الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية12%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99374 / تحميل: 7784
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

وقد صرّحت آيات أخرى بأن الأمر الملكوتي يتنزّل على عباد اللَّه من دون أن تخصّص من لهم الأمر بالأنبياء والرسل، قال عزّ وجل: ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) (٢) .

وحاصل ما ذكرناه من الآيات: أن الأمر من عالم الملكوت والغيب، وأنه مرتبط بتدبير السماوات والأرض وغير مختصّ بالشؤون الدنيوية المادّية، وأن الشرائع وهداية الناس وإنذارهم مرتبطة به، وأنه شامل لأولياء اللَّه الأصفياء المجتبين وليس خاصّاً بمقام النبوّة والرسالة، وذلك لارتباطه المباشر بمقام الهداية والإيصال إلى المطلوب، وهو مقام الخلافة والإمامة كما تقدم؛ ولذا قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٣) ، والصبر واليقين للأئمة من أولي الأمر في هذه الآية المباركة إشارة إلى العصمة في مقام العلم والعمل.

ولا يوجد أولو أمر في هذه الأمة بعد رسول اللَّه تجب طاعتهم غير أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. ولا يمكن اقتصار الأمر الإلهي على السياسة والأمور الاجتماعية، بل هو أمر ملكوتي من عالم الغيب لهداية الأمة وتدبير السماوات والأرض يتنزّل في ليلة القدر على أولياء اللَّه وأصفيائه، وهؤلاء هم أوصياء رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من بعده الدالّون على أوامره والذين أوكل لهم البيان الشرعي والقانوني للأوامر

____________________

(١) الجاثية: ١٨.

(٢) النحل: ٢.

(٣) السجدة: ٢٤.

١٦١

الإلهية والنبويّة، فكما أن الدالّ على أوامر اللَّه ونواهيه هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمره ونهيه، كذلك الدالّ على أوامر الرسول الأكرم ونواهيه أولو الأمر من بعده بأمرهم ونهيهم، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر ونهى في ضمن إطار الفرائض الإلهية، وأولو الأمر أيضاً يأمرون وينهون في ضمن دائرة السنن النبويّة المباركة، بما يشبه الحالة التراتبية في التنزّل القانوني الوضعي في الأدوار والصلاحيات، فهم الدالّون على طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان هو دالّا على طاعة ربّه.

وبعبارة أخرى: إن أصول تشريع اللَّه تعالى وفرائضه يتبعها تشريعات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفصيلاً وبياناً، ويتبعها تشريع أولي الأمر على نحو التنزّل القانوني، الذي هو الفتق بعد الرتق، والتفصيل بعد الإجمال، والبسط بعد القبض للتشريعات، وهذه لغة قانونية جعلها اللَّه تعالى جسراً لإيصال أحكامه على ما جرى عليه البشر، كالتشريع للفقه الدستوري ثم النيابي ثم الوزاري، على نحو التبعية بلا منافاة، وهذا برهان قانوني على التشريعات التي لابدّ من طاعتها، فالرتق يُفسَّر ويفتق فتقاً قانونياً تابعاً له.

ويتجلى ذلك المعنى أكثر إذا علمنا أن معظم بيان تشريع الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء هي من تشريعات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فلا تستعلم تلك الأمور مع تركهم والإعراض عنهم وعدم الطاعة لأوامرهم.

إذن؛ الطاعة في الدين بطاعة اللَّه، وطاعة اللَّه بطاعة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر، فالوليّ بعد اللَّه تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الرسول أولي الأمر، الذين لهم حقّ استنباط الدين وبيانه وتفصيله، قال تعالى: ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ

١٦٢

أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (١) .

والذي يتّضح ممَّا ذكرناه أن طاعة أولي الأمر على حدّ طاعة رسول اللَّه مقترنة بها وشاملة للدين كلّه، كما أن ولاية اللَّه تعالى وطاعته كذلك غير مختصّة ببعض الشؤون السياسية أو الاجتماعية.

فالإتيان بجميع العبادات والطقوس الدينية طاعة لأمر اللَّه وأمر رسوله وأولي الأمر من بعده وهم أهل بيته عليهم‌السلام ، فالعبد ينقاد ويفد على اللَّه تعالى ويتقرّب ويتوجّه إليه بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن الشهادة الثانية والثالثة مأخوذتان واسطتين في حاقّ عبادة اللَّه تعالى بما فيها عبادة المعرفة، التي هي أعظم العبادات.

ومن ثمّ كان الدين عبارة عن ولاية اللَّه وولاية الرسول وولاية أولي الأمر والطاعة لهم، قال اللَّه تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٢) .

والولاية والطاعة أصالة للَّه وبالتبع للنبيّ وأولي الأمر بإذن وأمر من اللَّه تعالى، كما أخضع اللَّه عزَّ وجلَّ ملائكته ومن خلق من الجنّ وغيرهم لوليّ اللَّه وخليفته آدم بما هو النموذج والمصداق لخليفة اللَّه في الأرض، فكلّ مَن يتسنَّم مقام الخلافة الإلهية لابدّ من الانقياد والخضوع والطاعة له.

____________________

(١) النساء: ٨٣.

(٢) المائدة: ٥٥ - ٥٦.

١٦٣

وحيث إن التوجّه والقربة والزلفى لا تحصل إلّا بالطاعة للَّه وللرسول، كذلك لا تحصل إلّا بطاعة أولي الأمر مقترنة مع طاعة اللَّه ورسوله، فلا يمكن قصد القربة في العبادة ولا يحصل القرب إلى اللَّه تعالى في العبادات إلّا بالخضوع والطاعة لوليّ الأمر والإتيان بالعبادة امتثالاً لأمره، تبعاً لأمر اللَّه والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث يستعلم أمرهما بأمره.

واتّضح من ذلك البيان أيضاً أن جميع العبادات فرائض من اللَّه تعالى وسنّة من نبيّه ومنهاج وهدي من أهل بيته عليهم‌السلام وعلى جميع المستويات الاعتقادية والعبادية.

كذلك تبيّن أن مَن يعبد اللَّه من دون التوجّه بحجّة اللَّه ووليّه بطاعته وامتثال أمره، عمله هباء؛ إذ لا تتحقّق منه القربة لعدم الطاعة في مقاماتها الثلاثة وعدم ضمّ الشهادات الثلاث إلى بعضها البعض، فلا يُصار إلى التوجّه إلى اللَّه تعالى إلّا عن طريق آياته وبيّناته، وهم الوسيلة إليه في المقامات الثلاثة التي ذكرناها في صدر البحث، بل في الدين كلّه.

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه وإلى أولي الأمر موجباً للشرك، لَمَا قرن اللَّه تعالى طاعته بطاعتهم، فليس إنكار التوسّل والواسطة إلّا دعوة إلى التفريق بين اللَّه ورسوله وأولي الأمر، وفصل الشهادات الثلاث وبتر بعضها عن البعض الآخر، وهذه هي عبادة الشرك التي آمن بها إبليس؛ الذي أراد أن يفرّق بين طاعة اللَّه وطاعة خليفته، بخلاف الملائكة أهل عبادة التوحيد الذين خضعوا للَّه ولوليّه آدم عليه‌السلام .

ثم إن مورد هذه الآية وهي آية ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

١٦٤

مِنْكُمْ ) (١) التي حكمت بوجوب الطاعة، هو الدين كلّه، فكما أن طاعة اللَّه عزّ وجل في الدين كلّه، كذلك ما اقترن بها من طاعة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولي الأمر من أهل بيته عليهم‌السلام .

وما ورد من قوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) لبيان أن محلّ بدن الخليفة هو الأرض، ولكن خلافته ليست خاصّة بالأرض، ومن ثمّ أُطوع له جميع الملائكة في جميع النشآت؛ والشاهد على ذلك أيضاً تقديم الجار والمجرور (في الأرض) على الخليفة، فالدين الذي هو معرفة اللَّه تعالى عامّ لا يستثنى منه أحد في جميع النشآت، ومن ثمّ تكون جميع المخلوفات مكلّفة بالطاعة لأولي الأمر؛ ولذا أمر اللَّه تعالى الملائكة بالسجود بما فيهم إبليس، وهو من الجنّ، فخلافة وطاعة أولي الأمر وولايتهم لا تحدّ بالجنّ والإنس ولا بأمر سياسي أو اجتماعي، والكلّ يبتغي إلى اللَّه الوسيلة ويخضع لولي اللَّه في توجّهه إلى خالقه، والتوجّه إلى اللَّه من دون التوجّه إليه بطاعة نبيّه ووليّه نجس وشرك ووثنيّة قرشية.

ونيّة القربة إذا لم تكن على هذا المنوال في العبادة لا تقبل؛ لعدم تفتّح الأبواب بالآيات.

وبذلك كلّه يتمّ ما ذكرناه من شرطية التوسّل والتوجّه في المقامات الثلاثة المتقدّمة، استناداً إلى وجوب الطاعة في مراتبها الثلاث.

____________________

(١) النساء: ٥٩.

١٦٥

الدليل الرابع: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته بأعظم العبادات

لقد رفع اللَّه عزّ وجل ذكر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرنه باسمه في مجمل العبادات التي تقع في مصافّ أسس الدين وأركان الإيمان؛ من حيث محوريَّتها في المنظومة الدينية، ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الشواهد في هذا المجال:

الشاهد الأول: الإتيان باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تشهّد الصلاة، حيث إن الصلاة على النبي وأهل بيته راجحة بإجماع المسلمين (١) ، وهي شرط واجب في الصلاة عند بعض المذاهب الإسلامية، كمذهب أهل البيت عليهم‌السلام (٢) وبعض فقهاء المذاهب الأخرى (٣) ؛ تمسّكاً بما روته عائشة من الوجوب، حيث روت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: (لا يقبل اللَّه صلاة إلّا بطهور والصلاة عليّ) (٤) . وقد بيّن النبي الأكرم الصلاة عليه عندما سُئل عن كيفيّتها، فقال: (قولوا: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد) (٥) ، كذلك يستحبّ الصلاة على النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله بعد القنوت في الصلاة، جزم بذلك النووي تبعاً للغزالي في المُهذّب ونسبه إلى الجمهور (٦) . ولا شك أن ذكر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام نوع دعاء لهم وتحيّة وسلام، ونوع توجّه لهم بالمحيى والدعاء.

____________________

(١) لاحظ: النووي، المجموع، ج٣، ص٤٦٠ وما بعد.

(٢) الشيخ الطوسي، النهاية، ص٨٩.

(٣) الرافعي، فتح العزيز، ج٣، ص٥٠٤، والنووي، المجموع، ج٣، ص٤٦٧ وغيرهم.

(٤) سنن الدارقطني، ج١، ص٣٤٨.

(٥) صحيح البخاري، ج٤، ص١١٨، والوسائل، أبواب الدعاء، ب ٣٦.

(٦) المجموع، ج٣، ص٤٩٩.

١٦٦

وهذا يعني أن المصلّي في صلاته - التي هي الركن الركين في العبادات، والموجبة للعروج والقربان من اللَّه تعالى، إن قبلت قبل ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها - على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام يتوجّه بالدعاء وإلقاء التحيّة والسلام لكي تقبل صلاته وتوجب مزيداً من القرب إلى اللَّه تعالى، فالصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بالوسائط والأبواب الإلهية، لكي تكون صحيحة مقبولة عند اللَّه تعالى، أو موجبة لمزيد القرب منه، وإذا كانت الصلاة كذلك، فكيف بباقي العبادات الأخرى؟!

ولو كان إقحام اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام في الصلاة والتوجّه إليهم بالقلب موجباً للشرك، لَمَا كان الأمر فيها على هذه الحال، فالفرق بين صلاة المشركين وصلاة الموحّدين في أن صلاة المشركين تفتقد لذكر النبيِّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، بخلاف صلاة المسلمين؛ حيث يقرن فيها اسم النبيِّ الأكرم إلى جانب ذكر اللَّه تعالى.

وقد قُرن وجوب أو استحباب بعض العبادات الأخرى، غير الصلاة، باستحباب الصلاة على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كاستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فرغ الحاج من التلبية في الحجّ (١) ، واستحباب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذبح الهدي أو الأضحية (٢) ، وقد جعلت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد أركان الخطبة في صلاة الجمعة (٣) .

____________________

(١) الأم، الشافعي، ج٢، ص١٧١.

(٢) المجموع، النووي، ج٨، ص٤١٢.

(٣) روضة الطالبين، النووي، ج١، ص٥٣٠.

١٦٧

كذلك من أركان صلاة الميّت الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله عليهم‌السلام (١) ، ويستحبّ أيضاً الصلاة على النبي وآله قبل الأذان والإقامة وبعدهما، كما نصّ على ذلك عبد العزيز الهندي - نقلاً عن النووي في شرح الوسيط - في كتابه الفقهي فتح المعين (٢) ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا تحصى في الفقه، والتي قرنت فيها جملة وافرة من العبادات باسم النبي المبارك صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين، وليس ذلك إلّا توجّه وتوسّل بهم عليهم‌السلام لقبول العبادة وحصول القرب من اللَّه تعالى، ولفتح أبواب السماء لصعود العمل. وهذا ما ورد النصّ عليه في روايات عديدة ومتضافرة من طرقنا وطرق السُّنَّة، حيث نصّت على أن الدعاء محجوب عن السماء ما لم يصلَّ على النبي وآله:

منها: ما ورد عن الإمام علي عليه‌السلام قال: (الدعاء محجوب عن السماء حتى يُتبع بالصلاة على محمّد وآله) (٣) .

ومنها: ما ورد عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (لا يزال الدعاء محجوباً حتَّى يصلَّى عليَّ وعلى أهل بيتي) (٤) .

ومنها: ما جاء عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال: (قال رسول

____________________

(١) نفس المصدر، ص٦٤٠.

(٢) فتح المعين، ج١، ص٢٨٠.

(٣) لسان‏ الميزان، ابن حجر، ج٤، ص٥٣، وابن ‏إسحاق الحاكم، شعار أصحاب ‏الحديث، ص٦٤.

(٤) الخزاز القمي، كفاية الأثر، ص٣٨.

١٦٨

اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم وزكاة لأعمالكم) (١) .

ومنها: ما ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، حيث قال: (إن رجلاً أتى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يارسول اللَّه، إني جعلت ثلث صلاتي لك، فقال له خيراً. فقال له: يارسول اللَّه، إني جعلت نصف صلاتي لك، فقال له: ذاك أفضل. فقال: إني جعلت كلّ صلاتي لك، فقال: إذن يكفيك اللَّه عزَّ وجل ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك، فقال له رجل: أصلحك اللَّه، كيف يجعل صلاته له؟ فقال أبو عبداللَّه عليه‌السلام : لا يسأل اللَّه عزّ وجل إلّا بدأ بالصلاة على محمّد وآله) (٢) .

ومنها: ما رواه فضالة بن عبيد، حيث قال: (سمع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً يدعو في صلاته لم يمجّد اللَّه تعالى ولم يصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (عجّل هذا)، ثم دعاه فقال له أو لغيره: (إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتحميد ربّه عزّ وجل والثناء عليه، ثم يصلّي على النبي، ثم يدعو بعد بما شاء) (٣) .

وعن ابن مسعود قال: (إذا أراد أحدكم أن يسأل فليبدأ بالمدحة والثناء على اللَّه بما هو أهله، ثم ليصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم ليسأل؛ فإنه أجدر أن ينجح) (٤) . قال الهيثمي في زوائده: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (٥) .

ومنها: ما عن جابر بن عبداللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا تجعلوني كقدح الراكب، فإن الراكب إذا أراد أن ينطلق، علّق معالقه، وملأ قدح ماء. فإن كانت له

____________________

(١) الأمالي، الطوسي، ص٢١٥.

(٢) الكافي، ج٢، ص٤٩٣.

(٣) سنن أبي داود، ج١، ص٣٣٣، ح١٤٨١.

(٤) الطبراني، المعجم الكبير، ج٩، ص١٥٦.

(٥) مجمع الزوائد، ج١٠، ص١٥٥.

١٦٩

حاجة في أن يتوضّأ توضّأ، وأن يشرب شرب، وإلاّ أهراق، فاجعلوني في وسط الدعاء وفي أوّله وفي آخره) (١) .

ومنها: ما أخرجه القاضي عياض عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (كلّ دعاء محجوب دون السماء، فإذا جاءت الصلاة عليّ صعد الدعاء) (٢) .

ومن الروايات التي من طرقنا أيضاً ما في موثقة السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام قال: (مَن دعا ولم يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفع الدعاء) (٣) .

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (إذا كانت لك إلى اللَّه حاجة، فابدأ بمسألة الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سل حاجتك، فإن اللَّه أكرم من أن يُسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى) (٤) .

كذلك عن أبي عبداللَّه عليه‌السلام قال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بالصلاة على النبي، فإن الصلاة على النبي مقبولة، ولم يكن اللَّه ليقبل بعض الدعاء ويردّ بعض) (٥) .

وعن الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (إن اللَّه سبحانه يقول: عبادي، مَن كانت له إليكم حاجة، فسألكم بمَن تحبّون أجبتم

____________________

(١) الصنعاني، المصنف، ج٢، ص٢١٦.

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج٢، ص٦٦.

وقال ابن عطاء: للدعاء أركان وأجنحة وأسباب... وأسبابه الصلاة على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٣) وسائل الشيعة، ج٧، ص٩٤ - ٩٣، ح٨٨٢٩.

(٤) المصدر، ص٩٧، ح٨٨٤٠.

(٥) المصدر، ص٩٦، ح٨٨٣٦.

١٧٠

دعاءه، ألا فاعلموا أن أحبّ عبادي إليّ وأكرمهم لديّ محمّد وعليّ حبيبيَّ وولييَّ، فمَن كانت له حاجة إليّ فليتوسل إليّ بهما، فإني لا أردّ سؤال سائل يسألني بهما وبالطيبين من عترتهما، فمَن سألني بهم فإني لا أردّ دعاءه؛ وكيف أردّ دعاء مَن سألني بحبيبي وصفوتي وولييّ وحجّتي وروحي ونوري وآيتي وبابي ورحمتي ووجهي ونعمتي؟ ألا وإني خلقتهم من نور عظَمتي، وجعلتهم أهل كرامتي وولايتي، فمَن سألني بهم عارفاً بحقّهم ومقامهم أوجبت له منّي الإجابة، وكان ذلك حقّاً عليّ) (١) .

وهذه الروايات بمجموعها والأحكام التي سبقت للصلاة على النبي وآله في الصلاة وغيرها من العبادة كاشفة عن اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين بأعظم العبادات، بل معظمها، وهذا يعني أن اللَّه عزَّ وجل جعل تلك الأسماء المباركة واسطة لفيضه وشرطاً حقيقياً للتوسل إليه في التوبة وسائر العبادات القربية والمقامات الإلهية، وأن أبواب السماء مغلقة إلّا عن سبيلهم عليهم‌السلام وطريقهم، الذي نصبه اللَّه تعالى مناراً لعباده ومحجّة واضحة لخلقه.

هذا كلّه في الشاهد الأوّل؛ وهو اقتران الصلاة على النبي وأهل بيته بالصلاة وغيرها من العبادات.

الشاهد الثاني ، وهو كذلك اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المبارك بالصلاة، وذلك بالإتيان به في جزء التسليم من الصلاة، وهو قول المصلّي: السلام عليك أيها النبيُّ ورحمة اللَّه وبركاته. فإن التسليم الذي هو جزء من أجزاء الصلاة ولا تتمّ الصلاة إلّا بإتمامه والفراغ منه، جُعل شطر منه التسليم على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) وسائل الشيعة، ص١٠٢، ح٨٨٥٠.

١٧١

فقبل إتمام الصلاة وفي حاقّها يستحبّ للمصلّي أن يسلّم على نبيّ الإسلام باتفاق فرق المسلمين.

ولا شك أن هذا التسليم بالكيفية المذكورة نوع زيارة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطاب ونداء عن قرب بـ (أيُّها) وتوسّل واستغاثة وتوجّه إليه وبه إلى اللَّه عزّ وجل؛ وذلك لأن اللَّه تعالى عندما شرّع التسليم والتحيّة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الصلاة، التي شُرّعت لذكره عزّ وجل والتقرّب منه والعروج إليه، فإن ذلك يعني أن ذكر النبي ذكر للَّه تعالى، ونداءه نداء للباري عزّ وجل؛ وليس ذلك إلّا لكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الآية العظمى والوسيلة المحمودة بين اللَّه وبين خلقه في الصلاة، التي هي من عظيم العبادات والقربات عند اللَّه تعالى.

إذن؛ طبيعة الزيارة والنداء والندبة والاستغاثة والتوجّه بالنبي لنيل مقامات القرب في الصلاة، التي هي قربان كلّ تقي، موجودة في نفس الصلاة التي هي أكبر العبادات التوحيدية ويمارسها الفرد المسلم في يومه عدّة مرّات.

والحاصل: إذا كانت الصلاة التي هي من دعائم الدين مقرونة بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنيل مقامات القرب عند اللَّه تعالى، فكيف هو الحال بباقي العبادات والقربات الأخرى في الدين؟!

وعلى هذا كيف يقال: إن ذكر غير اللَّه تعالى في التوجّه إليه عزّ وجل شرك؟!

وهل هذا إلّا طمس لمعالم الشهادة الثانية؟

الشاهد الثالث: اقتران اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باسم اللَّه عزّ وجل في الأذان، الذي هو عبادة من العبادات، ويُعدّ بوابة للصلاة التي إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها، كذلك في الإقامة؛ حيث إن الفرد المسلم كما يشهد أن لا إله إلّا اللَّه

١٧٢

كذلك يشهد أن محمّداً رسول اللَّه، وليس ذلك إلّا لكون اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باب اللَّه الأعظم، وأن الصلاة التي هي الركن الركين في العبادات ومعراج المؤمن إلى ربّه مفتاحُها وباب الولوج إليها اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مقروناً باسم اللَّه تعالى.

ولو كان اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره والتوجّه القلبي إليه أثناء العبادة موجباً للشرك، لََمَا أمكن تشريع الأمر على هذا الحال، ولَمَا أمر اللَّه عزّ وجل بالتوجّه إليه بنبيّه.

الشاهد الرابع: الهجرة التي هي من العبادات العظيمة عند اللَّه تعالى، وأكّدت عليها الآيات القرآنية في مواطن عديدة، لا يمكن أن تحصل إلّا بالهجرة إلى اللَّه ورسوله، فلكي تصحَّ عبادة الهجرة لابدّ أن يتوجّه فيها إلى اللَّه وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال اللَّه عزّ وجل: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) (١) .

والذي يتحصَّل من هذه الشواهد وغيرها أن اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا أهل بيته عليهم‌السلام اقترن باسم اللَّه تعالى في أعظم العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، هذا فضلاً عمّا دونها من العبادات، وهو اقتران واجب في بعض موارده كما تقدّم في الصلاة، ومعنى ذلك شرطية التوسّل والواسطة في العبادات كما ادّعيناه في بداية البحث.

وقد أحصى بعضهم في هذا المجال جملة من المواطن العبادية التي تقرن باسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلاة عليه وعلى آله.

منها: في التشهّد الأول والثاني في الصلاة، وآخر قنوت الصلاة، وفي صلاة

____________________

(١) النساء: ١٠٠.

١٧٣

الجنائز، وخطبة العيدين والجمعة والاستسقاء، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وعند دخول المسجد وعند الخروج منه، وعلى الصفا والمروة، وعند الفراغ من التلبية، وعند استلام الحجر، وعند الوقوف على قبره الشريف، وعقيب ختم القرآن الكريم، وعند الهمّ والشدائد وطلب المغفرة، وعند تبليغ العلم، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفّر عنه، وبعد الفراغ من الوضوء، وفي كلّ موطن يُجتمع فيه لذكر اللَّه، وعند طلب قضاء الحاجة، وعقيب الصلوات في سائر أجزاء الصلاة غير التشهّد، إلى غير ذلك من المواطن.

وقد ذُكر أيضاً للصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوائد كثيرة جدّاً، منها:

١ - أنها سبب لغفران الذنوب.

٢ - أنها تُصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.

٣ - أنها سبب لشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٤ - أنها سبب كفاية العبد ما أهمّه.

٥ - أنها سبب لقرب العبد منه يوم القيامة.

٦ - أنها سبب لقضاء الحوائج.

٧ - أنها سبب لتبشير العبد قبل موته بالجنّة.

٨ - أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة.

٩ - أنها سبب لتذكّر العبد ما نسيه.

١٠ - أنها سبب لطيب المجلس.

١١ - أنها سبب لنفي الفقر.

١٢ - أنها سبب لنفي البخل.

١٧٤

١٣ - أنها ترمي صاحبها على طريق الجنّة وتخطي بتاركها عن طريقها.

١٤ - أنها تُنجي من نتن المجلس.

١٥ - أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط.

١٦ - أنه يخرج بها العبد من الجفاء.

١٧ - أنها سبب لإبقاء اللَّه سبحانه الثناء الحسن للمصلّي عليه بين أهل السماء والأرض.

١٨ - أنها سبب للبركة في ذات المصلّي وعمله وعمره وأسباب مصالحه.

١٩ - أنها سبب لنيل رحمة اللَّه له.

٢٠ - أنها سبب لدوام محبته للرسول وزيادتها وتضاعفها.

٢١ - أنها سبب لمحبّته صلى‌الله‌عليه‌وآله للعبد.

٢٢ - أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه.

٢٣ - أنها سبب لعرض اسم المصلّي وذكره عنده.

إلى غير ذلك من الفوائد والثمرات.

الدليل الخامس: ابتغاء الوسيلة ضرورة قرآنية

إن حقيقة هذا الدليل الخامس عبارة عن مزيد إيضاح وتعميق ونظرة أدقّ لِمَا تقدَّم من قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١) .

وفي المقدّمة لابدّ من التنبيه على أن التدبر في الآية الكريمة يفيد أن الابتغاء

____________________

(١) المائدة: ٣٥.

١٧٥

المأمور به جعل متعلّقاً لكلّ من الوسيلة وذي الوسيلة وهو اللَّه عزّ وجل.

فجعل الابتغاء والقصد والتوجّه إلى كلّ من الوسيلة والذات الإلهية المقدّسة، فكلّ منهما أُمرنا بقصده والتوجّه إليه، إلّا أن القصد والتوجّه إلى الوسيلة ابتداءً هو الذي يؤدّي وينتهي بنا إلى قصد اللَّه تعالى، فالغاية القصوى هو اللَّه عزّ وجل، إلّا أن الذي يُقصد ابتداءً هو الوسيلة بداعي القصد إلى منتهى الغاية والأمل، وهو اللَّه تبارك وتعالى.

بل لعلّ التدبّر الأعمق والنظر الأدقّ في الآية المباركة يكشف عن أن لفظ (وابتغو) أُسند إلى الوسيلة فقط، وأن لفظ (إليه) مرتبط بالوسيلة، لا بـ (ابتغو)، أي أن الوسيلة هي إليه، فالابتغاء متوجّه إلى الوسيلة فقط، وصفة الوسيلة أنها إليه.

وبعبارة أخرى:

إن فعل (وابتغو) عمل في لفظ (الوسيلة) كمفعول به، وأمَّا لفظ (إليه)، فليس متعلّقاً بـ (ابتغو)، وإنما الذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة)؛ إذ فيها معنى المصدر والحدث، وأنَّ التوسّل والوسيلة هو إلى اللَّه تعالى، فالابتغاء من جهة التركيب الإعرابي يعمل في الوسيلة فقط ويتعلّق بها، والوسيلة تتعلّق بلفظ إليه وتعمل فيه؛ وعليه فيكون الابتغاء والتوجّه والقصد بحسب ظاهر الدلالة متعلّقاً بالوسيلة، فهي التي يتوجّه إليها النداء والرجاء والخطاب، وحيث إن صفتها الذاتية أنها تؤدّي إلى اللَّه تعالى فيكون التوجّه إليها توجّهاً إلى اللَّه عزّ وجل ونداؤها نداءً بها إليه تعالى، وقصدها قصد بها إليه جل ثناؤه، كما في التوجّه إلى الكعبة واستقبالها، فإنه توجّه بها إلى اللَّه تعالى.

١٧٦

ومن ذلك يظهر أن مقتضى مفاد الآية هو أن الإلتجاء وتوجيه الخطاب إنما يكون إلى الوسيلة، كقول الداعي والمتوسل: يامحمّد يانبيّ الرحمة، إني أتوجّه بك إلى اللَّه ربي وربك لقضاء حاجتي. فيوجّه الخطاب والنداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكون ذلك منه ابتغاءً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كوسيلة إلى اللَّه عزّ وجل، وإلّا فإن جعل الخطاب للَّه تعالى فقط من دون التوجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخطاب كوسيلة، لا يكون ابتغاءً وطلباً وتوجهاً إلى الوسيلة، بل ابتغاء مباشري للَّه تعالى من دون ابتغاء الوسيلة.

وعلى كلا البيانين لدلالة الآية الشريفة تكون الآية نصّ في الدلالة على الأمر بالتوجّه والنداء ودعاء الوسيلة وأنه دعاء للَّه تعالى.

ثم إن صيغة الأمر في الآية الكريمة يفيد ضرورة التوسّل بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث إن هذه الآية المباركة ليست في مقام بيان مشروعية التوسّل فحسب، بل الآية المباركة ترمي إلى بيان حتمية ولا بدِّية التوسّل، وأنه أمر تعيينيّ عينيّ، وذلك لأن المقصود من ابتغوا الوسيلة أي اقصدوها وتوجّهوا إليها في مقام توجّهكم إلى اللَّه عزّ وجل، ومعنى (ابتغوا) أيضاً في الآية المباركة أن هناك بُعداً بين العبد والباري تعالى وأن هناك مسافة لابدّ أن تطوى بابتغاء الوسيلة والحضور عندها، ولو كان هناك قُرباً تلقائياً من طرف العبد إلى ربّه فلا حاجة إلى الوسيلة حينئذٍ للاقتراب من اللَّه تعالى؛ لكونه تحصيلاً للحاصل ولا يكون معنى للوسيلة وابتغائها ولو بنحو التخيير أيضاً.

١٧٧

قرب اللَّه وقرب العبد:

فالأمر بابتغاء الوسيلة وقصدها معناه أن هناك بُعداً بين العبد وبين اللَّه تعالى، وهو بُعد من جهة العبد فقط لا من طرف الباري عزّ وجل؛ لأن اللَّه تعالى قريب أقرب إلى العباد من حبل الوريد، كما قال تعالى ذكره: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (١) ، لكن العبد من طرفه يحتاج إلى الوسيلة لبُعده؛ لأن قرب اللَّه تعالى إلى العبد ليس قرباً جسمانياً جغرافياً، لكي يكون هناك تلازم تضايفي بين العبد وربه في القرب والبُعد، وكذا ليس من نوع القرب العقلي أو الروحيّ ليحصل التجانس أو التماثل في القرب؛ وذلك لِمَا تقدّم من كون اللَّه تعالى منزّه عن التضايف والتقابل الجسماني أو العقلي أو الروحي، لأنه تشبيه باطل مناف لعظمة ذات الباري تعالى.

إذن؛ القرب الإلهي تجاه العبد قرب القدرة والسلطنة والهيمنة والإحاطة، فالمقتدر والمهيمن والمحيط كلّما كانت قدرته وهيمنته وإحاطته أشدّ كلّما كان أقرب من المحاط به، وعلى العكس يكون الطرف المقابل الضعيف؛ فهو يزداد ضعفاً كلّما كان طرفه المقابل أشدّ قوة واقتداراً، كذلك كلّما ازداد المهيمن إحاطة ازداد الطرف الآخر مُحاطيّة وبُعداً عن أن يحيط بالمحيط، فالقويّ قريب محيط والضعيف بعيد محاط، ويبعد كلّما ازداد القويّ قوّة وهيمنة؛ لأن الضعيف حينئذٍ بعيد من حيث افتقاده للصفات والكمالات اللّامتناهية شدّة وعدّة، التي للقويّ المحيط.

والحاصل: إن هناك نمطاً من التعاكس في القرب والبُعد، فطرف يكون قريباً

____________________

(١) ق: ١٦.

١٧٨

والآخر بعيداً، كلّما ازداد الباري قرباً وإحاطة من حيث الصفات كلّما ازداد المخلوق بعداً من طرفه بالنسبة إلى اللَّه تعالى، وذلك من حيث التعاكس في الصفات.

ومن ثمّ لابدّ من ابتغاء الوسيلة التي هي أشدّ كمالاً وأقرب إلى الباري تعالى، لكي يطوي المخلوق شيئاً من ذلك البُعد وينال درجة من درجات القرب برقيّه في مدارج الكمال عن طريق الواسطة والوسيلة.

والوسيلة هي الأقرب إلى اللَّه تعالى من حيث الكمالات؛ إذ كلّما تكامل المخلوق في الصفات ازداد قربه من الحضرة الربوبية، وكلّما عظم المخلوق صفة وكمالاً كلّما كان أقرب من الخالق لازدياد علمه ومعرفته بصفاته تعالى، والعلم درجة من درجات القرب والوصول، إذ طالما تجلت في المخلوق صفات الخالق أكثر عرف ذلك المخلوق بتلك الكمالات والصفات، صفات الخالق عزّ وجل، ولذا يكون أكمل المخلوقات أعرفهم بربّه وأقربهم منه وأكثر دلالة عليه وأشدّهم آية وعلامة ترشد إليه وتقرّب منه؛ لأن ما يتجلى فيه من بديع الكمالات آيات لكمال الباري عزّ وجل، على العكس من ذلك ما لو قلّت في المخلوق الكمالات، فإنه تقلّ فيه الآيات الدالّة على عظمة اللَّه تعالى وتقلُّ بالطبع معرفته.

ومن هنا كان المخلوق الذي يتّسم بالضعف والفقر والحاجة والبعد عن اللَّه تعالى بحاجة إلى الوسيلة، التي هي أقرب صفة وكمالاً من اللَّه عزّ وجل، كي تكون سبباً يقرّبه إلى ربّه.

فالوسيلة والوسائط هي أعاظم المخلوقات، وهي آيات اللَّه وأسمائه

١٧٩

وعلاماته الدالّة عليه، والتي يستدلّ الخلق بعظمتها على عظمة الباري، فتزداد المعرفة ويحصل القرب بنيل الكمالات.

ولا شك أن الخطاب الوارد في الآية المباركة - الكاشف عن ضرورة الوسيلة بالبيان المتقدم - عامّ وشامل للتوبة ومطلق العبادات وللمعرفة والإيمان أو التوجّه إلى الحضرة الإلهية لنيل مقام أو حظوة عند اللَّه تعالى.

الوسيلة معنى الشفاعة:

فللعلاقة بين العبد وربّه ولقطع مسافة البُعد لابدّ من الوسيلة، سواء في المعرفة والإيمان أو في قبول التوبة أو العبادات أو نيل المقامات، وقد أُطلق عن مثل هذا المقام في لسان الشارع بالشفاعة؛ لأن الشفع في الأصل بمعنى الزوج والاقتران، وهو في المقام اقتران الذات الربوبية بالآيات والأسماء الإلهية.

ثم إنه سبق أن الآيات العظمى والكلمات التامّات هم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وقد وصف اللَّه تعالى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعظمة، وذلك في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) ، فهم عليهم‌السلام الأسماء الحسنى التي أمر اللَّه أن يُدعى بها وتاب بها على آدم وامتحن بها إبراهيم عليه‌السلام لنيل مقام الخلافة والإمامة، وهذا البيان الذي ذكرناه؛ من ضرورة الواسطة والوسيلة لعظمة اللَّه تعالى، هدى إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام عند بيانه لقوله تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ

____________________

(١) القلم: ٤.

١٨٠

مَحْذُورًا ) (1) .

حيث بيّن أمير المؤمنين عليه‌السلام ضرورة الوسيلة، وأن اشتباه وخطأ المشركين إنما هو في اتخاذهم وسيلة اقتراحية غير مأذون بها، حيث طبّقوا الوسيلة الأعظم كمالاً على غير المصداق والفرد الحقيقي لها، فذمّهم اللَّه عزّ وجلّ على ذلك.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذا المجال: ( فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى مَن في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة، بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة، فكلّ محمول يحمله اللَّه بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشور ) (2) .

فإن الأعمال المختلفة والأديان المشتبهة ناتج اتخاذ الخلق الوسيلة إلى اللَّه تعالى، بسبب عظمته ونوره وتعاليه عزّ وجل.

ومن ذلك كلّه يتّضح أن من ينكر التوسّل أسوء حالاً من قريش التي آمنت بالوسيلة وأخطأت المصداق؛ حيث جعلوا وسائط باقتراحهم من غير سلطان أتاهم، لشعورهم بالفطرة التي خلقهم اللَّه عليها بعظمته تعالى عن أن ينال أو يدرك بلا واسطة.

____________________

(1) الإسراء: 57.

(2) الكافي، ج1، ص130.

١٨١

ترامي الوسائل وتعاقبه:

ثم إن الآيات الكبرى تتفاوت فيما بينها، فأهل البيت عليهم‌السلام شفيعهم ووسيطهم إلى اللَّه تعالى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في نيل المقامات، وبالنسبة للنبيّ ذاته فهو بذاته آية وعلامة عظمى على صفات اللَّه تعالى، فتكون نفسه من حيث هي مخلوقة وفعل للَّه تعالى وسيلة لنفسه، نظير ما ورد في الروايات (خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيّة) (1) .

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرآة الكمالات والصفات الإلهية له ولغيره في جميع جهات الارتباط باللَّه تعالى كقبول التوبة أو بقيّة العبادات أو مطلق نيل مقامات القرب من اللَّه عزّ وجل، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله أمينه على وحيه وعزائم أمره.

الدليل السادس: شرطية الاستجارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب المغفرة

هنا أيضاً نريد التعرّض لبيان أدقّ وأعمق ودالّ على المطلوب في المقام لقوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (2) .

لقد نصّت هذه الآية المباركة على ثلاثة شروط لقبول التوبة والاستغفار من هذه الأمة، وهي:

1 - المجي‏ء إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - إبراز الاستغفار من اللَّه عزّ وجل.

____________________

(1) توحيد الصدوق، ص148.

(2) النساء: 64.

١٨٢

3 - إمضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك الاستغفار، واستغفاره للتائبين.

فهذه الآية من ضمن مجموع الآيات التي تعرّضت لذكر شرائط التوبة، وأوّل شرط لقبول توبة المذنب والظالم لنفسه ليس إظهار الندامة من العبد أمام اللَّه تعالى مباشرة، بل الشرط الأوّل هو المجي‏ء إلى الحضرة النبويّة والالتجاء إليه، واللّواذ والاستعاذة والاستجارة به صلى‌الله‌عليه‌وآله . فأولاً لابدّ أن يأتي العبد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويلوذ به، ثم بعد ذلك يُظهر الندامة والاستغفار؛ إذ الترتيب للشروط في الآية المباركة ترتيب رتبي ترتيبي، حيث أخذت المراتب بعين الاعتبار، لا أنه ذكري فقط؛ بقرينة العطف بالفاء.

والمجي‏ء إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عين التوجّه إليه والتوسّل به في قبول التوبة.

وهذه الآية كشفت النقاب عن شرطية التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أكبر خطر مصيريّ يُحدق بالإنسان وهو الذنب والمعصية، التي قد تؤدّي بالعبد إلى الهلاك والسقوط في الهاوية، في مثل هذا الأمر الخطير جعل اللَّه تعالى الملاذ والملجأ هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلابدّ من الكينونة في الحضرة النبوية ثم إظهار عبادة الاستغفار، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله باب اللَّه تعالى الذي منه يؤتى، فيكون اللّواذ باللَّه عزَّ وجلَّ باللّواذ بنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولذا بعد الاستجارة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال تعالى: ( لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) .

إذن؛ الاستعاذة والاستجارة واللجوء إلى اللَّه بنبيّه أُخذ شرطاً في أخطر موقف للعبد مع ربّه، وهو التوبة وغفران الذنوب.

ومن الواضح أيضاً أن الظلم المذكور في الآية المباركة ليس مختصّاً بالذنوب

١٨٣

الفردية التي بين العبد وربّه، وإنما هو شامل للظلم الاجتماعي السياسي أو النظام الاقتصادي المعاشي أو التعدّي على المنظومة الحقوقية والأخلاقيّة، ومعنى ذلك أن استعلام ومعرفة تلك الأمور الفردية والاجتماعية لا يمكن أن يتحقّق إلّا عن طريق الالتجاء واللّواذ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكلّ حيف أو زيغ يحصل من الفرد أو المجتمع في تلك الأمور لابدّ من الرجوع فيها إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي مقابل تعدّد أنواع الظلم يتعدّد أنواع اللجوء والتولّي والتوجّه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم إن ذكر التوبة والاستغفار في الآية المباركة لا لخصوصية فيها، وإنما ذكرت بما هي عبادة من العبادات؛ لكونها أوبة ورجوع إلى اللَّه تعالى واقتراب منه وقصد وتوجّه إليه، فليست الآية في ذكرها لشرطية التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة بالتوبة، بل هي شاملة في ذلك لكلّ العبادات. خصوصاً وأن التوبة هي الأوبة، من آب يؤوب، والأوبة الرجوع إلى اللَّه تعالى، أي الاقتراب والزلفى منه عزّ وجل. ولا شك أن العبادات بمجموعها طلب الأوبة والقرب والزلفى إلى اللَّه تعالى، فهي نوع من أنواع التوبة؛ وبناءً على ذلك لا تكون التوبة عملاً منحازاً ومنفصلاً عن سائر العبادات كالصلاة والحجّ وغيرهما، بل هي عمل عام وشامل للعبادات كافَّة.

كذلك التوبة نوع من أنواع الدعاء؛ لأنها طلب المغفرة من اللَّه تعالى ودعاء بالغفران، فمضمون هذه الآية المباركة مشترك مع ما تقدم من الروايات الدالّة على أن الدعاء وطلب العبد القرب من اللَّه تعالى لا يرتفع إلى السماء ولا تُفتّح له الأبواب ما لم يقترن بذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة على محمّد وآل محمّد، وإذا كان كذلك، فإن الدعاء وطلب القرب من اللَّه عزّ وجلَّ شامل للمقامات الثلاثة التي

١٨٤

ذُكرت في صدر البحث، وهي: قبول التوبة والعبادة ونيل مقامات القرب، وهو لا يقبل إلّا باللّواذ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتوجّه إليه والاستعاذة والاستجارة والتوسّل به، بالمجي‏ء في حضرته المباركة.

وهذه الآية الكريمة الدالّة على شرطية التوجّه والتوسّل وضرورته في جميع المقامات ليست خاصّة بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ ليس المراد من المجي‏ء الحضور الفيزيائي لبدن المذنب عند النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط، بل المجي‏ء الفيزيائي والبدني المكاني أحد المصاديق المقصودة في الآية المباركة، والتعبير بالمجي‏ء كنائي، يراد به مطلق الاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشواهد على ذلك عديدة، منها:

1 - إن هذه الآية المباركة جاءت لبيان ماهية التوبة وشرائطها العامة، التي يشترك فيها كافّة المسلمين وفي جميع الأزمنة، فلا يمكن أن تكون مختصّة بالفترة التي عاشها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بمَن زامن وعايش تلك الفترة، فالمراد من المجي مطلق الارتباط بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالتوجّه إليه والكينونة في حضرته المباركة، ثم الإتيان بعبادة الاستغفار، وهذا المضمون متطابق مع مفاد قوله تعالى: ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) ، إذ معنى ذلك أن حضرة الأنبياء ومحضرهم مشاعر شعّرها اللَّه تعالى ليُتقرّب بها إليه.

ويتّضح هذا الشاهد أكثر إذا علمنا أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث رحمة للعالمين، وهذه من الرحمات العامة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه الأمة، وغير مختصّة بمَن حضر الحضور الفيزيائي البدني عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - إن نفس التعبير بقوله تعالى: ( جَاءُوكَ ) يتضمّن معنى اللّواذ واللجوء

١٨٥

والاستغاثة والتوسّل والتوجّه القلبي، وليس فيه دلالة على الاختصاص بالحضور الجسماني.

3 - استغفار آدم عليه‌السلام وتوبته أيضاً كانت - كما مرَّ - بالمجي‏ء للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن كان مجيئه إليه في أفق القلب والقصد؛ فقد ورد في روايات الفريقين أن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (لمَّا اقترف آدم الخطيئة، قال: ياربّ أسألك بحقّ محمّد لَمَا غفرت لي، فقال: ياآدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: ياربّ لأنَّك لمَّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوب، لا إله إلّا اللَّه محمّد رسول اللَّه، فعلمت أنك لم تُضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال: صدقت ياآدم، إنه لأحبّ الخلق إليّ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد ما خلقتك) (1) وغيرها من الروايات الدالّة على أن مجي‏ء آدم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولواذه به كان بالتوجّه القلبي به إلى اللَّه تعالى.

وفي هذه الرواية الأخيرة التي نقلناها إشارة أخرى إلى اقتران اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله باسم اللَّه عزّ وجلَّ في أعظم عبادة وأشرف كلمة في الإسلام، وهي كلمة التوحيد.

4 - إن المسلمين في سيرتهم منذ الصدر الأول فهموا من هذه الرواية الشمول والعموم وعدم الاختصاص بالفترة الزمنية التي عاشها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا دليل على عموم المعنى المستعمل في ارتكاز أبناء اللغة، ولذا كانوا يتوجّهون إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب المغفرة ويأمرون الآخرين بذلك حتى بعد وفاة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والشواهد الروائية والتاريخية على ذلك كثيرة جدّاً:

____________________

(1) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج2، ص615.

١٨٦

منها: ما أخرجه النووي عن العتبي قال: (كنت جالساً عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك يارسول اللَّه، سمعت اللَّه تعالى يقول: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (1) وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربّي، ثم أنشأ يقول:

يا خير مَن دفنت بالقاع أعظمه

فطاب مِن طيبهنَّ القاع والأكمُ

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم، فقال لي: ياعتبي، ألحق الأعرابي فبشّره بأن اللَّه تعالى قد غفر له) (2) .

ومنها: ما أخرجه السيوطي عن أبي حرب الهلاليّ قال: (حجّ أعرابي، فلمَّا جاء إلى باب مسجد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتى دخل القبر ووقف بحذاء وجه رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: بأبي أنت وأمي يارسول اللَّه، جئتك مثقلاً بالذنوب والخطايا مستشفعاً بك على ربّك، لأنه قال في محكم كتابه: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (3) وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلاً بالذنوب والخطايا استشفع بك على اللَّه ربّك أن يغفر لي ذنوبي وأن يشفع فيّ( (4) .

ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال: (قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) النساء: 64.

(2) النووي، الأذكار النووية، ص206، وكذلك في تفسير ابن كثير، ج1، ص532.

(3) النساء: 64.

(4) الدرّ المنثور، ج1، ص238.

١٨٧

وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول اللَّه قلت فسمعنا قولك ووعيت عن اللَّه فوعينا عنك، وكان فيما أنزل اللَّه عليك: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ) (1) وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر أنه غفر لك ) (2) ، إلى غير ذلك من الشواهد.

5 - إن القرآن الكريم قد دلّ على حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ربّه، كما قال تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) ، بل وكذا قوله تعالى: ( يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ ) (4) وغيرها من عشرات الآيات الدالّة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى ويشهد على جميع أعمال العباد إلى يوم القيامة، فهو حيّ عند ربّه. كيف لا وقد دلّ القرآن على حياة الشهداء في قوله تعالى: ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (5) ، وقد اتّفقت روايات الفريقين المتواترة أيضاً الدالّة على حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، منها ما ورد عن الإمام الحسن عليه‌السلام قال: (إن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: حيثما كنتم فصلّوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني) (6) .

____________________

(1) النساء: 64.

(2) كنز العمال، ج2، ص386، والصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد، ج12، ص390.

(3) التوبة: 105.

(4) النحل: 89.

(5) آل عمران: 169.

(6) الطبراني، المعجم الأوسط، ج1، ص117.

١٨٨

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون) قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والبزاز ورجال أبي يعلى ثقات (1) .

وقد نقل السقّاف في كتابه الإغاثة جملة من الروايات وكلمات علماء السُّنَّة التي ادّعي فيها الإجماع والتواتر والعلم القطعي بحياة النبي الأكرم فراجع (2) .

وإذا ثبت ذلك ثبت عموم الآية المباركة بالرجوع إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والاستغاثة به.

6 - آيات وروايات عرض الأعمال على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في قوله تعالى: ( قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) وهذه الآية متطابقة ومتشاهدة مع آية ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ... ) . وأمَّا الروايات في هذا المجال، فهي كثيرة جدّاً:

منها: ما عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه‌السلام قال: (تعرض الأعمال على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ صباح أبرارها وفجّارها فاحذروه) (4) .

ومنها: ما عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (إن الأعمال تعرض على نبيكم كلّ عشية خميس، فليستحي أحدكم أن يعرض على نبيه العمل القبيح) (5) .

منها: ما ورد عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (حياتي خير لكم

____________________

(1) مجمع الزوائد، ج8، ص211.

(2) الإغاثة، ص 7 - 5.

(3) التوبة: 105.

(4) تفسير البرهان، ج 3، ص 488.

(5) تفسير البرهان، ج 3، ص 490.

١٨٩

تحدّثون وتحدّث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فما رأيتُ من خير حمدت اللَّه عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت لكم). قال الهيثمي: رواه البزاز ورجاله رجال الصحيح (1) .

وهذه الرواية وغيرها منسجمة المضمون مع الشرط الثالث في الآية التي هي محلّ البحث؛ حيث جاء فيها: (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ)، فالتائب والمستغفر يتوجّه إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعرض استغفاره عنده لكي يستغفر له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويشفع له عند اللَّه تعالى في قبول توبته، فعبادات الأمة لابدّ أن يشفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ربّه في قبولها، وهو المضمون والغرض والحكمة من عرض الأعمال وأنَّ قبولها مشروط بإمضاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشفاعته. فكما أن آيات وروايات عرض الأعمال ذكرت أن سبب العرض هو أن يستغفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأمته، كذلك في الآية المباركة إنما يعرض العبد استغفاره في الحضرة النبويّة لكي يستغفر له، وإذا كانت آيات وروايات العرض عامة لحال الحياة وبعد الممات، فكذلك الآية المباركة.

وهذا الذي ذكرناه أخيراً هو الشرط الثالث في الآية المباركة وهو استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للمذنب الظالم لنفسه.

7 - إن كل الأحكام في الآيات الكثيرة التي أخذ فيها الحكم مرتبطاً بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا تختص بحياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في قوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وقوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

____________________

(1) مجمع الزوائد، ج9، ص24.

(2) الممتحنة: 6.

١٩٠

الرَّسُولَ ) (1) وقوله تعالى: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (2) وقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (3) وغيرها من الآيات، فإنه لو توهم اختصاصها بحياته صلى‌الله‌عليه‌وآله الدنيوية لعُطّل العمل بهذه الآيات وتقوّضت أركان الدين.

والذي يتحصّل من الآية: أن المجي‏ء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتوجّه إليه شرط في قبول التوبة، بل كافّة العبادات ومطلق المقامات القُربيَّة عند اللَّه تعالى.

كما يستفاد من الآية المباركة أيضاً أن التوسّل والتوجّه أمر تعييني ضروري لابدّ منه، وليس هو أمراً تخييرياً بيد العبد فعله أو تركه.

واتضح أن التوجّه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك المقامات ليس خاصّاً بالتوجّه الفيزيائي البدني، بل شامل للتوجّه القلبي أيضاً.

ثم إن المجي‏ء إلى النبيِّ والتوسّل به بمعنى الارتباط به والانتماء إليه بكلّ أنحاء الانتماء، كانتماء المواطنة والانتماء الأُسري والوظيفي والتنظيمي، وغيرها من أنحاء الانتماء إلى الرسالة الخاتمة والحاكمية الإلهية المتمثّلة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام .

كذلك لابدّ أن يُعلم أن الآية الخاصّة في المقام غير مختصّة بالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هي سُنَّة إلهيّة جارية في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فالآية عامة؛ ولذا نصّت على هذا العموم آية عرض الأعمال؛ حيث شملت الذين آمنوا وهم أولوا الأمر من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نصّ على ذلك قوله تعالى: ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ

____________________

(1) النساء: 59.

(2) الحشر: 7.

(3) الأنبياء: 107.

١٩١

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (1) إذ هم الأمة المسلمة من ذرِّيَّة إبراهيم وإسماعيل المجتباة الذين بعث فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعلهم اللَّه شهداء على الناس وأعمالهم وعقائدهم، ويدلّ على العموم أيضاً الآيات المتقدّمة التي نصّت على وجوب المجي‏ء إلى إبراهيم في الحجّ ووجوب الصلاة عند مصلّاه وهويّ القلوب إلى ذرّيته، وسيأتي من الآيات ما يدلّ على العموم أيضاً.

إذن؛ التوجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام في التوبة والعبادة ونيل المقامات شرط ومشارطة إلهية لابدّ من توفّرها لنيل ما يبتغيه العبد.

الدليل السابع: التوسّل بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ميثاق الأنبياء

قال تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (2) ، فالميثاق المذكور في هذه الآية المباركة معناه أن هناك تعاقداً بين اللَّه تعالى والأنبياء عليهم‌السلام ، والطرفان اللذان وقع عليهم الميثاق والتعاقد هما النبوّة والمقامات الغيبة التي أعطاها اللَّه تعالى للأنبياء في مقابل أمر مهمّ وخطير لابدّ أن يؤمنوا به، وهو قوله تعالى: ( ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) فالمقامات الإلهية والمنح

____________________

(1) الحج: 78.

(2) آل عمران: 81.

١٩٢

الربّانية إنما تعطى للأنبياء بشرط الإيمان بخاتمهم ونصرته، ولا شك أن الذي يكون ناصراً إنما هو تابع للمنصور والمنصور قائد له، فالأنبياء كلّهم مأمومون والرسول الأكرم إمامهم، والأنبياء سبقوا الناس بالاصطفاء الإلهي الخاصّ وحُبوا بالنبوّة والرسالة والمقامات الغيبيّة بتوسّط إيمانهم بولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعهّدهم بنصرته ومؤازرته، وهم أسبق الناس شيعة وإسلاماً لخاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله .

الأنبياء على دين النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

ومن ثمّ فإن هذه الآية المباركة تدلّل على أن دين الأنبياء بعد الإيمان باللَّه عزّ وجلَّ هو الإيمان بخاتم الأنبياء ومشايعته ومؤازرته، فالأنبياء كانوا على دين النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الإسلام.

بيان ذلك:

إن قوله تعالى في الآية المباركة: ( مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ) معناه أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس تابعاً للأنبياء، بل تابع للوحي الإلهي جملة، الذي هو فعل اللَّه تعالى؛ ولذا لم يأمر اللَّه عزّ وجلَّ نبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاقتداء بالأنبياء وإنما بالهدى الذي هم عليه، قال اللَّه تعالى: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (1) .

فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس على هدى نبيّ من الأنبياء وليس هو تابعاً لأحد من الرسل، بل هو على هدى اللَّه عزّ وجلَّ، وهو أوّل المسلمين، والفاتح الأول للهدى الإلهي والدين الإسلامي الواحد هو خاتم الأنبياء، ولم يُعبَّر عن نبيٍّ من الأنبياء في القرآن الكريم بأنه أوّل المسليمن على الإطلاق سوى النبي

____________________

(1) الأنعام: 90.

١٩٣

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك في قوله تعالى: ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) (1) وقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (2) وقوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ ِلأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) (3) . وأمَّا سائر الأنبياء، فقد عُبّر عنهم في القرآن الكريم بأنهم من المسلمين، بما فيهم أنبياء أولي العزم، فقد حكى اللَّه عزّ وجلَّ على لسان نوح قوله:

( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (4) ولم يُعبَّر عنه بأنه أوّل المسلمين. ولا شك أن الدين عند اللَّه عزّ وجلَّ واحد، قال تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلَامُ ) (5) ، ولا يتقبّل من مخلوق من المخلوقات غير الإسلام، قال تعالى: ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (6) ، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّل المسلمين وأوّل مَن نطق بميثاق التوحيد والتسليم للَّه عزّ وجل، فكان هو أفضل الأنبياء وهو الإمام المتبوع وهم المأمومون التابعون له في الدين الإسلامي، فضلاً عن غيرهم من المخلوقين؛ ولذا ورد في الحديث عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : (أن بعض قريش قال لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(1) الأنعام: 14.

(2) الأنعام: 162 - 163.

(3) الزمر:11 - 12.

(4) يونس: 72.

(5) آل عمران: 19.

(6) آل عمران: 85.

١٩٤

بأي شي‏ء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أوّل مَن آمن بربّي وأوّل مَن أجاب حين أخذ اللَّه ميثاق النبيين ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) فكنت أنا أوّل نبيّ قال بلى، فسبقتهم بالإقرار باللَّه) (1) .

وفي الحديث أيضاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديثه لأصحابه قال: (فأخذ لي العهد والميثاق على جميع النبيين، وهو قوله الذي أكرمني به جلَّ مَن قائل: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ‏لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (2) وقد علَّمتهم أن الميثاق أُخذ لي على جميع النبيِّين، وأنا الرسول الذي ختم اللَّه بي الرسل، وهو قوله تعالى: ( رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النبيينَ ) (3) فكنت - واللَّه - قبلهم وبُعثتُ بعدهم وأعطيتُ ما أعطوا وزادني ربّي من فضله ما لم يعطه لأحد من خلقه غيري، فمِن ذلك إنه أخذ لي الميثاق على سائر النبيِّين ولم يأخذ ميثاقي لأحد، ومن ذلك ما نَبَّأ نبيّاً ولا أرسل رسولاً إلّا أمره بالإقرار بي وأن يبشّر أمته بمبعثي ورسالتي) (4) .

إذن؛ فالدين دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو فاتح ذلك الصرح العظيم، وإن كانت الفطرة والملّة ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، وهي غير الدين. وكذلك للأنبياء شرائع ومناهج مختلفة وهي غير الدين أيضاً، وإنما هي تفصيلات وتنزّلات كلّيات ذلك الدين الحنيف، وهو الإسلام؛ ولذا جاء في دعاء التوجّه في الصلاة:

____________________

(1) الكافي، ج 1، ص 441.

(2) آل عمران: 81.

(3) الأحزاب: 40.

(4) الحسين بن حمدان الخصيبي، الهداية الكبرى، ص380.

١٩٥

(وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم ودين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهدي علي أمير المؤمنين عليه‌السلام وما أنا من المشركين) (1) .

إذن الإسلام دين النبي، والأنبياء على دينه ومن شيعته؛ ولذا فُسّر قوله تعالى: ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) (2) بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن إبراهيم من شيعته وعلى دينه الحنيف؛ حيث ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال: (قوله عزّ وجل: ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ) أي إن إبراهيم عليه‌السلام من شيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) (3) وقد اختار هذا القول الكلبي وابن السائب والفرّاء (4) .

فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس تابعاً للأنبياء، بل على العكس، فهو على الهدى الذي هو هدى اللَّه تعالى، ومصدّق لِمَا مع الأنبياء؛ أي شاهد على ما هم عليه من دينه الحنيف وبإمضائه يُصدّق ما هم عليه. أمَّا الأنبياء، فهم يؤمنون بخاتم الأنبياء ( لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ) لا أنهم يؤمنون بما معه، فإيمانهم بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد مطّلع مصدّق على ما عندهم. وأمَّا هم، فيؤمنون به، وهذا يعني أنه لا يوجد في مقامات الأنبياء ودرجاتهم عند اللَّه تعالى ما هو غيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . وأمَّا الذي يؤمن بذات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - وهم سائر الأنبياء عليهم‌السلام - فهو يؤمن بأمر غيبيّ، فمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى باقي الأنبياء

غيب الغيوب. وأمَّا مقامات سائر الأنبياء، فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مطّلع عليها ويعلمها ويشهد لهم على صدقها، والأنبياء في أصل نيلهم لمقام النبوّة إنما استأهلوه بعد أن آمنوا بخاتم الأنبياء قبل سائر

____________________

(1) الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص307.

(2) الصافات: 83.

(3) هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، ج6، ص419.

(4) تفسير القرطبي، ج15، ص91.

١٩٦

الأرواح في عالم الأرواح وشرطوا على أنفسهم نصرته، ولذا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شفيع الكلّ، والأنبياء لم ينالوا ما نالوا إلّا بالديانة لخاتم الأنبياء، فهو الشفيع لقبول الأعمال، وهو باب رحمة اللَّه العامّة ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) (1) .

ومن ذلك كلّه يتّضح أن هذه الآية المباركة نصّ في المقام الثالث، وأن التوجّه إلى اللَّه لنيل أي مقام أو قربى أو زلفى لا يتمّ إلّا بالتوسل

بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتشفّع به، وبالتشفّع به يعطى للعبد أعظم الأرزاق، وهو النبوّة والكتاب والحكمة، فكيف بك بسائر الأرزاق الأخرى، التي لا تقاس بمقامات الأنبياء؟!

ثم إن الآية الكريمة رسمت خطورة الأمر في ضمن تأكيدات مغلّظة، حيث جاء فيها قوله تعالى: ( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي ) ، وبعد أن تم الإقرار والمعاهدة والمعاقدة المشدّدة أشهدهم اللَّه تعالى على ذلك، حيث قال: ( فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (2) ، وهذا يعني أن للتوسُّل والتوجّه دوراً مهمّاً ومحورية رئيسية في رسم معالم الدين.

وإنكار التوسّل في المسائل الدنيوية غير الخطيرة ليس إلّا تعظيماً لصغائر الأمور وتصغيراً لِمَا عظّمه اللَّه عزّ وجل، فإن الإيمان بكون الأنبياء لم يستحقّوا ما استحقّوه إلّا بتوسُّلهم بالإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنكار التوسّل في بعض الأمور الدنيويّة والحاجات المعاشية ليس له معنى إلّا الاستهانة بتلك المقامات الشامخة وتعظيم وتهويل ما ليس حقّه ذلك.

____________________

(1) الأنبياء: 107.

(2) آل عمران: 81.

١٩٧

أهل البيت عليهم‌السلام شركاء النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الميثاق

ثمّ إن أهل البيت عليهم‌السلام يشتركون مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في دائرة الميثاق والدين الحنيف الذي أُخذ على الأنبياء الإيمان به ونصرته والدعوة إليه، وإن كان أهل البيت عليهم‌السلام تابعين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم يتوجّهون به إلى اللَّه تعالى، وبشفاعته يكونون معه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقامه، وهو مقام الشفاعة الكبرى والوسيلة العظمى.

ويدلّ على اشتراك أهل البيت عليهم‌السلام مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في دائرة الميثاق الذي أخذ على الأنبياء وجوه عديدة، وإليك بعضها:

1 - إن نصرة الأنبياء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تتحقّق إلى يومنا الحاضر، وهي إنما تتحقّق بالنصرة لأهل بيته عند ظهور المهدي من آل محمّد، وعند رجعة الأئمة عليهم‌السلام ، كما نصّت على ذلك الروايات المتضافرة؛ حيث جاء فيها أن عيسى عليه‌السلام وإدريس وغيرهما من الأنبياء سوف يقاتلون بين يدي الإمام المهدي عليه‌السلام عند قيامه بدولة الحقّ والعدل، هذا من طرق الفريقين. وأمَّا من

طرقنا، فقد دلّت الروايات المتضافرة أيضاً على أن جميع الأنبياء والمرسلين سوف يقاتلون مع الأئمة عليهم‌السلام عند رجوعهم وكرّتهم في دولتهم العالمية المباركة، بل إن بعض الأنبياء - كإلياس والخضر عليهما‌السلام على القول بنبوّة الخضر عليه‌السلام - هم الآن وزراء في حكومة الإمام المهدي عليه‌السلام الخفيّة، وهي حكومة خليفة اللَّه في أرضه، التي لا يمكن أن تفتقدها البشرية في لحظة من اللحظات؛ وإلاّ لساخت الأرض بأهلها.

ونشير فيما يلي إلى بعض تلك الروايات التي وردت في هذا المجال:

١٩٨

منها: طوائف الروايات التي دلّت على أن المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام ينزل لنصرة المهدي عليه‌السلام . وإليك فيما يلي هذه الرواية - ننقلها بطولها لارتباطها بالبحث الذي نحن فيه - قال أبو عبداللَّه الصادق عليه‌السلام :

(أتى يهودي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقام بين يديه يحدّ النظر إليه، فقال: يايهودي ما حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي الذي كلّمه اللَّه، وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنه يكره للعبد أن يزكّي نفسه، ولكنّي أقول: إن آدم عليه‌السلام لمَّا أصاب الخطيئة، كانت توبته أن قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لَمَا غفرت لي، فغفرها اللَّه

له، وإن نوحاً عليه‌السلام لمَّا ركب في السفينة وخاف الغرق قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لَمَا نجّيتني من الغرق، فنجّاه اللَّه منه، وإن إبراهيم عليه‌السلام لمَّا ألقي في النار قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لَمَا نجّيتني منها، فجعلها اللَّه عليه برداً وسلاماً، وإن موسى عليه‌السلام لمَّا ألقى عصاه أوجس في نفسه خيفة، قال: اللّهم إني أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لَمَا آمنتني منها، فقال اللَّه جل جلاله: ( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ) (1) . يايهودي: إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوّتي، ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته نبوّته. يايهودي: ومن ذرِّيَّتي المهدي؛ إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته، فقدّمه وصلّى خلفه) (2) .

____________________

(1) طه: 68.

(2) الصدوق، الأمالي، ص288، النيسابوري، روضة الواعظين، ص272.

١٩٩

وفي حديث آخر: (فيلتفت المهدي فينظر عيسى عليه‌السلام فيقول لعيسى: ياابن البتول، صلِّ بالناس، فيقول: لك أقيمت الصلاة، فيتقدّم المهدي فيصلّي بالناس ويصلّي عيسى خلفه ويبايعه) (1) .

ولا شك أن المبايعة لأجل نصرته عليه‌السلام لإقامة دولة الحقّ، بقرينة تتمّة الرواية؛ حيث ورد فيها أن المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام - بعد المبايعة - يكون من وزراء المهدي عليه‌السلام ويخرج لقتال الدجَّال.

ومنها: الروايات التي دلّت على أن نصرة الأنبياء للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما تحصل بالنصرة لوصيّه أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام والقتال بين يديه عند الكرّة والرجعة في دولة الحقّ. وذلك نظير ما أخرجه سعد بن عبداللَّه القمي عن فيض بن أبي شيبة، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه‌السلام يقول وتلا هذه الآية: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ ) : (لتؤمننّ برسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولتنصرنّ علياً أمير المؤمنين عليه‌السلام . قال: نعم - واللَّه - مِن لدن آدم وهلمّ جراً، فلم يبعث اللَّه نبيّاً ولا رسولاً إلّا ردَّ جميعهم إلى الدنيا حتّى يقاتلوا بين يدي عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ) (2) .

ومن الواضح أن نصرة أمير المؤمنين عليه‌السلام نصرة لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وللدين الذي جاء به.

وحاصل هذه النقطة هو: اشتراك أهل البيت عليهم‌السلام مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الميثاق الذي أخذ على الأنبياء؛ إذ إن إيفاءهم بالعهد إنما يكون بنصرتهم لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(1) الشافعي، عقد الدرر، ص275.

(2) الحسن بن سليمان الحلّي، مختصر بصائر الدرجات، ص25.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320