فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها0%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 672
المشاهدات: 274012
تحميل: 6269

توضيحات:

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 274012 / تحميل: 6269
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعلى كلّ حال صارت النصوص الكثيرة التي وضعت في عهد معاوية عاضدة لما وضع في العهد الأوّل، ومشيّدة لمضامينه وأهدافه.

وكانت نتيجة ذلك تدين الجمهور بشرعية خلافة الأوّلين، واحترام رموز الخطّ المخالف لأهل البيت (صلوات الله عليهم) احتراماً يبلغ حدّ التقديس.

وقد كان لذلك أعظم الأثر في مواجهة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والوقوف في وجه دعوتهم، كما توقّعه معاوية على ما يظهر من كلامه السابق.

وقد صار هذا التديّن والتقديس هما العقبة الكؤود أمام دعوى النصّ، تمنع الجمهور - نوعاً - من مصداقية الرؤية، ومن الموضوعية في البحث عن الحقيقة، ثمّ الوصول إليه.

بل صارت سبباً للتشنيع على شيعة أهل البيت تشنيعاً قد يصل حدّ التكفير، واستحلّت به دماؤهم، وانتهكت حرماتهم ومقدّساتهم على طول التاريخ وإلى يومنا هذا.

وكلّ ذلك بعين الله تعالى، وإليه يرجع الأمر كلّه.

ويأتي في المبحث الثاني إن شاء الله تعالى أثر فاجعة الطفّ في مواجهة هذا الاحترام والتقديس، واقتحام هذه العقبة.

قوّة خطّ الخلافة عند الجمهور يفضي إلى تحكيم السلطة في الدين

الجهة الثانية: إنّه بعد أن كان المفروغ عنه عند المسلمين على اختلاف توجّهاتهم - عدا الشاذ الذي لا يعتدّ به - واستفاضت به النصوص، هو لزوم الإمامة، فالصراع الظاهر لما كان منحصراً بين خطّ أهل البيت القاضي بإمامتهم، تبعاً للنصّ، والخطّ الآخر القاضي بعدم انضباط أمر الإمامة، وأنّ مَنْ تغلب فهو الإمام، فانحسار خطّ أهل البيت (عليهم السّلام) عقائدياً - نتيجة النصوص التي وضعت في

٣٤١

عهد معاوية وما سبقها ممّا ظهر في عهد الخلفاء الأوّلين - مستلزماً لقوّة الخطّ الثاني، وإضفاء الشرعية على إمامة المتغلّب وخلافته، بغضّ النظر عن شخصه وسلوكه.

ومن الطبيعي حينئذ أن يكون له التحكّم في الدين؛ جرياً على سنن الماضين واقتداءً بهم حيث يألف الناس ذلك، ويتأقلمون معه كأمر واقع. وقد تقدّم أنّ ذلك هو السبب في تحريف الأديان ومسخها.

وقد يقول قائل: إن احترام الجمهور للأولين، بل تقديسهم لهم هو الذي جعلهم يقبلون منهم ما شرّعوه من الأحكام، ولا يتعدى ذلك لغيرهم ممن تأخر عنهم، ولا يحظى بمثل ذلك الاحترام والتقديس.

لكنه يندفع: بأن قبول الجمهور لأحكام الأولين ليس من أجل احترامهم بأشخاصهم، بل من أجل منصبهم، حيث ابتنى المنصب في الصدر الأول على أن الخليفة هو المرجع للمسلمين في دينهم وفي إدارة أمور دنياهم. وذلك يجري فيمن بعدهم بعد فرض شرعية منصبهم.

ولذا جرى من بعدهم على سنتهم في كيفية اختيار الخليفة، وبقي العمل عليها مادامت الخلافة قائمة كأمر واقع، تبعاً لسنة الأولين بعد فرض شرعيتها عند الجمهور.

ولم تقتصر على الأولين لتميزهم بمزيد من الاحترام والتقديس بالرغم من اعتراف الشيخين نفسهما بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة(١) ، وتحذير عمر من

____________________

(١) فقد روي ذلك عن الخليفة الأول في أنساب الأشراف ج: ٢ ص: ٢٧٤ أمر السقيفة، وكتاب العثمانية ص: ٢٣١، وسبل الهدي والرشاد ج: ١٢ ص: ٣١٥، وشرح نهج البلاغة ج: ٢ ص: ٥٠، ج: ٦ ص: ٤٧، وغيرها من المصادر.

وروي عن الخليفة الثاني في صحيح البخاري ج: ٨ ص: ٢٦ كتاب المحاريبين من أهل الكفر والردة: باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، والسنن الكبرى للنسائي ج: ٤ ص: ٢٧٢ كتاب الرجم: تثبيت الرجم، ومسند أحمد ج: ١ ص: ٥٥ مسند عمر بن الخطاب: حديث السقيفة، وصحيح ابن حبان =

٣٤٢

مثلها(١) وأمره بقتل من يعود إلى ذلك(٢) . إلا أن ذلك لما لم يسلب الشرعية عنها عندهم لم يمنعهم من الجرى على سننها.

وببيان آخر: كما يكون تمتع الأولين بمزيد من الاحترام والتقديس سبباً للتمسك بشرعية نظام الخلافة الذي جروا عليه، كذلك يكون سبباً لتحديد صلاحيات الخليفة، وحيث ابتنى المنصب عند الأولين على مرجعية الخليفة للمسلمين في الدين والدنيا معاً، يبقى ذلك مادام العمل على نظام تلك الخلافة قائماً، وكانت تلك الخلافة مشروعة عندهم، إلا أن تكون هناك محاولة للحد من اندفاع السلطة وفضحها.

أما التدهور في شخص الحاكم وسلوكه فعلى الإسلام والمسلمين قبوله كأمر واقع تقتضيه طبيعة الاستمرارية في المجتمعات التي يقودها غير المعصوم، من دون أن يخل بالشرعية لأصل الخلافة، ولا بصلاحيات الحاكم.

فهذا أبو بكر يقول في خطبته: «أما والله ما أنا بخيركم. ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً. ولوددت أن فيكم من يكفيني. فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله! إذاً لا أقوم لها. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك. وإني لي شيطاناً يعتريني. فإذا غضبت فاجتنبوني، لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم. ألا فراعوني، فإن استقمت فأعينوني، إن زغت فقوموني»(٣) .

____________________

= ج: ٢ ص: ١٤٨ كتاب البر والإحسان: باب حق الوالدين: ذكر الزجر عن أن يرغب المرء عن آبائه إذ استعمال ذلك ضرب من الكفر، وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

(١) تقدمت مصادره في الهامش السابق في ما روي عن الخليفة الثاني.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج: ٢ ص: ١٥٨ أيام عمر بن الخطاب. شرح نهج البلاغة ج: ٢ ص: ٢٦، ٢٩، ٥٠، ج: ٦ ص: ٤٧، ج: ٢٠ ص: ٢١. المواقف ج: ٣ ص: ٦٠٠. وغيرها من المصادر.

(٣) المصنف لعبد الرزاق ج: ١١ ص: ٣٣٦ باب لا طاعة في معصية، واللفظ له. تخريج الأحاديث والآثار ج: ١ ص: ٤٨٢. المطالب العالية ج: ٩ ص: ٦٢٥ كتاب الخلافة والإمارة: باب كراهية أن يحكم الحاكم وهو غضبان. تاريخ دمشق ج: ٣٠ ص: ٣٠٤ في ترجمة أبي بكر الصديق. كنز العمال ج: ٥ ص: ٥٩٠ =

٣٤٣

ويقول في خطبة له أخرى فيها: «... وإنكم اليوم على خلافة نبوة ومفرق محجة. وسترون بعدي ملكاً عضوضاً، وأمة شعاعاً، ودماً مفاحاً. فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر، وتموت السنن. فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة...»(١) .

وعمر يقول لابن عباس: «والله يا ابن عباس إن علياً ابن عمك لأحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله. ولئن وليهم ليأخذنهم بمرّ الحق لا يجدون عنده رخصة...»(٢) . يشير بذلك إلى أنه لابد للحاكم أن يخرج عن الحق ويفسح لنفسه في الرخص بما يتناسب مع رغبة الناس وإرضائهم، جمعاً للكلمة.

وقدم معاوية المدينة فخطبهم، فقال: «إني رمت سيرة أبي بكر وعمر فلم أطقها، فسلكت طريقة لكم فيها حظ ونفع، على بعض الأثرة، فارضوا بما أتاكم مني وإن قلّ، فإن الخير إذا تتابع - وإن قلّ - أغنى، وإن السخطة يكدر المعيشة...»(٣) .

وخطب يزيد بن معاوية بعد وفاة أبيه، فقال: «إن معاوية كان حبلاً من حبال الله، مدّه ما شاء أن يمدّه، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه. وكان دون من قبله، وهو خير ممن بعده... وقد وليت الأمر بعده، ولست أعتذر من جهل، ولا أشتغل بطلب علم. وعلى رسلكم، إذا كره الله أمراً غيّره»(٤) ... إلى غير ذلك.

____________________

= ح: ١٤٠٥٠، ص: ٦٣٦ ح: ١٤١١٨. وغيرها من المصادر الكثيرة.

(١) تقدمت مصادرها في ص: ١٨٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج: ٢ ص: ١٥٩ أيام عمر بن الخطاب.

(٣) أنساب الأشراف ج: ٥ ص: ٥٥ في ترجمة معاوية بن أبي سفيان.

(٤) عيون الأخبار ج: ٢ ص: ٢٣٨ - ٢٣٩ كتاب العلم والبيان: الخطب، واللفظ له. العقد الفريد ج: ٤ ص: ٨٨ فرش كتاب الخطب، ص: ٣٤٣ فرش كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم: وفاة معاوية. مروج الذهب ج: ٣ ص: ٧٦ ذكر لمع من أخبار يزيد وسيره ونوادر من بعض أفعاله. جمهرة خطب العرب ج: ٢ ص: ١٧٨ خطب الأمويين: خطب يزيد بن معاوية. وغيرها من المصادر.

٣٤٤

وكما لم يؤثر ذلك على شرعية السلطة والخلافة لا يؤثر في تحديد صلاحيات الخليفة، بل يبقى هو المرجع للمسلمين في دينهم، كما كان الأولون.

ولا سيما أن السلطة يتيسر لها اختلاق النصوص النبوية المؤكدة لسيرة الأولين في مرجعية الخليفة في الدين، بالتعاون مع علماء السوء ورجال الحديث الذين ينسقون معها ويعيشون على مائدتها، كما سبق نظيرة في وجوب الطاعة ولزوم الجماعة، وكما حصل في بعض الأديان السابقة.

أضف إلى ذلك أن ظهور التدهور والتسافل في شخص الحاكم وسلوكه للجمهور وإيمانهم به إنما كان بجهود المعارضة وتنبيهها وإنكارها باستمرار، فإذا كسبت السلطة الشرعية بمبايعة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وغيره من النخب، وبدأت في خنق صوت المعارضة وملاحقتها وتحجيم دورها، تيسر لها - بما تملك من قوى إعلامية وتثقيفية هائلة، وبالاستعانة بعلماء السوء والنتهازيين - كسب تقديس الجمهور وإغفاله عن جرائمها وتسافلها، كما حصل في الشام نتيجة غياب المعارضة. بل حتى في إفريقية، كما تقدمت بعض شواهد ذلك عند الكلام في تركيز السلطة على وجوب الطاعةلإ وفي ظهور حجم الخطر بملاحظة مواقف الأمويين وتشويههم للحقائق(١) .

وبذلك تعرّض دين الإسلام العظيم للخطر القاتل. بل تعرّضت الحقيقة الدينية المقدّسة عموماً للتشويه والضياع الأبدي، إذ الإسلام خاتم الأديان، وليس بعده دين ولا وحي يظهر الحقيقة، ويدافع عنها. ويأتي في أوائل المقام الثالث إن شاء الله تعالى ما ينفع في المقام.

٣٤٥

تفاقم الخطر بتحويل الخلافة إلى قيصرية أموية

ويزيد في هذا الخطر أنّ معاوية قد عهد بالخلافة إلى ولده يزيد حيث تحولّت إلى هرقلية قيصرية في ضمن عائلة خاصة؛ إذ تستخدم هذه العائلة الدين حينئذ لخدمة أهدافها ذات الأمد الطويل.

ولاسيما بعد أن كانت تلك العائلة خصماً عنيداً للإسلام؛ لما هو المعلوم من موقفهم المناهض له في بدء ظهور دعوته، وقد وترهم الإسلام في أنفسهم، وفي موقعهم الاجتماعي.

مضافاً إلى ظهور استهتارهم بالمبادئ والقيم بحيث لا يقفون عند حدّ، ولا يمنعهم من تحقيق أهدافهم شيء.

وقد سبق منّا عرض بعض مواقفهم وثقافتهم التي كانوا يثقّفون بها أهل الشام، ويحاولون تعميمها في المسلمين وحملهم عليها عند التعرّض لما يتوقّع أن يترتّب على الانحراف الذي حصل؛ نتيجة الخروج بالسلطة في الإسلام عن واقعها الذي أراده الله تعالى، وقامت الأدلّة والنصوص عليه.

حديث المغيرة بن شعبة عن خطر البيعة ليزيد

وكأنّ المغيرة بن شعبة قد أدرك ذلك؛ فقد بلغه أنّ معاوية يريد عزله عن ولاية الكوفة فأراد أن يستميله؛ كي يبقيه في ولايته ولا يعزله؛ فأشار عليه بولاية العهد ليزيد، فقال له معاوية: ومَنْ لي بهذا؟ فقال: أُكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة. وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. فقال له معاوية: فارجع إلى عملك، وتحدّث مع مَنْ تثق إليه في ذلك وترى ونرى.

فودّعه ورجع إلى أصحابه، فقال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز

٣٤٦

بعيد الغاية [الغي] على أُمّة محمد، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً(١) .

وإنّ النظرة الموضوعية للواقع الذي حصل بتفاصيله وتداعياته تشهد بصحة هذا التقييم لبيعة يزيد، وللنتائج المتوقّعة عليه.

ما حصل هو النتيجة الطبيعية لخروج السلطة عن موضعها

ومهما يعتصر قلب المسلم ألماً لذلك، فإنّه لا ينبغي أن يستغرب ما حصل؛ إذ هو النتيجة الطبيعية للخروج عن مقتضى النصّ الإلهي؛ إذ كلّما امتدّ الزمن بالانحراف في المسيرة، وفتح الباب للاجتهادات والمبرّرات لمواقف السلطة، وألف الناس ذلك، تضاعفت التداعيات والسلبيات، وزاد السير بعداً عن الطريق المستقيم، وفقدت القيود والضوابط بنحو يتعذّر معه الرجوع إليه، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ولنكتف بهذا المقدار في عرض مواقف السلطة في عهد معاوية لمواجهة جهود أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) في كبح جماح الانحراف الذي حصل؛ نتيجة الخروج بالسلطة في الإسلام عن موضعه، وخروج الأُمّة في مسيرتها عن الطريق الصحيح الذي أراده الله تعالى له.

____________________

١ - الكامل في التاريخ ٣/٥٠٤ أحداث سنة ست وخمسين من الهجرة، ذكر البيعة ليزيد بولاية العهد، واللفظ له، النصائح الكافية/٦٤، وقريب منه في سير أعلام النبلاء ٤/٣٩ في ترجمة يزيد بن معاوية، وتاريخ الإسلام ٥/٢٧٢ في ترجمة يزيد بن معاوية، وتاريخ دمشق ٣٠/٢٨٧ في ترجمة أبي بكر الصديق، وج ٦٥/٤١٠ في ترجمة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٢٠ أيام معاوية بن أبي سفيان، وغيرها من المصادر.

٣٤٧

٣٤٨

المقام الثالث

في أثر فاجعة الطفّ في الإسلام بكيانه العام

مات معاوية وقد خلّف للإسلام تركة ثقيلة؛ حيث أقام دولة ذات أهداف قبلية جاهلية، تتخذ من الإسلام ذريعة لتحقيق أهدافه، ولو بتحريفه عن حقيقته كما سبق.

ولو قدّر لها البقاء والعمل كما تريد لقضت على جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في كبح جماح الانحراف، وتعريف المسلمين بمعالم دينهم؛ ليستضيء بها مَنْ يطلب الدين الحقّ، ويحاول التعرّف عليه والتمسّك به.

أحكم معاوية بناء دولة قوية

وقد أحكم معاوية بناء هذه الدولة وأرسى أركانها بالترغيب والترهيب، والإعلام الكاذب والتثقيف المنحرف، وإثارة العصبية والنعرات الجاهلية، فكانت هي المعايير العامّة في إعلان الولاء والتأييد.

وتجاهل ذوو النفوذ في المجتمع ما عداها من دواعي الدين والمبادئ والمثل والأخلاق، وتسابقوا في إرضاء السلطة والتزلّف لها والتعاون معها ودعمها، وأَلِفَ الجمهور ذلك وتأقلموا معها؛ على أنّه هو الواقع العملي للخلافة والسلطة، وللدين الذي تمثله.

وقد أوضح ذلك معاوية في وصيته لابنه يزيد، حيث قال له في مرضه

٣٤٩

الذي توفي فيه: يا بني، إنّي قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذلّلت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد. وإنّي لا أتخوّف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبّ لك إلّا أربعة نفر...(١) .

امتعاض ذوي الدين من انحراف السلطة عن تعاليمه

وبقي هناك ثلّة من المسلمين من ذوي الدين والمثل، أو ممّن يتظاهرون بذلك، ينظرون لما يجري على مضض، وعمدة ما يشغل بالهم ويقلقهم، أو يظهرون القلق من أجله، هو انحراف السلطة، وخروجها عن تعاليم الدين، وظلمها وطغيانها، واستئثارها، وما يجري مجرى ذلك.

أمّا مسألة تحريف الدين وضياع معالمه فلا يظهر منهم التوجّه له والاهتمام بأمره والحديث حوله، فضلاً عن العمل لمنعه.

ونتيجة لذلك ينحصر الإصلاح بنظرهم بتغيير السلطة، وجعل الخلافة في موضعها المناسب لها، كسلطة دينية ترعى الدين وتعاليمه، ويهمّها أمر المسلمين وصلاح أمرهم.

وقد يرشّح لذلك، أو يتصدّى للمطالبة بها جماعة. وعلى رأسهم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذي هو الرجل الأوّل في المسلمين ديناً ومقاماً وقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أوضحناه عند الكلام في أبعاد فاجعة الطفّ.

وهؤلاء النفر القليل على قسمين:

____________________

١ - تاريخ الطبري ٤/٢٣٨ أحداث سنة ستين من الهجرة، واللفظ له، البداية والنهاية ٨/١٢٣ أحداث سنة ستين من الهجرة، تاريخ ابن خلدون ٣/١٨ وفاة معاوية، الفتوح لابن أعثم ٤/٣٥٤ ذكر الكتاب والعهد إلى يزيد، وغيرها من المصادر.

٣٥٠

مَنْ يرى إمكان إصلاح السلطة وتعديل مسارها

الأوّل : مَنْ يرى التفكير في ذلك عملياً، ويحاول السعي له؛ إمّا بمكر ودهاء؛ أملاً في المكاسب المادية، والوصول لمراكز النفوذ وصنع القرار بعد التغيير، وإمّا بحسن نيّة؛ نتيجة الموقف الانفعالي من الفساد الذي حصل، وبتخيّل وجود الآلية الكافية للصراع مع الوضع القائم.

ومن الصنف الثاني خواصّ الشيعة في الكوفة الذين كانوا يستثيرون الإمام الحسين (عليه السّلام) بعد موت الإمام الحسن (عليه السّلام)، كما استثاروا الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من قبل وكانوا يرون أنّ في موت معاوية فرصة لا ينبغي تضييعها.

مَنْ يرى تجنّب الاحتكاك بالسلطة حفاظاً على الموجود

الثاني: مَنْ يرى أنّ التفكير في ذلك غير عملي، وأنّ الموازنة بين القوى لا تسمح بها بعد ما انتهى إليه وضع المسلمين بعد انحراف مسار السلطة وما ترتّب عليه من مضاعفات، وآخرها سياسة معاوية السابقة.

ولاسيما أنّ الفشل العسكري الذي مُنيت به تجربة الإصلاح، وتعديل مسيرة السلطة في الإسلام التي قادها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أوجب الإحباط عند الخاصة الذين من شأنهم الموازنة بين القوى وعدم الاندفاع العاطفي في اتخاذ المواقف.

حيث لا يتوقّع أن يأتي قائد أفضل من أمير المؤمنين (عليه السّلام) علماً بالدين، وإخلاصاً لقضيته، والتزاماً بالمبادئ، وشجاعة وصلابة في الموقف، وسابقة وأثراً في الإسلام، ولا أظهر شرعية منه عند الكلّ بعد تمامية بيعته باختيار عامّة المسلمين.

٣٥١

حتى إنّه لا إشكال عند أهل العلم والمعرفة أخيراً في شرعية خلافته، وبغي الخارجين عليه، ووجوب قتالهم، كما ذكرنا بعض ما يتعلّق بذلك في أواخر الكلام في المقام الأوّل(١) .

كما لا يتهيأ أنصار أكثر من أنصاره ولا أفضل؛ حيث بايعه عن قناعة تامّة الكثرة الكاثرة من المسلمين، وفيهم العدد الكثير من المهاجرين والأنصار وذوي السابقة والأثر الحميد في الإسلام، ومن أهل النجدة في العرب، وذوي المقام الاجتماعي والنفوذ فيهم، والذين لهم الأثر الكبير في فتوح الإسلام، وقد قدّموا من أجل دعمه (عليه السّلام) ونجاح مشروعه أعظم التضحيات.

وأيضاً لا يتوقّع - بمقتضى الوضع الطبيعي - أن يأتي زمان أفضل من زمانه (عليه السّلام)؛ لقربه من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتعرّف على تعاليمه، ووجود الكثرة الكاثرة من صحابته.

وقد أكّدت الأحداث المتلاحقة ذلك حيث لم يسجّل تاريخ الإسلام نجاح حركة إصلاحية حقيقية - تلتزم المبادئ في أهدافه، وفي وسائل نجاحها في صراعاته؛ محافظة على نقائها واستقامتها - وبقاءها مدّة أطول من عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).

ويعلم أهل المعرفة أنّ انهيار مشروعه (صلوات الله عليه) عسكرياً إنّما تسبّب عن التزامه بالمبادئ وحرفية التشريع، واستغلال خصومه ذلك ومحاولتهم الخروج عنه، والالتفاف عليه في وسائل صراعهم معه، وفي تثبيت سلطانهم بعده؛ لوجود الأرضية الصالحة لتقبّل ذلك من عامّة الناس؛ لعدم استحكام الدين والمبادئ في نفوسهم، وثقل الأمانة والاستقامة عليهم.

ولا يتوقّع صلاح المجتمع الإسلامي بعد أن دخله الفساد، بل كلّما زادت

____________________

١ - راجع/٢٧٥ وما بعده.

٣٥٢

ألفتهم له زاد استحكامه فيهم، وتعذّر تطهيرهم منه.

نعم، يمكن أن يغلب الباطل بباطل مثله في المكر، وانتهاك الحرمات، والخروج عن المبادئ والقيم والالتفاف عليه كما حصل. والدنيا دول.

ونتيجة لذلك كان توجّه هؤلاء النفر إلى المحافظة على الموجودين من ذوي الدين والصلاح بتجنّب الاحتكاك بالحاكم؛ لأنّ ذلك غاية الميسور.

وربما يكون ذلك هو المنظور لكثير ممّن أشار على الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بترك الخروج على يزيد، ومنهم عبد الله بن جعفر كما يظهر من كتابه للإمام الحسين (عليه السّلام) الذي تقدّم التعرّض له في المطلب الأوّل(١) .

بل كلّما زاد الاحتكاك بالحاكم، وتحقّق منه التجاوز عن الحدّ في الردّ زاد جرأة على انتهاك الحرمات، وأبعد في التجاوز عليه، وتعوّد الناس على ذلك وألفوه، وخفّ استنكارهم له.

فكيف إذا كان المنتهك حرمته هو الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) الذي هو أعظم الناس حرمة، والرجل الأوّل في المسلمين؟! كما يشير إلى ذلك ما تقدّم منه (صلوات الله عليه) في المعركة، ومن عبد الله بن مطيع في حديثه معه (عليه السّلام)(٢) وغير ذلك.

وربما تُدعم وجهة نظر هؤلاء بأمرين:

الأوّل: الحذر من شقّ كلمة المسلمين وتفريق جماعتهم، وإلقاح الفتنة بينهم الذي قد يتشبّث به الكثير جهلاً، أو نفاقاً وممالأة للظالم.

الثاني: طلب العافية جبناً، أو لعدم الشعور بالمسؤولية.

____________________

١ - تقدّم في/٦٣.

٢ - راجع/٦٣.

٣٥٣

موقف أهل البيت (عليهم السّلام) إزاء المشكلة

لكنّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) على بصيرة تامّة من أنّ تعديل مسار السلطة في الإسلام بعد انحرافها من اليوم الأوّل أمر متعذّر في الأمد المنظور. ويأتي توضيح ذلك - إن شاء الله تعالى - في المقام الثاني من الفصل الثاني في العبر التي تستخلص من فاجعة الطفّ.

وقد سبق أنّ أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) كان على علم بما يؤول إليه أمر بيعته من الفشل العسكري، وأنّ ما ظهر لنا من ثمرات قبوله بالخلافة هو إظهار الحقيقة، وإيضاح معالم الدين، وتشييد دعوة الحقّ، وإيجاد جماعة صالحة تقتنع بتلك الدعوة وتحمّلها وتدعو لها، وترفض دعوة الباطل وتشجب شرعيتها وشرعية السلطة التي تتبنّاه، وتنكر عليها الجرائم والمنكرات التي تقوم بها، وتحاول فضحها، وقد حقّق ذلك بنجاح.

بيعة يزيد تعرض جهود أمير المؤمنين (عليه السّلام) للخطر

غير أنّ جهوده (صلوات الله عليه) أصبحت مهدّدة بالخطر؛ نتيجة خطوات معاوية المتلاحقة، وآخرها البيعة لابنه يزيد في دولة قوية قد أرسى قواعده، وأحكم بنيانه، وأُمّة متخاذلة أنساها دينها ومثلها، وأحيى دعوة الجاهلية فيها، وسلبها شخصيتها وكرامتها، وأذلّها بالترغيب والترهيب، وشوّه مفاهيمها وتعاليمها بالإعلام الكاذب والتثقيف المنحرف.

ومن الظاهر أنّ البيعة ليزيد كانت تدهوراً سريعاً في معيار اختيار الخليفة، وابتداعاً لأمر لم يعهده المسلمون من قبل، ولم يألفوه بعد ولا تقبّلوه.

أوّلاً: بلحاظ واقع يزيد التافه، وسلوكه الشخصي المشين، وظهور استهتاره بالدين والقيم، ومقارفته للموبقات، وانغماسه في الشهوات.

٣٥٤

وثانياً : بلحاظ ابتناء اختياره على وراثة الخلافة وانحصارها بآل معاوية، وتجاهل أكابر المسلمين من بقايا الصحابة وأبنائهم، ولاسيما بعد ما عاناه الإسلام والمسلمون من حكم معاوية نفسه، وتجربته المرّة التي مرّت بهم.

فإذا لم يستغل ذلك في الإنكار والدعوة للتغيير، وبقيت الأمور على ما هي عليه، وبايع أكابر المسلمين - وعلى رأسهم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) - يزيد، تأكّدت شرعية تلك الدولة القوية التي ينتظر منها القضاء على الدين وعلى جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في كبح جماح الانحراف.

عدم تبلور مفهوم التقيّة

وخصوصاً أنّ مفهوم التقيّة لم يتبلور بعد عند عامّة المسلمين، ولا يدركون أنّ الاستجابة للبيعة والسكوت عن إنكار المنكر؛ نتيجة القسر والضغوط القاهرة لا يضفي شرعية على الوضع القائم.

ولاسيما بعد تصدّي مثل حجر بن عدي الكندي وجماعته وغيرهم من وجوه الشيعة وأعيان المسلمين للإنكار، ودفعهم الثمن الغالي في سبيله، وعدم أخذهم بالتقيّة في السكوت عن الباطل(١) .

والإمام الحسين (صلوات الله عليه) أعرف منهم بالوظيفة الشرعية، وأحرى برعاية الدين، وأقوى منهم - بنظر عامّة الناس - بما يملكه من مركز ديني واجتماعي رفيع. فبيعته (عليه السّلام) ليزيد تضفي الشرعية على السلطة بنظر جمهور

____________________

١ - لعلّ إصرار هؤلاء على موقفهم، وعدم أخذهم بالتقيّة؛ لعدم تركّز المفاهيم الحقة التي كانوا يتبنّوه، فأخذهم بالتقيّة يوجب ضياع الحقّ على الناس، وهو أشدّ محذوراً من تضحيتهم بأنفسهم، نظير موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في وقته، ولاسيما مع قرب أن تكون مواقفهم هذه قد كانت بعهد معهود من أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام)، كما يستفاد ذلك في الجملة من كثير من النصوص، وللكلام مقام آخر.

٣٥٥

المسلمين، ولا تحمل على التقيّة.

ويناسب ما ذكرنا - من عدم تبلور مفهوم التقيّة - أنّ بسر بن أرطاة لما أغار على المدينة المنوّرة في أواخر عهد أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأخذ أهلها بالبيعة لمعاوية. قال لبني سلمة: والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله. فانطلق جابر إلى أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: ماذا ترين؟ إنّ هذه بيعة ضلالة، وقد خشيت أن أُقتل. قالت: أرى أن تُبايع؛ فإنّي قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايع.... فأتاه جابر فبايعه(١) .

وكذا ما ذكره المؤرّخون من البيعة التي طلبها مسلم بن عقبة من أهل المدينة بعد واقعة الحرّة. قال اليعقوبي: ثمّ أخذ الناس على أن يبايعوا على أنّهم عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرجل من قريش يؤتى به فيُقال: بايع على أنّك عبد قن ليزيد. فيقول: لا. فيُضرب عنقه. فأتاه علي بن الحسين (عليه السّلام) فقال: «علامَ يريد يزيد أن أبايعك؟». قال: على أنّك أخ وابن عم. فقال: «وإن أردت أن أبايعك على إنّي عبد قن فعلت». فقال: ما أُجشمك هذا. فلمّا أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين (عليه السّلام) قالوا: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بايعه على ما يريد، فبايعوه على ما أراد(٢) .

وقد منع (صلوات الله عليه) بذلك عملية القتل والإبادة الجماعية التي

____________________

١ - الكامل في التاريخ ٣/٣٨٣ أحداث سنة أربعين من الهجرة، ذكر سرية بسر بن أبي أرطأة إلى الحجاز واليمن، تاريخ الطبري ٤/١٠٦ في أحداث سنة أربعين من الهجرة، الاستيعاب ١/١٦٢ في ترجمة بسر بن أرطأة، البداية والنهاية ٧/٣٥٦ أحداث سنة أربعين من الهجرة، شرح نهج البلاغة ٢/١٠، ونحوه في كتاب الثقات ٢/٣٠٠، وتاريخ دمشق ١٠/١٥٢ - ١٥٣ بسر بن أبي أرطأة، وتهذيب الكمال ٤/٦٥ في ترجمة بسر بن أرطأة، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٢ - تاريخ اليعقوبي ٢/٢٥٠ - ٢٥١ مقتل الحسين بن علي.

٣٥٦

تعرّضت لها الأُمّة المنكوبة، ونبّه لتشريع الله (عزّ وجلّ) التقيّة من أجل الحفاظ على المسلمين المضطهدين، وذلك بعد أن اتّضحت معالم الحقّ، وفقدت السلطة شرعيتها بسبب فاجعة الطفّ ومضاعفاتها.

لم يخرج على سلطة الأمويين إلّا الخوارج الذين سقط اعتبارهم

ويزيد في تعقد الأمور أنّه لم يعرف عن أحد قبل الإمام الحسين (عليه السّلام) الخروج على الحكم الأموي - مع شدّة مخالفته للدين، وطول مدّته - إلّا الخوارج الذين قد سقط اعتبارهم عند المسلمين.

أوّلاً : لظهور بطلان أُسس دعوتهم، خصوصاً بعد قتال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لهم، وفتكه بهم في بدء ظهورهم، مع ما تظافر عنه (عليه السّلام) وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبله من الطعن فيهم، والحكم بهلاكهم.

وثانياً : لتطرّفهم وانتهاكهم للحرمات بنحو أوجب مقت عامّة المسلمين لهم. وقد استغلت السلطة ذلك كلّه ضدّهم، وضدّ كلّ مَنْ يخرج عليه حتى الإمام الحسين (صلوات الله عليه) حيث حاولت في عنفوان اصطدامها به أن تجعله ومَنْ معه خوارج مهدوري الدم شرعاً، كما تقدّمت بعض شواهد ذلك عند الكلام على تركيز السلطة على وجوب الطاعة ولزوم الجماعة.

ومن الطريف في ذلك ما ورد من أنّ هاني بن عروة لما ذهب إلى ابن زياد زائراً، وطلب منه ابن زياد أن يدفع إليه مسلم بن عقيل (عليه السّلام)، وامتنع من ذلك معتذراً بأنّه ضيفه وجاره، طلب ابن زياد أن يدنوه منه، فلمّا أدنوه استعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته، وسالت الدماء على ثيابه حتى كُسر القضيب. فلمّا ضاق الأمر بهاني ضرب يده إلى قائم سيف شرطي ليدافع عن نفسه فجاذبه الشرطي

٣٥٧

ومنعه، فقال ابن زياد لهاني: أحروري سائر اليوم؟! أحللت بنفسك قد حلّ لنا قتلك(١) .

فكأنّ المفروض على هاني أن يستسلم لابن زياد ويتركه يفعل به ما يشاء، ولا يدافع عن نفسه وإلاّ كان حرورياً خارجياً يهدر دمه ويحلّ قتله!

والحاصل: أنّه لا أثر لخروج الخوارج على السلطة في سلب شرعيته، والحدّ من غلوائه بعد إقرار أكابر المسلمين له، ودخولهم في طاعته.

موقف الشيعة من الأوّلين يحول دون تفاعل الجمهور معهم

كما أنّه لم يحمل لواء الإنكار على الأمويين وعلى تحريفهم للدين - بعد الخوارج - إلّا الشيعة، وهم وإن كانوا قد فرضوا احترامهم بأشخاصهم على المسلمين؛ لما عرفوا به من التقوى والعلم وصدق اللهجة حتى أخذ الجمهور بروايات محدّثيهم في الصدر الأوّل مع علمهم بتشيّعهم ومخالفتهم لهم(٢) . وروي عن سفيان الثوري قوله: هل أدركت خيار الناس إلّا الشيعة؟(٣) .

وفي صحيح زيد الشحّام عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) في وصيته لشيعته: «أوصيكم بتقوى الله (عزّ وجلّ)، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة...، فوالله لحدّثني أبي (عليه السّلام) أنّ الرجل كان يكون

____________________

١ - تاريخ الطبري ٤/٢٧٣ - ٢٧٤ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام)...، واللفظ له، الكامل في التاريخ ٤/٢٩ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين بن علي (عليه السّلام)...، البداية والنهاية ٨/١٦٦ أحداث سنة ستين من الهجرة، قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة ومقتله، نهاية الأرب في فنون الأدب ٢٠/٢٤٧ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة وقدومه إليها وخبره مع هانئ بن عروة، وغيرها من المصادر.

٢ - راجع كتاب المراجعات/١٠٤ - ١٩٤ المراجعة ١٦.

٣ - مقاتل الطالبيين/١٩٥ من خرج مع محمد بن عبد الله من أهل العلم.

٣٥٨

في القبيلة من شيعة علي (عليه السّلام) فيكون زينها آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث. إليه وصاياهم وودائعهم. تسأل العشيرة عنه فتقول: مَنْ مثل فلان؟! أنّه لآدانا للأمانة، وأصدقنا للحديث»(١) ... إلى غير ذلك.

إلاّ أنّ من المعلوم أنّ الشيعة قد تعرّضوا لشتى صروف التنكيل المشار إليها آنفاً فلا يسهل إيصال إنكارهم للجمهور وتعميم دعوتهم.

مع إنّهم يصطدمون مبدئياً بشرعية خلافة الأوّلين، ويتبنّون نقد مواقفهم ومواقف مَنْ كان على خطّهم مع ما لبعض أولئك من مكانة في نفوس جمهور المسلمين قد تبلغ حدّ التقديس.

وذلك يكون حاجزاً دون السماع من الشيعة والتفاعل بحديثهم، خصوصاً إذا بايع إمامهم الحسين (صلوات الله عليه) وغيره من ذوي المكانة في المجتمع الإسلامي.

التفاف السلطة على الخاصة لإضعاف تأثيرهم على الجمهور

كما إنّ الخاصة من ذوي الدين والمقام الرفيع في المسلمين إذا انسجموا مع الحاكم الظالم خَفَتَ بريقهم، وسقطت هالة الاحترام والتقديس لهم؛ فيضعف تأثيرهم تدريجاً في إصلاح المجتمع الإسلامي، وتنبيهه من غفلته.

ولاسيما إنّ الحاكم - من أجل تثبيت شرعية حكمه - يحاول جرّهم؛ للانصهار به، وجعلهم واجهة له يتجمّل بهم، أو يجعلهم آلة لقضاء مآربه.

فإنّ امتنعوا حجّم دورهم، أو قضى عليهم. وإن تجاوبوا معه لوّثهم بجرائمه، فيقل احترام في نفوس الناس تدريجاً، ويضعف تأثيرهم في إصلاح

____________________

١ - الكافي ٢/٦٣٦ باب ما يجب من المعاشرة ح ٥، وسائل الشيعة ٨/٣٩٨ - ٣٩٩ باب ١ من أبواب أحكام العشرة ح ٢.

٣٥٩

المجتمع، حتى ينتهي أخيراً وينفرّد هو في الساحة.

شرعية السلطة تيسّر لها التدرّج في تحريف الدين

وإذا مضت مدّة معتدٍ بها، وتحقّق للسلطة ما تريد، تعامل الناس معها على أنّها الأمر الواقع الممثّل للدين، والمفروض من قِبّل الله عز وجل.

وحينئذ يتيسّر لها التلاعب به وفق أهدافها وأهوائها، وانطمست معالم الدين الحقّ، وكان الدين عندهم دين السلطة، أو المؤسسة التي تنسّق معها.

وحتى لو فرض تبدّل السلطة نتيجة العوامل الخارجية، فإنّ السلطات المتعاقبة تبقى هي المرجع في الدين - جرياً على سنن الماضين - بعد أن انطمست معالمه، وضاعت الضوابط فيه، وهكذا يبقى الدين أداة بيد السلطة تستغلّه لصالحه، كما حصل ذلك في الأديان السابقة.

وببيان آخر: إنّ تعديل مسار السلطة وإن كان متعذّراً، إلّا إنّ السكوت عن سلطة الباطل في ذلك المنعطف التاريخي له، والتعامل معها على أساس الاكتفاء بالميسور من التخفيف في الجريمة والمخالفة للدين والتحريف فيه، يفسح لها المجال للتدرّج في تحقيق أهدافها في تحريف الدين، وتحويره بنحو يكون أداة لتركيز نفوذها وتثبيت شرعيتها، وإكمال مشروعها.

وذلك يكون بأمرين:

الأوّل : التدرّج في المخالفات والتحريف بنحو لا يستفزّ الجمهور، وكلّما ألف الجمهور مرتبة من الانحراف انتقلت للمرتبة الأعلى، وهكذا حتى يألف الجمهور تحكّم السلطة في الدين وتحويرها له.

الثاني : التدرج في إضعاف المعارضة مادياً بالتنكيل بها، ومعنوياً بجرها للانصهار بالسلطة، إلى أن تنتهي فاعليتها وقدرتها على تحريك الجمهور

٣٦٠