الإمامة الإلهية الجزء ٤

الإمامة الإلهية18%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 320

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 320 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99380 / تحميل: 7784
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ولـمـّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم: اتنهينا، اتنهينا.

وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستطع ـ تحت ضغط الظروف ـ أن يقطع مادة الفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة، بل تدرّج في تحقيق التحريم، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.

رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لـمّا نزل تحريم الخمر قال عمر: أللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال: أللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) فكان منادي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اُقيمت الصّلاة ينادي ألّا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: أللّهم بيّن لنا بياناً شافياً، فنزلت:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

قال عمر: اتنهينا، اتنهينا(١) .

ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم: انّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش، وخرج الأعشى إلى رسول الله يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها:

الم تغتمض عينك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنّما

تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا

__________________

(١) سنن أبي داود: ج ٢ ص ١٢٨، مسند أحمد: ج ١ ص ١٥٣، سنن النسائي: ج ٨ ص ١٨٧، مستدرك الحاكم: ج ٢ ص ٢٧٨، إلى غير ذلك من المصادر.

٤١

إلى أن قال:

فإيّاك والميتات لاتقربنها

لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

و لاتقربنَّ حرّة كان سرها

عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا(١)

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسلم فقال له: يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا، فقال الأعشى: والله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب، فقال له يا أبا بصير:

فإنّه يحرّم الخمر، فقال الأعشى:

أمّا هذه فو الله إنّ في النفس منها لعُلالات، ولكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاُسلم، فانصرف فمات في عامه هذا، ولم يعد إلى رسول الله(٢) .

وببالي أنّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له: إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر، فعاد ليتروّى منها، ليعود بعد عام إلى المدينة، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.

وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك المجتمع.

٨ ـ وأد البنات

أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق، والاُخرى يتجنّون بحجّة

__________________

(١) الأرمد: الذي يشتكي عينيه من الرمد، والسليم: الملدوغ، والمسهّد: الذي منع من النوم، والمهدد ـ على وزن معلل ـ: اسم امرأة، وتأبّد: أي تعزّب وابتعد عن النساء.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٨٦.

٤٢

الاجتناب عن العار، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي:

( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل / ٥٨ و ٥٩ ).

والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها لله سبحانه(١) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له، إستنكافاً منه، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان، أم يخفيها في التراب، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.

ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيات ويقول:

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ( الإسراء / ٣١ ).

فالله سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند الله.

وقال سبحانه:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ( الأنعام / ١٥١ )

ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة، قال سبحانه:( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير / ٨ ).

__________________

(١) إشارة إلى قوله سبحانه:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ و ٢٢ ).

٤٣

وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية ـ جد الفرزدق ـ: أنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير واحدة من القبائل آنذاك، وإليك البيان:

إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي المؤودة من القتل، ولـمـّا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا رسول الله إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال: وما عملك ؟ فقال: إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً، فأراد أبوها أن يئدها، قال فقلت له: أتبيعها ؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال: قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين وجمل، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لك أجره إذ منّ الله عليك بالإسلام(١) .

وقد ذكر الفرزدق إحياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال:

ومنّا الذي منع الوائدات

وأحيى الوئيد فلم يؤدد(٢)

ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه:

( وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام / ١٣٧ ).

وكذا قوله:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( الأنعام / ١٤٠ ).

__________________

(١) بلوغ الارب: ج ٣ ص ٤٤.

(٢) المصدر نفسه.

٤٤

٩ ـ أكل الخبائث من الدماء والحشرات

كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية والنطيحة، وما أكل السبع، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.

هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر، بل والديدان والأصداف، وقد اتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك، واشترط في كل واحد من هذه اللحوم نوعاً من التذكية.

والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه، وإليه يشير قوله سبحانه:

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة / ٣ ).

فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.

كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من

٤٥

شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

١٠ ـ التقسيم بالأزلام

كان التقسيم بالأزلام ميسراً رائجاً بينهم، وكان لهذا العمل صبغة الدين، وقد اختلفوا في تفسيره على قولين:

١ ـ قالوا: المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم، وابتداء أُمورهم، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها: « أمرني ربّي »، وعلى بعضها « نهاني ربّي »، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به، ضربوا على تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي »، مضى الرجل في حاجته، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لم يمض، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.

٢ ـ روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر، فقال:

إنّ الأزلام عشرة، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها، فالتي لها انصباء: الفذ، التوأم، المسبل، النافس، الحلس، الرقيب، المعلى. فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستّة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا انصباء لها: السفيح والمنيح والوغد.

وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام، ويدفعونه إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »

٤٦

وهو القمار، فحرّمه الله تعالى(١) .

والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

١١ ـ النسيء في الأشهر الحرم

لقد شاع في الألسن أنّ العرب لـمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني: « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».

والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي، كما هو المستفاد من قول الله تعالى:

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / ٣٦ ).

فإنّ قوله( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين القيّم لا من طقوس العرب الجاهلي، ولعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.

وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.

وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة، ولا يبطلونها برفعها من أساسها واصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيمعليه‌السلام .

فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر، فيحرّمون الحرب في صفر

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ١٥٨ وما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا ب‍ « اليانصيب الوطني ».

٤٧

ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم، وهذا هو المعنى بالنسيء ( أي التأخير ).

وكان الدافع وراء هذا النسيء هو انّهم أصحاب حروب وغارات، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم، ولا يغزون فيها، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر، قال سبحانه:

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٣٧ ).

روى أهل السير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة حجّة الوداع:

« ألا وانّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان »(١) .

والحديث يعرب عن شكل آخر للنسيء غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر، ولكن النسيء المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو أنّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين، وحجّوا في محرّم عامين، ثمّ حجوا في صفر عامين، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام القادم حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فعند ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته ».

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٢٢.

٤٨

١٢ ـ الربا ذلك الاستغلال الجائر

كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين، ويقولون: « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع، ولكن شتّان ما بين البيع والربا، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة، ويفسد الأمن والاستقرار، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.

وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة، وتراكمها في جانب، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.

ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له، ويقول سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / ٢٧٨ و ٢٧٩ ).

ويقول سبحانه:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة / ٢٧٥ ).

والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع، ويقول:( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.

٤٩

وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلّا من مال الغير، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة ثريّة تملك كل شيء، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء، والأُولى تعاني من البطنة، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف

ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس ـ وهما من الخزرج ـ وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول الله » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم ؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

٥٠

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود.

فقال: فأين هو ؟ قال: جالس في الحجر وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلَّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر ؟ لابدّ أن أطوف بالبيت، فقال له: ضع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشّى اُذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسوله اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه فجأة.

فلمّا كان الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أعرفه حتّى أرجع إلى قومي فأخبرهم، ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله: « أنعم صباحاً » فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنّة: السلام عليكم.

فقال أسعد: إنّ عهدي بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى شهادة اَن لاَ إلَه إلّا الله وإنّي رسولُ الله وأدعوكم:

١ ـ إلّاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

٢ ـوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .

٣ ـوَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .

٤ ـوَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .

٥ ـوَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

٦ ـوَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ .

٧ ـوَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .

٥١

٨ ـلا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَهَا .

٩ ـوَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ .

١٠ ـوَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأنعام / ١٥١ و ١٥٢ ).

فلمّا سمع أسعد هذا قال: أشهد أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وإنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، بيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، فلا أحد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن ينعم الله لنا أمرنا فيه، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، كانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له(١) .

إنّ هذا النص التاريخي يدفعنا إلى القول بأنّ رئيس الخزرج كان قد وقف على داء قومه العيّاء، ودوائه الناجع، وإنّ قومه لن يسعدوا أبداً بالتحالف مع هذا وذاك وشن الغارات وإن انتصروا على الأوس، وإنّما يسعدون إذا رجعوا إلى مكارم الأخلاق، وتحلّوا بفضائلها التي جاءت أُصولها في هاتين الآيتين اللتين تلاهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجر إسماعيل.

عرف وافد الخزرج على أنّ مجتمع يثرب ومن والاه قد أشرفوا على الدمار والإنهيار، لأجل أنّهم غارقين في غمرات الشرك، ووأد البنات، واقتراف الفواحش، وقتل النفس المحترمة، وأكل مال اليتيم، وبخس الأموال عند الكيل والتوزين، وترك العدل والقسط في القول والعمل، ونقض عهود الله إلى غير ذلك من الأعمال السيئة فلا يصلحهم إلّا إذا خرجوا عن شراك هذه المهالك والموبقات.

__________________

(١) أعلام الورى بأعلام الهدى: ص ٥٧، وللقصة ذيل جدير بالمطالعة وقد أخذنا منها موضع الحاجة.

٥٢

فخرج إلى يثرب ومعه مبعوث من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعني « مُصعبَ بن عُمير » فبشّر أهل يثرب بما عرف من الحقّ، وصار ذلك تمهيداً لقدوم الرسول الأكرم إلى بلده، بعد ما بعثوا وفوداً إلى مكّة ليتعرّفوا على رسول الله ويبايعوه على ما هو مذكور في السيرة والتاريخ.

فنقول: كان هذا هو موطن النبي ودار ولادته وهذه هي ثقافة قومه وحضارة بيئته، وهذه صفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهذه هي علومهم ومعارفهم، حروبهم وغاراتهم، عطفهم وحنانهم، كل ذلك يعرب عن إنحطاط حضاري، وإنحلال خلقي، كاد أن يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار لو لا أن شاء الله حياتهم الجديدة وميلادهم الحديث.

وأين هذا ممّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبويّة من الدعوة إلى التوحيد، ورفض الأصنام والأوثان، وحرمة النفوس، والأعراض والأموال، والدعوة إلى العلم، والقراءة والكتابة، والحث على العدل والقسط في القول والعمل، والتجنّب عن الدعارة والفحشاء، ومعاقرة الخمر والميسر، فلو دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أنّ ما جاء به من الأُصول لا يمتّ إلى بيئته بصلة.

هذا ما في الذكر الحكيم حول الوضع الإجتماعي والثقافي والعقائدي والعسكري للعرب في العصر الجاهلي وما كانوا عليه من حيرة وضلال، وسقوط وانهيار، فهلمّ معي ندرس وضع العرب الجاهلي عن طريق آخر وهو الإمعان في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام الذي عاين الوضع الجاهلي بأُمّ عينيه، فقد قام الإمام في خطبه ورسائله وقصار كلماته ببيان أحوال العرب قبل البعثة، وما كان يسودهم من الوضع المؤسف، وبما أنّ الإمام هو الصادق المصدّق، نقتطف من كلامه في مجال الخطب والرسائل والكلم القصار ما يمتّ إلى الموضوع بصلة، وفي ذلك غنى وكفاية لمن أراد الحقّ:

٥٣

أ ـ الفوضويّة العقائديّة

١ ـ« وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقةٌ، وَأهْواءٌ مُنتَشِرَةٌ، وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِ بِخَلْقِهِ، اَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ اَوْ مُشِيرٍ إلى غَيْرِهِ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَاَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ » (١) .

٢ ـ« بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الكِبْرِيَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلاَءُ، حَيَارَىٰ فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الجَهْلِ فَبَالَغَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي النَّصِيْحَةِ ومضَىٰ عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا إلى الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ » (٢) .

٣ ـ« والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَزَمَ فِيْهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وتشَتَّتَ الأَمْرُ، وَضَاقَ المَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، وَالعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. اَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ اَعْلاَمُهُ، وقامَ لِوَاؤُهُ. فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِاَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بِاَظْلاَفِهَا، وقامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيْهَا تَائِهُونَ، حَائِرُونَ، جَاهِلُونَ، مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيْرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِاَرْض عَالِمِهَا مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ » (٣) .

٤ ـ« واشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ اَزِمَّةُ الحَيْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى اَفْئِدَتِهِمْ اَقْفَالُ الرَّيْنِ » (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٩٥.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ٢.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٩١.

٥٤

٥ ـ« ثُمَّ اِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ حِيْنَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ، واقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الإِطِّلاعُ، واظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ اِشْرَاقٍ، وقَامَتْ بِاَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وازِفَ مِنْهَا قِيادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَاب مِنْ اَشْرَاطِهَا، وتصَرُّم مِنْ اَهْلِهَا، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وَعَفَاءٍ مِنْ اَعْلاَمِهَا، وتكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا، جَعَلَهُ اللهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وَكَرَامَةً لأمَّتِهِ، وربِيعاً لأهْلِ زَمَانِهِ، ورفْعَةً لأعْوَانِهِ، وَشَرَفاً لأنْصَارِهِ » (١) .

ب ـ الوضع الإجتماعي في العصر الجاهلي

٦ ـ« اَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، واعْتِزَام مِنَ الفِتَنَ وانْتِشَارٍ مِنَ الاُمُورِ، وتلَظٍّ مِنَ الحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الغُرُورِ، عَلَى حِيْنِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وايَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، واغْوِرَاءٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الهُدَى، وَظَهَرَتْ اَعْلاَمُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهِا ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ، وَشِعَارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ، فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ وَاذْكُرُوا تِيْكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ واخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ » (٢) .

ج ـ المستوى الثقافي لأهل الجاهلية

٧ ـ« وَلاَتَكُونُوا كَجُفَاةِ الجَاهِلِيَّةِ، لاَ فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ، وَلاَ عَنِ الله يَعْقِلُونَ، كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي اَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ويخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً » (٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٨.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٨٩.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٦٦.

٥٥

٨ ـ« اَمَّا بَعْدُ فَاِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وَلَيْسَ اَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَيَدَّعِي نُبُوَّةً، وَلاَ وَحْياً » (١) .

د ـ سيادة الوثنية

٩ ـ« فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ اِلَىٰ عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَاَحْكَمَهُ » (٢) .

١٠ ـ« بَعَثَهُ حِينَ لاَعَلَمٌ قَائِمٌ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ » (٣) .

ه‍ ـ العصبية الجاهليّة

١١ ـ« اَضَاءَتْ بِهِ البِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ المُظْلِمَةِ، والجَهَالَةِ الغَالِبَةِ، وَالجَفْوَةِ الجَافِيَةِ، وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيمَ وَيسْتَدِلُّونَ الحَكِيمَ، وَيحْيَونَ عَلَى فَتْرَةٍ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَة » (٤) .

و ـ مأكلهم ومشربهم

١٢ ـ« اِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَاَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَاَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنْيِخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتأْكُلُونَ الجَشِبَ وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ،

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٠٤ و ٣٣.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ١٤٧.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٦.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٥١.

٥٦

وَتَقْطَعُونَ اَرْحَامَكُمْ، الاَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ » (١) .

ز ـ مكانة المرأة في الجاهلية

١٣ ـ كلامه في المرأة الجاهلية مخاطباً عسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين:« وَلاَ تَهِيْجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَاِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ اُمَرَاءَكُمْ، فَاِنَّهُنَ ضَعِيفَاتُ القُوَى والاَنْفُسِ والعُقُولِ، اِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَاِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِالفَهْرِ، أَوِ الهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ » (٢) .

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ٢٦.

(٢) نهج البلاغة، الكتاب رقم ١٤ من وصيّته لهعليه‌السلام .

٥٧
٥٨

(٣)

ميلاد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

أو

تبلّج النور في الظلام الحالك

إنّ التعرّف على حياة النبي يتوقّف على دراسة مراحل ثلاث تشكّل فصول عمره المبارك وهي:

١ ـ من ولادته إلى بعثته.

٢ ـ من بعثته إلى هجرته.

٣ ـ من هجرته إلى رحلته.

إنّ أصحاب السير والتواريخ درسوا الفصول الثلاثة على ضوء الروايات والأحاديث التي تلقّوها عن الصحابة والتابعين، ونحن ندرسها على ضوء القرآن الكريم، فنقول:

إتّفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم ولد عام الفيل، وهي السنة الّتي عمد أبرهة إلى تدمير الكعبة وهدمها ولكنّه باء بالفشل وهلك هو وجنوده بأبابيل، كما يحكي عنه قوله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) ( الفيل / ١ ـ ٥ ).

ومن أراد الوقوف على تفصيل القصّة فعليه المراجعة إلى كتب السيرة والتفسير والتاريخ.

٥٩

ويظهر ممّا أخرجه مسلم أنّ هذا اليوم يوم مبارك، قال: إنّ أعربياً قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الإثنين ؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه، واُنزل عليّ فيه(١) .

لم يذكر القرآن ما يرجع إلى المرحلة الاُولى من حياته إلّا شيئاً قليلاً نشير إليها إجمالاً:

١ ـ عاش يتيماً فآواه سبحانه.

٢ ـ كان ضالاًّ فهداه.

٣ ـ كان عائلاً فأغناه.

٤ ـ كما ذكر أسماءه في غير واحد من السور.

٥ ـ جاءت البشارة باسمه « أحمد » في الإنجيل.

٦ ـ كان أُمّياً لم يدرس ولم يقرأ ولم يكتب.

٧ ـ كان قبل البعثة مؤمناً موحّداً عابداً لله فقط.

فإليك البحث عن هذه الاُمور واحد بعد آخر:

١ ـ الإيواء بعد اليُتمْ

ولد النبيّ الأكرم من والدين كريمين فوالده عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.

واتّفقت الإماميّة والزيديّة وجملة من محقّقي السنّة على أنّه كان موحّداً مؤمناً.

ويستدل من صفاته المحمودة، وفضائله المرموقة، والأشعار المأثورة، على

__________________

(١) مسند أحمد: ج ٥ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٩، والسنن الكبرى للبيهقي: ج ٤ ص ٢٩٣، وصحيح مسلم ـ كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ج ١ ص ٩٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

بل إن بقية الأعمال لا تقبل ولا يثاب عليها الإنسان إلّا بالإيمان، فإذا كان الإيمان أعظمها، والإيمان هو الإيمان باللَّه ورسوله واليوم الآخر، بل إن الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الهادي إلى حقيقة التوحيد، فيكون الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من أعظم ما يتوسّل به إلى اللَّه عند الدعاء وعند العبادة وعند التوجّه إلى الحضرة الإلهية، فهذا يقتضي كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم وسيلة؛ لأن الإيمان إنما حاز هذا الشرف العظيم ومكان الوساطة والوسيلية إلى اللَّه تعالى ببركة تعلّق الإيمان بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ شرف المعرفة بالمعروف الذي تعلّقت به المعرفة، كما أن شرف العلم بالمعلوم الذي تعلّق به العلم، فذات المعلوم والمعروف أشرف من العلم والمعرفة المتعلّقة بهما، ومن شرف ذات المعلوم المعروف ترشّح شرف العلم والمعرفة، فهذا يقضي بالضرورة أن أعظم الوسائل هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ومن ثم نُعت في القرآن الكريم بأنه رحمة للعالمين، وهذا ما أشارت إليه الأدلّة المتضافرة من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله صاحب الوسيلة الكبرى والشفاعة العظمى.

ولكي تكون الإجابة واضحة لابدّ من التأمل في مفاد الآية المباركة، وذلك ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى: ما هو المراد من الوسيلة؟

لقد جاء التعبير في الآية الكريمة هكذا ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ولم يقل اللَّه عزَّ وجل: (وابتغوه بالوسيلة)، وليس ذلك إلّا للتنبيه على أن الذي يُبتغى ويُقصد لطلب الحوائج هو الوسيلة، التي تكون واسطة في الفيض بين العبد وربّه، ومعنى الآية المباركة وابتغوا الوسيلة إليه، فالابتغاء والقصد والتوجّه بالوسيلة

٢٦١

إلى اللَّه عزَّ وجل، ولا تتحقّق البُغية إلى اللَّه تعالى إلّا بالوسيلة؛ ولذا لابدّ من تحديد ما هو المراد من الوسيلة.

إن روايات الفريقين متّفقة على أن الوسيلة مقام من المقامات المشهودة والسامية للنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي على طوائف متعدّدة:

منها: الطائفة التي فسّرت الوسيلة بالمقام المحمود ومقام الشفاعة المختصّ بالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (سلوا لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد اللَّه وأرجو أن أكون أنا هو، فمَن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة) (١) ، وقد فهم بعض الشرّاح من هذا الحديث أن المقصود من الوسيلة فيه هي الشفاعة ذاته (٢) .

ولا شك أن الروايات نصّت على أن الشفاعة هي المقام المحمود، فالشفاعة التي هي المقام المحمود لا تحلّ على الشخص إلّا بسؤال ذلك الشخص مقام الوسيلة للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومنها: الطائفة التي يظهر منها أن مقام الوسيلة والشفاعة والمقام المحمود مناصب متعدّدة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن قال حين يسمع النداء: اللّهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إلّا حلّت له شفاعتي يوم القيامة) (٣) ، وظاهر هذه الرواية تغاير المقامات الثلاثة وهي الوسيلة والمقام المحمود والشفاعة.

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة منبر من نور ينصب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

____________________

(١) مسند أحمد، ج٢،ص١٦٨.

(٢) المبارك فوري، تحفة الأحوذي، ج١٠، ص٥٧.

(٣) سنن النسائي، ج٢، ص٢٧.

٢٦٢

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث له مع أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال: (إذا جمع اللَّه الأوَّلين والآخرين يوم القيامة وُضع لي منبر بين الجنة والنار من نور، لذلك المنبر مائة مرقاة وهي الدرجة الوسيلة، ثم تحفّ بالمنبر النبيّون ثم الوصيّون ثم الصالحون ثم الشهداء، ثم يجاء إليّ، فيقال لي: يامحمّد، قم فاَرْقه. قال: فأرقي حتى أصير في أعلى مرقاة من المنبر) إلى أن قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ثم يقال لك: إرقَ ياعليّ، فترقى يا أبا الحسن حتّى تصير أسفل منّي بمرقاة، فأناولك يميني وأقعدك على جنبي الأيمن، وأقول: هذا الموقف الذي وعدني ربّي أنه يعطني فيك) (١) .

وعن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (وفوق قبّة الرضوان منزل يقال له: الوسيلة، وليس في الجنّة منزل يشبهه، وهو منبر رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (٢) .

ومنها: الروايات التي ذكرت أن مقام الوسيلة مقام حظوة وحبوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويطول المقام بذكرها فلا حاجة إلى استعراضها، وبعض الروايات المتقدّمة فيها إشارة إلى ذلك.

ولا يوجد أي تنافي بين هذه الطوائف من الروايات؛ حيث إنها تثبت للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مقاماً خاصّاً لا يدركه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وهذا المقام في جهة من جهاته يسمّى بالمقام المحمود وفي أخرى يسمّى بالوسيلة وفي ثالثة يسمّى بالشفاعة، وهذا أيضاً لا يتقاطع مع كون مقام الوسيلة منبر من نور؛ لأن التعبير بذلك للدّلالة على حظوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحمد مقامه عند اللَّه عزَّ وجلَّ في ذلك اليوم العصيب، الذي يكون فيه كلّ الأنبياء على جانب عظيم من الوجل

____________________

(١) محمّد بن سليمان الكوفي القاضي، مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ج١، ص٢٠٠، والذهبي، ميزان الاعتدال، ج٢، ص٢٥.

(٢) النعماني، كتاب الغيبة، ص١٠١.

٢٦٣

والشفقة والخشية، والكلّ يستغيث: وانفساه. والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في تلك الحال وجيه عند اللَّه عزَّ وجلَّ على منبر من نور، صاحب حظوة ومكانة دون باقي البشر. فالمنبر كناية عن الوجاهة والقرب والزلفى والواسطة والشفاعة وأنه يُتوسّط به إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ويستغاث به للنجاة من النار، فهو صاحب الشفاعة الكبرى، وهو القائل: (ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي) (١) .

النقطة الثانية: الرابطة بين الشفاعة والتوسُّل

قلنا في النقطة السابقة أن المقام المحمود هو الشفاعة، كما نصّت على ذلك الروايات (٢) ، وأشرنا أيضاً إلى أن الاستشفاع بشفاعة الشفيع والتوسّل بالوسيلة وجهان لمقام واحد، ونريد الوقوف قليلاً عند هذه الحقيقة، فإن تفرقة المتكلمين والفقهاء بين الشفاعة والتوسّل صحيحة من جهة وخاطئة من جهة أخرى؛ وذلك لأن التوسّل والشفاعة وجهان لحقيقة واحدة لا ينفصلان عن بعضهما البعض، فالتوسل هو فعل صاحب الحاجة عند الشفيع، والشفاعة هي فعل الشفيع بينه وبين المشفوع عنده، فإذا لاحظنا جهة العلاقة والرابطة بين طالب الشفاعة والشفيع يقال: توسّل واستشفاع، وإذا لاحظنا نفس العملية ولكن من جهة الرابطة بين الشفيع والمشفوع عنده، فيقال لذات تلك العملية: شفاعة، فالوسيلة تتلوها الشفاعة والشفاعة يتلوها قضاء الحوائج وغفران الذنوب.

وإذا كان المسلمون قد أجمعوا على ثبوت المقام المحمود والشفاعة

____________________

(١) ابن كثير، البداية والنهاية، ج١٠، ص٢٥٤.

(٢) لاحظ: مسند أحمد، ج٢، ص٤٧٨، المعجم الكبير للطبراني، ج٢، ص٤٨.

٢٦٤

الكبرى للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو يستلزم إجماعاً آخر؛ وهو: جواز التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن غفل شرذمة عن هذا اللازم.

فإذا جازت الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو فعل يقوم به بالإضافة إلى اللَّه عزَّ وجلَّ في حقّ أصحاب الحاجات، فبالتالي سوف يكون التوسّل راجحاً ومشروعاً لا محالة؛ لعدم تصوّر انفكاك مشروعية الشفاعة عن مشروعية التوسّل؛ لأن التوسّل متعلّقه طلب الشفاعة فإذا كانت الشفاعة مشروعه كيف يكون طلب المشروع غير مشروع؟!، بل حيث إن معتقد الشفاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دين من أسس الإيمان، فلا محالة يكون التوسّل معتقد ديني من أسس الإيمان أيضاً، بل حيث كانت الضرورة قائمة على ثبوت مقام الشفاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا محالة الضرورة قائمة أيضاً على أن التوسّل من أركان العبادات.

فالذهاب إلى الوسيط وطلب توسيطه في قضاء الحاجة توسّل وعمل الوسيط شفاعة، والشفع هو الضمّ، فيضمّ الوسيط جاهه إلى حاجة المتوسل فيقضيها المشفوع عنده، فالتوسّل من مقوّمات الدعاء والتوجّه للحضرة الإلهيّة.

إذن؛ دليل التوسّل القول بمشروعية وضرورة الشفاعة بقول مطلق.

وبناء على ذلك يكون عقد بابين مستقلّين للتوسل والشفاعة من المماشاة للغفلة التي وقع فيها أصحاب المقالة الجاحدة لعقيدة التوسّل، وإلّا فإن باب الشفاعة لا يمكن أن ينفك عن باب التوسّل؛ لأن التوسّل هو طلب التشفّع.

النقطة الثالثة: عموم تشريع الشفاعة

حاول أصحاب هذه المقالة تحديد نطاق الأدلة الدالة على تشريع شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قالوا تارة بأن الشفاعة في دار الدنيا لا تجوز إلاّ إذا كان

٢٦٥

النبي الأكرم حيَّاً في هذه الدنيا. وأمَّا بعد وفاته، فلا مشروعية للشفاعة إلّا يوم القيامة دون الشفاعة في الدنيا أو البرزخ، وقالوا أخرى بأن متعلّق الشفاعة طلب الغفران من الذنوب، وليس طلب الحاجات الدنيويّة، كشفاء المريض وغيره.

أمَّا المزعمة الأولى؛ من أن الشفاعة في الآخرة فقط أو مع حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي مبتنية على أن الشرك بالنصّ وعدم النصّ، مع أن الشرك من مدركات العقل وأحكامه، وهي غير قابلة للتخصيص، فإذا كان التشفّع شركاً، فلابدَّ أن يكون كذلك في جميع النشآت وسواء كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله موجوداً في دار الدنيا أم بعد وفاته. فالتفرقة لجوء منهم إلى النصّ وأن الشرك ليس له حدّ عقلي منضبط، وهو خلاف ما عليه علماء المسلمين، من أن الشرك إمَّا بحثه عقلي أو عقلي ونقلي وليس هو نقلياً محضاً، هذا أولاً .

وثانياً: مع فرض أن دليل مشروعية الشفاعة نقلي، فلا دليل على الاختصاص بيوم القيامة؛ لأن الآية مطلقة، فقوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) شامل لِمَا بعد وفاة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّ عند ربّه يرزق. مضافاً إلى قوله تعالى: ( قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ناظر للأعمال، والآية الكريمة مطلقة والمخاطب بها كلّ الأجيال، ولو بني على اختصاص الأحكام التي تعلّقت بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على خصوص حياته في دار الدنيا ونفي شمولها لحياته عند ربّه لاستلزم ذلك تعطيل جملة الآيات والأحكام في الدين الحنيف، ولَمَا قامت للدين قائمة، نظير قوله تعالى: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ

٢٦٦

فَانْتَهُوا ) (١) وقوله تعالى: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (٢) وقوله تعالى: ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٣) وغيرها من الآيات والأحكام، فعلى زعمهم الواهي لابدّ أن تُخصّ هذه الآيات بخصوص حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله في دار الدنيا دون حياته في عند ربّه.

وقد وردت روايات متضافرة تنصّ على أن الأعمال تُعرض على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم أو كلّ يوم خميس أو جمعة، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يسمع السلام ويردّه، ويصلّي على مَن يصلّي عليه.

فما ذكر من الاختصاص بيوم القيامة باطل عقلاً ونقلاً.

وأمَّا المزعمة الثانية ؛ وهي أن متعلّق الشفاعة طلب الغفران لا الحاجات الدنيوية؛ فالجواب عنها:

أولاً: ما ذكرناه آنفاً من إطلاق الآية المباركة، فإن متعلّقها شامل للمسائل الدنيوية أيضاً ولا دليل على التخصيص بما ذكروه.

و ثانياً: إذا صحّت المقايسة التي زعموها، فإن الحاجات الدنيوية أهون على اللَّه تعالى من حاجات الآخرة، فكيف يعقل أن الشفاعة تنفذ فيما هو أكثر خطورة وهي الحياة الأبديّة، دون ما هو أقلّ خطورة وهي الحياة الدنيوية المنقطعة؟! وكيف يكون الثاني شركاً دون الأوّل؟!

ثم إن سيرة المسلمين وكذا الصدر الأول منهم تتنافي مع ما ذكره؛ حيث

____________________

(١) الحشر: ٧.

(٢) المائدة: ٥٥.

(٣) الأعراف: ١٥٧.

٢٦٧

أثبتت كتب المسلمين - كما سيأتي - توسّل المسلمين بالنبي الأكرم بعد وفاته أيضاً، وسيرتهم إلى يومنا هذا جارية على التوسّل في طلب حاجاتهم الدنيوية، ولا يقتصرون في ذلك على طلب الحاجات الأخرويّة فقط.

وكذا ليس متعلّق الشفاعة غفران الذنوب والنجاة من النار فحسب، بل حتى في الرقيّ في المراتب والمقامات، فالشخص يحتاج إلى الشفاعة لعدم الأهلية في عمله للصعود إلى مقام أعلى، كما ورد ذلك في توسّل الأنبياء بسيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو صلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع أيضاً للأئمة المعصومين عليهم‌السلام لرفع مقامهم ودرجتهم إلى مقامه ودرجته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذن متعلّق الشفاعة وسيع يشمل النجاة من النار وغفران الذنوب ورفع المقامات وقضاء الحاجات وغيرها، فالشفاعة بإذن اللَّه تعالى متعلّقها مطلق موارد فيض الباري عزَّ وجل.

و ثالثاً: ما ورد من وصف النبي موسى وعيسى عليهما‌السلام بأنهما وجيهان عند اللَّه عزَّ وجل، كما في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ) (١) ، وكذا قوله تعالى: ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (٢) ، وهذا البيان ليس خاصاً بموسى وعيسى عليهما‌السلام ، بل هو شامل على أقل تقدير لأنبياء أولي العزم، خصوصاً سيّد المرسلين وخاتمهم وأفضلهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الذين أُورثوا علم الكتاب

____________________

(١) الأحزاب: ٦٩.

(٢) آل عمران: ٤٥.

٢٦٨

كلّه، بل قد أشير إلى ذلك في تشريع القبلة، وأنها رغم كونها وجهاً للَّه تعالى يتّجه إليه المصلّي في اتجاه استقباله في الصلاة، إلّا أن الغاية منها هي الانقياد والخضوع لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله والولاية له، وهو يؤدّي للأوبة للَّه تعالى، حيث قال تعالى: ( وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (١) وقال تعالى أيضاً: ( أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) (٢) وقال تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) (٣) ، وللتعبير بالوجيه مدلولان إلتزاميان عقلي ونقلي:

أمَّا العقلي؛ فلأن اللَّه عزَّ وجلَّ منزّه عن الجسمية والمقابلة والمجابهة المادّية، فلابدّ من وجه يتوجّه به إليه، فالوجيه معناه هو وجه اللَّه الذي يتقرّب به إليه وآيته الدالّة عليه، التي لابدّ أن تُوسّط وتُشفّع في التوجّه.

وأمَّا النقلي؛ فهو ما ورد من أن زكاة الوجاهة الشفاعة في الخيرات.

إذن؛ الشفاعة والوساطة مدلول إلتزامي عقلي ونقلي لمفهوم الوجاهة، فالوجيه هو الشفيع والوسيلة والواسطة بين العبد وربّه.

ومقتضى إطلاق كون الأنبياء عليهم‌السلام وجهاء عند اللَّه عزَّ وجلَّ هو كونهم شفعاء في الخيرات وقضاء الحوائج الدنيوية والأخروية، ولا تختصّ وجاهتهم وشفاعتهم بغفران الذنوب فقط. ومعنى ذلك أيضاً أن الأنبياء وجهاء عند اللَّه وشفعاء في كلّ الأزمان والأدوار، من دون اختصاص بيوم القيامة أو قبل وفاة النبي؛ وذلك لإطلاق الآيات الدالّة

____________________

(١) البقرة: ١٤٤.

(٢) البقرة: ١١٥.

(٣) البقرة: ١٤٣.

٢٦٩

على الوجاهة التي تلزمها الشفاعة عقلاً ونقلاً.

والحاصل:

إن الوسيلة في الآية التي ذكروها هو مقام الشفاعة الكبرى للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّضح أن الوسيلة والشفاعة وجهان لمقام واحد، واتّضح أيضاً أن الشفاعة والتوسّل ركن من أركان الدين قائم في الدنيا والآخرة، سواء كان النبي حيّاً في دار الدنيا أم عند ربّه تعالى بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا الشفاعة منصوبة في ديانة الإسلام لطلب الحوائج الدنيوية وغيرها.

وممّا يبرهن على عموم شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكلّ النشآت والعوالم ولعموم الأمور ما مرَّ في قوله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النبيينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ‏لَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (١) ، حيث مرَّ في الفصل الثالث أن الآية تبيّن مشارطة اللَّه ومواثقته على النبيِّين في إعطائهم مقام النبوة والرسالة والمقامات الغيبية أنهم إنما يستأهلوها ويستحقّوها إذا آمنوا بخاتم النبيين والتزموا بنصرته واتباعه وأقرّوا على أنفسهم بذلك، فالآية تبيّن أن سيد الأنبياء صاحب الوسيلة لجميع المخلوقات، بل ولأشرف المخلوقات وهم الأنبياء والرسل، وأنهم إنما نالوا المقامات الكبرى الغيبية من النبوّة والرسالة والحكمة بالتوسّل بذيل ولاية سيد الأنبياء وأهل بيته المعصومين، مع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُخلق بدنه حينذاك، وإنما خُلق نوره وأنوار أهل بيته قبل خلق السماوات والأرض وخلق الأنبياء، كما أشارت إلى ذلك

____________________

(١) آل عمران: ٨١.

٢٧٠

سورة النور والروايات من الفريقين، حسب ما تقدّم في الفصل الثالث.

فالآية ترصد أعظم ملحمة في الخِلْقة والخليقة لأعظم توسّل بأعظم متوسَّل به لأعظم حاجة، وكفى بذلك بشارة للمؤمنين بهذا الركن العظيم في الدين، ونذارة للجاحدين.

وأخيراً نقول:

إذا كانت الأعمال كما قالوا تُزلف وتُقرّب العبد إلى اللَّه عزَّ وجلَّ وهي فيها ما فيها من عدم الخلوص وخلطها بالصالح والطالح، فكيف ظنُّك بمقام سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

فالعمل موجود مخلوق وكذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن لا قياس ولا نسبة بينهما في الوجاهة والقرب إذا توسّل بهما العبد.

الشبهة الخامسة: التوحيد الإبراهيميّ يأبى التوسّل بغير اللَّه

وذلك ما ورد في الحديث أن إبراهيم عليه‌السلام حين أُلقي في النار (عرض له جبرئيل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أمَّا إليك فلا، وأمَّا من اللَّه فبلى) (١) ، (قال جبرئيل: فسل ربّك، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال اللَّه عزَّ وجل: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) (٢) فالنبي إبراهيم عليه‌السلام في هذا الحديث يحصر التوجّه في الحاجات إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ويرفض كلّ واسطة ولو كانت بمنزلة جبرئيل عليه‌السلام ، وهذا هو النفس التوحيدي الصحيح من مؤسّس

____________________

(١) تفسير ابن كثير، ج٣، ص١٩٣.

(٢) ابن الجوزي، زاد المسير، ج٥، ص٢٥٤.

٢٧١

التوحيد ومكسِّر الأصنام ومجاهد الوثنية إبراهيم عليه‌السلام ، إذ لم يوسّط حتى جبرئيل في طلب حاجته.

إذاً لابدّ من نفي الشرك في الواسطة وطلب الحاجة؛ إذ لا حجاب بين اللَّه وبين خلقه، ولم يتّخذ اللَّه تعالى أصناماً ولا أحجاراً ولا أشخاصاً ليُتوجّه بها إليه.

الجواب عن الشبهة الخامسة:

وهو ما يتعلّق بقصة إبراهيم عليه‌السلام عندما أُلقي في النار، وما جرى بينه وبين جبرئيل، حيث إن جبرئيل عليه‌السلام تدارك إبراهيم وهو في حال الهويّ في النار، وهي حالة عصيبة جدّاً، ولكن مع ذلك عندما عرض جبرئيل عليه‌السلام عليه قضاء حاجته وتخليصه من محنته، قال عليه‌السلام : (علمه بحالي يغني عن سؤالي)، فقالوا: إن نفس عدم سؤال إبراهيم عليه‌السلام من جبرئيل معناه أن السؤال والاستغاثة بغير اللَّه تعالى غير جائزة.

الردّ الأول: إن أي حادثة من الحوادث تتضمّن دائماً ملابسات تحفُّ بها لابدّ من معرفتها؛ لمدخليتها في استيضاح سياق تلك الحادثة، وفي المقام مسائلة جبرئيل عليه‌السلام للنبيّ إبراهيم عليه‌السلام من أجل امتحانه وابتلائه وتفقّد رسوخ إيمانه وطمأنينته ورباطة جأشه؛ ولذا قال له: (أمَّا إليك فلا) ليبيّن له أنه ليس في مقام طلب الحاجة والخوف والهلع وإنقاذ الموقف، وأنه مطمئن النفس ثابت الإيمان متوكّل على ربّه.

ويعزَّز هذه الدعوى قول إبراهيم عليه‌السلام لجبرئيل عليه‌السلام : (علمه بحالي يغني عن سؤالي) مع أن السؤال والدعاء مرغوب فيه ومحبّب عند اللَّه عزَّ وجل، وقد حثَّ

٢٧٢

القرآن الكريم في آيات عديدة على السؤال والدعاء وطلب قضاء الحاجة من اللَّه تعالى، وقد توعّد اللَّه تعالى المستكبر على عبادته ودعائه باللسان والقول.

إذن؛ الدعاء من الأمور المرغوب فيها والمأمور بها، ومن الواضح المتّفق عليه أن الرواية في المقام لا تريد أن تقول أن الدعاء باللسان أمر مرجوح ومرغوب عنه، بل إن الدعاء وطلب الحاجة بالقول واللسان من الآداب الإلهية، وقد قال اللَّه تعالى لنبيّه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) (١) وحاشا النبي إبراهيم عليه‌السلام أن يخرج عن أعظم الآداب الإلهية ولا يتقيّد بها؛ إذ الدعاء أعظم العبادات وروحها.

فهذا شاهد بيّن دامغ على أن كلام إبراهيم عليه‌السلام بحسب السياق في مقام آخر، وهو مقام الامتحان للثبات على الإيمان والطمأنينة به.

أراد إبراهيم عليه‌السلام باكتفائه بعلم اللَّه عزَّ وجلَّ بحاله أن يبيّن لجبرئيل عليه‌السلام أنه ليس على وَجَل واضطراب، ويظهر له الثبات والحزم الذي هو عليه في الحقيقة والواقع.

ودعاؤه عليه‌السلام في خصوص ذلك الظرف والمقام قد يكون كاشفاً عن الوجل والتزلزل وعدم الطمأنينة، فهو عليه‌السلام لكمال ثباته وتوكّله على اللَّه تعالى أظهر ما هو عليه من رباطة الجأش والحزم وقوّة الإيمان.

فصدر الجواب وذيله هما في هذا المقام الذي ذكرناه.

الردّ الثاني:

قد يقال هنا أن إبراهيم عليه‌السلام لم يستنجد بجبرائيل عليه‌السلام ولم يسأله لأنه أفضل منه؛ وذلك إن مقام أنبياء أولي العزم أفضل من مقام الملائكة الذين أسجدهم

____________________

(١) طه: ١١٤.

٢٧٣

وأطوعهم لآدم، وقد ورد في روايات الفريقين أن جبرئيل عليه‌السلام في مواطن عديدة لم يتقدّم على آدم لكونه مسجود الملائكة، ففي هذه الحالة يكون مقام السائل أرفع شأناً من مقام المسؤول، ونحن محلّ كلامنا فيما إذا كان السائل يتقرّب بواسطة المسؤول ويتوسَّل به إلى اللَّه عزَّ وجل، وإذا كان السائل أقرب مقاماً من المسؤول، فلا معنى للتوسّط والتشفّع والزلفى.

الردّ الثالث : أنه ينقض عليهم بموارد:

منها: أن الجاحدين للتوسّل يقرّون بأن الضرورة قائمة في الدين - كما تقدّم - على ثبوت الشفاعة الكبرى لسيد الأنبياء يوم المعاد، وأنه يستشفع به صلى‌الله‌عليه‌وآله للنجاة الأبدية، فإذا كان الاستشفاع شركاً - حسب زعمهم - وخلاف منهج التوحيد الذي هو ملّة إبراهيم الحنيف، فكيف يسمح الباري بوقوعه يوم القيامة، ويُبشِّر به نبيّه، وأنه يعدّه الباري مقاماً محموداً؟!

و منها: ما تقدّم من استشفاع آدم بسيد الأنبياء، فهل يظن بنبي اللَّه وصفوته مجانبة طريق التوحيد؟!

الشبهة السادسة: التوسّل يعني التفويض وعجز اللَّه تعالى

قد يطرح هنا إشكال حول التوسّل بالوسائط، وهو دعوى أن الاعتقاد بالوسائط والتوسّل بها لاستدرار الفيض الإلهي قد يوجب اعتقاد العجز في قدرة اللَّه تعالى، وممَّا لاشك فيه أن الباري عزَّ وجلَّ واجب بالذات وغني عن العالمين، فلابدّ من رفض الوسائط في التوجّه إلى اللَّه عزَّ وجل.

٢٧٤

وبعبارة أخرى: إن السؤال والتوسّل والتوجّه إلى غير اللَّه تعالى يستبطن التفويض والغلو وبالتالي يؤدّي إلى الشرك؛ لأن التوسّل يتضمّن إسناد بعض الصلاحيات الإلهية إلى الوسائل، وهو يعني إثبات العجز إلى قدرة الباري تعالى، وهو التفويض والغلو الباطل.

الجواب عن الشبهة السادسة:

في مقام ردِّ هذه الشبهة نجيب بعدَّة أجوبة:

الجواب الأول: قصور الجاحدين للتوسّل عن معرفة التوحيد في الأفعال

إن اللَّه عزَّ وجلَّ إذا أقدر مخلوقاً من المخلوقات على بعض الأمور، فهو لا يعني سلب القدرة عنه تعالى في تلك الأمور، ولا يعني أيضاً عزله عن صفاته التي منها الصفات التي أعزاها إلى كلماته ووسائطه، فلا تجافي ولا عزلة في البين؛ لأن التجافي والعزلة من أحكام المادّة.

إذن؛ الباري تعالى لا يتجافى ولا ينعزل عن القدرة التي أقدر بعض الموجودات عليها، بل هو أقدر من تلك الوسائط على ما أقدرها عليه.

ويقول الإمام زين العابدين عليه‌السلام في هذا المقام: (إن اللَّه تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة، ويهمل العباد في الهلكة، ولكنَّه المالك لِمَا ملّكهم والقادر لِمَا عليه أقدرهم) (١) .

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصفه للَّه عزَّ وجل: (لا تشبهه صورة ولا يحسّ بالحواس ولا يقاس بالقياس، قريب في بعده بعيد في قربه، فوق كلّ شي‏ء ولا

____________________

(١) علي بن بابويه، فقه الرضا عليه‌السلام ، ص٤٠٨.

٢٧٥

يقال: شي‏ء تحته، وتحت كلّ شي‏ء ولا يقال: شي‏ء فوقه، أمام كلّ شي‏ء ولا يقال له: أمام، داخل في الأشياء لا كشي‏ء في شي‏ء داخل، وخارج من الأشياء لا كشي‏ء من شي‏ء خارج، فسبحان من هو هكذا، ولا هكذا غيره، ولكلّ شي‏ء مبتدأ) (١) .

والحاصل: إن أقدار اللَّه عزَّ وجلَّ وكلَّ عطية إلهية يجود بها على مخلوقاته ليس تمليكها تمليكاً عزلياً وبنحو التجافي، وإنما هو تمليك قيّومي إحاطي، فهو عزَّ وجلَّ محيط بكلّ شي‏ء وقيّوم على كلّ شي‏ء، وهو المالك لِمَا ملّكهم والقادر لِمَا عليه أقدرهم، بل إن التمليك بعينه مخلوق من المخلوقات والمُعطى والعطية كلّها قائمة باللَّه تعالى حدوثاً وبقاءً، فكيف يستقل المخلوق في فعله وهو محتاج في ذاته ومفتقر إلى قيوميّة الباري تعالى؟!

وهذا يعني أن ذات المخلوق وفعله وتمكينه وتمليكه وإقداره على بعض الأمور كلّها بحول اللَّه وقوته، ولا يخرج عن حيطة قيوميّته، فلا مجال للتفويض العزلي في عالم الخلقة والإمكان، وليست الوسائط إلّا مجارٍ لفيض اللَّه عزَّ وجلَّ وقدرته؛ لأجل عجز بعض القوابل عن التلقّي عن اللَّه تعالى مباشرة.

الجواب الثاني: الجاحدين للتوسّل بنوا جحودهم على التفويض الأكبر

إن هذه الشبهة التي ذكروها تستبطن التفويض والغلو في المخلوق؛ لأنها مبتنية على دعوى أن المخلوق مستقلّ عن خالقه في الوجود بقاءً، وأن اللَّه تعالى عندما ملّك وأقدر بعض الموجودات المادّية على بعض

____________________

(١) البرقي، المحاسن، ج١، ص٢٤٠، والصدوق، التوحيد، ص٢٨٥.

٢٧٦

الأفعال الحياتية اليوميّة، كقدرة الشخص على تحريك أعضائه مثلاً باختياره، انعزلت قدرته عن تلك الأفعال. فإنهم في شبهتهم المذكورة افترضوا أن إقدار اللَّه عزَّ وجلَّ وتمليكه بعض الأفعال لبعض المخلوقات وأنها استقلال للمملوك عن المالك، كاستدرار الفيض الإلهي عن طريق الوسائط تفويض وغلو في تلك المخلوقات، وحيث إنه ممَّا لا ريب فيه أن اللَّه تعالى - كما هو المشاهد حسّاً والمعلوم وجداناً - أقْدَرَ الموجوداتِ المادّيةَ على الكثير من الأفعال التي نراها يومياً، فإنه يقتضي اعتقادهم بمقالة المعتزلة التفويضية المغالية، وهي أن المخلوق محتاج إلى الخالق حدوثاً لا بقاءً، وأن اللَّه تعالى بعد أن خلق الموجودات انعزلت قدرته عنها في البقاء (والعياذ باللَّه).

ولا فرق بين فعل وفعل من الناحية العقلية، فإذا كان التوسّل وجعل الوسيلة والشفاعة لبعض المخلوقات يوجب التفويض العزلي، فكذلك إقدارهم على أفعالهم الحادثة اليومية لابدّ أن يكون أيضاً محكوماً بقانون التفويض العزلي، وأن اللَّه تعالى انعزل عن مخلوقاته بعد أن أوجدها وأقدرها وملّكها لأفعالها.

ولا شك أن هذا التفكير مبنيّ على الموازين الحسّية المادّية، ودعوى الفرق بين الأفعال الدنيوية الصغيرة والأفعال التدبيرية الخطيرة، كتدبير السماوات والأرض، وإيصال فيض اللَّه تعالى إلى الموجودات المادّية الدانية في الوجود، حيث آمنوا ببطلان التفويض بجعل وسائط في الفيض، وصحّحوا مقولة التفويض في صغائر الأمور والأفعال المادية الدنيويّة غير الخطيرة.

مع أن موازين بطلان التفويض موازين عقلية لا يفرق فيها بين الأفعال الصغيرة والخطيرة؛ لأن التفويض يوجب الشرك وهو باطل على جميع

٢٧٧

الأحوال.

ونحن نقول: إن المخلوق لا يستقلّ بذاته وفعله عن الباري تعالى حدوثاً وبقاءً، ولا يفعل المخلوق فعلاً أيّاً كان حجمه وخطورته إلّا بإقدار اللَّه وتمكينه وبحوله وقوته بدءاً واستدامة.

ولو كان أصحاب هذه الشبهة يرفضون فكرة التفويض مطلقاً ويوحّدون في الخلقة حدوثاً وبقاءً، لَمَا حصلت لهم هذه الشبهة؛ لأن اللَّه تعالى لا تنحسر قدرته عن المخلوق في أصل خلقته وبعد خلقته، فهو دائماً يستمدّ وجوده وبقاءه من الفيض والمدد الإلهي، وهم أرادوا أن ينكروا التوسّل - وهو فعل من الأفعال - للزوم التفويض، فوقعوا فيما هو أعظم وهو التفويض في أصل وجود المخلوقات من حيث البقاء فضلاً عن أفعالها، مع أن اللَّه تعالى دائم الفيض على البريّة، والمخلوق في كلِّ آن من آنات وجوده محتاج إلى فيض باريه، لا يستقلّ عنه في وجوده ولا ينادده في فعله؛ إذ الباري قيّوم على وجود المخلوق وأفعاله بنحو الأمر بين الأمرين، فلا ننفي المخلوقات وأفعالها كما فعل ذلك بعض جهلة الصوفية، ولا نعزل قدرة اللَّه تعالى عن مخلوقاته كما فعل المفوّضة، بل نقول كما قال اللَّه عزَّ وجل: ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) (١) .

الجواب الثالث:

إن الجاحدين للتوسّل حيث كانوا عبّاد المذهب الحسّي المادي من حيث يشعرون أو من حيث تشبّع نفسياتهم وذهنهم بذلك، حيث يبنون على أن كلّ فعل حسّي هو فعل للمخلوقات، وكلّ فعل وراء الحسّ فهو فعل لاهوتي إلهي، أو أن الأفعال الصغيرة الحجم هي فعل للمخلوقات. أمَّا

____________________

(١) الأنفال: ١٧.

٢٧٨

الأفعال الكبيرة، فهي فعل إلهي، وعلى هذا الميزان يكون إماتة الموتى لا يصح إسنادها إلى الملك الموكَّل وهو عزرائيل عليه‌السلام ، لا سيما وأن الإماتة لا تقتصر على بني البشر فقط، بل تشمل جميع بني الجنّ وجميع النباتات، بل وجملة الملائكة، فهذه القدرة بهذا الحجم كيف تسند وتعزى إلى الملك عزرائيل؟ مع أن قدرة اللَّه تعالى أنفذ فيما أقدر عزرائيل عليه، وكذلك ميكائيل الموكَّل بتقسيم الأرزاق وتدبيرها لكلّ الكائنات الحيّة على وجه الأرض، وكذلك جبرئيل الموكّل بالبطش والنقمة الإلهيّة ونشر العلم على الكائنات المدركة، وإسرافيل الموكَّل بالإحياء وغير ذلك من عظائم الأفعال، فإنه على منطق هؤلاء الجاحدين تكون قدرة اللَّه معزولة عن تلك الأفعال كما توهّمه هؤلاء، وأنّ هذه الأفعال هي صلاحيات إلهيّة لا تقبل الإسناد لغير اللَّه.

فتبيّن أن الضابطة في كون الفعل إلهيّاً هو صدوره عن الفاعل بمعزل عن قدرة غيره، ومن ثمّ لا يصحّ توهّم استقلال المخلوق في الفعل ولو كان حقيراً صغيراً؛ إذ لو استقلّ، لكان فاعلاً فعلاً إلهيّاً.

الشبهة السابعة: إيجاد المخلوقات الإمكانية كله إبداعي بلا واسطة.

قالوا في المقام: لِمَ لا يكون فعل الله تعالى إبداعياً بكن فيكون بلا أي واسطة أو وسيلة؟ وهذا من مظاهر القدرة والهيمنة الإلهية، بخلاف القول بالأفعال غير الإبداعية فهي تستبطن القول بعجز الله تعالى واحتياجه إلى الأسباب في عملية الخلق والإيجاد

٢٧٩

الجواب عن الشبهة السابعة:

ويُجاب عن هذه الشبهة بنفس الجواب السابق، ونضيف إليه بعض الأجوبة الأخرى:

الجواب الأول: لا ريب أننا نشاهد في عالم الخِلْقة الإمكانية أفعالاً لبعض المخلوقات، بل موجودات مخلوقة غير إبداعية، كما نصّ على ذلك القرآن الكريم في آيات عديدة - كما سيأتي - وأن اللَّه تعالى كان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، ثم خلق من الأرض النباتات والزرع، ثم خلق من الطين البدن الإنساني، وخلق الجنّ من نار السموم، وخلق من الماء كلّ شي‏ء حيّ، وغير ذلك من المخلوقات غير الإبداعية، التي توجد بعملية التوليد والتوالد بين الأسباب والمسبّبات، وبناءً على ما ذكروه من الشبهة، من أن كلّ فعل غير إبداعي، فهو مستبطن للعجز والحاجة إلى الوسيلة والأسباب ويكون إسناد تلك المخلوقات غير الإبداعية إلى اللَّه تعالى إسناداً للعجز والحاجة إلى اللَّه عزَّ وجل، وإن لم نُسند تلك المخلوقات إلى اللَّه تعالى نقع في معضلة الشرك في الخالقية، وهو شرك أعظم؛ لأن شطراً وافراً من المخلوقات كالموجودات المادّية في أصل وجودها فضلاً عن أفعالها يتمّ تخليقها عن طريق الأسباب والوسائط لا بنحو الإبداع، فإن أسندناها إلى الباري تعالى - على زعمهم - يلزم نسبة العجز إلى الخالق، وإن لم نسندها إليه عزَّ وجلَّ يلزم القول بالشرك في الخالقية وخروج تلك الموجودات عن حيطة قدرته تعالى.

فالصحيح: إن اللَّه تعالى خالق كلّ شي‏ء سواء كان بالإبداع أم التخليق، والسببيّة لا توجب الشرك ولا نسبة العجز إلى اللَّه تعالى؛ لأن المخلوق الذي

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320