فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها2%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 291055 / تحميل: 7142
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

الحرب عليه فرضاً.

وبعبارة أخرى: الإمام الحسن (عليه السّلام) كان يقود حرباً خاسرة بنظر الناس، لا يبرّرها إلّا الإصرار الانفعالي والعناد، وليس كالإمام الحسين (عليه السّلام) في موقف الدفاع في حرب ظالمة تريد أن تفرض عليه بيعة يأباها، ولا مبرّر لإلزامه بها، بل هي فاقدة للشرعية بمقتضى الموازين المعروفة بين المسلمين آنذاك.

وثالثاً : لما ذكرناه آنفاً من أنّ دعوة التشيّع في أمسّ الحاجة لخواص الشيعة الذين سوف تأكلهم الحرب، أو يجتثّون عن جديد الأرض.

ورابعاً : لما سبق أيضاً من أنّ معاوية ليس كيزيد في طيشه وعنجهيته، فهو - على الظاهر - لا يقوم كما قام يزيد بكثير من الجرائم الوحشية التي زادت في فظاعة فاجعة الطفّ، وتأثيرها في نفوس المسلمين ضدّ الحكم الأموي.

بل من القريب جدّاً أن يستبقي معاوية الإمام الحسن (صلوات الله عليه) وأهل بيته لوحدهم بعد أن يقضي على أنصارهم كما سبق، وسبق بيان آثاره السلبية.

وخامساً : لأنّ تجربة الحكم الأموي المرّة في عهد معاوية الطويل قد زادت في مبرّرات الخروج عليه من قِبَل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في نظر عامّة المسلمين عمّا كان عليه في عهد الإمام الحسن (صلوات الله عليه) قبل مرور تلك التجربة.

وسادساً : لأنّ ظهور الاستهتار بالدين، والاستهانة بالقيم في يزيد أكثر من ظهورهما في معاوية بنظر عامّة الناس... إلى غير ذلك ممّا يظهر للمتأمّل، ويتّضح به الفرق الشاسع بين ظروف الإمامين (صلوات الله عليهما) المستتبع للفرق بينهما في المواقف، وفي أهمية التضحية ومبرّراتها، والآثار المترتبة عليها لصالح الدين.

٤٨١

تأييد الإمام الحسين (عليه السّلام) لموقف الإمام الحسن (عليه السّلام)

ولذا نرى الإمام الحسين (عليه السّلام) يؤيّد موقف الإمام الحسن (عليه السّلام)، ويدخل فيما دخل فيه، ويبقى على ذلك الموقف بعد وفاة الإمام الحسن (صلوات الله عليه) عشر سنين مع معاوية.

ولمّا امتنع (صلوات الله عليه) من الاستجابة لمعاوية في البيعة ليزيد بولاية العهد، وعرف رفضه (عليه السّلام) لها تطلّعت الشيعة لخلع معاوية، وكتب إليه جعدة بن هبيرة من الكوفة كتاباً يقول فيه:

أمّا بعد، فإنّ من قبلنا من شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك، لا يعدلون بك أحداً. وقد كانوا عرفوا رأي أخيك الحسن في دفع الحرب، وعرفوك باللين لأوليائك، والغلظة على أعدائك، والشدّة في أمر الله. فإن كنت تحبّ أن تطلب هذا الأمر فاقدم علينا؛ فقد وطّنا أنفسنا على الموت معك.

فأجابه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بكتاب أعمّه إلى جميع أهل الكوفة يقول فيه: «أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك؛ فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة مادام معاوية حي. فإنّ يحدث الله به حدثاً وأنا حي كتبت إليكم برأيي. والسّلام»(١) .

عظمة الإمام الحسن (عليه السّلام) في موقفه

والإنصاف أنّ النظرة الموضوعية لظروف الإمام الحسن (صلوات الله عليه) تقضي بعظمة موقفه الجريء في خدمة الدين، وفنائه في ذات الله (عزّ

____________________

١ - الأخبار الطوال/٢٢٢ موت الحسن بن علي.

٤٨٢

وجلّ) من أجل ذلك؛ لأنّه أقدم بموقفه هذا على أن يتجرّع الأذى والغصص من معاوية وأتباعه، ويتعرّض للتشنيع عليه بالجبن وحبّ العافية ونحوهما من أعدائه ومن جهلة الناس.

كما يتعرّض للّوم والتقريع من شيعته وأوليائه؛ لقِصَر نظرهم وجهلهم بوجه الحكمة في موقفه بحيث يصعب تفهمّهم له واقتناعهم به.

ويمكن التعرّف على مرارة ما كان يقاسيه (عليه السّلام) ممّا روي عن هزان، قال: قيل للحسن بن علي: تركت إمارتك وسلّمتها إلى رجل من الطلقاء، وقدمت المدينة! فقال: «إنّي اخترت العار على النار»(١) .

فإنّ هذا الحديث إن صدق فأيّ معاناة كان (عليه السّلام) يعانيها وهو يرى نفسه - مع جلالته ورفعة مقامه - قد جنى العار بصلحه، وإن كان كذباً وافتراءً عليه (عليه السّلام) فما أعظم معاناته وهو يرى أنّه قد تعرّض لأن يرميه الأعداء والجاهلون بتحمّل العار، والرضا به.

فهو (صلوات الله عليه) في صبره على ذلك كلّه من أجل صلاح الدين قد بلغ القمّة في الجهاد في سبيل الله تعالى والفناء في ذاته، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

فجزاه الله (عزّ وجلّ) عن دينه وأوليائه خير جزاء المحسنين، والسّلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً، ورحمة الله وبركاته وصلواته وتحياته، أنّه حميد مجيد.

____________________

١ - تاريخ دمشق ١٣/٢٦٦ في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب، واللفظ له، ترجمة الإمام الحسن (عليه السّلام) من طبقات ابن سعد/٨١ ح ١٤٠.

٤٨٣

المقام الثاني

في عدم مواجهة الإمام الحسن (عليه السّلام)

لمعاوية بعد ظهور غدره

من الظاهر أنّ معاوية قد أعلن من يومه الأوّل عن عدم التزامه بشروط الصلح، وقد سبق أنّه خطب في النخيلة عندما ورد الكوفة بعد الصلح، فقال في جملة ما قال: ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين، لا أفي به(١) .

ومن المعلوم أنّ تصريح معاوية هذا وإن كان - في واقعه - مبرّراً للإمام الحسن (صلوات الله عليه) في تخليه عن الصلح، بغض النظر عمّا يأتي التعرّض له، إلّا إنّ الأوضاع والموانع السابقة لم تتغيّر لصالحه بحيث يستطيع التخلّي عن الصلح وإعلان الحرب.

بل ربما زادت الأوضاع سوءاً بعد انفراط جيش الإمام (عليه السّلام)، ووصول معاوية بجيشه في راحة إلى مشارف الكوفة، وظهور الشقاق بين أصحاب الإمام؛ لاختلاف وجهات نظرهم من الصلح.

ومن القريب أنّ معاوية أدرك ذلك، فأعلن موقفه المذكور من الشروط، وإلاّ فمن البعيد جدّاً أن يغامر ويتسرّع من دون أن يأمن من مغبّة عمله.

____________________

١ - تقدّمت مصادره في/٤٧٤.

٤٨٤

نعم، بطول المدّة ربما تكون الأوضاع قد تغيّرت لصالح الإمام الحسن (صلوات الله عليه) من جهتين:

الأولى : تركّز عقيدة الشيعة عقائدياً في الجملة بحيث لا يخشى من انهيارها بتضحية جملة من خواص الشيعة مع الإمام الحسن (عليه السّلام)، كما ضحّوا أخيراً مع الإمام الحسين (عليه السّلام).

الثانية : تشوّه صورة الحكم الأموي؛ نتيجة استهتار معاوية بقيم المسلمين وحقوقهم، وظهور نقضه للعهد عملياً، وتعديه على أهل البيت (صلوات الله عليهم) وعلى شيعتهم.

تحرّك الشيعة في حياة الإمام الحسن (عليه السّلام)

ولعلّ ذلك هو الذي حمل جماعة من الشيعة في الكوفة على أن يراجعوا الإمام الحسن (صلوات الله عليه)، ويطلبوا منه الخروج على معاوية.

فعن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد أنّه قال: لما بايع الحسن بن علي معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال؛ فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية، فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجبّنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلّهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقّة في العقد، ولا حظّاً في العطية...، ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه ثمّ لم يفِ به، ثمّ لم يلبث أن قال على رؤوس الناس: إنّي كنت شرطت شروطاً، ووعدت عدات إرادة لإطفاء نار الحرب، ومداراة لقطع هذه الفتنة. فأمّا إذا جمع الله لنا الكلمة والألفة، وآمننا من الفرقة فإنّ ذلك تحت قدمي. فوالله ما اغترّني بذلك إلّا ما كان بينك وبينه وقد

٤٨٥

نقض. فإذا شئت فأعد الحرب جذعة، وأنذر(١) لي في تقدّمك إلى الكوفة، فأخرج عنها عاملها، وأظهر خلعه، وتنبذ إليهم على سواء؛ إنّ الله لا يحبّ الخائنين. وقال الآخرون مثل ما قال سليمان بن صرد.

فقال لهم الإمام الحسن (صلوات الله عليه): «أنتم شيعتنا، وأهل مودّتنا. فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل، ولسلطانها أربض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، ولا أشدّ شكيمة، ولا أمضى عزيمة، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت فيما فعلت إلّا حقن الدم؛ فارضوا بقضاء الله، وسلّموا لأمره، والزموا بيوتكم، وأمسكوا، أو قال: كفّوا أيديكم حتى يستريح برّ أو يُستراح من فاجر»(٢) .

وربما يكون تمسّكه (عليه أفضل الصلاة والسّلام) بموقفه وإصراره على الموادعة؛ من أجل أنّ الأوضاع وإن تغيّرت لصالحه (عليه السّلام) من الجهتين السابقتين إلّا إنّها لم تتغيّر من بقيّة الجهات السابقة، بل زاد في المشكلة أمران:

تقوية معاوية لسلطانه في فترة حكمه

الأوّل: إنّ معاوية وإن استهتر بقيم المسلمين وحقوقهم، إلّا إنّه اشترى ضمائر كثير من ذوي المكانة والنفوذ في المجتمع، كما إنّه أحكم أمر سلطانه، وزاد في قوّة دولته بالترغيب والترهيب بنحو قد لا يتهيّأ استجابة فئة معتدٍ بها للإمام الحسن (صلوات الله عليه) كما حصل للإمام الحسين (صلوات الله عليه)؛ حيث استجابت له فئة كبيرة من الناس بحيث كان خروجه مبرّراً نسبياً، وإن

____________________

١ - هكذا ورد في الطبعة المعتمد عليها، ولكن الوارد في طبعة دار اليقظة العربية تحقيق: محمود فردوس العظم ج: ٢ ص: ٣٩١ «وائذن لي».

٢ - أنساب الأشراف ٣/٢٩٠ - ٢٩١ أمر الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)، واللفظ له، الإمامة والسياسة ١/١٣٣ - ١٣٤ إنكار سليمان بن صرد.

٤٨٦

غدروا به بعد ذلك، أو عجزوا عن الالتحاق به ونصره.

استغلال معاوية للعهد

الثاني: إنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) كان مقيّداً مع معاوية بصلح وميثاق يمنعه من الخروج عليه والمواجهة معه.

ونقض معاوية للشروط وإن كان مبرّراً شرعياً وواقعياً لخروج الإمام (عليه السّلام) عن الصلح، إلّا إنّ معاوية بما يملك من قوى إعلامية وتثقيفية هائلة يستطيع أن يغفل عامّة المسلمين عن جريمته في البدء بنقض الشروط، ويظهر الإمام الحسن (صلوات الله عليه) بمظهر الناقض للعهد؛ من أجل أن يكثّف القوى ضدّه.

كما إنّه بذلك يضعف قوّة الإمام (عليه السّلام) المعنوية، ويشوّه صورته بنحو يتنافى مع مقام الإمام الرفيع في القدسية والمبدئية والمثالية، وصورة الدعوة الشريفة التي يتبنّاها (صلوات الله عليه) بحيث يضرّ بها عقائدياً.

وبعبارة أُخرى: لا يكفي في الحفاظ على قدسية رموز الدين وقدسية دعوتهم - بحيث تأخذ موقعها المناسب عقائدياً - الحفاظ على المبادئ والمثالية واقعاً، وفي علم الله تعالى، بل لا بدّ مع ذلك من البعد من مواقع التهم، وتجنّب كلّ ما يمكن أن يستغله الخصوم في تشويه صورتهم وإن ابتنى على تجاهل الحقائق والكذب والبهتان والتهريج غير المسؤول.

ولذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه حينما طلبوا منه قتل عبد الله بن أُبي - بعد أن أعلن بمواقفه السلبية منه ومن دعوته - قال: «لا يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه»(١) .

____________________

١ - صحيح البخاري ٦ كتاب التفسير، باب تفسير سورة المنافقين/٦٥ باب قوله سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين،/٦٧ باب يقولون لئن =

٤٨٧

ولما عرضوا عليه أن يقتل مَنْ نفّر ناقته وحاول إلقاءه في العقبة قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا. أكره أن تتحدّث العرب بينها أنّ محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم...»(١) .

ولمّا نقض معاوية شروط الموادعة مع أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) وأخذ يشنّ الغارات على بلاده خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقال: «ما لمعاوية قاتله الله؟! لقد أرادني على أمر عظيم. أراد أن أفعل كما يفعل؛ فأكون قد هتكت ذمّتي، ونقضت عهدي، فيتّخذها عليّ حجّة، فتكون عليّ شيناً إلى يوم القيامة كلّما ذُكرت. فإن قيل له: أنت بدأت. قال: ما علمت ولا أمرت. فمن قائل يقول: قد صدق. ومن قائل يقول: كذب. أمَ والله، إنّ الله لذو أناة وحلم عظيم. لقد حلم عن كثير من فراعنة الأوّلين، وعاقب فراعنة، فإن يمهله الله فلن يفوته، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه. فليصنع ما بدا له، فإنّا غير غادرين بذمتنا، ولا ناقضين لعهدنا، ولا مروعين لمسلم ولا معاهد حتى ينقضي شرط الموادعة بيننا إن شاء الله»(٢) .

ونظير ذلك ما سبق في أواخر المقصد الأوّل - عند الكلام في تبدّل موقف السلطة من فاجعة الطفّ ومحاولتها التنصّل منها - من كلام معاوية مع عبيد الله بن العباس في التنصّل ممّا فعله بسر بن أرطاة وقتله لولديه(٣) .

____________________

= رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، صحيح مسلم ٨/١٩ كتاب البرّ والصلّة والآداب، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً، وغيرهما من المصادر الكثيرة.

١ - تفسير ابن كثير ٢/٣٨٦ - ٣٨٧، واللفظ له، البداية والنهاية ٥/٢٥ في أحداث سنة تسع من الهجرة، تخريج الأحاديث والآثار - للزيلعي ٢/٨٤ الحديث الخامس والثلاثون، الدرّ المنثور ٣/٢٦٠، تاريخ الإسلام ٢/٦٤٨ في فائدة، السيرة الحلبية ٣/١٢١، وغيرها من المصادر.

٢ - الإرشاد ١/٢٧٥ - ٢٧٦، بحار الأنوار ٣٤/١٥٢ - ١٥٣.

٣ - تقدّم في/١٣١.

٤٨٨

وعلى ذلك فمعاوية وإن جدّ في نقض الشروط التي بينه وبين الإمام الحسن (صلوات الله عليه)، إلّا إنّ الإمام (عليه السّلام) لو استعمل حقّه الواقعي وخرج عليه لأغفل معاوية ما سبق منه، وسلّط الأضواء على موقف الإمام (صلوات الله عليه)، وركّز إعلامه عليه، وأخذ يشنّع على الإمام (عليه السّلام) بأنّه قد نقض العهد، وخاس بشرطه، وجنّد قوّته الإعلامية الهائلة، ورواة السوء من أجل ذلك بحيث يخدش في قدسية الإمام (صلوات الله عليه)، وقدسية دعوته، ويزعزع بعدهما العقائدي.

وهي طريقة المبطلين المألوفة في صراعهم مع غيرهم، وما أكثر مفردات ذلك، بل نحن قد عشنا ولازلنا نعيش مع بعض تلك المفردات.

وهذا معاوية نفسه كتب له مروان أنّه لا يأمن وثوب الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فكتب للإمام (عليه السّلام): أمّا بعد، فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقّاً - فقد أظنّك تركتها رغبة - فدعها. ولعمر الله إنّ مَنْ أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء...، وعظ نفسك فاذكر، ولعهد [وبعهد.خ] الله أوف.... وهو بذلك يغفل بدءه بنقض العهد.

ولذا أجابه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بكتاب يقول فيه بعد كلام طويل يتضمّن استعراض موبقاته، ومنها قتله لجماعة من الشيعة: «إنّك قد ركبت بجهلك، وتحرّضت [تحرصت] على نقض عهدك. ولعمري، ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق...»(١) .

____________________

١ - اختيار معرفة الرجال ١/١٢٠ - ١٢٤ عند ذكر عمرو بن الحمق، وقد ذكر الكتابين بتغيير يسير واختصار في تاريخ دمشق ١٤/٢٠٥ - ٢٠٦ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، وتهذيب الكمال ٦/٤١٣ - ٤١٤ في ترجمة الحسين بن علي بن أبي طالب، وتاريخ الإسلام ٥/٦ في أحداث سنة واحد وستين من الهجرة، مقتل الحسين، والبداية والنهاية ٨/١٧٤ أحداث سنة =

٤٨٩

فإذا كان هذا خطابه للإمام الحسين (عليه السّلام) الذي عانى من مرارة خروقاته للعهود والمواثيق، واستهانته بها، فكيف يكون خطابه لعامّة الناس مع ما يملك من قوى إعلامية هائلة، وأعوان نفعيين لا يبالون بتشويه الحقيقة وتحريفها لصالح مشروعه الجهنمي؟!

والحاصل: إنّ الإمام الحسن (صلوات الله عليه) لم يكن مع معاوية في وضع يسمح له بالتضحية والفداء كما فعل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) مع يزيد، فضلاً عن أن يدخل في صراع مع معاوية من أجل إصلاح الأوضاع وتعديل مسيرة الإسلام التي انحرفت بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزاد انحرافها في عهد معاوية كما هو الوضع الطبيعي في كلّ انحراف.

وإذا كان كثير من الشيعة في الكوفة قد حاولوا حمل الإمام الحسن (عليه السّلام) على الثورة والتغيير بعد نقض معاوية للعهد وسوء سيرته فيهم؛ فذلك منهم ناشئ عن فقدهم النظرة الموضوعية نتيجة تأجّج عاطفتهم نحو أهل البيت (صلوات الله عليهم) وشدّة أسفهم لاعتزالهم السلطة، وإنكارهم سوء سيرة معاوية؛ ولذا لم يستجب الإمام (عليه السّلام) لهم وإن طيّب خواطرهم وأثنى عليهم.

موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) في عهد معاوية بعد أن تقلّد الإمامة

وبذلك يظهر تعذّر كلا الأمرين أيضاً من الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في عهد معاوية بعد تقلّده للإمامة خلفاً لأخيه الإمام الحسن (صلوات الله عليه)؛ فإنّ جميع ما سبق في وجه تعذّر خروج الإمام الحسن (عليه السّلام) على معاوية جارٍ في حقّه (عليه السّلام)؛ حيث لم يتغيّر شيء كما هو ظاهر.

وقد سبق منه (صلوات الله عليه) في جوابه لكتاب أهل الكوفة التصريح

____________________

= ستين من الهجرة، صفة مخرج الحسين إلى العراق، وغيرها من المصادر.

١ - تدّم في/٤٦٥.

٤٩٠

بامتناعه عن الخروج مادام معاوية حيّاً(١) ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم، وإليه يرجع الأمر كلّه.

____________________

١ - تقدّم في/٤٨٢.

٤٩١

٤٩٢

الفصل الثالث

في موقف الأئمّة من ذرية الحسين (عليه السّلام)

أوضحنا فيما سبق تعذّر الإصلاح وإرجاع السلطة في الإسلام إلى مسارها الصحيح بعد الانحراف الذي حصل، وأنّ الأئمّة (صلوات الله عليهم) كلّهم على بصيرة من ذلك من اليوم الأوّل وإن لم يتسنَّ لهم التصريح به، والتأكيد عليه إلّا بعد فاجعة الطفّ.

لا موجب للتضحية بعد فاجعة الطفّ

وأمّا التضحية بالنحو الذي أقدم عليه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) في نهضته المباركة، فلا مجال لها من الأئمّة من ذريته (عليهم السّلام).

لما سبق من أنّ دوافع التضحية المذكورة ليست انفعالية مزاجية، أو نتيجة التنفّر من الفساد والانحراف، أو لمجرد الإباء والشمم، أو نحو ذلك؛ ليشاركوا (عليهم السّلام) الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فيه، أو في شيء منه، بل لا بدّ من كون الهدف منها مكاسب للدين الحنيف تناسب حجم التضحية.

وقد سبق أنّ الذي ظهر لنا من فوائد نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) وثمراتها هو إكمال مشروع أمير المؤمنين (عليه السّلام) في إيضاح معالم الدين، وسلب شرعية السلطة التي كانت تتحكّم فيه، وتركيز دعوة التشيّع، ودفعها باتجاه التوسّع والانتشار.

وبعد حصول ذلك كلّه بجهود الأئمّة الأوّلين (عليهم السّلام) وخاصة شيعتهم،

٤٩٣

وتضحياتهم التي بلغت القمّة في فاجعة الطفّ، لا يبقى مبرّر للتضحية من الأئمّة الباقين (عليهم السّلام) أو من شيعتهم.

ولاسيما بعد أن فُتِح بعد فاجعة الطفّ باب الإنكار على السلطة وتعريته، والتذكير بجرائمه، والتأكيد على عدم شرعيته من قبل فئات كثيرة غير الشيعة الإمامية، وبدأ الخروج عليها حتى من غير الخوارج.

اهتمام الأئمّة (عليهم السّلام) بالحفاظ على شيعتهم

ولذا بدأوا (صلوات الله عليهم) يحثّون شيعتهم على أن يحافظوا على أنفسهم، ويحقنوا دماءهم، ولا يتعرّضوا للسلطان، ولا يذلّوا أنفسهم بالاحتكاك به، وظهور مخالفتهم له، ويتجنّبوا الجدل والخصومة مع الجمهور، ويبعدوا عن مظان الشهرة، ويحذروا من التعرّض لتشهير الناس بهم وتهريجهم عليهم.

وأكّدوا على التقيّة في الدين، وكتمان الحقّ عن غير أهله، وتجرّع الغيظ والصبر على ما يقاسونه من أعدائهم... إلى غير ذلك ممّا يجري هذا المجرى.

وما ورد عنهم (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) في ذلك من الكثرة بحيث يتعذّر استيعابه هنا، ويسهل التعرّف عليه بأدنى مراجعة لتراثهم الثقافي الرفيع، وملاحظة لسلوكهم (عليهم السّلام) وسلوك خواصّ أصحابهم.

وقد استطاعوا بذلك أن يكبحوا جماح غضب الشيعة وانفعالهم، ويحدّوا من اندفاعاتهم الانفعالية والعاطفية؛ حفاظاً عليهم.

كلّ ذلك لشدّة اهتمامهم (صلوات الله عليهم) ببقاء المؤمنين وتكثيرهم من أجل أن يؤدّوا ما عليهم من حمل دعوة الحقّ والحفاظ عليها والتبليغ به، وتجسيد تعاليمها عملاً؛ كي تبقى حيّة فاعلة جيلاً بعد جيل.

٤٩٤

اهتمام الأئمّة (عليهم السّلام) بتقوية كيان الشيعة

وبعد ذلك انصبّت جهود الأئمّة (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) - بعهد من الله (عزّ وجلّ) ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتوجيه منهما - على تقوية كيان التشيّع وبلورة مفاهيمه، واستثمار مكاسبه السابقة لصالح دعوته الشريفة، وذلك بأمور:

التأكيد على تعذّر تعديل مسار السلطة ولزوم مهادنتها

الأوّل: التأكيد على الحقيقة السابقة، وإقناع الشيعة بها، وهي تعذّر إقامة الحكم الصالح، وتعديل مسار السلطة في الإسلام بعد الانحراف الذي حصل، وما ترتّب عليه من سلبيات في المجتمع الإسلامي.

وإنّه نتيجة لذلك صاروا هم (صلوات الله عليهم) وأتباعهم في هدنة مع السلطة الغاشمة حتى قيام الإمام الثاني عشر، الحجّة المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

من دون أن يغفلوا (عليهم السّلام) جور السلطة الظالمة، وعدم شرعيتها، ووجوب مباينتها، وحرمة التعاون معها والركون إليها، وما جرى مجرى ذلك ممّا يؤكّد الحاجز النفسي بينهم وبينها.

ثمرات مهادنة السلطة

وكان نتيجة المهادنة المذكورة، وعدم التصدّي لمواجهة الحاكم، وظهور ذلك عنهم (عليهم السّلام) وعن شيعتهم أن كسب التشيّع:

أوّلاً : عدم التفريط بقدرات الشيعة وطاقاتهم، وصرفها في محاولات غير مجدية، بل قد تعود عليهم بأضرار فادحة، وتوجيه تلك القدرات والطاقات الهائلة لما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويركّز دعوتهم الحقّة ويشيدها.

٤٩٥

بل انصراف الشيعة عن الصراع السياسي والعسكري يجعلهم - من حيث يريدون أو لا يريدون - أحرص على نشاطاتهم الدينية - خصوصاً المذهبية منها - من أجل التنفيس عن كبتهم، وتثبيت هويتهم وشخصيتهم، وإثبات وجودهم، كردّ فعل صامت على مواقف السلطات المتعاقبة ضدّهم، وجورها عليهم.

وثانياً : تخفيف ضغط السلطات على الشيعة والتشيّع نسبياً رغم ابتناء الإمامة عند الشيعة على عدم شرعية تلك السلطات، وقيام الشيعة بكثير من الممارسات التي لا تعجبه، وعدم تجاوبهم مع كثير من ممارسات السلطة، بل استنكارهم لبعضها ولو برفق وهدوء.

وذلك لانشغال السلطة عنهم بمكافحة المعارضة المسلحة التي تهدّدها بالمباشرة، وإلى ذلك يشير ما ورد عنهم (صلوات الله عليهم) من أنّ الله (عزّ وجلّ) جعل الزيدية وقاء للشيعة(١) .

وحتى لو تفرّغ الحاكم للشيعة، وحاول التنكيل بهم - كما حدث كثيراً - فإنّه يعدّ لدى المنصف ظالماً بعد أن لم يمارسوا الكفاح المسلح، ولا ينازعونه سلطانه، وذلك يرفع معنوياتهم في أنفسهم، ويوجب تعاطف الناس معهم، وكلاهما مكسب مهمّ في حساب المبادئ.

التركيز على فاجعة الطفّ وعلى ظلامة أهل البيت (عليهم السّلام)

الثاني: التركيز على فاجعة الطفّ وعلى الجانب العاطفي منها بالخصوص، والانطلاق من ذلك للتذكير بظلامة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وظلامة الحقّ الذي يحملونه ويدعون إليه، ولشجب الظالمين، والإنكار عليهم، والتنفير منهم.

ثمّ تثبيت هوية التشيّع في التولّي لأولياء الله (عزّ وجلّ)، والبراءة من أعدائه

____________________

١ - الغيبة - للنعماني/٢٠٤، بحار الأنوار ٥٢/١٣٩.

٤٩٦

وأعداء أهل البيت (عليهم السّلام) وظالميهم وغاصبي حقوقهم، والاهتمام بالحقيقة من أجل الحقيقة، لا من أجل المكاسب المادية.

وكان الأئمّة (صلوات الله عليهم) يتحرّون المناسبات المختلفة للتذكير بالفاجعة، وللتفاعل بها، ويؤكّدون على إحيائها بالحثّ على قول الشعر في الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، والبكاء عليه، والتأكيد على أهمية الدمعة في ذلك، والقيام بمظاهر الحزن المختلفة من أجله (عليه السّلام)، وحضور مجالس العزاء.

مع بيان عظيم أجر ذلك وجزيل ثوابه بوجه مذهل، كلّ ذلك في نصوص وممارسات كثيرة منهم (عليهم السّلام) تفوق حدّ الإحصاء.

وبذلك فتحوا لشيعتهم الباب لأمرين لم يألفهما عامّة المسلمين ولو بسبب الظروف الخانقة، والفتن المتلاحقة والعصبية العمياء التي أذهلتهم عن التعرّف على واقع دينهم، والأخذ بتعاليمه الحقّة التي رووها(١) ، وأمروا بالرجوع فيها لأهل البيت (صلوات الله عليهم).

____________________

١ - فقد روى الجمهور الحثّ على زيارة قبور أهل البيت (صلوات الله عليهم) والإمام الحسين (عليه السّلام) خاصة، راجع مقتل الحسين - للخوارزمي ٢/١٦٦ - ١٧٢ الفصل الرابع عشر في ذكر زيارة تربة الحسين صلوات الله عليه وفضله، وذخائر العقبى/١٥١ ذكر ما جاء في زيارة قبر الحسين بن علي (رضي الله عنهم)، والفتوح - لابن أعثم ٤/٣٣١ - ٣٣٢ ابتداء أخبار مسلم بن عقيل والحسين بن علي وولده وشيعته من ورائه، وأهل السُنّة وما ذكروا في ذلك من الاختلاف، وغيرها من المصادر.

كما روى الجمهور أيضاً استحباب صوم يوم الغدير تجديداً؛ لذكرى نصب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين (عليه السّلام) وإعلان ولايته. تاريخ بغداد ٨/٢٨٤ في ترجمة حبشون بن موسى بن أيوب، تاريخ دمشق ٤٢/٢٣٣ في ترجمة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، البداية والنهاية ٥/٢٣٣ في فصل لم يسمه، وج ٧/٣٨٦ في حديث غدير خم، السيرة النبوية - لابن كثير ٤/٤٢٥ فصل في إيراد الحديث الدال على أنّه (عليه السّلام) خطب بمكان بين مكة والمدينة مرجعه من حجّة الوداع يُقال له غدير خم، شواهد التنزيل ١/٢٠٠، ٢٠٣، وغيرها من المصادر.

٤٩٧

التأكيد على زيارة الإمام الحسين (عليه السّلام) وجميع أهل البيت (عليهم السّلام)

أحدهما : زيارة الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، ومنها انطلقوا لزيارة جميع المعصومين (صلوات الله عليهم)، وزيارة كثير من أبنائهم والأبرار من أوليائهم؛ مذكّرين بأحاديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك.

مع تأكيد مكثف منهم (عليهم السّلام) على ذلك لا يسعنا استقصاؤه، إلّا إنّه يحسن بنا أن نثبت حديثاً واحداً يتضمّن جوانب مثيرة وملفتة للنظر.

حديث معاوية بن وهب

فقد روي بطرق كثيرة عن معاوية بن وهب قال: استأذنت على أبي عبد الله (عليه السّلام) فقيل لي: ادخل. فدخلت فوجدته في مصلاّه في بيته، فجلست حتى قضى صلاته، فسمعته وهو يناجي ربّه، وهو يقول:

«اللّهمّ يا مَنْ خصّنا بالكرامة، ووعدنا بالشفاعة، وخصّنا بالوصية، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا.

اغفر لي ولإخواني وزوّار قبر أبي عبد الله الحسين الذين أنفقوا أموالهم، وأشخصوا أبدانهم رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيّك، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضوانك.

فكافهم عنّا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلفوا بأحسن الخلف وأصحبهم، وأكفّهم شرّ كلّ جبار عنيد، وكلّ ضعيف من خلقك وشديد، وشرّ شياطين الإنس والجن، وأعطهم أفضل ما أمّلوا منّك في غربتهم عن أوطانهم، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.

٤٩٨

اللّهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على مَنْ خالفنا.

فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تتقلّب على حفرة أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام)، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا.

اللّهمّ إنّي أستودعك تلك الأبدان وتلك الأنفس حتى توافيهم [ترويهم] من الحوض يوم العطش [الأكبر]».

فمازال يدعو وهو ساجد بهذا الدعاء، فلمّا انصرف قلت: جعلت فداك، لو أنّ هذا الذي سمعت منك كان لمَنْ لا يعرف الله (عزّ وجلّ) لظننت أنّ النار لا تطعم منه شيئاً أبداً. والله، لقد تمنّيت إنّي كنت زرته ولم أحج. فقال لي: «ما أقربك منه، فما الذي يمنعك من زيارته؟».

ثمّ قال لي: «يا معاوية، ولِمَ تدع ذلك؟». قلت: جعلت فداك، لم أدرِ أنّ الأمر يبلغ هذا كلّه. فقال: «يا معاوية، مَنْ يدعو لزوّاره في السماء أكثر ممّنْ يدعو لهم في الأرض»(١) .

ويبدو أنّ الشيعة أو عموم المسلمين اندفعوا لذلك من اليوم الأوّل بصورة مكثفة، وكأنّهم كانوا مهيئين إلى أنّه إذا قُتل الإمام الحسين (صلوات الله عليه) فينبغي أن يُزار، ويُحيى ذكره.

فقد ورد أنّ الإمام زين العابدين (صلوات الله عليه) حينما رجع بالعائلة الثاكلة من الشام إلى المدينة المنوّرة طلبوا من الدليل أن يمرّ بهم على كربلاء، فوصلوا

____________________

١ - كامل الزيارات/٢٢٨ - ٢٢٩، واللفظ له، الكافي ٤/٥٨٢ - ٥٨٣، ثواب الأعمال/٩٥، بحار الأنوار ٩٨/٨ - ٩.

٤٩٩

إلى مصرع الإمام الحسين (عليه السّلام)، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وردوا لزيارة قبر الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، فتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم، وأقاموا في كربلاء ينوحون على الإمام الحسين (عليه السّلام)(١) .

كما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه جاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السّلام)، وقام بالزيارة بآدابها على نحو ما ورد عن أهل البيت (عليهم السّلام) في مراسيم زيارته (صلوات الله عليه)(٢) ، وأنّه أوّل مَنْ زار الإمام الحسين (عليه السّلام)(٣) .

وعن نوادر علي بن أسباط عن غير واحد قال: لما بلغ أهل البلدان ما كان من أبي عبد الله (عليه السّلام) قدمت لزيارته مئة ألف امرأة ممّنْ كانت لا تلد، فولدنَ كلّهنّ(٤) .

تحقيق الوعد الإلهي ببقاء قبره الشريف علماً للمؤمنين

وكأنّ ذلك تحقيق للوعد الإلهي الذي تضمّنته النصوص الكثيرة، ومنها ما عن عقيلة بني هاشم زينب الكبرى (عليها السّلام)، بنت الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حين مرّوا بهم على الإمام الحسين وأهل بيته وصحبه (صلوات الله عليهم) وهم مضرّجون بدمائهم، مرمّلون بالعراء؛ فضاق صدر الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ممّا رأى، فأخذت تسلّيه، وقالت له: لا يجزعنّك ما ترى؛ فوالله إنّ ذلك لعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جدّك وأبيك وعمّك. ولقد أخذ

____________________

١ - اللهوف في قتلى الطفوف/١١٤، بحار الأنوار ٤٥/١٤٦.

٢ - بحار الأنوار ٦٥/١٣٠ - ١٣١، بشارة المصطفى/١٢٥ - ١٢٦، مقتل الحسين - للخوارزمي ٢/١٦٧ - ١٦٨.

٣ - مصباح المتهجد/٧٨٧، مسار الشيعة/٤٦.

٤ - بحار الأنوار ٤٥/٢٠٠.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672