فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها2%

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 672

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها
  • البداية
  • السابق
  • 672 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 290773 / تحميل: 7124
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

فاجعة الطف أبعادها - ثمراتها - توقيتها

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

الله ميثاق أناس من هذه الأُمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأُمّة، وهم معروفون في أهل السماوات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلّا ظهوراً، وأمره إلّا علّواً.

ولمّا سألها الإمام زين العابدين (عليه السّلام) عمّا تعرفه من هذا العهد المعهود حدّثته بحديث أُمّ أيمن الطويل، وفيه يقول جبرئيل (عليه السّلام) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ثمّ يبعث الله قوماً من أُمّتك لا يعرفهم الكفّار لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيّة، فيوارون أجسامهم، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء؛ يكون علماً لأهل الحقّ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز...، وسيجدّ أُناس حقّت عليهم من الله اللعنة والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر ويمحوا أثره فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلاً»(١) .

وعلى كلّ حال فقد استمر شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) على ذلك حتى صار في فترة قصيرة شعاراً لهم معروفاً عنهم يمتازون به عن غيرهم.

تجديد الذكرى بمرور السُنّة

ثانيهما : تجديد الذكرى بتعاقب السنين بحيث يكون وقت الفاجعة من السنة موسماً سنوياً يتجدّد فيه الأسى والحسرة، ومظاهر الحزن ونحو ذلك ممّا يناسب الذكرى الأليمة.

فقد ورد عنهم (عليهم السّلام) التأكيد على اتخاذ يوم عاشوراء يوم مصيبة وحزن وبكاء، مع التعطيل فيه، وعدم السعي لما يتعلّق بأمر الدنيا.

____________________

١ - راجع ملحق رقم (٦).

٥٠١

ففي حديث إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا (عليه السّلام): «إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستُحلت فيه دماؤنا، وهُتكت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمة في أمرنا.

إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء؛ فعلى مثل الحسين فليبك الباكون؛ فإنّ البكاء يحطّ من الذنوب العظام».

ثمّ قال (عليه السّلام): «كان أبي (صلوات الله عليه) إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين صلوات الله عليه»(١) .

وفي حديث الحسن بن علي بن فضال عنه (عليه السّلام) قال: «مَنْ ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومَنْ كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله (عزّ وجلّ) يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه.

ومَنْ سمّى يوم عاشوراء يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك له فيما ادّخر، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد (لعنهم الله) إلى أسفل درك من النار»(٢) ... إلى غير ذلك ممّا ورد عنهم (صلوات الله عليهم).

____________________

١ - الأمالي - للصدوق/١٩٠، واللفظ له، إقبال الأعمال ٣/٢٨، بحار الأنوار ٤٤/٢٨٣ - ٢٨٤.

٢ - الأمالي - للصدوق/١٩١، بحار الأنوار ٤٤/٢٨٤.

٥٠٢

وذلك لم يكن معروفاً قبل حادثة الطفّ إلّا ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) في ذكرى يوم الغدير(١) ، لكنّه لم يأخذ موقعه المناسب عند الشيعة بسبب الانتكاسة والمحن التي مُني بها التشيّع بقتل أمير المؤمنين (عليه السّلام) حتى جدّده الأئمّة من ولده (صلوات الله عليهم) مذ قام للشيعة كيان ظاهر بعد فاجعة الطفّ، وتوجّهوا (عليهم السّلام) لتثقيف شيعتهم ونظم أمرهم.

وقد فتح ذلك الباب لتجديد الذكرى السنوية في جميع المناسبات المتعلّقة بالدين والمذهب في الأحزان والأفراح.

شدّ الشيعة نحو الإمام الحسين (عليه السّلام) بمختلف الوجوه

كما حاول الأئمّة (صلوات الله عليهم) تذكير الشيعة بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) وشدّهم نحوه بمختلف الوجوه.

منها: تأكيدهم (عليهم السّلام) على تميّز تربته الشريفة بالسجود عليه، والتسبيح بها، ووضعها مع الميت في قبره، وغير ذلك من وجوه التبرّك والتكريم.

ومن أهمّها الاستشفاء بها؛ لما له من الآثار التي يدركها الناس باستمرار، ويرونها عياناً في وقائع كثيرة تفوق حدّ الإحصاء(٢) .

ومنها: تنبيههم إلى كرامة مشهده الشريف وتميّزه باستجابة الدعاء فيه، وتخيير المسافر في صلاته بين القصر والتمام، كمكّة المعظمّة والمدينة المنوّرة

____________________

١ - مصباح المتهجد/٧٥٤ - ٧٥٥.

٢ - قال جعفر الخلدي: كان بي جرب عظيم، فتمسّحت بتراب قبر الحسين فغفوت فانتبهت وليس عليّ منه شيء. المنتظم ٥/٣٤٦ - ٣٤٧ أحداث سنة إحدى وستين من الهجرة، مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السّلام)، واللفظ له، بغية الطلب في تاريخ حلب ٦/٢٦٥٧ في ترجمة الحسين بن علي بن عبد مناف أبي طالب، الأمالي - للشجري ١/١٦٥ الحديث الثامن، في فضل الحسين بن علي (عليهم السّلام) وذكر مصرعه وسائر أخباره وما يتصل بذلك.

٥٠٣

والكوفة، أو خصوص مسجده؛ فهو رابع المواضع المتميّزة بذلك؛ لكرامتها عند الله تعالى.

ومنها: تنبيههم إلى ظلامته (عليه السّلام) في منع ماء الفرات عنه حتى اشتدّ العطش به وبأطفاله وعائلته وبجميع مَنْ معه، ثمّ الحثّ على ذكره عند شرب الماء، والسّلام عليه ولعن قاتليه... إلى غير ذلك.

وعلى كلّ حال فقد تحوّلت هذه الأمور من ممارسات عابرة إلى شعارات صارخة يتميّز بها الشيعة عن غيرهم، وكان ثمرتها توحيد جماعتهم وتثبيت هويتهم، وتأكيد ولائهم لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، وتمسّكهم بخطّهم، والبراءة من أعدائهم وظالميهم، على ما سبق عند الكلام فيما كسبه التشيّع من فاجعة الطفّ.

المدّ الإلهي والكرامات الباهرة

ويشدّ من عزمهم على ذلك كلّه الآيات الظاهرة، والكرامات الباهرة، والمعاجز الخارقة التي تضمّنها تراث الشيعة الرفيع، ولازالوا يرونها بأعينهم، ويعيشونها في واقعهم على امتداد الزمن، وقد بلغت من الكثرة والظهور بحيث أقرّ بها غيرهم قولاً وعملاً.

الحكمة في التأكيد المذكور

وقد يخفى وجه الحكمة في ذلك على فريق من الناس، ويرون أو يقولون: إنّ الهدف السامي لنهضة الإمام الحسين (صلوات الله عليه) التي انتهت بفاجعة الطفّ هو إصلاح المجتمع وتوجيهه نحو المبادئ السامية التي نهض الإمام الحسين (عليه السّلام) من أجلها، فاللازم الاهتمام بذلك. أمّا هذه الممارسات فهي لا تزيد

٥٠٤

عن أن تكون تقاليد وعادات، لا أهميّة لها في تحقيق الهدف المذكور، ولا تستحق هدر هذه الطاقات الهائلة من أجله.

وقد سبق أن رفع شعار يقول: إنّ الحسين قُتل من أجل العِبرة، لا من أجل العَبرة. كما قد يُقال: إنّه (عليه السّلام) قُتل من أجل الإصلاح، لا من أجل البكاء والضجيج والنياح.

لكنّ ملاحظة وضع الناس في تعاملهم مع الأمر الواقع وتعايشهم معه، وخفّة وقع الأحداث في أنفسهم بمرور الزمن تشهد بأنّه لولا إصرار الشيعة على إحياء فاجعة الطفّ، وإبراز الجوانب العاطفية فيها التي تحمل على البكاء وتستدرّ الدمعة، وتثير العجيج والضجيج، لخفّ وقع الفاجعة بمرور الزمن، ولنسيها الناس كما نسوا كثيراً من الأحداث المهمّة؛ نتيجة طول المدّة.

وحينئذ لا يتسنّى الاستفادة من الفاجعة في استحصال العِبر، وإصلاح المجتمع وتنفيره من الظلم والظالمين، وتذكيره بالمبادئ السامية التي نهض الإمام الحسين (عليه السّلام) من أجلها، وضحّى هو وجميع أهل البيت (صلوات الله عليهم) في سبيلها، ولضاعت علينا الثمرات الكثيرة التي لازال التشيّع والشيعة تجنيها بإحياء فاجعة الطفّ، والانطلاق منها لإحياء جميع مناسبات أهل البيت (عليهم السّلام).

ولعلّ ذلك هو الوجه في التأكيد المكثّف من قِبَل الأئمّة (صلوات الله عليهم) على إحياء هذه المناسبات والتذكير بها، والتركيز على الجوانب العاطفية فيها، وعلى الصرخة واستدرار الدمعة.

وهم (عليهم السّلام) الأعرف بالأهداف السامية التي حملت الإمام الحسين (عليه السّلام) على نهضته المباركة، والإقدام على تلك التضحيات الجسيمة التي تمخّضت عنها، كما إنّهم (صلوات الله عليهم) الأعرف أيضاً باستثمارها لصالح الدين وأهله.

٥٠٥

التأكيد على أهمّية الإمامة في الدين وبيان ضوابطها

الثالث : بيان أهمّية الإمامة في الدين وضوابطها وشروطها ووجوبها، وعدم خلوّ الأرض من الإمام، ورفعة مقام الإمام عند الله (عزّ وجلّ)، وتميّزه عن رعيته بالعلم والعصمة وكثير من صفات الكمال، ووجوب معرفته وموالاته وطاعته والتسليم له، وحرمة الردّ عليه والاستهانة بشأنه... إلى غير ذلك.

وما ورد عنهم (عليهم السّلام) في ذلك كثير جدّاً، وبمضامين في غاية السمو والرفعة، ولا يسعنا التعرّض لها إجمالاً، فضلاً عن تفصيل الكلام فيه، ويسهل الاطلاع عليها بالرجوع لتراثهم الرفيع.

دعم مقام الإمامة بالكرامات والمعاجز

وقد دعم ذلك وأكّده ما صدر منهم (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) إماماً بعد إمام من الكرامات الباهرة، والمعاجز الخارقة التي تأخذ بالأعناق.

وقد بدأ ذلك أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، وتتابع عليه الأئمّة من ولده (عليهم السّلام) حتى نشأ عليه الشيعة، وعُرف بينهم، فكان من دلائل الإمامة التي تتوقّع ممّنْ يتصدّى لها أو يدّعيها، وكثيراً ما يطالب بها.

وهذه المفاهيم والأمور كلّها غريبة على جمهور المسلمين حسبما نشأوا عليه من مفاهيم الإمامة وواقع أئمّتهم، حتى ربما كان الاعتقاد بذلك سبباً للتشهير بالشيعة والتشنيع عليهم.

وذلك ممّا يزيد الشيعة تمسّكاً وإصراراً، بل هو منشأ لاعتزازهم؛ لشعورهم بأنّهم يتميّزون بحقيقة شريفة، وواقع رفيع لا تتحمّله عقول غيرهم، والناس أعداء ما جهلوا.

٥٠٦

اعتراف غير الشيعة بكرامات أهل البيت (عليهم السّلام)

وأخيراً تمّ فرض ذلك على أرض الواقع، واعترف به الكثير من غير الشيعة، بل حتى من غير المسلمين؛ فأخذوا يلجأون في مهمّاتهم ومشاكلهم حين تضيق بهم الأمور، وتنسدّ أمامهم الطرق الطبيعية إلى أئمّة أهل البيت (صلوات الله عليهم) وأبرار ذريّتهم، ويتوسّلون بهم؛ إمّا بزيارة قبورهم، أو بإحياء مناسباتهم، أو النذر لهم، أو غير ذلك.

فيرون ما يحبّون وينقلبون مسرورين بقضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم، والحديث في ذلك طويل وشواهده كثيرة، وقد أشرنا لطرف من ذلك في آخر كتابنا (في رحاب العقيدة)، وتحدّث عنه الكثيرون، ولازلنا نعيشه.

التأكيد على شدّة جريمة خصوم أهل البيت (عليهم السّلام)

الرابع : التركيز في المقابل على شدّة جريمة أعداء أهل البيت وغاصبي حقوقهم وقتلتهم ومنتهكي حرماتهم، وعلى خبثهم وسوء منقلبهم وهلاكهم، وهلاك أتباعهم وأوليائهم، ثمّ وجوب معاداتهم والبراءة منهم مع التأكيد على ذلك بمختلف الوجوه، وتحرّي المناسبات المختلفة لبيانه والتذكير به.

التركيز على الارتباط بالله تعالى بمختلف الوجوه

الخامس : التركيز على الارتباط بالله (عزّ وجلّ)، وعلى تحرّي رضاه بلزوم طاعته وتجنّب معصيته، والإخلاص له، والرجاء لثوابه، والخوف من عقابه، وحسن الظنّ به، والتوكّل عليه، والتسليم له، والرضى بقضائه، والصبر على محنته وبلائه، واللجأ له، وطلب الحوائج منه... إلى غير ذلك من شؤون الارتباط به تعالى وتوثيق العلاقة معه.

٥٠٧

وقد سبق أنّ ذلك كان معروفاً عن شيعة أهل البيت في الأجيال الأولى(١) ، وذلك ممّا يعين على تركيزه في الأجيال اللاحقة حيث يصير بمرور الزمن سمة شرف مميّزة للكيان الشيعي تحملهم على التحلّي به.

والأهم من ذلك أنّ الأئمّة من أهل البيت (صلوات الله عليهم) - الذين هم أئمّة الشيعة وقدوتهم - في المرتبة العليا من الدين والإخلاص والواقعية والفناء في ذات الله (عزّ وجلّ)، وفي التأكيد على الالتزام بأحكامه وتعاليمه والدعوة لذلك بسلوكهم الرفيع، وأحاديثهم الشريفة، ومواعظهم الشافية.

وقد سلك الأئمّة (صلوات الله عليهم) في التركيز على هذه الأمور الثلاثة - التي لها أعظم الأهمية من الناحيتين العقائدية والعملية - طريقين:

التركيز على الأمور المذكورة في أحاديثهم (عليهم السّلام)

أحدهما : بيان المضامين المذكورة وشرحها وتوضيحها في أحاديثهم الخاصة مع شيعتهم، كتراث محفوظ في الكتب يرجع إليه مَنْ يريد التعرّف على ثقافتهم (عليهم السّلام)، والاطلاع على تعاليمهم الشريفة، ويدعمه في ذلك كثير من التراث الثقافي والتاريخي لعموم المسلمين.

وقد أكثروا (عليهم السّلام) من ذلك على اختلاف أنحاء البيان في الإجمال والتفصيل حسب اختلاف المقامات والمناسبات، كما يشهد بذلك الرجوع إلى تراثهم القيم الذي حفظه وتوارثه علماء شيعتهم وحملة ثقافتهم جيلاً بعد جيل.

وبذلك تدعم الدعاوى العريضة التي يدعيها الشيعة في أهل البيت (صلوات الله عليهم) وفي خصومهم، وعليها يبتني التولّي والتبري والتديّن التي يظهر بوضوح في كيان الشيعة الثقافي والعملي.

____________________

١ - تقدّم في/٣٥٨.

٥٠٨

التركيز على الأمور المتقدّمة في الأدعية والزيارات

ثانيهما: الأدعية والزيارات الكثيرة في المناسبات المختلفة، وقد كان لها الأهمية الكبرى في تركيز هذه الأمور:

أوّلاً : لِما تتميّز به من بيان فريد في الفصاحة والبلاغة، ورفعة المستوى، ورصانة الأسلوب، وقوّة العرض، وجمال الطرح مع علوّ المضمون وشرفه، وأصالته وارتكازيته.

ولذلك أعظم الأثر في أن تأخذ موقعها من القلوب، وتترك أثرها في النفوس؛ فتتقبلها وتتفاعل بها وتبخع لها.

وثانياً : لأنّ مَنْ يؤدّي وظيفة قراءتها ويقوم بهذا الشعار يتحوّل إلى عالم روحاني شريف، وجوّ عرفاني قدسي؛ حيث يخاطب الله (جلّ جلاله) بالدعاء، ويتضرّع بين يديه، ويخاطب رموزه المقدّسة بالزيارات في المناسبات الشريفة المختلفة، ويؤدّي فروض الاحترام والتبجيل له؛ وذلك أحرى بأن يُحمل على الإيمان بتلك المضامين، والتفاعل بها.

وثالثاً : لأنّ أداء تلك الوظائف والقيام بتلك الشعائر لا يختصّ بفئة خاصة دون فئة، كأهل العلم مثلاً دون غيرهم، بل يشترك فيه جميع الشيعة الموالين لأهل البيت (صلوات الله عليهم) على اختلاف طبقاتهم.

ولاسيما مع كثرة المناسبات المذكّرة بهذه الأمور، وتكرّرها على مدار السنة، بل قد يتكرّر بعضها في كلّ يوم - كالتعقيب للصلوات المفروضة - أو على مدار الأسبوع، أو الشهر.

مضافاً إلى أهمّية كثير من هذه المناسبات حتى صارت مواسم عامّة يجتمع فيها الحشود الكبيرة والجموع الغفيرة، وإلى كثرة مراقدهم (صلوات الله عليهم)

٥٠٩

ومشاهدهم الشريفة، ومشاهد مَنْ يتعلّق بهم وينسب إليهم ممّنْ يقصده الشيعة بالزيارة، بالإضافة إلى بعض المساجد المعظمة التي يقصدها الشيعة ويؤدّون فيها مراسم العبودية لله (عزّ وجلّ).

وكان لذلك أعظم الأثر في تعميم هذه الثقافة في المجتمع الشيعي، وتركيزها على الصعيد العام بحيث صارت هذه الأمور من الملامح المميّزة للكيان الشيعي العام، والسمات الظاهرة فيه رغم كلّ المعوّقات والمثبّطات.

جامعية زيارة الجامعة الكبيرة وزيارة يوم الغدير

ويبدو أنّ الإمام أبا الحسن علي بن محمد الهادي (صلوات الله عليه) قد حاول أن يجمع ما ورد متفرّقاً عمّنْ قبله من آبائه (صلوات الله عليهم) - في بيان رفعة مقام أهل البيت، ووجوب موالاتهم، وبيان جريمة أعدائهم، ووجوب البراءة منهم - في الزيارتين المشهورتين؛ الزيارة الجامعة الكبيرة لجميع الأئمّة (صلوات الله عليهم)، وزيارة أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) يوم الغدير، وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجّة الحرام؛ حيث أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند منصرفه من حجّة الوداع بالنصّ بالولاية من بعده لأمير المؤمنين (عليه السّلام).

فقد أفاضت هاتان الزيارتان في الأمرين الأخيرين بنحو يصلحان لأن يكونا بمجموعهما أطروحة كاملة عن الموقف العقائدي الشيعي من أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) ومن أعدائهم وخصومهم؛ ليكونا سبباً لتذكير عموم الشيعة بعقيدتهم وتركيزها في نفوسهم.

أمّا الأدعية الكبيرة والصغيرة - في مختلف أمور الدنيا والآخرة -، والأوراد والأذكار، والصلوات والأعمال فهي من الكثرة بحيث لا مجال لاستقصائها، ومن الظهور والاشتهار بحيث يسهل على كلّ أحد الوصول إليها والاطلاع عليها.

٥١٠

التأكيد على عدم شرعية الجور

السادس : التأكيد على عدم شرعية سلطة الجور، وتحريم السير في ركاب الجائر، وإعانته ودعمه، والركون إليه، ووجوب مباينته قلباً وعملاً، إلّا في حدود الضرورة، أو مصلحة المذهب الحقّ على ما يُذكر مفصلاً في كتب الفقه.

وإذا كان أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) قد دعم حروب الفتح الإسلامي الأولى تحت لواء الخلفاء الأولين، من أجل تثبيت الكيان الإسلامي، وإسماع دعوة الإسلام، لتقوم بها الحجة على الأمم والشعوب المختلفة، فقد ارتفعت الحاجة لذلك في عهود الأئمة من ذرية الحسين (صلوات الله عليهم) بعد أن قام الكيان المذكور وفرض نفسه على أرض الواقع وظهرت دعوته.

ومن ثم منعوا عليهم السلام شيعتهم من الجهاد مع خلفاء الجور، وتحت لوائهم، إمعاناً في مباينتهم، وتأكيداً لعدم شرعية سلطتهم. واقتصروا في جواز الجهاد على الحروب الدفاعية، اهتماماً منهم عليهم السلام بالكيان الإسلامي العام وحفاظاً عليه.

وذلك بمجموعة يجعل التنفّر من الظالمين وإنكار شرعية سلطانهم، وعدم الركون إليهم والتفاعل معهم، حالة ثابتة في نفوس الشيعة، ومتركزة في أعماقهم حتى لو اضطروا لمجاراتهم عملاً.

إحياء تعاليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته وجميع المعارف الحقة

السابع: إحياء تعاليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره وسيرته، وتاريخ ظهور الإسلام، ونشر ذلك خالياً من الشوائب والأوهام بعد أن حاولت السلطات التعتيم عليه، والتحريف له، وتشويهه حسب اختلاف المقامات.

٥١١

وأعانها على ذلك الفتن المتلاحقة، والاضطراب السياسي الذي شغل عامّة المسلمين عن التعرّف على دينهم وتعاليمه الحقّة وتاريخه الصحيح.

وقد بلغ التحريف والتشويه فيها حدّاً مأساوياً قد ينتهي بالتنفير من الدين ورموزه، ويتخذ ذريعة للتشهير والتشنيع من قبل الأعداء والطامعين.

كما فتح الأئمّة (صلوات الله عليهم) أبواب المعارف الحقّة التي ورثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيحه؛ لأنّهم أبواب مدينة علمه.

فأظهروا كثيراً من الحقائق في العقائد، وبدء الكون والخليقة، وخواص الأشياء، وفي الآداب ومكارم الأخلاق، وسنن الأنبياء وسيرتهم، وغيرها من فنون المعرفة التي ميّزهم الله (عزّ وجلّ) بها عن غيرهم فضلاً منه عليهم.

وقد سبقهم إلى ذلك أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسّلام) الذي هو باب مدينة علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجرى على ذلك جميع الأئمّة من ولده (صلوات الله عليهم)؛ لأنّهم ورثوا علمه، إلّا إنّ الأئمّة من ذرية الحسين (صلوات الله عليهم) قد تفرّغوا لذلك كما سبق.

اهتمام الأئمّة (عليهم السّلام) بحملة آثارهم وعلماء شيعتهم

وقد حاولوا (صلوات الله عليهم) تثقيف شيعتهم بثقافتهم عن طريق أصحابهم وخواصهم من الرواة وحملة الآثار، وقد جعلوهم وسائط بينهم وبين شيعتهم؛ من أجل أن يرجعوا إليهم ويأخذوا عنهم معالم دينهم ومعارفه، ويستغنوا بهم عمّنْ سواهم.

وقد اشتدّ اهتمامهم (عليهم السّلام) بذلك حتى ورد في صحيح هشام بن سالم عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) أنّه قال: «لما حضرت أبي (عليه السّلام) الوفاة قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيراً. قلت: جعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل

٥١٢

منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً»(١) .

وقد أكّدوا (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) على الرجوع للعلماء والأخذ عنهم والقبول منهم في أحاديث كثيرة.

منها : حديث عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق (عليه السّلام) الوارد في تنازع الشيعة بينهم في الحقوق، وفيه: «انظروا إلى مَنْ كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً. فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنّما بحكم الله استُخفّ، وعلينا رُدّ. والرادّ علينا رادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله (عزّ وجلّ)...»(٢) .

ومنها: التوقيع الشريف عن الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وفيه: «فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا؛ قد عرفوا أنّا نفاوضهم سرّنا، ونحمله(٣) إيّاه إليهم»(٤) .

ومنها : التوقيع الآخر عنه (عليه السّلام)، وفيه: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله...»(٥) ... إلى غير ذلك.

تأكيد الأئمّة (عليهم السّلام) على التفقّه في الدين وعلى إحياء أمرهم

كما أكّدوا (صلوات الله عليهم) على التفقّه في الدين، وعلى كتابة الكتب

____________________

١ - الكافي ١/٣٠٦.

٢ - تهذيب الأحكام ٦/٢١٨، واللفظ له، الكافي ١/٦٧، وج ٧/٤١٢، وسائل الشيعة ١/٢٣، وج ١٨/٩٩.

٣- هكذا ورد في كتاب اختيار معرفة الرجال، ولكن الوارد في وسائل الشيعة «ونحمّلهم إياه إليهم».

٤ - اختيار معرفة الرجال ٢/٨١٦، واللفظ له، وسائل الشيعة ١/٢٧، وج ١٨/١٠٨ - ١٠٩.

٥ - كمال الدين وتمام النعمة/٤٨٤، واللفظ له، الغيبة - للطوسي/٢٩١، الاحتجاج ٢/٢٨٣، وسائل الشيعة ١٨/١٠١.

٥١٣

وتدوين العلم، ومذاكرته وتدارسه وتعليمه، وعلى إحياء أمرهم (عليهم السّلام)، وأنّ به حياة قلوب شيعتهم.

وقد استطاعوا (صلوات الله عليهم) في المدّة الطويلة التي قضوها مع شيعتهم - رغم الضغوط الشديدة والصراع المرير - أن يبثّوا تعاليمهم السامية وثقافتهم الأصيلة في العقائد والفقه، والأخلاق والأدعية والزيارات والمواعظ والسلوك وغيرها حتى تبلورت.

قيام الحوزات العلمية الشيعية ومميّزاتها

وبذلك قام للشيعة كيان علمي وثقافي متميّز، حملته وحافظت عليه الحوزات العلمية في مختلف بقاع الأرض التي يتواجد فيها الشيعة.

وقد رعى الأئمّة (صلوات الله عليهم) هذه الحوزات مدّة تزيد على قرنين ونصف، ووضعوا الضوابط العامّة لها، وراقبوا مسيرتها حتى تأقلمت مع نهجهم (عليهم السّلام)، وحملت بصماتهم، وتفاعلت مع مفاهيمهم بحيث أمنوا عليها من الزيغ والانحراف.

ونتيجة لذلك تميّزت هذه الحوزات بالاهتمام بالبحث عن الحكم الشرعي، وأخذه من مصادره الأصيلة وحججه المعذّرة بين يدي الله تعالى، وبالحفاظ على حدوده وحرفيته، بعيداً عن التخرّص والتسامح، وعن التأثّر بالجهات الخارجية من سلطان أو عرف اجتماعي أو غير ذلك؛ جرياً على نهج أهل البيت (صلوات الله عليهم)، والتزاماً بتعاليمهم الموافقة للفطرة، وحكم العقل السليم.

تحديد الاجتهاد عند الشيعة

وذلك هو الاجتهاد الذي بقي مفتوحاً عند شيعة أهل البيت أعزّ الله

٥١٤

دعوتهم، واستمروا عليه هذه المدّة الطويلة، وليس الاجتهاد عندهم تطويع الحكم الشرعي لأوضاع المجتمع القائمة، وتطبيعه وتحويره بما يتناسب مع الظروف المختلفة، والمؤثّرات الطارئة.

وبذلك أمِن الأئمّة (عليهم أفضل الصلاة والسّلام) على تعاليمهم الشريفة، وثقافتهم السامية من الضياع والتحريف والتحوير.

ولهذا أمكن وقوع الغيبة الكبرى بانقطاع خاتم الأئمّة المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) عن الاتصال المباشر بالشيعة؛ لاكتفاء الشيعة بما عندهم من تعاليم وثقافة دينية تقوم بها الحجّة عليهم، وعلى الناس من مختلف الفئات والأديان والمذاهب( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (١) .

وكأنّه إلى ذلك يشير حديث المفضّل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام): «اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإنّ متّ فأورث كتبك بنيك؛ فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم»(٢) .

ظهور المرجعيات الدينية بضوابطها الشرعية

وقد انبثقت من تلك الحوزات - نتيجة الحاجة الملحّة، خصوصاً بعد الغيبة الكبرى - المرجعيات الدينية، بضوابطها الشرعية المعذّرة بين يدي الله (عزّ وجلّ).

وعمدة تلك الضوابط - بعد العلم بأحكام الدين - العدالة بمرتبة عالية تناسب ثقل الأمانة التي يعهد فيها للمرجع، وهي دين الله تعالى القويم؛ حيث يتعرّض المرجع لضغوط نفسية وخارجية كثيرة في عملية الوصول للحكم

____________________

١ - سورة الأنفال/٤٢.

٢ - الكافي ١/٥٢، كشف المحجّة لثمرة المهجة/٣٥، وسائل الشيعة ١٨/٥٦.

٥١٥

الشرعي، وفي الفتوى وتثقيف عموم المؤمنين به.

فلا بدّ من قوّة العدالة، تبعاً لشدّة الخوف من الله (عزّ وجلّ)؛ لتكون حاجزاً دون الانحراف أمام تلك الضغوط، ومانعاً من الاستجابة لها مهما اشتدّت.

بعض الأحاديث في ضوابط التقليد

وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّه بعد أن ذمّ اليهود بتقليدهم لعلمائهم قال: «وكذلك عوام أُمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة، والتكالب على حطام الدنيا وحرامه، وإهلاك مَنْ يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحق، وبالترفرف بالبر والإحسان على مَنْ تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحق، فمَنْ قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء، فهم مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم.

فأمّا مَنْ كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه. وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم؛ فإنّه مَنْ ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة، فلا تقبلوا منّا عنه [منهم عن. وسائل] شيء، ولا كرامة...»(١) .

وكان نتيجة ذلك أمور:

ارتباط الشيعة بمرجعياتهم الدينية عملياً وعاطفياً

أوّلها : ارتباط الشيعة بمرجعياتهم الدينية عملاً؛ لحاجتهم لهم بسبب شمولية التشريع الإسلامي لجميع شؤون الإنسان ومفردات حياته.

ثانيها : ارتباطهم بمرجعياتهم المذكورة عاطفياً ولاءً واحترام؛ بسبب

____________________

١ - الاحتجاج ٢/٢٦٤، واللفظ له، وسائل الشيعة ١٨/٩٥.

٥١٦

اعتقادهم بتدينها، بحيث تكون أهلاً لائتمانهم لها على دينهم، فكأنّها واجهة لأئمّتهم (صلوات الله عليهم)، وممّثلة لهم (عليهم السّلام).

ولاسيما مع شعور هذه المرجعيات بمسؤوليتها إزاء المؤمنين في إصلاح أمرهم، وتوحيد كلمتهم، وعلاج مشاكلهم، وتخفيف أزماتهم ومواساتهم، ومدّ يد العون لهم حيث أوجب ذلك الشعور المتبادل بأبوة المرجعية الدينية، وتوثّق الروابط بينها وبين المؤمنين.

ثالثها : إنّ للثقافة الدينية والحكمة والتقوى والإخلاص والاهتمام بصلاح الدين والمؤمنين أعظم الأثر في تقريب وجهات النظر بين مراجع الدين في أداء وظيفتهم، وتخفيف حدّة الخلاف بينهم بنحو يؤدّي إلى موقف موحّد أو شبه موحّد في توحيد الشيعة ومعالجة مشاكلهم بالرغم من فتح باب الاجتهاد، وتمتّع الجميع بالحرية في اختيار المواقف المناسبة.

قيادة المرجعية للأُمّة

وبذلك استطاعت المرجعية الشيعية قيادة الأُمّة وتوحيدها في عصر الغيبة الطويل؛ حيث لا إمام ناطق تجب طاعته، ولا يتمتّع المرجع - واحداً كان أو أكثر - بقوّة مادية قاهرة ترغم على متابعته.

نعم، لا ريب في أنّ للتسديد الإلهي أعظم العون على ذلك، مشفوعاً برعاية إمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) الذي يكون الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا جلّلها السحاب.

العمق التاريخي للمرجعية

ومن الملفت للنظر أن هذه المؤسسة بقيت ما يقرب من أربعة عشر قرناً

٥١٧

مستمرة في فاعليتها وعطائها، محافظة على وظيفتها وأهدافها واستقامتها. رغم كل المعوقات والمثبطات الداخلية والخارجية التي تعرضت لها في تاريخها الطويل. وهي حالة فريدة من بين المؤسسات الأخرى الدينية وغيرها.

ويزيد في العجب أنها في مدة أحد عشر قرناً من مبدأ الغيبة الكبرى تفقد القوة الملزمة مادياً أو دينياً، بل تعتمد على القناعة الشخصية من المرجع والأتباع بأداء الواجب والقيام بالوظيفة الشرعية، مع ما هو المعلوم من تعرض وجهات النظر للاختلاف.

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسدّد المرجعيات ويمدّها - ببركة إمام العصر (صلوات الله عليه) - بالتوفيق للثبات على السير في الطريق المستقيم، ويوفّق المؤمنين للتجاوب معها والتلاحم من أجل أداء الوظيفة، والخروج عن التكليف الشرعي. إنّه المسدّد للحسنات، والعاصم عن السيئات، والناصر للمؤمنين، وهو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.

تأكيد الأئمّة (عليهم السّلام) على حقّهم في الخمس

الثامن : إنّه بعد أن تركّز التشيّع لأهل البيت (صلوات الله عليهم) كعقيدة راسخة تحملها جماعة لها كيانها الخاص بها؛ بدأ الأئمّة من ذرية الحسين (عليه السّلام) بتذكير شيعتهم بحقّهم في الخمس، ذلك الحقّ الذي كاد يُنسى نتيجة مواقف الأوّلين من أهل البيت (عليهم السّلام)، وخطواتهم المتلاحقة من أجل تغييبهم (عليهم السّلام) عن ذاكرة المسلمين.

وبعد أن ذكّروا (صلوات الله عليهم) شيعتهم بهذا الحقّ بدأوا بمطالبتهم بأدائه، والتأكيد على ذلك تدريجاً؛ ليكون للشيعة - كمذهب وأفراد - مورداً مالياً يعينهم في إدارة شؤونهم وسدّ حاجاتهم بعد أن حُرموا من الأموال العامّة التي

٥١٨

هي تحت سيطرة الدولة.

وهذا المورد وإن كان قليلاً لا يفي بالحاجة؛ لتهاون كثير من ذوي المال في أدائه، إلّا إنّه صار نواة لتُضاف إليه بقيّة الحقوق الشرعية والخيرات والمبرات والأوقاف وما جرى مجرى ذلك.

استقلال التشيّع مادياً

كما إنّه وجّه الشيعة تدريجاً نحو الاعتماد على النفس، والتكافل في الجملة، والقناعة بالقليل، وتحمل شظف العيش نسبياً.

وقد سبق التنبيه لكثرة الأموال التي ينفقها الشيعة طوعاً، بل عن رغبة وإصرار؛ من أجل إحياء ذكرى فاجعة الطفّ وغيرها من مناسبات أهل البيت (صلوات الله عليهم)(١) .

وكذلك هو الحال فيما ينفقونه في سبيل التبليغ الديني؛ من أجل قيام الحوزات التي ترعاها وتنبثق منها المرجعيات الدينية، أو من أجل التبليغ في البلاد المتفرّقة، أو في طبع الكتب ونشر الثقافة الدينية... إلى غير ذلك.

استقلال الحوزات والمرجعية الدينية عن السلطة

وكان من نتائجه المهمّة شرف استقلال الحوزات والمرجعيات الدينية عن السلطة وغيرها من الجهات المتموّلة، وعدم الانصهار بها، أو التبعية لها، والتأثّر بتوجّهاتها.

وبذلك حافظت الحوزات والمرجعيات على بهائها وقدسيتها في واقعه، وفي نفوس المؤمنين، وفرضت احترامها حتى على غيرهم، وكان لها الدور الفعّال

____________________

١ - راجع/٤٢٧.

٥١٩

في الحفاظ على الكيان الشيعي بحدوده العقائدية، وأحكامه الفقهية العملية، ومميّزاته المشار إليها آنفاً وإن كلّفها ذلك كثيراً من المتاعب والمصائب.

تميّز الكيان الشيعي

وكانت حصيلة جميع ما سبق قيام كيان للشيعة متميّز في العقائد والفقه، والعلاقة بالله (عزّ وجلّ) والأدعية والزيارات، وجهات الثقافة الأُخرى، وفي الكيان الحوزوي والمرجعي، وفي التوجّهات والإصرار، والسلوك والممارسات.

وقد دعم هذا الكيان المتميّز أمور أربعة لها أهمّيتها القصوى:

الأوّل : قوّة حجّته وتناسق دعوته، ومطابقتها للفطرة من دون تناقضات، ولا سلبيات، ولا مفارقات كما ذكرناه آنفاً.

وهو رصيد ضخم للدعوة تستفيد منه حين ينبّه هذا الكيان - بممارساته التبليغية والعاطفية - الغافلين؛ حيث قد يحملهم على البحث الموضوعي عن الحقّ، بعيداً عن التعصّب والتراكمات فيستفيدون من هذا الرصيد، ويستجيبون لدعوته الشريفة.

الثاني : رفعة مقام الأئمّة (صلوات الله عليهم)، وفرض احترامهم على عموم المسلمين؛ حيث يزيد ذلك الشيعة اعتزازاً بالانتساب إليهم والتمسّك بهم (عليهم السّلام)، وقوّة في الدعوة لحقّهم (عليهم السّلام)، وجاذبية للغير نحوها تحملهم على الاستجابة له.

الثالث : الاعتقاد بوجود الإمام المنتظر الذي يرعى الدعوة وحملتها، ويكون الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا جلّلها السحاب. حيث يبعث ذلك الأمل في نفوس الشيعة باستمرار، ويبعد عنهم الاحباط نسبياً في أزماتهم

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672