الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 320
المشاهدات: 93169
تحميل: 6903


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93169 / تحميل: 6903
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

البركة فيه؛ وذلك لأن الفعل يحمل في طيّاته الطبيعة العامة والسنّة الإلهية الشاملة؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجلّ في نفس سورة يوسف: ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ) (1) ، وقال تعالى أيضاً في السورة ذاتها: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ) (2) .

إذن، آية الاستشفاء ومشروعيته عامّة والمورد لا يخصّص الوارد.

هل الآية دليل على مشروعية الاستشفاء فقط؟

لابدّ من التنبيه هنا على أن الاستشفاع والتوسّل والاستغاثة والتبرّك والاستشفاء كلّها من باب واحد، وتندرج تحت طبيعة واحدة وإن تعدّدت عناوينها، فهي أصناف لطبيعة واحدة عامّة، وهي توسيط الواسطة لنجح المسؤول ونيل المطلوب.

فالتبرك مثلاً هو طلب البركة، أي طلب الحاجة بواسطة ما جعله اللَّه عزّ وجلّ من الحظوة والبركة في ذوات الأنبياء والأولياء المقدّسة أو ما يتعلّق بهم وينتسب إليهم.

وكذا الاستغاثة طلب قضاء الحاجة بواسطة المستغاث به في حالة خاصة، وهكذا بقيّة العناوين الأخرى كما ستأتي الإشارة إلى بعضها عند ذكر الفرق بين التوسّل والاستشفاع والشفاعة في الفصل الرابع.

وبناء على هذا يكون الاستشفاء بقميص يوسف عليه‌السلام المذكور في الآية

____________________

(1) يوسف: 7.

(2) يوسف: 111.

١٤١

المباركة توسيط وتبرّك وتوسّل بالقميص إلى اللَّه عزّ وجلّ.

وتكون هذه الآية الكريمة دالّة على مشروعية مطلق التوسيط بكلّ أصنافه، وليست الآية خاصة بالاستشفاء فقط، وهذا من الاستدلال على مشروعية النوع أو الجنس بمشروعية الصنف أو النوع.

هذا تمام الكلام في هذه الآية.

2 - قصة البقرة، الواردة في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (1) ، فإن هذه القصة تتحدّث عن إحياء شخص من بني إسرائيل، قتل ظلماً واختلفوا في قاتله فأمرهم اللَّه تعالى للكشف عن قاتله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها، لتعود إليه الحياة ويتكلّم بذكر قاتله، قال عزّ وجلّ: ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَاتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (2) ، فهنا الباري تعالى مع كون الإحياء من فعله وليس هو بالأمر الهين، بل هو من الأمور العظيمة والكمالات الأولية لا الثانوية، مع ذلك جعل الوسيلة إليه الضرب بلحم بقرة مذكّاة، فكيف بك بالأنبياء والأوصياء، ألا تُستدرُّ بهم رحمة اللَّه عزّ وجلّ؟!

وتجدر الإشارة إلى أن البقرة لم تكن بقرة عادية، بل كانت محلّ العناية الإلهية، وقد ذُكرت لها أوصافاً خاصّة في الآيات المباركة وإن كان الاستقرار عليها بعناد من بني إسرائيل.

____________________

(1) البقرة: 67.

(2) البقرة: 72 - 73.

١٤٢

والفرق بين ما هو مذكور في هذه الآيات المباركة وبين تقديس البقر وعبادتها، هو وجود الأمر الإلهي وعدمه، وقد جعل اللَّه عزّ وجلّ البقرة سبباً من الأسباب الإلهية وموضعاً من مواضع قدره وإبرام قضائه في القصة المذكورة.

ويشهد على ما ذكرنا قوله تعالى في ذيل الآية الكريمة: ( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

ومعنى ذلك أن اللَّه عزّ وجلّ جعل البقرة آية وواسطة لإحياء الموتى بإذنه ومشيئته.

3 - قصة التابوت، التي وردت في قوله تعالى: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1) .

فالتابوت الذي فيه سكينة وبقيّة ممَّا ترك آل موسى وآل هارون جُعل آية معجزة لمُلك طالوت وإمامته، فتلك التركة بسبب علقتها بآل موسى وآل هارون واكتسابها البركة لإضافتها إليهم تصل إلى درجة الإعجاز والآية البيّنة لإثبات مطالب حقّة، وهي إمامة طالوت، وتوجب بروز ظواهر خارقة للعادة للتابوت تكوّن منه معجزة كما ورد في روايات الفريقين.

فهذه الواسطة تجاوزت حدّ الكرامة والبركة لتصل إلى درجة الحجّية

____________________

(1) البقرة: 247 - 248.

١٤٣

والإعجاز؛ ولذا قال اللَّه عزّ وجلّ في ذيل الآية الكريمة: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) وذلك لبيان أن التابوت آية وعلامة وواسطة يتوسّط ويتوسل بها لإثبات مُلك طالوت وإمامته.

4 - قصة السامري صاحب العجل، التي وردت في قوله تعالى في بني إسرائيل عندما ذهب موسى عليه‌السلام إلى ربّه: ( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ) (1) ، إلى أن قال اللَّه عزّ وجلّ حكاية عن لسان موسى عليه‌السلام : ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (2) ، والرسول في الآية الكريمة كما في بعض الروايات هو جبرئيل عليه‌السلام عندما هبط وتمثّل على حصان ليستنقذ موسى عليه‌السلام وبني إسرائيل من فرعون وجنوده ويرشدهم إلى الطريق، من أجل العبور من مصر إلى الطرف الآخر، فكان على حصان نوريّ تمثّلي، وكان السامري من خواصّ النبيّ موسى عليه‌السلام ، فلاحظ أن حافر حصان جبرئيل عليه‌السلام عندما كان يخطو الحصان ينبت الزرع دفعة واحدة من تحته، فقبض قبضة من أثر حصان الرسول فنبذها في العجل، فإذا هو له خوار.

وقد وردت هذه القصة في روايات الفريقين:

ففي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال: (وكان السامري على مقدّمة موسى يوم أغرق اللَّه فرعون وأصحابه، فنظر إلى جبرئيل وكان على حيوان في صور

____________________

(1) طه: 87 - 88.

(2) طه: 95 - 96.

١٤٤

رمكة (1) ، فكانت كلّما وضعت حافرها على موضع من الأرض تحرك ذلك الموضع، فنظر إليه السامري، وكان من خيار أصحاب موسى، فأخذ التراب من تحت حافر رمكة جبرئيل وكان يتحرك، فصرّه في صرّة، وكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل، فلمَّا جاءهم إبليس واتخذوا العجل، قال للسامري: هات التراب الذي معك، فجاء به السامري، فألقاه إبليس في جوف العجل، فلمَّا وقع التراب في جوفه تحرك وخار) (2) .

وفي جامع البيان للطبري قال: (وقوله: ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) يقول: قبضت قبضة من أثر حافر فرس جبرئيل)، ثم أخرج عن ابن عباس قوله: (لمَّا قذفت بنو إسرائيل ما كان معهم من زينة آل فرعون في النار وتكسّرت، ورأى السامري أثر فرس جبرئيل عليه‌السلام فأخذ تراباً من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار فقذفه فيها، وقال: كن عجلاً جسداً له خوار، فكان للبلاء والفتنة) وفي‏ حديث آخر عنه أيضاً: (فألقى القبضة على حُليّهم فصار عجلاً جسداً له خوار).

وأخرج أيضاً عن مجاهد في قول اللَّه تعالى: ( فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ) قال: (من تحت حافر فرس جبرئيل، نبذه السامري على حلية بني إسرائيل فانسبك عجلاً جسداً له خوار) (3) .

فإذا كان أثر التراب الذي لامس حافر فرس جبرئيل عليه‌السلام له ذلك التأثير مع أن السامري استخدمه في طريق الضلالة والغواية، فما بالك بمَن هو أشرف من جبرئيل عليه‌السلام ؟! ألا تكون المواضع التي وقف فيها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبره

____________________

(1) الرمكة: الأنثى من الخيل.

(2) تفسير القُمِّي، ج2، ص62.

(3) جامع البيان، ج16، ص254 - 255.

١٤٥

والمواطن التي لامست بدنه الشريف ذات بركة وتأثير خارق لِمَا هو المعتاد، لا سيما إذا كان في طريق الهداية والانصياع للأوامر الإلهية؟!

5 - عصا موسى عليه‌السلام ؛ حيث كانت وسيلة وواسطة للعديد من المعاجز الإلهية كانقلابها أفعى، وضرب البحر بها فكان كلّ فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر بها فانفجرت اثنتا عشرة عيناً؛ كلّ ذلك لكونها مضافة إلى موسى عليه‌السلام ، فهي مباركة ببركة موسى عليه‌السلام وواسطة للكثير من المعاجز، فكيف بك بنفس موسى ومَن هو أفضل من موسى، ألا يكون واسطة ووسيلة لقضاء الحوائج التي هي لا تصل في العظمة والخطورة إلى حدّ المعجزة؟!

6 - البيت الحرام؛ حيث جعله اللَّه عزّ وجلّ مباركاً تُطلب فيه البركة ويدعى فيه لقضاء الحوائج، وهو نوع توسيط لأجل طلب البركة، وذلك ما جاء في قوله تعالى: ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

____________________

(1) آل عمران: 96.

١٤٦

الفصل الثالث:

شرطية التوسّل وضرورته في مقامات ثلاثة:

* قبول التوبة.

* قبول العبادات.

* نيل المقامات الإلهيّة.

١٤٧

الدليل الأول: معطيات الشهادة الثانية.

الدليل الثاني: التوسّل ضرورة عقلية.

الدليل الثالث: عموم وجوب طاعة اللَّه ورسوله وأولي الأمر.

الدليل الرابع: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام بأعظم العبادات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية.

الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب المغفرة.

الدليل السابع: التوسّل بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ميثاق مأخوذ على الأنبياء.

الدليل الثامن: ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم ) .

الدليل التاسع: الاستكبار والصدّ عن آيات اللَّه تعالى موجب لحبط الأعمال.

الدليل العاشر: خضوع الملائكة لوليّ اللَّه وخليفته.

١٤٨

شرطية التوسّل

وضرورته في مقامات ثلاثة

نريد أن نبيّن تحت هذا العنوان دور التوسّل وشرطيته في مقامات ثلاثة، وهي كالتالي:

المقام الأول: إن من شرائط التوبة وقبولها التوسّل بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

المقام الثاني: إن من شرائط قبول وصحة الإيمان (العقيدة) والعبادات مطلقاً التوسّل والتوجّه بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

المقام الثالث: إن أي توجّه إلى الحضرة الربوبية في صدد نيل مقام من المقامات الإلهية أو حظوة عند اللَّه تعالى لابدّ فيه من التوجّه بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام والتوسّل بهم.

فإن فقهاء الإمامية وغيرهم أيضاً ذكروا أن ولاية أهل البيت عليهم‌السلام شرط في تلك المقامات الثلاثة، بمعنى معرفتهم والإيمان بإمامتهم.

وليس هذا ما نريد إثباته هنا؛ إذ هو مع وضوحه خارج عن محلّ البحث.

إذن؛ ما نريد بيانه هنا هو شرطية التوسّل بالنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام في تلك المقامات الثلاثة.

١٤٩

ولأجل اشتراك ما ادّعيناه في المقامات الثلاثة في طبيعة الأدلّة، نستعرضها ببيان واحد؛ وذلك يكون صالحاً لإثبات المدّعيات الثلاثة في المقامات المذكورة.

وإليك فيما يلي استعراض الأدلّة:

الدليل الأول: معطيات الشهادة الثانية

إن المعرفة والعقيدة والإيمان - الذي هو من العبادات، بل أعظم الفرائض الإلهية؛ لأنه إذعان وإخبات وتسليم وخضوع وانقياد للَّه تعالى، وهذه المعرفة الإيمانية للعقل والقلب هي عبادتهما وطوعانيتهما للَّه - نوع توجّه ولقاء للَّه تعالى ووفود على الحضرة الربوبية وزلفى وقرب بتوسّط الإيمان القلبي، وهذه العبادة القلبية العظيمة ممتنعة بلا واسطة، وذلك لعظمة اللَّه عزّ وجل، فلا اكتناه ولا إحاطة ولا مماسّة ولا ملامسة ولا مواجهة جسمية أو عقلية أو نفسية؛ إذ لا يُجابه الجسم إلّا ما يماثله في الجسمية، ولا يُجابه النفس أو العقل إلّا ما يماثلهما، واللَّه تعالى منزّه عن كونه جسماً أو نفساً أو عقلاً؛ لكونها من الممكنات المحدودة بحدود الماهية والفقر والحاجة.

إذن لابدّ من الوسيلة والواسطة في الإيمان، الذي هو أعظم العبادات وأعظم أنواع التوجّه إلى اللَّه تعالى؛ والواسطة هي الإيمان بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإقرار بالشهادة الثانية في مقام الإدلاء بالشهادة التوحيدية المقبولة عند اللَّه تعالى، والموجبة للخروج من حظيرة الشرك إلى التوحيد الإسلامي الخالص؛ لأنه أعظم آية للحقّ سبحانه.

وإذا كان للوسيلة هذا الدور الخطير في المعرفة وأن التوجّه إليها في المعرفة

١٥٠

توجّهاً إلى اللَّه تعالى، والمعرفة أعظم شأناً من سائر العبادات، فكيف لا يكون التوجّه في عبادة البدن والنفس إلى اللَّه تعالى بالوسيلة؟! وكيف لا يسوغ التوجّه في الخطاب الكلامي بألفاظ الدعاء إلى الوسيلة، ويكون دعاؤها دعاء بها إلى اللَّه تعالى؟!

ففي حاقِّ وعمق عبادة الإيمان والتوجّه القلبي لابدّ من التوجّه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للوفود على اللَّه عزّ وجل، فلا يتحقّق التوحيد ولا يكون المرء مؤمناً، إلّا إذا توجّه بقلبه إلى اللَّه تعالى بالشهادة الأولى والشهادة الثانية، ومَن ينفي أي اسم أو واسطة مع اللَّه تعالى عند التوجّه إليه فهو واقع في مغبّة الشرك والوثنية من حيث يشعر أو لا يشعر، نظير وثنية قريش؛ حيث كانوا لا يدينون اللَّه تعالى بطاعة وولاية نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإذا كان الإيمان والمعرفة كذلك، فكيف بباقي العبادات التي هي أقلّ شأناً وخطورة؟!

والحاصل: أن المعرفة والإيمان والتوحيد الذي يتضمّن الدين بأجمعه لا يحصل إلّا بالتوسل بآيات اللَّه الكبرى، ومزاوجة الشهادة الثانية بالشهادة الأولى، وهذا يعني أن أي شأن من الشؤون الدينية كالتوبة أو العبادة أو نيل مقام من المقامات الإلهية لا يمكن أن يتحقّق إلّا بالمحافظة على الشهادة الثانية، والإقرار بها وبمعطياتها وتداعياتها ومقتضياتها في كافّة أصول وفروع المعارف التوحيدية، ولا شك أن الإيمان بالشهادة الثانية توجّه قلبي بالنبي الأكرم للَّه عزّ وجل؛ إذ الإيمان كما أسلفنا طلب للقرب والزلفى ولقاء اللَّه تعالى، وهذا القرب إنما يتحقّق بتوسيط الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمّداً رسول

١٥١

اللَّه ووليّه وخليفته في أرضه.

فالإسلام يدعو إلى التوجّه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الإيمان والاعتقاد، وهو أفضل عبادة، فضلاً عن بقيّة العبادات الأخرى، والإباء عن التوجّه في العبادة بخاتم الأنبياء إنكار للشهادة الثانية ودعوة إلى الشرك باسم التوحيد، وهذا ما أخفق فيه السلفيُّون؛ حين جحدوا التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تراهم يقرنون لون الشهادة الثانية ومؤداها ومعطياتها بلون الشهادة الأولى في رسم بناء التوحيد في أدبيات كتبهم، فيقتصرون على تفسير الشهادة الأولى في التوحيد، من دون أن يهتدوا إلى كيفية ركنية مؤدّى الشهادة الثانية في أركان التوحيد، وكيفية ضرورة الربط والارتباط بين مؤدّى كل من الشهادتين في رسم أصل التوحيد، ومنه يظهر أن التوسّل والتوجّه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرورة وليس مجرد خيار مشروعية.

الدليل الثاني: التوسّل ضرورة عقلية

على الرغم من أن هناك من أعلام السُّنَّة من أكّد على رجحان التوسّل ومشروعيّته، كالقاضي عياض في كتابه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى)، والسُبكي في: (شفاء السقام والسيف الصقيل)، والسمهودي في: (وفاء الوفا)، وتقي الدين الحصني الشافعي في كتابه: (دفع الشبه عن الرسول والرسالة) وغيرهم.

إلّا أن ما نرمي إليه في هذه الأبحاث أبعد من ذلك؛ إذ إن الرجحان والمشروعية لا يثبتان سوى التخيير وكون التوسّل أمراً مرغوباً فيه، يجوز للمكلف تعاطيه وله تركه أيضاً، وما نريد التأكيد عليه هنا هو أن مبدأ التوسّل أمر ضروري يحكم العقل بلا بُدِّيَّته وعدم إمكان المحيص عنه؛ وذلك لأن نفي

١٥٢

الواسطة والوسيلة بين العبد وبين ربّه في مقام التوجّه إليه تعالى لا يخرج عن أحد فروض ثلاثة كلّها باطلة:

الأول: فرض المجابهة والمواجهة المباشرة للَّه تعالى حين التوجّه إليه في الدعاء والعبادة، وبطلان هذا الفرض واضح؛ إذ يلزم منه التشبيه للذات الإلهية، وقد ثبت بطلانه في الأبحاث العقائدية؛ لتنافيه مع الصفات الكمالية اللّامتناهية لواجب الوجود.

بيان الملازمة:

إن مجابهة ومواجهة البشر العاديين المباشرة للذات الإلهية المقدّسة إمَّا أن تكون حسّية جسمانية أو نفسانية روحية أو عقلية، وهذه الأقسام الثلاثة من المجابهة المباشرة هي التشبيه الباطل بعينه؛ وذلك لأن ارتباط المواجهة الجسمية إنما يفرض مع ما هو جسم، لقانون التضايف بين المتجابهين، وهكذا توجّه المواجهة الروحية والقلبية لِمَا هو روح والمواجهة العقلية لِمَا هو عقل أيضاً. فكلّ هذه الأقسام المفروضة للمواجهة المباشرة للَّه تعالى لم تخرج عن دائرة التشبيه للذات المقدّسة بكونها جسماً أو روحاً أو عقلاً، وهو الشرك بعينه؛ لكونه موجباً لسلب واجب الوجود عن واجبيَّته وكماله المطلق اللّامتناهي، ووصفه بصفات المخلوق المحدود بحدود الإمكان والماهية والفقدان والاحتياج والافتقار.

وحاصل هذا الفرض هو: مواجهة البشر العاديين المباشرة للَّه تعالى، وهو فرض التشبيه الباطل بكلّ مراتبه.

١٥٣

الثاني: القول بالتعطيل وعدم السبيل إلى اللَّه تعالى ومعرفته والتوجّه إليه، وهو باطل؛ لأن معرفة اللَّه تعالى واجبة والتي هي نوع لقاء للَّه عزّ وجل وتوجّه إليه وزلفى.

الثالث: دعوى أن الناس بأجمعهم لهم ارتباط مباشر مع اللَّه تعالى فوق الجسم والروح والقلب والعقل بما لا يستلزم التشبيه، وهذا باطل بالوجدان، وقد رفض القرآن الكريم أيضاً الإيحاء والوحي إلى جميع البشر واستنكر ذلك على المشركين، كما في قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِيٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ) (1) . وقد ردّ اللَّه عزّ وجل في آيات أخرى على هذه المقالة الباطلة؛ حيث قال: ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) (2) .

ومع بطلان هذه الفروض الثلاثة تكون النتيجة ضرورة الإيمان بالوسائل والوسائط والآيات، والرجال المؤهّلين للارتباط باللَّه تعالى، وهم الأنبياء والأولياء والمصطفين، الذين اصطفاهم اللَّه عزّ وجل وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في كلّ ما يحتاج الخلق إليه وفي كلّ توجّه وطلب ودعاء وزلفى إلى اللَّه تعالى، سواء كان على مستوى التوبة أو سائر العبادات أو نيل مقام من المقامات الإلهية، وليس ضرورة التوسيط إلّا لعظمة اللَّه عزّ وجل وعلوه عن التجسيم

____________________

(1) المدّثر: 52.

(2) الأنعام: 124.

١٥٤

والتشبيه والتعطيل.

ثم إن آيات اللَّه الكبرى وأسمائه العظمى - التي جعلها واسطة في التوجّه إليه - هي أيضاً لا تتوجّه إلى اللَّه عزّ وجل بالمباشرة، ولا تجابهه إلّا بذواتها، فتوجّه الوسائط أيضاً إلى اللَّه تعالى إنما يكون بذواتها التي هي آية لمعرفة اللَّه عزّ وجل، ولا توجد أي مجابهة بالمباشرة لأيّ مخلوق من المخلوقات.

التوسّل في كل النشآت، ولأصناف المخلوقات:

والحاصل: أن اللَّه تعالى لعظمته وعظيم صفاته لا يجابه ولا يواجه إلّا بالوسائل والآيات، ولا يستثنى من ذلك القانون وتلك السنّة الإلهية التكوينية أي مخلوق من المخلوقات في كلّ شأن من شؤونه المعرفية والعبادية في هذه النشأة وفي جميع النشآت؛ ولذا قالت الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام في مستهل خطبتها المعروفة في هذا المجال: (فاحمدوا اللَّه الذي بعظمته ونوره ابتغى مَن في السماوات ومَن في الأرض إليه الوسيلة، فنحن وسيلته في خلقه، ونحن آل رسوله، ونحن حجّة غيبه وورثة أنبيائه) (1) .

وكذا قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (وبعظمته ونوره ابتغى مَن في السماوات والأرض مِن جميع خلائقه إليه الوسيلة) (2) .

إذن قانون ومبدأ التوسّل ضرورة يدركها العقل ويُقرّ بها - لعظمة اللَّه تعالى - وليس أمراً تخييرياً ولا مشروعاً فحسب.

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص211، وأبو بكر الجوهري البغدادي، السقيفة وفدك، ص101.

(2) الكافي، ج1، ص129.

١٥٥

الدليل الثالث: عموم طاعة اللَّه ورسوله وأولي الأمر

إن ضرورة المسلمين قائمة على أن جميع العبادات فيها ما هو فرائض قرآنية إلهية ومنها ما هو سنن نبويّة، كما في الصلاة والصيام والحجّ والزكاة والجهاد وغيرها؛ إذ هي فرائض إلهية في أصل وجوبها في الدين. وأمَّا تفاصيلها وأجزائها وشرائطها وأقسامها، فهي سنن نبويّة وصلتنا عن طريق أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكلّ المسلمين بتلك التفاصيل والتشريعات الخاصة. ومن أمثلة ذلك ما ورد في روايات الفريقين من أن الصلوات كان فرضها من اللَّه تعالى ركعتين لكلّ صلاة وما زاد عليها في كلّ صلاة كان من سنّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره وفرضه (1) ، وهكذا بقيّة التفصيلات والتشريعات القانونية النبويّة ضمن الفرائض الإلهية، وكتب الحديث مليئة بالأوامر النبويّة في مجمل الأبواب الفقهية وغيرها.

إذن، فيكون الإتيان بالصلاة والزكاة والحجّ وغيرها طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تُستعلم طاعة اللَّه عزّ وجل من دون طاعة الرسول الأكرم في أوامره ونواهيه، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله باب طاعته تعالى؛ لأنه هو الدالّ والمبيّن والناطق الرسمي عن أوامر اللَّه عزّ وجل ونواهيه.

وهذا ما كنّا نُعبّر عنه بتداعيات ومقتضيات الشهادة الثانية؛ إذ هي تستدعي الإتيان والالتزام بجملة الدين طاعة للَّه ورسوله.

وهذا ما تكاثرت ودلّت عليه جملة من الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى:

____________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب القراءة في الصلاة، ب1، ح4، ومسند أحمد، ج6، ص241، ومسند عائشة، والهيثمي، مجمع الزوائد، ج2، ص154.

١٥٦

( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) (1) .

وقوله تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (2) .

ثم إن اللَّه عزّ وجل حذّر المسلمين من المخالفة لأوامر الرسول الأكرم، وبيّن في آيات عديدة العواقب الوخيمة التي تترتب على مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أوامره، كما في قوله تعالى: ( لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (3) ، وكذا قوله تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ) (4) ، وقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (5) ، وقوله عزّ وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) (6) ، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي جاءت في ضمن السلك العام والسنّة الإلهية الشاملة لطاعة الرُّسُل كافّة، كما في قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (7) ، ومن الجدير بالالتفات أن تتمة هذه الآية المباركة هو قوله

____________________

(1) آل عمران: 32.

(2) آل عمران: 132.

(3) النور: 63.

(4) المائدة: 92.

(5) الأنفال: 20.

(6) محمد: 33.

(7) النساء: 64.

١٥٧

عزّ وجل: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (1) والتي سيأتي الاستدلال بها على شرطية التوسّل في المقامات الثلاثة المتقدّمة.

والحاصل: أن أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اقترنت بأوامر اللَّه وفرائضه في مجمل أحكام الدين الإسلامي، وقد أكّدت الآيات القرآنية على وجوب اقتران طاعة اللَّه تعالى بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه طاعة عامّة كطاعة اللَّه عزّ وجل في كلّ أبواب الدين برمّته، بلا استثناء لأي جانب من جوانب الشريعة الإسلامية والدين الإسلامي؛ ومعنى ذلك أن نيّة القربة إلى اللَّه تعالى وطاعته في جميع العبادات إنما تتحقّق بتوجّه العبد إلى ربّه بطاعة نبيّه، ففي كلّ عبادة إنما يتوجّه العبد إلى اللَّه تعالى للتقرّب إليه بطاعته وطاعة رسوله.

فذلكة صناعية لأخذ التوسّل في نية القربة:

ولا شك أن حقيقة العبادات بالنيّة القربيّة، والنيّة القربيّة إنما تحصل بالسبب المؤدّي إلى القربة، والقربى غاية مسبّبة سببها الطاعة لأوامر للَّه تعالى، وطاعة اللَّه عزّ وجل لا تتحقّق إلّا إذا كانت مقترنة بطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ إنَّ النيّة التي هي روح العبادة إنما تحصل بوسيلة وواسطة طاعة النبي، ومَن لم ينوِ القربة بهذا النحو في العبادة تكون عبادته شركاً باللَّه تعالى؛ لعدم التوجّه إلى اللَّه عزّ وجل بأبوابه التي أمر بتوسيطها وطاعتها وامتثال العبادات انقياداً لأوامرها.

ومَن يريد أن يفصل في صلاته وحجّه وصومه طاعة اللَّه عن طاعة الرسول

____________________

(1) النساء: 64.

١٥٨

يكون على الوثنية الجاهلية التي يشنؤها اللَّه عزّ وجل وعبّر عنها في قرآنه الكريم بالشرك والنجس، وطاعة كلّ مَن لم يأمر اللَّه بطاعته وثن من الأوثان، بل حتى صلاته تصبح وثناً إذا كانت صادرة عن طاعة غير مَن أمر اللَّه بطاعته، وإن كان ذلك المطاع هو الهوى وتحكيم سلطان الذات على سلطان اللَّه عزّ وجل، كما في الوثنية القرشية التي ذمّها القرآن الكريم.

ومن ذلك يتّضح أن أي عبادة من العبادات أو قربة من القربات أو نيل مقام من المقامات القُربية أو الفوز بحظوة عند اللَّه تعالى لا يمكن أن تتحقّق من دون توسيط طاعة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك العبادة أو ذلك المقام.

ففي مقام التقرّب والنيّة والقصد جُعلت القبلة المعنوية طاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتدين بولايته والخضوع له، الذي هو خضوع للَّه عزّ وجل، كخضوع الملائكة لآدم؛ لأنه باب اللَّه تعالى.

هذا كلّه في مقتضيات الشهادة الثانية وضرورة اقترانها بالشهادة الأولى.

كذلك أكّدت الآيات القرآنية على ضرورة الشهادة الثالثة واقترانها بالشهادة الثانية تبعاً للشهادة الأولى.

والشهادة الثالثة عبارة عن طاعة أولي الأمر، الذين أمر اللَّه بطاعتهم في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً ) (1) ؛ حيث قرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد بيّن اللَّه تبارك وتعالى في قرآنه الكريم المراد من أولي الأمر الذين تجب

____________________

(1) النساء: 59.

١٥٩

طاعتهم، بعد أن بيّن تعالى المقصود من الأمر الذي هم أولياؤه، وأنه أمر ملكوتي من عالم كن فيكون، كما في قوله تعالى: ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) ، وقوله تعالى: ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) (2) ، وكذا قوله عزّ وجل: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) (3) ، وقوله تعالى: ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (4) ، ثم أفصحت الآيات القرآنية عن كون الأمر عبارة عن تدبير السماوات والأرض، قال تعالى: ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) (5) .

إذن؛ أولو الأمر هم الذين يتنزّل عليهم الأمر في ليلة القدر وفيها يفرق كلّ أمر حكيم، قال تعالى: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) (6) ، وقال عزّ وجلّ في وصف ليلة القدر: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (7) ، ثم بيّن اللَّه عزّ وجلَّ أن شريعة النبي الأكرم من ذلك الأمر الحكيم الذي يفرق في ليلة القدر؛ حيث قال عزّ وجلَّ مخاطباً نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ

____________________

(1) يس: 82.

(2) القمر: 50.

(3) الشورى: 52.

(4) الأعراف: 54.

(5) السجدة: 5.

(6) القدر: 3 - 5.

(7) الدخان: 3 - 6.

١٦٠