل فيه فجازه حتى نزل على الصخرة التي كانت على باب المسجد ثم دخل فسلّم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم رجع إلى مكانه الذي كان يصلّي فيه ففعل ذلك أياماً، فقلت: إذا خلع نعليه جئت فأخذت الحصا الذي يطأ عليه بقدميه.

فلما كان من الغد جاء عند الزوال فنزل على الصخرة ثم دخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء إلى الموضع الذي كان يصلّي فيه ولم يخلعهما ففعل ذلك أياماً فقلت في نفسي: لم يتهيأ لي ههنا ولكن أذهب إلى باب الحمّام فإذا دخل أخذت من التراب الذي يطأ عليه فسألت عن الحمّام فقيل لي إنه يدخل حمّاماً بالبقيع لرجل من ولد طلحة، فتعرّضت اليوم الذي يدخل فيه الحمّام، وصرت إلى باب الحمّام وجلست إلى الطلحي أحدّثه وأنا انتظر مجيئهعليه‌السلام .

فقال الطلحي: إن أردت دخول الحمام فقم فادخل فإنه لا يتهيأ لك بعد ساعة، قلت: ولم ؟ قال: لأن ابن الرضاعليه‌السلام يريد دخول الحمام، قال: قلت: ومَن ابن الرضا ؟ قال: رجل من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له صلاح وورع، قلت له: ولا يجوز أن يدخل معه الحمام غيره ؟ قال: نخلي له الحمام إذا جاء، قال: فبينا أنا كذلك إذ أقبلعليه‌السلام ومعه غلمان له، وبين يديه غلام، ومعه حصير حتى أدخله المسلخ، فبسطه ووافى وسلّم ودخل الحجرة على حماره، ودخل المسلخ، ونزل على الحصير.

فقلت للطلحي: هذا الذي وصفته بما وصفته من الصلاح والورع ؟

١٤٢

فقال: ياهذا والله ما فعل هذا قط إلا في هذا اليوم، فقلت في نفسي: هذا من عملي أنا جنيته، ثم قلت: انتظره حتى يخرج فلعلّي أنال ما أردت إذا خرج. فلمّا خرج وتلبّس دعا بالحمار وأدخل المسلخ، وركب من فوق الحصير وخرجعليه‌السلام ، فقلت في نفسي: قد والله آذيته ولا أعود أروم ما رمت منه أبداً وصحّ عزمي على ذلك. فلمّا كان وقت الزوال من ذلك اليوم أقبل على حماره حتى نزل في الموضع الذي كان ينزل فيه في الصحن، فدخل فسلّم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء إلى الموضع الذي كان يصلّي فيه في بيت فاطمةعليها‌السلام وخلع نعليه وقام يصلّي)(١) .

ب ـ تعميق البناء العلمي

ومن جملة المجالات التي تحرّك فيها الإمام الجوادعليه‌السلام هو إكماله لبناء الصرح العلمي الذي أشاده الائمةعليهم‌السلام من آبائه الكرام، وفي سياق هذا النشاط نلاحظ إجابته على الاستفسارات العلمية والاستفتاءات الفقهية التي كانت تستجد للطائفة الشيعية والأمة الإسلامية آنذاك.

والأهم من ذلك ملاحظة نشاطه في إكمال الأدوات والمنهج العلمي.

ـــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥٠ / ٥٩ ـ ٦١.

١٤٣

إكمال الأدوات والمنهج العلمي:

تشكّل القواعد الأصولية جزءً من المنهج العام لفهم الشريعة واستنباط أحكامها. ونوجز منهجهعليه‌السلام فيما يلي:

أ ـ عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلاّ بعد معرفة تفسيرها من الأئمّةعليهم‌السلام .

فقد روي في الكافي عن الإمام الجوادعليه‌السلام أنه قد روى عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّ رجلاً سأل أباه محمّد الباقرعليه‌السلام عن مسائل، فكان ممّا دار بينهما أن قال:(قل لهم: هل كان فيما أظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علم الله (عزّ ذكره) اختلاف ؟ فإن قالوا لا، فقل لهم: فمن حكم بحكم الله فيه اختلاف، فهل خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فيقولون: نعم، فإن قالوا: لا ; فقد نقضوا أوّل كلامهم ; فقل لهم: ( مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) . فإن قالوا: من ( الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ؟ فقل: من لا يختلف في علمه. فإن قالوا: فمن هو ذاك ؟ فقل: كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب ذلك إلى أن قال:وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستخلف في علمه أحداً فقد ضيّع من في أصلاب الرّجال ممّن يكون بعده .

قال أيضاً: وما يكفيهم القرآن ؟ قال:بلى، إن وجدوا له مفسّراً .

قال: وما فسّره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال:بلى قد فسّره لرجل واحد، وفسّر للأمة شأن ذلك الرجل، وهو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام )(١) .

ـــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٢٤٥.

١٤٤

وقال عليه‌السلام أيضاً: (والمحكم ليس بشيئين إنّما هو شيء واحد ; فمن حكم بما ليس فيه اختلاف، فحكمه من حكم الله عَزَّ وجَلَّ ; ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب، فقد حكم بحكم الطاغوت) (١) .

ب ـ وجوب العمل بأحاديث الأئمّةعليهم‌السلام المنقولة في الكتب المعتمدة.

فقد جاء في الكافي أيضاً عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شنبولة، أنّه قال: (قلت لأبي جعفر الثانيعليه‌السلام : جعلت فداك، إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام وكانت التقيّة شديدة، فكتموا كتبهم، ولم ترو عنهم، فلمّا ماتوا صارت الكتب إلينا.

فقال عليه‌السلام : (حدّثوا بها، فإنّها حقّ) (٢) .

ج ـ جواز العمل بقول من أجازه الإمامعليه‌السلام في العمل برأيه.

فقد جاء في رجال الكشّي: عن خيران الخادم أنّه قال: (وجّهت إلى سيّدي(٣) ثمانية دراهم ـ في حديث ـ وقال: قلت: جعلت فداك، إنّه ربّما أتاني الرجل لك قبله الحقّ، أو يعرف موضع الحقّ لك، فيسألني عمّا يعمل به، فيكون مذهبي أخذ ما يتبرّع في سرّ ؟ قال:اعمل في ذلك برأيك، فإنّ رأيك رأيي، ومن أطاعك فقد أطاعني )(٤) .

د ـ عدم جواز الإفتاء من دون علم

فقد مرّ أنه حينما توفي الإمام الرضاعليه‌السلام كان عُمر أبي جعفرعليه‌السلام حينذاك سبع سنين، فاختلفت كلمة الشيعة حوله ببغداد والأمصار فاجتمع وجهاء الشيعة

ـــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٢٤٨.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٥٣ ح ١٥، عنه الوسائل: ١٨ / ٥٨ / ٢٧.

(٣) المراد بسيّده هنا إمّا الإمام الرضا، أو الإمام الجواد، أو الإمام الهاديعليهم‌السلام لأنّه خدمهم ثلاثتهمعليهم‌السلام ، والمرسل إليه يحتمل الثلاثة.

(٤) رجال الكشي: ٦١٠ ح ١١٣٤، وزاد فيه: قال أبو عمرو: هذا يدل على أنّه كان وكيله، ولخيران هذا مسائل يرويها عنه، وعن أبي الحسنعليهما‌السلام ، عنه في الوسائل: ١٢ / ٢١٦ / ح ٦.

١٤٥

وفقهاؤهم في الموسم ليشاهدوا أبا جعفرعليه‌السلام فوجدوا في دار جعفر الصادقعليه‌السلام عبد الله بن موسى قد جلس في صدر المجلس وكان يُسأل فيجيب بأجوبة دعتهم إلى الحيرة فاضطربوا وهمّوا بالانصراف، وإذا بموفّق الخادم يدخل عليهم مع أبي جعفرعليه‌السلام فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه ثم جلس وبدأوا بالسؤال فكان يجيب على أسئلتهم بالحق. ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إن عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت فقالعليه‌السلام :لا إله إلاّ الله ! ياعمّ ! إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأمة من هو أعلم منك ؟! )(١)

الإجابة على الاستفتاءات الفقهيّة والاستفسارات العلمية:

لقد أسهمت إجابات الإمام الجوادعليه‌السلام على الاستفتاءات الفقهية وغيرها من الاستفسارات العلمية في البناء العلمي للجماعة الصالحة ولك أن تلاحظها في النصوص التالية:

وقت صلاة الفجر: عن الحصين بن أبي الحصين، قال: (كتبت إلى أبي جعفرعليه‌السلام : جعلت فداك، اختلف مواليك في صلاة الفجر، فمنهم من يصلّي إذا طلع الفجر الأول المستطيل في السماء، ومنهم مَن يصلي إذا اعترض في أسفل الأرض واستبان، ولست أعرف أفضل الوقتين فأُصلي فيه. فإن رأيت يامولاي ـ جعلني الله فداك ـ أن تعلّمني أفضل الوقتين، وتحدّ لي كيف أصنع مع القمر والفجر لأتبين معه حتى يحمرّ ويصبح ؟ وكيف أصنع مع الغيم ؟ وما حدّ ذلك في السفر والحضر ؟ فعلت إن شاء الله.

ـــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٥٠ / ٩٩.

١٤٦

فكتب بخطّهعليه‌السلام :(الفجر ـ يرحمك الله ـ الخيط الأبيض، وليس هو الأبيض صعداً، ولا تصلّ في سفر، ولا في حضر حتى تتبيّنه ـ رحمك الله ـ، فإن الله لم يجعل خلقه في شبهة من هذا، فقال تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) (١) فالخيط الأبيض هو الفجر الذي يحرم به الأكل والشرب في الصيام، وكذلك هو الذي يوجب الصلاة) (٢) .

البسملة في الصلاة: عن يحيى بن أبي عمران الهمداني، قال: (كتبت إلى أبي جعفرعليه‌السلام : جعلت فداك، ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أم الكتاب، فلمّا صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها ؟ فقال العباسي(٣) : ليس بذلك بأس. فكتب بخط يده:(يعيدها مرتين على رغم انفه) يعني العباسي(٤) .

الإكراه في الزواج: جاء في رواية علي بن مهزيار عن محمد بن الحسن الأشعري، قال: (كتب بعض بني عمي إلى أبي جعفر الثانيعليه‌السلام : ما تقول في صبيّة زوّجها عمّها، فلمّا كبرت أبت التزويج ؟ فكتب بخطهعليه‌السلام :(لا تكره على ذلك، والأمر أمرها) (٥) .

ـــــــــ

(١) البقرة (٢): ١٨٧.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٣٨٢ ـ ٣٨٢.

(٣) هو هشام بن إبراهيم العباسي وكان يعارض الرضا والجوادعليهما‌السلام .

(٤) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٥) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٤٧٥.

١٤٧

حكم الوقف: عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: (كتبت إلى أبي جعفر الثانيعليه‌السلام اسأله عن أرض أوقفها جدّي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير، متفرقون في البلاد ؟

فأجابعليه‌السلام :(ذكرت الأرض التي أوقفها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبع من كان غائباً) (١) .

شهادة الزوج وغير الزوج: عن محمد بن سليمان أنه قال: قلت لأبي جعفر الثانيعليه‌السلام : (كيف صار الزوج إذا قذف امرأته كانت شهادته أربع شهادات بالله ؟ وكيف لا يجوز ذلك لغيره وصار إذا قذفها غير الزوج جلد الحدّ، ولو كان ولداً أو أخاً ؟

فقال: (قد سئل أبو جعفرعليه‌السلام عن هذا، فقال: ألا ترى أنه إذا قذف الزوج امرأته، قيل له: وكيف علمت أنها فاعلة ؟ فإن قال: رأيت ذلك منها بعيني، كانت شهادته أربع شهادات بالله، وذلك أنه قد يجوز للرجل أن يدخل المدخل في الخلوة التي لا تصلح لغيره إن يدخلها ولا يشهدها ولد ولا والد في الليل والنهار، فلذلك صارت شهادته أربع شهادات بالله إذا قال: رأيت ذلك بعيني.

وإذا قال: إني لم أعاين، صار قاذقاً في حدّ غيره، وضرب الحدّ إلاّ أن يقيم عليها البيّنة، وإن زعم غير الزوج إذا قذف وادّعى أنه رآه بعينه قيل له: وكيف رأيت ذلك ؟ وما أدخلك ذلك المدخل الذي رأيت فيه هذا وحدك ؟ أنت متّهم في دعواك، وإن كنت صادقاً فأنت في حدّ التهمة، فلا بدّ من أدبك بالحدّ الذي أوجبه الله عليك).

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٤٦٦.

١٤٨

قال:(وإنما صارت شهادة الزوج أربع شهادات بالله لمكان الأربعة شهداء مكان كل شاهد يمين) (١) .

إنّ ما ذكر من الأمثلة السابقة نماذج لبعض توجهات الإمام الجوادعليه‌السلام وهو تفقيهه لشيعته ومواليه عن طريق مراسلتهم إياه أو سؤاله بصورة مباشرة.

ج ـ تعميق البناء التربوي

من المفردات الأساسية التي اهتم بها الإمام الجوادعليه‌السلام هو مسألة بناء الخلق الإسلامي عند الفرد والمجتمع.

وقد كان الإمامعليه‌السلام وفي سياق تربية الأمة ينقل لهم أحاديث أجداده خصوصاً أمير المؤمنينعليه‌السلام لما تحتويه من توجيهات تربوية عميقة ومؤثرة وفي هذا المجال سنعتبر كلمات الإمام الجوادعليه‌السلام وما نقله عن أجداده الائمةعليهم‌السلام وطرحه للأمة مادة لفهم توجهاته التربوية.

الحكمة في العمل:

أراد الإمام الجوادعليه‌السلام ان يعلم شيعته ضرورة اعتماد الحكمة في العمل ومراعاة عامل الزمن في اتضاح الأشياء فللأمور دورات زمنية ينبغي أن تمرّ بها حتى تكتمل، وعدم الالتفات إلى هذا الجانب يفسد العمل ويجهضه قبل استوائه.

قال عليه‌السلام : (إظهار الشيء قبل أن يستحكم مفسدة له) (٢) .

كما أن للمحن دورات لا يستطيع المرء أن يتخلص منها قبل انتهاء دورتها الزمنية وهذا الأمر أشبه شيئاً بالدورات المرضية التي لا يمكن تقليل مدتها، وهذا التوجه لا يعني عدم استعمال الوسيلة لإزالة المحن بل العمل مطلوب وهو يسهم

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

(٢) تحف العقول: ٤٥٧.

١٤٩

بتقليل مدة المحنة وبالتالي إزالتها وإلى هذا المعنى أشار الإمام الجوادعليه‌السلام عندما نقل حديثاً عن جده أمير المؤمنينعليه‌السلام :(قال لقيس بن سعد، وقد قدم عليه من مصر: (ياقيس إن للمحن غايات لا بد أن ينتهي إليها، فيجب على العاقل أن ينام لها إلى إدبارها، فإنّ مكايدتها بالحيلة عند إقبالها زيادة فيها) (١) .

كما أنهعليه‌السلام نقل عن جده أمير المؤمنينعليه‌السلام العناصر المساعدة على اكتمال الأعمال فقال:(أربع خصال تعين المرء على العمل: الصحة والغنى والعلم والتوفيق) (٢) .

التعامل مع الظالمين:

ركّز الإمام الجوادعليه‌السلام على ضرورة ابتعاد المسلم عن مجاراة الظالمين والركون إليهم، ودعا إلى رفضهم والابتعاد عنهم.

فقد روىعليه‌السلام عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قوله:(العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء) (٣) .

وكذلك ما رواه عنهعليه‌السلام :(من استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه) (٤) .

كما أنهعليه‌السلام شدّد على عدم طاعة المنحرفين والاستماع إليهم واعتبر ذلك كالطاعة والاستماع للشيطان. قالعليه‌السلام :(من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس) (٥) .

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٦.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٦.

(٣) مستدرك عوالم العلوم:: ٢٣ / ٢٧٨.

(٤) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٨٠.

(٥) تحف العقول: ٤٥٦.

١٥٠

وبلحاظ الرفض الشديد للظالمين والتنديد بهم كان للإمام الجوادعليه‌السلام تفسير مهم لمعنى التديّن يتضح من قولهعليه‌السلام :(أوحى الله إلى بعض الأنبياء: أما زهدك في الدنيا فتعجّلك الراحة، وأما انقطاعك إليّ فيعزِّزك بي، ولكن هل عاديتَ لي عدوّاً وواليت لي ولياً) (١) فالدين حسب هذه الرواية، يتحقق بموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، وعدم مهادنتهم ومسالمتهم ولإذكاء هذه الروح عند الأمة كان ينقل حديث جده أمير المؤمنينعليه‌السلام عندما قال لأبي ذر:(إنما غضبت لله عزَّ وجلَّ فارج من غضبت له، إن القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، والله لو كانت السماوات والأرضون رتقاً على عبد، ثم اتقى الله لجعل الله له منها مخرجاً، لا يؤنسنّك إلاّ الحق، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل) (٢) .

النشاط الاجتماعي:

إن حركة الإنسان في المجتمع تشتدّ بمقدار تجذّره وتأثيره في ذلك المجتمع، لذلك توجّه الإمام الجوادعليه‌السلام إلى توضيح المفاهيم المتصلة بالنشاط الإسلامي للطليعة المؤمنة، وفيما يأتي نذكر بعضاً من هذه المفاهيم:

١ ـ كلما ترسخ مركز الإنسان في المجتمع ازداد توجه الناس إليه وطلبهم منه في قضاء حوائجهم وحل مشاكلهم. روى الإمام الجوادعليه‌السلام عن أجداده عن الإمام عليعليه‌السلام :(ما عظمت نعمة الله على عبد إلاّ عظمت عليه مؤونة الناس، فمن لم يحتمل تلك المؤونة فقد عرّض النعمة للزوال) (٣) .

٢ ـ بقاء نعمة الإنسان واستمرار موقعه في الأمة مقترن بدرجة إحسانه إليها وخدمته لها، فقد روى الإمامعليه‌السلام عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :(إن لله عباداً يخصهم

ـــــــــ

(١) تحق العقول: ٤٥٥ ـ ٤٥٦.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٥٧.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٦.

١٥١

بالنعم، ويقرّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها عنهم وحوّلها إلى غيرهم) (١) . وقالعليه‌السلام :(أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه، لأن لهم أجره وفخره وذكره، فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنما يبدأ فيه بنفسه، فلا يطلبنّ شكر ما صنع إلى نفسه من غيره) (٢) .

٣ ـ ضرورة مجازاة المحسن بالشكر، يقولعليه‌السلام راوياً عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :(كفر النعمة داعية المقت ومن جازاك بالشكر فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك) (٣) .

٤ ـ كما أن الإمامعليه‌السلام بيّن طرق تحسين العلاقة بين الناس وأصول التعامل بين الأصدقاء فقد روى عن جدّه أمير المؤمنينعليه‌السلام :(ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدّة، والانطواع والرجوع إلى قلب سليم) (٤) .

وقالعليه‌السلام :(لا يفسدك الظنّ على صديق وقد أصلحك اليقين له، ومن وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظ علانية فقد شانه. استصلاح الأخيار بإكرامهم، والأشرار بتأديبهم، والمودّة قرابة مستفادة، وكفى بالأجل حرزاً، ولا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل إلى ثمانية عشر سنة، فإذا بلغها غلب عليه أكثرهما فيه، وما أنعم الله عزَّ وجلَّ على عبد نعمة فعلم أنها من الله إلاّ كتب الله جلّ اسمه له شكرها قبل أن يحمده عليها، ولا أذنب ذنباً فعلم أن الله مطّلع عليه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، إلاَّ غفر الله له قبل أن يستغفره) (٥) .

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٦.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣/٢٧٦.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٨٠.

(٤) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٩.

(٥) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٨٠.

١٥٢

٥ ـ كما شدّدعليه‌السلام على ضرورة اختيار القرين الصالح لما يورثه من اثر على المرء، فقد روىعليه‌السلام :(فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء، وصلاح الأخلاق بمنافسة العقلاء، والخلق أشكال فكل يعمل على شاكلته، والناس إخوان، فمن كانت إخوته في غير ذات الله فإنها تحوز عداوة، وذلك قوله تعالى: ( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) (١) ) (٢) .

فإذا حصل المرء على الأخ المخلص في الله فانه فاز بشيء عظيم وينبغي له مشاورته واستنصاحه. روى الإمام الجوادعليه‌السلام عن عليعليه‌السلام قال:(بعثني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن، فقال لي وهو يوصيني: (ياعلي، ما حار من استخار، ولا ندم من استشار) ، وقالعليه‌السلام :(من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة) (٣) .

وصايا للعاملين:

كان الإمام الجوادعليه‌السلام يزرع روح الأمل والصبر في قلوب المؤمنين ليسلّحهم بالسلاح الفاعل عند مقارعتهم للظلم والطغيان وتحركهم ضده.

لقد أشار إلى يوم يعاقب فيه الظالم عندما ينتصر العدل فينتقم للمظلومين من جوره اشد الانتقام. إن حمل المستضعفين لهذا المفهوم ومعايشتهم إياه يصنع منهم قوة لا تلين وثورة لا تقاوم. روى الإمام الجوادعليه‌السلام :(يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم) (٤) .

ولقد روىعليه‌السلام :(أن صبر المؤمن على البلاء من أشد الأسلحة ضد الظالمين) ، وقالعليه‌السلام :(الصبر على المصيبة مصيبة على الشامت بها) (٥) .

كما أنهعليه‌السلام روى عن جده أمير المؤمنينعليه‌السلام المنهاج الذي ينبغي أن يلتزم به المؤمنون ليبلغوا غاياتهم السامية.

ـــــــــ

(١) الزخرف (٤٣): ٦٧.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٩.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٥.

(٤) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٨.

(٥) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣/٢٧٨.

١٥٣

عنهعليه‌السلام عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال:(من وثق بالله أراه السرور، ومن توكل عليه كفاه الأمور، والثقة بالله حصن لا يتحصن فيه إلا مؤمن أمين، والتوكل على الله نجاة من كل سوء وحرز من كل عدو، والدين عزّ، والعلم كنز، والصمت نور، وغاية الزهد الورع، ولا هدم للدين مثل البدع، ولا أفسد للرجال من الطمع، وبالراعي تصلح الرعية، وبالدعاء تصرف البليّة، ومن ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمار النصر، ومن عاب عيب، ومن شتم أجيب، ومن غرس أشجار التقى اجتنى ثمار المنى) (١) .

الحث على اكتساب العلم:

حثّ الإمام الجوادعليه‌السلام على طلب العلم وبيّن فضل العلماء من خلال أحاديثه ورواياته عن جده أمير المؤمنينعليه‌السلام وفيما يأتي نماذج من هذه الأحاديث:

قالعليه‌السلام :(عليكم بطلب العلم، فان طلبه فريضة، والبحث عنه نافلة، وهو صلة بين الإخوان، ودليل على المروّة، وتحفة في المجالس، وصاحب في السفر، واُنس في الغربة) (٢) .

وقالعليه‌السلام :(العلم علمان: مطبوع ومسموع، ولا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع، ومن عرف الحكمة لم يصبر على الازدياد منها، الجمال في اللسان، والكمال في العقل) (٣) .

وعنهعليه‌السلام عن علي، قال:(في كتاب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : أن ابن آدم

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٦.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٧.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٧.

١٥٤

أشبه شيء بالمعيار، إما راجح بعلم ـ وقال مرة : بعقل ـ أو ناقص بجهل) (١) .

وقالعليه‌السلام :(اقصد العلماء للمحجّة الممسك عند الشبهة، والجدل يورث الرياء، ومن أخطأ وجوه المطالب خذلته الحيل، والطامع في وثاق الذلّ، ومن أحب البقاء فليعدّ للبلاء قلباً صبوراً) (٢) .

كما أنه كان يتألّم لكثرة الجهلاء وابتلاء العلماء بهم وكان يعتبر سبب الاختلاف هو ما يطرحه الجهلاء نتيجة جهلهم، فقد روى عن جده أمير المؤمنينعليه‌السلام :(العلماء غرباء لكثرة الجهّال بينهم) (٣) .

وقالعليه‌السلام :(لو سكت الجاهل ما اختلف الناس) (٤) .

الحث على التوبة:

دعا الإمام إلى كيفية التوبة إلى الله تعالى وبيّن طريقها، فقد روى عن أمير المؤمنينعليه‌السلام :(التوبة على أربعة دعائم: ندم القلب، واستغفار باللسان، وعمل بالجوارح، وعزم على أن لا يعود) .(وثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله: كثرة الاستغفار وخفض الجانب وكثرة الصدقة) (٥) .

كما أنهعليه‌السلام أشار إلى فوريّتها وحذّر من التسويف بها بقوله:(تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة، والإصرار على الذنب أمنٌ

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٥.

(٢) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٨.

(٣) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٨.

(٤) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٩.

(٥) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٢٧٩.

١٥٥

لمكر الله و ( لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) (١) ) (٢) .

٣ ـ إحكام تنظيم الجماعة الصالحة وإعدادها لدور الغيبة

أ ـ نظام الوكلاء ودقة التحرّك:

إنّ بناء الجماعة الصالحة وتنظيم شؤونها وتحرّك الائمةعليهم‌السلام من خلالها كان هدفاً أساسيّاً لأهل البيتعليهم‌السلام وقد قاموا بإشادة صرحه منذ عصر الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام واستمروا بإكمال البناء وتعميق الطرح وتوسيع دائرة العمل حتى عصر الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام وابنه الإمام المهدي عجل الله فرجه.

لقد كانت رقابة السلطة الحاكمة على تحرّكات أهل البيتعليهم‌السلام تزيد في ضرورة إكمال الطرح والبناء. وكان لأصحاب الأئمةعليهم‌السلام وتلامذتهم وثقاتهم دور رساليّ في تحقيق بعض أهداف الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وكان لاتّساع دائرة أفراد الجماعة الصالحة وتعدد مراكز النشاط والحضور في مختلف حواضر العالم الإسلامي أثر كبير في إيجاد وتوسيع دائرة نظام الوكلاء الذي كان قد أصبح ضرورة من ضرورات عمل الائمةعليهم‌السلام ليساعدهم على سهولة وسرعة التحرّك والارتباط.

كما كان لازدياد الضغط والرقابة عليهم لا سيَّما في عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بعد قبوله ولاية العهد ثم الإمام الجوادعليه‌السلام أثر بالغ في الاهتمام الكبير بنظام الوكلاء الذي كان يشرف عليه الإمام المعصوم مباشرة، إذا كان الارتباط بالوكلاء بحاجة إلى دقة ومراقبة لحراجة الظرف المحيط بالإمامعليه‌السلام .

إن البحث عن دقة الإمام الجوادعليه‌السلام في التحرك بعد الاعتراف بأنه الإمام المعصوم والقائد الشرعي للأمة المسلمة الذي ورث العلم والخط الصحيح من آبائه الميامين المنتجبينعليهم‌السلام يكون بحثاً مفروغاً منه.

ـــــــــ

(١) الأعراف (٧): ٩٧.

(٢) تحف العقول: ٤٥٦.

١٥٦

وإنّ دراسة حياة الإمام الجوادعليه‌السلام تكشف للدارس بشكل واضح وجليّ مدى الدقة والمتانة في التحرك عند الإمامعليه‌السلام ، فكل مفردة مرتبطة مع نظيرتها ومتجانسة مع ظرفها ومعبرة عن رأي الرسالة في ذلك الموضوع.

وعند الحديث عن أساليب العمل عند الإمامعليه‌السلام يَرد هذا الكلام كذلك، وسنذكر لتوضيح هذه القضية نماذج لتبيان المقصد.

ومن أصول التحرّك عند الإمامعليه‌السلام تجاه قواعده الشعبية يمكن ذكر ما يلي:

ب ـ المراسلات السرّيّة:

لا شك في أن الاتصالات كانت جارية بين الإمام وأتباعه إلاّ أن بعضها كان سريّاً وذلك خشية تفشّي أسماء مرسليها إلى الإمام خصوصاً وأن الإمام كان مرصوداً من الداخل عن طريق زوجته.

هذا إلى جانب أن نمطاً معيناً من الرسائل كان يصل الإمام دون ذكر أسماء مرسليها عليها، ولكن الإمامعليه‌السلام كان يستطيع معرفة المرسلين لهذه الرسائل بطريقته الخاصة، ولا نستبعد أن ذلك كان يتم عن طريق وجود رمز معين في هذه الرسائل، هذا إذا لم نحاول تفسير ذلك بعلم الإمام المعصوم بالغيب، باعتبار أنه:إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك (١) .

قال أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري: (دخلت على أبي جعفر

ـــــــــ

(١) راجع أصول الكافي: ١ / ٢٠١.

١٥٧

الثانيعليه‌السلام ومعي ثلاث رقاع غير معنونة واشتبهت عليّ فاغتممت لذلك، فتناول إحداهن وقال:هذه رقعة ريّان بن شبيب ثم تناول الثانية فقال:هذه رقعة محمد بن حمزة وتناول الثالثة وقال:هذه رقعة فلان فبهت فنظر إليَّ وتبسّمعليه‌السلام )(١) .

وقد أحصيت مكاتبات الإمام الجوادعليه‌السلام ـ بحسب ما جاء في موسوعة الإمام الجوادعليه‌السلام ـ فبلغت اثنين وسبعين مكاتبة(٢) .

ج ـ الإحاطة بدقائق الأمور الاجتماعية:

لم يكن الإمامعليه‌السلام بمنأى وبمعزل عن مجتمعه، بل كان حاضراً دائماً بين الناس يعيش احتياجاتهم وتطلّعاتهم.

وهناك أمثلة كثيرة تعكس مثل هذا التوجه عند الأئمةعليهم‌السلام .

والإمام الجوادعليه‌السلام ينطبق عليه ما ينطبق على أجداده ومن ذلك هذا المثال:

جاء في تكملة الرواية السابقة أن داود بن القاسم الجعفري قال: وأعطاني أبو جعفر ثلاثمائة دينار في صرّة وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمّه وقال:(أما أنه سيقول لك دلّني على حرّيف يشتري لي بها متاعاً فدلّه عليه) . قال: فأتيته بالدنانير فقال لي:(يا أبا هاشم دلّني على حرّيف يشتري لي بها متاعاً) ، ففعلت(٣) .

يتضح من هذا المثال أنّ الإمامعليه‌السلام كان يتتبع الاحتياجات ويسعى إلى سدّها.

ـــــــــ

(١) إعلام الورى بأعلام الهدى: ٢ / ٩٨.

(٢) راجع موسوعة الإمام الجوادعليه‌السلام : ٢/٤١٣ ـ ٥١٥.

(٣) إعلام الورى بأعلام الهدى: ٢ / ٩٨.

١٥٨

د ـ متابعة تربية الأفراد:

ومن الأمور التي تصدّى لها الإمام الجوادعليه‌السلام اهتمامه بتربية أتباعه وشيعته ومتابعته لتربيتهم، ومن الأمثلة على ذلك موقفه من الشاعر المعروف دعبل الخزاعي. فعن دعبل بن علي: (أنه دخل على الرضاعليه‌السلام فأمر له بشيء فأخذه ولم يحمد الله، فقال له:لِمَ لَمْ تحمد الله ؟ قال: ثم دخلت على أبي جعفر فأمر له بشيء فقلت: الحمد لله. فقال:تأدّبت )(١) .

إنّ هذا المثال يكشف عن تتبّع الإمامعليه‌السلام لسلوك أتباعه واهتمامه بتكاملهم الثقافي والروحي.

٤ ـ التمهيد لإمامة علي الهاديعليه‌السلام المبكرة

من المهام التي اشترك فيها الائمةعليهم‌السلام دعوتهم إلى الإمام الآتي بعدهم. وقد سار الإمام الجوادعليه‌السلام على منهج آبائه في قضية الدعوة إلى الإمام القادم بعده وترسيخ ذلك عند الطليعة المؤمنة من الأمة، وفيما يأتي أمثلة على هذا الأمر عند الإمامعليه‌السلام :

أ ـ عن الخيراني عن أبيه أنه قال: كنت ألزم باب أبي جعفرعليه‌السلام للخدمة التي وُكّلت بها، وكان أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري يجيء في السحر من آخر كل ليلة ليتعرف خبر علّة أبي جعفرعليه‌السلام ، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر وبين الخيراني إذا حضر قام أحمد وخلا به.

ـــــــــ

(١) كشف الغمة: ٢ / ٣٦٣.

١٥٩

قال الخيراني: فخرج ذات ليلة وقام أحمد بن محمد بن عيسى عن المجلس، وخلا بي الرسول، واستدار أحمد فوقف حيث يسمع الكلام، فقال الرسول: إن مولاك يقرأ عليك السلام، ويقول لك:(إني ماض، والأمر صائر إلى ابني علي، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي) . ثم مضى الرسول ورجع أحمد إلى موضعه، فقال لي: ما الذي قال لك ؟ قلتُ: خيراً، قد سمعتُ ما قال، وأعادَ عليّ ما سمع، فقلتُ له: قد حرّم الله عليك ما فعلتَ، لأن الله تعالى يقول:( وَلَا تَجَسَّسُوا ) (١) ، فإذا سمعت فاحفظ الشهادة لعلّنا نحتاج إليها يوماً ما، وإياك أن تظهرها إلى وقتها.

قال: وأصبحت وكتبتُ نسخة الرسالة في عشر رقاع، وختمتها ودفعتها إلى عشرة من وجوه أصحابنا، وقلتُ: إن حدث بي حدثُ الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها.

فلمّا مضى أبو جعفرعليه‌السلام لم أخرج من منزلي حتى عرفتُ أن رؤساء العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج(٢) يتفاوضون في الأمر. وكتب إليَّ محمد بن الفرج يُعلِمُني باجتماعهم عنده ويقول: لولا مخافةُ الشهرة لصرتُ معهم إليك، فأحب أنْ تركب إلي. فركبتُ وصرتُ إليه، فوجدتُ القومَ مجتمعين عنده، فتجارينا في الباب، فوجدت أكثرهم قد شكّوا، فقلتُ لمن عنده الرقاع ـ وهم حضور ـ: أخرجوا تلك الرقاع، فأخرجوها، فقلت لهم: هذا ما أمرت به.

فقال بعضهم: قد كنّا نحبّ أن يكون معك في هذا الأمر آخر ليتأكّد القول.

فقلتُ لهم: قد أتاكم الله بما تحبّون، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي

ـــــــــ

(١) الحجرات (٤٩): ١٢.

(٢) هو محمد بن الفرج الرُخّجي، من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214