فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها5%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 290878 / تحميل: 7130
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

تحقيق هدفه عن المبادئ الشريفة، والتعاليم الدينية القويمة بأعذار ومبرّرات ما أنزل الله بها من سلطان، فيكون قد أعطى باليمين ما أخذه باليسار.

بل قد يزيد في الفساد؛ لأنّه إذا فتحت الباب للأعذار والمبرّرات صعب غلقها أو تحجيمها وتحديدها، وكلّما استمر الإنسان على ذلك زاد هو وكلّ مَنْ هو على خطّه جرأة على الخروج عن المبادئ الشريفة والتعاليم السامية حتى يتمحّض مشروعه في الجريمة.

على أنّه ربما يفشل في مشروعه، ويبقى عليه تبعة الخروج في سبيل تحقيق هدفه عن الموازين الدينية والعقلية والأخلاقية.

مع إنّ تبرير الجريمة في نفسه من أجل الغاية من قِبَل الشخصيات ذات الوجود الاجتماعي المحترم موجب لتخفيف حدّة الجريمة في نفوس العامّة، وضعف الرادع الوجداني عنها تدريجاً، فيسهل ارتكابها، وبذلك تضيع معالم الحقّ، وهو من أعظم الجرائم في حق المجتمع.

وما أكثر ما استغلّ المصلحيون والانتهازيون في سبيل تحقيق مصالحهم وأهدافهم الجهنمية تأجيج العواطف ضدّ الفساد، والدعوة للإصلاح؛ من أجل إغفال أتباعهم عن واقعهم المشبوه وسلوكهم المشين، فسار الناس وراءهم متغافلين عن كلّ ما يصدر منهم، ثمّ لم ينتبهوا إلّا بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم. ونسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والسداد.

٤٤١

المقام الثاني

في النتائج

سبق أن أشرنا إلى أنّ تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في السلطة كشفت عن تعذّر إصلاح المجتمع الإسلامي بإقامة حكم يطبّق الإسلام عملياً بنحو كامل.

لكنّ اهتمام شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) والموالين لهم في الكوفة بالإصلاح، ومعاناتهم من الفساد، وشعورهم بالتقصير آنفاً إزاء أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) كلّ ذلك جعلهم يستسهلون الصعاب في سبيل الإصلاح المذكور، وأفقدهم النظرة الموضوعية في الموازنة بين قوى الخير والشرّ، وفي التمييز بين ذوي المبادئ والتصميم حتى النفس الأخير، وغيرهم ممّنْ ينهار إذا جدّ الجدّ وضاقت الأمور، أو يكون انتهازياً في مواقفه من أوّل الأمر.

وقد جعلهم ذلك يترددون على الإمامين الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في عهد معاوية يحاولون حملهما على الخروج عليه، لكنّهما (عليهما السّلام) لم يستجيبا لهم؛ لعدم تحقّق الظرف المناسب على ما يأتي التعرّض له إن شاء الله تعالى.

حتى إذا انتهى عهد معاوية تخيّلوا إمكان تحقيق حلمهم في الإصلاح؛ فاندفعوا في سبيل ذلك، وتحمّلوا مسؤولية تعهّدهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه)، وحملهم له على تلك النهضة المقدّسة، وتبعات تقصيرهم في حقّه، والعدوان الذي حصل عليه وعلى مَنْ معه.

٤٤٢

وإذا كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) قد استجاب لهم من أجل التضحية لصالح الدين - كما أوضحناه فيما سبق - فإنّ ذلك لم يكن هو مشروعهم الذي تحرّكوا من أجله، بل حاولوا إقامة حكم إسلامي أصيل يطبّق الإسلام عملياً بالوجه الكامل.

كشفت فاجعة الطفّ عن تعذّر إصلاح المجتمع بالوجه الكامل

وقد كشفت فاجعة الطفّ أخيراً عن تعذّر ذلك، وأكّدت ما كشفت عنه تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من قبل.

وكلّما امتدّ الزمن كان ذلك أولى بالتعذّر؛ فإنّ ظرف نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يتميّز عمّا بعده من العصور بأمور:

الأوّل : شخص الإمام الحسين (صلوات الله عليه) الذي هو أعرف الناس بحقيقة الإسلام، مع مؤهلاته الشخصية الأخرى من حكمة واستقامة، وقوّة وتصميم، وصلابة موقف... إلى غير ذلك.

مضافاً إلى أنّه خامس أصحاب الكساء (عليهم السلام)، وقد فرض احترامه على عموم المسلمين، وهم يرونه في قرارة نفوسهم الرجل الأوّل فيهم كما سبق.

الثاني : القرب من العهد النبوي؛ حيث يوجد بقيّة من كبار الصحابة والتابعين الذين هم على علم بكثير من الحقائق قد تكون خفيت بعد ذلك.

الثالث : التدهور السريع نتيجة الانحراف، خصوصاً في العهد الأموي الذي تمادى فيه الانحراف لصالح مَنْ يعرف عنهم المسلمون أنّهم أعداء الإسلام، حيث صدمهم ذلك، وعظم وقعه عليهم.

أمّا بعد ذلك فيهون ما استصعبوه أوّلاً؛ إذ كلّما طال الزمن وتعاقبت الأجيال يخفّ وقع الانحراف والتدهور، ويألفه المجتمع حتى يكون جزءاً من

٤٤٣

كيانهم، ولا يستفزّهم.

الرابع : وجود نخبة صالحة قد تعرّفت على الحقيقة الكاملة من عهد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وصمّمت على التضحية في سبيل هذه الحقيقة.

ولا نعني بذلك كلّ مَنْ كتب إلى الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، أو بايع؛ إذ كثير منهم انتهازيون قد قاموا بذلك لتخيّلهم نجاح الإمام (عليه السّلام) في الاستيلاء على السلطة، وكثير منهم همج رعاع ينعقون مع كلّ ناعق.

بل نعني به مَنْ كان مصمّماً على التضحية عن جدّ وإخلاص، وهم كثيرون نسبياً؛ سواء مَنْ ضحى بالفعل، أم مَنْ لم يضحِ؛ إمّا لأنّه منع من الوصول للإمام الحسين (عليه السّلام) لسجن، أو لقطع الطرق وجعل المراصد - كما أشرنا إليه في المقدّمة -، أو لأنّ عزمه قد ضعف عندما جدّ الجدّ، أو عندما يئس من انتصار الإمام الحسين (عليه السّلام) عسكرياً.

ومع كلّ هذه الأمور الأربعة لم يتسنَّ للنهضة الشريفة النجاح العسكري؛ بسبب غشم السلطة، وفساد المجتمع، وتخاذله أمام الغشم المذكور.

كما قال الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في خطبته في الطريق أو حينما نزل كربلاء: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديانون»(١) .

وقد تجاهلت السلطة كلّ الحواجز والمثبّطات، وقامت بهذه الجريمة النكراء بأبعادها المتقدّمة، وتبعها مَنْ تبعها، وكُمّت الأفواه، بين الخوف والأطماع.

وذلك كافٍ لأن يكون عبرة ودليلاً على تعذّر الإصلاح الكامل؛ إذ لا ينتظر وجود قائد أكفأ من الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، ولا وجود أُناس

____________________

١ - تقدّمت مصادره في/٣٦.

٤٤٤

أصلح ممّنْ كان في عصره، ولا تهيؤ ظرف أحسن من ظرفه بحسب الوضع الطبيعي، بل كلّما استمر الزمن زاد الفساد وألِفه الناس.

لا ينبغي الاغترار باندفاعات الناس العاطفية

ولا ينبغي الاغترار بمواقف الناس العاطفية حتى لو صدقت؛ نتيجة اكتوائهم بآلام الفساد وتعطشهم للإصلاح؛ لأنّ ذلك قصير الأمد، ثمّ لا بدّ من التراجع نتيجة العوامل المختلفة من خوف أو رجاء، أو ملل أو وهن أمام المتاعب والعقبات التي تقف في طريق الإصلاح... إلى غير ذلك.

ولو فرض تحقّق فرصة لانتصار المشروع عسكرياً في ظروف استثنائية، فيتعذّر الاحتفاظ به مع الحفاظ على المبادئ، بل لا بدّ إمّا من الإجهاز عليه أخيراً - كما حدث في تجربة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) - أو الانحراف به تدريجاً حتى يُمسخ؛ نتيجة فساد المجتمع، وتكالب قوى الشرّ والطغيان كما حصل في كثير من المحاولات.

ينحصر الأمر بمحاولة الإصلاح النسبي

ومن هنا ينحصر الأمر بالإصلاح النسبي الراجع لتخفيف الفساد؛ إمّا على الصعيد الفردي بالتربية الصالحة، والموعظة الحسنة، والتثقيف الديني السليم، وإمّا على الصعيد الاجتماعي العام بتخفيف نسبة الفساد فيه ولو إلى أمد قصير؛ فإنّ الميسور لا يُترك بالمعسور، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه.

نعم، لا بدّ:

أوّلاً : من إحراز المبرّر الشرعي للتحرّك.

وثانياً : من الموازنة الموضوعية بين الخسائر التي تقع في طريق العمل،

٤٤٥

والفوائد المترتبة عليه بحيث يكون العمل مثمراً ولازماً أو سائغاً.

وذلك يختلف باختلاف الظروف والمقارنات، كما تختلف فيه وفي أساليبه الأنظار والقناعات، ولكلّ وجهة نظره، وهو يتحمّل مسؤولية عمله من دون أن يتحمّل الإسلام سلبيات ذلك، والحساب على الله (عزّ وجلّ).

وثالثاً : من الإصحار بالهدف على حقيقته، وعدم إطلاق الدعاوى العريضة، والمواعيد الكبيرة من أجل جمع الأعوان والتغرير بالناس. كلّ ذلك للحفاظ على سلامة آليّة العمل كما سبق.

وهذه الحقيقة وإن كانت مرّة إلّا إنّها واقع قائم لا مفرّ منه، ويجب الاعتراف به؛ نتيجة النظرة الموضوعية، ثمّ التعامل مع هذا الواقع بحكمة ورويّة، وبعد نظر بعيداً عن النظرة العاطفية، والمواقف الانفعالية.

وقد سبق أنّ ذلك لم يكن يخفى على الإمامين الشهيدين أمير المؤمنين والحسين (صلوات الله عليهما)، وأنّهما لم يقدما على ما أقدما عليه من أجل تحقيق العدل المطلق، وإقامة النظام الإسلامي الأكمل، بل كان هدفهما رضى الله سبحانه وتعالى والقيام بتكليفهما.

وقد ظهر لنا من ثمرات تحرّكهما وجهادهما كبح جماح الانحراف في الدين، وتخفيف الفساد بظهور صوت الحقّ المنكر عليه، وإقامة الحجّة على الحقّ، وإسماع دعوته، وقطع العذر على مَنْ يخرج عنه... إلى آخر ما تقدّم.

مسألة الأئمة المتأخرين عليهم السلام للسلطة

وإذا كان شيعة أهل البيت قبل فاجعة الطفّ لا يستوعبون هذه الحقيقة، ولا يذعنون بتعذّر الإصلاح الكامل وتعديل مسار السلطة في الإسلام؛ لقلّة تجربتهم وشدّة إنكارهم للظلم، وعظيم ما قاسوه منه، واغترارهم بمواقف

٤٤٦

الناس الانفعالية، وبتعهّدهم بالانتصار للحق، وبالثبات على ذلك.

فمن القريب جدّاً أن تكون صدمتهم بفاجعة الطفّ الفظيعة - بأبعادها المأساوية المتقدّمة - وما ظهر من نقض الناس للعهود، وتخاذلهم إذا جدّ الجدّ قد أعادت لكثير منهم رشدهم.

فأخذوا يتقبّلون من الأئمّة من ذريّة الإمام الحسين (صلوات الله عليه وعليهم) إصرارهم على الموقف المسالم للسلطة، والرافض للخروج عليها بالسيف، وإعلانهم (عليهم السّلام) عن أنّ قيام دولة الحقّ إنّما يكون بظهور خاتمهم القائم المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

حتى صار ذلك شعاراً للأئمّة (صلوات الله عليهم)، وعرفه عنهم الجمهور، وتميّزوا به عن غيرهم - من الفاطميين وغيرهم - ممّنْ يدعو للثورة، والكفاح المسلّح ضدّ الظالمين، وإقامة نظام بديل عن نظامهم.

وقد صار ذلك سبباً لتعاطف عامّة الناس معهم (عليهم السّلام)، وشعورهم بمظلوميتهم عند تعرّضهم لضغط السلطة وتنكيلها بعد أن لم يكونوا بصدد منافستها والخروج عليها.

ولاسيما مع ما لهم (صلوات الله عليهم) من الكرامة والاحترام في نفوس المسلمين عامّة؛ نتيجة مقامهم الرفيع في النسب والعلم والعمل.

ولا يظهر الإنكار على الأئمّة (عليهم السّلام) من شيعتهم، أو التململ من الموقف المذكور إلّا بصورة فردية انفعالية يسهل عليهم (عليهم السّلام) تجاهلها أو الردّ عليها، وإفهام مَنْ يصدر منه ذلك بخطئه، وسوء تقديره للأمور.

ولاسيما بعد أن تبلور مفهوم عصمة الإمام، ووجوب التسليم له. وقد حفظ لنا التراث الشيعي كثيراً من مفردات ذلك.

٤٤٧

حديث سدير الصيرفي

وقد يحسن بنا أن نذكر هنا حديث سدير الصيرفي، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام)، فقلت له: والله ما يسعك القعود. فقال: «ولِمَ يا سدير؟». قلت: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك. والله لو كان لأمير المؤمنين (عليه السّلام) ما لَكَ من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم وعدي. فقال: «يا سدير، وكم عسى أن يكونوا؟». قلت: مئة ألف. قال: «مئة ألف؟!». قلت: نعم، ومئتي ألف. قال: «مئتي ألف؟!». قلت: نعم، ونصف الدنيا. قال: فسكت عنّي. ثمّ قال: «يخفُّ عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع؟». قلت: نعم. فأمر بحمار وبغل أن يُسرج... فمضينا، فحانت الصلاة، فقال: «يا سدير، انزل بنا نصلّي». ثمّ قال: «هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها». فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء، نظر إلى غلام يرعى جداءً، فقال: «والله يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود». ونزلنا وصلّينا، فلمّا فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر(١) .

ومن الطبيعي أن يكون مراده (عليه السّلام) من الشيعة هنا الخلّص ذوي الثبات والتسليم، والتصميم على الوجه الأكمل الذين لا تزعزعهم المحن والبليات، ولا تزيلهم الشبهات والمغريات.

وقد يشير إلى ذلك حديث أبي مريم عن الإمام الباقر (عليه السّلام) قال: «قال أبي يوماً وعنده أصحابه: مَنْ منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفّه، فيمسكها حتى تطفُ؟». قال: «فكاع الناس كلّهم ونكلوا، فقمت وقلت: يا أبة أتأمر أن أفعل؟ فقال: ليس إيّاك عنيت؛ إنّما أنت منّي وأنا منك، بل إيّاهم أردت [ قال: ] وكرّرها ثلاثاً. ثمّ قال: ما أكثر الوصف، وأقلّ الفعل. إنّ أهل الفعل قليل، إنّ أهل الفعل قليل، وإنّا لنعرف أهل الفعل والوصف معاً، وما كان هذا منّا

____________________

١ - الكافي ٢/٢٤٢ - ٢٤٣ ح ٤.

٤٤٨

تعامياً عليكم، بل لنبلوا أخباركم، ونكتب آثاركم». فقال: «والله لكأنّما مادت بهم الأرض حياء ممّا قال...، فلمّا رأى ذلك منهم قال: رحمكم الله، فما أردت إلّا خيراً. إنّ الجنّة درجات، فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول، ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم». قال: «فوالله، لكأنّما نشطوا من عقال»(١) .

وعلى ذلك يجري قوله تعالى:( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثمّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أنّهم فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيت ) (٢) .

نعم، قد تعرّض الأئمّة (صلوات الله عليهم) للإنكار عليهم ممّنْ يتبنّى خطّ الثورة من العلويين وغيرهم، إلّا إنّهم (عليهم السّلام) لم يكترثوا بذلك بعد رضوخ شيعتهم لهم، وتقبّلهم لموقفهم، ولاسيّما بعد ظهور فشل محاولات الثورة والإصلاح الكثيرة عسكرياً، أو عملياً بانحراف الثورة حين قيامها أو بعد نجاحها.

والحاصل: إنّ فاجعة الطفّ قد خفّفت من ضغط الدعوة للثورة على سلطان الجور عن الأئمّة (صلوات الله عليهم)، وسهّلت عليهم إقناع شيعتهم بعدم الجدوى فيه، وانتظار الفرج بقيام الحجّة المهدي المنتظر (صلوات الله عليه وعجّل الله فرجه).

وهذه فائدة مهمّة لفاجعة الطفّ حيث سهّلت على الأئمّة (عليهم السّلام) بناء الشيعة ثقافياً كما يريدون، بعيداً عن الضجيج والعجيج، وهي في الحقيقة من جملة الثمرات الدينية لفاجعة الطفّ تضاف لما سبق في الفصل الأوّل.

____________________

١ - الكافي ٨/٢٢٧ - ٢٢٨ ح ٢٨٩.

٢ - سورة النساء/٦٥ - ٦٦.

٤٤٩

دعوى أنّ ذلك لا يتناسب مع قابلية الإسلام للتطبيق

هذا وقد يدّعي المدّعي أنّ ذلك لا يتناسب مع ما نعتقده - نحن وعامّة المسلمين - من ابتناء التشريع الإسلامي على حكم الإسلام في الأرض؛ وما ذلك إلّا لقابلية نظام الإسلام للتطبيق بوجه كامل من أجل إصلاح المجتمع، وتطهيره من الفساد، وتعميم العدل، فكيف يدّعى تعذّر ذلك، خصوصاً في عصر حضور الأئمّة (صلوات الله عليهم)؟!

دفع الدعوى المذكورة

والجواب عن ذلك: إنّ من تتمّة نظام الإسلام العظيم أن يكون المشرف على تطبيقه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم)، المأمونين عليه نتيجة عصمتهم، والمحكمين فيه نتيجة وجوب موالاتهم وطاعتهم، وبذلك كمال الدين وتمام النعمة.

ولو أنّ الصحابة الأوّلين من المهاجرين والأنصار أجمعوا على ذلك، واتّحدت كلمتهم، وتسلّم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) السلطة بناء على ذلك وإقراراً له لاختلف كيان الإسلام عمّا انتهى إليه بسبب الانحراف.

إذ يُقرّ قولاً وعملاً بنحو إجماعي عند المسلمين نظام الخلافة حينئذٍ على ما أراده الله تعالى من خلافة الإمام المعصوم المنصوص عليه، بدءاً بأمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وهو الذي كان يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الضاربة، وسيفه الصارم في جهاده الطويل، والمبلّغ عنه والناطق باسمه.

والذي هو امتداد طبيعي لوجوده صلى الله عليه وآله وسلم الشريف في كونه عميداً لبني هاشم، القبيلة ذات المقام الرفيع في نفوس العرب الذي زاد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أضعافاً كثيرة.

٤٥٠

كما إنّه (عليه السّلام) امتداد طبيعي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوّة شخصيته (عليه السّلام) وصلابته وهيمنته، وفي علمه وعمله، وفي مبادئه ومثاليته.

ويترتّب على ذلك أمور في غاية الأهمية:

الأوّل : انصياع العرب لأمير المؤمنين (عليه السّلام) بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتجنّب المسلمون كثيراً من الحروب التي سمّيت بحروب الردّة، أو جميعها.

كما يناسبه قول سلمان الفارسي حينما بويع أبو بكر: أصبتم ذا السنّ منكم، وأخطأتم أهل بيت نبيّكم. لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان، ولأكلتموها رغداً(١) ، وقول أبي ذرّ: لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيّكم لما اختلف عليكم اثنان(٢) .

إذ الظاهر أنّ كثيراً من تلك الحروب أو كلّها إنّما كانت من أجل تثبيت السلطة الجديدة المهزوزة دينياً؛ لعدم كونها بعهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واجتماعياً؛ لاستهانة العرب بأبي بكر وقبيلته، ولسقوط هيبة الإسلام باختلاف المسلمين وانشقاقهم على ما أوضحناه في جواب السؤال الرابع من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة ).

الثاني : قطع آمال الآخرين في السلطة إلى الأبد، ويتجنّب المسلمون الصراع عليه، ذلك الصراع الذي فرّقهم ونخر في كيانهم، بل دمّرهم.

الثالث : تحجيم دور المنافقين وحديثي الإسلام في إدارة الأمور، وفي نشر مفاهيمهم، وقطع الطريق عليهم من أجل قضاء مآربهم الخبيثة على حساب الإسلام.

الرابع : قوّة نفوذ السابقين من الصحابة المعروفين بقوّة الدين، والإخلاص والأثر الحميد في الإسلام، والتابعين لهم بإحسان من ذوي الإيمان والتقوى

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ٢/٤٩، و٦/٤٣.

٢ - شرح نهج البلاغة ٦/١٣، واللفظ له، و٢/٤٩، بحار الأنوار ٢٨/١٩٥.

٤٥١

والالتزام العملي.

وبذلك يتجنّب الإسلام كثيراً من السلبيات والمفارقات التي تقدّم منّا التعرّض لبعضها في حديثنا هذا.

ومن الطبيعي حينئذ أن تسير عجلة الإسلام بتعاليمه الكاملة ومثله السامية على الطريق الواضح من دون أي انحراف أو تحوير أو وهن، ويتجسّد بواقعه الثقافي والعملي على ما أراده الله (عزّ وجلّ) كما تضمّنت ذلك النصوص الكثيرة.

فإذا تمّت الفتوح في عهد هذا الإسلام الأصيل وهذه القيادة الفذة، والجماعة الصالحة، واتّسعت رقعته، وجاءت بسببها الغنائم والخيرات، والعزّة والكرامة قوي هذا الإسلام وارتفع شأنه، وتركّز في النفوس وتجذّر في أعماقها.

وبذلك يقوم كيان الإسلام على الاستقامة والصلاح مهما اتسع وانتشر من دون أن يكون هناك ما يدعو للخروج عليه، أو الانحراف به.

صلاح المجتمع مدعاة للتسديد والفيض الإلهي

ولاسيما أنّ المجتمع المذكور يكون حينئذ مورداً للفيض الإلهي، كما قال الله تعالى:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ) (١) ، وقال (عزّ وجلّ):( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أنّهم أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم... ) (٢) .

وقد تقدّم قريباً في كلام سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ما يناسب ذلك، ونحوه في كلام له آخر(٣) . وفي كلام له ثالث: لو بايعوا علياً لأكلوا من فوقهم، ومن تحت

____________________

١ - سورة الأعراف/٩٦.

٢ - سورة المائدة/٦٥ - ٦٦.

٣ - المصنّف - لابن أبي شيبة ٨/٥٨٦ كتاب المغازي، ما جاء في خلافة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

٤٥٢

أرجلهم(١) . وفي كلام أبي ذرّ: أما لو قدّمتم مَنْ قدّم الله، وأخّرتم مَنْ أخّر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيّكم لأكلتم من فوق رؤوسكم، ومن تحت أقدامكم(٢) .

ومن الظاهر أنّ الفيض الإلهي المذكور يقلل من فرص الخلاف والشقاق، ومن الخروج على السلطة الشرعية؛ لفقد المبرّر له، ورفض المسلمين لذلك حينئذٍ.

بل قد ورد في كلام غير واحد من أهل البيت (صلوات الله عليهم) ووجوه الصحابة القطع بعدم تحقّق الخلاف والشقاق حينئذٍ، كما يناسبه ما سبق في كلامي سلمان وأبي ذرّ.

وقالت الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليه) في خطبتها الكبرى: «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر...، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً للفرقة»(٣) .

وقال عبد الله بن جعفر في حديث له مع معاوية: فإنّ هذه الخلافة إن أُخذ فيها بالقرآن فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، وإن أُخذ فيها بسُنّة رسول الله فأولوا رسول الله...، وأيم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر في موضعه؛ لحقه وصدقه، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان، وما اختلف في الأُمّة سيفان(٤) ... إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ الأُمّة لو لم تنحرف من أوّل الأمر لاستمرت في استقامتها وتماسكها.

____________________

١ - أنساب الأشراف ٢/٢٧٤ أمر السقيفة.

٢ - تاريخ اليعقوبي ٢/١٧١ أيام عثمان.

٣ - راجع ملحق رقم (١).

٤ - الإمامة والسياسة ١/١٤٠ ما تكلم به عبد الله بن جعفر، جمهرة خطب العرب ٢/٢٤٧ الباب الثالث، الخطب والوصايا في العصر الأموي، خطب بني هاشم وشيعتهم وما يتصل بها، خطبة عبد الله بن جعفر.

٤٥٣

ولو فرض أن سوّلت بعض النفوس لأصحابها بذلك كان خارجاً عن جماعة المسلمين محارباً من قبلهم، لا مجال لتبرير موقفه بعد اتفاقهم على وجوب طاعة الإمام وعصمته اللذين لا مجال معهما للاجتهاد والاختلاف.

ولاسيما بعد إدراكهم خير ذلك وبركته بنحو يقتضي تجذّر الاستقامة والانقياد للحق في نفوسهم، والاهتمام بالحفاظ عليه، والدفاع عنه.

إنّما يتعذّر الإصلاح الكامل بعد حصول الانحراف

وإنّما قلنا آنفاً بتعذّر الإصلاح التام وتطبيق حكم الإسلام كاملاً من أجل الواقع الذي حصل حيث انحرفت من اليوم الأوّل مسيرة السلطة في الإسلام، فترتّب على ذلك التلاعب في الدين، وإبعاد المخلصين، ونفوذ المنافقين، واختلاف الأُمّة وانشقاقها على نفسها، وطمع في السلطة مَنْ ليس أهلاً له من دون ضابط ولا وازعٍ حتى انتهى الأمر إلى أعداء الإسلام والمسلمين، والموتورين منه ومنهم.

ثمّ ظهرت الفرق في الأُمّة، وانشقّت على نفسها، وصار لكلّ فرقة دينها الذي تختص به، ومقاييسها التي تجري عليها، وتجذّر في أعماقها بحيث يصعب التحرّر منها، والفحص عن الحقّ بموضوعية خالصة.

وفتح باب الاجتهاد والتشبّث بالمبرّرات للخروج عن النصّ، ومرضت النفوس، وتعوّدت على اللف والدوران، والبغي والعدوان، وظهرت كوامن النفوس الشريرة، وشيب الحقّ بالباطل.

زيادة الأمر تعقّداً في عصر الغيبة

ويزيد الأمر تعقّداً في عصر الغيبة؛ حيث لا معصوم ناطق يرعى بالمباشرة

٤٥٤

الدين والدولة، وغاية ما نملك مجتهدون معرّضون للخطأ، وهم يختلفون في معرفة الحكم الشرعي وتحديده، وفي الطريق الأمثل لتطبيقه نسبياً، ولا يملك أي منهم القدرة على إقناع الآخرين بما أدّى إليه اجتهاده، وليس له الحقّ في فرض قناعته على غيره.

مضافاً إلى ما أفرزته التداعيات السابقة من نظريات مناهضة للدين يروّج لها الأعداء والنفعيون، وعقبات وألغام يزرعونها في طريق العاملين المخلصين الثابتين الذين هم أقلّ القليل.

ويدعمها في ذلك قوى هائلة ظاهرة وخفية تحاول أن تمسك بزمام الأمور، لا يهمّها تدمير المجتمع الإنساني في سبيل مصالحها الخاصة، ومن أجل تنفيذ مخططاتها الجهنّمية.

وكلّما امتدّ الزمن بالمجتمع الإنساني المريض زادت الأوضاع سوءاً والأمور تعقّداً، وتضاعفت المشاكل والسلبيات، إلّا إن تتدخل العناية الإلهية بنحو خاص، ولا مفرّج إلّا الله (عزّ وجلّ) وإليه يرجع الأمر كلّه.

لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور

نعم، لا يسقط الميسور من الإصلاح بالمعسور، وما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه، ولكلّ وجهة نظره، والله سبحانه وتعالى من وراء القصد.( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (١) .

وعلى كلّ حال فذلك كلّه ليس لقصور في النظام الإسلامي الرفيع، ولا في التشريع الإلهي القويم، بل لتقصير الأُمّة في واجبها من اليوم الأوّل حيث فسحت المجال للانحراف، وغضّت الطرف عنه، ولم تقم بواجبها في إنكار

____________________

١ - سورة العنكبوت/٦٩.

٤٥٥

المنكر والاستجابة للإمام المعصوم (صلوات الله عليه) من أجل تعديل المسار وإصلاح الأوضاع.

فتبوء هي بذنبها، وتتحمّل مسؤولية عملها من دون أن يتحمّل الإسلام ولا رموزه العظام شيئاً من ذلك، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ونسأله (عزّ وجلّ) التسديد والتوفيق، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونعتصم به من الشيطان الرجيم، ومن مضلات الفتن، إنّه أرحم الراحمين، وولي المؤمنين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٤٥٦

المقصد الثالث

في توقيت فاجعة الطفّ

من الظاهر أنّ الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) بأجمعهم يشتركون في مسؤولية رعاية الدين والجهاد في سبيل صلاحه وحمايته، وظهور دعوته وحجّته، ولا يختص الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بذلك.

فلا بدّ أن يكون انفراده من بينهم بنهضته التي انتهت بفاجعة الطفّ لاختصاصه (عليه السّلام) بظروف، ودواعي ألزمته بذلك لم تتحقّق لهم (عليهم السّلام)؛ لظهور أنّ عصمتهم بأجمعهم (صلوات الله عليهم) تستلزم قيام كلّ منهم بوظيفته المناسبة لظروفه التي يعيشها، وتكليفه الذي يختص به.

وقد أكّدت النصوص الشريفة الواردة عنهم (عليهم السّلام) على أنّ كلاً منهم إنّما يقوم بوظيفته المعهودة له من قبل الله تعالى، وقد سبق ذكر بعضها في مقدّمة هذا الكتاب، والله سبحانه وتعالى هو العالم بما يقتضيه كلّ ظرف وزمان.

وهذا على الإجمال أمر لا إشكال فيه، وإنّما نحاول هنا التعرّف على ما امتازت به ظروف نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) - بحيث لزمه النهوض ولم يسعه القعود - حسبما يتيسّر لنا، ونرجو أن نوفّق في ذلك، فنقول:

بالتأمّل فيما ذكرناه في المقصدين السابقين يتّضح كثير من وجوه الفرق

٤٥٧

بين ظروفه وظروف بقيّة الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين)، إلّا إنّه يحسن بنا هنا التعرّض بتفصيل لما ندركه في وجه اختلاف مواقفهم.

والكلام..

تارة : في أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام).

وأُخرى : في الإمام الحسن السبط (صلوات الله عليه).

وثالثة : في الأئمّة من ذرية الحسين (عليهم السّلام)، وذلك في فصول ثلاثة.

٤٥٨

الفصل الأوّل

في موقف أمير المؤمنين (عليه السّلام)

بعد خروج السلطة عن موضعها الذي وضعها الله تعالى فيه، وانحراف مسيرة نظام الحكم الإسلامي، فأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) - فيما يبدو - كان معنيّاً بأمرين لهما أهمية كبرى في الحفاظ على دعوة الإسلام الحقّ، وبقائها للأجيال، وتبليغهم بها.

اهتمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بحفظ كيان الإسلام العام

الأوّل : حفظ كيان الإسلام العام الذي بذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمناصحون من أصحابه جهوداً جبّارة من أجله؛ لتبقى دعوة الإسلام الشاملة بين مجموعة كبيرة من الناس ذات قوّة وعدد بحيث تسعى لنشره والدفاع عنه، ولو من أجل مصالحها وامتيازاتها، وقد ورد أنّ الله (عزّ وجلّ) ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم(١) .

كلّ ذلك من أجل أن يتسنّى للأمم البعيدة سماع دعوته، والتعرّف عليه،

____________________

١ - تهذيب الأحكام ٦/١٣٤، مستدرك الوسائل ١١/١٥، صحيح ابن حبان ١٠/٣٧٦ كتاب السير، ذكر البيان بأن الأمراء وإن كان فيهم ما لا يحمد فإنّ الدين قد يؤيد بهم، السنن الكبرى - للنسائي ٥/٢٧٩ كتاب السير، إنّ الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر، مسند أحمد ٥/٤٥ حديث أبي بكرة، مجمع الزوائد ٥/٣٠٢ كتاب الخلافة، باب فيمَنْ يؤيد بهم الإسلام من الأشرار، المعجم الأوسط ٢/٢٦٩، و٣/١٤٢، وغيرها من المصادر الكثيرة.

٤٥٩

والنظر فيه، والاهتداء به، برغم السلبيات التي يفرزها الانحراف؛ ليكون الدخول في الإسلام - بكيانه العام - مفتاحاً لمعرفة الإسلام الأصيل، والمذهب الحقّ بعد الاطلاع على اختلاف المسلمين، والاستئناس بتعاليمهم وأدلتهم.

أمّا مع انهيار كيان الإسلام العام - بالردّة العامّة ونحوها - فلا يتيسّر لتلك الأمم الاطلاع على الدين الحقّ، والفرقة الناجية حتى لو بقيت الثلّة الصالحة من حملته؛ لقلتهم وعجزهم عن اكتساح القوى الهائلة المناهضة للإسلام، والاصطدام به، والانتشار في فجاج الأرض.

اهتمامه (عليه السّلام) بالحفاظ على حياته وحياة الثلّة الصالحة

الثاني: الحفاظ على حياته (صلوات الله عليه) وحياة الثلّة الصالحة من شيعته، ممّنْ آمن بالإسلام الحقّ بإخلاص وتفهم، واستعداد للتضحية من أجل أن يحمل هو (عليه السّلام) وهذه الثلّة الإسلام الحقّ من دون تحريف وتشويه؛ ليتسنّى لهم - في الوقت المناسب - تعريف عامّة المسلمين به؛ سواء مَنْ كان منهم مسلماً عند انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى، أم مَنْ يدخل بعد ذلك في الإسلام، ثمّ تهيئة ثلّة تحمل دعوة الإسلام الحقّ؛ لتبشّر به وتهيئ الحَمَلة له، وهكذا ما بقيت الدنيا.

لتبقى هذه الدعوة مسموعة في الأرض، ولا يُقضى عليها بالقضاء على حملتها في مبدأ الانحراف والانشقاق؛ كي لا ينفرد الإسلام المشوّه بالساحة، وقد تعرّضنا لذلك بشيء من التوضيح في خاتمة كتابنا (أصول العقيدة ).

وبذلك يظهر أنّه لا مجال لقيام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بتضحية شبيهة بتضحية الإمام الحسين (عليه السّلام).

٤٦٠

الصراع الحاد بين الصدر الأوّل يعرّض الكيان الإسلامي للانهيار

أوّلاً : لأنّ الصراع الحاد بعد ارتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى يعرّض الكيان الإسلامي العام للوهن والتفكّك، أو الانهيار بردّة ونحوه؛ لأنّ الناس حديثو عهد بالإسلام، ولم يتركز بَعْدُ في نفوسهم.

قال أنس بن مالك: وما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنكرنا قلوبنا(١) .

وقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في خطبة له عند مسيره إلى البصرة: «إنّ الله لما قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة؛ فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقلّ خلف...»(٢) .

وقد تكرّر من أمير المؤمنين وبقية الأئمّة (صلوات الله عليهم) بيان هذه المضامين ونحوها.

قوّة الكيان الإسلامي العام في عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

ولا يُقاس ذلك بعصر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ حيث ضرب

____________________

١ - مسند أبي يعلى ٦/١١٠ فيما رواه عاصم عن أنس، واللفظ له، مسند أحمد ٣/٢٢١، ٢٦٨ مسند أنس، سنن ابن ماجة ١/٥٢٢ كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وآله وسلم، سنن الترمذي ٥/٢٤٩ أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في باب لم يسمه قبل باب ما جاء في ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صحيح ابن حبان ١٤/٦٠١ كتاب التاريخ، باب وفاته (صلّى الله عليه وسلم)، ذكر إنكار الصحابة قلوبهم عند دفن صفي الله صلى الله عليه وآله وسلم، الاستذكار - لابن عبد البر ٣/٨٠، التمهيد - لابن عبد البر ١٩/٣٢٣، وج ٢٣/٣٩٤، تفسير القرطبي ٤/٢٢٥، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً.

٢ - شرح نهج البلاغة ١/٣٠٨.

٤٦١

الإسلام بجرانه، وانتشر في الأرض، وعمّت دعوته، وتركّز في النفوس؛ نتيجة المكاسب المادية والمعنوية التي حقّقها لأتباعه، ويأتي في كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ما يناسب ذلك.

كما إنّ قيام دولة قاهرة واسعة الرقعة باسم الإسلام من أهم العوامل الحافظة لدعوته؛ لاهتمام ذوي المطامع في السلطة والنفوذ بالحفاظ على هذه الدعوة من أجل استغلالها لنيل مطامعهم.

الصراع الحاد يعرّض الخاصة للخطر

وثانياً: لأنّ الصراع الحاد يعرّض أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) والثلّة الصالحة الثابتة على الحقّ من أصحابه للخطر.

وبالقضاء عليهم لا يبقى ناطق بدعوة الحقّ يُسمعها للناس بعد انتشار الإسلام في الأرض، وينفرد الإسلام الحاكم في الساحة من دون معارضة تقف في وجهه، وتحدّ من نشاطه في التثقيف والتحريف.

مع إنّه لا أثر للتضحية من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وخاصة أصحابه؛ لعدم تركز مفاهيم الإسلام، وعدم ظهور مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) ولا ظلامتهم بعد، بل لا يخرج الصراع بنظر عموم الناس عن كونه صراعاً على السلطة، غلب فيه مَنْ غلب، وخسر مَنْ خسر.

تركّز دعوة التشيّع في عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

وهذا بخلاف عصر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ لظهور مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) ورفعة شأنهم، ووضوح ظلامتهم؛ نتيجة الجهود المكثّفة السابقة.

٤٦٢

كما تجلّت في هذه المدّة معالم دعوة التشيّع وتركّزت، وحصلت على أُمّة كبيرة تتفهّمه، وترجع في دينها لبقية الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم)، بل سبق أنّ فاجعة الطفّ قد رفعت من شأن هذه الدعوة الشريفة، وصارت سبباً في قوّتها وفاعليتها وانتشارها، وتعاطف الناس معها، بل هي نقطة تحوّل فيها.

حاول أمير المؤمنين (عليه السّلام) تعديل مسار السلطة لكنّه فقد الناصر

نعم، حاول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أن ينهض في وجه الانحراف، لا من أجل محض التضحية كما فعل الإمام الحسين (عليه السّلام)، بل من أجل تعديل مسيرة الإسلام في أوّل الأمر على أن يكسب لجانبه جماعة صالحة تكون ركيزة لدعوة الحقّ، ويقوم بها كيان الإسلام، ترهب المنحرفين أو ترغمهم، فيفيئوا إليه، ويرجعوا للطريق المستقيم.

لكنّه (عليه السّلام) لم يجد من الأنصار ما يكفي لذلك كما تضمّنه تراث المسلمين، وذكرنا طرفاً منه في جواب السؤال الثالث من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة).

فاضطر للسكوت والصبر، والحفاظ على نفسه الشريفة، وعلى الثلّة الصالحة ممّنْ ثبت معه أو رجع إليه بعد ذلك، بانتظار الفرصة المناسبة؛ ليؤدّوا دورهم في كبح جماح الانحراف، بإظهار دعوة الحقّ، وتنبيه الأُمّة من غفلتها.

دعوى أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) فرّط ولم يستبق الأحداث

هذا وقد يُقال: إنّ الانحراف إنّما حصل لأنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لم يستعمل الحزم، ولم يستبق الأحداث، وانشغل بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى

٤٦٣

تمّ للآخرين ما أرادوا.

وهو (عليه السّلام) وإن حافظ بذلك على مبدئيته ومثاليته بنحو يدعو للإعجاب والإكبار:

أوّلاً : في احترام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال (صلوات الله عليه): «أفكنت أدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!»(١) .

وثانياً : في نظرته للخلافة والسلطة حيث لم يجعلها مغنماً يتسابق إليه، بل هي حق يجب على المسلمين تسليمه له (عليه السّلام)، ويحرم عليهم منازعته فيها.

إلاّ إنّه (صلوات الله عليه) فرّط بذلك في حق الإسلام حيث فسح للمنحرفين المجال للتحكم فيه بنحو لا يمكن تداركه، وتجنّب ذلك أهم من الحفاظ على المثالية من الجهتين المتقدّمتين.

الجواب عن الدعوى المذكورة

والجواب عن ذلك: إنّه قد ورد بطرق مختلفة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عهد إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في هذا الأمر، فلم يتجاوز عهده.

وعنه (صلوات الله عليه) أنّه قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن اجتمعوا عليك فاصنع ما أمرتك، وإلاّ فألصق كلكلك بالأرض. فلمّا تفرّقوا عنّي جررت على المكروه ذيلي، وأغضيت على القذى جفني، وألصقت بالأرض كلكلي»(٢) . وفي كلام للفضل بن العباس: وإنّا لنعلم أنّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه(٣) ... إلى غير ذلك(٤) .

____________________

١ - الإمامة والسياسة ١/١٦ إباية علي (كرم الله وجهه) بيعة أبي بكر (رضي الله عنه).

٢ - شرح نهج البلاغة ٢٠/٣٢٦.

٣ - شرح نهج البلاغة ٦/٢١، الموفقيات/٥٨٠ ح ٣٨٠.

٤ - راجع الأمالي - للمفيد/٢٢٣ - ٢٢٤، والأمالي - للطوسي/٩، وخصائص الأئمّة/٧٢ - ٧٥، =

٤٦٤

ولعلّ الوجه في ذلك أحد أمرين، أو كلاهما:

الأوّل : إنّ دعوة الإسلام الرفيعة في بدء ظهورها لم تتركّز ولم تأخذ موقعها المناسب في النفوس كعقيدة مقدّسة، فإذا ظهر من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) - الذي هو يمثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موقعه - الاهتمام بالسلطة والمغالبة عليه، وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم جثّة لم يجهّز من أجل تحصيله كان ذلك وهناً على هذه الدعوة الشريفة يزعزع جانب القدسية والمبدئية فيه، ويضعف موقعها العقائدي في النفوس، وذلك من أعظم المخاطر عليه.

الثاني : إنّ الله (عزّ وجلّ) يعلم أنّ الأمر لا يتمّ له (عليه السّلام) لو سابَق الأحداث، وسارع بأخذ البيعة ممّنْ يستجيب له؛ لإصرار الحزب القرشي على صرف الخلافة عن أهل البيت عموماً، وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) خصوصاً، إصراراً لا يقف عند حدّ دون تحقيق مشروعهم، ولفقد أمير المؤمنين (عليه السّلام) العدد الكافي من الأنصار من ذوي الثبات والإصرار على الحقّ؛ ليتسنّى له الوقوف أمام إصرارهم.

فتمسّكه (صلوات الله عليه) بحقّه، وسَبقه إليه بأخذ البيعة ممّنْ هو مقتنع به يستلزم نفس المحذور الذي يلزم من إصراره (صلوات الله عليه) على استرجاع حقه بعد أن سبقوه له، وهو انشقاق المهاجرين والأنصار على أنفسهم، الموجب لوهن كيان الإسلام في بدء قيامه بنحو قد يؤدّي إلى الردّة العامّة أو نحوها؛ لعدم استحكام الدين في النفوس.

والبقيّة الصالحة التي تثبت على الدين لو سَلِمت بعد الانشقاق والصراع فهي من القلّة والضعف بحيث لا تقوى على تشييد كيان الإسلام الحقّ،

____________________

= والاحتجاج ١/٢٨٠ - ٢٨١، ٢٩١، وكشف الغمة ٢/٤، وبحار الأنوار ٢٩/٥٨٢، وغيرها من المصادر.

٤٦٥

والحفاظ عليه، ثمّ حمله للأجيال، وتبليغهم به.

بل قد يُقضى على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وعلى البقية الصالحة من الصحابة؛ نتيجة الصراع والإصرار المذكورين، فتضيع معالم الحقّ، ولا يبقى مَنْ يبلغ الأجيال بالدعوة على صفائها ونقائها، وينفرد المنحرفون أو المرتدّون بالساحة.

أمّا تراجع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن الخلافة بعد أن يبايَع، وتسليمها لجماعة الحزب القرشي إذا رأى منهم الإصرار؛ تجنّباً لمخاطر الصراع، فهو أوهن عليه، وأضعف لموقفه من التريّث في الأمر حتى يسابقوه كما حصل، ولاسيما أنّه قد يضفي شرعية على إصرارهم واسترجاعهم للسلطة.

على أنّ ذلك قد يزيد في مخاوفهم من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فيقضون عليه كما قُضي أخيراً على مرشّح الأنصار سعد بن عبادة.

وقد ورد أنّهم قد حاولوا قتله (عليه السّلام) مع إنّه لم يسابقهم، بل لمجرّد كونه صاحب الحقّ شرعاً، وقد تلكأ في بيعة أبي بكر كما تعرّضنا لذلك في خاتمة كتابنا (أصول العقيدة)، فكيف يكون الحال لو سابقهم واستولى على الخلافة، ثمّ استرجعت منه قسراً عليه؟!

حديث لأمير المؤمنين (عليه السّلام) في تقييم الأوضاع

ويناسب ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فقد قال له قائل: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك ولداً ذكراً قد بلغ مبلغ الحلم، وأنس منه الرشد، أكانت العرب تسلّم إليه أمرها؟ قال (عليه السّلام): «لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت؛ إنّ العرب كرهت أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته، ونفّرت به ناقته،

٤٦٦

مع عظيم إحسانه إليها، وجسيم مننه عندها، وأجمعت منذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته.

ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة، وسلماً إلى العزّ والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدّت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً.

ثمّ فتح الله عليها الفتوح؛ فأثرت بعد الفاقة، وتموّلت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً...»(١) إلى آخر ما تقدّم عنه (عليه السّلام) في أوائل الفصل الأوّل من المقصد الثاني.

والحاصل: إنّ ملاحظة وضع المسلمين عند ارتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى، وما تتابع من أحداث مأساوية يشهد بوهنهم وضعفهم عن الحفاظ على استقامة مسيرة الإسلام أمام ضغط الحزب القرشي ومؤامراته؛ إمّا خوفاً منه، أو لعدم تركّز الدين في نفوسهم بحيث ابتلوا بالتواكل والتخاذل واللامبالاة، ولله أمر هو بالغه.

فكان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مضطراً للتعامل معهم بالوجه الذي حصل، والاكتفاء بالحفاظ على ما يمكن أن يكبح به جماح الانحراف في الوقت المناسب في صراع مرير طويل قدّره الله سبحانه وتعالى لهذه الأُمّة.

والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه يرجع الأمر كلّه.

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ٢٠/٢٩٨ - ٢٩٩. وتقدم تتمة كلامه عليه السلام في ص: ١٦٧.

٤٦٧

٤٦٨

الفصل الثاني

في موقف الإمام الحسن (عليه السّلام)

إذا كان الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مهبّ الرياح؛ لعدم استحكامه في نفوس كثير من معتنقيه، لقرب عهدهم بالجاهلية بحيث يخشى من أن يؤدّي ظهور الخلاف والشقاق بين المسلمين إلى انهيار الكيان الإسلامي بردّة ونحوها - كما سبق -، فلا مجال لذلك في عهد الإمام الحسن (صلوات الله عليه)؛ حيث قد ضرب الإسلام بجرانه، واتسعت رقعته، وتعاقبت الأجيال عليه، وتدفّقت الخيرات على المسلمين بسبب الفتوح الكبرى، فهم بين مَنْ يتمسّك به ويدعو له كعقيدة راسخة - عن بصيرة كاملة، أو عن تأثّر بالمجتمع -، ومَنْ يتمسّك به ويدعو له لمصالحه الشخصية من مال أو جاه، أو نفوذ أو سلطان.

ومن ثمّ فالظاهر أنّ موقف الإمام الحسن (صلوات الله عليه) لم يكن ناشئاً من الحذر على كيان الإسلام العام، كما كان هو الحال في موقف أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى.

ولا بدّ أن يستند موقف الإمام الحسن (عليه السّلام) لوجوه أُخر يحسن بنا التعرّض لما يتيسّر لنا إدراكه منه.

والكلام.. تارة: في صلحه (صلوات الله عليه) مع معاوية.

وأُخرى : في صبره وعدم تغييره بعد ظهور الغدر من معاوية، ونقضه للعهد، وانتهاك الحرمات العظام؛ فالكلام في مقامين:

٤٦٩

المقام الأوّل

في صلح الإمام الحسن (عليه السّلام) مع معاوية

قد كثر الحديث في الصلح المذكور تقييماً ونقداً حسب اختلاف توجّهات المتحدّثين ومداركهم، ولا يسعنا تعقيب ما ذكروه، بل الأنسب الاقتصار على عرض وجهة نظرنا وتقريبه، فنقول:

تعذّر انتصار الإمام الحسن (عليه السّلام) عسكرياً

الذي يتراءى لنا أنّ إصرار الإمام الحسن (صلوات الله عليه) على حرب معاوية وثباته عليها حتى النهاية إن كان من أجل الانتصار، والحفاظ على استقامة مسار السلطة في الإسلام، فالنظرة الموضوعية لظروف الصراع بين الإمام ومعاوية تشهد بتعذّر انتصار الإمام (عليه السّلام) عسكرياً.

وذلك لتصاعد قوّة معاوية وطغيانه، ووهن أهل العراق بعد التحكيم الذي أشعرهم بالخيبة، وسبّب لكثير منهم الإحباط.

ولاسيما بعد انشقاقهم على أنفسهم في فتنة الخوارج وحربهم معهم، وما تسبب عن ذلك أو قارنه من ظهور الأحقاد بينهم، ومللهم من الحرب، وضعف بصائر كثير منهم، وانفتاح عيون جماعة من رؤسائهم على الدنيا، وانخداعهم بالمغريات التي كانوا ينتظرونها من معاوية، ولا يتوقّعون شيئاً منها من الإمام الحسن (عليه السّلام)؛ نتيجة مبدئيته وسيره على نهج أبيه (صلوات الله عليه)... إلى

٤٧٠

غير ذلك.

وإذا كان في معسكر الإمام (صلوات الله عليه) جماعة - من ذوي البصائر والإصرار على المضي في الحرب - قد ظهر منهم التبرّم من موقف الإمام (عليه السّلام) كما يأتي من بعضهم، فذلك منهم ناشئ عن قوّة بصيرتهم في حقّهم وفي باطل معاوية، وشدّة إبائهم للضيم بحيث فقدوا النظرة الموضوعية لواقع القوّتين المتصارعتين، والموازنة بينهم، وملاحظة نتائج الحرب وتأثيرها على الدعوة الحقّة على الأمد القريب والبعيد.

خطبة الإمام الحسن (عليه السّلام)

وقد أوضح ذلك الإمام الحسن (صلوات الله عليه) في خطبته لأصحابه التي رواها ابن الأثير بسنده عن ابن دريد، وفيها: «إنّا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنّا كنّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فسُلبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. ألا وإنّا لكم كما كنّا، ولستم لنا كما كنتم. ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون ثاره. فأمّا الباقي فخاذل وأمّا الباكي فثائر. ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله (عزّ وجلّ) بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه، وأخذنا لكم الرضا». قال: فناداه القوم من كلّ جانب: البقيّة البقيّة. فلمّا أفردوه أمضى الصلح(١) .

____________________

١ - أسد الغابة ٢/١٣ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب، واللفظ له، سير أعلام النبلاء ٣/٢٦٩ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب، الكامل في التاريخ ٣/٤٠٦ أحداث سنة إحدى وأربعين من الهجرة، ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية، وغيرها من المصادر.

٤٧١

وقد روى هذه الخطبة الديلمي بتغيير يسير، وفيه: «فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر»(١) .

وفي كتاب له عليه السلام إلى معاوية: «أما بعد فإن خطبي انتهى إلى اليأس من حث أحييه وباطل أميته، وخطبك خطب من انتهى إلى مراده. وإنني أعتزل هذا الأمر وأخليه لك. وإن كان تخليتي إياه شراً لك في معادك. ولي شروط أشرطها...»(٢) . ويأتي منه (عليه السّلام) كلام آخر يناسب ذلك، ونحوهما غيرهما وإن كان الأمر أظهر من ذلك.

مخاطر الانكسار العسكري على دعوة الحقّ وحملتها

وحينئذ فخروج الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من الصراع بصلح يبتني على الشروط والعهد والميثاق، خير من خروجه بانكسار عسكري ينفرد به معاوية بالقرار. لوجوه:

الأوّل : إنّ الانكسار العسكري لا يحصل إلّا بعد أن تأكل الحرب ذوي البصائر الذين هم حصيلة جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، لقوّة إصرارهم وتصميمهم على التضحية.

مع إنّ دعوة التشيّع في أمسّ الحاجة لهم من أجل حملها والتبليغ بها والدعوة له؛ لأنّها كانت حديثة الظهور على الصعيد العام في المجتمع الإسلامي، وكان حاميها القوّة بسبب تسنّم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) للسلطة من دون أن تتركّز عقائدياً على الصعيد العام، ولم تأخذ موقعها المناسب في المسلمين، فتبقى مهزوزة في مهبّ الرياح بعد انحسار سلطان أهل البيت (صلوات الله

____________________

١ - أعلام الدين/٢٩٢ - ٢٩٣.

٢- علل الشرائع ج: ١ ص: ٢٢١ باب: ١٦٠.

٤٧٢

عليهم).

وحينئذ يسهل على معاوية اكتساحها بعد انتصاره وقوّة سلطانه كما حاول ذلك وبذل غاية جهده، وإن لم يفلح نتيجة جهود هذه الجماعة، ووقوفها أمام مشروعه المذكور.

وهذا بخلاف الحال عند نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ حيث قد تركّزت الدعوة عقائدياً، وتجذّرت في المجتمع الإسلامي، فالتضحية به (عليه السّلام) وبالنخبة الصالحة معه لم تؤثّر على سير الدعوة، بل كانت نقطة تحوّل فيه زادتها عزّةً وبهاءً، وقوّةً ورسوخاً، وظهوراً وانتشاراً، كما سبق.

ومعاوية وإن كان قد نقض العهد، وتتبّع كثيراً من الشيعة بعد ذلك قتلاً وسجناً وتشريداً وتنكيلاً، إلّا إنّ ذلك لا يبلغ محذور القضاء عليهم واستئصالهم في الحرب، أو بعد أن يتمّ له الانتصار:

أوّلاً : لأنّ معاوية لم يقضِ عليهم كلّهم، بل بقي كثير منهم، وقد بذلوا جهودهم لصالح دعوة الحقّ في حياة معاوية وبعد موته.

وثانياً : لأنّه لم يقضِ على كثير ممّنْ قضى عليهم إلّا بعد فترة استطاع فيها الضحية أن يؤدّي وظيفته في التبليغ بالدعوة الشريفة وتوضيح معالمها، وطبع بصماتها في المجتمع، وكان لذلك أثره الحميد في بقاء دعوة التشيّع، وتوارث الأجيال لها، واتساع رقعتها.

وثالثاً : لأنّ ظلامات الضحايا، ومواقفهم الصلبة في سبيل مبادئهم صارت وسام شرف للتشيّع؛ حيث اصطبغ بالدماء، وصار عنواناً لمقارعة الباطل، والصرخة في وجوه الظالمين، والتضحية من أجل المبادئ الحقّة، وقد تحقّق ذلك لأوّل مرّة في داخل المجتمع الإسلامي.

نظير موقف المسلمين المستضعفين الذين تعرّضوا للأذى والتعذيب من

٤٧٣

المشركين في مبدأ ظهور الإسلام، مع فارق الكمّ والكيف.

كما صارت تلك الظلامات سمة عارٍ على الحكم الأموي، وأحد الأسباب المهمّة في تشويه صورته، وزعزعة شرعيته، ولاسيّما إنّه يذكّر بموقف الأمويين السيئ من الإسلام في مبدأ ظهوره، وإنّ القوم أبناء القوم.

وخصوصاً إنّ ذلك ابتنى على نقض العهد والاستهانة به؛ استهتاراً بالمبادئ والقيم، وقد صرّح معاوية بذلك من أوّل الأمر؛ فقد قال في خطبته بالنخيلة عند دخوله الكوفة: ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به(١) .

مع إنّ كثيراً من أولئك الضحايا لهم أثرهم المحمود في الإسلام، ومكانتهم السامية في نفوس المسلمين، وقد هزّ مقتل حجر بن عدي وأصحابه المجتمع الإسلامي، وهو أحد أحداث معاوية وموبقاته المذكورة، فكيف صارت نظرة المسلمين لمعاوية بسبب ما سبقه ولحقه من جرائمه وتعدياته الكثيرة؟!

الثاني : إنّ قتل مَنْ يُقتل من الشيعة في الحرب أمر تقتضيه طبيعة الحرب، لا يُعَدّ بنظر جمهور الناس جريمة من معاوية، بل حتى قتلهم بعد حصول الانكسار العسكري؛ لأنّ المحاربين يكونون أسرى لا يستنكر من المنتصر قتلهم في تلك العصور.

ولذا عدّ عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين بعد فتح مكة، وعفو أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن المقاتلين بعد حرب الجمل، تفضّلاً منهما.

أمّا قتل الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته وشيعته بعد الموادعة وأخذ العهود والمواثيق فهو من أعظم الجرائم الإنسانية والمستنكرات بنظر

____________________

١ - مقاتل الطالبيين/٤٥ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، واللفظ له، شرح نهج البلاغة ١٦/٤٦، أنساب الأشراف ٣/٢٩١ أمر الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السّلام).

٤٧٤

الخاصة والعامة.

وبذلك استطاع الإمام الحسن (عليه السّلام) أن يعصم دمه الزكي ودماء أهل بيته وشيعته، ويحفظ لهم حرمتهم، ويجعل قتل مَنْ قُتل منهم، والاعتداء على الباقين بوجوه أُخر جرائم مستنكرة دينياً وإنسانياً تشوّه صورة الحكم الأموي، وسبباً للتشنيع عليه والتنفير منه، وهو من أهم المكاسب في الصراع المبدئي.

الثالث: إنّ معاوية ليس كيزيد في الطيش والعنجهية، بل يختلف عنه بالحنكة وبُعْد النظر. والظاهر أنّ ذلك يمنعه من قتل الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته لو لم يُقتلوا في المعركة؛ لما لهم من المقام الديني الرفيع، والمكانة السامية في نفوس المسلمين، فلا يثير على نفسه غضب المسلمين بقتلهم، بل يستبقيهم؛ ليظهر بمظهر الحليم المتفضّل بعفوه بعد المقدرة.

وفي ذلك أعظم الوهن عليهم، وعلى دعوتهم الشريفة، كما يكون حاجزاً لهم عن الإنكار عليه في ممارساته الإجرامية ضدّ الدين والمسلمين؛ حيث يكون بنظر عامّة الناس من الردّ على الإحسان بالإساءة.

ولا أقلّ من أن يستغل معاوية ذلك ضدّهم ويوظّف قدراته التثقيفية والإعلامية للتهريج عليهم به، وتشويه صورتهم؛ من أجل أن يستغفل الناس، ويشغلهم به عن التوجّه لجرائمه ونقده.

تصريحات الإمام الحسن وبقيّة الأئمّة (عليهم السّلام) في توجيه الصلح

وقد أشار الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وبقيّة الأئمّة (عليهم السّلام) لكثير ممّا ذكرنا من أجل توجيه موقفه مع معاوية، وإقدامه على صلحه ومهادنته، وإقناع خواص أصحابه، والتخفيف من غلواء انفعالهم من الحدث المذكور، وأسفهم له.

٤٧٥

ففي حديث له (عليه السّلام) عن صلحه مع معاوية: «والله، ما سلّمت الأمر إليه إلّا إنّي لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكنّي عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم مَنْ كان فاسداً؛ إنّهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل، إنّهم لمختلفون، ويقولون لنا إنّ قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا»(١) .

وفي حديث له (سلام الله عليه) طويل مع أبي سعيد عقيصا قال: «يا أبا سعيد، إذا كنت ممّا مَنْ قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبس. ألا ترى الخضر لما خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار سخط موسى (عليه السّلام) فعله؛ لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي. هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قُتل»(٢) .

وفي رواية أُخرى عنه (عليه السّلام) أنّه قال: «إنّما هادنت حقناً للدماء وصيانته، وإشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي»(٣) .

وقال (عليه السّلام) لحجر بن عدي: «يا حجر، إنّي قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كلّ إنسان يحبّ ما تحبّ، ولا رأيه كرأيك، وإنّي لم أفعل ما فعلت إلّا إبقاء عليكم، والله تعالى كلّ يوم هو في شأن»(٤) .

وفي حديث له (عليه السّلام) آخر معه قال: «إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح

____________________

١ - الاحتجاج ٢/١٢، بحار الأنوار ٤٤/١٤٧.

٢ - بحار الأنوار ٤٤/٢، علل الشرائع ١/٢١١، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف/١٩٦.

٣ - مناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب ٣/١٩٦، تنزيه الأنبياء/٢٢٢، بحار الأنوار ٤٤/٥٦.

٤ - الفتوح - لابن أعثم ٤/٢٩٥ ذكر مسير معاوية إلى العراق لأخذ البيعة لنفسه من الحسن بن علي، واللفظ له، مناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب ٣/١٩٧، بحار الأنوار ٤٤/٥٧، شرح نهج البلاغة ١٦/١٥.

٤٧٦

وكرهوا الحرب، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل، ورأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما؛ فإن الله كلّ يوم هو في شأن»(١) .

وفي حديث ثقيف البكّاء قال: رأيت الحسن بن علي (عليه السّلام) عند منصرفه من معاوية وقد دخل عليه حجر بن عدي، فقال: السّلام عليك يا مذلّ المؤمنين.

فقال: «مه؛ ما كنت مذلّهم، بل أنا معزّ المؤمنين، وإنّما أردت البقاء عليهم...»(٢) .

وقال (صلوات الله عليه) لعلي بن محمد بن بشير الهمداني: «ما أردت بمصالحتي معاوية إلّا أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال. والله، لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه»(٣) .

وقال فضيل بن مرزوق: أتى مالك بن ضمرة الحسن بن علي، فقال: السّلام عليك يا مسخم وجوه المؤمنين.

قال: «يا مالك لا تقل ذلك؛ إنّي لما رأيت الناس تركوا ذلك إلّا أهله خشيت أن تُجتثّوا عن وجه الأرض، فأردت أن يكون في الأرض ناعياً».

فقال: بأبي وأُمّي ذرية بعضها من بعض(٤) .

وفي حديث له (صلوات الله عليه) مع زيد بن وهب الجهني عن أصحابه لما طُعن (عليه السّلام) بالمدائن قال: «أرى والله أنّ معاوية خير لي من هؤلاء؛ يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي. والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي، وأومن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي. والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. والله لئن

____________________

١ - الأخبار الطوال/٢٢٠ عند ذكر زياد بن أبيه.

٢ - دلائل الإمامة/١٦٦.

٣ - الأخبار الطوال/٢٢١ عند ذكر زياد بن أبيه.

٤ - تاريخ دمشق ١٣/٢٨٠ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب.

٤٧٧

أُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمنّ عليّ فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحي منّا والميت»(١) .

وفي حديث له (عليه السّلام) لما دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته قال (عليه السّلام): «ويحكم! ما تدرون ما عملت. والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت. ألا تعلمون أنّني إمامكم مفترض الطاعة عليكم، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة بنصّ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّ؟!». قالوا: بلى. قال: «أما علمتم أنّ الخضر (عليه السّلام) لما خرق السفينة...»(٢) .

وفي حديث للإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (صلوات الله عليه): «والله، للذي صنعه الحسن بن علي (عليهما السّلام) كان خيراً لهذه الأُمّة ممّا طلعت عليه الشمس»(٣) . وفي حديث آخر له عليه السلام عن سدير وفيه: «إن العلم الذي وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند علي عليه السلام. من عرفه كان مؤمناً، ومن جحده كان كافراً. ثم كان بعده الحسن عليه السلام. قلت: كيف يكون بذلك المنزلة وقد كان منه ما كان. دفعها إلى معاوية؟ فقال: اسكت، فإنه أعلم بما صنع. لولا ما صنع لكان أمر عظيم»(٤) ... إلى غير ذلك ممّا ورد عن الإمام الحسن وعن بقيّة الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين).

والحاصل: إنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) قد نقل الشيعة بصلحه هذا من مقاتلين في حرب فاشلة، لا حرمة لهم في أعراف الحرب - خصوصاً في ذلك العصر - إلى معارضة يعتصمون بالعهد، ويتمتعون بكافة حقوق المسلمين،

____________________

١ - الاحتجاج ٢/١٠، بحار الأنوار ٤٤/٢٠.

٢ - كمال الدين وتمام النعمة/٣١٦، الاحتجاج ٢/٩، بحار الأنوار ٥١/١٣٢، إعلام الورى بأعلام الهدى ٢/٢٣٠.

٣ - الكافي ٨/٣٣٠، بحار الأنوار ٤٤/٢٥، تفسير العياشي ١/٢٥٨.

٤ - علل الشرائع ج: ١ ص: ٢١٠ - ٢١١ باب: ١٥٩.

٤٧٨

ولهم حرمة الدم والمال.

وبذلك يكون من حقّهم أن يقوموا بنشاطهم في خدمة خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وهو ما حصل فعلاً؛ فقد بذلوا في سبيل ذلك جهوداً مكثفة أدّت إلى ظهور الدعوة الحقّة، وانتشارها على الصعيد العام بين المسلمين.

ولاسيما بعد أن تفرّغ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) ومَنْ معه من بني هاشم بعد الصلح للجانب الثقافي، وواصلوا الشوط الذي بدأه أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) وأكّدوا المفاهيم التي طرحها بين المسلمين.

غاية الأمر أنّ معاوية بعدوانه وغشمه لم يمتع الشيعة بالحقوق المذكورة كاملة، ونكل بهم بعد ذلك، وحاول القضاء عليهم وتطويق الدعوة لخطّ أهل البيت (عليهم السّلام).

لكنّ ذلك - في واقعه - زاد من قوّة خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وصار سبباً في بلورة دعوتهم وظهوره، وتركزها وانتشارها بين المسلمين.

لا مجال لاستمرار الإمام (عليه السّلام) في الحرب حتى النفس الأخير

ومن جميع ما ذكرنا ظهر أنّه لا مجال لقول مَنْ يقول: كان على الإمام الحسن (صلوات الله عليه) الاستمرار في الحرب، لا من أجل الانتصار العسكري؛ لما سبق من تعذّره، بل كان عليه أن يستمر في الحرب حتى النفس الأخير وإن ضحى بنفسه وأهل بيته كما فعل الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

إذ نقول في جواب ذلك: إنّ تضحية الإمام الحسين (عليه السّلام) لم تكن لمجرد الإباء والامتناع عن الخضوع للظالم ترفّعاً وإنكاراً للمنكر؛ ليشترك الإمام الحسن (عليه السّلام) معه في ذلك، وإنّما كان من أجل صلاح الدين على الأمد البعيد. ولا يتحقق ذلك في حق الإمام الحسن (عليه السّلام)؛ لاختلاف ظروفه (عليه السّلام) عن ظروف نهضة

٤٧٩

الإمام الحسين (عليه السّلام):

أوّلاً : لأنّ معاوية قد استولى على الخلافة بعد حرب طاحنة، برّرها بالطلب بدم عثمان، ثمّ استتبعت التحكيم الذي أضفى على خلافته شرعية صورية.

كما إنّ استمراره في الصراع بقوّة عسكرية آخذة بالتزايد جعلت منه واقعاً مفروضاً لا يُقهر، ويجب التعامل معه بحكمة بنظر جمهور الناس، وكثير من خاصتهم.

وليس هو كيزيد الذي استولى على الخلافة بولاية العهد على غرار القيصرية أو الكسروية ممّا لم يعهده المسلمون بعد، بل أنكروه أشدّ الإنكار. وهو بعد لم يفرض على الأرض بقوّة كقوّة معاوية.

واحتمال التغلّب عليه بسبب نقمة الناس لخلافته كان وارداً بنظر عامّة الناس، وإنّما كان التخوف من قبل بعض الخاصة لحسابات منطقية لا يدركها الجمهور.

ومجرّد علم الإمام (عليه السّلام) بعدم شرعية خلافة معاوية لا يكفي في ترتيب الأثر على تضحيته، ما لم تكن نظرته مدعومة بالرأي الإسلامي العام ولو في الجملة.

وثانياً : لأنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) في موقع الصراع على السلطة، والدفاع العسكري عن خلافة قد ثبتت له ببيعة أهل الكوفة بنظر جمهور المسلمين، وبالنصّ عند الخاصة من شيعته بناءً على نظرية لم تأخذ موقعها المناسب عند جمهور المسلمين.

وليس هو كالإمام الحسين (صلوات الله عليه) في موقف الامتناع من البيعة والإنكار للمنكر، قانعاً بأن يترك من دون أن يقود حرباً إنّما فرضت

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672