اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)27%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام
الصفحات: 214

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65988 / تحميل: 8235
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أ ـ حالة الأمة بلحاظ القيادة الشرعية:

يبدو أن الأمة كانت تؤيّد قيادة أهل البيتعليهم‌السلام وتعتقد بها ولكن ضمن ثلاثة مستويات، هي:

١ ـ عموم الأمة التي أصبحت مؤمنة بقيادة أهل البيتعليهم‌السلام ، دون ارتباطها بهم برباط عميق واع.

٢ ـ المعارضون للدولة الذين يعتمدون الكفاح المسلّح لإسقاطها وإقامة الحكم الإسلامي، وثورة أبي السرايا نموذج لذلك.

٣ ـ المؤمنون الواعون بالقيادة الشرعية وهم أصحاب الإمام الرضاعليه‌السلام وأنصاره.

ب ـ تحرك المأمون على واقع المستويات الثلاثة:

انتهج المأمون سياسة المراحل في احتواء المستويات الثلاثة وإجهاضها بحنكة ودهاء وبالشكل التالي:

١ ـ التصدي لمواجهة الثوّار الموالين لأهل البيتعليهم‌السلام وتصفيتهم عسكرياً، ففي أيامه خرج أبو السرايا وقويت شوكته ودعا إلى بعض أهل البيتعليهم‌السلام ، فقاتله الحسن بن سهل، فكانت الغلبة لجيش المأمون وقتل أبو السرايا.

٢ ـ احتواء التوجه الشعبي لأهل البيتعليهم‌السلام .

لقد ابتكر المأمون وسيلة سياسية بارعة لاحتواء هذا التوجه وذلك ببيعة الإمام الرضاعليه‌السلام ولياً للعهد والتظاهر بموالاة أهل البيتعليهم‌السلام لتشويه هذا التوجه وامتصاصه.

وكان المأمون قد أنفذ إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملهم إليه من المدينة وفيهم الرضا علي بن موسىعليهما‌السلام ، فأخذ بهم على طريق البصرة حتى جاؤوا بهم إليه، وكان المتولي لإشخاصهم المعروف بالجَلودي.

فقدم بهم على المأمون فأنزلهم داراً، وأنزل الرضا عليّ بن موسىعليهما‌السلام داراً، وأكرمه وعظّم أمره، ثم أنفذ إليه: أني أريد أن أاخلع نفسي من الخلافة وأقلدك إياها فما رأيك في ذلك ؟ فأنكر الرضاعليه‌السلام هذا الأمر وقال له:(أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام، وأن يسمع به أحد) فرد عليه الرسالة: فإذا أبيت ما عرضت عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي فأبى عليه الرضا إباءً شديداً، فاستدعاه إليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين، ليس في المجلس غيرهم، وقال له:

٦١

إني قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين، وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك. فقال له الرضاعليه‌السلام :(الله الله يا أمير المؤمنين ، إنه لا طاقة لي بذلك ولا قوة لي عليه) ، قال له: فإني موليك العهد من بعدي فقال له:أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين .

فقال له المأمون كلاماً فيه كالتهديد له على الامتناع عليه، وقال له في كلامه: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وشرط فيمن خالف منهم ان تُضرب عنقه، ولا بد من قبولك ما أريده منك، فإنني لا أجد محيصاً عنه، فقال له الرضاعليه‌السلام :(فإني أجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد، على أنني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا أقضي ولا أُوَلّي ولا أعزل ولا أغيّر شيئاً مما هو قائم) فأجابه المأمون إلى ذلك كله.

وقد كان الإمامعليه‌السلام مرغَماً على قبول ولاية العهد ، أي أنه لم يكن له الخيار في رفضها فقد كان المأمون جادّاً في قتله لو تخلف عن قبول البيعة. فعن الريان بن الصلت أنه قال: دخلت على علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقلت له: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا ؟ فقالعليه‌السلام :(قد علم الله كراهتي لذلك فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أن يوسف عليه‌السلام كان نبياً رسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قال له: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان) (١) .

وروي عن أبي الصلت الهروي أنه قال: (إن المأمون قال للرضا علي بن موسىعليه‌السلام يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة منّي، فقال الرضاعليه‌السلام :بالعبودية لله عَزَّ وجَلَّ افتخر وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عَزَّ وجَلَّ .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٤١.

٦٢

فقال له المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضاعليه‌السلام :إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك . فقال المأمون: يا ابن رسول الله لا بدّ لك من قبول هذا الأمر، فقال:(لست أفعل ذلك طائعاً أبداً) . فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي. فقال الرضاعليه‌السلام :والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسم، مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد . فبكى المأمون ثم قال له: يا ابن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ ؟ فقال الرضاعليه‌السلام :أما أني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت . فقال المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا. فقال الرضاعليه‌السلام :والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عَزَّ وجَلَّ وما زهدت في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد . فقال المأمون: وما أريد ؟ قال:الأمان على الصدق ؟ قال: لك الأمان. قال:تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟ فغضب المأمون ثم قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه. وقد أمنت سطوتي، فبالله أُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك. فقال الرضاعليه‌السلام :قد نهاني الله عَزَّ وجَلَّ أن أُلقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أُوَلّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سُنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً .

٦٣

فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهد على كراهة منه عليه‌السلام لذلك) (١) .

ج ـ مع المؤمنين الواعين

كان المأمون حذراً من الإمام الرضاعليه‌السلام يتحيّن الفرص لاغتياله، وقد فعل ذلك في أول فرصة مناسبة فأوعز لعملائه باغتياله، وذلك بعد نحو عامين من ولاية العهد. ففي أول شهر رمضان سنة إحدى ومئتين كانت البيعة للرضا صلوات الله عليه(٢) وقبض الرضاعليه‌السلام بطوس من أرض خراسان في صفر سنة ثلاث ومئتين وله يومئذ خمس وخمسون سنة..(٣) .

عن أحمد بن علي الأنصاري قال: سألت أبا الصلت الهروي فقلت له: كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضاعليه‌السلام مع إكرامه ومحبته له وما جعل له من ولاية العهد بعده ؟ فقال: إن المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس إلاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحد منهم فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة والملحدين والدهرية ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلاّ قطعه وألزمه الحجة، وكان الناس يقولون: والله إنه أولى بالخلافة من المأمون، وكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده له، وكان الرضاعليه‌السلام لا يحابي المأمون في حق وكان يجيبه بما

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٤١.

(٢) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٤١.

(٣) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٦٦.

٦٤

يكره في أكثر أحواله فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له، فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم(١) .

وعن علي بن إبراهيم، عن ياسر الخادم قال: (لمّا كان بيننا وبين طوس سبعة منازل اعتلّ أبو الحسنعليه‌السلام فدخلنا طوس وقد اشتدّت به العلّة، فبقينا بطوس أياماً فكان المأمون يأتيه في كل يوم مرتين فلمّا كان في آخر يومه الذي قبض فيه كان ضعيفاً في ذلك اليوم فقال لي بعدما صلّى الظهر:يا ياسر أكل الناس شيئاً ؟ قلت: يا سيدي من يأكل ههنا مع ما أنت فيه؟! فانتصبعليه‌السلام ثم قال:هاتوا المائدة ، ولم يدع من حشمه أحداً إلاّ أقعده معه على المائدة يتفقد واحداً واحداً، فلما أكلوا قال:ابعثوا إلى النساء بالطعام ، فحمل الطعام إلى النساء فلمّا فرغوا من الأكل أغمي عليه وضعف، فوقعت الصيحة وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات، ووقعت الوصية(٢) بطوس وجاء المأمون حافياً وحاسراً يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويتأسف ويبكي وتسيل الدموع على خديه فوقف على الرضاعليه‌السلام وقد أفاق فقال: يا سيدي والله ما أدري أي المصيبتين أعظم عليّ، فقدي لك وفراقي إياك؟ أو تهمة الناس لي أنا اغتلتك وقتلتك؟ قال: فرفع طرفه إليه ثم قال:أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر، فإنّ عمرك وعمره هكذا وجمع سبّابتيه. قال: فلما كان من تلك الليلة قضىعليه‌السلام بعد ما ذهب من الليل بعضه، فلمّا أصبح اجتمع الخلق وقالوا: هذا قتله واغتاله ـ يعني المأمون ـ وقالوا: قتل ابن رسول الله وأكثروا القول والجلبة(٣)، وكان محمد بن جعفر بن محمدعليه‌السلام استأمن إلى المأمون وجاء إلى خراسان وكان عمّ أبي الحسن فقال له المأمون: يا أبا جعفر

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) الوصية: الصوت يكون في الناس وغيرهم. الوصية: الرحمة.

(٣) الجلبة: اختلاط الأصوات والصياح.

٦٥

أخرج إلى الناس وأعلمهم أن أبا الحسن لا يخرج اليوم، وكره أن يُخرِجه فتقع الفتنة فخرج محمد بن جعفر إلى الناس فقال: أيها الناس تفرقوا فإن أبا الحسن لا يخرج اليوم، فتفرق الناس وغسل أبو الحسن في الليل ودفن)(١) .

وقد استطاع المأمون أن يخدع الكثيرين عندما أظهر حزنه وجزعه على استشهاد الإمام الرضاعليه‌السلام وبصورة أثرت على العوام، لكنها لم تنطل على الخواص. حيث إنهم عرفوا دوافع المأمون وأساليبه وأهدافه، كما لاحظنا ذلك في نصّ أبي الصلت، وكما سنلاحظ ذلك في رسالة عبد الله بن موسى التالية.

طبيعة حكم المأمون

لقد شخّص السيد عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، طبيعة حكم المأمون وأساليبه برسالة تسلط مزيداً من الأضواء على العلاقة بين هذا الحاكم وبين الإمام الجوادعليه‌السلام ، فقد كان تشخيص هذا السيد دقيقاً وعميقاً، فقد كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى وهو متوار منه يعطيه الأمان ويضمن له أن يوليه العهد بعده، كما فعل بعلي بن موسى، ويقول: ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا، وبعث الكتاب إليه.

فكتب عبد الله بن موسى:

وصل كتابك وفهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال عليّ حيلة المغتال القاصد لسفك دمي، وعجبت من بَذْلِك العهد وولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك ؟ أفي الملك الذي قد غرتك حلاوته ؟! فوالله لأَنْ أُقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي أمراً بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل، أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا ؟ أم ظننت أن الاستتار قد أمّلني وضاق به صدري؟ فوالله إني لذلك. ولقد مللت الحياة وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر عليّ المخاطرة بدمي، وليتك قدرتَ عليَّ من غير أن أبذل نفسي لك فتقتلني، ولقيت الله عَزَّ وجَلَّ بدمي، ولقيتُه قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا.

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٠٨، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢/٢٦٩، ٢٧٠.

٦٦

واعلم أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عَزَّ وجَلَّ عنّي وفي عمل أتقرب به إليه، فلم أجد رأياً يهدي إلى شيء من ذلك، فرجعت إلى القرآن الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة، وآية آية، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربه من الشهادة في طلب مرضاته.

ثم تتبعته ثانية أتأمل الجهاد أيّه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جلّ وعلا يقول: ( قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) ، فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام، وأقرب من موضعي فلم أجد أضر على الإسلام منك، لأن الكفار أظهروا كفرهم، فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم، وأنت ختلت المسلمين بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت المال من غير حِلِّه فأنفقته في غير محله، وشربت الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين وأعطيته المغنين، ومنعته من حقوق المسلمين، فغششت بالإسلام، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه للمشرك، وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند، فإن يسعدني الدهر، ويعينني الله عليك بأنصار الحق، أبذل نفسي في جهادك بذلاً يرضيه منّي، وإن يمهلك ويؤخرك ليجزيك بما تستحقه في منقلبك، أو تختر مني الأيام قبل ذلك،فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عَزَّ وجَلَّ من نيتي، والسلام)(١) .

ـــــــــ

(١) نظرية الإمامة: ٣٨١، نقلاً عن الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ٤٦٥.

٦٧

استشهاد الرضاعليه‌السلام والنصّ على إمامة الجوادعليه‌السلام

لقد رسّخ الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إمامة ابنه الجوادعليه‌السلام كما قام بذلك الأئمةعليهم‌السلام الذين سبقوه حيث نوهوا باسم من يأتي من بعدهم من أئمة، وفي هذا المجال سنعرض المواقف التي ثبّت بها الإمام الرضاعليه‌السلام إمامة الجوادعليه‌السلام ودعا شيعته للاعتصام بها، ومن ذلك:

١ ـ قال الراوي: أخبرني من كان عند أبي الحسن الرضاعليه‌السلام جالساً، فلمّا نهضوا، قال لهم:(ألقوا أبا جعفر فسلِّموا عليه وأحدثوا به عهداً، فلمّا نهض القوم التفت إليَّ فقال: يرحم الله المفضَّل إنه كان ليقنع بدون هذا) (١) .

٢ ـ قال الراوي: سمعتُ الرضاعليه‌السلام وذكر شيئاً فقال:(ما حاجتكم إلى ذلك ؟ هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني) ، وقال:(إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القُذّة بالقذّة) (٢) .

٣ ـ قال الراوي: (سمعت علي بن جعفر يُحدّث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين فقال في حديثه:(لقد نصر الله أبا الحسن الرضا عليه‌السلام لمّا بغى عليه إخوته وعمومته) ، وذكر حديثاً طويلاً حتى انتهى إلى قوله: فقمت وقبضت على يد أبي جعفر محمد بن علي الرضاعليه‌السلام وقلت: أشهد أنك إمامي عند الله، فبكى الرضاعليه‌السلام ثم قال:(يا عمّ، ألم تسمع أبي وهو يقول: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأبي خيرة الإماء النوبية الطيّبة يكون من ولده الطريد الشريد الموتور بأبيه وجده صاحب الغيبة، يقال: مات أو هلك أي واد سلك ؟)

ـــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٢) أصول الكافي: ١/٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٦٨

فقلت: صدقت جعلت فداك)(١) .

٤ ـ قال الراوي: قلت للرضاعليه‌السلام قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول:(يهب الله لي غلاماً) فقد وهبه الله لك، فأقرّ عيوننا، فلا أرانا الله يومك، فإن كان كونٌ فإلى من ؟. فأشار بيده إلى أبي جعفرعليه‌السلام وهو قائم بين يديه، فقلت له: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين ! ؟ قال:(وما يضره من ذلك، قد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين) (٢) .

٥ ـ قال الراوي: كنت عند أبي الحسن الرضاعليه‌السلام فجيء بابنه أبي جعفر وهو صغير فقال:(هذا المولود الذي لم يُولَد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه) (٣) .

٦ ـ قال الراوي: (دخلتُ على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام وقد ولد له أبو جعفرعليه‌السلام ، فقال:(إن الله قد وهب لي مَن يرثني ويرث آل داود) (٤) .

٧ ـ قال الراوي: (كنت مع أبي الحسنعليه‌السلام جالساً، فدعا بابنه وهو صغير فأجلسه في حجري فقال لي:(جرّده وانزع قميصه) ، فنزعته، فقال:(انظر بين كتفيه شبيه الخاتم داخل في اللحم) . ثم قال:(أترى هذا ؟ كان مثله في هذا الموضع من أبي عليه‌السلام ) (٥) .

٨ ـ قال الراوي: (ما كانعليه‌السلام ـ يعني الرضا ـ يذكر محمداً ابنهعليه‌السلام إلاّ بكنيته، يقول:(كتب إليَّ أبو جعفر، وكنت أكتب إلى أبي جعفر وهو صبي بالمدينة) ، فيخاطبه بالتعظيم، وترد كتب أبي جعفرعليه‌السلام في نهاية البلاغة والحسن فسمعته يقول:(أبو جعفر وصييّ وخليفتي في أهلي من بعدي) (٦) .

٩ ـ قال الراوي: سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي علي

ـــــــــ

(١) إعلام الورى: ٢ / ٩٢.

(٢) إعلام الورى: ٢/٩٣.

(٣) إعلام الورى: ٢/٩٥.

(٤) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٦٨.

(٥) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٦٩.

(٦) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٧٢.

٦٩

ابن موسى الرضا عليه‌السلام قصيدتي ـ إلى أن قال ـ: (يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه عليّ وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر) (١) .

الإمام الجوادعليه‌السلام عند استشهاد أبيه

عن أبي الصلت الهروي أنه قال: (بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إذ قال لي:(ياأبا الصلت، أدخل هذه القبّة الّتي فيها قبر هارون وآتني بتراب من أربعة جوانبها) . قال: فمضيت فأتيت به، فلمّا مثلت بين يديه، قال لي:(ناولني (من )هذا التراب) ، ـ وهو من عند الباب ـ فناولته فأخذه وشمّه ثم رمى به، ثمّ قال:(سيحفر لي (قبر )ههنا، فتظهر صخرة لو جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها) ، ثمّ قال في الذي عند الرّجل والّذي عند الرأس مثل ذلك، ثمّ قال:(ناولني هذا التراب فهو من تربتي) .

ثمّ قال:(سيحفر لي في هذا الموضع، فتأمرهم أن يحفروا لي سبع مراق إلى أسفل، وأن تشقّ لي ضريحه، فإن أبوا إلاّ أن يلحدوا، فتأمرهم أن يجعلوا اللّحد ذراعين وشبراً فإنّ الله تعالى سيوسّعه ما يشاء، وإذا فعلوا ذلك فإنّك ترى عند رأسي نداوةً، فتكلّم بالكلام الّذي أعلّمك، فإنّه ينبع الماء حتّى يمتلئ اللّحد وترى فيه حيتاناً صغاراً، فتفتّت لها الخبز الذي أعطيك فإنّها تلتقطه، فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوتة كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتّى لا يبقى منها شيء، ثمّ تغيب، فإذا غابت فضع يدك على الماء، ثمّ تكلّم بالكلام الّذي أعلمك، فإنّه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء، ولا تفعل ذلك إلاّ بحضرة المأمون) .

ثمّ قالعليه‌السلام :(ياأبا الصلت غداً أدخل على هذا الفاجر، فإن خرجت (وأنا )مكشوف الرأس، فتكلّم أكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلّمني) .

قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد لبس ثيابه، وجلس في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك، إذ دخل عليه غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعله ورداءه، وقام يمشي وأنا أتبعه، حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق عليه عنب، وأطباق فاكهة، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه، وبقي بعضه.

ـــــــــ

(١) مستدرك عوالم العلوم: ٢٣ / ٧٣ و ٧٦.

٧٠

فلمّا أبصر بالرضاعليه‌السلام وثب إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ثمّ ناوله العنقود، وقال: ياابن رسول الله ما رأيت عنباً أحسن من هذا ! قال له الرضاعليه‌السلام :(ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة) . فقال له: كل منه ، فقال له الرضاعليه‌السلام :(تعفيني منه) . فقال: لا بدّ من ذلك، وما يمنعك منه لعلّك تتّهمنا بشيء. فتناول العنقود فأكل منه، ثمّ ناوله فأكل منه الرضاعليه‌السلام ثلاث حبّات، ثمّ رمى به وقام.

فقال المأمون: إلى أين ؟ قال:(إلى حيث وجّهتني) ، وخرجعليه‌السلام مغطّى الرأس فلم أكلّمه حتّى دخل الدار، فأمر أن يغلق الباب، فغلق ثمّ نامعليه‌السلام على فراشه، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً.

فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه، قطط الشعر، أشبه الناس بالرضاعليه‌السلام ، فبادرت إليه وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق ؟ فقال:(الّذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت: هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق) . فقلت له: ومن أنت ؟ فقال لي:(أنا حجّة الله عليك ياأبا الصلت، أنا محمّد بن عليّ) .

ثمّ مضى نحو أبيهعليه‌السلام فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضاعليه‌السلام وثب إليه، فعانقه وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه سحباً إلى فراشه، وأكبّ عليه محمّد بن عليّعليه‌السلام يقبّله ويسارّه بشيء لم أفهمه.

ومضى الرضاعليه‌السلام ، فقال أبو جعفرعليه‌السلام :(ياأبا الصلت قم فأتني بالمغتسل والماء من الخزانة) . فقلت: ما في الخزانة مغتسل ولا ماء. فقال لي:(انته إلى ما آمرك به) ، فدخلت الخزانة، فإذا فيها مغتسل وماء، فأخرجته وشمّرت ثيابي لأغسّله معه، فقال لي:(تنحّ ياأبا الصلت فإنّ لي من يعينني غيرك) . فغسّله. ثمّ قال لي:(ادخل الخزانة، فاخرج إليّ السفط الذي فيه كفنه وحنوطه) ، (فدخلت) فإذا أنا بسفط لم أره في تلك الخزانة قطّ، فحملته إليه فكفّنه وصلّى عليه. ثمّ قال لي:(ائتني بالتابوت) . فقلت: أمضي إلى النجّار حتّى يصلح التابوت قال:(قم فإنّ في الخزانة تابوتاً) . فدخلت الخزانة فوجدت تابوتاً لم أره قطّ فأتيته به، فأخذ الرضاعليه‌السلام بعد ما صلّى عليه فوضعه في التابوت، وصفّ قدميه، وصلّى ركعتين لم يفرغ منهما حتّى علا التابوت، فانشقّ السقف، فخرج منه التابوت ومضى. فقلت: يا ابن رسول الله،

٧١

الساعة يجيئنا المأمون ويطالبنا بالرضاعليه‌السلام فما نصنع ؟ فقال لي:(أسكت فإنّه سيعود ياأبا الصلت، ما من نبيّ يموت بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلاّ جمع الله تعالى بين أرواحهما وأجسادهما) . فما أتمّ الحديث، حتّى انشقّ السقف ونزل التابوت، فقامعليه‌السلام فاستخرج الرضاعليه‌السلام من التابوت، ووضعه على فراشه كأنه لم يغسّل ولم يكفّن. ثمّ قال لي:(ياأبا الصلت قم فافتح الباب للمأمون) ، ففتحت الباب، فإذا المأمون والغلمان بالباب، فدخل باكياً حزيناً قد شقّ جيبه، ولطم رأسه، وهو يقول: يا سيّداه فجعت بك يا سيّدي، ثمّ دخل وجلس عند رأسه وقال: خذوا في تجهيزه. فأمر بحفر القبر، فحفرت الموضع فظهر كلّ شيء على ما وصفه الرضاعليه‌السلام فقال له بعض جلسائه: ألست تزعم أنّه إمام ؟ قال: بلى. قال: لا يكون الإمام إلاّ مقدّم الناس. فأمر أن يحفر له في القبلة، فقلت: أمرني أن أحفر له سبع مراق، وأن أشقّ له ضريحه فقال: انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت سوى الضريح، ولكن يحفر له ويلحد. فلمّا رأى ما ظهر من النداوة والحيتان وغير ذلك، قال المأمون: لم يزل الرضاعليه‌السلام يرينا عجائبه في حياته حتّى أراناها بعد وفاته أيضاً. فقال له وزير كان معه: أتدري ما أخبرك به الرضا ؟ قال: لا. قال: إنّه أخبرك أنّ ملككم يا بني العبّاس مع كثرتكم وطول حذركم مثل هذه الحيتان، حتّى إذا أفنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم، سلّط الله تعالى عليكم رجلاً منّا فأفناكم عن آخركم قال له: صدقت. ثمّ قال لي: ياأبا الصلت علّمني الكلام الّذي تكلّمت به. قلت: والله لقد نسيت الكلام من ساعتي. وقد كنت صدقت، فأمر بحبسي، ودفن الرضاعليه‌السلام ، فحبست سنة، فضاق عليّ الحبس، وسهرت الليل، ودعوت الله تعالى بدعاء ذكرت فيه محمّداً وآلهعليهم‌السلام ، وسألت الله تعالى بحقّهم أن يفرّج عنّي. فلم أستتم الدعاء حتّى دخل عليّ أبو جعفر محمّد بن عليّعليه‌السلام . فقال (لي):(ياأبا الصلت ضاق صدرك ؟) فقلت: إي والله. قال:(قم فاخرج) .

ثمّ ضرب يده إلى القيود الّتي كانت (عليّ) ففكّها، وأخذ بيدي وأخرجني من الدار، والحرسة والغلمة يرونني، فلم يستطيعوا أن يكلّموني، وخرجت من باب الدار. ثمّ قال لي:(امض في ودائع الله، فإنّك لن تصل إليه، ولا يصل إليك أبداً) . قال أبو الصلت: فلم ألتق مع المأمون إلى هذا الوقت)(١) .

ـــــــــ

(١) كذا في الأمالي: ٥٢٦ ح١٧، العيون: ٢ / ٢٤٢ / ح١، عنهما الوسائل: ٢ / ٨٣٧ / ح٤، والبحار: ٤٩ / ٣٠٠ / ح١٠، وج: ٨٢ / ٤٦ / ح ٣٥، ومدينة المعاجز: ٤٩٨ / ح ١١٤ و ص: ٥٢٤ / ح ٣٧. وأوردها القطب الراوندي في الخرائج: ١ / ٣٥٢ ح ٨، عن أبي عبد الله محمّد بن سعيد النيسابوري، عن أبي الصلت الهروي.

٧٢

الباب الثالث: وفيه فصول:

الفصل الأول: ملامح عصر الإمام الجوادعليه‌السلام .

الفصل الثاني: الإمام الجوادعليه‌السلام وحكّام عصره.

الفصل الثالث: متطلّبات عصر الإمام الجوادعليه‌السلام .

الفصل الأول:ملامح عصر الإمام الجوادعليه‌السلام

كان عصر الإمام أبي جعفر الجوادعليه‌السلام من أزهى العصور الإسلامية وأروعها، من حيث تميّزه في نهضته العلمية وحضارته الفكرية، وقد ظل المسلمون وغيرهم أجيالاً وقروناً يقتاتون من موائد الثروات الفكرية والعلمية التي أسست في ذلك العصر.

ولا بدّ لنا من الحديث ـ بإيجاز ـ عن معالم عصر الإمامعليه‌السلام فقد أصبحت دراسة العصر من المباحث المنهجية التي لا غنى للباحث عنها.

١ ـ الحياة الثقافية:

تعتبر الحياة الثقافية في ذلك العصر من أبرز معالم الحياة في العصور الإسلامية على الإطلاق، فقد ازدهرت الحركة الثقافية، وانتشر العلم انتشاراً واسعاً، وتأسّست المعاهد الدراسية، وشاعت الحلقات العلمية، وأقبل الناس بلهفة على طلب العلم، يقول نيكلسون: وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية، ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أنّ الناس جميعاً من الخليفة إلى أقل أفراد العامة شأناً غدوا فجأة طلاّباً للعلم أو على الأقل أنصاراً للأدب، وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارّات سعياً إلى موارد العلم والعرفان ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهّفين، ثمّ يصنّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنّفات التي هي أشبه شيء بدوائر المعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل(١) . ونُلمح إلى بعض المعالم الرئيسية من تلك الحياة الثقافية.

ـــــــــ

(١) تاريخ الإسلام: ٢ / ٣٢٢ للدكتور حسن إبراهيم حسن.

٧٣

المراكز الثقافية:

أمّا المراكز الثقافية في عصر الإمام أبي جعفرعليه‌السلام فهي:

١ ـالمدينة : وكانت المدينة من أهم المراكز العلمية في ذلك العصر، فقد تشكّلت فيها مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام وقد ضمّت عيون الفقهاء والرواة من الذين سهروا على تدوين أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وقد عنوا بصورة موضوعية بتدوين أحاديثهم الخاصة في الفقه الذي يمثل روح الإسلام وجوهره، كما تشكّلت في المدينة مدرسة التابعين وهي مدرسة فقهية عنت بأخذ الفقه ممّا روي عن الصحابة، ويرجع فيما لم يرو فيه عنهم حديث إلى ما يقتضيه الرأي والقياس حسب ما ذكروه.

٢ ـالكوفة : وتأتي الكوفة بعد المدينة في الأهمية، فقد كان الجامع الأعظم من أهم المعاهد، والمدارس الإسلامية، فقد انتشرت فيه الحلقات الدراسية، وكان الطابع العام للدراسة هي العلوم الإسلامية من الفقه والتفسير والحديث وغيرها.

٧٤

وكانت الكوفة علوية الرأي، فقد عنت مدرستها بعلوم أهل البيتعليهم‌السلام وقد حدّث الحسن بن علي الوشاء فقال: أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمئة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد(١) ومن أهم الأسر العلمية التي درست في ذلك الجامع هي آل حيّان التغلبي وآل أعين وبنو عطيّة وبيت بني دراج وغيرهم(٢) .

ولم يكن الفقه وحده هو السائد في مدرسة الكوفة، وإنّما كان النحو سائداً أيضاً، فقد أنشئت في الكوفة مدرسة النحويين، وكان من أعلامها البارزين: الكسائي الذي عهد إليه الرشيد بتعليم ابنيه الأمين والمأمون، ومن الجدير بالذكر إن هذا العلم الذي يصون اللسان عن الخطأ قد اخترعه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام فهو الذي وضع قواعده وأصوله.

٣ ـالبصرة : وكانت مركزاً مهمّاً لعلم النحو، وكان أوّل من وضع أساس مدرسة البصرة أبو الأسود الدؤلي تلميذ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكانت هذه المؤسسة تنافس مدرسة الكوفة، وقد سُمّي نُحاة البصرة (أهل المنطق) تمييزاً عن نُحاة الكوفة وكان من أعلام هذه الصناعة سيبويه الفارسي، وهو صاحب (الكتاب )، الذي هو من أنضج الكتب العربية وأكثرها عمقاً وأصالة يقولدي بور : (فلو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه عملاً ناضجاً، ومجهوداً عظيماً، حتى أنّ المتأخّرين قالوا: إنّه لا بدّ أن يكون ثمرة جهود متضافرة لكثير من العلماء، مثل قانون ابن سيناء)(٣) .

وكما كانت البصرة ميداناً لعلم النحو كذلك كانت مدرسة لعلم التفسير الذي كان من علمائه البارزين أبو عمرو بن العلاء، وكانت مدرسة أيضاً لعلم العروض الذي وضع أصوله الخليل بن أحمد صاحب كتاب (العين ) الذي هو أوّل معجم وضع في اللغة العربية.

ـــــــــ

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : ١ / ٨٢.

(٢) تاريخ الإسلام: ٢ / ٣٣٨ للدكتور حسن إبراهيم حسن.

(٣) تاريخ الفلسفة في الإسلام: ٣٩.

٧٥

٤ ـبغداد : حيث ازدهرت بالحركات العلمية والثقافية، وقد انتشرت فيها المدارس والمعاهد ولم يعد هناك شيء أيسر ولا أبذل من العلم. ولم تختص بغداد في علم خاص كما كانت بقية المراكز الإسلامية، وإنّما شملت جميع أنواع العلوم العقلية والنقلية، وكذا سائر الفنون، وقد أصبحت أعظم حاضرة علمية في ذلك العصر، وتوافد عليها طلاّب العلوم والمعرفة من جميع أقطار الدنيا. يقولغوستاف لوبون : (كان العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل من يونان وفُرس وأقباط وكلدان يتقاطرون إلى بغداد، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في الدنيا)، قال أبو الفرج عن المأمون: (إنّه كان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأنّ أهل العلم هُم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده(١) .

هذه بعض المراكز الثقافية في ذلك العصر.

العلوم السائدة:

وكانت العلوم السائدة التي أقبل الناس على تعلّمها، هي:

١ ـ علوم القرآن:

أ ـ علم القراءات: ويُعنى هذا العلم بالبحث عن قراءة القرآن وقد وجدت سبع طُرق في القراءات، كل طريقة منها تُنسب إلى قارئ، ومن أشهرهم في العصر العباسي يحيى بن الحارث الذماري المتوفّى سنة (١٤٥ هـ) وحمزة بن حبيب الزيات المتوفّى سنة (١٥٦ هـ) وأبو عبد الرحمن المقري المتوفّى

ـــــــــ

(١) حضارة العرب: ٢١٨.

٧٦

سنة (٢١٣ هـ) وخلف بن هشام البزاز المتوفّى سنة (٢٢٩ هـ)(١) .

ب ـ التفسير: ويُراد به إيضاح الكتاب العزيز وبيان معناه، وقد اتجه المفسّرون في تفسيره اتجاهين:

الأوّل:التفسير بالمأثور ، ونعني به تفسير القرآن بما أثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة الهُدىعليهم‌السلام وهذا ما سلكه أغلب مُفسّري الشيعة كتفسير القمّي والعسكري والبرهان؛ وحجّتهم في ذلك أنّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام هم المخصوصون بعلم القرآن على حقيقته وواقعه، وقد أدلى بذلك الإمام أبو جعفر الباقرعليه‌السلام بقوله:(ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء) (٢) وقد تظافرت الأدلّة على وجوب الرجوع إليهم في تفسير القرآن، يقول الشيخ الطوسي: (إنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الأئمّة الذين قولهم حجة كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(٣) .

الثاني:التفسير بالرأي ، ويُراد به الأخذ بالاعتبارات العقلية الراجعة إلى الاستحسان وقد ذهب إلى ذلك المفسرون من المعتزلة والباطنية ، فلم يعنوا بما أثر عن أئمّة الهُدى في تفسير القرآن الكريم، وإنّما استندوا في تفسيره إلى ما يرونه من الاستحسانات العقلية(٤) .

وعلى أيّة حال فإنّ أوّل مدرسة للتفسير بالمأثور كانت في عهد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام فهو أوّل مفسّر للقرآن الكريم وعنه أخذ عبد الله بن عباس وغيره، من أعلام الصحابة، وكذلك اهتمّ به اهتماماً بالغاً الأئمّة الطاهرون، فتناولت الكثير من محاضراتهم تفسير القرآن، وأسباب نزول آياته وفضل قراءته.

٢ ـ علم الحديث:

ونعني به ما أثر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أحد أوصيائه الأئمّة الطاهرين، من قول أو فعل أو تقرير لشيء ويعبّر عن ذلك كلّه بالسنّة.

ـــــــــ

(١) المعارف: ٢٣٠ ـ ٢٣١، الفهرست: ٤٢ ـ ٤٥.

(٢) التبيان: ١ / ٤.

(٣) حياة الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : ١ / ١٨١.

(٤) حياة الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام : ١ / ١٨١.

٧٧

وقد سبق الشيعة إلى تدوين الأحاديث، فقد حثّ الأئمّة الطاهرون أصحابهم على ذلك، حيث روى أبو بصير فقال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام فقال:(ما يمنعكم من الكتابة، إنّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، أنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها) وقد انبرى جماعة من أصحاب الإمام الرضاعليه‌السلام إلى جمع الأحاديث الصحيحة في جوامع كبيرة، وهي الجوامع الأولى للإمامية والتي تعدّ الأساس لتدوين الجوامع الأربعة لمشايخ الإسلام الثلاثة(١) .

٣ ـ الفقه:

ومن أبرز العلوم التي ساد انتشارها في ذلك العصر بل في جميع العصور الإسلامية هو علم الفقه الذي يتكفل بيان التكاليف اللازمة على المكلّفين وما هم مسؤولون عنه عند الله ومطالبون بامتثالها وتطبيقها على واقع حياتهم، ومن ثمّ كان الاهتمام بدراسة علم الفقه أكثر من سائر العلوم، وقد قام أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بدور فعّال في إنشاء مدرستهم الفقهيّة التي تخرّج منها كبار الفقهاء والعلماء أمثال : زرارة ومحمّد بن مسلم وجابر بن يزيد الجعفي وأمثالهم من عيون العلماء، وقد دوّنوا ما سمعوه من الأئمّة الطاهرين في أصولهم التي بلغت زهاء أربعمئة أصل، ثمّ هذّبت، وجمعت في الكتب الأربعة التي يرجع إليها فقهاء الإمامية في استنباطهم للأحكام الشرعية. ولم يقتصر هذا النشاط في طلب علم الفقه والإقبال عليه على الشيعة، وإنّما شمل جميع الطوائف الإسلامية.

٤ ـ علم أصول الفقه:

وأسّس هذا العلم الإمام أبو جعفر محمّد الباقرعليه‌السلام ، وهذا العلم ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد والاستنباط، وكان موضع دراسة في ذلك العصر.

ـــــــــ

(١) مقدّمة المقنع والهداية: ١٠.

٧٨

٥ ـ علم النحو:

وهو من العلوم التي لعبت دوراً مهمّاً في العصر العبّاسي، فقد كانت بحوثه موضع جدل، وقد عقدت لها الأندية في قصور الخلفاء وجرى في بعض مسائله نزاع حادّ بين علماء هذا الفنّ، وقد تخصّص بهذا العلم جماعة من الأعلام في ذلك العصر في طليعتهم الكسائي والفراء وسيبويه، وقد أسّس هذا العلم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام رائد العلم والحكمة في الأرض.

٦ ـ علم الكلام:

ويقصد به الدفاع عن المعتقدات الدينية بالأدلّة العلميّة، وقد تأسّس هذا الفنّ على أيدي الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وتخصّص فيه جماعة من تلاميذهم، يعدّ في طليعتهم العالم الكبير هشام بن الحكم، ومن أشهر المتكلّمين عند أهل السنّة: واصل بن عطاء وأبو الهذيل العلاّف وأبو الحسن الأشعري والغزالي.

٧ ـ علم الطب:

وقد شجّع ملوك بني العبّاس على دراسة الطب، ومنحوا الجوائز والأموال الطائلة للمتخصّصين فيه أمثال جبريل بن بختشوع الطبيب النصراني.

٨ ـ علم الكيمياء:

وقد تخصّص فيه جابر بن حيان مفخرة الشرق العربي، وقد تلقّى معلوماته في هذا المجال من الإمام جعفر الصادق العقلية المفكّرة الفريدة في العالم الإنساني والمؤسس لهذا العلم.

٩ ـ علم الهندسة المعمارية والمدنية.

١٠ ـ علم الفلك.

ترجمة الكتب:

وكان من مظاهر الحياة الثقافية في ذلك العصر الإقبال على ترجمة الكتب إلى اللغة العربية، وقد تناولت كتب الطب، والرياضة، والفلك، وأصناف العلوم السياسية والفلسفة، ذكر أسماء كثير منها ابن النديم في الفهرست، وكان يرأس ديوان الترجمة حنين بن إسحاق، وقد روى ابن النديم: أنّ المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله الإذن في

٧٩

إنفاذ من يختار من العلوم القديمة المخزونة، المدّخرة ببلد الروم فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق ومسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا ممّا وجدوا، فلمّا حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل..(١) .

المعاهد والمكتبات:

وأنشأت الحكومة في هذا العصر الكثير من المدارس والمعاهد في بغداد لتدريس العلوم الإسلامية وغيرها، فقد أنشئت فيها حوالي ثلاثون مدرسة، وما فيها من مدرسة إلاّ ويقصر القصر البديع عنها.

كما أسست فيها المكتبات العامة التي كان منها مكتبة بيت الحكمة، فقد نقل إليها الرشيد مكتبته الخاصة، وأضاف إليها من الكتب ما جمعه جدّه المنصور وأبوه المهدي، وفي عهد المأمون طلب من أمير صقلية بعض الكتب العلمية والفلسفية، فلمّا وصلت إليه نقلها إلى مكتبة بيت الحكمة، كما جلب إليها من خراسان الكثير من الكتب، وكان حيث ما سمع بكتاب جلبه لها، وظلّت هذه الخزانة التي هي من أثمن ما في العالم قائمة يرجع إليها البحّاث وأهل العلم فلمّا استولى السفّاك المغول على بغداد سنة (٦٥٦ هـ) عمدوا إلى إتلافها، وبذلك خسر العالم الإسلامي أعظم تراث علمي له(٢) .

الخرائط والمراصد:

أمر المأمون بوضع خريطة للعالم سُمّيت (الصورة المأمونية) وهي أوّل خريطة صُنعت للعالم في العصر العباسي، كما أمر بإنشاء مرصد فلكي فأنشي بالشماسية وهي إحدى محلاّت بغداد(٣) .

في هذا الجو العلمي الزاهر كان الإمام أبو جعفر الجوادعليه‌السلام الرائد الأعلى للحركة الثقافية، فقد التفّ حوله العلماء أثناء إقامته في بغداد وهم ينهلون من نمير علومه،

ـــــــــ

(١) الفهرست: ٣٣٩.

(٢) تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي: ٤/١٦٠ ـ ١٦٢.

(٣) عصر المأمون: ١ / ٣٧٥.

٨٠

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214