الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية12%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 104497 / تحميل: 8293
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

هم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فبهم يتقرّب ويتوسل إلى اللَّه عزّ وجلّ، وبمودّتهم وولايتهم تقبل الطاعات، ومحبّتهم ركن ركين في الدين لا يعرض عنه إلّا كافر أو مشرك، ومن هنا جعل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عدل الرسالة وأجرها المودّةَ في القربى كما في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) .

ومن ذلك كلّه يتضح أن من تمام الحجّ وسائر العبادات لقاء الإمام وإظهار المودّة والنصرة والتولّي له، وإلّا فلا حجّ ولا طواف ولا صلاة مقبولة عند اللَّه تعالى، فالتوحيد في العبادة هو الإقرار بولاية أهل البيت عليهم‌السلام .

ومن هنا أيضاً يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام : (تمام الحجّ لقاء الإمام) (٢) .

وكذا قول الإمام الصادق عليه‌السلام : (ابدؤوا بمكّة واختموا بنا) (٣) .

وقول الإمام الباقر عليه‌السلام : (إنما أمروا أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (٤) .

وكذا قال عندما رأى الناس يحجّون بمكّة: (فعال كفعال الجاهلية، أمَا واللَّه ما أمروا بهذا، وما أمروا إلّا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمرّوا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) (٥) .

____________________

(١) الشورى: ٢٣.

(٢) الكليني، الكافي، ج٤، ص٥٤٩.

(٣) المصدر، ص٥٥٠.

(٤) المصدر، ص٥٤٩.

(٥) المصدر، ج١، ص٣٩٢.

١٠١

٦ - الولاية من شرائط المغفرة:

قال تعالى: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (١) ، فلا تحصل المغفرة ولا التوبة ولا الإيمان ولا يقبل العمل الصالح إلّا بشرط الهداية، والمراد من الهداية في هذه الآية المباركة مقام الإمامة؛ لأنها تعني الإيصال إلى المطلوب، وهي مرحلة بعد مقام النبوّة الذي هو إراءة الطريق فقط. فإن مجرّد إراءة الطريق شأن النبيّ والرسول، قال تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (٢) .

وأمَّا مقام الإمامة، فنجد أن القرآن الكريم كلّما تعرّض إليه تعرض معه لذكر الهداية بياناً وتفسيراً، قال تعالى: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (٣) ، وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٤) ، فوصف اللَّه عزّ وجلّ الإمامة بالهداية وصف بيان وتعريف وتفسير، هذا في إمامة الحقّ.

كذلك في إمامة الباطل والكفر، فإن فرعون الذي هو من أئمة الكفر قال تعالى في حقّه: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (٥) ، فإمامة الكفر أيضاً فيها هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود من الكمال الإنساني؛ ولذا

____________________

(١) طه: ٨٢.

(٢) إبراهيم: ٤.

(٣) الأنبياء: ٧٢ - ٧٣.

(٤) السجدة: ٢٤.

(٥) القصص: ٤١.

١٠٢

قال تعالى: ( وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ) (١) ، فإمامة الحقّ هي الهداية والإيصال إلى المطلوب وولاية على الناس في أعمالهم بأمر ملكوتي من اللَّه عزّ وجلّ كما يستفاد من قوله تعالى: ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، وإمامة الباطل أيضاً هداية وإيصال، ولكن إلى الضلال وخلاف المقصود.

والحاصل: أن مقام الهداية الإلهية الحقّة - بقول مطلق - يساوق مقام الإمامة والخلافة الربّانية؛ وهذا يعني أن هناك مقاماً ثالثاً غير الشهادة الأولى والشهادة الثانية لابدّ أن يعتقد به المسلم لكي يكون مهتدياً مؤمناً، فقوله تعالى: ( آمَنَ ) إشارة إلى الشهادة الأولى والثانية، وقوله: ( وَعَمِلَ صَالِحًا ) إشارة إلى الإيمان والعمل بالشريعة الذي هو مقام النبوّة، وقوله: ( ثُمَّ اهْتَدَى ) إشارة إلى ذلك المقام الثالث والشهادة الثالثة؛ وهي الولاية والإمامة.

سورة الحمد وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام :

وإذا لم يعتقد بها الشخص ولم يجعلها واسطة بينه وبين ربّه لا يتحقّق منه الإيمان ولا العمل الصالح، فولاية وإمامة أهل البيت عليهم‌السلام واسطة ووسيلة يتوسَّل بها العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ لقبول عقيدته وعبادته، وهذا ما صرّحت به سورة الحمد، التي يقرؤها المسلم في اليوم والليلة عشر مرّات على أقل تقدير.

فإن سورة الحمد تعرّضت للشهادة الأولى والشهادة الثانية والشهادة الثالثة،

____________________

(١) طه: ٧٩.

١٠٣

فقوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (١) إشارة إلى الشهادة الأولى، وهي كلمة (لا إله إلّا اللَّه)، وقوله تعالى: ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) (٢) إشارة إلى أصل المعاد، الذي هو من أصول الدين، وقوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (٣) إشارة إلى مقام التشريع والنبوّة؛ لأن العبادة لا تتحقّق إلّا بالسير على خطى النبوّة والرسالة، وقوله تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) (٤) إشارة إلى مقام الإمامة في الأمة، فهناك مجموعة في الأمة الإسلامية ندعو اللَّه عزّ وجلّ في اليوم والليلة أن يهدينا صراطهم المستقيم، المنزّه عن الغضب في العمل وعن الضلال في العلم؛ أي صراط المعصومين علماً وعملاً، وهؤلاء الهداة الهادون إلى الصراط المستقيم وصفهم اللَّه تعالى بثلاثة نعوت:

الأول: أنهم منْعَم عليهم بنعمة خاصّة دون بقية الأمة وسائر البشر، نظير ما أنعم اللَّه على النبيِّين.

الثاني: أنهم لا يغضب اللَّه عليهم قطّ، وإلّا لَمَا كانت لهم صلاحية الهداية لجميع الأمة.

الثالث: أنهم لا يضلّون قط، وإلّا لم يكونوا هداة هادين لكل الأمة.

ولم يحدّثنا القرآن عن ثلّة عن هذه الأمة قد خصصوا بنعمة وحظوة وحبوة

____________________

(١) الحمد: ٢ - ٣.

(٢) الحمد: ٤.

(٣) الحمد: ٥.

(٤) الحمد: ٦ - ٧.

١٠٤

إلهية خاصة دون بقية الأمة إلّا أهل البيت عليهم‌السلام كما في ولاية الفي‏ء في قوله تعالى: ( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (١) ، وكما في ولاية الخمس في قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٢) ، وكذا التطهير في قوله تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (٣) ، والمودّة والولاية في قوله تعالى: ( قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٤) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٥) ، وعلم الكتاب في قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (٦) وغيرها من الآيات المخصِّصة

لهم عليهم‌السلام بمقامات دون سائر الأمة إلى يوم القيامة، فلا توجد مجموعة في الأمة الإسلامية معصومة عن الغضب والضلال سوى أهل البيت عليهم‌السلام ، الذين أنعم اللَّه عزّ وجلّ عليهم بالطهارة من الرجس والغواية في العلم والعمل كما قال تعالى: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً ) (٧) .

ويتحصّل من ذلك: أن سورة الحمد اشتملت على أصول الدين من التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة، وقارئ الحمد يطلب من اللَّه تعالى الهداية إلى الصراط

____________________

(١) سورة الحشر: ٧.

(٢) سورة الأنفال: ٤١.

(٣) سورة الأحزاب: ٣٣.

(٤) سورة الشورى: ٢٣.

(٥) سورة المائدة: ٥٥.

(٦) سورة الواقعة: ٧٧ - ٧٩.

(٧) الأحزاب: ٣٣.

١٠٥

المستقيم، وأن يجعل له هداة وأئمة يهتدي بهم، وهذا يعني أن ضمّ الشهادة الثالثة بالإمامة إلى الشهادة الثانية بالرسالة والنبوّة للنبيّ

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوجب الخروج عن الشرك وقبول الإيمان والعبادة.

ومن ذلك كلّه يتضح المراد من قول الإمام الباقر عليه‌السلام لسدير وهو مستقبل البيت: (يا سدير، إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيعلمونا ولايتهم لنا، وهو قول اللَّه: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) (١) - ثم أومأ إلى صدره - إلى ولايتنا) (٢) .

إذن تمام الحجّ وسائر العبادات بالهداية إلى ولاية أهل البيت عليهم‌السلام والتوسّل والتوجّه بهم إلى اللَّه عزّ وجل.

٧ - الوفود على ولي اللَّه من شرائط الحجّ:

قال تعالى: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود × وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (٣) .

فهذه الآية المباركة تنصّ على أن اللَّه عزّ وجلّ جعل مكان البيت مبوّءاً وسكناً لإبراهيم عليه‌السلام ، وأن إبراهيم عليه‌السلام هو المتكلّم الأوّل والناطق الرسمي عن اللَّه تعالى في الندبة إلى الحجّ، فهو يأمر الناس بحجّ بيت اللَّه الحرام كما نصّت على ذلك روايات الفريقين.

____________________

(١) طه: ٨٢.

(٢) أصول الكافي، ج ١، ص ٣٩٣.

(٣) الحج: ٢٦ - ٢٧.

١٠٦

ثم إن التعبير الآخر في الآية المباركة بعد الأذان في الناس بالحجّ ( يَأْتُوكَ رِجَالاً ) ، فالمجي‏ء ليس إلى البيت ولا إلى اللَّه عزّ وجلّ مباشرة، بل المجي‏ء أوّلاً إلى إبراهيم عليه‌السلام .

فالإتيان إلى الحجّ تلبية وإجابة للنداء الإلهي إنما يتمّ بالوفادة على وليّ اللَّه، ويكون الحجّ الذي هو القصد إلى اللَّه عزّ وجلّ بواسطة الإتيان إلى إبراهيم عليه‌السلام ، الذي هو وجيه عند اللَّه تعالى يتوجّه إليه ويُقصد لإقامة الصلاة والطواف وسائر مناسك الحجّ العبادية، فلابدّ من الوفود على إبراهيم عليه‌السلام ومحبّته وهويّ الأفئدة إليه.

وهذه الآية المباركة تتوافق في المضمون مع ما تقدّم من قوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (١) ، فإبراهيم عليه‌السلام وذرّيته أسكنهم اللَّه عزّ وجلّ البيت الحرام وبوّأهم فيه لإقامة الصلاة وتشييد الدين وتطهير البيت للطائفين والقائمين والرّكع السجود، والإيذان في الناس بالحجّ، ولكن لا قيمة للحجّ ولا مقبولية عند اللَّه عزّ وجلّ إلّا بالمجي‏ء إلى إبراهيم عليه‌السلام وذريّته من ولد إسماعيل عليه‌السلام ، وهويّ القلوب والأفئدة إليهم ومحبّتهم ومودّتهم وتولّيهم وإبراز الطاعة لهم وجعلهم واسطة في القصد إلى اللَّه تعالى.

فتبويء اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم البيت، وإسكان إبراهيم ذريَّته فيه من أجل الوفود عليهم ومودّتهم، هو الذي جعل من البيت الحرام مكاناً ومقصداً لإقامة العبادة فيه، والأحجار بما هي أحجار لولا ذلك تكون وثناً يعبد من دون اللَّه

____________________

(١) إبراهيم: ٣٧.

١٠٧

عزّ وجلّ كما كان الحجّ في الجاهلية. ولذا ورد أن من المستحبّات عند الدخول إلى البيت الحرام إلقاء التحيّة والسلام على سيّد الأنبياء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم السلام على النبيّ إبراهيم عليه‌السلام (١) .

فعن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسلام على أنبياء اللَّه ورسله والسلام على رسول اللَّه، والسلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين) (٢) .

فالمجي‏ء إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم إلى إبراهيم عليه‌السلام مجي‏ء وإتيان وقصد إلى اللَّه عزّ وجل، وكذا أهل البيت عليهم‌السلام ؛ لأنهم الذريّة والأمة المسلمة الذين دعا إبراهيم والنبيّ الأكرم إلى مودّتهم ومحبّتهم.

إذن، الأنبياء والأوصياء هم أبواب اللَّه التي يتّجه إلى اللَّه تعالى بها، ولولا ذلك لا يكون الحجّ حجّاً إبراهيمياً، بل حجّ الجاهلية.

٨ - الأنبياء مصدر البركة:

قال تعالى حكاية عن قول عيسى عليه‌السلام : ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ) (٣) .

وهذا يعني أن عيسى عليه‌السلام جعله اللَّه عزّ وجلّ مصدر البركة والتبرّك أين ما حل؛ ولذا كان ببركته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه تعالى، فهو

____________________

(١) ابن حمزة، الوسيلة، ص١٧٢.

(٢) الصدوق، المقنع، ص٢٥٥.

(٣) مريم: ٣١.

١٠٨

وجيه وواسطة في قضاء الحوائج في كلّ مكان حلّ فيه، فما بالك بخاتم الأنبياء عليه‌السلام وأهل بيته الأطهار ومَن يصلّي عيسى خلفه عند نزوله ويكون وزيراً له؟!

وكذا ورد في الآيات المباركة أن الماء مصدر البركة والخيرات كما في قوله تعالى: ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ) (١) ، فإذا كان اللَّه تعالى ببركة الماء المنزل من السماء ينبت الجنان ويحيي الأرض بعد موتها، فكيف بك بأنبياء اللَّه ورسله وخلفائه الأوصياء؟!

٩ - البقعة المباركة:

وهي الطائفة من الروايات التي تعرّضت لذكر البقعة المقدّسة والمباركة التي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيها موسى عليه‌السلام كقوله تعالى: ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَ نَارًا فَقَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (٢) ، وقوله تعالى: ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (٣) ، وكذا قوله تعالى: ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (٤) .

____________________

(١) ق: ٩.

(٢) طه: ٩ - ١٢.

(٣) النازعات: ١٥ - ١٦.

(٤) مريم: ٥١ - ٥٢.

١٠٩

وقوله عزّ وجلّ: ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ ِلأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِي‏ءِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (١) .

وقد أقسم اللَّه عزّ وجلّ بهذه البقعة المباركة لعظمتها، بالإضافة إلى بقع ثلاث أخرى، وذلك في قوله تعالى: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) (٢) ، وهذا قسم من اللَّه عزّ وجلّ ببلد التين، وهو المدينة، وبلد الزيتون وهو بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، والبلد الأمين، وهو مكّة، كما ورد ذلك عن الإمام الكاظم عليه‌السلام ؛ حيث قال: (واختار من البلدان أربعة؛ فقال عزّ وجلّ: ( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سنين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكّة) (٣) .

هذا من طرقنا.

وكذلك من طرق السنّة، ولكن بتفسير التين بالبيت الحرام، وتفسير الطور بأنه الجبل الذي كلّم اللَّه عزّ وجلّ فيه موسى عليه‌السلام (٤) ، ولا تنافي في ذلك إذ لعلّ ذلك هو الوادي المقدّس بين جبل طور والكوفة كما ذكر ذلك بعض المفسّرين.

____________________

(١) القصص:٢٩ - ٣٠.

(٢) التين: ١ - ٣.

(٣) الصدوق، الخصال، ص٢٢٥، والنيسابوري، روضة الواعظين، ص٤٠٥.

(٤) ابن الجوزي، زاد المسير، ج٨، ص٢٧٥.

١١٠

وقد ورد في الحديث أن محلّ قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام أوّل طور سيناء. عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أخرجوني إلى الظهر [أي ظهر الكوفة]، فإذا تصوّبتْ أقدامكم واستقبلتكم ريح، فادفنوني؛ وهو أوّل طور سيناء. ففعلوا ذلك) (١) .

والحاصل: إن القرآن يؤكّد أن هناك بقعة مقدّسة مباركة، فيها هبطت الملائكة بالوحي على موسى عليه‌السلام ، ولابدّ أن تقدّس وتُعظّم ويُتقرّب فيها إلى اللَّه عزّ وجلّ ويكلّم اللَّه تعالى فيها الأنبياء.

قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى ( إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (٢) :

(المقدّس: المطهّر، والقدس: الطهارة، والأرض المقدّسة أي المطهّرة) إلى أن قال: (وقد جعل اللَّه تعالى لبعض الأماكن زيادة فضل على بعض، كما قد جعل لبعض الأزمان زيادة فضل على بعض) (٣) .

وهذا يعني أن هناك أماكن مقدّسة فيها ينزل الوحي وتفتح أبواب السماء، وفيها يزداد الأجر ويقبل الدعاء ويتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل.

١٠ - وجوب تعظيم الأنوار الإلهيّة:

خلقة الأنوار الخمسة لأصحاب الكساء في سورة النور؛ قال تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا

____________________

(١) تهذيب الأحكام، ج ٦، ص ٣٤.

(٢) طه: ١٢.

(٣) تفسير القرطبي، ج١١، ص١٧٥.

١١١

شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (١) .

إن هذه الآية المباركة تنصّ على وجود بيوت خاصّة أذن اللَّه أن ترفع وتعظّم ويذكر فيها اسمه، وفي تلك البيوت يسبّح للَّه عزّ وجلّ وتقبل العبادة ويسمع الذكر، وتحت قبّتها يرفع الدعاء وتفتّح أبواب السماء وتحصل القربة إلى اللَّه تعالى، فهي بيوت مباركة ومقدّسة جعلها اللَّه تبارك وتعالى وسيلة وواسطة ومحلّاً لقبول العبادة والذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.

ومن الجدير بالذكر أن تلك البيوت بيوتاً خاصّة، وهي مهبط الوحي والقداسة والطهارة. والشاهد على ذلك أن الجار والمجرور في قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بذلك النور الذي ضربه اللَّه عزّ وجلّ مثلاً للناس، فالنور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، وقد ذكرت الآية المباركة أن هذا النور نور السماوات والأرض، أي محيط بهما ومهيمن عليهما وأشرف منهما في الخلقة والرتبة الوجودية.

ثمّ إن ذلك النور مخلوق من مخلوقات اللَّه تعالى، أُضيف إليه عزّ وجلّ في الآية إضافة الفعل إلى فاعله، وهو عبارة عن أنوار خمسة شامخة، ضرب اللَّه تعالى لكلّ واحد منها مثلاً حسّياً لتقريب الفكرة وتنزيل الحقيقة إلى رقيقة

____________________

(١) النور: ٣٥ -٣٧.

١١٢

يفهمها البشر، وليس هذا النور عين الذات الإلهية؛ لأنها أحدية المعنى لا تعدّد ولا تكثّر فيها، والنور المذكور في الآية المباركة متعدّد منشعب إلى خمسة أنوار، مستقل بعضها عن البعض الآخر.

والأنوار الخمسة التي ضُربت مثلاً هي:

أولاً: المشكاة.

ثانياً: المصباح.

ثالثاً: الزجاجة.

رابعاً: الكوكب الدُّرِّي

خامساً: الشجرة المباركة.

ثم تقول الآية الكريمة بعد ذلك: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) .

وفي اللغة العربية يقول علماء البلاغة: كل تشبيه جملة مستقلة برأسها، وتفيد معنىً ومغزىً مستقلاً، فالآية بصدد التعرض إلى خلقة النور، وأن أحد مراحل الخلقة الإلهية هي المخلوقات النورية، وهي أنوار خمسة، تعظم في الخلقة الملائكةَ والروح والجنّ والإنس ومطلق الموجودات الأخرى، وهي أنوار مشتقّ بعضها من بعض، ومرتبط بعضها بالبعض الآخر كما هو ظاهر الآية المباركة.

وهذه الأنوار المباركة المحيطة بالسماوات والأرض، هي الأسماء والكلمات التي لم تعلم بها الملائكة، مع أن الملائكة ملأت أركان السماوات والأرض؛ لأنها هي التي تدبّرها وتدير شؤونها، وهو المشار إليه في تعليم آدم الأسماء وعرض اللَّه تعالى لها على الملائكة، فلم يعلموا بها، فأنبأهم آدم بها،

١١٣

ووصفها اللَّه بأنها غيب السماوات والأرض (١) ، وكما ورد هذا المعنى في روايات الفريقين (٢) .

ولو كانت تلك الأسماء من عالم السماء والأرض، لعلمت بها الملائكة، ومن ذلك يعلم أن الأسماء التي علّمها اللَّه عزّ وجلّ آدم وجهلتها الملائكة، كانت مخلوقات محيطة بعالم السماوات والأرض.

وهذا نوع من أنواع التشاهد بين الآيات القرآنية، فالأنوار الخمسة المذكورة في سورة النور هي الأسماء التي خفيت عن الملائكة وعلّمها اللَّه تعالى آدم، وهي كما سيأتي موجودات حيّة عاقلة شاعرة من عالم النور كما عبّر عنها في سورة البقرة بضمير (هم) واسم الإشارة (هؤلاء)، وهما لفظتان لا تستعملان في الذوات الجامدة، بل في الذوات الحيّة الشاعرة العاقلة.

ويتحصّل من ذلك وجود مخلوقات خمسة نورية محيطة بالسماوات والأرض، أفضل من الملائكة ولا تحيط الملائكة بها علماً، بل إن اللَّه تعالى شرّف آدم على جميع مخلوقاته، بما فيهم المقرّبين من كبار الملائكة، كجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل بفضل تلك الأنوار، وبفضلها أيضاً استحقّ مقام الخلافة الإلهية، وسجد له الملائكة كلّهم أجمعون.

ومن ذلك يتضح أن هذه الأنوار الخمسة هي باطن (غيب) وملكوت السماوات والأرض؛ لأن نور كلّ شي‏ء بمنزلة الروح له، ومن دونه يكون ظلمانياً، والنور في المقام ليس هو النور الحسّي الذي يظهر الصفات العارضة

____________________

(١) سورة البقرة: ٣١ - ٣٣.

(٢) بصائر الدرجات، ص٨٩، الطبراني، المعجم الأوسط، ج٤، ص٤٤.

١١٤

على الشي‏ء، بل هو نور الخلقة الذي يوجد الشي‏ء ويكوّنه ويظهره من كتم العدم إلى الوجود، فنور السماوات والأرض أي ملكوتهما وباطنهما ومظهرهما من ظلمة العدم إلى نور الوجود، وهو اسم اللَّه الأعظم الذي هو غير المسمّى، يفوق في القدرة والعظمة كافّة المخلوقات في السماوات والأرض.

وسيأتي أن تلك الأنوار الخمسة المباركة - وهي الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى آدم وتاب بفضلها عليه من خطيئته، وابتلى بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة - هم خمسة أصحاب الكساء وأهل آية المباهلة: محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فهم أهل البيت، وهم النور الإلهي الذي حلّ في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، لتكون محلّاً للذكر والتسبيح والعبادة والتوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ وتشييد معالم الدين.

ولذا أخرج السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن مردويه عن أنس ابن مالك وبريدة، قال: قرأ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الآية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول اللَّه؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة عليهم‌السلام ، قال: (نعم، من أفاضلها) (١) .

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه‌السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ) قال: (هي بيوت النبي صلَّى الله عليه وآله) (٢) .

كذلك عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، في قوله: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ

____________________

(١) الدرّ المنثور، ج ٥، ص٥٠.

(٢) الكافي، ج٨، ص٣٣١، ح٥١٠.

١١٥

تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) قال: (هي بيوت الأنبياء، وبيت علي منها) (١) .

وقد تقدّم رواية الحاكم في المستدرك أن من الكلمات التي تاب اللَّه بها على آدم (وهي الأسماء التي شُرّف آدم بها على الملائكة كخليفة، لأن الكلمات أعظم مقاماً من آدم إذ بها تاب اللَّه عليه)، أن من أعظم تلك الكلمات والأسماء هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ورد في المستدرك أنه لولاه لَمَا خلق آدم ولا الجنة ولا النار (٢) ويتشاهد هذان الحديثان النبويان على أن أوّل الأنوار الخمسة والأسماء التي تعلّمها آدم وتوسّل بها هو خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا بالنسبة إلى الأنوار الخمسة المباركة.

الأئمة التسعة من ولد الحسين عليه‌السلام في آية النور:

وأمَّا قوله تعالى: ( نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، فهو إشارة إلى استمرار وديمومة قانون الإمامة والخلافة الإلهية بعد تلك الأنوار الخمسة إلى يوم القيامة، نور على نور يهدي اللَّه لنوره من يشاء، و(على)؛ أي على إثر وعقب، لغة في أحد المعاني المستعملة في لفظ (على) بالتضمين لمعنى الإثر؛ والشاهد على ذلك ما تقدّم من أن الهداية هي الإيصال إلى المطلوب، وقد جاء ذكر الهداية تفسيراً وبياناً لمقام الإمامة والولاية كما في قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فالتعبير بالهداية في الآية المباركة يراد منه الإمامة، وهو مقتضى معنى النور أيضاً؛ إذ هو الهادي إلى صراط اللَّه تعالى.

____________________

(١) تفسير القمي: ج٢ ص٧٩.

(٢) المستدرك، ج ٢، ص ٦٧١ و ٦٧٢

١١٦

ولذا ورد عن الإمام محمّد بن علي بن الحسين عليه‌السلام في قوله تعالى ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) قال: (يعني إماماً مؤيّداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك من لدن آدم إلى يوم القيامة) (١) .

وعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت ( نُورٌ عَلَى نُورٍ ) ؟ قال: (الإمام في إثر الإمام) (٢) .

وورد أيضاً عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) قال: (يهدي لولايتنا من أحبّ) (٣) .

بيان آخر للآية المباركة:

هناك بيان آخر للآية الكريمة التي نحن بصدد الاستدلال بها، أدقّ وأعمق وأدلّ على المطلوب من البيان الأول؛ وهو:

بعد أن تبيّن أن قوله تعالى: ( فِي بُيُوتٍ ) متعلّق بالنور، وأن النور في بيوت أذن اللَّه أن ترفع، نقول:

إن الآية الثالثة التي ذكرناها في المقام، وهو قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) ، هذه الجملة من المبتدأ والخبر كلّها بدل من قوله تعالى ذكره: ( فِي بُيُوتٍ ) ، أي أنها في محلّ جرّ بدل من البيوت؛ ويكون المعنى على ذلك: أن البيوت رجال لا تلهيهم تجارة، وليست هي

____________________

(١) توحيد الصدوق، ص١٥٨، ح٤.

(٢) المصدر، ص١٥٧، ح٣.

(٣) مناقب ابن المغازلي، ص٢٦٣، ح٣٦١.

١١٧

بيوت حجارة، ولا طين.

والشواهد على ذلك من نفس الآيات المباركة كثيرة نشير إلى بعضها:

أ - قوله تعالى: ( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ ) ليس فاعلاً لقوله عزّ وجل: ( يُسَبِّحُ ) ؛ وذلك طبقاً لقراءة أهل البيت عليه‌السلام ، حيث إن قراءتهم لكلمة يسبَّح (بفتح الباء) مبني للمجهول، وبناءً على هذا لا تكون كلمة ( رِجَالٌ ) فاعلاً لـ (يسبَّح) وإنما تكون مبتدءاً والجملة التي بعدها خبر، والجملة بتمامها عطف بدل على بيوت، فالبيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وإلى ذلك يشير قول الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه‌السلام إلى قتادة البصري(فقيه أهل البصرة) عندما سأله قائلاً:

(أصلحك اللَّه، واللَّه لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدّام ابن عبَّاس، فما اضطرب قلبي قدّام واحدٍ منهم ما اضطرب قدّامك؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : (ويحك أتدري أين أنت؟ أنت بين يدي ( بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) فأنت ثَمَّ، ونحن أولئك)، فقال له قتادة: صدقت واللَّه، جعلني اللَّه فداك، واللَّه ما هي بيوت حجارة ولا طين) (١) .

وكذلك ما ورد عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام ؛ حيث قال: (إنّه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى، وصل اللَّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعة رسوله بطاعته، فمَن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللَّه ولا رسوله، وهو الإقرار بما نزل من عند اللَّه: ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) والتمسوا البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم

____________________

(١) الكافي، ج٦، ص٢٥٦، ح١.

١١٨

( رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) (١) .

ثم إن تلك القراءة بفتح الباء في (يسبَّح) قرأ بها أيضاً ابن عامر وأبو بكر وابن شاهي عن حفص (٢) .

إذن، يتحصّل أن النور في بيوت هي رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.

أهل البيت عليهم‌السلام معصومون بأعالي درجات العصمة:

ب - قوله عزّ وجل: ( لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاة وَإِيتَاءِ الزَّكَوةِ ) . فإن هذا المقطع من الآية المباركة يشير إلى أن هؤلاء الرجال معصومون بأعلى درجات العصمة، وهي عصمة السرّ التي هي فوق عصمة الجوارح؛ إذ لا يلهون برهة من حياتهم عن ذكر اللَّه، فهم في ذكر دائم، وهذا يعني أن أولئك الرجال ثلّة خاصة في الأمة الإسلامية يتميّزون عن بقيّة المسلمين وأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين انفضّ أكثرهم من حوله وتركوه قائماً عندما سمعوا بالتجارة كما نصّت على هذه الحادثة سورة الجمعة؛ وذلك في قوله تعالى: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (٣) .

ففي الروايات لم يبقَ مع النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا اثني عشر أو ثمانية رجال،

____________________

(١) الكافي، ج١، ص١٨٢، ح٦.

(٢) الطوسي، لاحظ التبيان، ج٧، ص٤٣٩، وابن الجوزي، زاد المسير، ج٥، ص٣٦٤.

(٣) الجمعة: ١١.

١١٩

وانفضّ الباقون إلى اللّهو والتجارة (١) .

وفي بعض الروايات لم يبقَ إلّا علي عليه‌السلام (٢) .

ولا شك أنه لا يوجد ثلّة معصومة في هذه الأمة غير أهل آية التطهير، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فنالوا بذلك أعلى درجات العصمة والطهارة.

وهذا يعني أن تلك الأنوار الخمسة المباركة في بيوت وأبدان طاهرة، وهم رجال معصومون من الغفلة عن ذكر اللَّه عزّ وجل، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.

وتلك البيوت والرجال أذن اللَّه أن يرفع ذكرهم، كما قال اللَّه تعالى لنبيّه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) ، ولا شك أن معنى ذلك هو وجوب التعظيم والطاعة لهم والانقياد لولايتهم والتوجّه بهم إلى اللَّه تعالى في العبادة، كما أمر اللَّه عزّ وجلّ الملائكة بالخضوع والسجود لآدم وجعل الخضوع واسطة للانقياد إلى الأوامر الإلهية.

إذن، لا يقبل اللَّه عزّ وجلّ من العباد الطاعة، إلّا برفع تلك البيوت وتعظيم أولئك الرجال، والإتيان بالطاعات امتثالاً لأمر اللَّه وأمر رسوله وأمر أُولي الأمر من هذه الأمة.

قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ

____________________

(١) لاحظ: الطبري، جامع البيان، ج٢٨، ص١٣٢.

(٢) شرف الدين، تأويل الآيات، ج٢، ص٦٩٣.

١٢٠

عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

وعن الأصبغ بن نباتة، قال: كنت جالساً عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فجاء ابن الكوّا، فقال: ياأمير المؤمنين مَنْ البيوت في قول اللَّه عزّ وجل: ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (2) ؟

قال علي عليه‌السلام : (نحن البيوت التي أمر اللَّه بها أن تؤتى من أبوابها، نحن باب اللَّه وبيوته التي يؤتى منه، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها) (3) .

ج - قوله تعالى: ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) .

وقد بيّن القرآن الكريم في آيات أخرى الذين يخافون من ربّهم، كما في سورة الدهر، قال تعالى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيًما وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ) (4) .

فقد روى الفريقان أن هذه الآيات نزلت في أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد تعرّضت كتب التفاسير لقصة هذه الآيات المباركة بنحو مفصَّل (5) .

____________________

(1) الأعراف: 157.

(2) البقرة: 189.

(3) تفسير فرات الكوفي، ص142.

(4) الإنسان: 7 - 11.

(5) لاحظ: تفسير القمي، ج2، ص398، وتفسير القرطبي، ج19، ص134.

١٢١

وهذا يكشف عن حقيقة أولئك الرجال الذين اختصّهم الله عزّ وجلّ بنوره، وهم أهل بيت العصمة والطهارة، والبيوت التي أذن الله أن ترفع وتعظّم ويتوسَّل بها إلى الله عزّ وجلّ، ويذكر في حضرتها اسمه، ويسبّح له بالغدو والآصال.

لا يتبادر إلى الذهن أن من أهل البيت فاطمة عليها‌السلام فكيف تكون من الرجال المقصودين في الآية المباركة؟

فإن الجواب عن ذلك واضح؛ لأن كلمة الرجل والرجال في الآية المباركة بمعونة القرائن والشواهد التي احتفّت بها يراد منها الشخصية العظيمة، الثابتة الأقدام في المقامات الشامخة، فيراد من الرجال في الآية المباركة تلك الشخصيات التي تسنّمت بأرجل القدرة المقامات العالية والدرجات الرفيعة في مجال العصمة والتقوى، وقد جاء التعبير القرآني بالرجل عن الأعم من الذكر في آيات عديدة، كقوله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (1) ، فالمراد في هذه الآية الكريمة الإقدام بأرجل الإيمان إلى دعوة إبراهيم عليه‌السلام للحجّ أعم من كون القادم ذكراً أو أنثى، ونظير ذلك أيضاً قوله تعالى: ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (2) فوصفهم بالرجولية هنا للثبات والاستقامة والصدق.

ولا شك أن هذا كلّه مع القرينة لا مطلقاً، والقرائن الدالّة على إرادة الأعمّ من الذكر والأنثى في الآية التي هي محلّ بحثنا كثيرة جدّاً، منها ما ذكرناه سابقاً من

____________________

(1) الحج: 27.

(2) سورة الأحزاب: 23.

١٢٢

القرائن الدالّة على أن المقصود بالرجال في الآية هم أهل البيت عليهم‌السلام ومنهم فاطمة الزهراء عليها‌السلام .

خلقة أهل البيت عليهم‌السلام النوريَّة:

ونختم الحديث في هذه النقطة بذكر بعض الشواهد الدالّة على أن اللَّه تعالى خلق أهل البيت أنواراً مضافاً إلى ما تقدّم في آية النور:

الأول: قوله تعالى لرسوله الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (1) ، فهذه الآية المباركة صريحة في أن اللَّه عزّ وجلّ أوحى إلى نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نوراً وهو الروح من أمره، ولا شك أن الإيحاء الخفيّ إنما هو إلى ذات وحقيقة النبيّ الأكرم المباركة، فيتّحد ذلك النور بشخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا قالت الآية المباركة أن من آثار ذلك النور ( نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) ، ثم جعلت ذلك الأثر بعينه لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث قالت: ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وهذا صريح في اتحاد الذات النبويّة الطاهرة مع ذلك النور في الحقيقة والأثر.

وإذا كانت ذات النبيّ الأكرم نوراً يهدي إلى صراط مستقيم، فكذلك أهل بيته عليهم‌السلام الذين هم نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصّ آية المباهلة وآية التطهير، بل وبنص نفس هذه الآية المباركة في المقام، حيث ذكر فيها أن هذا الروح الأمري الذي أوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يهدي به اللَّه ويوحيه إلى مَن يشاء ويجتبيه من عباده، فلم

____________________

(1) الشورى: 52.

١٢٣

يخصص ذلك بالأنبياء أو بكونهم أنبياء أو رسل. ونظير ذلك قوله تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (1) فذكر لفظ العباد ولم يخصص بلفظ الأنبياء أو الرسل، ويدلّ على أن الذين يشائُهم اللَّه وتتعلّق مشيئته بهم ويجتبيهم لذلك غير منحصر بالأنبياء والرسل، بل يعمُّ مَن يصطفيهم للعصمة والطهارة والوصاية، وهكذا الأحاديث المتواترة في كون فاطمة عليها‌السلام بضعة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) ، وكون الحسن والحسين عليهما‌السلام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو منهم (3) ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عليّ مني وأنا منه) (4) .

الثاني: قول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كنت أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي اللَّه قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلمَّا خلق اللَّه آدم قسم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء عليّ بن أبي طالب) (5) .

الثالث: الروايات المتضافرة التي دلّت على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان نوراً يتنقل من الأصلاب الشامخة إلى الأرحام المطهّرة، وقد أضاء منه صلى‌الله‌عليه‌وآله نوراً عند ولادته ملأ الخافقين، كما نقلت ذلك آمنة بنت وهب(سلام اللَّه عليها) أم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين ولادته، قالت: (إنّي رأيت حين ولدته أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام) (6) .

____________________

(1) سورة النحل 2: 16.

(2) لاحظ: ابن حنبل، فضائل الصحابة، ص 78.

(3) مسند أحمد، ج 4، ص 272.

(4) فضائل الصحابة، ص15.

(5) الصدوق، الخصال، ص 64، والزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، ص 79، وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج42، ص67، و الذهبي، ميزان الاعتدال، ج1، ص 507.

(6) الطبراني، المعجم الكبير، ج24، ص 215، وتفسير ابن كثير، ج 4، ص 384.

١٢٤

إلى غير ذلك من الشواهد الدالّة على الخلقة النورية للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

11 - بناء المساجد على قبور الأولياء معالم للدين:

كما في قوله تعالى في قصّة أصحاب الكهف: ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) (1) .

ذكر المفسِّرون: أن أصحاب الكهف لمَّا بعثوا بأحدهم إلى المدينة بورقهم لجلب الطعام وعثر عليهم أهل المدينة وعلموا بأمرهم، جاءوا إلى الكهف، فلمَّا دخل الذي هو من أصحاب الكهف، دعا اللَّه تعالى مع أصحابه أن يميتهم لئلاّ يكونوا فتنة للناس، فأماتهم اللَّه تعالى، وخفي على أهل المدينة مدخل الكهف، فلم يهتدوا إليه، فقال المشركون: نبني عليهم بنياناً ونحوطهم بجدار نجعلهم وراءه، وقال المسلمون: بل نحن أحقّ بهم، هم منّا، نبني عليهم مسجداً نصلّي فيه ونعبد اللَّه فيه (2) .

وقال المفسّرون أيضاً: إن قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) دلّ على أن الغلبة كانت للمؤمنين بقرينة ذكر اتخاذ المسجد (3) .

ثم إن القرآن الكريم في استعراضه لهذه الواقعة أقرّ المؤمنين على رأيهم، ولم يفنّد اتخاذهم المسجد على قبور أصحاب الكهف من أجل التبرّك والعبادة،

____________________

(1) الكهف: 21.

(2) لاحظ: الشيخ الطوسي، التبيان، ج 7، ص 25، والطبري، جامع البيان، ج15، ص282.

(3) الطبرسي، مجمع البيان، ج 6، ص 328، والشوكاني، فتح القدير، ج 3، ص 277.

١٢٥

خصوصاً وأن القرآن الكريم إنما عرض لنا قصّة أصحاب الكهف، لأجل تعميق مبدأ الإيمان والتوحيد، والقرآن يذكر القصّة في ضمن بيان مآثر ومعالم أهل الكهف المشيَّدة والخالدة، وأنه بُني على قبورهم مسجداً لإظهار معجزتهم، وليبقى ذكرهم خالداً في أذهان البشر و موعظة للمؤمنين، فلو كان بناء المسجد على قبورهم والتبرّك بهم والتعبّد عندهم شركاً ووثناً من الأوثان، لكان ذلك على خلاف المطلوب، ومنافياً للحكمة التي أرادها اللَّه عزّ وجلّ من سرد القصّة.

إذن، قبور الأولياء وبناء المساجد عليها والتبرّك بها وجعلها واسطة في التوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ في العبادة من المبادئ القرآنية الصريحة والشعائر الإلهية التي يوجب تخليد ذكرها تخليد الدين ومعالم التوحيد التي شيّدوها بسيرتهم المباركة ونهجهم التوحيدي، وهذا عين الأمر الإلهي باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى، فإن تشعير مقام إبراهيم وتخليد ذكره بذلك، يكون سبباً لخلود التوحيد وباعثاً للناس على التمسّك بهديه.

ومن ذلك أيضاً قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة ) (1) ، فإن ذلك تشعيراً لقبره صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعله محلّاً للعبادة ونيل القربان والمقامات عند اللَّه تعالى.

وذلك كلّه يعني أن مقامات الأنبياء والأولياء والحجج من الحريّ بها أن تعمّر وتشعّر محلّاً للعبادة والتقرّب إلى اللَّه تعالى.

____________________

(1) والحميري، قرب الإسناد، ص 13، الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 568، ومسند أحمد، ج 3، ص 64، وصحيح البخاري، ج 2، ص 57.

١٢٦

ولا شك أن الآيات والوسائط علامات على عظمة الصفات الإلهية، ففعل الذات العظيمة عظيم أيضاً، فلابدّ أن يعظّم، وتعظيمه تعظيماً للَّه عزّ وجل، والذي يحقّر آيات اللَّه ويهينها بكلّ نوع من أنواع الإهانات يكون قد هتك الحرمة والحريم الإلهي؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجل: ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) .

والحاصل: أن ترك تعظيم وليّ اللَّه والإعراض عن التوسّل والتوجّه به إلى اللَّه تعالى إخفاق في عقيدة التوحيد.

12 - حبط الأعمال وقبولها:

قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (2) .

هذه الآية المباركة صريحة أيضاً في أن الخضوع للنبيّ الأكرم والإقبال عليه والتوجّه إليه وتوقيره وتعظيمه وحفظ الأدب في حضرته سبب وواسطة في قبول الأعمال، وموجب لتحقّق التقوى والمغفرة والقرب من اللَّه تعالى ونيل الأجر العظيم؛ وذلك لأن الخضوع للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيم له بما هو آية كبرى من آيات اللَّه عزّ وجلّ وشعيرة من شعائره ومعْلماً من أعلام دينه، وقد سبق قوله تعالى:

____________________

(1) الحج: 32.

(2) الحجرات: 3 - 2.

١٢٧

( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) .

وأمَّا الذين لا يخضعون للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يحافظون على التزام الآداب في ساحة الحضرة النبويّة، برفعهم الأصوات فوق صوته والتعامل معه كأحدهم، فقد توعّدهم اللَّه تعالى بحبط أعمالهم؛ لأن ذلك يوجب الإعراض عن الآيات الإلهية والوسائط الربانية التي نصبها لعباده والاستكبار عليها، فلا يكون لأعمالهم حينئذٍ وزن عند اللَّه تعالى، بما في ذلك العقيدة التي هي عمل من الأعمال الجوانحية.

13 - آيات القسم الإلهي بشخص النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لقد وردت آيات عديدة يُقسم فيها اللَّه تعالى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نذكر بعضاً منها:

1 - قوله تعالى: ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (1) ، والقسم بعمر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل اللَّه تعالى يدلّل على تعظيمه وتشريفه، خصوصاً وأن المفسّرين ذكروا أن الباري تعالى لم يقسم بعمر أحد في القرآن الكريم سوى القسم بعمر خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - قوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) (2) .

قال بعض المفسّرين: إن (لا) في قوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ ) أصلية نافية؛ والمعنى هو أن اللَّه تعالى لا يقسم بمكّة والنبيّ حلّ وحالّ فيها وذلك تعظيماً له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه مع وجوده في مكّة هو الأحرى أن يقسم به دون غيره، ذكر

____________________

(1) الحجر: 22.

(2) البلد: 1 - 3.

١٢٨

ذلك أبو البقاء العكبري في إملائه، حيث قال:

(وقيل: لا أقسم به وأنت حلّ فيه، بل أقسم بك) (1) .

وفي فتح القدير للشوكاني قال: (وقيل: المعنى لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ومقيم فيه وهو محلّك، فعلى القول بأن (لا) نافية غير زائدة يكون المعنى لا أقسم به وأنت حالّ به، فأنت أحقّ بالإقسام بك) (2) .

والبعض الآخر من المفسّرين قال: إن (لا) أصلية أيضاً، ولكن المعنى هو: لا أقسم بهذا البلد وأنت لا حرمة لك في هذا البلد، يستحلّون دمك وقتالك، وفي ذلك دلالة واضحة على عظمة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لأن القسم لأجل عظمة المقسوم به والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له عظمة فوق ذلك، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله موضع قسم أيضاً؛ إذ لو كان ما هو دونه من موارد القسم ولا يقسم به لعظمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف بك بذات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو أعظم من الكعبة؟ وعلى هذا يكون في هذه الآية مديح له صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه أكرم الخلق على اللَّه تعالى.

ذكر هذا المعنى عدد وافر من المفسّرين:

منهم: علي بن إبراهيم القمّي، حيث قال في تفسيره:

( وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) كانت قريش لا يستحلّون أن يظلموا أحداً في هذا البلد، ويستحلّون ظلمك فيه (3) .

ومنهم: الطبرسي في مجمع البيان، قال: (وقيل: معناه لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ فيه، منتهك الحرمة، مستباح العرض، لا تُحترم، فلم يبن للبلد حرمة،

____________________

(1) أبو البقاء العكبري، إملاء ما منّ به الرحمن، ج 2، ص 287.

(2) الشوكاني، فتح القدير، ج 5، ص 443.

(3) تفسير القمي، ج 2، ص 422.

١٢٩

حيث هتكت حرمتك، عن أبي مسلم، وهو المروي عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (كانت قريش تعظّم البلد، وتستحلّ محمّد(صلَّى الله عليه وآله فيه)، فقال: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ) ، يريد أنهم استحلّوك فيه، فكذّبوك وشتموك... فاستحلّوا من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يستحلّوه من غيره، فعاب اللَّه ذلك عليهم) (1) .

ومنهم: ابن الجوزي في زاد المسير، حيث ذكر لقوله تعالى: ( لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ) ثلاثة معانٍ، قال: (والثالث: أنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلّون إخراجك وقتلك ويحرّمون قتل الصيد، حكاه الثعلبي) (2) .

وبعض ثالث قال: إن (لا) زائدة، ولكن مع ذلك هي دالّة على أفضلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الكعبة، وأن شرفها لحلول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، والقسم بها لأجل ذلك، فإذا كان القسم بها لأجل حلول النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها يكون القسم بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى وأدلّ.

وقد ذكر هذا المعنى أيضاً كثير من المفسّرين:

منهم: الشيخ الطوسي، حيث قال بعد تصريحه بأن (لا) زائدة: (وقيل: معناه أنت حلّ بهذا البلد أي أنت فيه مقيم وهو محلّل، والمعنى بذلك التنبيه على شرف البلد بشرف من حلّ فيه من الرسول الداعي إلى تعظيم اللَّه وإخلاص عبادته المبشِّر بالثواب والمنذر بالعقاب) (3) .

ومنهم: الشوكاني في فتح القدير، قال: (وعلى القول بأنها زائدة، يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً وتعظيماً لقدرك؛ لأنه قد صار

____________________

(1) مجمع البيان، ج 10، ص 361.

(2) زاد المسير، ج 8، ص 251.

(3) التبيان، ج10، ص 350.

١٣٠

بإقامتك فيه عظيماً شريفاً وزاد على ما كان فيه من الشرف والعظم) (1) .

كذلك ذكر بعض المفسّرين أن قوله تعالى: ( وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ) المقصود منه إبراهيم والولد هو النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله . قال ابن الجوزي: )والثاني: أن الوالد إبراهيم وما ولد محمّد، قاله الحسن أبو عمران الجوني) (2) .

وهذا قسم آخر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نصّ على ذلك القاضي عياض (3) .

ثمّ إن هذه الآية المباركة دالّة على أن إنكار ولاية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكونه واسطة ووسيلة بينهم وبين اللَّه تعالى مع تعظيم الكعبة من عمل المشركين، وأن تعظيم البيت الحرام بضمّ تعظيم النبيّ الأكرم وببركة وجوده فيه.

3 - قوله تعالى: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) (4) .

4 - قوله تعالى: ( ق وَالْقُرْآنِ الَْمجِيدِ ) (5) .

5 - قوله تعالى: ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) (6) .

6 - قوله تعالى: ( الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ) (7) .

7 - قوله تعالى: ( طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ) (8) .

وقد ورد عن الإمام السجّاد عليه‌السلام في الصحيفة السجّادية بأن كلّ قسَم في

____________________

(1) فتح القدير، ج 5، ص 443.

(2) ابن الجوزي، زاد المسير، ج8، ص251.

(3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج 1، ص 34.

(4) ص: 1.

(5) ق: 1.

(6) يس: 1و2.

(7) الحجر: 1.

(8) النمل: 1.

١٣١

القرآن الكريم بالقرآن والكتاب يسبقه اسم فهو من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال عليه‌السلام في دعائه: (وقلت جلّ قولك له حين اختصصته بما سمّيته من الأسماء ( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ، وقلت عزّ قولك: ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) ، وقلت تقدّست أسماؤك: ( ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) ، وقلت عظمت آلاؤك: ( ق وَالْقُرْآنِ الَْمجِيدِ ) ، فخصصته أن جعلته قسمك حين أسميته وقرنت القرآن به، فما في كتابك من شاهد قسم والقرآن مردف به إلّا وهو اسمه، وذلك شرف شرّفته به، وفضل بعثته إليه، تعجز الألسن والأفهام عن وصف مرادك به) (1) .

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام قال: (يس اسم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

ذكر بعض المفسّرين أن صاد وقاف وغيرهما من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقال ابن الجوزي: (والثالث: أن معناها [يس] يامحمّد، قاله ابن الحنفيّة والضحّاك) (3) .

كانت هذه هي بعض الموارد التي أقسم اللَّه عزّ وجلّ بنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيماً له، وتبياناً لعلوّ مقامه ومكانته عند اللَّه عزّ وجلّ، وأنه أكرم مخلوقاته.

والقسم بالشي‏ء نحو توسيط له؛ وذلك لأن القسم نوع من الذمّة والتوثيق، وهو نحو من أنحاء الشفاعة، لأن أحد أشكال القسم هو قسم المناشدة كما في المقام، وفي المناشدة يُذكر القسم لأجل التشفّع وجعل الشفيع والوسيط، فإذا صحّ القسم بذات النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صحّ القسَم على اللَّه تعالى به في قضاء الحوائج في الدنيا والآخرة.

إذاً القسم كما يستخدم للاستيثاق من الخبر، يستخدم أيضاً

____________________

(1) الصحيفة السجادية، ص 310 - 311.

(2) تفسير القمي، ج 2، ص 211.

(3) زاد المسير، ج 6، ص 261.

١٣٢

في الاستيثاق من التشفّع والتوسّل كما لو كان القسم على إنشاء، كقولك: (واللَّه لتفعلنّ كذ)، وإذا صحّ التشفّع به صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقسم، صحّ التوسّل به والتشفّع مطلقاً، وهذا نوع من الاستدلال بالدلالة الالتزامية البيّنة.

14 - الآيات الآمرة بالتوسُّل بالنبيّ الأكرم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله

وسائر الأنبياء والأوصياء:

الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال عديدة نشير إلى بعضها:

1 - قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (1) .

فإن هذه الآية المباركة ناصّة وصريحة في أن التوجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ والإقبال عليه بالاستغفار والتوبة والأوبة لابدّ أن يكون عن طريق التوجّه والمجي‏ء إلى الباب الذي نصبه اللَّه تعالى لذلك، وهو النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال تعالى: ( جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ ) أي يأتونك ويتوجّهون إلى اللَّه بك، فالمجي‏ء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مجي‏ء إلى اللَّه تعالى.

إذن، استغفارهم لأنفسهم عند اللَّه تعالى لا يغنيهم عن التوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعنى ذلك أن للمجي‏ء عند النبيّ ثم الاستغفار موضوعية في حصول المغفرة.

ولا شك أن الاستغفار وطلب المغفرة عبادة من العبادات ونوع خاص من أنواع الدعاء وحالة من الارتباط بين العبد وربّه، وللكون عند النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجي‏ء عنده دخالة في قبول تلك العبادة وتوثيق الدعاء والارتباط بين العبد

____________________

(1) النساء: 64.

١٣٣

وربّه والإقبال على اللَّه تعالى.

وهذا هو معنى أن للَّه عزّ وجلّ مواضع ومواطن مشرَّفة يُقبل الدعاء بالكون فيها والمثول تحت قبّتها، كما في الكون في عرفة وتحت الميزاب وعند الملتزم والمستجار وغيرها، وكما ورد من أن الصلاة في البيت الحرام تعدل كذا ألف ركعة، وهذا يعني أن للكون في البيت الحرام دخالة في توثيق الارتباط بين العبد وبين اللَّه تبارك وتعالى.

والحاصل: إن اللَّه عزّ وجلّ يخاطب المذنبين الظالمين لأنفسهم أن تكون عبادتهم في طلب المغفرة بالقصد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجي‏ء عنده؛ لأن ذلك من مواطن استجابة الدعاء وتفتّح أبواب السماء وقبول التوبة وتحقّق المغفرة، وهذا نوع من أنواع التوسّل والتشفّع به صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى اللَّه عزّ وجلّ، فمجيئهم عند النبيّ والاستغفار في حضرته نوع من أنواع التوسّل، واستغفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد توسلهم به نوع من أنواع الشفاعة؛ ولذا قال عزّ وجلّ: ( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) ، وبعد التوسّل والشفاعة قال تعالى: ( لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) .

2 - قوله تعالى: ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) (1) .

وهذا أمر من اللَّه عزّ وجلّ لنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يتشفّع للمؤمنين ويكون وسيلة وواسطة لهم في المغفرة.

3 - قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (2) .

____________________

(1) آل عمران: 159.

(2) المنافقون: 5.

١٣٤

إن في هذه الآية المباركة أمر إلهي لعصاة هذه الأمة، بأن يأتوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتوسلون به ليستغفر لهم اللَّه عزّ وجلّ.

والباري تعالى يقول: إن الإباء عن المجي‏ء عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صدود واستكبار على اللَّه تعالى، وهو نفس الجرم الذي وقع به إبليس عندما أبى عن السجود لوليّ اللَّه وخليفته آدم، حيث قال تعالى: ( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ، كذلك الفسق وصَفَ به اللَّه عزّ وجلّ المنافقين كما وصف به إبليس، وليس ذلك إلّا لأنهم لوّوا رؤوسهم وأبوا زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتوسيطه والتوجّه به إلى اللَّه تعالى في الاستغفار، وذلك سواء قبل وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعدها؛ لأن الرسول الأكرم حيّ بالآيات وبروايات الفريقين، تُعرض عليه الأعمال ويسمع السلام ويردّه وهو شهيد على جميع الأمم.

4 - قوله تعالى: ( وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) .

وفي هذه الآية المباركة والآيات التي سبقتها تأكيد على أن هذه الأمة لا ترحم إلّا بنبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو شفيع هذه الأمة ووسيلتها، وإن اللَّه عزّ وجلّ أمره بذلك وأمر الأمة بالرجوع إليه لنيل الرحمة والمغفرة.

5 - قوله تعالى حكاية لكلام إبراهيم عليه‌السلام مع عمّه آزر: ( قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ) (2) .

وهذه الآية المباركة صريحة فيما نحن بصدد إثباته؛ إذ إن النبيّ إبراهيم عليه‌السلام يعلّل شفاعته ووساطته في الاستغفار بأن اللَّه كان به حفيّاً، فالحفاوة والحظوة

____________________

(1) النور: 62.

(2) مريم: 47.

١٣٥

والحبوة والوجيه والوجاهة التي يوليها اللَّه عزّ وجلّ لإبراهيم عليه‌السلام وسيلة وباباً ووجهاً يتوجّه به إلى اللَّه عزّ وجلّ، كما تقدم ذلك في الآيات التي صرّحت بأن موسى وعيسى عليهما‌السلام وجيهان عند اللَّه تعالى ومن المقرّبين، فكلّ مقرّب ووجيه وحبيب لدى اللَّه ومن له كرامة وعزّة عنده عزّ وجلّ يتوجّه ويتوسّل به إلى اللَّه ويجعل شفيعاً في قول القائل: (إنّا توسّلنا وتوجّهنا واستشفعنا بك إلى اللَّه يا وجيهاً عند اللَّه اشفع لنا عند اللَّه).

والتعليل المذكور في هذه الآية الكريمة عامّ، وقد أقرّ اللَّه تعالى إبراهيم عليه، فيكون هذا التعليل دليلاً عامّاً على أن كلّ من كان له حفاوة وقرباً عند اللَّه عزّ وجلّ يتوسل به ويتشفّع به عند اللَّه تعالى.

وهذه هي الملّة الإبراهيمية الحنيفية التي نحن عليها، ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (1) .

6 - قوله تعالى حكاية لقول موسى عليه‌السلام : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (2) .

فالنبيّ موسى عليه‌السلام في هذه الآية المباركة يستغفر لنفسه ويتوسّط في طلب الاستغفار لأخيه هارون عليه‌السلام ، وهذا معناه أن الوسيلة والشفاعة قد تكون أيضاً من الوليّ الذي هو أقرب وأكثر حظوة عند اللَّه تعالى للوليّ الذي هو دونه في القرب، كما ورد ذلك في شفاعة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لبقيّة الأنبياء، بل ولخصوص الأئمة الاثني عشر من أهل بيته عليهم‌السلام في الكينونة معه في مقامه.

____________________

(1) سورة البقرة: 130.

(2) الأعراف: 151.

١٣٦

وإذا كان النبيّ موسى عليه‌السلام واسطة ووسيلة رحمة وغفران بين هارون النبي وبين اللَّه تعالى، وهو نبيّ من الأنبياء، فكيف ظنّك بسائر البشر؟!

7 - قوله تعالى حكاية عن قول يعقوب عليه‌السلام وولده: ( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1) .

وهذا توسّل من أبناء يعقوب بأبيهم عليه‌السلام ، ونفس فعلهم هذا هو توبة وندامة وأوبة وإنابة إلى اللَّه عزّ وجلّ، ففي التوبة التي هي من العبادة للَّه تعالى توجّهوا إلى أبيهم؛ لحفاوته عند اللَّه تعالى، والنبيّ يعقوب عليه‌السلام أقرّهم على فعلهم هذا، وقال لهم: ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) ، فقوله هذا شفاعة منه عليه‌السلام لأبنائه عند اللَّه تعالى، وقولهم وتوجّههم إليه توسّل منهم بأبيهم وتوسيط له بينهم وبين اللَّه عزّ وجلّ؛ وذلك بحسب ما تقدّم ويأتي أيضاً من الرابطة الوثيقة بين التوسّل والشفاعة، وجاء في ذيل سورة يوسف قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ) (2) أي أن ما ذكر في الآيات عبرة لمن يقرأ القرآن ليتخذها سنّة ينتهجها.

8 - قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ) (3) .

وهذه الآية المباركة تبيّن وساطة حملة العرش في غفران الذنوب، وقد روى الفريقان أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية، أربعة من الأولين وأربعة من

____________________

(1) يوسف: 97 - 98.

(2) سورة يوسف: 111.

(3) غافر: 7.

١٣٧

الآخرين. أمَّا الأولون فهم الأنبياء أولو العزم؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام . وأمَّا الآخرون فهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وثلاثة من هذه الأمة؛ وهم الإمام عليّ عليه‌السلام والحسن والحسين عليهما‌السلام . أخرج الكليني في الكافي عن يحيى بن سليمان المازني عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال: (إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين؛ فأمَّا الأربعة الذين هم من الأولين، فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام . وأمَّا الأربعة من الآخرين، فمحمّد وعليّ والحسن والحسين (صلوات اللَّه عليهم) (1) .

وسواء كان حملة العرش من الملائكة أم من الأنبياء والأوصياء، فإنهم شفعاء ووسيلة يستغفرون للذين آمنوا.

9 - قوله تعالى على لسان بني إسرائيل: ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرُ ) (2) .

فإن سؤال بني إسرائيل في هذه الآية المباركة لم يكن بالخطاب في الدعاء مباشرة للَّه تعالى، وإنما سألوا اللَّه تعالى وتوجّهوا إليه بنبيّه، وموسى عليه‌السلام أجابهم على ما سألوا بقوله: ( فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ) ولم ينكر عليهم توسيطه في قضاء الحاجة وطلب ونيل المقصود، وكذلك اللَّه عزّ وجلّ لم ينكر عليهم ذلك في القرآن الكريم، وإنما أنكر عليهم استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.

10 - قوله تعالى على لسان نبيّه سليمان عليه‌السلام : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي

____________________

(1) الكافي، ج4، ص585.

(2) البقرة: 61.

١٣٨

بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَأَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (1) ، حيث توسّل النبيّ سليمان عليه‌السلام للإتيان بعرش بلقيس بمَن عنده علم من الكتاب، وهو وصيّه آصف بن برخيا.

والحاصل: إن هذا الوجه القرآني الذي ذكرناه بطوائفه المتعدّدة من الآيات، حصيلته أن هناك أمراً إلهياً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يكون وسيلة وشفيعاً لهذه الأمة، وأمر الناس بأن يأتوه ويقصدوه ويزوروه طلباً للشفاعة وقضاءً للحوائج، وأن مجرّد الندامة والتوبة لا تكفي، بل لابدّ من التوجّه إلى الواسطة، كما فعل أولاد يعقوب، الذين كان في قصصهم عبرة لهذه الأمة، وهذه كلّها أوامر تعظّم مبدأ التوسّل وتحثّ عليه وتهدّد مَن يستكبر عليه، وأن مصيره يكون كمصير إبليس.

15 - آيات التوسّل بمخلوقات كريمة أضيفت إلى الأنبياء والأولياء:

هناك آيات عديدة تنصّ على مشروعية التوسّل بغير الأنبياء والرسل من المخلوقات الكريمة على اللَّه تعالى، والتي أُضيفت إلى الأنبياء والأولياء، فهي توجب تحقيق المقصود وإنجاح بعض الحوائج، نشير إلى بعضها:

1 - ما هو مذكور في قصة يوسف عليه‌السلام ، حيث أمر إخوته أن يُلقوا قميصه على وجه أبيه ليرتدّ بصيراً ببركة ذلك القميص، وذلك في قوله تعالى: ( إِذْهَبُوا

____________________

(1) النمل: 38 - 40.

١٣٩

بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (1) ، فالمشافى في هذه الآيات المباركة نبيّ كبير من الأنبياء، وهو يعقوب عليه‌السلام ، والشفاء حصل بتوسّط قميص لامس بدن يوسف عليه‌السلام ، وهذا نوع من التوسّل والتوسيط في إفاضة الشفاء من اللَّه عزّ وجلّ، فإن الشفاء حقيقة من اللَّه تعالى والفيض كلّه منه تعالى؛ لأنه الخالق الحقيقي لكلّ الممكنات بما فيها الشفاء والاستشفاء، كما في قول إبراهيم عليه‌السلام : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (2) إلّا أن ذلك لا يمانع جعل الوسائط وأن يتوسَّل الشخص بوسيلة منصوبة من اللَّه عزّ وجلّ ومجعولة لإفاضة الشفاء منه تعالى، كالأشياء المضافة إلى الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، والسرّ في ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ جعل عالم الخلقة محكوماً بقانون الأسباب والمسببات، لتكون مواطن ومجاري فيضه إلى المراتب النازلة من الوجود.

إذن، إذا كان نبيّ من الأنبياء يتوسل بجاه نبيّ آخر من الأنبياء، وهو ابنه يوسف عليه‌السلام ، وذلك ببركة قميصه بجعله واسطة فيض في الشفاء، فكيف بنا نحن؟

ثم إنه ليس في المورد، وهو القميص، خصوصية، بل ذلك شامل لكلّ ما له نسبة وإضافة إلى نبيّ من الأنبياء أو وصيّ من الأوصياء بما يوجب حصول

____________________

(1) يوسف:93 - 96.

(2) الشعراء: 80.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320