اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)0%

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام
الصفحات: 214

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 214
المشاهدات: 63145
تحميل: 7439

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 214 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63145 / تحميل: 7439
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

اعلام الهداية - الإمام محمد بن علي الجواد (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقد سألوه عن أدقّ المسائل الفلسفية والكلامية فكان يجيبهم عليها ويتحدّى الزمن مما منّ الله به عليه من معارف وعلوم (١) .

٢ ـ الحياة السياسية:

لقد كانت الحياة السياسية في عصر الإمام أبي جعفرعليه‌السلام سيئة وكانت الظروف حرجة للغاية لا للإمام فحسب وإنّما كانت كذلك لعموم المسلمين وذلك لما وقع فيها من الأحداث الجسام، فقد مُنيت الأمة بموجات عارمة من الفتن والاضطرابات، وقبل أن نتحدّث عنها نرى من اللازم أن نعرض لمنهج الحكم في العصر العباسي وغيره ممّا يتصل بالموضوع وفيما يلي ذلك:

منهج الحكم : فقد كان على غرار الحكم الأموي، في الأهداف والأساليب وقد وصفه (نكلسون) بأنّه نظام استبدادي، وأنّ العباسيين حكموا البلد حكماً مطلقاً على النحو الذي كان يحكم به ملوك آل ساسان قبلهم(٢) .

لقد كان الحكم خاضعاً لرغبات ملوك العباسيين وأمرائهم، ولم يكن له أي التقاء مع معايير الدين الإسلامي، فقد شذّت تصرّفاتهم الإدارية والاقتصادية والسياسية عمّا قنّنه الإسلام في هذه المجالات.

واستبدّ ملوك بني العباس بشؤون المسلمين وأقاموا فيهم حكماً إرهابياً لا يعرف الرحمة والرأفة، وهو بعيد كلّ البعد عمّا شرّعه الإسلام من الأنظمة والقوانين الهادفة إلى بسط العدل، ونشر المساواة والحق بين الناس.

ـــــــــ

(١) راجع: حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ١٧٩ ـ ١٨٨.

(٢) اتّجاهات الشعر العربي: ٤٩.

٨١

الخلافة والوراثة: لم تخضع الخلافة الإسلامية حسب قيمها الأصلية لقانون الوراثة ولا لأي لون من ألوان المحاباة أو الاندفاع وراء الأهواء والعصبيات، فقد حارب الإسلام جميع هذه المظاهر واعتبرها من عوامل الانحطاط والتأخر الفكري والاجتماعي، وأناط الخلافة بالقيم الكريمة، والمُثل العُليا، والقدرة على إدارة شؤون الأمة، فمن يتصف بها فهو المرشّح لهذا المنصب الخطير الذي تدور عليه سلامة الأمة وسعادتها.

وأمّا الشيعة فقد خصَّصت الخلافة بالأئمّة الطاهرين من أهل البيتعليهم‌السلام لا لقرابتهم من الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونهم ألصق الناس به وأقربهم إليه، وإنّما لمواهبهم الربّانية، وما اتصفوا به من الفضائل التي لم يتصف بها أحد غيرهم فضلاً عن النصّ عليهم، بما لا يدع مجالاً للاختيار.

وأمّا الذين تمسكوا بعنصر الوراثة فهم العباسيّون، على غرار الأمويين فاعتبروها القاعدة الصلبة لاستحقاقهم للخلافة بحجة أنّهم أبناء عم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد بذلوا الأموال الطائلة لأجهزة الإعلام لنشر ذلك وإذاعته بين الناس.

وقد هبّت إلى تأييد ودعم الوسط العباسي الأوساط المرتزقة من خلال انتقاص العلويين فتتقرب إليهم بذلك وتشهد بأنّ ذئاب بني العباس أولى بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السادة الأطهار من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

تصرّفات شاذّة: ولمّا التزم العباسيّون بقانون الوراثة، قاموا بتصرفات شاذّة تسيء إلى مصلحة الأمة وكان من بينها:

١ ـ إسناد الخلافة إلى من لم يبلغ الرشد، فقد عهد الرشيد بالخلافة إلى ابنه الأمين، وكان له من العمر خمس سنين، وإلى ابنه المأمون وكان عمره ثلاث عشرة سنة، من دون أن يكونا قد حازا العلم والحكمة والحنكة الإدارية والسياسية، حتى كان يسيّرهما مَن سواهما من أصحاب البلاط.

ـــــــــ

(١) راجع حياة الإمام محمّد الجواد عليه‌السلام : ١٩٠ بتصرف بسيط.

٨٢

علماً بأن الإمامة والخلافة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منصب ربّاني وعهد إلهي لا يرتقي إليه إلاّ من اعتدلت فطرته وسلمت سيرته من الخطل والخطأ والانحراف في كل مجالات حياته، ليكون قادراً على قيادة الأمة إلى طرق الرشاد.

وهكذا انحرف العبّاسيون بذلك عمّا قرّره الإسلام من أن منصب الخلافة إنّما يُسند إلى من يتمتع بالحكمة والصيانة والمعرفة بالشؤون الاجتماعية والدراية التامة بما تحتاج إليه الأمة في جميع شؤونها.

٢ ـ إسناد ولاية العهد إلى أكثر من واحد فانّ في ذلك تمزيقاً لشمل الأمة وتصديعاً لوحدتها وقد شذّ الرشيد عن ذلك فقد أسند الخلافة من بعده إلى الأمين والمأمون، وقد ألقى الصراع بينهما، وعرّض الأمة إلى الأزمات الحادّة، والفتن الخطيرة، وسنعرض لها في البحوث الآتية.

الوزارة: من الأجهزة الحساسة في الدولة العباسية هي الوزارة، فكانت ـ على الأكثر ـ وزارة تفويض، فكان الخليفة يعهد إلى الوزير بالتصرف في جميع شؤون دولته ويتفرغ هو للّهو والعبث والمجون، فقد استوزر المهدي العباسي يعقوب بن داود، وفوّض إليه جميع شؤون رعيّته وانصرف إلى ملذّاته.

واستوزر الرشيد يحيى بن خالد البرمكي ومنحه جميع الصلاحيات واتجه نحو ملاذّه وشهواته فكانت لياليه الحمراء في بغداد شاهدة على ذلك.

وتصرّف يحيى في شؤون الدولة الواسعة الأطراف حسب رغباته، فقد أنفق الأموال الطائلة على الشعراء المادحين له، واتخذ من العمارات والضِياع التي كانت تدرّ عليه بالملايين، الكثير الكثير وهي التي سببت قيام هارون الرشيد باعتقاله، وقتل ابنه جعفر ومصادرة جميع أموالهم.

وفي عهد المأمون أطلق يد وزيره الفضل بن سهل في أمور الدولة فتصرّف فيها كيفما شاء، وكان الوزير يكتسب الثراء الفاحش بما يقترفه من النهب والرشوات، وقد عانت الأمة من ضروب المحن والبلاء في عهدهم مما لا يوصف فكانوا الأداة الضاربة للشعب، فقد استخدمتهم الملوك لنهب ثروات الناس وإذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون.

٨٣

وكان الوزراء معرّضين للسخط والانتقام وذلك لما يقترفونه من الظلم والجور، وقد نصح دعبل الخزاعي الفضلَ بن مروان أحد وزراء العباسيين فأوصاه بإسداء المعروف والإحسان إلى الناس، وقد ضرب له مثلاً بثلاثة وزراء ممّن شاركوه في الاسم وسبقوه إلى كرسي الحكم، وهم الفضل بن يحيى، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل، فإنهم لمّا جاروا في الحكم تعرّضوا إلى النقمة والسخط.

ومن غرائب ما اقترفه الوزراء من الخيانة أن الخاقاني وزير المقتدر بالله العباسي ولّى في يوم واحد تسعة عشر ناظراً للكوفة وأخذ من كلّ واحد رشوة(١) إلى غير ذلك من هذه الفضائح والمنكرات الكثيرة عند بعض وزراء العباسيين(٢) .

ـــــــــ

(١) تاريخ التمدّن الإسلامي: ٤ / ١٨٢.

(٢) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ١٨٨ ـ ١٩٢.

٨٤

اضطهاد العلويّين: اضطهدت أكثر الحكومات العبّاسيّة رسمياً العلويّين، وقابلتهم بمنتهى القسوة والشدّة، وقد رأوا من العذاب ما لم يروه في العهد الأموي وأوّل من فتح باب الشر والتنكيل بهم الطاغية فرعون هذه الأمة المنصور الدوانيقي(١) وهو القائل: (قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون وتركت سيّدهم ومولاهم جعفر بن محمّد)(٢) ، وهو صاحب خزانة رؤوس العلويّين التي تركها لابنه المهدي تثبيتاً لملكه وسلطانه وقد ضمّت تلك الخزانة رؤوس الأطفال والشباب والشيوخ من العلويّين(٣) !! ، وهو الذي وضع أعلام العلويّين وأعيانهم في سجونه الرهيبة حتى قتلتهم الروائح الكريهة وردم على بعضهم السجون حتى توفّوا دفناً تحت أطنان الأتربة والأحجار!!

لقد اقترف هذا الطاغية السفّاك جميع ألوان التصفية الجسدية مع العلويّين، وعانوا في ظلال حكمه من صنوف الإرهاب والتنكيل ما لا يوصف لفضاعته وقسوته.

أمّا موسى الهادي فقد زاد على سلفه المنصور، وهو صاحب واقعة فخ التي لا تقل في مشاهدها الحزينة عن واقعة كربلاء، وقد ارتكب فيها هذا السفاك من الجرائم ما لم يُشاهد مثله، فقد أوعز بقتل الأطفال وإعدام الأسرى، وظلّ يطارد العلويّين، ويلحّ في طلبهم فمن ظفر به قتله، ولكن لم تطل أيام هذا الجلاّد حتى قصم الله ظهره.

ـــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي: ٢٦١.

(٢) الأدب في ظلّ التشيّع: ٦٨.

(٣) تاريخ الطبري ١٠ / ٤٤٦.

٨٥

أمّا هارون الرشيد فهو لم يقلّ عن أسلافه في عدائه لأهل البيتعليه‌السلام والتنكيل بهم وهو القائل: (حتام اصبر على آل بني أبي طالب، والله لأقتلنّهم ولأقتلنّ شيعتهم، ولأفعلنّ وأفعلنّ)(١) وهو الذي سجن الإمام الأعظم موسى بن جعفرعليه‌السلام عدة سنين، ودسّ إليه السمّ حتى توفّي في سجنه، لقد جهد الرشيد في ظلم العلويّين وإرهاقهم، فعانوا في عهده من الإرهاب ما لا يقلّ فضاعة عمّا عانوه في أيام المنصور.

ولما آلت الخلافة إلى المأمون رفع عنهم المراقبة، وأجرى لهم الأرزاق وشملهم برعايته وعنايته، ولكن لم يدم ذلك طويلاً إذ انّه بعد ما اغتال الإمام الرضاعليه‌السلام بالسمّ، أخذ في مطاردة العلويّين والتنكيل بهم كما فعل معهم أسلافه.

وعلى أيّة حال فإنّ من أعظم المشاكل السياسية التي أُمتحن بها المسلمون امتحاناً عسيراً هي التنكيل بعترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذرّيته وقتلهم بيد الزمرة العبّاسية الغاشمة والتي فاقت في قسوتها وشرورها أعمال بني أمية، حتى انتهى الأمر بأبناء النبيّ العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم كانوا يتضورون جوعاً وسغباً، سوى المآسي الأخرى التي حلّت بهم، وكان من الطبيعي أن تؤلم هذه الحالة قلب الإمام أبي جعفر الجوادعليه‌السلام ، وتصيبه بالأسى والحزن(٢) .

مشكلة خلق القرآن: لعلّ من أعقد المشاكل السياسية التي اُبتلي بها المسلمون في ذلك العصر هي محنة خلق القرآن التي أوجدت الفتن والخطوب في البلاد.

ـــــــــ

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : ٢ / ٤٧.

(٢) الحدائق الوردية: ٢ / ٢٢٠.

٨٦

فقد أظهر المأمون هذه المسألة في سنة (٢١٢ هـ). واُمتحن بها العلماء امتحاناً شديداً، وأرهقوا إلى حدّ بعيد فمن لا يقول بمقالة المأمون سجَنه أو نفاه أو قتله وقد حمل الناس على ما يذهب إليه بالقوّة والقهر.

إنّ هذه المسألة تعتبر من أهمّ الأحداث الخطيرة التي حدثت في ذلك العصر، وقد تعرّض الفلاسفة والمتكلّمون إلى بسطها وإيضاح غوامضها (١) .

٣ ـ الحياة الاقتصادية:

اهتم الإسلام بالحالة الاقتصادية وازدهارها، واعتبر الفقر كارثة مدمّرة يجب القضاء عليه بكافة الطرق والوسائل، وألزم ولاة الأمور والمسؤولين أن يعملوا جاهدين على تنمية الاقتصاد العام، وزيادة دخل الفرد، وبسط الرخاء والرفاهية بين الناس ليسلم المسلمون من الشذوذ والانحراف الذي هو ـ على الأكثر ـ وليد الفقر والحرمان، وكان من بين ما عنى به أنّه حرّم على ولاة الأمور إنفاق أموال الدولة في غير صالح المسلمين، ومنعهم أن يصطفوا منها لأنفسهم وأقربائهم، ومن يمتّ إليهم، ولكن ملوك بني العبّاس تجاهلوا ما أمر به الإسلام في هذا المجال فاتّخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً، وأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم وملاذهم من دون تحرج!!، وقد أدّت هذه السياسة المنحرفة إلى أزمات حادّة في الاقتصاد العام، حيث انقسم المجتمع إلى طبقتين: الأولى وهي الطبقة الراقية في الثراء التي لا عمل لها إلاّ اللهو واللعب، والأخرى الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض، وتعمل في الصناعة، وتشقى في سبيل أولئك السادة ولا تحصل بجهدها إلاّ على ما يسدّ رمقها، وترتّب على فقدان التوازن في الحياة

ـــــــــ

(١) راجع: حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٠٣ ـ ٢٠٥.

٨٧

الاقتصادية انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية على السواء(١) وفيما يلي نتحدث ـ بإيجاز ـ عن الحياة الاقتصادية في ذلك العصر:

واردات الدولة: كانت واردات الدولة الإسلامية في العصر العبّاسي الذي عاش فيه الإمام أبو جعفر الجوادعليه‌السلام ضخمة للغاية، فقد أحصى ابن خلدون الخراج في عهد المأمون فكان مجموعه ما يزيد على (٤٠٠) مليون درهم(٢) ، وقد بلغ من كثرة المال ووفرته أنّه كان لا يُعدّ، وإنّما كان يوزن، فكانوا يقولون: إنّه بلغ ستة أو سبعة آلاف قنطار من الذهب(٣) ، وقد حسب عامل المعتصم على الروم خراجها فكان أقلّ من ثلاثة آلاف ألف، فكتب إليه المعتصم يعاتبه، وممّا جاء في عتابه: (إنّ أخسّ ناحية عليها أخس عبيدي خراجها أكثر من خراج أرضك)(٤) . ومن المؤسف أنّ هذه الأموال الوفيرة لم تنفق على تحسين أوضاع المسلمين وتطوير حياتهم، وإنّما كان الكثير منها يصرف على الشهوات والملذّات، وقد عكست تلك الإنفاقات الهائلة ترف بغداد في ذلك العصر ذلك الترف الذي تحكيه قصص (ألف ليلة وليلة) التي مثّلت حياة اللهو في ذلك العصر.

التهالك على جمع المال: وتهالك الناس في ذلك العصر على جمع المال بكلّ وسيلة كانت، مشروعة أم غير مشروعة، فقد أصبح المال هو المقياس في قيم الرجال، وأخذ يتردّد في الأمثلة الجارية في بغداد (المال مال، وما سواه محال)

ـــــــــ

(١) الإدارة الإسلامية في عزّ العرب: ٨٢.

(٢) المقدّمة: ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٣) المقدّمة: ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٤) أحسن التقاسيم للمقدسي: ٦٤ (طبع ليدن).

٨٨

وتوسّل الناس إلى جمعه بكلّ طريق لا يعفون عن محرم، ولا يتورّعون عن خبيث، وأصبح الخداع والغشّ هو الوسيلة في جمعه(١) .

تضخّم الثروات: وتضخّمت الثروات الهائلة عند بعض الناس خصوصاً في بغداد عاصمة العالم الإسلامي آنذاك، فقد وجدت فيها طبقة رأسمالية كانت تملك الملايين، وكذلك البصرة فقد ضمّت طبقة كبيرة من أهل الثراء العريض وكانت البصرة ثغر العراق والمركز التجاري الخطير الذي يصل بين الشرق والغرب، وتستقبل متاجر الهند، وجزر البحار الشرقية، ومن أجل ذلك سمّيت البصرة أرض الهند وأم العراق(٢) .

نفقات المأمون في زواجه: وكان من مظاهر ذلك الإسراف والبذخ والتصرف الظالم في أموال المسلمين ما أنفقه المأمون من الأموال الطائلة المذهلة في زواجه بالسيّدة بوران فقد أمهرها ألف ألف دينار، وشرط عليه أبوها الحسن بن سهل أن يبني بها في قريته الواقعة بفم الصلح فأجابه إلى ذلك، ولمّا أراد الزواج سافر إلى فم الصلح ونثر على العسكر الذي كان معه ألف ألف دينار وكان معه في سفره ثلاثون ألفاً من الغلمان الصغار والخدم الصغار والكبار وسبعة آلاف جارية... وعرض العسكر الذي كان معه فكان أربعمئة ألف فارس، وثلاثمئة ألف راجل.. وكان الحسن بن سهل يذبح لضيوفه ثلاثين ألف رأس من الغنم، ومثليها من الدجاج، وأربعمئة بقرة، وأربعمئة جمل وسمّى الناس هذه الدعوة (دعوة الإسلام) وهو ليس من الإسلام في شيء، فإنّ الإسلام احتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط في بيت مال المسلمين فحرم إنفاق أي شيء في غير صالحهم.

ـــــــــ

(١) مقدّمة البخلاء: ٢٤.

(٢) مقدّمة البخلاء: ٢٤.

٨٩

وحينما بنى المأمون ببوران نثروا من سطح دار الحسن بن سهل بنادق عنبر فاستخفّ بها الناس، وزهدوا فيها، ونادى شخص من السطح قائلاً: كلّ من وقعت بيده بندقة فليكسرها فإنّه يجد فيها رقعة، وما فيها له وكسر الناس البنادق فوجدوا فيها رقاعاً في بعضها تحويل بألف دينار وفي أخرى خمسمئة دينار إلى أن تصل إلى المئة دينار، وفي بعضها عشرة أثواب من الديباج، وفي بعضها خمسة أثواب، وفي بعضها غلام، وفي بعضها جارية، وحمل كلّ من وقعت بيده رقعة إلى الديوان واستلم ما فيها(١) كما أنفق على قادة الجيش فقط خمسين ألف ألف درهم(٢) .

وفي ساعة الزفاف أُجلست بوران على حصير منسوج من الذهب ودخل عليها المأمون ومعه عمّاته وجمهرة من العبّاسيّات فنثر الحسن بن سهل على المأمون وزوجته ثلثمئة لؤلؤة وزن كلّ واحدة مثقال، وما مدّ أحد يده لالتقاطها، وأمر المأمون عمّاته بالتقاطها، ومدّ يده فأخذ واحدة منها (فالتقطتها العبّاسيّات). لقد أنفق الحسن والمأمون هذه الأموال الطائلة على هذا الزواج من بيت مال المسلمين، وقد أمر الله بإنفاقه على مكافحة الفقر ومطاردة البؤس والحرمان.

هبات وعطايا: ووهب ملوك بني العبّاس أموال المسلمين بسخاء إلى المغنّين والمغنّيات والخدم والعملاء، فقد غنّى إبراهيم بن المهدي العبّاسي محمّد الأمين صوتاً فأعطاه ثلاثمئة ألف ألف درهم فاستكثرها إبراهيم، وقال له: يا سيّدي لو قد أمرت لي بعشرين ألف ألف درهم فقال له الخليفة: هل هي إلاّ

ـــــــــ

(١) تاريخ الطبري: ٧ / ١٤٩، وابن الأثير: ٤ / ٢٠٦.

(٢) تزيين الأسواق للأنطاكي ٣ / ١١٧.

٩٠

خراج بعض الكور(١) ، وغنّى ابن محرز عند الرشيد بأبيات مطلعها : (واذكر أيام الحمى ثمّ انثن) فاستخفّ به الطرب فأمر له بمئة ألف درهم، وأعطى مثل ذلك للمغنّي دحمان الأشقر(٢) ولمّا تقلّد المهدي العبّاسي الخلافة وزّع محتويات إحدى خزانات بيت المال بين مواليه وخدمه(٣) إلى غير ذلك من الهبات والهدايا التي كانت من الخزينة المركزية التي كان ملزماً شرعاً بإنفاقها على المشاريع الحيوية التي تزدهر بها البلاد.

اقتناء الجواري: وبدل أن يتّجه ملوك بني العبّاس إلى إصلاح البلاد وتنميتها الاقتصادية فقد اتّجهوا بنهم وجشع إلى اقتناء الجواري، والمغالاة في شرائها، فقد جلبت إلى بغداد الجواري الملاح من جميع أطراف الدنيا، فكان فيهنّ الحبشيات، والروميّات، والجرجيات، والشركسيات، والعربيات من مولدات المدينة والطائف واليمامة ومصر من ذوات الألسنة العذبة، والجواب الحاضر، وكان بينهنّ الغانيات اللاتي يعزفن مع ما عليهن من اللباس الفاخر وما يتّخذن من العصائب التي ينظمنها بالدرّ والجواهر، ويكتبن عليهنّ بصفائح الذهب(٤) وقد كان عند الرشيد زهاء ألفي جارية، وعند المتوكّل أربعة آلاف جارية(٥) وقد زار الرشيد في يوم فراغه البرامكة فلمّا أراد الانصراف خرجت جواريهم فاصطففن مثل العساكر صفّين صفّين، وغنين وضربن بالعود ونقرن على الدفوف إلى أن طلع مقاصير القصر(٦) وكان عند والدة جعفر البرمكي مئة وصيفة لباس كلّ

ـــــــــ

(١) الإسلام والحضارة العربية ٢ / ٢٣١.

(٢) المستطرف: ١٨٢ ـ ١٨٤.

(٣) تاريخ بغداد: ٥ / ٣٩٣.

(٤) حضارة الإسلام: ٩٨.

(٥) الأغاني: ٩ / ٨٨.

(٦) حضارة الإسلام في دار السلام: ٩٦.

٩١

واحدة منهنّ وحليّها غير لبوس الأخرى وحليّها(١) لقد كان اقتناء الجواري بهذه الكثرة من نتائج وفرة المال وكثرته عند هذه الطبقة الرأسمالية التي حارت في كيفيّة صرف ما عندها من الأموال.

التفنّن في البناء: وتفنّن ملوك بني العبّاس في بناء قصورهم، فأشادوا أضخم القصور التي لم يشيّد مثلها في البلاد وقد بنوا في بغداد قصر الخلد تشبيهاً له بجنّة الخلد التي وعد الله بها المتّقين، وكان من أعظم الأبنية الإيوان الذي بناه الأمين، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه جعله كالبيضة بياضاً ثمّ ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازورد، وكان ذا أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيه مسامير الذهب التي قمعت رؤوسها بالجوهر النفيس وقد فرش بفرش كأنّه صبغ بالدم وقد نقش بتصاوير من الذهب، وتماثيل العقيان، ونضّد فيه العنبر الأشهب والكافور المصعد(٢) وقد أنفق جعفر البرمكي على بناء داره نحواً من عشرين مليون درهم(٣) .

وبلغ البذخ والترف في ذلك العصر أنّ كثيراً من أبواب الدور في بغداد كانت من الذهب في حين أنّ الأكثرية الساحقة من أفراد الأمة كانت تشكو الجوع والحرمان.

أثاث البيوت: وحفلت قصور العبّاسيّين بأنواع الأثاث وأفخرها في العالم، ويقول المؤرّخون: إنّ السيّدة زبيدة قد اصطفت بساطاً من الديباج جمع صورة كلّ حيوان من جميع الأجناس، وصورة كلّ طائر من الذهب، وأعينها اليواقيت

ـــــــــ

(١) الجهشياري: ٢٤٦.

(٢) طبقات الشعراء لابن المعتزّ: ٢٠٩.

(٣) تاريخ الطبري: ١٠ / ٩٢.

٩٢

والجواهر يقال إنّها أنفقت على صنعه مليون دينار(١) ، كما اتّخذت الآلة من الذهب المرصّع بالجوهر، والآبنوس، والصندل عليها الكلاليب من الذهب الملبّس بالوشي والديباج، والسمور، وأنواع الحرير، كمثل اتّخاذها شمع العنبر، واصطناعها الخفّ مرصّعاً بالجوهر واتّخاذها الشاكرية(٢) .

أمّا مجالس البرامكة فكانت مذهلة، فكان الرشيد إذا حضر مجالس البرامكة وهو بين الآنية المرصّعة والخزائن المجزعة، والمطارح من الوشي والديباج والجواري يرفلن في الحرير والجوهر، ويستقبلنه بالروائح التي لا يدري لطيبها ما هي، خيّل إليه أنّه في الجنّة بين الجمال والجوهر والطيب(٣) .

الثياب: وكان من نتائج بذخ العبّاسيّين وترفهم ما ذكره ابن خلدون أنّه كانت دور في قصورهم لنسج الثياب تسمّى دور الطراز، وكان القائم عليها ينظر في أمور الصنّاع وتسهيل آلاتهم وإجراء أرزاقهم(٤) .

ألوان الطعام: وتعدّدت ألوان الطعام بسبب تقدّم الحضارة فقد روى طيفور عن جعفر بن محمّد الأنماطي أنّه تغذّى عند المأمون فوضع على المائدة ثلاثمئة لون من الطعام(٥) ونظراً لتعدّد ألوان الطعام فقد فسدت أسنانهم ممّا اضطرّهم إلى شدّها بالذهب للعلاج(٦) .

ـــــــــ

(١) حضارة الإسلام: ٩٥، نقلاً عن المستطرف: ٩٦.

(٢) حضارة الإسلام: ٩٥.

(٣) حضارة الإسلام: ٩٦.

(٤) المقدّمة: ٢٦٧.

(٥) تاريخ بغداد لطيفور: ٣٦.

(٦) التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية لصالح أحمد: ١٧٧.

٩٣

مخلّفات العبّاسيّين من الأموال: وخلّف ملوك بني العبّاس ووزراؤهم من الأموال ما لا يحصى، وفيما يلي بعض ما تركوه:

١ ـ ترك الطاغية البخيل المنصور الدوانيقي من الأموال التي سرقها من المسلمين ما يقرب من ستمئة مليون درهم و أربعة عشر مليون دينار(١) وقد كدّس هذه الأموال الهائلة في خزائنه وترك الفقر والبؤس يهيمنان على جميع أنحاء البلاد الإسلامية.

٢ ـ خَلّف الرشيد من المال ما يقدّر بنحو تسعمئة مليون درهم(٢) .

٣ ـ توفّيت الخيزران أم الرشيد، فكانت غلّتها ألف ألف وستّين ألف درهم(٣) .

٤ ـ ترك عمرو بن سعدة أحد وزراء المأمون ما يقرب من ثمانية ملايين دينار فأخبروا المأمون بذلك في رقعة فكتب عليها : (هذا قليل لمن اتّصل بنا، وطالت خدمته لنا فبارك الله لولده فيه)(٤) .

حياة اللهو والطرب: وعاش أكثر خلفاء بني العبّاس عيشة اللهو والطرب والمجون، عيشة ليس فيها ذكر لله ولا لليوم الآخر، وقضوا أيامهم في هذه الحياة التافهة التي تمثّل السقوط والانحطاط.

ـــــــــ

(١) أمراء الشعر العربي: ٤٥.

(٢) أمراء الشعر العربي: ٤٥.

(٣) الإسلام والحضارة العربية: ٢ / ٢٣٠.

(٤) الإسلام والحضارة العربية: ٢ / ٢٣١.

٩٤

وقد روى أحمد بن صدقة قال: دخلت على المأمون في يوم السعانين(١) وبين يديه عشرون وصيفة جلباً روميات مزنرات قد تزيّنّ بالديباج الرومي وعلّقن في أعناقهنّ صلبان الذهب، وفي أيديهنّ الخوص والزيتون.

وكان من مظاهر الحياة اللاهية لعبهم بالنرد والشطرنج، والعناية بتربية الحمام والمغالاة في أثمانه(٢) كما تهارشوا بالديوك والكلاب(٣) ولعبوا بالميسر وقد انتشر ذلك حتى في حانات الفقراء(٤) .

ومن المؤسف أنّ الطرب والمجون قد سرى إلى بعض المحدّثين الذين يجب أن يتّصفوا بالإيمان والاستقامة فقد ذكر الخطيب البغدادي عن المحدّث محمّد بن الضوء إنّه ليس بمحلّ لأن يؤخذ عنه العلم ; لأنّه كان من المتهتّكين بشرب الخمر والمجاهرة بالفجور، وكان أبو نؤاس يزوره في الكوفة في بيت خمّار يقال له جابر(٥) .

التقشّف والزهد: وبجانب حياة اللهو والطرب التي عاشها الناس في عصر الإمام أبي جعفرعليه‌السلام فقد كانت هناك طائفة من الناس قد اتّجهت إلى الزهد والتقشّف ونظرت إلى مباهج الحياة نظرة زهد واحتقار، فكان من بينهم إبراهيم بن الأدهم وهو ممّن ترك الحياة الناعمة وأقبل على طاعة الله

ـــــــــ

(١) يوم السعانين: عيد للنصارى.

(٢) حياة الحيوان: ٣ / ٩١.

(٣) الأغاني: ٦ / ٧٤ ـ ٧٥.

(٤) حياة الحيوان: ٥ / ١١٥.

(٥) الأوراق: ٦١.

٩٥

وكان يردّد هذا البيت:

اتّخذ الله صاحباً

ودع الناس جانبا

وكان يلبس في الشتاء فرواً ليس تحته قميص (١) مبالغة منه في الزهد وكان ممّن عُرِف بالتقشّف معروف الكرخي فكان يبكي وينشد في السحر:

أي شيء تريد منّي الذنوب

شغفت بي فليس عنّي تغيب

ما يضرّ الذنوب لو اعتقتني

رحمةً بي فقد علاني المشيب(٢)

وكان من زهّاد ذلك العصر بشر بن الحارث وهو القائل:

قطع الليالي مع الأيام في خلق

والقوم تحت رواق الهمّ والقلق

أحرى وأعذر لي من أن يقال غداً

إنّي التمست الغنى من كفّ مختلق

قالوا: قنعت بذا ؟ قلت: القنوع غنى

ليس الغنى كثرة الأموال والورق

رضيت بالله في عسري وفي يسري

فلست أسلك إلاّ أوضح الطرق (٣)

ومن الطبيعي أنّ هذه الدعوة إلى الزهد إنّما جاءت كرد فعل لإفراط ملوك العبّاسيّين والطبقة الرأسماليّة في الدعارة والمجون وعدم عفافهم عمّا حرّمه الله من الملاهي .

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن عصر الإمام الجواد عليه‌السلام (٤) .

إلى هنا نكون قد وقفنا على ملامح هذا العصر وخصائصه الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسوف نردفها ببيان طبيعة علاقة حكّام عصر الإمام مع الإمامعليه‌السلام من جهة، ثم ندرس متطلبات هذا العصر على ضوء هذه الملامح وعلى ضوء رسالة الإمام الجوادعليه‌السلام في تلك الظروف التي أحاطت به آخذين

ـــــــــ

(١) حلية الأولياء: ٧ / ٣٦٧ ـ ٣٧٣.

(٢) حلية الأولياء: ٢ / ١٨١.

(٣) صفة الصفوة: ٢ / ١٨٩.

(٤) راجع حياة الإمام محمد الجوادعليه‌السلام : ٢٠٦ ـ ٢١٦.

٩٦

بنظر الاعتبار مجمل أهداف الإمامعليه‌السلام باعتباره أحد عناصر أهل بيت الرسالة الذين أوكلت إليهم مهمة الحفاظ على الرسالة والأمة المسلمة لإيصالهما إلى شاطئ الأمن والسلام الذي نادى به الإسلام ووعد به المؤمنين بل المسلمين فضلاً عن العالَمين.

الفصل الثاني: الإمام الجوادعليه‌السلام وحكّام عصره

١ ـ المأمون العبّاسي

استمرّ المأمون على منهجه السابق في التظاهر بالإحسان لأهل البيتعليهم‌السلام وقد تظاهر بإكرام الإمام الجوادعليه‌السلام فزوّجه ابنته وحاول التقرّب إليه كثيراً لكنه في الوقت ذاته كان يكيد للإمام من خلال تحجيم دوره وتشديد الرقابة عليه، بالرغم من تظاهره بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام والرعاية له بشكل خاص. وذلك لما عرفناه من موقف المأمون من أبيه الرضاعليه‌السلام فيما سبق من بحوث، وبه نفسّر كل ما صدر من المأمون تجاه الإمام الجوادعليه‌السلام .

وسنتطرق إلى الثغرات الرئيسية في العلاقة بين الإمامعليه‌السلام والمأمون فيما بعد.

تزويج المأمون ابنته من الإمام الجوادعليه‌السلام :

قال المؤرخون: (لمّا أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن عليعليه‌السلام بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم، واستنكروه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرّضاعليه‌السلام فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه. فقالوا: ننشدك الله ياأمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا فإنّا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملّكناه الله عَزَّ وجَلَّ، وينزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك، من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضاعليه‌السلام ما عملت فكفانا الله المهم من ذلك. فالله الله إن تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى مَن تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو انصفتم القوم لكانوا أولى بكم وأمَّا ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرّحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضاعليه‌السلام ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

٩٧

وأما أبو جعفر محمد بن علي ، فقد اخترته لتبريزة على كافة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلمون أن الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا له: إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فانه صبي لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم وأن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى وموادّه وإلهامه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت من حاله.

قالوا: قد رضينا لك ياأمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم.

فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون وسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع فأجابهم إلى ذلك.

فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست(١) ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك وخرج أبو جعفر وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفرعليه‌السلام .

ـــــــــ

(١) الدست هنا صدر البيت ، وهو معرب.

٩٨

فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم، فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟

فقال أبو جعفرعليه‌السلام : (سل إن شئت).

قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً ؟

فقال أبو جعفرعليه‌السلام :(قتله في حلّ أو في حرم، عالماً كان المحرم أو جاهلاً، قتله عمداً أو خطأ، حرّاً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد أم من كبارها، مصرّاً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً ؟)

فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره. فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفرعليه‌السلام فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ؟

فقال:نعم ياأمير المؤمنين . فقال له المأمون: أخطب لنفسك جعلت فداك قد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أم الفضل ابنتي وإن رغم قوم ذلك.

فقال أبو جعفرعليه‌السلام :

(الحمد لله إقراراً بالنعمة، ولا اله إلاّ الله إخلاصاً لوحدانيته وصلَّى الله على محمد سيد بريّته، والأصفياء من عترته.

أما بعد فقد كان من فضل الله على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه: ( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) . ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصّداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد عليهما‌السلام وهو خمسمئة درهم جياداً فهل زوّجته ياأمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟)

فقال المأمون: نعم قد زوّجتك ياأبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح ؟

٩٩

قال أبو جعفر عليه‌السلام : (قد قبلت ذلك ورضيت به) .

فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة.

قال الريّان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاّحين في محاوراتهم، فإذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من فضة مشدودة بالحبال من الإبريسم، على عجلة مملوّة من الغالية، ثم أمر المأمون أن تخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية، ثم مدّت إلى دار العامّة فتطيبوا منها ووضعت الموائد فأكل الناس وخرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم.

فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي، قال المأمون لأبي جعفرعليه‌السلام : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه الذي فصّلته من وجوه من قتل المحرم لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفرعليه‌السلام :(نعم ، إن المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها، فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحلّ فعليه حمل قد فطم من اللبن وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة وإن كان ظبياً فعليه شاة وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة. وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة) .

فقال المأمون: أحسنت ياأبا جعفر أحسن الله إليك فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك.

فقال أبو جعفرعليه‌السلام ليحيى:(أسألك ؟) قال: ذلك إليك جعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني وإلا استفدته منك.

فقال له أبو جعفرعليه‌السلام :أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حلّت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلّت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحرمت عليه ؟) .

١٠٠