فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها0%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم
تصنيف: الصفحات: 672
المشاهدات: 273812
تحميل: 6259

توضيحات:

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273812 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الصراع الحاد بين الصدر الأوّل يعرّض الكيان الإسلامي للانهيار

أوّلاً : لأنّ الصراع الحاد بعد ارتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى يعرّض الكيان الإسلامي العام للوهن والتفكّك، أو الانهيار بردّة ونحوه؛ لأنّ الناس حديثو عهد بالإسلام، ولم يتركز بَعْدُ في نفوسهم.

قال أنس بن مالك: وما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنكرنا قلوبنا(١) .

وقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في خطبة له عند مسيره إلى البصرة: «إنّ الله لما قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة؛ فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقلّ خلف...»(٢) .

وقد تكرّر من أمير المؤمنين وبقية الأئمّة (صلوات الله عليهم) بيان هذه المضامين ونحوها.

قوّة الكيان الإسلامي العام في عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

ولا يُقاس ذلك بعصر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ حيث ضرب

____________________

١ - مسند أبي يعلى ٦/١١٠ فيما رواه عاصم عن أنس، واللفظ له، مسند أحمد ٣/٢٢١، ٢٦٨ مسند أنس، سنن ابن ماجة ١/٥٢٢ كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وآله وسلم، سنن الترمذي ٥/٢٤٩ أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في باب لم يسمه قبل باب ما جاء في ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صحيح ابن حبان ١٤/٦٠١ كتاب التاريخ، باب وفاته (صلّى الله عليه وسلم)، ذكر إنكار الصحابة قلوبهم عند دفن صفي الله صلى الله عليه وآله وسلم، الاستذكار - لابن عبد البر ٣/٨٠، التمهيد - لابن عبد البر ١٩/٣٢٣، وج ٢٣/٣٩٤، تفسير القرطبي ٤/٢٢٥، وغيرها من المصادر الكثيرة جدّاً.

٢ - شرح نهج البلاغة ١/٣٠٨.

٤٦١

الإسلام بجرانه، وانتشر في الأرض، وعمّت دعوته، وتركّز في النفوس؛ نتيجة المكاسب المادية والمعنوية التي حقّقها لأتباعه، ويأتي في كلام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ما يناسب ذلك.

كما إنّ قيام دولة قاهرة واسعة الرقعة باسم الإسلام من أهم العوامل الحافظة لدعوته؛ لاهتمام ذوي المطامع في السلطة والنفوذ بالحفاظ على هذه الدعوة من أجل استغلالها لنيل مطامعهم.

الصراع الحاد يعرّض الخاصة للخطر

وثانياً: لأنّ الصراع الحاد يعرّض أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) والثلّة الصالحة الثابتة على الحقّ من أصحابه للخطر.

وبالقضاء عليهم لا يبقى ناطق بدعوة الحقّ يُسمعها للناس بعد انتشار الإسلام في الأرض، وينفرد الإسلام الحاكم في الساحة من دون معارضة تقف في وجهه، وتحدّ من نشاطه في التثقيف والتحريف.

مع إنّه لا أثر للتضحية من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وخاصة أصحابه؛ لعدم تركز مفاهيم الإسلام، وعدم ظهور مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) ولا ظلامتهم بعد، بل لا يخرج الصراع بنظر عموم الناس عن كونه صراعاً على السلطة، غلب فيه مَنْ غلب، وخسر مَنْ خسر.

تركّز دعوة التشيّع في عصر الإمام الحسين (عليه السّلام)

وهذا بخلاف عصر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ لظهور مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) ورفعة شأنهم، ووضوح ظلامتهم؛ نتيجة الجهود المكثّفة السابقة.

٤٦٢

كما تجلّت في هذه المدّة معالم دعوة التشيّع وتركّزت، وحصلت على أُمّة كبيرة تتفهّمه، وترجع في دينها لبقية الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم)، بل سبق أنّ فاجعة الطفّ قد رفعت من شأن هذه الدعوة الشريفة، وصارت سبباً في قوّتها وفاعليتها وانتشارها، وتعاطف الناس معها، بل هي نقطة تحوّل فيها.

حاول أمير المؤمنين (عليه السّلام) تعديل مسار السلطة لكنّه فقد الناصر

نعم، حاول أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أن ينهض في وجه الانحراف، لا من أجل محض التضحية كما فعل الإمام الحسين (عليه السّلام)، بل من أجل تعديل مسيرة الإسلام في أوّل الأمر على أن يكسب لجانبه جماعة صالحة تكون ركيزة لدعوة الحقّ، ويقوم بها كيان الإسلام، ترهب المنحرفين أو ترغمهم، فيفيئوا إليه، ويرجعوا للطريق المستقيم.

لكنّه (عليه السّلام) لم يجد من الأنصار ما يكفي لذلك كما تضمّنه تراث المسلمين، وذكرنا طرفاً منه في جواب السؤال الثالث من الجزء الثاني من كتابنا (في رحاب العقيدة).

فاضطر للسكوت والصبر، والحفاظ على نفسه الشريفة، وعلى الثلّة الصالحة ممّنْ ثبت معه أو رجع إليه بعد ذلك، بانتظار الفرصة المناسبة؛ ليؤدّوا دورهم في كبح جماح الانحراف، بإظهار دعوة الحقّ، وتنبيه الأُمّة من غفلتها.

دعوى أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) فرّط ولم يستبق الأحداث

هذا وقد يُقال: إنّ الانحراف إنّما حصل لأنّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لم يستعمل الحزم، ولم يستبق الأحداث، وانشغل بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى

٤٦٣

تمّ للآخرين ما أرادوا.

وهو (عليه السّلام) وإن حافظ بذلك على مبدئيته ومثاليته بنحو يدعو للإعجاب والإكبار:

أوّلاً : في احترام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال (صلوات الله عليه): «أفكنت أدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته لم أدفنه، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!»(١) .

وثانياً : في نظرته للخلافة والسلطة حيث لم يجعلها مغنماً يتسابق إليه، بل هي حق يجب على المسلمين تسليمه له (عليه السّلام)، ويحرم عليهم منازعته فيها.

إلاّ إنّه (صلوات الله عليه) فرّط بذلك في حق الإسلام حيث فسح للمنحرفين المجال للتحكم فيه بنحو لا يمكن تداركه، وتجنّب ذلك أهم من الحفاظ على المثالية من الجهتين المتقدّمتين.

الجواب عن الدعوى المذكورة

والجواب عن ذلك: إنّه قد ورد بطرق مختلفة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عهد إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في هذا الأمر، فلم يتجاوز عهده.

وعنه (صلوات الله عليه) أنّه قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن اجتمعوا عليك فاصنع ما أمرتك، وإلاّ فألصق كلكلك بالأرض. فلمّا تفرّقوا عنّي جررت على المكروه ذيلي، وأغضيت على القذى جفني، وألصقت بالأرض كلكلي»(٢) . وفي كلام للفضل بن العباس: وإنّا لنعلم أنّ عند صاحبنا عهداً هو ينتهي إليه(٣) ... إلى غير ذلك(٤) .

____________________

١ - الإمامة والسياسة ١/١٦ إباية علي (كرم الله وجهه) بيعة أبي بكر (رضي الله عنه).

٢ - شرح نهج البلاغة ٢٠/٣٢٦.

٣ - شرح نهج البلاغة ٦/٢١، الموفقيات/٥٨٠ ح ٣٨٠.

٤ - راجع الأمالي - للمفيد/٢٢٣ - ٢٢٤، والأمالي - للطوسي/٩، وخصائص الأئمّة/٧٢ - ٧٥، =

٤٦٤

ولعلّ الوجه في ذلك أحد أمرين، أو كلاهما:

الأوّل : إنّ دعوة الإسلام الرفيعة في بدء ظهورها لم تتركّز ولم تأخذ موقعها المناسب في النفوس كعقيدة مقدّسة، فإذا ظهر من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) - الذي هو يمثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موقعه - الاهتمام بالسلطة والمغالبة عليه، وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم جثّة لم يجهّز من أجل تحصيله كان ذلك وهناً على هذه الدعوة الشريفة يزعزع جانب القدسية والمبدئية فيه، ويضعف موقعها العقائدي في النفوس، وذلك من أعظم المخاطر عليه.

الثاني : إنّ الله (عزّ وجلّ) يعلم أنّ الأمر لا يتمّ له (عليه السّلام) لو سابَق الأحداث، وسارع بأخذ البيعة ممّنْ يستجيب له؛ لإصرار الحزب القرشي على صرف الخلافة عن أهل البيت عموماً، وعن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) خصوصاً، إصراراً لا يقف عند حدّ دون تحقيق مشروعهم، ولفقد أمير المؤمنين (عليه السّلام) العدد الكافي من الأنصار من ذوي الثبات والإصرار على الحقّ؛ ليتسنّى له الوقوف أمام إصرارهم.

فتمسّكه (صلوات الله عليه) بحقّه، وسَبقه إليه بأخذ البيعة ممّنْ هو مقتنع به يستلزم نفس المحذور الذي يلزم من إصراره (صلوات الله عليه) على استرجاع حقه بعد أن سبقوه له، وهو انشقاق المهاجرين والأنصار على أنفسهم، الموجب لوهن كيان الإسلام في بدء قيامه بنحو قد يؤدّي إلى الردّة العامّة أو نحوها؛ لعدم استحكام الدين في النفوس.

والبقيّة الصالحة التي تثبت على الدين لو سَلِمت بعد الانشقاق والصراع فهي من القلّة والضعف بحيث لا تقوى على تشييد كيان الإسلام الحقّ،

____________________

= والاحتجاج ١/٢٨٠ - ٢٨١، ٢٩١، وكشف الغمة ٢/٤، وبحار الأنوار ٢٩/٥٨٢، وغيرها من المصادر.

٤٦٥

والحفاظ عليه، ثمّ حمله للأجيال، وتبليغهم به.

بل قد يُقضى على أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وعلى البقية الصالحة من الصحابة؛ نتيجة الصراع والإصرار المذكورين، فتضيع معالم الحقّ، ولا يبقى مَنْ يبلغ الأجيال بالدعوة على صفائها ونقائها، وينفرد المنحرفون أو المرتدّون بالساحة.

أمّا تراجع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن الخلافة بعد أن يبايَع، وتسليمها لجماعة الحزب القرشي إذا رأى منهم الإصرار؛ تجنّباً لمخاطر الصراع، فهو أوهن عليه، وأضعف لموقفه من التريّث في الأمر حتى يسابقوه كما حصل، ولاسيما أنّه قد يضفي شرعية على إصرارهم واسترجاعهم للسلطة.

على أنّ ذلك قد يزيد في مخاوفهم من أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فيقضون عليه كما قُضي أخيراً على مرشّح الأنصار سعد بن عبادة.

وقد ورد أنّهم قد حاولوا قتله (عليه السّلام) مع إنّه لم يسابقهم، بل لمجرّد كونه صاحب الحقّ شرعاً، وقد تلكأ في بيعة أبي بكر كما تعرّضنا لذلك في خاتمة كتابنا (أصول العقيدة)، فكيف يكون الحال لو سابقهم واستولى على الخلافة، ثمّ استرجعت منه قسراً عليه؟!

حديث لأمير المؤمنين (عليه السّلام) في تقييم الأوضاع

ويناسب ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فقد قال له قائل: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك ولداً ذكراً قد بلغ مبلغ الحلم، وأنس منه الرشد، أكانت العرب تسلّم إليه أمرها؟ قال (عليه السّلام): «لا، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت؛ إنّ العرب كرهت أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحسدته على ما آتاه الله من فضله، واستطالت أيامه حتى قذفت زوجته، ونفّرت به ناقته،

٤٦٦

مع عظيم إحسانه إليها، وجسيم مننه عندها، وأجمعت منذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته.

ولولا أنّ قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة، وسلماً إلى العزّ والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً، ولارتدّت في حافرتها، وعاد قارحها جذعاً، وبازلها بكراً.

ثمّ فتح الله عليها الفتوح؛ فأثرت بعد الفاقة، وتموّلت بعد الجهد والمخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً...»(١) إلى آخر ما تقدّم عنه (عليه السّلام) في أوائل الفصل الأوّل من المقصد الثاني.

والحاصل: إنّ ملاحظة وضع المسلمين عند ارتحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى، وما تتابع من أحداث مأساوية يشهد بوهنهم وضعفهم عن الحفاظ على استقامة مسيرة الإسلام أمام ضغط الحزب القرشي ومؤامراته؛ إمّا خوفاً منه، أو لعدم تركّز الدين في نفوسهم بحيث ابتلوا بالتواكل والتخاذل واللامبالاة، ولله أمر هو بالغه.

فكان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مضطراً للتعامل معهم بالوجه الذي حصل، والاكتفاء بالحفاظ على ما يمكن أن يكبح به جماح الانحراف في الوقت المناسب في صراع مرير طويل قدّره الله سبحانه وتعالى لهذه الأُمّة.

والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه يرجع الأمر كلّه.

____________________

١ - شرح نهج البلاغة ٢٠/٢٩٨ - ٢٩٩. وتقدم تتمة كلامه عليه السلام في ص: ١٦٧.

٤٦٧

٤٦٨

الفصل الثاني

في موقف الإمام الحسن (عليه السّلام)

إذا كان الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مهبّ الرياح؛ لعدم استحكامه في نفوس كثير من معتنقيه، لقرب عهدهم بالجاهلية بحيث يخشى من أن يؤدّي ظهور الخلاف والشقاق بين المسلمين إلى انهيار الكيان الإسلامي بردّة ونحوها - كما سبق -، فلا مجال لذلك في عهد الإمام الحسن (صلوات الله عليه)؛ حيث قد ضرب الإسلام بجرانه، واتسعت رقعته، وتعاقبت الأجيال عليه، وتدفّقت الخيرات على المسلمين بسبب الفتوح الكبرى، فهم بين مَنْ يتمسّك به ويدعو له كعقيدة راسخة - عن بصيرة كاملة، أو عن تأثّر بالمجتمع -، ومَنْ يتمسّك به ويدعو له لمصالحه الشخصية من مال أو جاه، أو نفوذ أو سلطان.

ومن ثمّ فالظاهر أنّ موقف الإمام الحسن (صلوات الله عليه) لم يكن ناشئاً من الحذر على كيان الإسلام العام، كما كان هو الحال في موقف أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرفيق الأعلى.

ولا بدّ أن يستند موقف الإمام الحسن (عليه السّلام) لوجوه أُخر يحسن بنا التعرّض لما يتيسّر لنا إدراكه منه.

والكلام.. تارة: في صلحه (صلوات الله عليه) مع معاوية.

وأُخرى : في صبره وعدم تغييره بعد ظهور الغدر من معاوية، ونقضه للعهد، وانتهاك الحرمات العظام؛ فالكلام في مقامين:

٤٦٩

المقام الأوّل

في صلح الإمام الحسن (عليه السّلام) مع معاوية

قد كثر الحديث في الصلح المذكور تقييماً ونقداً حسب اختلاف توجّهات المتحدّثين ومداركهم، ولا يسعنا تعقيب ما ذكروه، بل الأنسب الاقتصار على عرض وجهة نظرنا وتقريبه، فنقول:

تعذّر انتصار الإمام الحسن (عليه السّلام) عسكرياً

الذي يتراءى لنا أنّ إصرار الإمام الحسن (صلوات الله عليه) على حرب معاوية وثباته عليها حتى النهاية إن كان من أجل الانتصار، والحفاظ على استقامة مسار السلطة في الإسلام، فالنظرة الموضوعية لظروف الصراع بين الإمام ومعاوية تشهد بتعذّر انتصار الإمام (عليه السّلام) عسكرياً.

وذلك لتصاعد قوّة معاوية وطغيانه، ووهن أهل العراق بعد التحكيم الذي أشعرهم بالخيبة، وسبّب لكثير منهم الإحباط.

ولاسيما بعد انشقاقهم على أنفسهم في فتنة الخوارج وحربهم معهم، وما تسبب عن ذلك أو قارنه من ظهور الأحقاد بينهم، ومللهم من الحرب، وضعف بصائر كثير منهم، وانفتاح عيون جماعة من رؤسائهم على الدنيا، وانخداعهم بالمغريات التي كانوا ينتظرونها من معاوية، ولا يتوقّعون شيئاً منها من الإمام الحسن (عليه السّلام)؛ نتيجة مبدئيته وسيره على نهج أبيه (صلوات الله عليه)... إلى

٤٧٠

غير ذلك.

وإذا كان في معسكر الإمام (صلوات الله عليه) جماعة - من ذوي البصائر والإصرار على المضي في الحرب - قد ظهر منهم التبرّم من موقف الإمام (عليه السّلام) كما يأتي من بعضهم، فذلك منهم ناشئ عن قوّة بصيرتهم في حقّهم وفي باطل معاوية، وشدّة إبائهم للضيم بحيث فقدوا النظرة الموضوعية لواقع القوّتين المتصارعتين، والموازنة بينهم، وملاحظة نتائج الحرب وتأثيرها على الدعوة الحقّة على الأمد القريب والبعيد.

خطبة الإمام الحسن (عليه السّلام)

وقد أوضح ذلك الإمام الحسن (صلوات الله عليه) في خطبته لأصحابه التي رواها ابن الأثير بسنده عن ابن دريد، وفيها: «إنّا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنّا كنّا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فسُلبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. ألا وإنّا لكم كما كنّا، ولستم لنا كما كنتم. ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون ثاره. فأمّا الباقي فخاذل وأمّا الباكي فثائر. ألا وإنّ معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عزّ ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله (عزّ وجلّ) بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلناه، وأخذنا لكم الرضا». قال: فناداه القوم من كلّ جانب: البقيّة البقيّة. فلمّا أفردوه أمضى الصلح(١) .

____________________

١ - أسد الغابة ٢/١٣ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب، واللفظ له، سير أعلام النبلاء ٣/٢٦٩ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب، الكامل في التاريخ ٣/٤٠٦ أحداث سنة إحدى وأربعين من الهجرة، ذكر تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية، وغيرها من المصادر.

٤٧١

وقد روى هذه الخطبة الديلمي بتغيير يسير، وفيه: «فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر»(١) .

وفي كتاب له عليه السلام إلى معاوية: «أما بعد فإن خطبي انتهى إلى اليأس من حث أحييه وباطل أميته، وخطبك خطب من انتهى إلى مراده. وإنني أعتزل هذا الأمر وأخليه لك. وإن كان تخليتي إياه شراً لك في معادك. ولي شروط أشرطها...»(٢) . ويأتي منه (عليه السّلام) كلام آخر يناسب ذلك، ونحوهما غيرهما وإن كان الأمر أظهر من ذلك.

مخاطر الانكسار العسكري على دعوة الحقّ وحملتها

وحينئذ فخروج الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من الصراع بصلح يبتني على الشروط والعهد والميثاق، خير من خروجه بانكسار عسكري ينفرد به معاوية بالقرار. لوجوه:

الأوّل : إنّ الانكسار العسكري لا يحصل إلّا بعد أن تأكل الحرب ذوي البصائر الذين هم حصيلة جهود أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، لقوّة إصرارهم وتصميمهم على التضحية.

مع إنّ دعوة التشيّع في أمسّ الحاجة لهم من أجل حملها والتبليغ بها والدعوة له؛ لأنّها كانت حديثة الظهور على الصعيد العام في المجتمع الإسلامي، وكان حاميها القوّة بسبب تسنّم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) للسلطة من دون أن تتركّز عقائدياً على الصعيد العام، ولم تأخذ موقعها المناسب في المسلمين، فتبقى مهزوزة في مهبّ الرياح بعد انحسار سلطان أهل البيت (صلوات الله

____________________

١ - أعلام الدين/٢٩٢ - ٢٩٣.

٢- علل الشرائع ج: ١ ص: ٢٢١ باب: ١٦٠.

٤٧٢

عليهم).

وحينئذ يسهل على معاوية اكتساحها بعد انتصاره وقوّة سلطانه كما حاول ذلك وبذل غاية جهده، وإن لم يفلح نتيجة جهود هذه الجماعة، ووقوفها أمام مشروعه المذكور.

وهذا بخلاف الحال عند نهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ حيث قد تركّزت الدعوة عقائدياً، وتجذّرت في المجتمع الإسلامي، فالتضحية به (عليه السّلام) وبالنخبة الصالحة معه لم تؤثّر على سير الدعوة، بل كانت نقطة تحوّل فيه زادتها عزّةً وبهاءً، وقوّةً ورسوخاً، وظهوراً وانتشاراً، كما سبق.

ومعاوية وإن كان قد نقض العهد، وتتبّع كثيراً من الشيعة بعد ذلك قتلاً وسجناً وتشريداً وتنكيلاً، إلّا إنّ ذلك لا يبلغ محذور القضاء عليهم واستئصالهم في الحرب، أو بعد أن يتمّ له الانتصار:

أوّلاً : لأنّ معاوية لم يقضِ عليهم كلّهم، بل بقي كثير منهم، وقد بذلوا جهودهم لصالح دعوة الحقّ في حياة معاوية وبعد موته.

وثانياً : لأنّه لم يقضِ على كثير ممّنْ قضى عليهم إلّا بعد فترة استطاع فيها الضحية أن يؤدّي وظيفته في التبليغ بالدعوة الشريفة وتوضيح معالمها، وطبع بصماتها في المجتمع، وكان لذلك أثره الحميد في بقاء دعوة التشيّع، وتوارث الأجيال لها، واتساع رقعتها.

وثالثاً : لأنّ ظلامات الضحايا، ومواقفهم الصلبة في سبيل مبادئهم صارت وسام شرف للتشيّع؛ حيث اصطبغ بالدماء، وصار عنواناً لمقارعة الباطل، والصرخة في وجوه الظالمين، والتضحية من أجل المبادئ الحقّة، وقد تحقّق ذلك لأوّل مرّة في داخل المجتمع الإسلامي.

نظير موقف المسلمين المستضعفين الذين تعرّضوا للأذى والتعذيب من

٤٧٣

المشركين في مبدأ ظهور الإسلام، مع فارق الكمّ والكيف.

كما صارت تلك الظلامات سمة عارٍ على الحكم الأموي، وأحد الأسباب المهمّة في تشويه صورته، وزعزعة شرعيته، ولاسيّما إنّه يذكّر بموقف الأمويين السيئ من الإسلام في مبدأ ظهوره، وإنّ القوم أبناء القوم.

وخصوصاً إنّ ذلك ابتنى على نقض العهد والاستهانة به؛ استهتاراً بالمبادئ والقيم، وقد صرّح معاوية بذلك من أوّل الأمر؛ فقد قال في خطبته بالنخيلة عند دخوله الكوفة: ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به(١) .

مع إنّ كثيراً من أولئك الضحايا لهم أثرهم المحمود في الإسلام، ومكانتهم السامية في نفوس المسلمين، وقد هزّ مقتل حجر بن عدي وأصحابه المجتمع الإسلامي، وهو أحد أحداث معاوية وموبقاته المذكورة، فكيف صارت نظرة المسلمين لمعاوية بسبب ما سبقه ولحقه من جرائمه وتعدياته الكثيرة؟!

الثاني : إنّ قتل مَنْ يُقتل من الشيعة في الحرب أمر تقتضيه طبيعة الحرب، لا يُعَدّ بنظر جمهور الناس جريمة من معاوية، بل حتى قتلهم بعد حصول الانكسار العسكري؛ لأنّ المحاربين يكونون أسرى لا يستنكر من المنتصر قتلهم في تلك العصور.

ولذا عدّ عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين بعد فتح مكة، وعفو أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عن المقاتلين بعد حرب الجمل، تفضّلاً منهما.

أمّا قتل الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته وشيعته بعد الموادعة وأخذ العهود والمواثيق فهو من أعظم الجرائم الإنسانية والمستنكرات بنظر

____________________

١ - مقاتل الطالبيين/٤٥ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، واللفظ له، شرح نهج البلاغة ١٦/٤٦، أنساب الأشراف ٣/٢٩١ أمر الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السّلام).

٤٧٤

الخاصة والعامة.

وبذلك استطاع الإمام الحسن (عليه السّلام) أن يعصم دمه الزكي ودماء أهل بيته وشيعته، ويحفظ لهم حرمتهم، ويجعل قتل مَنْ قُتل منهم، والاعتداء على الباقين بوجوه أُخر جرائم مستنكرة دينياً وإنسانياً تشوّه صورة الحكم الأموي، وسبباً للتشنيع عليه والتنفير منه، وهو من أهم المكاسب في الصراع المبدئي.

الثالث: إنّ معاوية ليس كيزيد في الطيش والعنجهية، بل يختلف عنه بالحنكة وبُعْد النظر. والظاهر أنّ ذلك يمنعه من قتل الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته لو لم يُقتلوا في المعركة؛ لما لهم من المقام الديني الرفيع، والمكانة السامية في نفوس المسلمين، فلا يثير على نفسه غضب المسلمين بقتلهم، بل يستبقيهم؛ ليظهر بمظهر الحليم المتفضّل بعفوه بعد المقدرة.

وفي ذلك أعظم الوهن عليهم، وعلى دعوتهم الشريفة، كما يكون حاجزاً لهم عن الإنكار عليه في ممارساته الإجرامية ضدّ الدين والمسلمين؛ حيث يكون بنظر عامّة الناس من الردّ على الإحسان بالإساءة.

ولا أقلّ من أن يستغل معاوية ذلك ضدّهم ويوظّف قدراته التثقيفية والإعلامية للتهريج عليهم به، وتشويه صورتهم؛ من أجل أن يستغفل الناس، ويشغلهم به عن التوجّه لجرائمه ونقده.

تصريحات الإمام الحسن وبقيّة الأئمّة (عليهم السّلام) في توجيه الصلح

وقد أشار الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وبقيّة الأئمّة (عليهم السّلام) لكثير ممّا ذكرنا من أجل توجيه موقفه مع معاوية، وإقدامه على صلحه ومهادنته، وإقناع خواص أصحابه، والتخفيف من غلواء انفعالهم من الحدث المذكور، وأسفهم له.

٤٧٥

ففي حديث له (عليه السّلام) عن صلحه مع معاوية: «والله، ما سلّمت الأمر إليه إلّا إنّي لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكنّي عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم مَنْ كان فاسداً؛ إنّهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل، إنّهم لمختلفون، ويقولون لنا إنّ قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا»(١) .

وفي حديث له (سلام الله عليه) طويل مع أبي سعيد عقيصا قال: «يا أبا سعيد، إذا كنت ممّا مَنْ قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبس. ألا ترى الخضر لما خرق السفينة، وقتل الغلام، وأقام الجدار سخط موسى (عليه السّلام) فعله؛ لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي. هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قُتل»(٢) .

وفي رواية أُخرى عنه (عليه السّلام) أنّه قال: «إنّما هادنت حقناً للدماء وصيانته، وإشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي»(٣) .

وقال (عليه السّلام) لحجر بن عدي: «يا حجر، إنّي قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كلّ إنسان يحبّ ما تحبّ، ولا رأيه كرأيك، وإنّي لم أفعل ما فعلت إلّا إبقاء عليكم، والله تعالى كلّ يوم هو في شأن»(٤) .

وفي حديث له (عليه السّلام) آخر معه قال: «إنّي رأيت هوى عظم الناس في الصلح

____________________

١ - الاحتجاج ٢/١٢، بحار الأنوار ٤٤/١٤٧.

٢ - بحار الأنوار ٤٤/٢، علل الشرائع ١/٢١١، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف/١٩٦.

٣ - مناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب ٣/١٩٦، تنزيه الأنبياء/٢٢٢، بحار الأنوار ٤٤/٥٦.

٤ - الفتوح - لابن أعثم ٤/٢٩٥ ذكر مسير معاوية إلى العراق لأخذ البيعة لنفسه من الحسن بن علي، واللفظ له، مناقب آل أبي طالب - لابن شهرآشوب ٣/١٩٧، بحار الأنوار ٤٤/٥٧، شرح نهج البلاغة ١٦/١٥.

٤٧٦

وكرهوا الحرب، فلم أحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل، ورأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما؛ فإن الله كلّ يوم هو في شأن»(١) .

وفي حديث ثقيف البكّاء قال: رأيت الحسن بن علي (عليه السّلام) عند منصرفه من معاوية وقد دخل عليه حجر بن عدي، فقال: السّلام عليك يا مذلّ المؤمنين.

فقال: «مه؛ ما كنت مذلّهم، بل أنا معزّ المؤمنين، وإنّما أردت البقاء عليهم...»(٢) .

وقال (صلوات الله عليه) لعلي بن محمد بن بشير الهمداني: «ما أردت بمصالحتي معاوية إلّا أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال. والله، لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه»(٣) .

وقال فضيل بن مرزوق: أتى مالك بن ضمرة الحسن بن علي، فقال: السّلام عليك يا مسخم وجوه المؤمنين.

قال: «يا مالك لا تقل ذلك؛ إنّي لما رأيت الناس تركوا ذلك إلّا أهله خشيت أن تُجتثّوا عن وجه الأرض، فأردت أن يكون في الأرض ناعياً».

فقال: بأبي وأُمّي ذرية بعضها من بعض(٤) .

وفي حديث له (صلوات الله عليه) مع زيد بن وهب الجهني عن أصحابه لما طُعن (عليه السّلام) بالمدائن قال: «أرى والله أنّ معاوية خير لي من هؤلاء؛ يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي، وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي. والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي، وأومن به في أهلي خير من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي. والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. والله لئن

____________________

١ - الأخبار الطوال/٢٢٠ عند ذكر زياد بن أبيه.

٢ - دلائل الإمامة/١٦٦.

٣ - الأخبار الطوال/٢٢١ عند ذكر زياد بن أبيه.

٤ - تاريخ دمشق ١٣/٢٨٠ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب.

٤٧٧

أُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير، أو يمنّ عليّ فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمنّ بها وعقبه على الحي منّا والميت»(١) .

وفي حديث له (عليه السّلام) لما دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته قال (عليه السّلام): «ويحكم! ما تدرون ما عملت. والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت. ألا تعلمون أنّني إمامكم مفترض الطاعة عليكم، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة بنصّ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّ؟!». قالوا: بلى. قال: «أما علمتم أنّ الخضر (عليه السّلام) لما خرق السفينة...»(٢) .

وفي حديث للإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (صلوات الله عليه): «والله، للذي صنعه الحسن بن علي (عليهما السّلام) كان خيراً لهذه الأُمّة ممّا طلعت عليه الشمس»(٣) . وفي حديث آخر له عليه السلام عن سدير وفيه: «إن العلم الذي وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند علي عليه السلام. من عرفه كان مؤمناً، ومن جحده كان كافراً. ثم كان بعده الحسن عليه السلام. قلت: كيف يكون بذلك المنزلة وقد كان منه ما كان. دفعها إلى معاوية؟ فقال: اسكت، فإنه أعلم بما صنع. لولا ما صنع لكان أمر عظيم»(٤) ... إلى غير ذلك ممّا ورد عن الإمام الحسن وعن بقيّة الأئمّة (صلوات الله عليهم أجمعين).

والحاصل: إنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) قد نقل الشيعة بصلحه هذا من مقاتلين في حرب فاشلة، لا حرمة لهم في أعراف الحرب - خصوصاً في ذلك العصر - إلى معارضة يعتصمون بالعهد، ويتمتعون بكافة حقوق المسلمين،

____________________

١ - الاحتجاج ٢/١٠، بحار الأنوار ٤٤/٢٠.

٢ - كمال الدين وتمام النعمة/٣١٦، الاحتجاج ٢/٩، بحار الأنوار ٥١/١٣٢، إعلام الورى بأعلام الهدى ٢/٢٣٠.

٣ - الكافي ٨/٣٣٠، بحار الأنوار ٤٤/٢٥، تفسير العياشي ١/٢٥٨.

٤ - علل الشرائع ج: ١ ص: ٢١٠ - ٢١١ باب: ١٥٩.

٤٧٨

ولهم حرمة الدم والمال.

وبذلك يكون من حقّهم أن يقوموا بنشاطهم في خدمة خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وهو ما حصل فعلاً؛ فقد بذلوا في سبيل ذلك جهوداً مكثفة أدّت إلى ظهور الدعوة الحقّة، وانتشارها على الصعيد العام بين المسلمين.

ولاسيما بعد أن تفرّغ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) ومَنْ معه من بني هاشم بعد الصلح للجانب الثقافي، وواصلوا الشوط الذي بدأه أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) وأكّدوا المفاهيم التي طرحها بين المسلمين.

غاية الأمر أنّ معاوية بعدوانه وغشمه لم يمتع الشيعة بالحقوق المذكورة كاملة، ونكل بهم بعد ذلك، وحاول القضاء عليهم وتطويق الدعوة لخطّ أهل البيت (عليهم السّلام).

لكنّ ذلك - في واقعه - زاد من قوّة خطّ أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وصار سبباً في بلورة دعوتهم وظهوره، وتركزها وانتشارها بين المسلمين.

لا مجال لاستمرار الإمام (عليه السّلام) في الحرب حتى النفس الأخير

ومن جميع ما ذكرنا ظهر أنّه لا مجال لقول مَنْ يقول: كان على الإمام الحسن (صلوات الله عليه) الاستمرار في الحرب، لا من أجل الانتصار العسكري؛ لما سبق من تعذّره، بل كان عليه أن يستمر في الحرب حتى النفس الأخير وإن ضحى بنفسه وأهل بيته كما فعل الإمام الحسين (صلوات الله عليه).

إذ نقول في جواب ذلك: إنّ تضحية الإمام الحسين (عليه السّلام) لم تكن لمجرد الإباء والامتناع عن الخضوع للظالم ترفّعاً وإنكاراً للمنكر؛ ليشترك الإمام الحسن (عليه السّلام) معه في ذلك، وإنّما كان من أجل صلاح الدين على الأمد البعيد. ولا يتحقق ذلك في حق الإمام الحسن (عليه السّلام)؛ لاختلاف ظروفه (عليه السّلام) عن ظروف نهضة

٤٧٩

الإمام الحسين (عليه السّلام):

أوّلاً : لأنّ معاوية قد استولى على الخلافة بعد حرب طاحنة، برّرها بالطلب بدم عثمان، ثمّ استتبعت التحكيم الذي أضفى على خلافته شرعية صورية.

كما إنّ استمراره في الصراع بقوّة عسكرية آخذة بالتزايد جعلت منه واقعاً مفروضاً لا يُقهر، ويجب التعامل معه بحكمة بنظر جمهور الناس، وكثير من خاصتهم.

وليس هو كيزيد الذي استولى على الخلافة بولاية العهد على غرار القيصرية أو الكسروية ممّا لم يعهده المسلمون بعد، بل أنكروه أشدّ الإنكار. وهو بعد لم يفرض على الأرض بقوّة كقوّة معاوية.

واحتمال التغلّب عليه بسبب نقمة الناس لخلافته كان وارداً بنظر عامّة الناس، وإنّما كان التخوف من قبل بعض الخاصة لحسابات منطقية لا يدركها الجمهور.

ومجرّد علم الإمام (عليه السّلام) بعدم شرعية خلافة معاوية لا يكفي في ترتيب الأثر على تضحيته، ما لم تكن نظرته مدعومة بالرأي الإسلامي العام ولو في الجملة.

وثانياً : لأنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) في موقع الصراع على السلطة، والدفاع العسكري عن خلافة قد ثبتت له ببيعة أهل الكوفة بنظر جمهور المسلمين، وبالنصّ عند الخاصة من شيعته بناءً على نظرية لم تأخذ موقعها المناسب عند جمهور المسلمين.

وليس هو كالإمام الحسين (صلوات الله عليه) في موقف الامتناع من البيعة والإنكار للمنكر، قانعاً بأن يترك من دون أن يقود حرباً إنّما فرضت

٤٨٠