فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها8%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 289997 / تحميل: 7118
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين، ثمّ كانت عند أبي) (1) .

- عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: (وراثة من رسول الله ومن علي، قال: قلتُ: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم قال: أو ذاك) (2) .

ويُستفاد من مجموع الأحاديث أنّ سيّدنا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد عمل على تدوين كتاب يضمّ مسائل الحلال والحرام ليكون ميراثاً للمسلمين، وأنّه أودعه لدى أوصيائه من بعده؛ لأنّهم ورثة علمه ومراجع المسلمين في قابل الأيّام، وأنّه قام بتربية علي وإعداده لتحمّل هذه المسؤوليّة الخطيرة؛ امتثالاً لأمر الله عزّ وجل، ومن هنا فإنّ هذه الكتب هي ميراث الأئمّة الأطهار عن جدّهم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فكلّ ما يحدّثون به هو في الواقع لا يمثّل آراءهم الخاصّة، بل هو من العلم الذي ورثوه عن صاحب الرسالة صلوات الله عليه.

عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين, وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجل) (3) .

____________________

(1) المصدر السابق: 141.

(2) إثبات الهداة: ج1 ص248.

(3) أصول الكافي: ج1 ص53.

٢٠١

القرآن المصدر الثاني

اقترن ذِكْر أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم، فلا غرو أنْ نرى القرآن في حجورهم يدورون معه حيث دار، فهو نبعهم الصافي ينهلون منه أخلاقهم وعلومهم.

وقد حبا الله الأئمّة بالأُذُن الواعية، فسمعوه ووعَوه، وغاصوا في لُجَجِ بَحْرِهِ، واستخرجوا لآلئ علمه ومكنونات سِرِّه.

- عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ما من أمر يَختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّ وجل، ولكن لا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرجال) (1) .

- وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إذا حدّثْتُكم بشيء فسلوني من كتاب الله.

ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال.

فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟

قال: إنّ الله عزّ وجل يقول: ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) (2) .

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص60.

(2) المصدر السابق.

٢٠٢

- وعن سماعة قال عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) قال: قلت له: أَكُلُّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ أَوَ تقولون فيه؟ قال: (بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه) (1) .

- وعن علي أمير المؤمنين قال: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولنْ ينطق لكم، أُخْبِرُكُم عنه، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحُكْم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتُمُوني عنه لعلّمْتُكم) (2) .

- وعن سلمة بن محرز قال: سمعتُ الباقر (عليه السلام) يقول: (إنّ مِن عِلْم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه، وعلم تغيير الزمان وحدثانه، إذا أراد الله بقوم خيراً أسمعهم، ولو أسمع مَن لم يسمع لولّى مُعْرِضَاً كأنْ لم يسمع، ثمّ أمسك هُنَيْئَة ثم قال: ولو وجدنا أوعية لقلنا والله المستعان) (3) .

- وعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (والله إنّي لأَعْلَمُ كتاب الله من أوّله إلى آخره، كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله عزّ وجل: فيه تبيان كلّ شيء) (4) .

- وعن بريد بن معاوية قال: قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ قال: (إيّانا عنى، وعلي أوّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلَّى الله عليه وآله) (5) .

____________________

(1) المصدر السابق: ص62.

(2) المصدر السابق: ص61.

(3) أصول الكافي: ج1 ص229.

(4) المصدر السابق: ص229 / ينابيع المودّة: ص26.

(5) أصول الكافي: ج1 ص229 / ينابيع المودّة: ص119.

٢٠٣

- وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخَبَر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه) (1) .

- وعن جابر قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (ما ادّعى أحدٌ مِن الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمّة من بعده) (2) .

وفي النتيجة:

فإنّ الأخبار والروايات التي ذكرنا أمثلة منها تشير إلى أنّ الأئمّة الطاهرين كانوا ينهلون علومهم من القرآن الكريم (3) ؛ لأنّه نزل ( تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) . وهم أعلم الناس بعلوم القرآن:

- ناسخه ومنسوخه.

- محكمه ومتشابهه.

- الخاص منه والعام المطلق والمقيّد، ومن أجل هذا تواتر الحديث عن سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمعروف بحديث الثقلين: (إنّي تارك فيكم ما إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِمَا لَنْ تَضِلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لَنْ يَفْتَرِقَا).

لقد كان النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يرمي من وراء ذلك إلى جعل الأئمّة مِن بعده مراجع للمسلمين؛ لأنّهم الامتداد الطبيعي له، وقد اصطفاهم الله لذلك وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وأخيراً نؤكّد مرّة أُخرى - ومن خلال ما ورد من النصوص النبويّة الشريفة - أنّ طاعة الأئمّة واجبةٌ على كلّ المسلمين، وهي تشمل حتّى أولئك الذين لا يعتقدون بإمامتهم؛ لأنّ أقوالهم حجّة على الجميع.

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص61.

(2) المصدر السابق: ص228.

(3) وفي ضوء ذلك نفهم المعنى المنشود من الآية الكريمة حول القرآن الكريم ( لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) ، خاصّةً إذا أَخَذْنا بنظر الاعتبار المعنى الحقيقي لكلمة (المسّ). المترجم.

٢٠٤

عالم الغيب المصدر الثالث

ولا تنحصر علوم الأئمّة بالمصدرَين السابقين فهناك مصدر ثالث يتمثّل بالارتباط بعالم الغيب، فالإلهام والفيض الإلهي لطف من الله سبحانه خصّ به عباده المطهّرين، فالعلم جذوة تتوقّد في أعماق الإمام، تنير له رؤيته وتطلّعه على حقائق العالم، وفي هذا جاءتْ الروايات.

* ومنها:

- عن الإمام موسى بن جعفر قال: (مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماضٍ، وغابر، وحادث، فأمّا الماضي فمفسّر، وأمّا الغابر فمزبور (مكتوب) وأمّا الحادث فقذْف في القلوب ونقْر في الأسماع) (1) .

- عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: (وراثة مِن رسول الله ومِن علي، قال: قلتُ: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم؟ قال: أو ذاك) (2) .

- وعن المفضل بن عمر قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): روينا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: (إنّ علمنا غابر، ومزبور، ونكْت في القلوب، ونقْر في الأسماع، فقال: أمّا الغابر فما تقدّم مِن عِلْمِنَا، وأمّا المزبور فما يأتينا،

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص264.

(2) المصدر السابق.

٢٠٥

وأمّا النكْت في القلوب فإلهام، وأمّا النقْر في الأسماع فأمر الملك) (1) .

- عن صفوان بن يحيى قال: سمعتُ أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (كان جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول: لولا أنّا نزداد لأنفدنا) (2) .

- وعن ذريح المحاربي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يا ذريح لولا أنّا نزداد لأنفدنا) (3) .

- عن زرارة قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لولا أنّا نزداد لأنفذنا.

قال: قلتُ: تزدادون شيئاً لا يعلمه رسول الله؟

قال: أمّا أنّه إذا كان ذلك عُرض على رسول الله ثمّ على الأئمّة، ثمّ انتهى الأمر إلينا) (4) .

- وعن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس يخرج شيء من عند الله حتّى يبدأ برسول الله، ثمّ بأمير المؤمنين، ثمّ بواحد بعد واحد؛ لكيلا يكون آخرنا أعلم مِن أوّلنا) (5) .

- وعن أبي يحيى الصنعائي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: (يا أبا يحيى، إنّ لنا في ليالي الجمعة لشأناً من الشأن.

قال: قلتُ: جُعلتُ فداك وما ذاك الشأن؟

قال: يُؤذَنْ لأرواح الأنبياء الموتى، وأرواح الأوصياء الموتى، وروح الوصيّ الذي بين ظهرانيكم يعرج بها إلى السماء حتّى توافي عرش ربّها، فتطوف به أُسبوعاً وتصلّي عند كلّ قائمة من قوائم العرش ركعتَين، ثمّ تُرَدُّ إلى الأبدان التي كانت فيها فتصبح الأنبياء والأوصياء قد ملئوا سروراً، ويُصبح الوصي

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق: ص254.

(3) المصدر السابق.

(4) أصول الكافي: ج1 ص255.

(5) المصدر السابق.

٢٠٦

الذي بين ظهرانيكم وقد زيد في علمه مثل جَمّ القفير) (1) .

- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ذات يوم وكان لا يُكنِّيني قبل ذلك: (يا أبا عبد الله .

قال: قلتُ لبَّيك.

قال: إنّ لنا في كلّ ليلة جمعة سروراً .

قلتُ: زادك الله وما ذاك؟

قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلَّى الله عليه وآله العرش، ووافى الأئمّة معه ووافينا معهم، فلا تُرَدُّ أرواحنا إلى أبداننا إلاّ بعلم مستفاد ولولا ذلك لأنفدنا) (2) .

- وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث له قال: (وإنّ العبد إذا اختاره الله عزّ وجل لأمور عباده شرح صدرَه لذلك، وأودع قلبَه ينابيعَ الحكمة، وأَلْهَمَهُ العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيَّد، موفَّق مُسَدَّد، قد أَمِنَ من الخطايا والزَلَل والعثار، يخصّه الله بذلك؛ ليكون حجّته على عباده وشاهده على خَلْقه، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (3) .

وأحاديث أُخرى:

- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله: (إنّ سليمان وَرِثَ داود، وإنّ محمّداً وَرِثَ سليمان، وإنّا وَرِثْنَا محمّداً، وإنّ عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور، وتبيان ما في الألواح.

قال: قلتُ: إنّ هذا لهو العلم؟

قال: ليس هذا هو العلم، إنّ العلم الذي يحدث يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة) (4) .

- عن ضريس الكناسي قال: كنتُ عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده أبو

____________________

(1) المصدر السابق: ص253.

(2) المصدر السابق: ص254.

(3) أصول الكافي: ج1 ص202.

(4) المصدر السابق: ص224.

٢٠٧

بصير، فقال أبو عبد الله: (إنّ داود وَرِثَ علم الأنبياء، وإنّ سليمان ورث داود وإنّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله) ورث سليمان، وإنّا ورثنا محمّداً(صلَّى الله عليه وآله) وإنّ عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال أبو بصير: إنّ هذا لهو العلم، فقال: يا أبا محمّد ليس هذا هو العلم، إنّما العلم ما يحدث بالليل والنهار، يوماً بيوم وساعة بساعة) (1) .

- عن محمّد بن مسلم قال: ذكر المحدّث عن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (إنّه يسمع الصوت ولا يرى الشخص.

فقلتُ له: جُعلتُ فداك كيف يعلم أنّه كلام الملك؟

قال: إنّه يعطي السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه كلام الملك) (2) .

- وعن حمران بن أعين عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر: (إنّ عليّاً عليه السلام كان محدَّثاً.

فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ: جئتُكم بعجيبة.

فقالوا: وما هي؟

فقلتُ: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان عليٌّ محدَّثاً.

فقالوا: ما صنعتَ شيئاً، أَلاَ سَأَلْتَهُ مَن كان يُحَدِّثُهُ؟

فرجعتُ إليه فقلتُ: إنّي حدّثتُ أصحابي بما حدّثْتَنِي، فقالوا: ما صنعتَ شيئاً، أَلاَ سألتَهُ مَنْ كان يُحَدِّثُهُ؟

فقال لي: يُحدِّثه مَلَك.

قلتُ: تقول: إنّه نبي؟

قال: فَحَرَّكَ يَدَهُ - هكذا (أي نافياً) - أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كَذِي القرنين، أَوَ مَا بَلَغَكُم أنّه قال: وَفِْيُكم مِثْلُه) (3) .

- وكتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا (عليه السلام) قال: جعلتُ فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟

قال: فكتب أو قال: (الفرق بين الرسول والنبي والإمام: إنّ الرسول الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع

____________________

(1) المصدر السابق: ص225.

(2) المصدر السابق: ص271.

(3) المصدر السابق.

٢٠٨

كلامه، وتنَزَّل عليه الوحي وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم. والنبي: ربّما سمع الكلام، وربّما رأى الشخص ولم يسمع. والإمام: هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص) (1) .

- وعن الأحول قال: سألتُ أبا جعفر(عليه السلام) عن الرسول والنبي والمحدّث قال: (الرسول: الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه ويكلّمه فهذا الرسول، وأمّا النبي: فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان من عند الله بالرسالة، وكان محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حين جمع له النبوّة وجاءتْهُ الرسالة من عند الله يجيئه بها جبريل ويكلّمه بها قبلاً، ومن الأنبياء مَن جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه، من غير أنْ يكون يرى في اليقظة، وأمّا المحدَّث فهو الذي يُحدَّث، ولا يُعايِن ولا يرى في منامه) (2) .

- وعن جماعة بن سعد قال: كان المفضّل عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له المفضّل: جُعلتُ فداك، يفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟

قال: (لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده مِن أنْ يفرض طاعة عبد على العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً) (3) .

وأحاديث أُخرى أيضاً:

- عن أبي حمزة قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لا والله لا يكون عالم جاهلاً أبداً، عالماً بشيء جاهلاً بشيء.

ثمّ قال: الله أجلّ وأعزّ وأكرم مِن أَنْ يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه.

ثمّ قال: لا يُحجب

____________________

(1) أصول الكافي: ج1، ص176.

(2) المصدر السابق.

(3) أصول الكافي: ج1 ص261.

٢٠٩

ذلك عنه) (1) .

- وفي خطبة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) جاء فيها: ولقد كان (سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلّم) يجاور في كلّ سنة بحراء، فأَرَاهُ ولا يراه غيري، ولم يَجمع بيتٌ واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلَّى الله عليه وآله وخديجة وأَنَا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ رِيْح النبوّة، ولقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فقلتُ يا رسول الله ما هذه الرنّة؟

فقال: (هذا الشيطان قد أيس من عبادته. إنّك تَسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بِنَبِي ولكنّك لَوَزِيْرٌ، وإنّك لعلى خير) (2) .

- عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنّا نُزَادُ في الليل والنهار ولولا أنّا نُزَادُ لنفد ما عندنا.

فقال أبو بصير: جُعلتُ فداك مَن يأتيكم؟

قال: إنّ منّا لَمَنْ يُعَايِن معاينة، ومنّا مَن يُنقر في قلبه كيت وكيت، ومنّا مَن يَسمع بإذنه وقعاً كوقع السلسلة في الطست.

قال: قلتُ: جَعلني الله فداك مَن يأتيكم؟

قال: هو خلق أكبر من جبرائيل وميكائيل) (3) .

- عن الباقر (عليه السلام) قال: (كان علي (عليه السلام) يعمل بكتاب الله وسُنّة نبيّه، فإذا ورد عليه الشيء الحادث الذي ليس في الكتاب ولا في السُنّة أَلْهَمَهُ الله الحقّ فيه إلهاماً، وذلك والله من المعضلات) (4) .

- وعن عيسى بن حمزة الثقفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّا

____________________

(1) المصدر السابق: ص262.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 187.

(3) بحار الأنوار: ج26 ص54.

(4) المصدر السابق: ص55.

٢١٠

نسألك أحياناً تتسرّع في الجواب وأحياناً تطرق ثمّ تجيبنا؟

قال: (نعم، إنّه ينكت في آذاننا وقلوبنا، فإذا نكت نطقنا، وإذا أمسك أمسكنا) (1) .

- عن الحسن بن يحيى المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ له: أخبرني عن الإمام إذا سُئل كيف يُجيب؟

فقال: (إلهام وسماع وربّما كان جميعاً) (2) .

- وعن الحارث بن المغيرة قال: قلتُ لأبي عبد الله: هذا العلم الذي يعلمه عالِمكم أَشَيء يُلقَى في قلبه أو ينكت في أُذُنِهِ؟

فسكت حتّى غفل القوم، ثمّ قال: (ذاك وذاك) (3) .

- عن سليمان الديلمي قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقلتُ: جعلتُ فداك سمعتُك وأنت تقول غير مرّة: (لولا أنّا نزاد لأنفدنا).

قال: (أمّا الحلال والحرام فقد والله أنزله الله على نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بكماله، وما يزاد الامام في حلال ولا حرام) (4) .

وهذا غيض من فيض الروايات والأحاديث التي تُشير إلى أنّ الأئمّة من أهل البيت - وبما حَبَاهُم الله من الطهر، وجبلهم عليه من عصمة - كانوا محلاًّ لفيوضات الغيب، يستلهمون الحقائق وتتدفّق في قلوبهم ينابيع الحكمة والكمال والحقيقة.

____________________

(1) المصدر السابق: ص57.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص58.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار: ج26 ص92.

٢١١

الفرق بين الإمام والنبي

* إشكال:

قد يُثار إشكال مفاده: أنّه لا فرق إذن بين الإمام والنبي مادام كلاهما على ارتباط بعالم الغيب، وإذا كان هناك مِن فرق فما هو؟

وما هو موقفنا إزاء الروايات التي تؤكِّد انقطاع الوحي بوفاة سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله)؟

فعن علي (عليه السلام) قال: (أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن، فقضى به الرسل وختم به الوحي) (1) .

وقال في مناسبة أُخرى: (بأبي أنت وأُمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء) (2) .

* الجواب:

هناك من الروايات ما يؤكِّد ظاهرة الإلهام، وأنّه من أشكال الارتباط بالغيب، خصّ الله الأئمّة المعصومين المطهّرين، وهي تؤكّد أيضاً الفوارق بين الإمام والنبي.

____________________

(1) نهج البلاغة: ج2 ص22.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 230.

٢١٢

الفارق الأوّل:

إنّ الروايات والأخبار تؤكّد على أنّ الإمام ليس مشرِّعاً، ومعنى هذا أنّه أخذ الشريعة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فلقد أولى سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً اهتماماً خاصّاً، وراح يعدّه خَلَفَاً من بعده، فعلّمه التنزيل والتأويل وفتح له آفاق المعرفة وفجّر له ينابيع العلم والحكمة.

وإذن، فقد أخذ عليٌّ علومَه عن رسول الله، ثمّ أورثها الأئمّة من بعده، فالأئمّة تابعون لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ ما جاء به من الحلال والحرام؛ ولذا كانوا يقولون: إنّا خزّان علم الرسالة وورثة علوم الوحي، ولقد كان رسول الله يُمْلِي وكان علي يخطّ بيده؛ ليكون ذلك ميراثاً للأئمّة عن صاحب الرسالة (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولذا كانوا أعلم الناس بـ:

- الناسخ والمنسوخ.

- والمحكم والمتشابه.

- والتأويل والتنزيل من آي الذكر الحكيم.

وكانوا يؤكّدون أنّ أحاديثهم إنّما هي أحاديث الآباء والأجداد عن علي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

الفارق الثاني:

بالرغم من أنّ الأحاديث تؤكّد حالة الوحي والإلهام للأئمّة (عليهم السلام)، ولكنّ هذه الحالة تختلف تماماً مع وحي الأنبياء:

فالنبي: مرتبط بالغيب بشكلٍ مباشر وهو يُشاهد الملك ويسمع صوته.

أمّا الإمام: فلا يرى الملك ولكن ما يحدث هو قذف في القلب، وإلقاء في النفس، أو وقع في الأُذُن.

وبتعبير الأئمّة نقر في الأذن ، وبهذه الوسيلة كانوا يطّلعون على عالم الحقائق، ومن هنا فوحي الأئمّة يشبه الوحي لـ (أُم موسى) و (ذي القرنين) وجليس سليمان (عليه السلام).

الفارق الثالث:

إنّ الأنبياء - وكما قلنا - على ارتباط مباشر بعالم الغيب ولم

٢١٣

يكونوا يحتاجون في ذلك إلى أحد، غير أنّ الأئمّة يستندون إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فَعَنْهُ أخذوا علوم الرسالة وأسرار الوحي والنبوّة، وهو الذي فجّر لهم ينابيع العلم والحكمة والمعرفة، فكل ما يفيض عن الإمام هو من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، بل وكلّ ما يُلقى في روعه ويقذف في قلبه وفؤاده يُعرض على النبي أوّلاً ثمّ الإمام.

شواهد:

وهذا ما تؤكّده الأحاديث المرويّة، وهذه أمثلة:

- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنّما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأمّا النبوّة فلا) (1) .

- وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ عليّاً كان محدَّثاً . فقلتُ [الرواي]: فتقول إنّه نبي؟ قال: فحرّك بيده هكذا (نافياً) ثمّ قال: أو كصاحب موسى أو كذي القرنين. أَوَمَا بَلَغَكُم أنّه قال وفيكم مِثْلُه؟) (2) .

- وعن بريد بن معاوية عن أبي جعفر أو أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قلتُ له: ما منزلتكم ومَن تشبهون مِمَّن مضى؟

قال: (صاحب موسى وذو القرنين. كانا عالمين ولم يكونا نبيّين) (3) .

- عن محمّد بن مسلم قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (الأئمّة بمنزلة رسول الله إلاّ أنّهم ليسوا بأنبياء، ولا يحلّ لهم مِن النساء ما يحلّ للنبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأمّا ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله صلَّى الله

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص268.

(2) المصدر السابق: 269.

(3) المصدر السابق.

٢١٤

عليه وآله) (1) .

- عن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقلتُ: جُعلتُ فداك سمعتُك وأنت تقول غير مرّة: (لولا أنّا نُزاد لأنفدنا.

قال: (أمّا الحلال والحرام فقد - والله - أنزله الله على نبيّه بكماله، وما يُزاد الإمام في الحلال والحرام) (2) .

- عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

قال: (هي في علي، والأئمّة جعلهم الله مواضع الأنبياء، غير أنّهم لا يحلّون شيئاً ولا يحرّمونه) (3) .

- عن سدير الصيرفي قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ قوماً يزعمون أنّكم آلهة، يتلون علينا قرآناً: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ) ؟

فقال: يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء وبَرِئَ الله منهم، ما هو على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم.

قال: قلتُ: وعندنا قوم يزعمون أنّكم رسل يقرؤون علينا بذلك قرآناً: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ؟

فقال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء وَبَرِئَ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم.

قال: قلتُ: فما أنتم؟

قال: نحن خزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على مَنْ دون

____________________

(1) المصدر السابق: ص270.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص92.

(3) إثبات الهداة: ج3 ص48.

٢١٥

السماء وفوق الأرض) (1) .

- عن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس شيء يخرج من الله حتّى يبدأ برسول الله صلَّى الله عليه وآله، ثمّ بأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ واحداً بعد واحد؛ لكي لا يكون آخرنا أعلم من أولنا) (2) .

- عن محمّد بن مسلم قال: ذكرتُ المحدَّث عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (إنّه يسمع الصوت ولا يرى.

فقلت: أصلحك الله، كيف يعلم أنّه كلام الملك؟

قال: إنّه يعطى السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه ملك) (3) .

- عن الصادق (عليه السلام) قال: (علّم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً ألف باب يُفتح من كلّ باب ألف باب) (4) .

ومن خلال هذه الأحاديث ينبغي أنْ نفهم أنّ كيفية التعليم تختلف في طريقتها عمّا هو متعارف بين الناس في أخذ العلوم واكتساب المعرفة، وإلاّ كيف يمكن أنْ نتصوّر أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) - وخلال زمن ربّما لم يستغرق ساعة - قد علّم عليّاً ألفَ باب من العلم، ينفتح عن كلّ بابٍ ألفُ باب؟

وإذن، فهناك طرق أخرى ربّما كانت تكوينيّة وهداية باطنيّة، ولعلّها طاقة النبوّة وفيض من الوحي انعكس عن قلب الرسول فأضاء قلب علي خليفته ووصيّه.

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص269.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص92.

(3) المصدر السابق: ص68.

(4) بحار الأنوار: ج26 ص28.

٢١٦

عالم الغيب

عالم الشهادة:

* الغيب:

هو عكس الشهود، وعالم ما وراء الحواس الخمس، فكلّ ما تدركه الحواس يُعَدّ شهوداً، فالمادّة وخواصّها وكلّ ما هو قابل للإدراك من الموادّ ذاتها أو خواصّها وصفاتها تنطوي تحت عالم الشهادة، وهي:

- إمّا مرئيّة تُدرَك بالأبصار.

- أو سمعيّة تُدرَك من خلال الأسماع.

- أو رائحة تُدرَك بحاسّة الشمّ.

- أو لها طعم تُدرَك من خلال حاسّة الذوق.

- أو لَمِْسيّة تُدرَك باللمس، حتّى الطاقة الكهربائيّة والذرّة والجراثيم وغيرها هي الأُخرى تُعَدّ من عالم الشهادة، حتّى وإنْ تعذّرتْ الحواس من الإحاطة بها؛ لأنّها قابلة للرؤية وإنْ تعذّرتْ بسبب صغرها المتناهي، فلو أمكننا صُنْع أجهزة تكبير فائقة لأمكن رؤيتها، وإذن فهي قابلة للرؤية.

ومن هنا فإنّ بعض الموادّ وإنْ تعذّرتْ رؤيتها أو الإحاطة بها من خلال إحدى الحواس، إلاّ أنّها لا تُعَدّ جزءاً من عالم الغيب؛ لأنّ الإنسان مركّب بطريقة محدودة، أي إنّ لحواسّه قابليّات محدودة، ومن المحتمل جدّاً وجود حيوانات تفوق الإنسان في قابليّتها للسمع والرؤية والشمّ.

كما أنّ إدراك آثار تلك الأشياء وصفاتها يجعلها بالتالي ضمن عالم الشهود.

٢١٧

عالم الغيب:

وتنطوي فيه كلّ ما لا تدركه الحواس بذاته أو صفاته من قبيل يوم المعاد والقيامة، الجنّة، الجحيم، الثواب، والجزاء في الآخرة، صفات الله، والملائكة، فكلّ هذه الأشياء وغيرها ممّا لا تُدركه الحواس هو جزء من الغيب.

إنّنا لا يمكننا رؤية الملائكة؛ لأنّها خارجة عن حواسنا، لا لأنّها صغيرة متناهية الصغر، ولا لأنّها شفّافة بَالِغَة الشفافية، بل لأنّها موجودات أسمى من الحواس، وهي خارج إدراكاتنا المحدودة؛ لأنّنا موجودات زمانيّة وهي موجودات خارج الزمان، وإذن، فكلّ الموجودات التي لا يمكن للحواس البشريّة إدراكها هي جزء من عالم الغيب، ولا طريق لإدراكها إلاّ بالعقل وإرشاد من اطّلع على عالم الغيب ومن خلال الإيمان والعقيدة الدينيّة، وما نحصل عليه من معارف وعلوم هو ليس علم حضوري ولا شهودي، وهو من قبيل الإيمان بالجنّة والاعتقاد بالجحيم.

فنحن لا نملك عن عالم الغيب سوى سلسلة من المفاهيم والصور العلميّة التي لا يمكن تصوّرها والإحاطة بها، لا لقصور ذاتي فيها، بل لعجز حواسّنا عن إدراكها، وإذن يمكن القول إنّنا نحن الذين نعيش حالة الغياب عن حقائق العالم وحقيقته.

على أنّ إدراكنا للأجسام وخواصّها يأتي بسبب التناسب بينها وبين حواسنا، وبتعبير آخر بسبب توحّد سنخيَّتها.

فمثلاً:

إنّنا لا ندرك ظاهرة مادّية ما إلاّ في ذات الزمن الذي توجد فيه، فحادثة وقعتْ قبل ألفَي سنة أو بعد ألفَي سنة لا يمكن لحواسّنا إدراكها، كما إنّنا لا ندرك بصريّاً الأشياء التي تقع خارج مدياتالرؤية.

٢١٨

وقد نرى أشياء بعيدة جدّاً باستخدام النواظير المقرِّبة: وهي آلات تعزّز من قدرة الرؤية لدينا؛ أو إنّنا لا نُدرِك وجود الأشياء مع قربها؛ لوجود حواجز بيننا وبينها، وقد يمكننا اختراع آلات معيَّنة من شأنها رفع هذا الحاجز وتجعله عديم التأثير.

والخلاصة: فإنّ مديات الحواس وطبيعة إدراكاتها هي الأُخرى محدودة ومشروطة وخاضعة لدائرة معيَّنة، لا يمكنها أنْ تتجاوزها إلى نطاق مطلق أو بلا قيد أو شرط.

الغيب والشهود:

إنّ الحوادث التي تعدّ غيباً بالنسبة لحواسّنا، هي بالنسبة لخالق العالَم شهادة وحضور؛ ذلك أنّ وجوده لا تحدّه حدود بل هو محيط بما خَلَقَ، خارج عن إطار الزمان؛ لأنّه خالق الزمان والمكان، ولا معنى عنده للماضي والحاضر والمستقبل.

وإذن، فالطوفان الذي أغرق العالم زمن نوح هو بالنسبة لدينا من عالم الغيب، ولكنّه بالنسبة لله حضور وشهود، والحوادث التي ستقع بعد مئة ألف سنة هي غيب بالنسبة لنا وحضور بالنسبة لله، وكذا الجنّة والجحيم.

والخلاصة: فإنّ العلوم التي نكتسبها من خلال الحواس الخمس لا تُعدّ جزءاً من العلم بالغيب، أمّا المعارف التي نحصل عليها خارج إطار الحواس فهي من عالم الغيب.

وبتعبير آخر: إنّ البراهين العقليّة أثبتتْ في محلّها أنّ كل الحوادث والظواهر

٢١٩

في عالم المادّة لا تُفْنَى، وأنّها تحقّق بشكل أكمل في عالم آخر، عالم غير مرئي، عالم هو أسمى من العالم الذي نحيا فيه، وإذنْ، فالإنسان الذي يستخدم حواسّه حتّى يمكنه إدراك ظواهر الأشياء ويجد طريقه إلى عالم الواقع، فإنّ هذا العِلْم لا يُعدّ عِلْمَاً للغيب، أمّا إذا أعمل بصيرته وشاهد الملكوت وحقائق الأشياء، وطوى طريق الباطن ومرحلة الكمال ولم يكن لحواسّه في ذلك من دور، فإنّ عِلْمَاً كهذا هو علم للغيب.

الغيب والشهادة في القرآن:

* استخدم القرآن مصطلح الغيب في مقابل الشهادة كما في قوله تعالى:

- ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) (1) .

- ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ) (2) .

- ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) .

- ( عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) (4) .

* كما أشار إلى مرتبتَين وجوديَّتَين، حيث مرحلة الباطن هي الغيب، وهو من مختصّات الله سبحانه:

- ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (5) .

- ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (6) .

____________________

(1) الأنعام: الآية 73.

(2) الرعد: الآية 9.

(3) الجمعة: الآية 8.

(4) الزمر: الآية 46.

(5) هود: الآية 123.

(6) الحجرات: الآية 18.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وقد حاول الجمهور والسلطة الجري على ذلك حتى بعد تدوين السُنّة، وظهور طبقة الفقهاء والمحدّثين كما يظهر ممّا تقدّم من حديث عروة بن الزبير المعدود من فقهاء المدينة السبعة، وحديث عبد الله بن عمير الليثي مع الإمام أبي جعفر الباقر (صلوات الله عليه).

موقف عمر بن عبد العزيز

وقد سبق في كتاب عمر بن عبد العزيز الأمر بكتابة السُنّة الماضية(١) .

والظاهر أنّ المراد بها ما يعمّ سُنّة الشيخين كما يناسبه قوله في خطبة له في خلافته: ألا إنّ ما سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه(٢) .

وهو بذلك يجري على ما جرى عليه عبد الرحمن بن عوف حين أخذ اتّباع سيرتهما شرطاً في بيعة الخليفة، كالعمل بكتاب الله تعالى وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وما جرى عليه عثمان لما أتمّ الصلاة بمنى، حيث ورد أنّه خطب فقال: إنّ السُنّة سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسُنّة صاحبيه. ولكنّه حدث العام من الناس فخفت أن يستنّوا(٣) .

بل في كلام لعمر بن عبد العزيز آخر: سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوّة على

____________________

١ - تقدّم في/٣٩٤.

٢ - تاريخ دمشق ١١/٣٨٥ في ترجمة حاجب بن خليفة، واللفظ له، كنز العمال ١/٣٧٠ ح ١٦٢٤، تاريخ الخلفاء/٢٤١ في ترجمة عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه).

٣ - السنن الكبرى - للبيهقي ٣/١٤٤ كتاب الصلاة، جماع أبواب صلاة المسافر والجمع في السفر، باب مَنْ ترك القصر في السفر غير رغبة عن السُنّة، واللفظ له، معرفة السنن والآثار ٢/٤٢٩، كنز العمال ٨/٢٣٤ ح ٢٢٧٠١، تاريخ دمشق ٣٩/٢٥٥ في ترجمة عثمان بن عفان، وغيرها من المصادر.

٤٠١

دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر فيما خالفها. مَنْ اقتدى بها مهتدٍ، ومَنْ استنصر بها منصور، ومَنْ خالفها اتّبع غير سبيل المؤمنين، وولّاه الله ما تولّى، وصلاه جهنم وساءت مصيراً(١) . ومقتضاه إمضاء سُنّة عثمان أيضاً.

كما جرى على ذلك معاوية؛ فإنّه لما حجّ صلّى الظهر ركعتين، ولما دخل فسطاطه عتب عليه الأمويون؛ لأنّه خالف سُنّة عثمان فخرج فصلّى العصر أربعاً(٢) .

إلاّ إنّه يبدو شعور عمر بن عبد العزيز بعد ذلك بعدم إمكان فرض سُنّة عثمان على المسلمين؛ بسبب تحرّر فقههم من سيطرة السلطة، فتراجع عن ذلك وأرجأه - كما في خطبته السابقة - واقتصر على سُنّة الشيخين؛ لما لهما من المكانة في نفوس الجمهور.

التغلّب أخيراً على عقدة سيرة الشيخين

لكن يظهر اتضاح الضوابط في الفقه وجميع شؤون الدين بعد ذلك وتبلورها؛ نتيجة الإنكار على الظالمين وتعريتهم، والتأكيد من أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) ومن شيعتهم، بل من الجميع على انحصار المرجعية في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وعدم جواز الأخذ من غيرهما، وأنّ ذلك هو الابتداع المنهي عنه عقلاً وشرعاً.

وقد اضطر ذلك الجمهور أخيراً إلى التراجع عن الموقف المذكور من سُنّة الشيخين، والبناء على انحصار المرجعية في الدين بالكتاب والسُنّة، وأنّه لا بدّ أن

____________________

١ - تفسير ابن أبي حاتم ٤/١٠٦٧، واللفظ له، الدرّ المنثور ٢/٢٢٢، البداية والنهاية ٩/٢٤٢ أحداث سنة إحدى ومئة من الهجرة، جامع بيان العلم وفضله ٢/١٨٧، وغيرها من المصادر.

وقد نسب هذا الكلام إلى مالك أيضاً، كما في سير أعلام النبلاء ٨/٩٨ في ترجمة مالك الإمام.

٢ - تقدّمت مصادره في/٢٣٨.

٤٠٢

يكون منهما الانطلاق لتحديد الأدلّة في أحكام الدين وشؤونه.

نعم، تحوّل الخلاف بعد ذلك إلى الخلاف في الضوابط والأدلّة التي يدلّ الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة على حجّيتها في أمور الدين؛ ولذلك الأثر الكبير في اختلاف المسلمين، وظهور الفرق والمذاهب فيهم.

إلاّ إنّه ليس بتلك الأهمية بعد الاتفاق على انحصار المرجعية في الكتاب والسُنّة؛ لأنّ طالب الحقّ يبقى حرّاً في الاختيار على ضوء هذين المرجعين العظيمين. وهو كافٍ في قيام الحجّة على الدين الحقّ ووضوح معالمه، كما تكفّل الله (عزّ وجلّ) بذلك. ولا يضرّه بعد ذلك التكلّف والتعصّب ضدّ الحقّ وأهله.

موقف الجمهور أخيراً من سُنّة الشيخين

أمّا موقف الجمهور من سيرة الشيخين فقد انحصر بين أمرين:

الأوّل : ترك بعض سُنّنهم، كما حصل في متعة الحجّ التي حرمها عمر وغيره.

الثاني : دعوى دعم الكتاب أو السُنّة لما سنّاه، كما حصل في متعة النساء وغيره، في كلام طويل وتفاصيل كثيرة لا يهمّنا التعرّض له.

وهي ترجع إمّا لوجود روايات في ذلك تضمّنتها كتبهم، وإمّا لحسن الظنّ بهما وتنزيههما عن الابتداع في الدين، وأنّهما لا يرضيان بذلك، بل لا بدّ أن يكونا قد اطّلعا على دليل لم يصل إلينا.

فعن ابن حزم في التعقيب على ما تقدّم من كلام عروة بن الزبير مع ابن عباس: إنّها لعظيمة ما رضي بها قطّ أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما)(١) .

وقال الذهبي في الدفاع عن عروة: قلت: ما قصد عروة معارضة

____________________

١ - تذكرة الحفاظ ٣/٨٣٧ في ترجمة محمد بن عبد الملك بن أيمن.

٤٠٣

النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم، بل رأى أنّهما ما نهيا عن المتعة إلّا وقد اطّلعا على ناسخ(١) .

وهذا منهم وإن ابتنى في كثير من الموارد على التمحّل غير المقبول، إلّا إنّه فتح عظيم للدين حيث يستبطن الاعتراف بانحصار المرجع فيه بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وبذلك تتمّ الحجّة، والتمحّل لا ينفع صاحبه، ولا يكون عذراً له مع الله (عزّ وجلّ). كما لا يقبله المنصف من الناس.

وبذلك اتّضحت معالم الدين، وتجلّت ضوابط الحقّ من الباطل بنحو يتيسّر لطالب الحقّ الوصول إليه؛ لظهور حجّته، ويكون حائلاً دون تحريف الدين وضياعه كما حصل في الأديان السابقة.

كلّ ذلك بجهود أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وفي قمّتها نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) التي انتهت بفاجعة الطفّ الدامية التي هزّت ضمير المسلمين، ونبّهتهم من غفلتهم، وغيّرت وجهتهم، وارتفعت بسببها أصوات الإنكار على الظالمين، وحفّزت على نقد مواقفهم وسلوكهم وتعريتهم بنحو قضى على مشروعهم في استغفال المسلمين، وتدويل الدين والتحكّم فيه، ممّا يؤدّي إلى ضياع معالمه على طالبيه.

فجزى الله الإمام الحسين (صلوات الله عليه) عن الإسلام والمسلمين خير جزاء المحسنين، والسّلام عليه وعلى المستشهدين معه ورحمة الله وبركاته.

____________________

١ - سير أعلام النبلاء ١٥/٢٤٣ في ترجمة ابن أيمن.

٤٠٤

المطلب الثاني

فيما كسبه التشيّع

لأهل البيت (عليهم السّلام) بخصوصيته

ظهر ممّا سبق في المطلب الأوّل بعض مكاسب دعوة التشيّع لأهل البيت (صلوات الله عليهم) نتيجة فاجعة الطفّ.

كما يأتي في المقام الثاني من الفصل الثاني - عند الكلام في العِبَر التي تستخلص من فاجعة الطفّ - أنّها سهلت على الأئمّة من ذرية الحسين (صلوات الله عليهم) إقناع الشيعة بالصبر ومهادنة السلطة من أجل التفرّغ لبناء الكيان الشيعي الثقافي والعملي، وهو مكسب مهم جدّاً.

والمهم هنا التعرّض لمكاسب أُخرى لها أهمية كبرى في قيام كيان التشيّع وقوّته وبقائه، فنقول بعد الاستعانة بالله تعالى:

من الظاهر أنّ دعوة التشيّع تعتمد من يومها الأوّل:

أوّلاً : على الاستدلال والمنطق السليم والحجّة الواضحة كما ذكرناه آنفاً، ويظهر للناظر في محاورات الشيعة وحجاجهم مع الآخرين ممّا تناقلته الناس وسُطّر في الزبر.

وثانياً : على العاطفة؛ لِما لأهل البيت (صلوات الله عليهم) من مكانة سامية في نفوس عامّة المسلمين، وكثير من غيرهم، ولِما وقع عليهم (عليهم السّلام) من الظلم والأذى، وتجرّعوه من الغصص والمصائب. حيث يوجب ذلك بمجموعه

٤٠٥

انشداد الناس لهم عاطفياً.

وثالثاً : على الإعلام والإعلان عن دعوة التشيّع ونشر ثقافته، وإظهار حججه، وإسماع صوته لأتباع الدعوة من أجل تثقيفهم وتعريفهم بدينهم، وللآخرين من أجل إقناعهم، وإقامة الحجّة عليهم.

وقد جاءت فاجعة الطفّ الدامية - بأبعادها المتقدّمة، وتداعياتها المتلاحقة -؛ لتدعم هذه الدعوة الشريفة في الجوانب الثلاثة.

وبيان ذلك يكون في مقامات ثلاثة:

٤٠٦

المقام الأوّل

في مكسب التشيّع من حيثية الاستدلال

سبق في المطلب الأوّل أنّ فاجعة الطفّ قد هزّت ضمير المسلمين، ونبّهتهم من غفلتهم، وانتهت بهم إلى الالتزام بانحصار المرجعية في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة.

ومن الظاهر أنّ ذلك كما يكون مكسباً للإسلام بكيانه العام، كذلك هو مكسب جوهري للتشيّع بالمعنى الأخص، وهو الذي يبتني على أنّ الخلافة والإمامة بالنصّ، وأنّ الأئمّة اثنا عشر.

اعتماد التشيّع بالدرجة الأولى على الكتاب والسُنّة

وذلك لاعتماد التشيّع المذكور بالدرجة الأولى على الكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وخصوصاً السُنّة التي حاولت السلطة في الصدر الأوّل تغييبه، والتحجير عليه، والمنع من روايتها إلّا في حدود مصلحته كما سبق.

ومن الطريف جدّاً أنّ العناية الإلهية حفظت لهذا التشيّع ما يكفي في الاستدلال عليه والردّ على خصومه من الكتاب المجيد وأحاديث الجمهور ورواياتهم، ومن التاريخ الذي ثبتوه بأنفسهم بحيث لو تجرّد الباحث عن التراكمات والموروثات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونظر في تلك الأحاديث ووقائع التاريخ بموضوعية تامّة لاتضحت له معالم الحقّ، وبخع لدعوة التشيّع،

٤٠٧

ولزم خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم).

وقد تقدّم في أوائل المقام الثاني عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) أنّ طالب الحقّ أسرع إلى هذا الأمر من الطير إلى وكره(١) .

وقد حاول أهل العلم من خصوم التشيّع تجاهل تلك الآيات والأحاديث، وعدم التركيز عليه، أو الجواب عنها بوجوه ظاهرة التكلّف والتعسّف بنحو لا يخفى على طالب الحقّ وعلى المنصف.

انحصار المرجعية في الدين بالكتاب والسُنّة انتصار للتشيّع

وعلى كلّ حال فقد اتّضحت معالم الدين، وكانت الغلبة منطقياً للتشيّع بعد أن تمّ تسالم المسلمين بعد فاجعة الطفّ، وما تبعها من تداعيات - كما سبق - على انحصار المرجع في الدين بالكتاب المجيد والسُنّة الشريفة، وأنّه لا يحق لأي شخص أن يخرج عنهما، أو يتحكّم في الدين من دون أن يرجع لهما، وأنّ الخروج عنهما جريمة تطعن في شخص الخارج مهما كان شأنه.

الطرق الملتوية التي سلكها خصوم التشيّع لتضييع هذا الانتصار

ولذا اضطر خصوم التشيّع على طول الخطّ وحتى يومنا الحاضر لمقاومته، والمنع من امتداده في عمق المجتمع المسلم بطرق:

أوّلها : القمع والتنكيل بالشيعة بمختلف الوجوه وبدون حدود؛ لئلا يتسنّى لهم إسماع دعوتهم، والاستدلال عليها.

ثانيها : تشويه صورتهم، وافتراء كثير من الأمور المستنكرة عليهم، بل كثيراً ما انتهى بهم الأمر إلى تكفير الشيعة وإخراجهم من الإسلام.

____________________

١ - تقدّم في/٣١٩.

٤٠٨

كلّ ذلك من أجل تنفير عامّة الجمهور منهم، وإبعادهم عنهم؛ لئلا يتيسّر لهم السماع منهم، والتعرّف على ثقافتهم وعقيدتهم الحقيقية، وعلى أدلّتهم المنطقية عليه.

ثالثها : إبعاد عامّة الجمهور عن كثير من تراث الجمهور أنفسهم، وإغفالهم عمّا يخدم خطّ التشيّع منه، والتركيز على غيره وإشغالهم به، وإن كان دون ما سبق دلالة أو سنداً.

رابعها : محاولة إبعاد عامّة الجمهور أيضاً عن البحث في الأمور العقائدية، وحملهم على التمسّك بما عندهم على أنّها مسلمات لا تقبل البحث والنظر.

خامسها: إغفال التراث والفكر الشيعي في مقام البحث والنظر، وإبعادهما عن متناول الجمهور، بل حتى عن الباحثين منهم.

وقد بلغنا أنّ بعض المكتبات المهمّة في عصرنا تمتنع من عرض الكتب الشيعية وإن كانت قد تعرض كتباً تتضمّن أفكاراً تتناقض مع الدين والأخلاق.

وقد جروا في ذلك على سيرة أسلافهم.

قال ابن خلدون: وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها، وفقه انفردوا به، وبنوه على مذهبهم في تناول بعض الصحابة بالقدح، وعلى قولهم بعصمة الأئمّة، ورفع الخلاف عن أقوالهم، وهي كلّها أصول واهية، وشذّ بمثل ذلك الخوارج.

ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم، بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم، ولا نروي كتبهم، ولا أثر لشيء منها إلّا في مواطنهم؛ فكتب الشيعة في بلادهم، وحيث كانت دولتهم قائمة...(١) .

بل موقفهم من الخوارج دون موقفهم من الشيعة؛ إذ كثيراً ما يتعاطفون

____________________

١ - مقدّمة ابن خلدون ١/٤٤٦ الفصل السابع في علم الفقه وما يتبعه من فرائض.

٤٠٩

معهم، ويتواصلون مع رجالهم وتراثهم كما يظهر بالرجوع للمصادر المعنية بذلك.

ويلحق بذلك تجاهل أئمّة الشيعة (صلوات الله عليهم) وجميع رموز التشيّع وأعلامه، أو التخفيف من شأنهم مع ما لهم من الأثر الحميد في الإسلام، والموقع المتميز في المسلمين، وتسالمهم على رفعة مقامهم.

سادسها: التحذير من الاحتكاك بالشيعة والتحدّث معهم في الأمور العقائدية، وفتح باب الجدل والاحتجاج معهم... إلى غير ذلك ممّا يدلّ على شعور الجمهور بأصالة الفكر الشيعي وقوّة حجّته.

ولذا كان التشيّع في غنى عن نظير ذلك مع بقيّة فرق المسلمين، بل يؤكّد الشيعة على لزوم البحث والنظر في الدين بموضوعية كاملة، كما ينتشر تراث الجمهور بينهم على ما تعرّضنا له في جواب السؤال الأوّل من الجزء الأوّل من كتابنا (في رحاب العقيدة).

رفض الإمام الحسين (عليه السّلام) نظام الجمهور في الخلافة

وفي ختام الحديث عمّا كسبه التشيّع من فاجعة الطفّ من حيثية الاستدلال والبرهان يحسن التنبيه لأمر له أهميته في ذلك.

وهو إنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بما له من مقام رفيع عند جمهور المسلمين قد خرج على نظام الخلافة عند الجمهور.

وإذا كان الجمهور قد تجاهلوا تلكؤ أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) عن بيعة أبي بكر، بل إنكاره عليه، وحاولوا تكلّف توجيه موقفه (عليه السّلام) بما ينسجم مع شرعيتها وشرعية النظام المذكور.

وتجاهلوا أيضاً موقف الصديقة فاطمة الزهراء سيّدة النساء (صلوات الله عليه) حيث ماتت مهاجرة لأبي بكر، غير معترفة بخلافته مع ما هو المعلوم من

٤١٠

وجوب معرفة الإمام والبيعة له، وأنّ مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه ولم يبايعه ويقرّ له بالطاعة مات ميتة جاهلية.

فمن الظاهر أنّه لا يسعهم تجاهل موقف الإمام الحسين (صلوات الله عليه) من بيعة يزيد ورفضه لها وخروجه عليه، وإصراره على موقفه حتى انتهى الأمر بفاجعة الطفّ بأبعادها وتداعياتها السابقة.

وحينئذٍ يدور الأمر عقلياً بين الالتزام بعدم شرعية بيعة يزيد؛ لعدم شرعية النظام الذي ابتنت عليه، وهو السبق للبيعة ولو بالقوّة كما عليه الجمهور، ويرفضه الشيعة جملة وتفصيلاً، أو الالتزام بعدم شرعية خروج الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وكونه باغياً، يجوز، بل يجب قتاله كما جرى عليه يزيد ومَنْ هو على خطّه من المغرقين في النصب.

وليس بعد هذين الوجهين إلّا الحيرة والتذبذب، أو الهرب من الحساب كما قد يبدو من عامّة الجمهور، وكفى بهذا مكسباً للتشيّع ببركة فاجعة الطفّ، ويأتي في المقام الثاني ما يتعلّق بذلك وينفع فيه.

٤١١

المقام الثاني

في الجانب العاطفي

وقد خدمت واقعة الطفّ دعوة التشيّع في هذا الجانب من جهتين:

نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) شيعية الاتجاه

الجهة الأولى: إنّ الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وإن رفع شعار الإصلاح في أُمّة الإسلام، إلّا إنّه رفعه بلواء التشيّع، فهو:

أوّلاً: يقول في وصيته لأخيه محمد بن الحنفية حينما أراد الخروج من المدينة: «... وإنّي لم أخرج أشرّاً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم. أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب...»(١) .

____________________

١ - العوالم/١٧٩، واللفظ له، بحار الأنوار ٤٤/٣٢٩ - ٣٣٠، مناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب ٣/٢٤١ فصل في مقتله (عليه السّلام)، لكن ذكره على أنّه كلام للإمام الحسين (عليه السّلام) خاطب به محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس لما أشارا عليه بترك الخروج للعراق.

ومن الطريف أنّ ابن أعثم روى الكتاب هكذا:...أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي محمد، وسيرة أبي علي بن أبي طالب، وسيرة الخلفاء الراشدين.... الفتوح - لابن أعثم ٥/٢٣ ذكر وصية الحسين (رضي الله عنه) لأخيه محمد بن الحنفية (رضي الله عنه)، وتبعه في ذلك الخوارزمي في مقتله ١/١٨٩.

هذا ولا ينبغي الإشكال في كون هذه الزيادة موضوعة: =

٤١٢

____________________

= أوّلاً: لأنّ إطلاق عنوان (الخلفاء الراشدين) على الأوّلين لم يعرف في عصور الإسلام الأولى، وإنّما حدث بعد ذلك في عصر العباسيين.

وثانياً: لأنّ ذلك لا يتناسب مع رفض أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لاشتراط عبد الرحمن بن عوف في بيعة الشورى الالتزام بسيرة أبي بكر وعمر.

وثالثاً: لأنّ ذلك لا يتناسب مع كون أنصار الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذين دعوه واستجاب لهم هم شيعته من أهل الكوفة، وموقفهم ممّن تقدّم على أمير المؤمنين (عليه السّلام) معلوم، ولاسيما عثمان حيث إنّ سيرته أثارتهم فيمَنْ ثار عليه.

وهذا حجر بن عدي من أعيان الشيعة في الكوفة ورد في شهادة الشهود في تجريمه: وزعم أنّ هذا الأمر لا يصلح إلّا في آل أبي طالب. الكامل في التاريخ ٣/٤٨٣ ذكر مقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وأصحابهما.

ولمّا قدم عبد الله بن مطيع الكوفة والياً من قبل عبد الله بن الزبير خطب الناس، فقال في جملة ما قال: وأمرني بجباية فيئكم، وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلّا برضى منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين....

فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما أمر ابن الزبير إيّاك أن لا تحمل فضل فيئنا عنّا إلّا برضانا فإنّا نشهدك أنّا لا نرضى... وأن لا يسار فينا إلّا بسيرة علي بن أبي طالب...، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا، ولا في أنفسنا؛ فإنّها إنّما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا، وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرّاً....

فقال يزيد بن أنس: صدق السائب بن مالك وبر. رأينا مثل رأيه وقولنا مثل قوله. تاريخ الطبري ٤/٤٩٠ أحداث سنة ست وستين من الهجرة، واللفظ له، الكامل في التاريخ ٤/٢١٣ أحداث سنة ست وستين من الهجرة، ذكر وثوب المختار بالكوفة، ولكنّه بتر كلام يزيد بن أنس، البداية والنهاية ٨/٢٩٠ - ٢٩١ أحداث سنة ست وستين من الهجرة، ولكنّه أجمل الرواية مع بعض التصرّف فيه، نهاية الأرب في فنون الأدب ٢١/٦ - ٧ ذكر وثوب المختار في الكوفة، جمهرة خطب العرب ٢/٦٨ - ٦٩ خطبة عبد الله بن مطيع العدوي حين قدم الكوفة.

وقريب منه في الفتوح - لابن أعثم ٥/٢٤٩ ابتداء خروج المختار بن أبي عبيد وما كان منه، وأنساب الأشراف ٦/٣٨٣ في أمر المختار بن أبي عبيد الثقفي وقصصه، وغيرهما من المصادر. =

٤١٣

وهو (عليه السّلام) بذلك يشير إلى أنّ السيرة الرشيدة التي ينبغي اتّباعها والتمسّك بها هي سيرة النبي وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما)، دون سيرة غيرهما ممَنْ استولى على السلطة.

____________________

= ورابعاً: لأنّ المعركة في الطفّ قد تضمّنت ما لا يناسب ذلك؛ ففي حديث عفيف بن زهير - وكان ممّنْ شهد المعركة - قال: وخرج يزيد بن معقل... فقال: يا برير بن خضير كيف ترى صنع الله بك؟

قال: صنع الله - والله - بي خيراً، وصنع الله بك شرّاً.

قال: كذبت، وقبل اليوم ما كنت كذّاباً. هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إنّ عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالاً مضلاً، وإنّ إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟

فقال له برير: أشهد أنّ هذا رأيي وقولي.

فقال له يزيد بن معقل: فإنّي أشهد أنّك من الضالين.

فقال له برير بن خضير: هل لك؟ فلأباهلك، ولندع الله أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المبطل، ثمّ اخرج فلأبارزك؟

قال: فخرج، فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل، ثمّ برز كلّ واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً، وضربه برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ؛ فخرّ كأنّما هوى من حالق وإنّ سيف برير بن خضير لثابت في رأسه. فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه.... تاريخ الطبري ٤/٣٢٨ - ٣٢٩ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.

وفي حديث هانئ بن عروة أنّ نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهو يقول: أنّا الجملي، أنّا على دين علي.

قال: فخرج إليه رجل يُقال له: مزاحم بن حريث، فقال: أنّا على دين عثمان.

فقال له: أنت على دين شيطان. ثمّ حمل عليه فقتله. تاريخ الطبري ٤/٣٣١ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، واللفظ له، مقتل الحسين - للخوارزمي ٢/٥، وقد ذكر ابن كثير كلام نافع من غير أن يذكر تتمة الرواية، راجع البداية والنهاية ٨/١٩٩ في أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة.

ومن الظاهر أنّ ذلك بمرأى ومسمع من الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وما كانا ليخالفانه في الرأي، فكيف يصدق عليه (عليه السّلام) مع ذلك أن يلتزم بسيرة الخلفاء وفيهم عثمان؟!... إلى غير ذلك ممّا يشهد بافتعال هذه الزيادة على سيّد الشهداء (صلوات الله عليه).

٤١٤

وثانياً : يقول في كتابه إلى رؤساء الأخماس بالبصرة: «أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه الله إليه وقد نصح لعباده، وبلغ ما أرسل به صلى الله عليه وآله وسلم، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحق علينا ممّنْ تولاه...»(١) .

وقد أكّدت ذلك العقيلة زينب الكبرى (عليها السّلام) في خطبتها الجليلة في مجلس يزيد التي هي في الحقيقة من جملة أحداث نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) وواجهاتها المضيئة.

حيث قالت (عليها السّلام) منكرة على يزيد:

فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً؛ حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً...(٢) . فإنّ كلامها هذا صريح في أنّ الخلافة حقّ لأهل البيت (عليهم السّلام)، وأنّ السلطان الإسلامي لهم.

وثالثاً : قد استجاب لشيعته في الكوفة، ومن المعلوم من مذهبهم أنّ الخلافة حقّ لأهل البيت (صلوات الله عليهم)... إلى غير ذلك ممّا يجده الناظر في تاريخ نهضته الشريفة من الشواهد الدالة على أنّها تبتني على استحقاق أهل البيت (عليهم السّلام) لهذا المنصب الرفيع.

____________________

١ - تاريخ الطبري ٤/٢٦٦ أحداث سنة ستين من الهجرة، ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين (عليه السّلام) للمصير إلى ما قبلهم، وأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)، واللفظ له، البداية والنهاية ٨/١٧٠ قصّة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله.

٢ - راجع ملحق رقم (٤).

٤١٥

وهو (عليه أفضل الصلاة والسّلام) بذلك وإن كان قد يخسر تأييد مَنْ يوالي الأوّلين، ويخفّف أو يفقد تعاطفهم معه، إلّا إنّه (صلوات الله عليه) كان يرى أنّ التأكيد على مبادئ أهل البيت ومذهبهم في السلطة، وتبنّيها في نهضته أهم من تكثير المؤيّدين له والمتعاطفين معه.

ولاسيما أنّ هدفه (عليه السّلام) ليس هو الانتصار العسكري كما سبق، بل الإنكار على الظالمين، وسلب الشرعية عنهم، والتضحية من أجل مصلحة الدين، والتذكير بمبادئه؛ حيث يقتضي ذلك منه (عليه السّلام) إيضاح تلك المبادئ والتركيز عليها وعلى حَفَظتها ورُعاتها؛ خدمة لها.

فوز التشيّع بشرف التضحية في أعظم ملحمة دينية

وبذلك كسب التشيّع شرف التضحية في أعظم ملحمة دينية وحركة إصلاحية في الإسلام، بل في جميع الأديان السماوية كما يظهر من النصوص، ويشهد به التأمّل والاعتبار؛ حيث كان لها أعظم الأثر في بقاء معالم الإسلام ووضوح حجّته، وهو خاتم الأديان وأشرفها.

وقد تضمّخ بتلك الدماء الزكية، وصار رمزاً للشهادة والفناء في سبيل الله (عزّ وجلّ)، وفي سبيل دينه القويم وتعاليمه السامية، وعنواناً للإنكار على الظالمين، والصرخة في وجوههم بنحو يوجب المزيد من الشدّ العاطفي نحوه، والتجاوب معه؛ ولذلك أعظم الأثر في قوّة التشيّع.

بل هي نقطة تحوّل فيه؛ حيث صار له بسببها من المخزون العاطفي ما يمدّه بالقوّة على مرّ الزمن، وشدّة المحن.

فهو يزيد الشيعة إيماناً بقضيتهم، وإصراراً على مواقفهم وثباتاً عليه، ويهوّن عليهم الاضطهاد والفجائع التي تنزل بهم مهما عظمت؛ إذ لا

٤١٦

فاجعة أشدّ من فاجعة الطفّ بأبعادها التي سبق التعرّض لها، كما قال الشاعر:

أنست رزيتُكم رزايانا التي

سلفت، وهوّنتِ الرزايا الآتيه

وفجايعُ الأيامِ تبقى مدة

وتزولُ، وهي إلى القيامةِ باقيه

بل جعل الشيعة (رفع الله تعالى شأنهم) يشعرون بالفخر والاعتزاز بما يقع عليهم بسبب تشيّعهم من المصائب والمتاعب، ويرونها أوسمة شرف لهم على مرّ العصور وتعاقب الدهور، فتشدّ عزائمهم، وترفع من معنوياتهم، وتمدّهم بالحيوية والطاقة.

كما تزيدهم ارتباطاً بالله (عزّ وجلّ) وبرسوله الكريم وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، وتذكّرهم بدينهم القويم وتعاليمه السامية، وتحملهم على الرجوع إليها والتمسّك بها.

نقمة الظالمين على الشيعة في إحياء فاجعة الطفّ

ولذا انصبّت نقمة الظالمين - على مرّ التاريخ وحتى عصرنا الحاضر - على الشيعة وممارساتهم، ولاسيما إحياء فاجعة الطفّ؛ سواء بإقامة مجالس العزاء، أم برثاء الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، أم بزيارة قبره وتشييده... إلى غير ذلك من وجوه الإحياء.

حيث يجدون في ذلك إنكاراً من الشيعة عليهم، وصرخة في وجوههم، وتعرية لهم، وتحريضاً عليهم بنحو قد يفقدهم رشدهم في معالجة المواقف، والتعامل معها؛ فيكون ردّ الفعل منهم عليها عنيفاً بنحو يؤكّد ظلامة الشيعة والتشيّع، ويعود في صالحهما على الأمد البعيد.

٤١٧

فاجعة الطفّ زعزعت شرعية نظام الخلافة عند الجمهور

الجهة الثانية: إنّ فاجعة الطفّ بأبعادها السابقة كما هزّت ضمير المسلمين زعزعت شرعية نظام الخلافة عند الجمهور، بما في ذلك خلافة الأوّلين؛ حيث لا يتعقّل المنصف شرعية نظام ينتهي بالإسلام والمسلمين في هذه المدّة القصيرة إلى هذه المأساة الفظيعة والجريمة النكراء، وتداعياتها السريعة.

ولاسيما أنّ هذه الفاجعة - مع فضاعتها في نفسها - قد نبّهت إلى ظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) على طول الخطّ، وإلى جميع سلبيات النظام المذكور، ومآسيه المتتابعة في تاريخ الإسلام والمسلمين، وإلى حجم الخسارة التي تعرّض لها الإسلام نتيجة انحراف السلطة فيه عن أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

فاجعة الطفّ هي العقبة الكؤود أمام نظام الخلافة

وقد أكّد على ذلك أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) في أحاديثهم الكثيرة، وفي الزيارات الواردة عنهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه).

وإذا كان احترام الجمهور للصدر الأوّل، بل تقديسهم له؛ نتيجة العوامل المتقدّمة - ومنها جهود معاوية الحثيثة - قد كان هو العقبة الكؤود أمام دعوى النصّ التي يتبّناها الشيعة كما سبق، فإنّ فاجعة الطفّ صارت هي العقبة الكؤود أمام شرعية نظام الخلافة عند الجمهور، واحترام الصدر الأوّل ممّنْ جرى على ذلك النظام وتقديسهم.

بل قد آذنت بنسف ذلك كلّه بعد أن كان من الناحية الواقعية هشّاً غير محكم الأساس، ولا قوي البرهان.

٤١٨

موقف بعض علماء الجمهور من إحياء الفاجعة

وقد أدرك ذلك كثير من علماء الجمهور حتى قبل ظهور دعوة التكفيريين، الذين جعلوا من الدين حرمة إحياء الذكريات المجيدة في الإسلام، والقيام بمظاهر التمجيد والتقديس لرموزه العظام.

فإنّ الجمهور - مع استهجانهم لفاجعة الطفّ عند الحديث عنها، وتعظيمهم لمقام الإمام الحسين (عليه السّلام) لا يحاولون إحياء ذكرى فاجعة الطفّ بما يتناسب مع مبانيهم، بل لا يطيق كثير منهم النيل من الظالمين والتذكير بجرائمهم.

وقد حاول كثير منهم المنع من إحياء تلك الذكرى الأليمة، والتذكير بظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وما جرى عليهم، والضغط في الاتجاه المذكور بمختلف الوسائل والحجج.

بل منعوا من لعن القائمين بتلك الجريمة النكراء والنيل منهم، وإن كان في جرائمهم ما لا يخصّ الشيعة، كواقعة الحرّة الفظيعة، وهتك حرمة الحرم، وضرب مكة المكرّمة والكعبة المعظّمة بالمنجنيق وغير ذلك.

وقد حاولوا تجاهل ذلك كلّه أو التخفيف منه؛ من أجل حمل المسلمين على نسيان فاجعة الطفّ، وعدم التركيز عليها والاهتمام بها؛ لما للتذكير بها من الآثار السلبية على مبانيهم في نظام الحكم التي تسالموا عليه من دون أن يستندوا إلى ركن وثيق يقف أمام الهزّة العاطفية التي تحدثها هذه الذكرى الأليمة، والحساب المنطقي الذي تنبّه له.

كلام الغزالي

بل انتهى الأمر ببعضهم إلى تحريم التعرّض لهذه الفاجعة وما يتعلّق بها. فعن الغزالي: يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين (رضي الله عنه) وحكاية ما جرى

٤١٩

بين الصحابة من التشاجر والتخاصم؛ فإنّه يهيج بغض الصحابة، والطعن فيهم، وهم أعلام الدين، وما وقع بينهم من المنازعات فيُحمل على محامل صحيحة. فلعلّ ذلك لخطأ في الاجتهاد، لا لطلب الرئاسة أو الدنيا كما لا يخفى(١) .

كلام التفتازاني

وقال سعد الدين التفتازاني: ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات - على الوجه المسطور في كتب التواريخ وعلى السُنّة الثقات - يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد، وطلب الملك والرياسة، والميل إلى اللذات والشهوات؛ إذ ليس كلّ صحابي معصوم، ولا كلّ مَنْ لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخير موسوم.

إلاّ إنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق؛ صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة، سيّما المهاجرين والأنصار المبشرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء؛ إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له مَنْ في الأرض والسماء، وتنهدّ منه الجبال، وتنشقّ الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومرّ الدهور، فلعنة الله على مَنْ باشر، أو رضي أو سعى، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.

____________________

١ - روح البيان - للبروسوي ٨/٢٤ في تفسير آية:٢٥ سورة ص، وهي قوله تعالى:( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ) ، الغرر البهية ٥/٧١ باب البغاة.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672