فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها8%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 288282 / تحميل: 7044
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وعلى كلّ حال صارت النصوص الكثيرة التي وضعت في عهد معاوية عاضدة لما وضع في العهد الأوّل، ومشيّدة لمضامينه وأهدافه.

وكانت نتيجة ذلك تدين الجمهور بشرعية خلافة الأوّلين، واحترام رموز الخطّ المخالف لأهل البيت (صلوات الله عليهم) احتراماً يبلغ حدّ التقديس.

وقد كان لذلك أعظم الأثر في مواجهة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والوقوف في وجه دعوتهم، كما توقّعه معاوية على ما يظهر من كلامه السابق.

وقد صار هذا التديّن والتقديس هما العقبة الكؤود أمام دعوى النصّ، تمنع الجمهور - نوعاً - من مصداقية الرؤية، ومن الموضوعية في البحث عن الحقيقة، ثمّ الوصول إليه.

بل صارت سبباً للتشنيع على شيعة أهل البيت تشنيعاً قد يصل حدّ التكفير، واستحلّت به دماؤهم، وانتهكت حرماتهم ومقدّساتهم على طول التاريخ وإلى يومنا هذا.

وكلّ ذلك بعين الله تعالى، وإليه يرجع الأمر كلّه.

ويأتي في المبحث الثاني إن شاء الله تعالى أثر فاجعة الطفّ في مواجهة هذا الاحترام والتقديس، واقتحام هذه العقبة.

قوّة خطّ الخلافة عند الجمهور يفضي إلى تحكيم السلطة في الدين

الجهة الثانية: إنّه بعد أن كان المفروغ عنه عند المسلمين على اختلاف توجّهاتهم - عدا الشاذ الذي لا يعتدّ به - واستفاضت به النصوص، هو لزوم الإمامة، فالصراع الظاهر لما كان منحصراً بين خطّ أهل البيت القاضي بإمامتهم، تبعاً للنصّ، والخطّ الآخر القاضي بعدم انضباط أمر الإمامة، وأنّ مَنْ تغلب فهو الإمام، فانحسار خطّ أهل البيت (عليهم السّلام) عقائدياً - نتيجة النصوص التي وضعت في

٣٤١

عهد معاوية وما سبقها ممّا ظهر في عهد الخلفاء الأوّلين - مستلزماً لقوّة الخطّ الثاني، وإضفاء الشرعية على إمامة المتغلّب وخلافته، بغضّ النظر عن شخصه وسلوكه.

ومن الطبيعي حينئذ أن يكون له التحكّم في الدين؛ جرياً على سنن الماضين واقتداءً بهم حيث يألف الناس ذلك، ويتأقلمون معه كأمر واقع. وقد تقدّم أنّ ذلك هو السبب في تحريف الأديان ومسخها.

وقد يقول قائل: إن احترام الجمهور للأولين، بل تقديسهم لهم هو الذي جعلهم يقبلون منهم ما شرّعوه من الأحكام، ولا يتعدى ذلك لغيرهم ممن تأخر عنهم، ولا يحظى بمثل ذلك الاحترام والتقديس.

لكنه يندفع: بأن قبول الجمهور لأحكام الأولين ليس من أجل احترامهم بأشخاصهم، بل من أجل منصبهم، حيث ابتنى المنصب في الصدر الأول على أن الخليفة هو المرجع للمسلمين في دينهم وفي إدارة أمور دنياهم. وذلك يجري فيمن بعدهم بعد فرض شرعية منصبهم.

ولذا جرى من بعدهم على سنتهم في كيفية اختيار الخليفة، وبقي العمل عليها مادامت الخلافة قائمة كأمر واقع، تبعاً لسنة الأولين بعد فرض شرعيتها عند الجمهور.

ولم تقتصر على الأولين لتميزهم بمزيد من الاحترام والتقديس بالرغم من اعتراف الشيخين نفسهما بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة(١) ، وتحذير عمر من

____________________

(١) فقد روي ذلك عن الخليفة الأول في أنساب الأشراف ج: ٢ ص: ٢٧٤ أمر السقيفة، وكتاب العثمانية ص: ٢٣١، وسبل الهدي والرشاد ج: ١٢ ص: ٣١٥، وشرح نهج البلاغة ج: ٢ ص: ٥٠، ج: ٦ ص: ٤٧، وغيرها من المصادر.

وروي عن الخليفة الثاني في صحيح البخاري ج: ٨ ص: ٢٦ كتاب المحاريبين من أهل الكفر والردة: باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، والسنن الكبرى للنسائي ج: ٤ ص: ٢٧٢ كتاب الرجم: تثبيت الرجم، ومسند أحمد ج: ١ ص: ٥٥ مسند عمر بن الخطاب: حديث السقيفة، وصحيح ابن حبان =

٣٤٢

مثلها(١) وأمره بقتل من يعود إلى ذلك(٢) . إلا أن ذلك لما لم يسلب الشرعية عنها عندهم لم يمنعهم من الجرى على سننها.

وببيان آخر: كما يكون تمتع الأولين بمزيد من الاحترام والتقديس سبباً للتمسك بشرعية نظام الخلافة الذي جروا عليه، كذلك يكون سبباً لتحديد صلاحيات الخليفة، وحيث ابتنى المنصب عند الأولين على مرجعية الخليفة للمسلمين في الدين والدنيا معاً، يبقى ذلك مادام العمل على نظام تلك الخلافة قائماً، وكانت تلك الخلافة مشروعة عندهم، إلا أن تكون هناك محاولة للحد من اندفاع السلطة وفضحها.

أما التدهور في شخص الحاكم وسلوكه فعلى الإسلام والمسلمين قبوله كأمر واقع تقتضيه طبيعة الاستمرارية في المجتمعات التي يقودها غير المعصوم، من دون أن يخل بالشرعية لأصل الخلافة، ولا بصلاحيات الحاكم.

فهذا أبو بكر يقول في خطبته: «أما والله ما أنا بخيركم. ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً. ولوددت أن فيكم من يكفيني. فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله! إذاً لا أقوم لها. إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك. وإني لي شيطاناً يعتريني. فإذا غضبت فاجتنبوني، لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم. ألا فراعوني، فإن استقمت فأعينوني، إن زغت فقوموني»(٣) .

____________________

= ج: ٢ ص: ١٤٨ كتاب البر والإحسان: باب حق الوالدين: ذكر الزجر عن أن يرغب المرء عن آبائه إذ استعمال ذلك ضرب من الكفر، وغيرها من المصادر الكثيرة جداً.

(١) تقدمت مصادره في الهامش السابق في ما روي عن الخليفة الثاني.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج: ٢ ص: ١٥٨ أيام عمر بن الخطاب. شرح نهج البلاغة ج: ٢ ص: ٢٦، ٢٩، ٥٠، ج: ٦ ص: ٤٧، ج: ٢٠ ص: ٢١. المواقف ج: ٣ ص: ٦٠٠. وغيرها من المصادر.

(٣) المصنف لعبد الرزاق ج: ١١ ص: ٣٣٦ باب لا طاعة في معصية، واللفظ له. تخريج الأحاديث والآثار ج: ١ ص: ٤٨٢. المطالب العالية ج: ٩ ص: ٦٢٥ كتاب الخلافة والإمارة: باب كراهية أن يحكم الحاكم وهو غضبان. تاريخ دمشق ج: ٣٠ ص: ٣٠٤ في ترجمة أبي بكر الصديق. كنز العمال ج: ٥ ص: ٥٩٠ =

٣٤٣

ويقول في خطبة له أخرى فيها: «... وإنكم اليوم على خلافة نبوة ومفرق محجة. وسترون بعدي ملكاً عضوضاً، وأمة شعاعاً، ودماً مفاحاً. فإن كانت للباطل نزوة، ولأهل الحق جولة يعفو لها الأثر، وتموت السنن. فالزموا المساجد، واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة...»(١) .

وعمر يقول لابن عباس: «والله يا ابن عباس إن علياً ابن عمك لأحق الناس بها، ولكن قريشاً لا تحتمله. ولئن وليهم ليأخذنهم بمرّ الحق لا يجدون عنده رخصة...»(٢) . يشير بذلك إلى أنه لابد للحاكم أن يخرج عن الحق ويفسح لنفسه في الرخص بما يتناسب مع رغبة الناس وإرضائهم، جمعاً للكلمة.

وقدم معاوية المدينة فخطبهم، فقال: «إني رمت سيرة أبي بكر وعمر فلم أطقها، فسلكت طريقة لكم فيها حظ ونفع، على بعض الأثرة، فارضوا بما أتاكم مني وإن قلّ، فإن الخير إذا تتابع - وإن قلّ - أغنى، وإن السخطة يكدر المعيشة...»(٣) .

وخطب يزيد بن معاوية بعد وفاة أبيه، فقال: «إن معاوية كان حبلاً من حبال الله، مدّه ما شاء أن يمدّه، ثم قطعه حين شاء أن يقطعه. وكان دون من قبله، وهو خير ممن بعده... وقد وليت الأمر بعده، ولست أعتذر من جهل، ولا أشتغل بطلب علم. وعلى رسلكم، إذا كره الله أمراً غيّره»(٤) ... إلى غير ذلك.

____________________

= ح: ١٤٠٥٠، ص: ٦٣٦ ح: ١٤١١٨. وغيرها من المصادر الكثيرة.

(١) تقدمت مصادرها في ص: ١٨٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج: ٢ ص: ١٥٩ أيام عمر بن الخطاب.

(٣) أنساب الأشراف ج: ٥ ص: ٥٥ في ترجمة معاوية بن أبي سفيان.

(٤) عيون الأخبار ج: ٢ ص: ٢٣٨ - ٢٣٩ كتاب العلم والبيان: الخطب، واللفظ له. العقد الفريد ج: ٤ ص: ٨٨ فرش كتاب الخطب، ص: ٣٤٣ فرش كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وتواريخهم وأخبارهم: وفاة معاوية. مروج الذهب ج: ٣ ص: ٧٦ ذكر لمع من أخبار يزيد وسيره ونوادر من بعض أفعاله. جمهرة خطب العرب ج: ٢ ص: ١٧٨ خطب الأمويين: خطب يزيد بن معاوية. وغيرها من المصادر.

٣٤٤

وكما لم يؤثر ذلك على شرعية السلطة والخلافة لا يؤثر في تحديد صلاحيات الخليفة، بل يبقى هو المرجع للمسلمين في دينهم، كما كان الأولون.

ولا سيما أن السلطة يتيسر لها اختلاق النصوص النبوية المؤكدة لسيرة الأولين في مرجعية الخليفة في الدين، بالتعاون مع علماء السوء ورجال الحديث الذين ينسقون معها ويعيشون على مائدتها، كما سبق نظيرة في وجوب الطاعة ولزوم الجماعة، وكما حصل في بعض الأديان السابقة.

أضف إلى ذلك أن ظهور التدهور والتسافل في شخص الحاكم وسلوكه للجمهور وإيمانهم به إنما كان بجهود المعارضة وتنبيهها وإنكارها باستمرار، فإذا كسبت السلطة الشرعية بمبايعة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وغيره من النخب، وبدأت في خنق صوت المعارضة وملاحقتها وتحجيم دورها، تيسر لها - بما تملك من قوى إعلامية وتثقيفية هائلة، وبالاستعانة بعلماء السوء والنتهازيين - كسب تقديس الجمهور وإغفاله عن جرائمها وتسافلها، كما حصل في الشام نتيجة غياب المعارضة. بل حتى في إفريقية، كما تقدمت بعض شواهد ذلك عند الكلام في تركيز السلطة على وجوب الطاعةلإ وفي ظهور حجم الخطر بملاحظة مواقف الأمويين وتشويههم للحقائق(١) .

وبذلك تعرّض دين الإسلام العظيم للخطر القاتل. بل تعرّضت الحقيقة الدينية المقدّسة عموماً للتشويه والضياع الأبدي، إذ الإسلام خاتم الأديان، وليس بعده دين ولا وحي يظهر الحقيقة، ويدافع عنها. ويأتي في أوائل المقام الثالث إن شاء الله تعالى ما ينفع في المقام.

٣٤٥

تفاقم الخطر بتحويل الخلافة إلى قيصرية أموية

ويزيد في هذا الخطر أنّ معاوية قد عهد بالخلافة إلى ولده يزيد حيث تحولّت إلى هرقلية قيصرية في ضمن عائلة خاصة؛ إذ تستخدم هذه العائلة الدين حينئذ لخدمة أهدافها ذات الأمد الطويل.

ولاسيما بعد أن كانت تلك العائلة خصماً عنيداً للإسلام؛ لما هو المعلوم من موقفهم المناهض له في بدء ظهور دعوته، وقد وترهم الإسلام في أنفسهم، وفي موقعهم الاجتماعي.

مضافاً إلى ظهور استهتارهم بالمبادئ والقيم بحيث لا يقفون عند حدّ، ولا يمنعهم من تحقيق أهدافهم شيء.

وقد سبق منّا عرض بعض مواقفهم وثقافتهم التي كانوا يثقّفون بها أهل الشام، ويحاولون تعميمها في المسلمين وحملهم عليها عند التعرّض لما يتوقّع أن يترتّب على الانحراف الذي حصل؛ نتيجة الخروج بالسلطة في الإسلام عن واقعها الذي أراده الله تعالى، وقامت الأدلّة والنصوص عليه.

حديث المغيرة بن شعبة عن خطر البيعة ليزيد

وكأنّ المغيرة بن شعبة قد أدرك ذلك؛ فقد بلغه أنّ معاوية يريد عزله عن ولاية الكوفة فأراد أن يستميله؛ كي يبقيه في ولايته ولا يعزله؛ فأشار عليه بولاية العهد ليزيد، فقال له معاوية: ومَنْ لي بهذا؟ فقال: أُكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة. وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. فقال له معاوية: فارجع إلى عملك، وتحدّث مع مَنْ تثق إليه في ذلك وترى ونرى.

فودّعه ورجع إلى أصحابه، فقال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز

٣٤٦

بعيد الغاية [الغي] على أُمّة محمد، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبداً(١) .

وإنّ النظرة الموضوعية للواقع الذي حصل بتفاصيله وتداعياته تشهد بصحة هذا التقييم لبيعة يزيد، وللنتائج المتوقّعة عليه.

ما حصل هو النتيجة الطبيعية لخروج السلطة عن موضعها

ومهما يعتصر قلب المسلم ألماً لذلك، فإنّه لا ينبغي أن يستغرب ما حصل؛ إذ هو النتيجة الطبيعية للخروج عن مقتضى النصّ الإلهي؛ إذ كلّما امتدّ الزمن بالانحراف في المسيرة، وفتح الباب للاجتهادات والمبرّرات لمواقف السلطة، وألف الناس ذلك، تضاعفت التداعيات والسلبيات، وزاد السير بعداً عن الطريق المستقيم، وفقدت القيود والضوابط بنحو يتعذّر معه الرجوع إليه، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ولنكتف بهذا المقدار في عرض مواقف السلطة في عهد معاوية لمواجهة جهود أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) في كبح جماح الانحراف الذي حصل؛ نتيجة الخروج بالسلطة في الإسلام عن موضعه، وخروج الأُمّة في مسيرتها عن الطريق الصحيح الذي أراده الله تعالى له.

____________________

١ - الكامل في التاريخ ٣/٥٠٤ أحداث سنة ست وخمسين من الهجرة، ذكر البيعة ليزيد بولاية العهد، واللفظ له، النصائح الكافية/٦٤، وقريب منه في سير أعلام النبلاء ٤/٣٩ في ترجمة يزيد بن معاوية، وتاريخ الإسلام ٥/٢٧٢ في ترجمة يزيد بن معاوية، وتاريخ دمشق ٣٠/٢٨٧ في ترجمة أبي بكر الصديق، وج ٦٥/٤١٠ في ترجمة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٢٠ أيام معاوية بن أبي سفيان، وغيرها من المصادر.

٣٤٧

٣٤٨

المقام الثالث

في أثر فاجعة الطفّ في الإسلام بكيانه العام

مات معاوية وقد خلّف للإسلام تركة ثقيلة؛ حيث أقام دولة ذات أهداف قبلية جاهلية، تتخذ من الإسلام ذريعة لتحقيق أهدافه، ولو بتحريفه عن حقيقته كما سبق.

ولو قدّر لها البقاء والعمل كما تريد لقضت على جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في كبح جماح الانحراف، وتعريف المسلمين بمعالم دينهم؛ ليستضيء بها مَنْ يطلب الدين الحقّ، ويحاول التعرّف عليه والتمسّك به.

أحكم معاوية بناء دولة قوية

وقد أحكم معاوية بناء هذه الدولة وأرسى أركانها بالترغيب والترهيب، والإعلام الكاذب والتثقيف المنحرف، وإثارة العصبية والنعرات الجاهلية، فكانت هي المعايير العامّة في إعلان الولاء والتأييد.

وتجاهل ذوو النفوذ في المجتمع ما عداها من دواعي الدين والمبادئ والمثل والأخلاق، وتسابقوا في إرضاء السلطة والتزلّف لها والتعاون معها ودعمها، وأَلِفَ الجمهور ذلك وتأقلموا معها؛ على أنّه هو الواقع العملي للخلافة والسلطة، وللدين الذي تمثله.

وقد أوضح ذلك معاوية في وصيته لابنه يزيد، حيث قال له في مرضه

٣٤٩

الذي توفي فيه: يا بني، إنّي قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذلّلت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد. وإنّي لا أتخوّف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبّ لك إلّا أربعة نفر...(١) .

امتعاض ذوي الدين من انحراف السلطة عن تعاليمه

وبقي هناك ثلّة من المسلمين من ذوي الدين والمثل، أو ممّن يتظاهرون بذلك، ينظرون لما يجري على مضض، وعمدة ما يشغل بالهم ويقلقهم، أو يظهرون القلق من أجله، هو انحراف السلطة، وخروجها عن تعاليم الدين، وظلمها وطغيانها، واستئثارها، وما يجري مجرى ذلك.

أمّا مسألة تحريف الدين وضياع معالمه فلا يظهر منهم التوجّه له والاهتمام بأمره والحديث حوله، فضلاً عن العمل لمنعه.

ونتيجة لذلك ينحصر الإصلاح بنظرهم بتغيير السلطة، وجعل الخلافة في موضعها المناسب لها، كسلطة دينية ترعى الدين وتعاليمه، ويهمّها أمر المسلمين وصلاح أمرهم.

وقد يرشّح لذلك، أو يتصدّى للمطالبة بها جماعة. وعلى رأسهم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذي هو الرجل الأوّل في المسلمين ديناً ومقاماً وقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أوضحناه عند الكلام في أبعاد فاجعة الطفّ.

وهؤلاء النفر القليل على قسمين:

____________________

١ - تاريخ الطبري ٤/٢٣٨ أحداث سنة ستين من الهجرة، واللفظ له، البداية والنهاية ٨/١٢٣ أحداث سنة ستين من الهجرة، تاريخ ابن خلدون ٣/١٨ وفاة معاوية، الفتوح لابن أعثم ٤/٣٥٤ ذكر الكتاب والعهد إلى يزيد، وغيرها من المصادر.

٣٥٠

مَنْ يرى إمكان إصلاح السلطة وتعديل مسارها

الأوّل : مَنْ يرى التفكير في ذلك عملياً، ويحاول السعي له؛ إمّا بمكر ودهاء؛ أملاً في المكاسب المادية، والوصول لمراكز النفوذ وصنع القرار بعد التغيير، وإمّا بحسن نيّة؛ نتيجة الموقف الانفعالي من الفساد الذي حصل، وبتخيّل وجود الآلية الكافية للصراع مع الوضع القائم.

ومن الصنف الثاني خواصّ الشيعة في الكوفة الذين كانوا يستثيرون الإمام الحسين (عليه السّلام) بعد موت الإمام الحسن (عليه السّلام)، كما استثاروا الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من قبل وكانوا يرون أنّ في موت معاوية فرصة لا ينبغي تضييعها.

مَنْ يرى تجنّب الاحتكاك بالسلطة حفاظاً على الموجود

الثاني: مَنْ يرى أنّ التفكير في ذلك غير عملي، وأنّ الموازنة بين القوى لا تسمح بها بعد ما انتهى إليه وضع المسلمين بعد انحراف مسار السلطة وما ترتّب عليه من مضاعفات، وآخرها سياسة معاوية السابقة.

ولاسيما أنّ الفشل العسكري الذي مُنيت به تجربة الإصلاح، وتعديل مسيرة السلطة في الإسلام التي قادها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أوجب الإحباط عند الخاصة الذين من شأنهم الموازنة بين القوى وعدم الاندفاع العاطفي في اتخاذ المواقف.

حيث لا يتوقّع أن يأتي قائد أفضل من أمير المؤمنين (عليه السّلام) علماً بالدين، وإخلاصاً لقضيته، والتزاماً بالمبادئ، وشجاعة وصلابة في الموقف، وسابقة وأثراً في الإسلام، ولا أظهر شرعية منه عند الكلّ بعد تمامية بيعته باختيار عامّة المسلمين.

٣٥١

حتى إنّه لا إشكال عند أهل العلم والمعرفة أخيراً في شرعية خلافته، وبغي الخارجين عليه، ووجوب قتالهم، كما ذكرنا بعض ما يتعلّق بذلك في أواخر الكلام في المقام الأوّل(١) .

كما لا يتهيأ أنصار أكثر من أنصاره ولا أفضل؛ حيث بايعه عن قناعة تامّة الكثرة الكاثرة من المسلمين، وفيهم العدد الكثير من المهاجرين والأنصار وذوي السابقة والأثر الحميد في الإسلام، ومن أهل النجدة في العرب، وذوي المقام الاجتماعي والنفوذ فيهم، والذين لهم الأثر الكبير في فتوح الإسلام، وقد قدّموا من أجل دعمه (عليه السّلام) ونجاح مشروعه أعظم التضحيات.

وأيضاً لا يتوقّع - بمقتضى الوضع الطبيعي - أن يأتي زمان أفضل من زمانه (عليه السّلام)؛ لقربه من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتعرّف على تعاليمه، ووجود الكثرة الكاثرة من صحابته.

وقد أكّدت الأحداث المتلاحقة ذلك حيث لم يسجّل تاريخ الإسلام نجاح حركة إصلاحية حقيقية - تلتزم المبادئ في أهدافه، وفي وسائل نجاحها في صراعاته؛ محافظة على نقائها واستقامتها - وبقاءها مدّة أطول من عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه).

ويعلم أهل المعرفة أنّ انهيار مشروعه (صلوات الله عليه) عسكرياً إنّما تسبّب عن التزامه بالمبادئ وحرفية التشريع، واستغلال خصومه ذلك ومحاولتهم الخروج عنه، والالتفاف عليه في وسائل صراعهم معه، وفي تثبيت سلطانهم بعده؛ لوجود الأرضية الصالحة لتقبّل ذلك من عامّة الناس؛ لعدم استحكام الدين والمبادئ في نفوسهم، وثقل الأمانة والاستقامة عليهم.

ولا يتوقّع صلاح المجتمع الإسلامي بعد أن دخله الفساد، بل كلّما زادت

____________________

١ - راجع/٢٧٥ وما بعده.

٣٥٢

ألفتهم له زاد استحكامه فيهم، وتعذّر تطهيرهم منه.

نعم، يمكن أن يغلب الباطل بباطل مثله في المكر، وانتهاك الحرمات، والخروج عن المبادئ والقيم والالتفاف عليه كما حصل. والدنيا دول.

ونتيجة لذلك كان توجّه هؤلاء النفر إلى المحافظة على الموجودين من ذوي الدين والصلاح بتجنّب الاحتكاك بالحاكم؛ لأنّ ذلك غاية الميسور.

وربما يكون ذلك هو المنظور لكثير ممّن أشار على الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بترك الخروج على يزيد، ومنهم عبد الله بن جعفر كما يظهر من كتابه للإمام الحسين (عليه السّلام) الذي تقدّم التعرّض له في المطلب الأوّل(١) .

بل كلّما زاد الاحتكاك بالحاكم، وتحقّق منه التجاوز عن الحدّ في الردّ زاد جرأة على انتهاك الحرمات، وأبعد في التجاوز عليه، وتعوّد الناس على ذلك وألفوه، وخفّ استنكارهم له.

فكيف إذا كان المنتهك حرمته هو الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) الذي هو أعظم الناس حرمة، والرجل الأوّل في المسلمين؟! كما يشير إلى ذلك ما تقدّم منه (صلوات الله عليه) في المعركة، ومن عبد الله بن مطيع في حديثه معه (عليه السّلام)(٢) وغير ذلك.

وربما تُدعم وجهة نظر هؤلاء بأمرين:

الأوّل: الحذر من شقّ كلمة المسلمين وتفريق جماعتهم، وإلقاح الفتنة بينهم الذي قد يتشبّث به الكثير جهلاً، أو نفاقاً وممالأة للظالم.

الثاني: طلب العافية جبناً، أو لعدم الشعور بالمسؤولية.

____________________

١ - تقدّم في/٦٣.

٢ - راجع/٦٣.

٣٥٣

موقف أهل البيت (عليهم السّلام) إزاء المشكلة

لكنّ أهل البيت (صلوات الله عليهم) على بصيرة تامّة من أنّ تعديل مسار السلطة في الإسلام بعد انحرافها من اليوم الأوّل أمر متعذّر في الأمد المنظور. ويأتي توضيح ذلك - إن شاء الله تعالى - في المقام الثاني من الفصل الثاني في العبر التي تستخلص من فاجعة الطفّ.

وقد سبق أنّ أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) كان على علم بما يؤول إليه أمر بيعته من الفشل العسكري، وأنّ ما ظهر لنا من ثمرات قبوله بالخلافة هو إظهار الحقيقة، وإيضاح معالم الدين، وتشييد دعوة الحقّ، وإيجاد جماعة صالحة تقتنع بتلك الدعوة وتحمّلها وتدعو لها، وترفض دعوة الباطل وتشجب شرعيتها وشرعية السلطة التي تتبنّاه، وتنكر عليها الجرائم والمنكرات التي تقوم بها، وتحاول فضحها، وقد حقّق ذلك بنجاح.

بيعة يزيد تعرض جهود أمير المؤمنين (عليه السّلام) للخطر

غير أنّ جهوده (صلوات الله عليه) أصبحت مهدّدة بالخطر؛ نتيجة خطوات معاوية المتلاحقة، وآخرها البيعة لابنه يزيد في دولة قوية قد أرسى قواعده، وأحكم بنيانه، وأُمّة متخاذلة أنساها دينها ومثلها، وأحيى دعوة الجاهلية فيها، وسلبها شخصيتها وكرامتها، وأذلّها بالترغيب والترهيب، وشوّه مفاهيمها وتعاليمها بالإعلام الكاذب والتثقيف المنحرف.

ومن الظاهر أنّ البيعة ليزيد كانت تدهوراً سريعاً في معيار اختيار الخليفة، وابتداعاً لأمر لم يعهده المسلمون من قبل، ولم يألفوه بعد ولا تقبّلوه.

أوّلاً: بلحاظ واقع يزيد التافه، وسلوكه الشخصي المشين، وظهور استهتاره بالدين والقيم، ومقارفته للموبقات، وانغماسه في الشهوات.

٣٥٤

وثانياً : بلحاظ ابتناء اختياره على وراثة الخلافة وانحصارها بآل معاوية، وتجاهل أكابر المسلمين من بقايا الصحابة وأبنائهم، ولاسيما بعد ما عاناه الإسلام والمسلمون من حكم معاوية نفسه، وتجربته المرّة التي مرّت بهم.

فإذا لم يستغل ذلك في الإنكار والدعوة للتغيير، وبقيت الأمور على ما هي عليه، وبايع أكابر المسلمين - وعلى رأسهم الإمام الحسين (صلوات الله عليه) - يزيد، تأكّدت شرعية تلك الدولة القوية التي ينتظر منها القضاء على الدين وعلى جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في كبح جماح الانحراف.

عدم تبلور مفهوم التقيّة

وخصوصاً أنّ مفهوم التقيّة لم يتبلور بعد عند عامّة المسلمين، ولا يدركون أنّ الاستجابة للبيعة والسكوت عن إنكار المنكر؛ نتيجة القسر والضغوط القاهرة لا يضفي شرعية على الوضع القائم.

ولاسيما بعد تصدّي مثل حجر بن عدي الكندي وجماعته وغيرهم من وجوه الشيعة وأعيان المسلمين للإنكار، ودفعهم الثمن الغالي في سبيله، وعدم أخذهم بالتقيّة في السكوت عن الباطل(١) .

والإمام الحسين (صلوات الله عليه) أعرف منهم بالوظيفة الشرعية، وأحرى برعاية الدين، وأقوى منهم - بنظر عامّة الناس - بما يملكه من مركز ديني واجتماعي رفيع. فبيعته (عليه السّلام) ليزيد تضفي الشرعية على السلطة بنظر جمهور

____________________

١ - لعلّ إصرار هؤلاء على موقفهم، وعدم أخذهم بالتقيّة؛ لعدم تركّز المفاهيم الحقة التي كانوا يتبنّوه، فأخذهم بالتقيّة يوجب ضياع الحقّ على الناس، وهو أشدّ محذوراً من تضحيتهم بأنفسهم، نظير موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في وقته، ولاسيما مع قرب أن تكون مواقفهم هذه قد كانت بعهد معهود من أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام)، كما يستفاد ذلك في الجملة من كثير من النصوص، وللكلام مقام آخر.

٣٥٥

المسلمين، ولا تحمل على التقيّة.

ويناسب ما ذكرنا - من عدم تبلور مفهوم التقيّة - أنّ بسر بن أرطاة لما أغار على المدينة المنوّرة في أواخر عهد أمير المؤمنين (عليه السّلام) وأخذ أهلها بالبيعة لمعاوية. قال لبني سلمة: والله ما لكم عندي أمان حتى تأتوني بجابر بن عبد الله. فانطلق جابر إلى أُمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: ماذا ترين؟ إنّ هذه بيعة ضلالة، وقد خشيت أن أُقتل. قالت: أرى أن تُبايع؛ فإنّي قد أمرت ابني عمر وختني ابن زمعة أن يبايع.... فأتاه جابر فبايعه(١) .

وكذا ما ذكره المؤرّخون من البيعة التي طلبها مسلم بن عقبة من أهل المدينة بعد واقعة الحرّة. قال اليعقوبي: ثمّ أخذ الناس على أن يبايعوا على أنّهم عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرجل من قريش يؤتى به فيُقال: بايع على أنّك عبد قن ليزيد. فيقول: لا. فيُضرب عنقه. فأتاه علي بن الحسين (عليه السّلام) فقال: «علامَ يريد يزيد أن أبايعك؟». قال: على أنّك أخ وابن عم. فقال: «وإن أردت أن أبايعك على إنّي عبد قن فعلت». فقال: ما أُجشمك هذا. فلمّا أن رأى الناس إجابة علي بن الحسين (عليه السّلام) قالوا: هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بايعه على ما يريد، فبايعوه على ما أراد(٢) .

وقد منع (صلوات الله عليه) بذلك عملية القتل والإبادة الجماعية التي

____________________

١ - الكامل في التاريخ ٣/٣٨٣ أحداث سنة أربعين من الهجرة، ذكر سرية بسر بن أبي أرطأة إلى الحجاز واليمن، تاريخ الطبري ٤/١٠٦ في أحداث سنة أربعين من الهجرة، الاستيعاب ١/١٦٢ في ترجمة بسر بن أرطأة، البداية والنهاية ٧/٣٥٦ أحداث سنة أربعين من الهجرة، شرح نهج البلاغة ٢/١٠، ونحوه في كتاب الثقات ٢/٣٠٠، وتاريخ دمشق ١٠/١٥٢ - ١٥٣ بسر بن أبي أرطأة، وتهذيب الكمال ٤/٦٥ في ترجمة بسر بن أرطأة، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٢ - تاريخ اليعقوبي ٢/٢٥٠ - ٢٥١ مقتل الحسين بن علي.

٣٥٦

تعرّضت لها الأُمّة المنكوبة، ونبّه لتشريع الله (عزّ وجلّ) التقيّة من أجل الحفاظ على المسلمين المضطهدين، وذلك بعد أن اتّضحت معالم الحقّ، وفقدت السلطة شرعيتها بسبب فاجعة الطفّ ومضاعفاتها.

لم يخرج على سلطة الأمويين إلّا الخوارج الذين سقط اعتبارهم

ويزيد في تعقد الأمور أنّه لم يعرف عن أحد قبل الإمام الحسين (عليه السّلام) الخروج على الحكم الأموي - مع شدّة مخالفته للدين، وطول مدّته - إلّا الخوارج الذين قد سقط اعتبارهم عند المسلمين.

أوّلاً : لظهور بطلان أُسس دعوتهم، خصوصاً بعد قتال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لهم، وفتكه بهم في بدء ظهورهم، مع ما تظافر عنه (عليه السّلام) وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبله من الطعن فيهم، والحكم بهلاكهم.

وثانياً : لتطرّفهم وانتهاكهم للحرمات بنحو أوجب مقت عامّة المسلمين لهم. وقد استغلت السلطة ذلك كلّه ضدّهم، وضدّ كلّ مَنْ يخرج عليه حتى الإمام الحسين (صلوات الله عليه) حيث حاولت في عنفوان اصطدامها به أن تجعله ومَنْ معه خوارج مهدوري الدم شرعاً، كما تقدّمت بعض شواهد ذلك عند الكلام على تركيز السلطة على وجوب الطاعة ولزوم الجماعة.

ومن الطريف في ذلك ما ورد من أنّ هاني بن عروة لما ذهب إلى ابن زياد زائراً، وطلب منه ابن زياد أن يدفع إليه مسلم بن عقيل (عليه السّلام)، وامتنع من ذلك معتذراً بأنّه ضيفه وجاره، طلب ابن زياد أن يدنوه منه، فلمّا أدنوه استعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه ونثر لحم خدّيه وجبينه على لحيته، وسالت الدماء على ثيابه حتى كُسر القضيب. فلمّا ضاق الأمر بهاني ضرب يده إلى قائم سيف شرطي ليدافع عن نفسه فجاذبه الشرطي

٣٥٧

ومنعه، فقال ابن زياد لهاني: أحروري سائر اليوم؟! أحللت بنفسك قد حلّ لنا قتلك(١) .

فكأنّ المفروض على هاني أن يستسلم لابن زياد ويتركه يفعل به ما يشاء، ولا يدافع عن نفسه وإلاّ كان حرورياً خارجياً يهدر دمه ويحلّ قتله!

والحاصل: أنّه لا أثر لخروج الخوارج على السلطة في سلب شرعيته، والحدّ من غلوائه بعد إقرار أكابر المسلمين له، ودخولهم في طاعته.

موقف الشيعة من الأوّلين يحول دون تفاعل الجمهور معهم

كما أنّه لم يحمل لواء الإنكار على الأمويين وعلى تحريفهم للدين - بعد الخوارج - إلّا الشيعة، وهم وإن كانوا قد فرضوا احترامهم بأشخاصهم على المسلمين؛ لما عرفوا به من التقوى والعلم وصدق اللهجة حتى أخذ الجمهور بروايات محدّثيهم في الصدر الأوّل مع علمهم بتشيّعهم ومخالفتهم لهم(٢) . وروي عن سفيان الثوري قوله: هل أدركت خيار الناس إلّا الشيعة؟(٣) .

وفي صحيح زيد الشحّام عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) في وصيته لشيعته: «أوصيكم بتقوى الله (عزّ وجلّ)، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة...، فوالله لحدّثني أبي (عليه السّلام) أنّ الرجل كان يكون

____________________

١ - تاريخ الطبري ٤/٢٧٣ - ٢٧٤ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام)...، واللفظ له، الكامل في التاريخ ٤/٢٩ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين بن علي (عليه السّلام)...، البداية والنهاية ٨/١٦٦ أحداث سنة ستين من الهجرة، قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة ومقتله، نهاية الأرب في فنون الأدب ٢٠/٢٤٧ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر استعمال عبيد الله بن زياد على الكوفة وقدومه إليها وخبره مع هانئ بن عروة، وغيرها من المصادر.

٢ - راجع كتاب المراجعات/١٠٤ - ١٩٤ المراجعة ١٦.

٣ - مقاتل الطالبيين/١٩٥ من خرج مع محمد بن عبد الله من أهل العلم.

٣٥٨

في القبيلة من شيعة علي (عليه السّلام) فيكون زينها آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث. إليه وصاياهم وودائعهم. تسأل العشيرة عنه فتقول: مَنْ مثل فلان؟! أنّه لآدانا للأمانة، وأصدقنا للحديث»(١) ... إلى غير ذلك.

إلاّ أنّ من المعلوم أنّ الشيعة قد تعرّضوا لشتى صروف التنكيل المشار إليها آنفاً فلا يسهل إيصال إنكارهم للجمهور وتعميم دعوتهم.

مع إنّهم يصطدمون مبدئياً بشرعية خلافة الأوّلين، ويتبنّون نقد مواقفهم ومواقف مَنْ كان على خطّهم مع ما لبعض أولئك من مكانة في نفوس جمهور المسلمين قد تبلغ حدّ التقديس.

وذلك يكون حاجزاً دون السماع من الشيعة والتفاعل بحديثهم، خصوصاً إذا بايع إمامهم الحسين (صلوات الله عليه) وغيره من ذوي المكانة في المجتمع الإسلامي.

التفاف السلطة على الخاصة لإضعاف تأثيرهم على الجمهور

كما إنّ الخاصة من ذوي الدين والمقام الرفيع في المسلمين إذا انسجموا مع الحاكم الظالم خَفَتَ بريقهم، وسقطت هالة الاحترام والتقديس لهم؛ فيضعف تأثيرهم تدريجاً في إصلاح المجتمع الإسلامي، وتنبيهه من غفلته.

ولاسيما إنّ الحاكم - من أجل تثبيت شرعية حكمه - يحاول جرّهم؛ للانصهار به، وجعلهم واجهة له يتجمّل بهم، أو يجعلهم آلة لقضاء مآربه.

فإنّ امتنعوا حجّم دورهم، أو قضى عليهم. وإن تجاوبوا معه لوّثهم بجرائمه، فيقل احترام في نفوس الناس تدريجاً، ويضعف تأثيرهم في إصلاح

____________________

١ - الكافي ٢/٦٣٦ باب ما يجب من المعاشرة ح ٥، وسائل الشيعة ٨/٣٩٨ - ٣٩٩ باب ١ من أبواب أحكام العشرة ح ٢.

٣٥٩

المجتمع، حتى ينتهي أخيراً وينفرّد هو في الساحة.

شرعية السلطة تيسّر لها التدرّج في تحريف الدين

وإذا مضت مدّة معتدٍ بها، وتحقّق للسلطة ما تريد، تعامل الناس معها على أنّها الأمر الواقع الممثّل للدين، والمفروض من قِبّل الله عز وجل.

وحينئذ يتيسّر لها التلاعب به وفق أهدافها وأهوائها، وانطمست معالم الدين الحقّ، وكان الدين عندهم دين السلطة، أو المؤسسة التي تنسّق معها.

وحتى لو فرض تبدّل السلطة نتيجة العوامل الخارجية، فإنّ السلطات المتعاقبة تبقى هي المرجع في الدين - جرياً على سنن الماضين - بعد أن انطمست معالمه، وضاعت الضوابط فيه، وهكذا يبقى الدين أداة بيد السلطة تستغلّه لصالحه، كما حصل ذلك في الأديان السابقة.

وببيان آخر: إنّ تعديل مسار السلطة وإن كان متعذّراً، إلّا إنّ السكوت عن سلطة الباطل في ذلك المنعطف التاريخي له، والتعامل معها على أساس الاكتفاء بالميسور من التخفيف في الجريمة والمخالفة للدين والتحريف فيه، يفسح لها المجال للتدرّج في تحقيق أهدافها في تحريف الدين، وتحويره بنحو يكون أداة لتركيز نفوذها وتثبيت شرعيتها، وإكمال مشروعها.

وذلك يكون بأمرين:

الأوّل : التدرّج في المخالفات والتحريف بنحو لا يستفزّ الجمهور، وكلّما ألف الجمهور مرتبة من الانحراف انتقلت للمرتبة الأعلى، وهكذا حتى يألف الجمهور تحكّم السلطة في الدين وتحويرها له.

الثاني : التدرج في إضعاف المعارضة مادياً بالتنكيل بها، ومعنوياً بجرها للانصهار بالسلطة، إلى أن تنتهي فاعليتها وقدرتها على تحريك الجمهور

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

هيق كأنّ جناحيه وجؤجؤه

بيت أطافت به خرقاء مهجوم(١)

ولا اعتذر أحد إلا احتاج إلى قول النابغة:

فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي

وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع(٢)

قال سيدنا أدام الله علوّه: أما قول حميد بن ثور: (محلّى بأطواق عتاق) فإنه يريد أن عليه نجار الكرم والعتق، فصارت دلالتهما وسماتهما حلية له من حيث كان موسوما بهما.

ومعنى: (يبينها على الضراء) يتبينها ويعرفها هذا الراعي فيعلم أنه كريم، والتقوّف:

من القيافة.

فأما قول علقمة (هيق ) فالهيق: ذكر النعام. ومعنى: (أطافت به خرقاء)، أي عملته وابتنته، وقيل: إن خرقاء هاهنا هي الحاذقة، وأن هذه اللفظة تستعمل على طريق الأضداد في الحاذقة وغير الحاذقة، ومعنى (مهجوم): أي مهدوم، وقال الأصمعي: معنى (أطافت به)، أي عملته فخرقت في عمله، يقول: قد أرسل جناحيه كأنه خباء امرأة خرقاء، كلما رفعت ناحية استرخت أخرى؛ والوجه الثاني أشبه وأملح.

فأما قول بشر في وصف الثغر فأحسن منه وأكشف وأشد استيفاء قول النابغة:

____________________

 - قوله: (عاري العظام) أي بعير مهزول، وشقا ابن ثلاث أي هلال ابن ثلاث. وماء أسير عيدان ويروى (ماء آسر عيدان)، أي عيدان مأسورة مشدودة. والرم. المخ، يريد أنه ليس يمسي برم، أي ليس في عظامه مخ؛ ولكنه عارف؛ أي معترف بالسير، ذليل متكلف يتكلف السير على جهد).

(١) حاشية الأصل: (هيق، أي ظليم، وهو اسم له، والجؤجؤ: الصدر؛ وأراد بالبيت بيتان الشعر أو الوبر. الخرقاء: المرأة التي ليست بصناع. ومهجوم: مصروع ساقط، يقول: أتت البيت هذه الخرقاء لتصلحه فلم تحسن، واستخرجت عيدانه وأطنابه، فشبه الظليم به، لاسترخاء جناحيه ونشره إياهما. وقال المازني: إذا بنت الخرقاء بيتا انهدم سريعا. وقال غيره: خرقاء هنا: ريح لا تدوم على جهة واحدة) والبيت في ديوانه ١٣٠، والمفضليات: ٤٠٠، (طبعة المعارف) وروايته فيهما:

(٢) ديوانه:

* صعل كأنّ جناحيه وجؤجؤه*

٥٤١

كالأقحوان غداة غبّ سمائه

جفّت أعاليه وأسفله ند(١)

فإنما وصف أعاليه بالجفوف؛ ليكون متفرقا متنضّدا غير متلبّد ولا مجتمع؛ فيشبه حينئذ الثغور، ثم قال: (وأسفله ند) حتى لا يكون قحلا يابسا، بل يكون فيه الغضاضة والصّقالة، فيشبه غروب الأسنان التي تلمع وتبرق.

وروى الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثّغر قول ذي الرّمة:

وتجلو بفرع من أراك كأنّه

من العنبر الهندي والمسك يصبح(٢)

ذرا أقحوان واجه الليل وارتقى

إليه النّدى من رامة المتروّح(٣)

هجان الثّنايا مغربا لو تبسّمت

لأخرس عنه كاد بالقول يفصح(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٣١. الأقحوان: نبت له نوار أصفر، حواليه ورق أبيض وفي حاشيتي الأصل، ف: (ضمن اللجام الحراني هذا البيت في هجو فجعله آبدة من الأوابد فقال:

ياسائلي عن جعفر، علمي به

رطب العجان وكفّه كالجلمد

كالأقحوان غداة غب سمائه

جفّت أعاليه وأسفله ند

والبيتان في خاص الخاص: ١٤٤.

(٢) ديوانه: ٨٣. يصبح: يسقى وقت الصباح.

(٣) في الديوان: (راحة الليل)، بالرفع. رامة: رملة بعينها. المتروح: الّذي جاء رواحا. وبعد هذا البيت في رواية الديوان:

تحفّ بترب الرّوض من كلّ جانب

نسيم كفأر المسك حين يفتّح

(٤) المغرب: الأبيض من كل شيء.

٥٤٢

[٣٩]

مجلس آخر [المجلس التاسع والثلاثون:]

تأويل آية:( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ )

إن سأل سائل عن تأويل قوله تعالى:( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) ؛ [التوبة: ٥٥].

فقال: كيف يعذبهم بالأموال والأولاد، ومعلوم أن لهم فيها مسرورا ولذة؟ وما تأويل قوله تعالى: وَهُمْ كافِرُونَ وظاهره يقتضي أنه أراد كفرهم من حيث أراد أن تزهق أنفسهم في حال كفرهم، لأن القائل إذا قال: أريد أن يلقاني فلان وهو لابس أو على صفة كذا وكذا، فالظاهر أنه أراد كونه على تلك الصفة؟

الجواب، قلنا: أما التعذيب بالأموال والأولاد ففيه وجوه:

أولها ما روي عن ابن عباس وقتادة، وهو أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، ويكون التقدير: فلا تعجبك يامحمد ولا تعجب المؤمنين معك أموال هؤلاء الكفار والمنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا؛ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة عقوبة لهم على منعهم حقوقها؛ واستشهد على ذلك بقوله تعالى:( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ ) ؛ [النمل: ٢٨]، والمعنى: فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم؛ وأنشد في ذلك قول الشاعر:

عشيّة أبدت جيد أدماء مغزل

وطرفا يريك الإثمد الجون أحورا(١)

يريد: وطرفا أحور يريك الإثمد الجون؛ وقد اعتمد هذا الوجه أيضا أبو عليّ قطرب، وذكره أبو القاسم البلخي والزّجاج.

____________________

(١) مغزل: معها غزالها.

٥٤٣

وثانيها أن يكون معنى التعذيب بالأموال والأولاد في الدّنيا هو ما جعله للمؤمنين من قتالهم وغنيمة أموالهم وسبي أولادهم واسترقاقهم؛ وفي ذلك لا محالة إيلام لهم، واستخفاف بهم، وإنما أراد تعالى بذلك إعلام نبيهعليه‌السلام والمؤمنين أنه لم يرزق الكفار الأموال والأولاد؛ ولم يبقها في أيديهم كرامة لهم، ورضا عنهم؛ بل للمصلحة الداعية إلى ذلك، وأنهم مع هذه الحالة معذبون بهذه النعم من الوجه الّذي ذكرناه، فلا يجب أن يغبطوا، ويحسدوا عليها؛ إذ كانت هذه عاجلتهم، والعقاب الأليم في النار آجلتهم؛ وهذا جواب أبي عليّ الجبائي.

وقد طعن عليه بعض من لا تأمّل له فقال: كيف يصح هذا التأويل، مع أنا نجد كثيرا من الكفّار لا تنالهم أيدي المسلمين، ولا يقدرون على غنيمة أموالهم، ونجد أهل الكتاب أيضا خارجين عن هذه الجملة لمكان الذّمة والعهد؟ وليس هذا الاعتراض بشيء، لأنه لا يمتنع أن تختص الآية بالكفار الذين لا ذمة لهم ولا عهد؛ ممن أوجب الله تعالى محاربته؛ فأما الذين لا تنالهم الأيدي، أو هم من القوة على حدّ لا يتم معه غنيمة أموالهم؛ فلا يقدح الاعتراض بهم في هذا الجواب لأنهم ممن أراد الله تعالى أن يسبي ويغنم، ويجاهد ويغلب؛ وإن لم يقع ذلك؛ وليس في ارتفاعه بالتعذّر دلالة على أنه غير مراد.

وثالثها أن يكون المراد بتعذيبهم بذلك كلّ ما يدخله في الدنيا عليهم من الغموم والمصائب بأموالهم وأولادهم التي لهؤلاء الكفار المنافقين عقاب وجزاء، وللمؤمنين محنة وجالبة للعوض وللنفع.

ويجوز أيضا أن يراد به ما ينذر به الكافر قبل موته، وعند احتضاره، وانقطاع التكليف عنه مع أنه حي، من العذاب الدائم الّذي قد أعدّ له، وإعلامه أنه صائر إليه، ومنتقل إلى قراره؛ وهذا الجواب قد روي معنى أكثره عن قوم من متقدمي المفسرين(١) ، وذكره أبو عليّ الجبائي أيضا.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة الشجري: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري).

٥٤٤

ورابعها [جواب](١) يحكى عن الحسن البصري، واختاره الطبري وقدّمه على غيره، وهو أن يكون المراد بذلك ما ألزمه هؤلاء الكفار من الفرائض والحقوق في أموالهم؛ لأن ذلك يؤخذ منهم على كره، وهم إذا أنفقوا فيه أنفقوا بغير نيّة ولا عزيمة؛ فتصير نفقتهم غرامة وعذابا من حيث لا يستحقون عليها أجرا.

قال السيد قدس الله روحه: وهذا وجه غير صحيح؛ لأن الوجه في تكليف الكافر إخراج الحقوق من ماله كالوجه في تكليف المؤمن ذلك؛ ومحال أن يكون إنما كلّف إخراج هذه الحقوق على سبيل العقاب والجزاء؛ لأن ذلك لا يقتضي وجوبه عليه(٢) ؛ والوجه في تكليف الجميع هذه الأمور هو المصلحة واللطف في التكليف.

ولا يجري ذلك مجرى ما قلناه في الجواب الّذي قبل هذا؛ من أن المصائب والغموم قد تكون للمؤمنين محنة، وللكافرين عقوبة؛ لأن تلك الأمور مما يجوز أن يكون وجه حسنها العقوبة والمحنة جميعا؛ ولا يجوز في هذه الفرائض أن يكون لوجوبها على المكلّف إلا وجه واحد، وهو المصلحة في الدّين، فافترق الأمران.

وليس لهم أن يقولوا: ليس التعذيب في إيجاب الفرائض عليهم؛(٣) وإنما هو لإخراجهم أموالهم على وجه التكرّه والاستثقال(٣) ؛ وذلك أنه إذا كان الأمر على ما ذكروه خرج من أن يكون مرادا للّه تعالى؛ لأنه جلّ وعز ما أراد منهم إخراج المال على هذا الوجه، بل على الوجه الّذي هو طاعة وقربة؛ فإذا أخرجوها متكرّهين مستثقلين لم يرد ذلك؛ فكيف يقول:( إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ) ! ويجب أن يكون ما يعذبون به شيئا يصحّ أن يريده الله تعالى.

وجميع هذه الوجوه التي حكيناها في الآية - إلا جواب التقديم والتأخير - مبنيّة على أنّ

____________________

(١) من ف.

(٢ - ٢) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

(٣ - ٣) ف: (وإنما هو في إخراجهم لأموالهم على وجه التكره والاستثقال).

٥٤٥

الحياة الدنيا ظرف للعذاب؛ فتحمّل(١) كل متأوّل من القوم ضربا من التأويل؛ طابق(٢) ذلك.

وما يحتاج عندنا إلى جميع ما تكلّفوه، ولا إلى التقديم والتأخير إذا لم تجعل(٣) الحياة ظرفا للعقاب، بل جعلناها ظرفا للفعل الواقع بالأموال والأولاد؛ والمتعلّق بهما؛ لأنا قد علمنا أولا أنّ قوله:( لِيُعَذِّبَهُمْ بِها ) لا بد من الانصراف عن ظاهره؛ لأن الأموال والأولاد أنفسها لا تكون عذابا؛ والمراد على سائر وجوه التأويل الفعل المتعلّق بها والمضاف إليها؛ سواء كان إنفاقها والمصيبة بها والغمّ عليها، أو إباحة غنيمتها وإخراجها عن أيدي مالكيها؛ فكأنّ تقدير(٤) الآية: إنما يريد الله ليعذّبهم بكذا وكذا؛ مما يتعلق بأموالهم وأولادهم، ويتّصل بها؛ وإذا صحّ هذا جاز أن تكون الحياة الدنيا ظرفا لأفعالهم القبيحة في أموالهم وأولادهم التي تغضب الله تعالى وتسخطه؛ كإنفاقهم الأموال في وجوه المعاصي، وحملهم الأولاد على الكفر، وإلزامهم الموافقة لهم في النّحلة، ويكون تقدير الكلام: إنما يريد الله ليعذّبهم بفعلهم في أموالهم وأولادهم؛ الواقع ذلك منهم في الحياة الدنيا؛ وهذا وجه ظاهر يغني عن التقديم والتأخير؛ وسائر ما ذكروه من الوجوه.

فأما قوله تعالى:( وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ) فمعناه تبطل وتخرج؛ أي أنّهم يموتون على الكفر؛ وليس يجب إذا كان مريدا لأن تزهق أنفسهم وهم على هذه الحال أن يكون مريدا للحال نفسها على ما ظنّوه؛ لأنّ الواحد منّا قد يأمر غيره ويريد منه أن يقاتل أهل البغي وهم محاربون، ولا يقاتلهم وهم منهزمون، ولا يكون مريدا لحرب أهل البغي للمؤمنين؛ وإن أراد قتالهم على هذه الحالة، وكذلك قد يقول لغلامه: أريد أن تواظب على المصير إلي في السّجن وأنا محبوس، وللطبيب: صر إلي ولازمني وأنا مريض، وهو لا يريد المرض ولا

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (فتمحل).

(٢) ف: (يطابق).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (لم نجعل الحياة).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فكان تقدير الكلام).

٥٤٦

الحبس؛ وإن كان قد أراد ما هو متعلق بهاتين الحالتين.

وقد ذكر في ذلك وجه آخر على ألاّ يكون قوله:( وَهُمْ كافِرُونَ ) حالا لزهوق أنفسهم؛ بل يكون كأنه كلام مستأنف، والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم؛ إنما يريد الله ليعذّبهم بها في الحياة الدنيا؛ وتزهق أنفسهم وهم مع ذلك كافرون صائرون إلى النار؛ وتكون الفائدة أنهم مع عذاب الدنيا قد اجتمع عليهم عذاب الآخرة؛ ويكون معنى( تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ ) على هذا الجواب غير الموت وخروج النفس على الحقيقة، بل المشقة الشديدة والكلف(١) الصّعبة، كما يقال: ضربت فلانا حتى مات وتلفت نفسه، وخرجت روحه، وما أشبه ذلك.

***

[رأى الشريف المرتضى في شعر مروان بن أبي حفصة ومختارات من محاسن شعره:]

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ذاكرني قوم من أهل الأدب بأشعار المحدثين وطبقاتهم وانتهوا إلى مروان بن يحيى بن أبي حفصة(٢) ؛ فأفرط بعضهم في وصفه وتقريظه، وآخرون في ذمه وتهجينه والإزراء على شعره وطريقته؛ واستخبروا عما أعتقده فيه، فقلت لهم:

كان مروان متساوي الكلام، متشابه الألفاظ، غير متصرّف في المعاني ولا غواص عليها ولا مدقّق لها؛ فلذلك قلّت النّظائر في شعره، ومدائحه مكرّرة الألفاظ والمعاني، وهو غزير الشعر قليل المعنى؛ إلا أنه مع ذلك شاعر له تجويد وحذق، وهو أشعر من كثير من أهل زمانه وطبقته، وأشعر شعراء أهله؛ ويجب أن يكون دون مسلم بن الوليد في تنقيح الألفاظ وتدقيق المعاني، وحسن الألفاظ، ووقوع التشبيهات، ودون بشّار بن برد في الأبيات النادرة السائرة، فكأنه طبقة بينهما؛ وليس بمقصّر دونهما شديدا، ولا منحط عنهما بعيدا.

وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي يقدّمه على بشار ومسلم، وكذلك أبو عمرو الشيباني

____________________

(١) ف: (والكلفة).

(٢) هو أبو السمط - وقيل أبو الهندام مروان بن أبي حفصة؛ ولد سنة ١٠٥، وهلك في أيام الرشيد سنة ١٨٢. (وانظر ترجمته وأشعاره في الشعر والشعراء.

٧٣٩ - ٧٤١، وابن خلكان ٢: ٧٩ - ٨١).

٥٤٧

وكان الأصمعي يقول: مروان مولّد(١) ، وليس له علم باللغة. واختلاف الناس في اختيار الشعر بحسب اختلافهم في التنبيه على معانيه؛ وبحسب ما يشترطونه من مذاهبه وطرائقه.

فسئلت عند ذلك أن أذكر مختار ما وقع إلي من شعره وأنبه على سرقاته ونظائر شعره، وأن أملي ذلك في خلال المجالس وأثنائها.

فمما يختار من شعره قوله من قصيدة يمدح بها المهدي أولها:

أعادك من ذكر الأحبّة عائد!

أجل، واستخفّتك الرسوم البوائد

يقول فيها:

تذكّرت من تهوى فأبكاك ذكره

فلا الذّكر منسي ولا الدّمع جامد

تحنّ ويأبى أن يساعدك الهوى

وللموت خير من هوى لا يساعد

ألا طالما أنهيت دمعك طائعا

وجارت عليك الآنسات النّواهد

تذكّرنا أبصارها مقل المها

واعناقها أدم الظّباء العواقد(٢)

تساقط منهنّ الأحاديث غضّة

تساقط درّ أسلمته المعاقد

إليك أمير المؤمنين تجاذبت

بنا اللّيل خوص كالقسي شوارد

يمانية ينأى القريب محلّة

بهنّ، ويدنو الشاحط المتباعد

تجلّى السّرى عنها، وللعيس أعين

سوام وأعناق إليك قواصد

إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى

بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد

____________________

(١) ف: (المولدون الذين بعد المخضرين) وفي حاشية الأصل (من نسخة): (مولد) بكسر اللام؛ أي يولد الكلام.

(٢) العاقد: هو الظبي الّذي عطف عنقه إلى ناحية عجزه؛ وقيل إن الصغائر تفعل ذلك كثيرا؛ قال ساعدة:

وكأنّما وافاك يوم لقيتها

من وحش وجرة عاقد متربّب

ولا يبعد أن يكون العواقد اللائي يأوين إلى عقدات الرمل، أو يكون معناه أنها عقدت أعناقها ملتفة إلى أذنابها، وذلك معهود من عادتها.

٥٤٨

له فوق مجد النّاس مجدان منهما

طريف وعادي الجراثيم تالد

وأحواض عزّ حومة الموت دونها

وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد

أيادي بني العبّاس بيض سوابغ

على كلّ قوم باديات عوائد

هم يعدلون السّمك من قبّة الهدى

كما تعدل البيت الحرام القواعد

سواعد عزّ المسلمين، وإنما

تنوء بصولات الأكفّ السّواعد

يكون غرارا نومه من حذاره

على قبّة الإسلام والخلق راقد

كأنّ أمير المؤمنين محمّدا

لرأفته بالنّاس للنّاس والد

أما قوله:

تساقط منهنّ الأحاديث غضّة

تساقط درّ أسلمته المعاقد

فكثير في الشعر، وأظن أن الأصل فيه أبو حيّة النميري في قوله:

إذا هنّ ساقطن الأحاديث للفتى

سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم

وإنما عنى بالمرجان صغار اللؤلؤ، وعلى هذا يتأول قوله تعالى:( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) ؛ [الرحمن: ٢٢].

ومثله قول الآخر:

هي الدّرّ منثورا إذا ما تكلّمت

وكالدّرّ منظوما إذا لم تكلّم

ومثله:

من ثغرها الدّرّ النّظيـ

ـم ولفظها الدّرّ النثير

ونظيره قول البحتري - وأحسن غاية الإحسان:

ولما التقينا والنّقا موعد لنا

تعجّب رائي الدّرّ حسنا ولاقطه

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

٥٤٩

ومثله قول الأخيطل(١) .

خلوت بها وسجف الليل ملقى

وقد أصغت إلى الغرب النّجوم

كأنّ كلامها درّ نثير

ورونق ثغرها درّ نظيم

ولغيره:

تبسّمت فرأيت الدّرّ منتظما

وحدّثت فرأيت الدّرّ منتثرا

ولآخر:

وتحفظ لا من ريبة يحذرونها

ولكنها من أعين النّاس تحفظ

وتلفظ درّا في الحديث إذا جرى

ولم نر درّا قبل ذلك يلفظ

ولبعض من تأخر زمانه من الشعراء وقرب من عصرنا هذا:

أظهرن وصلا إذ رحمن متيّما

وأرين هجرا إذ خشين مراقبا

فنظمن من درّ المباسم جامدا

ونثرن من درّ المدامع ذائبا

قال قدس الله روحه: وليس قول أبي دهبل في صفة الحديث(٢) :

كتساقط الرّطب الجني من ال

أقناء لا نثرا ولا نزرا

من هذا الباب في شيء، لأن جميع ما تقدم هو في وصف الثّغر؛ وهذا في وصف حسن الحديث وأنه متوسّط في القلة والكثرة، لازم للقصد كانتثار الرّطب من الأقناء؛ ويشبه أن يكون أراد أيضا مع ذلك وصفه بالحلاوة والغضاضة لتشبيهه له بالرطب، ثم إنه غضّ طري غير مكرّر ولا معاد؛ لقوله: (الرطب الجني) فتجتمع له أغراض: الوصف بالاقتصاد في القلة والكثرة، ثم وصفه بالحلاوة، ثم الفصاحة، ثم الغضاضة.

____________________

(١) في م: (الأخطل) خطأ؛ وفي حاشية الأصل: (الأهوازي، يقال له برقوقا)؛ وهو محمد بن عبد الله، شاعر مجيد من أهل الأهواز.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (في وصف حسن الحديث والثغر).

٥٥٠

ونظير قول أبي دهبل قول ذي الرمّة:

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر(١)

فأما قول مروان:

إلى ملك تندى إذا يبس الثّرى

بنائل كفّيه الأكفّ الجوامد

فمثل قول أبي حنش النميري في يحيى بن خالد البرمكيّ:

لا تراني مصافحا كفّ يحيى

إنّني إن فعلت أتلفت(٢) مالي

لو يمسّ البخيل راحة يحيى

لسخت نفسه ببذل النّوال

ومثله قول ابن الخياط(٣) المدني في المهدي:

لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى

ولم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي(٤)

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى

أفدت، وأعداني فأتلفت ما عندي

وقد قيل إن هذا الشاعر كأنه مصرّح بالهجاء؛ لأنه زعم أنّ الّذي لمس كفّه لم يفده شيئا بل أعداه جوده، فأتلف ماله، ولم يرد الشاعر إلا المدح؛ ولقوله وجه، وهو أنّ ذوي الغنى هم الذين تستقر الأموال في أيديهم وتلبث تحت أيمانهم؛ ومن أخرج ما يملكه حالا بحال لا يوصف بأنه ذو غنى، فأراد الشاعر أنني لم أفد منه ما بقي في يدي واستقرّ تحت ملكي؛ فلهذا قال: لم أفد ما أفاد ذرو الغنى.

ومن هذا المعنى قول مسلم:

إلى ملك لو صافح النّاس كلّهم

لما كان حي في البريّة يبخل

ومثله قول العكوّك:

لو لمس النّاس راحتيه

ما بخل النّاس بالعطاء

____________________

(١) ديوانه ٢١٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (أتلف).

(٣) حاشية الأصل: (ابن الخياط، هو عبد الله بن محمد، ويعرف بابن الخياط؛ ذكر ذلك أبو الفرج الأصبهاني رحمه الله) وترجمته في الأغاني ١٨: ٩٤ - ١٠٠.

(٤) الأغاني ١٨: ٩٤.

٥٥١

وأحسن من هذا كلّه وأشبه بالمدح، وأدخل في طريقته قول البحتري:

من شاكر عنّي الخليفة بالذّي

أولاه من طول ومن إحسان(١)

ملأت يداه يدي وشرّد جوده

بخلي، فأفقرني كما أغناني

حتى لقد أفضلت من إفضاله

ورأيت نهج الجود حيث أراني

ووثقت بالخلف الجميل معجّلا

منه، فأعطيت الّذي أعطاني

ومن هذا قول الآخر:

رأيت الندى في آل عوف خليقة

إذا كان في قوم سواهم تخلّقا

ولو جزت في أبياتهم(٢) لتعلّمت

يداك النّدى منهم فأصبحت مملقا

ولابن الرومي:

يجود البخيل إذا ما رآك

ويسطو الجبان إذا عاينك

فأما قوله:

وأحواض عزّ حومة الموت دونها

وأحواض عرف ليس عنهنّ ذائد

فيشبه أن يكون إبراهيم بن العباس الصولي أخذه في قوله:

لنا إبل كوم يضيق بها الفضا

وتفترّ عنها أرضها وسماؤها(٣)

فمن دونها أن تستباح دماؤنا

ومن دوننا أن تستباح دماؤها

حمى وقرى فالموت دون مرامها

وأيسر خطب عند حقّ فناؤها

وقد أحسن إبراهيم بن العباس في أبياته كل الإحسان.

فأما قوله:

يكون غرارا نومه من حذاره

على قبّة الإسلام والخلق راقد

فكثير متداول، ومن حسنه قول محمد بن عبد الملك الزيات:

____________________

(١) ديوانه ٢: ٢٧٢.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (في أثنائهم).

(٣) ديوانه: ١٥٣، والأغاني ١٠: ٥٩ (طبع دار الكتب المصرية). الكوم: الإبل الضخمة العظيمة السنام؛ الواحد أكوم والأنثى كوماء.

٥٥٢

نعم الخليفة للرّعيّة من إذا

رقدت وطاب لها الكرى لم يرقد

ومثله:

ويظلّ يحفظنا ونحن بغفلة

ويبيت يكلؤنا ونحن نيام

ومثله للبحتري:

أربيعة الفرس اشكري يد منعم

وهب الإساءة للمسيء الجاني(١)

روّعتموا جاراته فبعثتمو

منه حميّة آنف غيران

لم تكر عن قاصي الرّعية عينه

فتنام عن وتر القريب الدّاني

فأما قوله:

كأن أمير المؤمنين محمدا

لرأفته بالناس للناس والد

فنظير قول بعض الشعراء في يحيى بن خالد البرمكي:

أحيا لنا يحيى فعال خالد

فأصبح اليوم كثير الحامد

يسخو بكلّ طارف وتالد

على بعيد غائب وشاهد

الناس في إحسانه كواحد

وهو لهم أجمعهم كالوالد

ومن جيد قول مروان من قصيدة أوّلها:

خلت بعدنا من آل ليلى المصانع

وهاجت لنا الشّوق الدّيار البلاقع

يقول فيها:

ومالي إلى المهدي لو كنت مذنبا

سوى حلمه الضّافي على النّاس شافع

ولا هو عند السّخط منه ولا الرّضا

بغير التي يرضى بها الله واقع(٢)

تغضّ له الطّرف العيون وطرفه

على غيره من خشية الله خاشع

____________________

(١) ديوانه ٢: ٢٧٢. وفي حاشية الأصل: (ربيعة رجل ورث أباه دوابه، فقيل له ربيعة الفرس؛ وسميت القبيلة باسم ربيعة وهي التي تذكر مع مضر).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (ولا هو) وفيها (من نسخة): (قانع).

٥٥٣

أما قوله:

* ولا هو عند السخط منه ولا الرّضا* البيت

فمثل قول أشجع:

ولست بخائف لأبي عليّ

ومن خاف الإله فلن يخافا

ومثله:

أمّنني منه ومن خوفه

خيفته من خشية الباري

ولأبي نواس:

قد كنت خفتك ثمّ أمّنني

من أن أخافك خوفك الله(١)

ويشبه هذا المعنى ما روي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله أنه دعا غلاما مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده على الباب(٢) فقال له: ما حملك على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك، وأمنت عقوبتك، فقال:عليه‌السلام : الحمد للّه الّذي جعلني ممن يأمنه خلقه.

فأما قوله: (تغضّ له الطرف العيون) فيشبه أن يكون مأخوذا من قول الفرزدق، أو ممّن تنسب إليه هذه الأبيات:

يغضي حياء ويغضى من مهابته

فما يكلّم إلاّ حين يبتسم(٣)

____________________

(١) ديوانه ١٠٩؛ من أبيات بعث بها إلى الفضل بن الربيع.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (على باب البيت).

(٣) ينسب هذا البيت مع غيره أيضا للحزين الكناني؛ وانظر ما مر من حواشي ص ٦٨.

٥٥٤

[٤٠]

مجلس آخر [المجلس الأربعون:]

تأويل آية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ؛ [الأنفال: ٢٤].

فقال: ما معنى الحول بين المرء وقلبه؟ وهل يصحّ ما تأوّله قوم من أنّه يحول بين الكافر وبين الإيمان؟ وما معنى قوله:( لِما يُحْيِيكُمْ ) ؟ وكيف تكون الحياة في إجابته؟

الجواب، قلنا: أما قوله تعالى:( يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يريد بذلك أنّه تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بالموت، وهذا حثّ من الله عز وجل على الطاعات والمبادرة بها قبل الفوت وانقطاع التّكليف، وتعذّر ما يسوّف به المكلّف نفسه من التوبة والإقلاع؛ فكأنه تعالى قال: بادروا إلى الاستجابة للّه وللرسول من قبل أن يأتيكم الموت فيحول بينكم وبين الانتفاع بنفوسكم وقلوبكم، ويتعذر عليكم ما تسوّفون به(١) نفوسكم من التوبة بقلوبكم. ويقوّي ذلك قوله تعالى:( وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (٢) .

وثانيها أن يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله وإبطال تمييزه، وإن كان حيّا، وقد يقال لمن فقد عقله وسلب تمييزه: إنّه بغير عقل(٣) ؛ قال الله تعالى:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ) ؛ [ق: ٣٧].

وقال الشاعر:

ولي ألف وجه قد عرفت مكانه

ولكن بلا قلب إلى أين أذهب!

وهذا الوجه يقرب من الأوّل؛ لأنه تعالى أخرج هذا الكلام مخرج الإنذار لهم،

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة) (فيه).

(٢) بقية الآية السابقة

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (بغير قلب).

٥٥٥

والحث لهم(١) على الطاعات قبل فوتها، لأنه لا فرق بين تعذّر التوبة وانقطاع التكليف بالموت وبين تعذّرها بإزالة العقل.

وثالثها أن يكون المعنى المبالغة في الإخبار عن قربه من عباده وعلمه بما يبطنون ويخفون؛ وأنّ الضمائر المكنونة(٢) له ظاهرة، والخفايا المستورة لعلمه بادية؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:

( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ؛ [ق: ١٦]، ونحن نعلم أنه لم تعالى يرد بذلك قرب المسافة، بل المعنى الّذي ذكرناه.

وإذا كان عزّ وجل هو أعلم بما في قلوبنا منّا، وكان ما نعلمه أيضا يجوز أن ننساه، ونسهو عنه، ونضلّ عن علمه - وكل ذلك لا يجوز عليه - جاز أن يقول: إنه يحول بيننا وبين قلوبنا؛ لأنه معلوم في الشاهد أن كل شيء يحول بين شيئين فهو أقرب إليهما.

ولما أراد تعالى المبالغة في وصف القرب خاطبنا بما نعرف ونألف؛ وإن كان القرب الّذي عناه جلّت عظمته لم يرد به المسافة، والعرب تضع كثيرا لفظة القرب على غير معنى المسافة؛ فيقولون: فلان أقرب إلى قلبي من فلان، وزيد مني قريب، وعمرو منّي بعيد؛ ولا يريدون المسافة.

ورابعها - ما أجاب به بعضهم - من أنّ المؤمنين كانوا يفكّرون في كثرة عدوّهم، وقلة عددهم، فيدخل قلوبهم الخوف، فأعلمهم تعالى أنه يحول بين المرء وقلبه، بأن يبدّله بالخوف الأمن؛ ويبدّل عدوّهم - بظنهم أنهم قادرون عليهم وغالبون لهم - الجبن والخور.

ويمكن في الآية وجه خامس؛ وهو أن يكون المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يدعوه إليه قلبه من القبائح؛ بالأمر والنهي والوعد والوعيد؛ لأنا نعلم أنه تعالى لو لم يكلف العاقل مع ما فيه من الشهوات والنفار لم يكن له عن القبيح مانع؛ ولا عن مواقعته رادع؛ فكأنّ التكليف حائل بينه وبينه؛ من حيث زجر عن فعله، وصرف عن مواقعته؛

____________________

(١) ساقطة من ف.

(٢) حاشية ف (من نسخة): (المكنومة).

٥٥٦

وليس يجب في الحائل أن يكون في كل موضع مما يمتنع معه الفعل؛ لأنا نعلم أن المشير منّا على غيره في أمر كان قد همّ به وعزم على فعله أن يجتنبه. والمنبّه له على أنّ الحظ في الانصراف عنه يصح أن يقال: منعه(١) ، وحال بينه وبين فعله، قال عبيد الله بن قيس الرقيات(٢) :

حال دون الهوى ودو

ن سري اللّيل مصعب

وسياط على أكـ

ـفّ رجال تقلّب

ونحن نعلم أنه لم يحل إلاّ بالتخويف والترهيب دون غيرهما.

فإن قيل: كيف يطابق هذا الوجه صدر الآية؟

قلنا: وجه المطابقة ظاهر، لأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للّه تعالى ولرسوله فيما يدعوان إليه من فعل الطاعات، والامتناع من المقبّحات، وأعلمهم أنه بهذا الدعاء والإنذار وما يجري(٣) مجراهما يحول بين المرء وبين ما تدعوه إليه نفسه من المعاصي؛ ثم إن المآب بعد هذا كلّه إليه والمنقلب إلى ما عنده؛ فيجازي كلاّ باستحقاقه.

فأما قوله تعالى:( إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) ففيه وجوه:

أوّلها أن يريد بذلك الحياة في النعيم(٤) والثواب، لأنّ تلك هي الحياة الطيبة الدائمة التي يؤمن من تغيّرها، ولا يخاف انتقالها، فكأنه تعالى حث على إجابته التي تكسب هذه الحال.

وثانيها أنّه يختص(٥) ذلك بالدعاء إلى الجهاد وقتال العدوّ، فكأنه تعالى أمرهم بالاستجابة للرسولعليه‌السلام فيما يأمرهم به من قتال عدوّهم(٦) ؛ ودفعهم عن حوزة الإسلام

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (منعه منه).

(٢) حاشية الأصل: (كان جده شاعرا يشبب بجماعة من النساء، اسم كل واحدة منهن رقية؛ فأضيف إليهن).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (وما جرى).

(٤) حاشية ف (من نسخة): (النعم).

(٥) ش: (أن يختص).

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف (الأعداء).

٥٥٧

وأعلمهم أنّ ذلك يحييهم من حيث كان فيه قهر للمشركين، وتقليل لعددهم، وفلّ لحدّهم؛ وحسم لأطماعهم، لأنهم متى كثروا وقووا استلانوا جانب المؤمنين؛ وأقدموا عليهم بالقتل وصنوف المكاره؛ فمن هاهنا كانت الاستجابة لهعليه‌السلام في القتال تقتضي الحياة والبقاء؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) ؛ [البقرة: ١٧٩].

وثالثها ما قاله قوم من أنّ كلّ طاعة حياة، ويوصف فاعلها بأنه حي، كما أن المعاصي يوصف فاعلها بأنه ميت، والوجه في ذلك أنّ الطائع لما كان(١) منتفعا بحياته، وكانت تؤديه إلى الثواب الدائم قيل: إن الطاعة حياة؛ ولما كان الكافر العاصي لا ينتفع بحياته؛ من حيث كان مصيره إلى العقاب الدائم كان في حكم الميّت؛ ولهذا يقال لمن كان منغّص(٢) الحياة، غير منتفع بها: فلان بلا عيش ولا حياة، وما جرى مجرى ذلك من حيث لم ينتفع بحياته.

ويمكن في الآية وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالكلام الحياة بالحكم لا في الفعل؛ لأنا قد علمنا أنهعليه‌السلام كان مكلّفا مأمورا بجهاد جميع المشركين المخالفين لملته وقتلهم، وإن كان فيما بعد كلّف ذلك فيمن عدا أهل الذمة على شرطها؛ فكأنه تعالى قال: استجيبوا للرسول ولا تخالفوه، فإنكم إذا خالفتم كنتم في الحكم غير أحياء، من حيث تعبّدعليه‌السلام بقتالكم وقتلكم، فإذا أطعتم كنتم في الحكم أحياء؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:

( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) ؛ [آل عمران: ٩٧]؛ وإنما أراد تعالى أنه يجب أن يكون آمنا؛ وهذا(٣) حكمه، ولم يخبر بأن ذلك لا محالة واقع.

فأما المجبرة فلا شبهة لهم في الآية، ولا متعلّق بها؛ لأنه تعالى لم يقل: إنه يحول بين المرء وبين الإيمان، بل ظاهر الآية يقتضي أنّه يحول بينه وبين أفعاله، وإنما يقتضي ظاهرها أنه يحول بينه وبين قلبه؛ وليس للإيمان ولا للكفر ذكر، ولو كان للآية ظاهر يقتضي

____________________

(١) ش: (إذا كان).

(٢) حاشية ف (من نسخة): (متكدر).

(٣) حاشية ف (من نسخة): (وهكذا حكمه).

٥٥٨

ما ظنوه - وليس لها ذلك - لانصرفنا عنه بأدلة العقل الموجبة أنه تعالى لا يحول بين المرء وبين ما أمره به، وأراده منه، وكلّفه فعله؛ لأن ذلك قبيح، والقبائح عنه منفيّة.

***

[خبر حصن بن حذيفة مع أولاده حين طعنه كرز بن عامر:]

أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن عمرو بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن عوف قال حدثني محمد بن خالد(١) بن عبد الله عن الحجاج السّلمي قال: لما اشتد بحصن ابن حذيفة بن بدر وجعه من طعنة كرز(٢) بن عامر إياه يوم بني عقيل دعا ولده فقال:

إن الموت أهون مما أجد، فأيّكم يطيعني؟ قالوا: كلنا نطيعك؛ فبدأ بأكبرهم فقال: قم فخذ سيفي واطعن به حيث آمرك، ولا تعجّل؛ قال: ياأبتاه: أيقتل المرء(٣) أباه! فأتى على القوم كلّهم، فأجابوه جواب(٤) الأول؛ حتى انتهى إلى عيينة فقال: ياأبتاه، أليس لك فيما تأمرني به راحة، ولي بذلك طاعة؛ وهو هواك؟ قال: بلى، قال: فمرني كيف أصنع، قال:

قم فخذ سيفي فضعه حيث آمرك(٥) ، ولا تعجّل، فقام فأخذ سيفه، ووضعه على قلبه، ثم قال: ياأبتاه، كيف أصنع؟ قال: ألق السيف؛ إنما أردت أن أعلم: أيّكم أمضى لما آمر به؛ فأنت خليفتي ورئيس قومك من بعدي، فقال القوم: إنه(٦) سيقول فيما كان بيتا، فاحضروه(٦) فلما أمسى قال:

ولّوا عيينة من بعدي أموركم

واستيقنوا أنه بعدي لكم حام

إما هلكت فإني قد بنيت لكم

عزّ الحياة بما قدّمت قدّامي

واستوسقوا للتى فيها مروءتكم

قود الجياد، وضرب القوم في إلهام(٧)

____________________

(١) ش: (عمر بن خالد).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (كريز).

(٣) ش: (الرجل).

(٤) ف: (بجواب الأول). حاشية الأصل (من نسخة): (الجواب الأول).

(٥) حاشية الأصل (من نسخة): (كما أمرت به).

(٦ - ٦) م: (إنه سيقول في ذلك شيئا فيما بيننا، فأحضروه).

(٧) استوسقوا: انضموا واجتمعوا، وفي حاشية الأصل: (نصب (قود الجياد)، على تقدير فعل مضمر؛ كأنه قال: أعني قود الجياد).

٥٥٩

والقرب من قومكم - والقرب ينفعكم -

والبعد إن باعدوا، والرّمي للرّامي

ولى حذيفة إذ ولى وخلّفني

يوم الهباة يتيما وسط أيتام

لا أرفع الطّرف ذلاّ عند مهلكة

ألقى العدوّ بوجه خدّه دامي

حتّى اعتقدت لوا قومي فقمت به

ثمّ ارتحلت إلى الجفني بالشام

لما قضى ما قضى من حقّ زائره

عجت المطي إلى النّعمان من عامي

أسمو لما كانت الآباء تطلبه

عند الملوك فطرفي عندهم سامي

والدّهر آخره شبه لأوّله

قوم كقوم وأيّام كأيّام

فابنوا ولا تهدموا فالنّاس كلّهم

من بين بان إلى العليا وهدّام

قال: ثم أصبح ودعا بني بدر، فقال: لوائي ورئاستي لعيينة؛ واسمعوا مني ما أوصيكم به:

لا يتكل آخركم على أولكم؛ فإنما يدرك الآخر(١) ما أدركه الأول؛ وأنكحوا الكف ء(٢) الغريب؛ فإنه عزّ حادث؛ وإذا حضركم أمران فخذوا بخيرهما صدرا؛ فإن كلّ مورد معروف؛ واصحبوا قومكم بأجمل أخلاقكم؛ ولا تخالفوا فيما اجتمعوا عليه؛ فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع؛ وإذا حاربتم فأوقعوا ثم قولوا صدقا؛ فإنه لا خير في الكذب، وصونوا الخيول، فإنها حصون الرجال؛ وأطيلوا الرماح؛ فإنها قرون الخيل؛ وأعزوا(٣) الكبير بالكبير؛ فإني بذلك كنت أغلب الناس، ولا تغزوا إلاّ بالعيون؛ ولا تسرحوا حتى تأمنوا الصباح؛ وأعطوا على حسب المال، وأعجلوا الضيف بالقرى؛ فإن خيره أعجله، واتقوا فضحات البغي، وفلتات المزاح، ولا تجترءوا على الملوك؛ فإن أيديهم أطول من أيديكم؛ واقتلوا كرز بن عامر.

ومات حصن فأخذ عيينة الرّئاسة، وقال:

أطعت أبا عيينة في هواه

فلم تخلج صريمتي الظّنون(٤)

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (الأخير).

(٢) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (الكفي).

(٣) س: (واغزو).

(٤) الصريمة: العزيمة والرأى. وفي حاشية الأصل: (يقال: اختلجته الظنون وتخالجته وخلجته، أي ظن، والشاعر يقول: لم تأخذني الظنون مآخذها إلى طعنه، ولم أظن ظنا).

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672