الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 320
المشاهدات: 93206
تحميل: 6903


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 93206 / تحميل: 6903
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الفصل الأوّل

1 - تمهيد

2 - التوسّل في اللغة والاصطلاح

3 - التوسّل عبادة توحيدية

4 - الأدلّة العقلية والتاريخية

5 - الأدلّة التحليلية

٢١

٢٢

تمهيد:

إنّ مبدأ التوسّل والدعاء وطلب الشفاعة والاستغاثة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام من المبادئ الأصيلة والأساسية في الدين التي دلّ على مشروعيتها وضرورتها صريح العقل والقرآن الكريم وروايات المعصومين عليهم‌السلام .

ولقد آمن بهذه العقيدة في الإسلام عموم المسلمين بكافّة فرقهم وطوائفهم؛ حيث إن سيرتهم جارية على اللجوء إلى ساحة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، ولكن حاول البعض - تبعاً لمنهج الجحود والجاحدين بذريعة وغطاء وقناع التكفير والمكفّرين - أن يُلصق تهمة الشرك والكفر بهذه العقيدة الإسلامية، حيث تحايل لجحوده بأن ادّعى أن التوسّل من أصناف الشرك في العبادة، وزعم أن الآيات والروايات دالّة على ذلك.

ونحن قبل الشروع في ذكر ما استعرضوه من أدلّة وشبهات والإجابة عنها، لابدّ من بيان ما هو الحقّ في المسألة، وذلك عن طريق إعطاء التصوّرات

٢٣

الصحيحة والبراهين القاطعة الدالّة على مشروعية، بل ضرورة، التوسّل بأصفياء اللَّه تعالى، لأجل نيل القرب منه عزّ وجلّ وقبول الطاعات والعبادات وفتح أبواب السماء لاستجابة الدعاء وقضاء الحاجات، وأن المنكرين والجاحدين للتوسّل بأولياء اللَّه يجعلون التوسّل بهم من التوجّه إلى غير اللَّه تعالى ليفرّقوا بين اللَّه ورسله؛ قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) (1) .

وذلك كلّه استناداً إلى الأدلّة العقلية والتحليلية والتاريخية والقرآنية والروائية الناصّة على ذلك.

____________________

(1) سورة النساء 4: 150.

٢٤

التوسّل في اللغة والاصطلاح

1 - التوسّل لغة:

قال الفراهيدي في كتابه اللغوي (العين):

وسل: وسّلت إلى ربّي وسيلة؛ أي عملت عملاً أتقرّب به إليه، وتوسّلت إلى فلان بكتاب أو قرابة؛ أي تقرّبت إليه (1) .

وقال الجوهري في الصحاح:

الوسيلة: ما يتقرّب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسّل واحد، يقال: وسّل فلان إلى ربّه وسيلة وتوسّل إليه بوسيلة؛ أي تقرّب إليه بعمل (2) .

ومثله ما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3) .

وقال ابن منظور في لسان العرب:

الوسيلة: المنزلة عند الملِك، والوسيلة: الدرجة، والوسيلة القربة، ووسّل فلان إلى اللَّه وسيلة إذا عمل عملاً تقرّب به إليه، والواسل الراغب إلى اللَّه.

____________________

(1) الفراهيدي، كتاب العين، ص289.

(2) الجوهري، الصحاح، ج5، ص1841.

(3) النهاية في غريب الحديث، ج5، ص185.

٢٥

وتوسّل إليه بوسيلة إذا تقرّب إليه بعمل.

والوسيلة الوصلة والقربى، وجمعها الوسائل (1) .

والذي يتحصّل من كلمات اللغويين أن التوسّل والوسيلة هي: ما يجعله العبد من الواسطة بينه وبين ربّه لأجل التوصّل بها إلى تحصيل المقصود، وهو القرب منه عزَّ وجل، أو مطلق ما يوسّطه الشخص للتقرّب به إلى الغير من عمل أو كتاب أو قرابة أو غيرها.

2 - التوسّل اصطلاحاً:

التوسّل في الاصطلاح قريب جدّاً من المعنى اللغوي، بل هو عينه؛ والاختلاف هو في تحديد المصاديق التي نصبها اللَّه تعالى للتوسّل والتقرّب بها إليه عزّ وجل.

وسيأتي مزيد إيضاح لبيان حقيقة التوسّل اصطلاحاً عند استعراض الأدلّة القرآنية حول التوسّل في الفصل اللّاحق.

____________________

(1) ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص225 - 224.

٢٦

التوسّل عبادة توحيدية

دور الوسائط الإلهيّة وضرورة التوسّل بها:

إنّ الحقيقة التي نريد أن ندّعيها تحت هذا العنوان هي أن نفي الوسائل والوسائط الإلهيّة والإعراض عنها في حال توجّه العبد إلى اللَّه هو الشرك بعينه، وأنَّ توسّل العبد بالآيات الإلهيّة وتوجّهه وتشفّعه بالوسائط التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ من أجل قضاء حوائجه أو قبول توبته وأوبته وعبادته ونيله للحظوة والقرب من اللَّه تعالى، هو التوحيد الحقيقي والتام المرضي عند اللَّه عزّ وجلّ.

توضيح المدّعى:

من أجل إعطاء تصوّرات صحيحة حول ما ادّعيناه آنفاً نقول: إن الوسائل والوسائط إذا كانت مجعولة ومنصوبة من قبل اللَّه عزّ وجل، فإن التوسّل والتوجّه بها واللجوء إليها والاستغاثة والاستجارة بها إلى اللَّه تعالى هو التوحيد التام، وفي الوقت ذاته يكون الإعراض عنها والاستكبار عليها والتوجّه إلى اللَّه تعالى بالمباشرة شركاً واستكباراً على اللَّه عزّ وجل ومبارزة له في سلطانه.

وأمَّا إذا لم تكن تلك الوسائط مجعولة ولا منصوبة من قبل اللَّه تعالى، فإن

٢٧

التوسّل بها والتزلّف إلى اللَّه عن طريقها يكون شركاً وصنمية ووثنية وعبادة لغير اللَّه تعالى، سواء كان صنماً قرشياً في الجاهلية أو وثناً عصرياً.

بيان الأدلّة:

ولهذه الدعوى التي ذكرناها أدلّتها المتنوِّعة، ونحاول أن نشير في هذا الفصل إلى الأدلّة العقلية والتاريخية والتحليلية. وأمَّا الأدلّة القرآنية، فسيأتي ذكرها في الفصل اللّاحق.

٢٨

الأدلّة العقلية والتاريخية

1 - الدليل العقلي:

هنالك بيانات متعدّدة للدليل العقلي الدالّ على مشروعيّة وضرورة التوسّل، نستعرض فيما يلي بعض تلك البيانات العقلية:

البيان الأول: التوسّل بالوسائط الإلهيّة تحكيم لسلطان اللَّه على سلطان العبد

إنّ نصب الوسائط والأبواب من قبل المخلوقين والعبيد باقتراحهم واختراعهم يُعدّ تصرّفاً في سلطان اللَّه عزّ وجل، ونوع من تحكيم إرادة العبد وهواه على إرادة ربّه، ويكون هذا الفعل من العبد شركاً ونديّة ووثنية جاهليّة.

فالعبد هو الذي ينادد ربّه في جعله الوسائط واختراعها، سواء من ناحية العمل كاتّخاذ الأحجار والأصنام وجعلها واسطة بين العبيد وبين ربّهم، أم كان من ناحية الفكر والمعتقد وذلك كاتّخاذ العقل الذاتي البشري ربّاً وزعم عدم محدوديته وأنّه يتّسع في الحكم والبتّ في الحقائق بلغ ما بلغ، فإن هكذا توسيط من قبل البشر وباقتراحهم يُعدّ مغالاة وشركاً في سلطان اللَّه؛ لأنّها تكون مناددة

٢٩

للَّه تعالى وصنميّة للعقل بدعوى (إن الحكم إلّا للعقل).

فمَن يجعل لنفسه وسيطاً لم ينصبه اللَّه عزّ وجل ولم يأذن به، فهذه هي الصنمية، والتزلّف والتقرّب بتلك الوسائط غير المأذون بها هو الشرك الناقض للإيمان؛ لأنّه منازعة للَّه تعالى في سلطانه، سواء كانت أصنام العرب أم غيرها من الجهالات والجاهليات الحديثة.

وأمَّا التوسّل والتوجّه بالوسائط التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ ونصبها لخلقه، فهو التوحيد التامّ، والإعراض عن تلك الحجج والأبواب الإلهيّة التي نصبها اللَّه عزّ وجلّ وترك التوجّه إليها، هو الشرك الناقض للإيمان أيضاً؛ لأنّه استكبار على إرادة اللَّه تعالى وسلطانه.

فالتوحيد التامّ إنما يكون بالانصياع والخضوع أمام الأبواب والوسائط التي جعلها اللَّه عزّ وجلّ، وذلك بالتوسّل بها وتوسيطها بين العبد وربّه. والسرّ في شرك المشركين والإنكار الإلهي لعقيدتهم الصنمية ليس لأصل شعورهم بالحاجة إلى الوسائل والوسائط والشفعاء، بل كان شركهم في اقتراحهم الوسائط والتدخّل في سلطان اللَّه تعالى وتحكيم إرادتهم وسلطانهم، من دون الانصياع والطوعانية لإرادة اللَّه عزّ وجل، فمصبّ إنكار الباري تعالى عليهم ليس هو إنكار نظرية ضرورة الوسائط، بل في كون الوسائط مقترحة من قبلهم.

والقرآن الكريم أيضاً - كما سيأتي - لا يستنكر على المشركين نظرية ومقالة الأبواب والوسائط، بل على العكس؛ إذ القرآن يقرّها

ويثبتها، وإنما تخطئته للمشركين بالصنميّة في اقتراحهم الوسائط والوسائل من قبل أنفسهم، ويحتّم

٣٠

على المشركين أن تكون الوسائط بسلطان الربّ وإرادته.

والقرآن الكريم - كما سيأتي أيضاً - يقرّر نظرية الوسائط بأنها أمر فطري وضروري لابدّ منه. وبعبارة أخرى: لا يكفي في نفي الشرك وتحقّق التوحيد التام من العبد نفيه الوسائط المخترعة والمقترحة من قبل البشر، بل عليه أن يتوسّل بالوسائل والحجج التي نصبها اللَّه عزّ وجل؛ وذلك لأن مَن يقف عند إنكار الوسائط المقترحة فقط كمَن قال: (لا إله) وسكت من دون أن يذكر المستثنى، حيث إنه يوجب الكفر لا التوحيد، خصوصاً وأن كلمة (لا إله إلّا اللَّه) ليست كلمة للتوحيد في الذات والصفات والأفعال فحسب، وإنما هي توحيد أيضاً في مقام العبادة والخضوع والتوجّه والدعاء، فلا عبادة ولا خضوع ولا توجّه إلّا للَّه تعالى، ومعنى ذلك نفي الوسائط والشفعاء الذين لم يأذن بهم الباري تعالى، فلا إله ولا وله ولا تشفّع ولا تقرّب إلّا بما أثبته اللَّه تعالى، ولا يكفي نفي ونبذ الوسائط المقترحة، بل لابدّ من إثبات الوسائط التي جعلها ونصبها اللَّه عزّ وجل.

والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومون عليهم‌السلام وسائط وأبواب منصوبة من قبل اللَّه تعالى.

والحاصل: إن الشريعة الإسلامية جاءت لنبذ الصنمية، القديمة منها والحديثة، والمغالاة في الأشخاص الذين لم ينصبهم اللَّه تعالى والتوجّه إليهم.

وأمَّا من نصبهم اللَّه عزّ وجلّ وجعلهم وسائط وأبواب، فلابدّ من التوجّه إليهم والتوسّل بهم والانشداد إليهم؛ لأن التوجّه والانشداد إلى الآيات

٣١

والعلامات انشداد وتوجّه إلى مَن له الآيات، وكلّما تنمّر الشخص في الانشداد إليهم وأخلص في الولاء لهم، كلما ازداد توحيده وازداد ولاؤه وانشداده إلى اللَّه تعالى، والعكس بالعكس؛ نظراً لشدّة قربهم إلى الباري، فالاقتراب منهم اقتراب منه والابتعاد عنهم ابتعاد عنه تعالى؛ فإن الآية والعلامة كلّما كانت كبيرة وعظيمة في حكاية ذي الآية فهي نظير المرآة الشديدة زيادة في المعرفة لهوية الحقيقة التي تحكيها المرآة؛ لأنّ طبيعة المرآة والآية عبورية واستطراقية توصّل إلى الحقيقة، والإيصال صفة ذاتية لها لا تنفكّ عنها، وهذه خاصِّية الآيات والوسائل المنصوبة من قبله تعالى.

البيان الثاني: الاختلاف في المراتب الوجودية

وهو بيان عقلي فطري استند إليه آدم عليه‌السلام في توسّله إلى اللَّه عزّ وجلّ بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونه أحبّ الخلق إلى اللَّه تعالى، وكذلك استند إليه إبراهيم عليه‌السلام في استغفاره لعمّه آزر، وهو الحفاوة والحظوة والزلفى عند اللَّه تعالى.

بيان ذلك: هناك ضرورة عقليّة ذكرها الفلاسفة؛ وهي أن اللَّه تعالى وإن كان هو الخالق لكلّ شي‏ء ولا خالق سواه، ولكن إيجاد المخلوقات من قبله تعالى ليس على رتبة واحدة، بل هي ذات مراتب متعدّدة مشكّكة، وهذه ضرورة لابدّ منها، وليس ذلك لعجز في قدرة الباري (تعالى عن ذلك علواً كبيراً)؛ إذ هو على كلّ شي‏ء قدير، وإنما النقص والعجز في طرف القابل والمخلوق؛ وذلك لأنّ شيئيّة الأشياء لا تتقرّر ولا يمكن أن تفرض متحقّقة إلّا بعد إمكانها، فمع عدم إمكانها لا شيئيّة لها، والموجودات والمخلوقات النازلة في الرتبة الوجودية،

٣٢

كالموجودات المادّية مثلاً أو البرزخية، لابدّ لها من سلسلة إعدادات ومخلوقات سابقة، تكون مجاري فيض اللَّه عزّ وجل، والمخلوق السابق في الرتبة الوجودية يكون سبباً لتقرّر إمكان المخلوق اللّاحق، وليس ذلك إلّا لعجز القابل والمخلوق النازل في الرتبة عن التلقّي من اللَّه تعالى بالمباشرة، فلابدّ له من واسطة ومجرىً في الفيض الإلهي لأصل ذاته وكمال صفاته؛ ولذا الإنسان ببدنه المادّي مثلاً لا يتقرّر له إمكان إلّا بعد خلق المعدّات له وتسخير الأرض والسماء والماء والهواء والمخلوقات الحيّة وغيرها، ففي الخلقة المادية توجد إعدادات كثيرة أعدّها اللَّه تعالى وسخّرها للإنسان لكي يعيش حياة ممكنة في هذا الكون، قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) (1) .

ومن هنا ورد من طرق الفريقين أن أوّل ما خلق اللَّه تعالى العقل، أو أوّل ما خلق اللَّه تعالى نور النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) ، ولا تنافي بينهما.

وورد أيضاً أن اللَّه تعالى أبى أن يُجري الأمور إلّا بأسبابها (3) ، فسنّة الخلقة في هذا العالم الإمكاني عن طريق الأسباب والمسبّبات، بجعل المخلوق السابق سبباً لأن يخلق اللَّه تعالى المخلوق اللّاحق بنحو التقدّم والتأخّر الرُّتَبي.

ولا شك أن التقدّم في الرتبة الوجودية بين المخلوقات معناه أن للمخلوق الأسبق رتبة أشرف وأكرم وأقرب إلى اللَّه تعالى من المخلوق اللّاحق، وهو مجرى سيب الباري عزّ وجلّ إليه، وسبب لتفتّح أبواب السماء لتلقّي الفيض.

____________________

(1) الأنبياء: 30.

(2) العجلوني، كشف الخفاء، ج1، ص265، والقندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ج1، ص56، وبحار الأنوار، ج54، ص170.

(3) بصائر الدرجات، ص26، والكافي، ج1، ص183.

٣٣

إذن أصل فكرة الوساطة والسببية والوسيلة سنّة إلهية تكوينية سنّها اللَّه عزّ وجلّ في خلقة الممكنات، وحينئذٍ نقول: إنه ممَّا اتفقت عليه طوائف المسلمين وفرقها أن السنّة التشريعية لا تخالف السنّة التكوينية، فالشريعة تتناسب وتتلاءم مع الخلقة والفطرة التكوينية كما قال تعالى: ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (1) .

وهذا بيان عقلي واضح دالّ على ضرورة التوجّه والتوسّل بالمقرّبين وبالمخلوقات الكريمة على اللَّه تعالى، وهذه هي الحفاوة التي استند إليها آدم وإبراهيم عليهما‌السلام في استغفارهما إلى اللَّه تعالى.

وبعبارة أخرى: إن من المعاني والحقائق الذاتية للقرب والمقرَّب أن الاقتراب إلى المقرَّب (بالفتح) يُقرِّب؛ لأنّه مقتضى قربه، كما أن الابتعاد عنه ابتعاد عمّن هو قريب إليه بمقتضى قربه أيضاً، وهذه القاعدة غير مختصّة بالقرب والبعد المكاني، بل هي مطّردة في كلّ أنماط القرب والبعد على الصعيد المعنوي من كمالات الوجود من العلم والقدرة والحياة والنور. وعلى ضوء ذلك يكون بيان الشرع لكون شي‏ء مقرّب هو بنفسه حضَّاً وتشريعاً للتوسّل به والتقرّب إلى اللَّه بالتوجّه إليه، وهذه الدلالة بديهية فطرية يدركها عامّة البشر بفطرتهم، فإن إعطاء المالك وذو القدرة والعظمة والعزّة لشي‏ء القرب واتخاذه مقرّباً يلازم إعطاءه مقام الشفاعة، فيلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، كما أن إنكار الإذن بالتوسّل والاستشفاع به إنكاراً لكونه مقرّباً، وبالتالي يستلزم الإنكار تكذيب المالك والاعتراض عليه في اتخاذه ذلك الشي‏ء مقرّباً، وكذلك الحال

____________________

(1) سورة الروم 30: 30.

٣٤

فيما إذا أخبر مَن له السلطان والقدرة بأن شخصاً وجيهاً عنده؛ أي ذو حظوة وزلفى لديه وحبيباً له، فإنه إذنٌ وإعطاء لمقام الشفاعة له، ويلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، فجحود التوسّل به جحود لوجاهته وزلفاه.

البيان الثالث: وجوب الاحترام والتعظيم

وهو أيضاً شرح وبيان للحفاوة والأقربية ومعتمد على أصول فطرية جِبِلِّية؛وذلك لأن الأسلوب الجاري والمتّبَع في شرعيّات البشر وأعرافهم وآدابهم العقلائية والاجتماعية عند بعضهم البعض، هو أن طريقة الوفود على شخص يجب أن تكون بالاستئذان من الباب والحُجّاب والشفعاء والوسائل التي تؤدّي إليه، وأن يكون ذلك بمنتهى الأدب والاحترام.

وبعبارة اُخرى: إن الشخص عندما يتوسّل بشخص آخر للدخول على عظيم يُعدّ نوعاً من أنواع الاحترام والتعظيم والتأدّب، وزيادة في إبداء الحرمة والاحترام، فأنت مثلاً عندما تتّخذ المقدّمات والإجراءات اللّازمة وتأتي عن طريق الحُجب والأبواب صيانة لحرمة مَنْ تفد عليه، فإن في ذلك مزيد الأدب والاحترام وإن لم يكن ذلك الطرف محجوباً في نفسه، ولو لم تُراع تلك الإجراءات، فكأنك تكون قد هتكت حريمه. وقد ذمّ اللَّه عزّ وجلّ الذين ينادون النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من وراء الحجرات، وأمر بإتيان البيوت من أبوابها، وأن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأذنوا فيُؤذَن لهم؛ قال تعالى: ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاْتُوا

٣٥

الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1) .

وقال أيضاً عزّ وجلّ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (2) .

وقال تبارك وتعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) (3) .

وجاء في الحديث عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنا مدينة العلم وأنت - يا عليّ - بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها) (4) .

ونجد أن هذا الأدب الإلهي قد قرّره الشارع المقدّس في الوفود على بيت اللَّه الحرام، فجعل الإحرام مقدّمة للتهيّؤ وباباً للتعظيم.

لا يقال: إن الجاري في هذه الأعراف أمور متواضع عليها ولا ربط لها بالحقائق.

فإنه يقال: إن من المقرّر في محلّه أن الاعتبارات العقلائية ليست أموراً جزافية، بل لها مناشئ حقيقية ورابطة تكوينية، وقد أمضى اللَّه تعالى تلك الاعتبارات.

ثم إن اللَّه عزّ وجلّ نصب أبواباً ووجهاء مقرّبين يتوجّه بهم إليه من باب التأدّب مع اللَّه تعالى؛ ولذا عندما يريد الشخص المسلم أن يطلب حاجته من اللَّه تعالى في الدعاء وفي غيره، لابدّ من تقديم الثناء على اللَّه عزّ وجلّ وشكره وحمده،

____________________

(1) البقرة: 189.

(2) النور: 27.

(3)الحجرات: 4.

(4) الحاكم الحسكاني، شواهد التنزيل، ج1، ص106، وكنز العمال، ج13، ص148.

٣٦

ثم يطلب حاجته بعد ذلك كما هو مذكور في كتب الفريقين (1) .

وكما جاء ذلك في سورة الحمد التي يقرؤها الفرد المسلم في اليوم والليلة عشر مرات على الأقلّ؛ حي قُدّم فيها المدح والثناء والشكر والحمد لله تعالى، ثم بعد ذلك يطلب المصلّي والقارئ للحمد حاجته من الهداية وعدم الغواية والضلال.

إذن التوسّل بمَن يكون وجيهاً عند اللَّه من التأدّب والتعظيم للَّه عزّ وجل، والوفود على اللَّه مباشرة من قبل الأفراد العاديين - الذين لا يحرز كون وجوههم مقبولة عند اللَّه تعالى، بل قد يكون مطروداً من ساحة العظمة بسبب ما يقترفه من الذنوب - يعدّ من الكبرياء والجفاء والجفوة مع اللَّه تبارك وتعالى والعتوِّ عليه، وهذا على خلاف الفطرة التوحيدية، بل إن اللَّه عزّ وجلّ ذمّ الذين يصدّون عن الوسائط ويطلبون الارتباط المباشر بالسماء، بما بيّناه في هذا الوجه؛ قال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ) (2) .

فنحن المذنبون المقصِّرون القاصرون عن نيل المقامات الرفيعة يجب أن لا نطلب الحاجة إلى اللَّه تعالى إلّا بعد تقديم المقدّمات والتوسّل بالمقربين والوجهاء المرضيين عند اللَّه عزّ وجلّ، وهذا هو معنى قوله تعالى: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) .

والحاصل: إن التوسّل من مبادئ الأصول الفطرية والأخلاقية، وهو مقتضى

____________________

(1) وسائل الشيعة، ج7، ص81، وابن فهد الحلّي، عدّة الداعي، ص148، وابن حجر، فتح الباري، ج3، ص4.

(2) الفرقان: 21.

٣٧

التواضع والخضوع في التوجّه والوفود على اللَّه تعالى، وفيه زيادة ورفعة في التوحيد؛ لأنّ التواضع حالة توحيدية خالصة، ورفض التوسّل استكبار ورعونة لا تناسب الأدب التوحيدي، ويستنكره العقل ويشجبه العقلاء في تعاملهم.

ولابدّ من التنبيه على أن الآيات القرآنية - كما تقدّم ويأتي في الفصل اللّاحق - لا تثبت أن الوفود على اللَّه تعالى من دون التوسّل بالآيات الإلهية مخلّاً بالأدب مع الحضرة الربّانية فحسب، بل هي تصرّح بامتناع الوفود عليه عزَّ وجلِّ من دون آياته وحججه، وامتناع التوصّل إلى ذاته المقدّسة؛ لقصور في القوابل والاستعدادات.

2 - الدليل التاريخي(السيرة):

لا ريب أن هناك ضرورة إسلامية وقرآنية تؤكّد على أن فصل الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمّداً رسول اللَّه، عن الشهادة الأولى، وهي شهادة لا إله إلّا اللَّه، وإنكارها يُعدّ شركاً وخروجاً عن دائرة التوحيد التام الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الخاتمة.

وعندما نرجع إلى القرآن الكريم نجده يحكم بالشرك والوثنية على الطقوس والمناسك العبادية التي يأتي بها أهل الكتاب، وإن كانوا يدّعون أنهم على دين موسى أو عيسى عليهما‌السلام . وفي الوقت ذاته اعتبر القرآن الكريم عبادة قريش وحجّهم ومناسكهم وصلاتهم تجاه الكعبة من الشرك والجاهلية وعبادة الأوثان.

فالطقوس العبادية القرشية التي يزعمون أنها على ملّة إبراهيم عليه‌السلام كالصلاة

٣٨

إلى الكعبة وحجّ بيت اللَّه الحرام والإتيان بمناسكه كالطواف والسعي والوقوف بعرفات والمزدلفة وسَوق الهدي، كلّها حكم عليها القرآن الكريم بالوثنية والشرك والعبادة لغير اللَّه تعالى، وليس ذلك إلّا لعدم الرجوع إلى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وقطع الصلة به والابتعاد عنه والتخلّي عن ولايته وعدم الخضوع والطاعة له، وعزل الشهادة الثانية وفصلها وبترها عن الشهادة الأولى. فإنّ ذلك كلّه يجعل العبادات والمناسك بأجمعها شركاً ووثنية وجاهليّة؛ كالطواف حول الكعبة مثلاً يعتبر شركاً وطاعة وعبادة لغير اللَّه عزّ وجلّ فيما إذا افتقد الشهادة الثانية والتولّي لنبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله . والفرق بين حجّ المشركين وحجّ المسلمين، هو أن المشركين يأتون بالمناسك من دون الخضوع والتسليم والتولّي لخليفة اللَّه تعالى. وأمَّا المسلمون، فهم يأتون بمناسك الحجّ مع خضوعهم لولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإقرارهم بالشهادة الثانية؛ ولذا كان حجّهم طاعة وعبادة خالصة للَّه عزّ وجلّ.

وقريش إنما خرجت من مغبّة الشرك والوثنية ودخلت الإسلام بإقرارها بالشهادة الثانية وتولّيها للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأخذ عنه والخضوع لطاعته وأوامره.

فليس التوحيد بالاتجاه مباشرة إلى اللَّه تعالى والانقطاع عن الوسائط، ولا الشرك بجعل الواسطة بين العبد وربّه، بل الوثنية والشرك في منطق القرآن الكريم رفض التسليم لولاية خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لأن الوثن والوثنية طاعة غير اللَّه عزّ وجل، والعبد إذا أنكر الواسطة التي نصبها اللَّه تعالى بينه وبين عبيده لا يبقى له مجال وطريق لاستعلام أوامر اللَّه ونواهيه وإراداته وشريعته الحقّة، التي يريد من عبده السير على خطاها.

٣٩

وحينئذٍ لا يكون لذلك العبد المنكر للوسائط إلّا إرادته وهواه وميول نفسه وسلطان ذاته، وهذه هي الوثنية؛ إذ يكون وثنه هواه كما قال تعالى: ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ) (1) .

فالهوى وسلطان النفس وثن من الأوثان وإله من الآلهة وإن لم يكن من الأحجار؛ إذ لا يشترط في الوثن والصنم أن يكون من الحجارة، فإن المسلمين يتوجّهون في عبادتهم إلى أحجار الكعبة ومع ذلك هم موحِّدون ومطيعون للَّه تعالى؛ لكون ذلك عن أمره وإرادته وسلطانه.

والحاصل: إن أي عبادة من العبادات إذا انقطعت عن الخضوع لولاية سيّد الرسل وفقدت تواصلها مع الشهادة الثانية، تدخل حيِّز الشرك والوثنية الجاهليّة كما جاء ذلك في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) (2) ؛ حيث حكم اللَّه تعالى في هذه الآية المباركة بشرك ونجاسة ما يأتي به غير المسلمين من العبادات والمناسك في المسجد الحرام.

ثمّ إن مَن يجحد ولاية أهل البيت عليهم‌السلام بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون حاله كحال مَن جحد ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ مِن بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله كيف يستعلم العبد إرادة ربّه وأوامره؟!

ومِن ثَمَّ يقول الإمام الباقر عليه‌السلام في حجّ مَن لا يؤمن بمودّة وولاية أهل البيت عليهم‌السلام : (فعال كفعال الجاهلية)؛ حيث ورد عنه عليه‌السلام أنه نظر إلى الناس يطوفون

____________________

(1) القصص: 50.

(2) التوبة: 28.

٤٠