التسميات بين التسامح العلوي والتوظيف الأموي

التسميات بين التسامح العلوي  والتوظيف الأموي0%

التسميات بين التسامح العلوي  والتوظيف الأموي مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 550

التسميات بين التسامح العلوي  والتوظيف الأموي

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
تصنيف:

الصفحات: 550
المشاهدات: 166347
تحميل: 7324

توضيحات:

التسميات بين التسامح العلوي والتوظيف الأموي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 550 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166347 / تحميل: 7324
الحجم الحجم الحجم
التسميات بين التسامح العلوي  والتوظيف الأموي

التسميات بين التسامح العلوي والتوظيف الأموي

مؤلف:
العربية

أمّا الاحتمال الاول فلا يمكن تصوّره في التكنية بأبي بكر لابن أبي قحافة، لأ نّه ليس له ‏ولد بهذا الاسم(١) .

أ مّا الاحتمال الثاني فقد يمكن تصوره إذا أُريد منه الدلالة على السخاء والكرم، وهذا ما ‏أراده الآخرون بأَخَرة، ساعين للتدليل عليه من خلال أخبار موضوعة; مثل أنّه اشترى ‏بلال بن رباح وعامر بن فهيرة وخلّصهم من المشركين من أمواله الخاصة(٢) ، أو أ نّه ‏أنفق على النبي أربعين ألف درهم وفي لفظ دينار(٣) ، أو أ نّه اشترى راحلتين بمبلغ ٨٠٠ ‏درهم وصرف عليها لأربعة أشهر أو ستّة وأعدّها كي يسافر عليهما النبي إلى المدينة(٤) ، ‏أو أ نّه بنى مسجد جميح - قبل مسجد قبا - في المدينة إلى غيرها من الأخبار ‏الموضوعة.

غير أنّ هذه التكنية تصحّ على هذا الوجه الثاني إذا كانت من قِبَل الأب - قبل أو عند أو ‏بعد ولادة أبنه - لا من قبل غيره، والمعروف أنّ أباه لم يكنّه بهذه الكنية حتى يقال بوضعها ‏له على التفاؤل، خصوصاً وأن هذه الأخبار يكذّبها مال خديجة و إغناء الله لنبيّه، فأبو بكر ‏إن اشترى بلالاً - أو غيره من المسلمين - فقد اشتراهم من مال الرسول، لكنه كان ‏الواسطة في ذلك لصلته بالمشركين.

كما أنّ عدم قبول رسول الله الراحلتين من أبي بكر إلاّ بثمن ليؤكّد بأ نّه ‎

كان لرسول الله مال يمكنه الإنفاق منه، فلا داعي لمنّة أحد عليه وعلى ‎

____________________

١- انظر تحفة المولود ١: ١٣٤ مثلاً.

٢- تفسير ابن أبي حاتم ١٠: ٣٤٤١، وفيه: إنّ أبا بكر اعتق سبعة كلهم يُعَذَّب في الله: بلال، وعامر بن ‏فهيرة، والنهدية، وابنتها، وزفيرة، وأم عيسى، وأمة بني المؤمل، وانظر أيضاً زاد المعاد ٣: ٢٣، والسيرة ‏الحلبية ١: ٤٨١.

٣- مناقب بن شهرآشوب ١: ٣٤٥، وعنه في بحار الأنوار ٤١: ٢٤، صحيح ابن حبان ١٥: ٢٧٤ ح ‏‏٦٨٥٩، موارد الظمآن ١: ٥٣٢ ح ٢١٦٧.

٤- السيرة الحلبية ٢: ١٨٨، وانظر صحيح البخاري ٢: ٨٠٤ ح ٢١٧٥ و ٣: ١٤١٨ ح ٣٦٩٢ و ‏‏٥: ٢١٨٧ ح ٥٤٧٠، مسند أحمد ٦: ١٩٨، صحيح ابن حبان ١٤: ١٨٠و ١٥: ٢٨٦.

٤٤١

الرسالة(١) .

ويضاف إلى ذلك: أنّه لو كان لأبي بكر هذه الأموال فلماذا لا نعرفه تاجراً كتجار ‏قريش مثل ‏(‏أبي سفيان‏)‏ و ‏(‏أبي جهل‏)‏ و ‏(‏عبدالله بن جدعان‏)‏، وكسعد بن عبادة من ‏الأنصار، وأمثالهم ممن عُرفوا واشتهروا بالغنى والوَفْر ؟ بل كلّ ما عرفناه أ نّه ابن أبي ‏قحافة المنادي على مائدة عبدالله ابن جدعان التيمي(٢) التاجر القرشي الفاسق وعبداً له، ‏وقد قال شاعر عائشة في حرب الجمل عمير بن الأهلب الضبيّ:‏

أطعنا بني تيم بن مرّة شِقوةً وهل تيم إلاّ أعبدٌ و إماءُ(٣)

وفي رواية اخرى أ نّه قال:‏

كفينا بني تيم بن مرّة ما جنت وما تيم إلاّ أعبدٌ و إماء(٤)

بل كيف يمكن تصحيح ما قيل عنه مع ما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن عطاء ‏بن سائب أ نّه قال: لما استُخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رَقَبَتِهِ أثْوَابٌ يَتجِرُ ‏بها فلَقِيَهُ عمرُ بن الخطّاب وأبو عُبيدة بن الجرّاح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله ؟ ‏قال: السوق.

قالا: تَصْنَعُ ماذا وقَدْ وليتَ أمرَ المسلمينَ ؟

قال: فمِنْ أين أُطْعِمُ عِيالي ؟

قالا له: انْطَلِقْ حتى نَفْرِضَ لكَ شيْئاً، فانطلق معهما ففرضوا له كلّ يوم شَطْرَ ‏

____________________

١- صحيح البخاري ٣: ١٤١٩ ح ٣٦٩٢، و ٥: ٢١٨٧ ح ٥٤٧٠، مسند أحمد ٦: ١٩٨ ح ٢٥٦٦٧. وفيه ‏ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما أراد الخروج إلى المدينة، قال له أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله ‏إحدى راحلتي هاتين. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالثمن.

٢- انظر رجال الكشي: ٢٧٧ الرقم ١٠٨، وعنه في الدرجات الرفيعة: ١٠٨، وبحار الأنوار ٣٢: ٢٧، ‏وفيه زيادة على نص الكشي هي: وهو ابن أبي قحافة حامل قصاع الودك لابن جدعان إلى اضيافه ؟!‏

٣- تاريخ الطبري ٣: ٥٠ ،الكامل في التاريخ ٣: ١٣٩، أنساب الأشراف ٣: ٥٩.

٤- تاريخ دمشق ١: ١٠٥.

٤٤٢

شاة وما كسوه في الرأس والبَطْن.

فقال عمر: إليّ القضاء.

وقال أبو عُبيدة: و إليّ الفَيْءُ.

قال عمر: فلقد كان يأتي عَليّ الشَهْرُ ما يَخْتَصِمُ إليّ فيه اثْنَان(١) .

لا أدري كيف يعقل بناء أبي بكر مسجد جميح مع علمنا بأنّ مسجد قبا هو أوّل مسجد ‏أُسّس على التقوى لا مسجد جميح.

وكيف يسمح الجمحيّون بأن يبني أبو بكر مسجداً وهم الذين ضربوا عثمان بن مظعون ‏وآذوه لإسلامه.

بل كيف تصح هذه الأقوال فيه وهو من أذّل بيت في قريش حسب قول أبي سفيان ‏القرشي لعلي: غلبكم على هذا الأمر أذلّ بيت في قريش، لأملأنها خيلاً ورجلاً(٢) .

وكيف تتطابق تلك الادّعاءات مع ما روي عن أبي هريرة في مستدرك الحاكم إذ قال: ‏لما قبض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بلغ أهل مكة الخبر، فسمع أبو قحافة الهائعة، فقال: ما ‏هذا، قالوا: توفي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال: أمرٌ جليل، فمن قام بالأمر من بعده ؟

قالوا: ابنك.

قال: ورضيت بنو مخزوم وبنو المغيرة ؟!‏

قالوا: نعم.

قال: اللّهم لا واضع لما رفعت ولا رافع لما وضعت(٣) .

وفي نص الطبقات لابن سعد: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع ‎

____________________

١- الطبقات الكبرى لابن سعد ٣: ١٨٤.

٢- سمط النجوم العوالي ٢: ٤٠٢، زاد: يعني قبيلة أبي بكر وهي تيم فإنها أضعف قبيلة في قريش.

٣- المستدرك على الصحيحين ٣: ٢٧٤ قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

٤٤٣

الله(١) .

وفي المستدرك أيضاً عن مرة الطيب: جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي ‏طالبرضي‌الله‌عنه فقال: ما بال هذا الأمر في أقلّ قريش قلةً وأذلّها ذلة - يعني أبا بكر - ‏والله لئن شئت لأملأ نّها عليه خيلا ورجالا(٢) .

وفي كنز العمال عن سويد بن غفلة، قال: دخل أبو سفيان على علي والعباس فقال: ‏يا علي وأنت يا عباس، ما بال هذا الأمر في أذل قبيلة من قريش وقُلِّها - وقلها القُلُّ، بالضمَ ‏القلة، كالذل والذلة، النهاية - والله لئن شئت لاملأنها عليه خيلا ورجالا(٣) .

وفي تاريخ مدينة دمشق بزيادة: والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا ولأثورنها ‏عليه من أقطارها(٤) .

وفي مصنف عبدالرزاق: عن بن أبجر: قال لما بويع لأبي بكررضي‌الله‌عنه جاء ‏أبو سفيان إلى علي فقال: غلبكم على هذا الأمر أذل أهل بيت في قريش أما والله لأملأنها خيلا ‏ورجالا(٥) .

والإمام قال بهذا القول كي لا يستغل أبو سفيان الخلاف بينه وبين ابن أبي قحافة، ‏لأ نّهعليه‌السلام كان يعلم بأنّ أبا سفيان لم يرد نُصرة الإسلام و إِنّما أراد تحكيم المفاهيم ‏القبلية فلذلك لم يُعْطِ أميرُ المؤمنينعليه‌السلام لأبي سفيان الذريعة من خلال نزاعه مع ‏أبي بكر.

ولا يخفى عليك أنّ العرب الأقحاح ربّما آمنوا بالرسول وانقادوا له لأ نّه ‏

____________________

١- الطبقات الكبرى لابن سعد ٣: ١٨٤.

٢- المستدرك على الصحيحين ٣: ٨٣، تاريخ الخلفاء: ٦٧.

٣- كنز العمال ٥: ٢٦٢ و ٢٦٠ عن زيد بن علي، تاريخ دمشق ٢٣: ٤٦٥ وفيه: وأقلها بدل: وقلها.

٤- تاريخ مدينة دمشق ٢٣: ٤٦٥ وانظر مرقاة المفاتيح ٤: ٥٣ أيضاً.

٥- مصنف عبدالرزاق ٥: ٤٥١.

٤٤٤

رسول من الله يحمل جميع صفات الكمال، ومنها بسطة النسب وعزّ العشيرة وكرم ‏الحسب ورفعته، فأ مّا من لم ينصّ عليه الرسول، ولا كان ذا نسب وحسب، فإنّ العرب ‏تأبى الانقياد له، خصوصاً وأ نّه كان يأخذ الأموال بالتسلّط ‎

والقهر والجبروت، وهذا ما يأنف منه العربي الأصيل، وسيأتيك كلام ‎

أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في الكيفية التي يجب اتباعها في أخذ الزكوات‏ ‎

والصدقات(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ وضاعة نسب أبي بكر لا مجال للمنازعة فيها ولذلك قال حطية:‏

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأَبي بكرِ

وفي اخر:‏

أطعنا رسول الله إذ كان وسطنا فياعجباً ممن يطيع أبا بكر

وإنّ أُناساً يأخذون زكاتكم أقّل وربّ البيت عندي من الذَّرِّ

أَنعطى قريشاً ما لَنا إنَّ هذه لتك التي يَخْزَى بها المرء في القبرِ

وما لبني تيم بن مرة إمرةٌ علينا ولا تلك القبائل من فِهْرِ

لأنّ رسولَ اللهِ أَوْجَبُ طاعةً وأَولى بما استولى عليهم من الأمر

وقال الحارث:‏

كان الرسول هو المطاع فقد مضى صلّى عليه الله لم يستخلفِ

هذا مقالك يا زياد فقد أرى أَنْ قد أَتيتَ بقولِ سُوء مُخْلفِ

ومقالُنا أَنَّ النبيَّ محمّداً صلى عليه الله غيرُ مكلِّفِ

تَرَكَ الخلافةَ بعده لولاته ودَعا زيادٌ لامرئٌ لم يُعْرَفِ

إِن كان لابنِ أبي قُحافة إمرةٌ فلقد أَتى في أَمرِهِ بتَعَسُّفِ

____________________

١- في صفحة: ٤٥٦.

٤٤٥

أم كيفَ سَلَّمَتِ الخلافةَ هاشمٌ لعَتِيقِ تيم كيفَ ما لم تَأنَفِ(١)

وفي كتاب الردة للواقدي والفتوح لابن اعثم قال حارثة: نحن إنما أطعنا رسول الله إذ ‏كان حيّاً، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه، وأمّا ابن أبي قحافة فما له طاعة في رقابنا ‏ولا بيعة(٢) .

قال الأشعث إني أعلم أن العرب لا تقر بطاعة بني تيم بن مرة وتدع سادات البطحاء ‏من بني هاشم إلى غيرها(٣)

وقال الأشعث بن قيس: لا تعطوا الزكاة لأنّني أعلم بأنّ العرب لا تُعطي الزكاة لبني ‏تيم ولا يتركون بني هاشم، ثم أنشد أشعاراً(٤) .

وأخرج الدارقطني: أنّ أبا سفيان بن حرب قال لعلي بأعلى صوته لما بايع الناس أبا ‏بكر: غلبكم على هذا الأمر أذل بيت في قريش - يعني قبيلة أبي بكر، وهي تيم، فإنّها ‏أضعف قبيلة في قريش، وإنما عزّت بكون أبى بكر وطلحة منها - أما والله لأملأنها عليه ‏خيلاً ورجلا إن شئت، فقال له علي: لا يا عدو الإسلام وأهله، فما ضر ذلك الإسلام ‏وأهله، إذا تقرر هذا فالواجب على كل مؤمن بالله ورسوله(٥) .

ومن كتاب من علي لمعاوية: وقد كان أبوك أبو سفيان جاءني في ‎

الوقت الذي بايعتُ فيه أبا بكر فقال: ‏(‏ لأنت أحق الناس بهذا الأمر من ‎

غيرك وأنا أؤيدك على من خالفك، ولئن شئت لأملأنَّ المدينة خيلا ورَجْلاً ‎

على ابن أبي قحافة ‏)‏ فلن أقبل ذلك، والله يعلم أن أباك قد فعل ذلك حتى كنت ‎

أنا الذي أبيت عليه مخافة الفرقة بين أهل الإسلام، فإنّ تعرف من حقّي ‎

____________________

١- كتاب الردة للواقدي: ١٧٧، الفتوح لابن الأعثم ١: ٤٨٠.

٢- كتاب الردة للواقدي: ١٧١، والفتوح لابن الأعثم ١: ٤٧.

٣- كتاب الردة: ١٧٥.

٤- كتاب الردة للواقدي: ١٧٥.

٥- سمط النجوم العوالي ٢: ٤٠٢.

٤٤٦

ما كان أبوك يعرفه فقد أصبت رشدك، و إن أبيت فها أنا قاصد إليك ‎

- والسلام(١) .

كل هذه النصوص تجعلنا نأبى كون وضع كنية أبي بكر على ابن أبي قحافة جاء من ‏باب التفاؤل والرجاء; لأ نّه هو الذي نزل فيه قوله تعالى:( أاَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَي ‏نَجْوَاكُمْ صَدَقَة ) (٢) .

فقد كان مشفقاً شحيحاً في أن يقدم بين يدي نجواه للرسول صدقة بسيطة، فكيف يهب ‏هذه الأموال الكثيرة ؟

والتفصيل في هكذا اُمور من المواضيع التي يمكن أن تبحث في السيرة النبوية وكتب ‏الكلام لا هنا.

أ مّا الاحتمال الثالث فيعني وضع هذه الكنية تعريضاً بأبي بكر، كأن يقال للأسود: (أبو ‏البيضاء)، أو للاعمى: (أبو بصير)، وللأقرع: (أبو الجعد)، وللأعرج: (ابن ذي ‏الرجل)، وهذا بعيد لو قلنا بوضع هذه الكنية من قِبَلِ رسول الله عليه.

أ مّا الاحتمال الرابع فقد يكون وارداً; لكن بعناية ما، وهو الذي دعا رسول الله أنّ يبدل ‏كنيته من أبي الفصيل إلى أبي بكر، ولم يكنّه بأبي عبدالرحمن ‎

أو أبي محمّد، كلّ ذلك مجاراة لكنيته الأُولى في الجاهلية، كما رأيناهصلى‌الله‌عليه‌وآله ‏قد ‎

بدل كلمة (حزن) ب- (سهل)، و (عاصية) إلى (جميلة)، لأنّ من المعروف بأن أبا قحافة - ‏وقيل هو أيضاً - كانا يناديان على مائدة ابن جدعان، فكأنّ التكنية ‎

بذلك جائه لكونه يرعى إبل ابن جدعان أو غيره، فصارت كنية ‏(‏أبي الفصيل‏)‏ ‎

ملازمة له.

و إليك تفصيل رؤيتنا كي تقف على أنّ كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية ‏

____________________

١- الفتوح ٢: ٥٥٩.

٢- المجادلة: ١٢.

٤٤٧

وصدر الإسلام لم تكن أبا بكر بل هي أبي الفصيل، ومن خلاله تقف على الدواعي ‏لتبديله إلى أبي بكر.

ما هي كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية وصدر الإسلام ؟

هناك نصوص في كتب التاريخ تشير إلى أنّ المناوئين لابن أبي قحافة كانوا يسمّونه ‏في الجاهلية وصدر الإسلام ب- ‏(‏أبي الفصيل‏)‏ و ‏(‏ذي الخلال‏)‏ تعريضاً به.

والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن اُمه(١) ، واصله من القطع(٢) ، بخلاف البَكْر - ‏بالفتح - وهو الفَتِيّ من الإبل(٣) ، وقيل: البكر الناقة التي ولدت بطناً واحداً والجمع ‏أبكار(٤) ، وهو أكبر من الفصيل(٥) .

فأعداء أبي بكر كانوا يريدون أن يقولوا له: مَن أنت حتّى تُكَنَّى بأبي بكر ؟!، إذ كُلُّ ‏ما عرفناه عنك أنك ووالدك كنتما من الذين تدعون على مائدة عبدالله بن جدعان(٦) ، فإنَّكَ ‏أبا الفصيل لا أبا بكر.

أجلّ إنّهم كانوا يدعونه أيضاً (بذي الخلال) تشبيهاً بالفصيل الذي يراد فطمه من ‏الرضاع، فيغرزون في أنفه خِلالة، فإذا لهج الفصيل بالرضاع نخس الخلال ضرع الناقة ‏فمنعته من الرضاع(٧) .

____________________

١- المحكم والمحيط الأعظم ٨: ٣٢٩.

٢- كشف المشكل ٣: ٤٠٦، تفسير غريب ما في الصحيحين للحميدي ١: ٣١٤ وانظر ادب الكاتب للصولي ‏‏١: ٥٤.

٣- المغرب في ترتيب المعرب ١: ٨٤، المحكم والمحيط الأعظم ٧: ٢٠، شرح النووي على صحيح مسلم ‏‏٨: ٧٧.

٤- المحكم والمحيط الاعظم ٧: ١٩، تهذيب اللغة ١٠: ١٢٧.

٥- البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية اللذين لم يدركا، تهذيب اللغة ١: ٣٤ ولسان العرب ٣: ٣٦٠.

٦- اُنظر التفسير الكبير ٣: ٢٠٦، وتاريخ دمشق ١: ٤٣٦.

٧- انظر خزانة الأدب ٢: ٣٩٢، غريب الحديث للخطابي ١: ٣٨٨.

٤٤٨

و إليك الآن بعض النصوص الدالّة على تكنيته بأبي فصيل قبل إطلاق كنية أبي بكر ‏عليه:‏

منها: ما جاء في كتب التفسير والتاريخ أنّ المشركين في مكّة فرحوا وشمتوا ‏بالمسلمين لمّا غلبت فارسُ الرومَ، لأنّ أهل الروم كانوا نصارى ومن أهل الكتاب، أما ‏فارس فكانت مجوسيّة وليس لها كتاب، فنزلت الآية:( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الاَرْضِ ‏وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينِ لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذ يَفْرَحُ ‏الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (١) ، لتسكين قلوب المؤمنين.

وجاء عن أبي بكر أ نّه قال للمشركين: لا يقرَّنَّ الله أعينكم، فوالله لتظهرنَّ الرومُ على ‏فارسَ بعد بضع سنين.

فقال له أبي بن خلف ‏ ‎‎ من المشركين ‎ : كذبتَ يا أبا فصيل، اجعل بيننا أجلاً أُناحِبُكَ ‏عليه، والمُناحَبَةُ المُراهنة(٢) .

وهذا النص ليشير إلى أنّ ابن أبي قحافة كان يكنّى في الجاهلية ب- ‏(‏أبي الفصيل‏)‏، وقد ‏يكون قالها له استنقاصاً وتحقيراً.

وقريب من الخبر الآنف ما جاء في المحرّر الوجيز: أنّ أبا بكر خرج إلى المسجد ‏فقال لهم: أَسَرَّكُم أن غُلِبَتِ الروم، فإنّ نبيّنا أخبرنا عن الله تعالى أ نّهم سَيَغْلِبُونَ في بعض ‏سنين.

فقال له أبيُّ بن خلف، وأمية أَخوه، وقيل: أبو سفيان بن حرب: تعال يا أَبا فصيل - ‏يعرِّضون بكنيته بالبكر - فلنتناحب، أي نتراهن في ذلك، فراهنهم أبو بكر(٣)

ومن المعلوم أنّ الكنية لا تظهر فجأة بين عشيّة وضحاها للأشخاص، بل هي ‏

____________________

١- سورة الروم ١ - ٤.

٢- تفسير مقاتل ٣: ٣، الكشاف ٣: ٤٧٢، تاريخ الطبري ١: ٤٦٨.

٣- المحرر الوجيز ٤: ٣٢٨.

٤٤٩

ملازمة لصاحبها منذ نشوئه وبلوغه، والمشركون كانوا يعرفونه بهذه الكنية ولأجله ‏خاطبوه بها.

والنصُّ السابق يحدِّد لنا تاريخ إطلاق كنية أبي الفصيل على ابن أبي قحافة عند عرب ‏الجزيرة، وأ نّهم كانوا لا يقبلون بإطلاق كنية أبي بكر عليه، لأ نّه أصغر من أن يحملها، ‏وصدور هذا النص كان في بداية الدعوة الإسلامية وحين نزول آية( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) .‏

ولا أستبعد أن يكون المشركون كنوه بهذه الكنية استنقاصاً منه، وهو يؤكّد لنا أنّ كنية ‏أبي الفصيل كانت للاستنقاص لا المدح.

وعلى كلا التقديرين، فإنّ كنية أبي الفصيل هي إحدى كُنّى أبي بكر قبل الإسلام سواء ‏وُضعت من قبل أصدقائه أو من قبل أعدائه.

أبو الفصيل كنية ابن أبي قحافة في الجاهلية

قال التبريزي في اللمعة البيضاء: و ‏(‏أبو قحافة‏)‏ كنية عثمان بن عامر كما في ‏القاموس، وعثمان أبو أبي بكر.

واسم أبي بكر هو عبدالله، فأبو بكر هو عبدالله بن عثمان بن عامر، وكانت كنية أبي ‏بكر في الجاهلية أبا الفصيل، فلمّا أسلم كنّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأبي بكر.

وتكنية أبيه بأبي قحافة، لأن القحف - بالكسر - نصف القدح من الخشب على مثال ‏قحف الرأس، وهو العظم الذي فوق الدماغ، ثم يقال: اقتحف الرجل إذا شرب ما في ‏الإناء، والقحافة - بالضم - ما يقتحف من الإناء، سُمِّي عثمان المذكور بأبي قحافة، إمّا ‏لكونه مضيفاً للناس، أو لكونه داعياً لضيافة الناس، أو لكونه طبّاخاً ونحو ذلك. ‏والمشهور المأثور أنّه كان داعياً لضيافة عبدالله بن جدعان في الجاهلية(١) .

____________________

١- اللمعة البيضاء للتبريزي الأنصاري: ٦٥١.

٤٥٠

وفي مرآة العقول في شرح أخبار الرسول: وقيل أنّه ] أي التكنّي بأبي الفصيل ‎ [ كان ‏كنيته قبل أظهار الإسلام، وبعده كنّاه النبي بأبي بكر، وروي أنّ أبا سفيان قال يوم غصب ‏الخلافة: لأملأنها على أبي فصيل خيلاً ورجلاً.

وذكر السيّد الشريف في بعض حواشيه: وقد يعتبر في الكنى المعاني الأصلية، كما ‏روي أنّ في بعض المفردات نادى بعضُ المشركين أبا بكر: أبا الفصيل(١) .

قال الشيخ محمّد العربي التباني الجزائري: والناس كَنَّوا أبا بكر بأبي الفصيل احتقاراً ‏له، وقالت قبيلة أسد وفزارة: لا والله لا نبايع أبا الفصيل أبداً، فتقول لهم خيل طيّ: أشهد ‏ليقاتلنكم حتى تكنّوه أبا الفحل الأَكبر(٢) .

أبو فصيل كنية ابن أبي قحافة بعد وفاة رسول الله أيضاً

روى المدائني عن مسلمة، قال: قُبض رسول الله وأبو سفيان على صدقة نجران، ‏فقال: من قام بالأمر ؟ قالوا: أبو بكر، قال: أبو الفصيل ؟! إنّي لأرى أمراً لا يُسكّنه إلاّ ‏الدم(٣) .

وفي نص الطبري وابن الأثير والنص عن الثاني: لمّا اجتمع الناس على بيعة أبي بكر ‏أقبل أبو سفيان وهو يقول: إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم، يا آل عبدمناف، فيمَ أبو ‏بكر من أموركم ؟! أين المستضعفان، أين الأذلان علي والعباس ؟! ما بال هذا الأمر في ‏أقلّ حيّ من قريش ؟! ثم قال لعلي: ابسط يَدَك أبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ‏ورجلا، فأبى عليعليه‌السلام ، فتمثل ] أبو سفيان[ بشعر المتلمس.

____________________

١- مرآة العقول ٢٦: ١١٨. وانظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ١٢: ٢٧٠.

٢- انظر تحذير العبقري ٢: ١٤٠، والنص موجود في تاريخ الطبري ٢: ٢٦١، البداية والنهاية ٦: ٣١٧.

٣- أنساب الأشراف ٥: ١٢، وفي طبعة زكار ٥: ١٨.

٤٥١

ولن يقيمَ على خسف يُرادُ به إلا الأذلان عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ

هذا على الخسفِ مربوطٌ برُمَّتِهِ وذا يُشَجُّ فلا يبكي له أحدُ

فزجره علي وقال: والله إنّك ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، و إنّك طالما بغيت للإسلام ‏شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك(١) .

وعن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: إنّ أبا سفيان كان حين قبض النبي غائباً; ‏بَعَثَ به مُصَدِّقاً(٢) .

فلمّا بلغته وفاة النبي قال: من قام بالأمر بعده ؟ قيل: أبو بكر، قال: أبو الفصيل ؟! ‏أني لأَرى فتقاً لا يرتقه إلاّ الدم(٣) .

وروى أحمد بن عمر بن عبدالعزيز، عن عمر بن شبّة، عن محمّد بن منصور، عن ‏جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، قال: كان النبيّ قد بعث أبا سفيان ساعياً فرجع من ‏سعايته، وقد مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلقيه قوم فسألهم، فقالوا: مات رسول ‏اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال: من ولي بعده ؟ قيل: أبو بكر، قال: أبو فصيل ؟! قالوا: ‏نعم، قال: فما فعل المستضعفان علي والعباس ! أمّا والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من ‏أعضادهما(٤) .

ومقولة أبي سفيان تشير إلى مرتكز فكريّ كان يحمله عن ابن أبي قحافة، وأ نّه كان ‏يعرفه في الجاهلية بأبي الفصيل لا بأبي بكر، أي أ نّه أراد أن يقول: تعنون أبا فصيل، أبا ‏بكر ؟! ما كنّا نعرفه في الجاهلية إلاّ بأبي الفصيل.

فقد يكون كلامه هو إخبار عمّا عرفه في الجاهلية، وقد يكون تعريضاً به، وعلى كلا ‏التقديرين نفهم من إطلاق كلمة أبي فصيل عليه أ نّها كانت كنية معروفة له عند غالب ‏قريش، وأ نّها لم تكن من وضع بني هاشم وأعدائه من أصحاب ‏

____________________

١- تاريخ الطبري ٢: ٢٣٧، الكامل في التاريخ ٢: ١٨٩ والنص منه.

٢- أي جامعاً آخِذاً للصدقات عاملاً عليها.

٣- أنساب الأشراف ١: ٥٨٩ وفي طبعة زكار ٢: ٢٧١.

٤- شرح نهج البلاغة ٢: ٤٤، مرآة العقول ٢٦: ٣٤٦.

٤٥٢

الردّة كما قد يُدِّعى.

وجاء عن أبي سفيان أيضاً أ نّه نادى الناس بقوله: يا بني هاشم، يا بني عبدمناف، ‏أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل(١)

وجاء في تاريخ الطبري بسنده عن حماد بن سلمة بن ثابت، قال: لما استخلف أبو ‏بكر، قال أبو سفيان: ما لنا ولأبي فصيل(٢)

أجل، إنّ أئمّة أهل البيت ذكرو ابن أبي قحافة أيضاً بهذه الكنية.

فجاء في بصائر الدرجات مسنداً عن أبي جعفر الباقر أ نّه قال: لما كان رسول الله في ‏الغار ومعه أبو الفصيل، قال رسول الله: إنّي لأنظر الآن إلى جعفر وأصحابه الساعة تعوم ‏بهم سفينتهم في البحر، فقال أبو الفصيل: أتراهم يا رسول الله ! الساعة ؟! وأسرَّ في ‏نفسه أ نّه ساحر(٣) .

وفي الكافي أنّ الإمام الصادق سُئل عن قوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ ‏مُنِيباً)، قال: نزلت في أبي الفصيل(٤) .

وفي تفسير العياشي أيضاً أنهعليه‌السلام سُئل عن أعداء الله ؟ فقال: الأوثان ‎ الأربعة.

فقيل: من هم ؟

فقال: أبو الفصيل، ورمع، ونعثل، ومعاوية، ومن دان بدينهم، فمن عادى هؤلاء ‏فقد عادى أعداء الله(٥) .

____________________

١- الارشاد ١: ١٩٠، اعلام الورى ١: ٢٧١.

٢- تاريخ الطبري ٢: ٢٣٧ حوادث سنة احدى عشر.

٣- بصائر الدرجات: ١٢٥ الجزء التاسع: ٤٤٢ باب ١ ح ١٣ وعلق المجلسي في الفتن من بحاره ٣٠: ١٩٣ ‏عليه بالقول: ويكنّى عن أبي بكر بأبي الفصيل لقرب معنى البكر وهو الفتي من الابل، وذكره في خاتمة ‏المطاعن مستدركاً ٣١: ٦٠٧ ح ٦٢.

٤- الكافي ٨: ٢٠٤ ح ٢٤٦ وانظر شرح الكافي للمازندراني ١: ١٤٠ و ١٢: ٢٧٠ وبحار الأنوار ‏‏٢٤: ١٢١، ٣٠: ٢٦٨، ٣٥: ٣٧٥ عن الكافي.

٥- تفسير العياشي ٢: ١١٦ ح ١٥٥ وعنه في بحار الأنوار ٢٧: ٥٨، ٣١: ٦٠٧.

٤٥٣

كلّ هذه النصوص تشير إلى أنّ كنية ابن أبي قحافة الأصلية هي (أبو فصيل) عند أهل ‏البيت ومناوئي ابن أبي قحافة، وتتأكد صحّة دعوانا حينما نرى ‎

الآخرين لا يذكرون كنيته السابقة مع تأكيدهم على تغيير رسول الله لاسمه من عبدالكعبة ‏أو عتيق إلى عبدالله، فما هي الكنية السابقة له إذن إن كانت غير ‎

ما قلناه ؟!‏

ذو الخلال مدح لأبي بكر أم ذمّ ؟

ذكرت كتب السيرة والتاريخ وجود لقب ‏(‏ذي الخلال‏)‏ لأبي بكر، فقد جاء في ‏(‏موضح ‏أوهام الجمع والتفريق‏)‏ عن رافع بن عمرو - رجل من طي -: أنّ رسول الله بعث عمرو ‏بن العاص على جيش في ذات السلاسل، وبعث في ذلك الجيش أبا بكر وعمر وسراة ‏أص حابه رضي ‌الله‌ عنهم، فانطلقوا حتى انتهوا إلى جبل طي، فقالوا: انظروا لنا رجلاً ‏يدلّنا على الطريق يأخذ بنا المفاوز، فقالوا: لا نعلمه إلاّ رافع بن عمرو، فإنّه كان رجلاً ‏ربيلاً في الجاهلية، قال، فقلنا: ما الربيل ؟ قال: اللص الذي يأخذ القوم وحده ثم يأخذ في ‏المفاوز.

قال: فانطلقت معهم حتى إذا رجعوا من المكان الذي حاجتهم فيه، قال: أتيتُ أبا بكر ‏فقلت: ياذا الخلال توسَّمتك من بين أصحابك، قال: ولِمَ ؟ قال: لتعلمني، قال: قد ‏اجتهدت، قال، فقلت: أردتُ أن تخبرَني بشيء يسير إذا فعلتُهُ كنت معكم ومنكم، قال: ‏تحفظ أصابعك الخمس، قال: قلت: نعم، قال: فذكر شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً ‏رسول الله(١) .

وقد اعتبره بعض مدحاً له واعتبره بعض آخر ذماً له، ولكلِّ من الطرفين نصوص في ‏ذلك تؤيدهم، وبما أن الأمر مختَلَف فيه، فعلينا نقل تلك النصوص لنتعرف هل أ نّه مكرمة ‏له أو منقصة ؟ فقبيلة هوازن كانت تعيّره بهذا اللقب وتعتبره ‏

____________________

١- موضح اوهام الجمع والتفريق ٢: ٨٦، وانظر تاريخ دمشق ١٨: ١٠.

٤٥٤

منقصة لمن اشتهر بأبي بكر(١) ، لكن هناك من يقول أ نّها دالة على زهده وتقشّفه، ‏لأ نّه تصدّق بجميع ماله قبل الفتح وبعده.

ففي القاموس وتاج العروس والنص للاول - قال: وذو الخلال أبو بكر الصديقرضي‌الله‌عنه ، لأ نّه تصدَّق بجميع ماله وخَلَّ كساءَهُ بخِلال، انتهى(٢) .

وروى البغوي، في هذا الأطار: أن جبرئيلعليه‌السلام نزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خَلَّها في صدره بخلال.

فقال: أنفق ماله عليَّ قبل الفتح.

قال: فإن الله تعالى يقول: اقرا عليه السلام وقل له: أراض أنت عنّي في فقرك هذا أم ‏ساخط. فقال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يا أبا بكر إن الله عزّوجلّ يقرأ عليك السلام ‏ويقول لك أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط ؟

فقال أبو بكر: أأسخط على ربي، إنّي عن ربي راض، إنّي عن ربي راض، ولهذا ‏قدّمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدّم والسبق(٣) .

وفي الوشاح لابن دريد: كان ‏ ‎ [ ‎ أبو بكر ‎ ] ‎ ‏ يلقّب ‏(‏ذو الخلال‏)‏ لعباءة كان يخلّها على ‏صدره(٤) .

وفي مصنف ابن أبي شيبة، عن رافع بن أبي رافع، قال: رأيت أبا بكر كان له كساء ‏فدكي يخلّه عليه إذا ركب، ونلبسه أنا وهو إذا نزلنا، وهو الكساء الذي عيّرته به ‏هوازن(٥) .

كل هذه النصوص تؤكد بأنّ لقب ‏(‏ذو الخلال‏)‏ جاء مدحاً لأبي بكر لا ذماً له، ‏

____________________

١- مصنف بن أبي شيبة ٧: ٩٢ ح ٣٤٤٣٤، تاريخ دمشق ٣٠: ٣٠٠.

٢- القاموس المحيط ١: ١٢٨٥، وانظر تاج العروس ٢٨: ٤٢٦.

٣- تفسير البغوي ٤: ٢٩٥ وعنه ابن كثير في تفسيره ٤: ٢٩٥.

٤- عمدة القارى ١٦: ١٧٢ وانظر الإكمال ٣: ١٨٤.

٥- مصنف بن أبي شيبة ٥: ١٧٣ و ٧: ٩٢، المطالب العالية ٩: ٥٨٠، وانظر تاريخ دمشق ٣٠: ٣٣٢، ‏‏٣٣٣.

٤٥٥

فلو كان كذلك فكيف تجرؤ هوازن على تعييره به ؟ وأي عيب أو منقصة في العباءة ‏حتى تعيّره بها هوازن ؟!!‏

ألم يكن التعيير عند العرب هو إظهار عيب الطرف أو ما فيه مسبة له ؟

فما هو العيب الكامن في هذا اللقب إذن ؟ فكل ما قرأناه كان مدحاً لابن أبي قحافة لا ‏ذماً، فهل أن النهج الحاكم حرَّفوا هذا اللقب من الذّم إلى المدح، أم حقاً أنّ هذا اللقب وضع ‏للمدح ؟ فقد افتخر النبي بالفقر، ونزلت آيات تمدح الفقراء والمستضعفين، مؤكّدة بأنّ ‏غالب أتباع الأنبياء هم من المستضعفين، وبتعبير القرآن الكريم - حكاية لقول الكافرين - ‏الأرذلون بقوله تعالى (وَاتَّبَعَكَ الاَرْذَلُونَ).

وكذا كنية أبي تراب كانت مدحاً لعلي لكنّهم جعلوها ذماً له، وكما أنّ زمزم وطيبة- ‏المدينة - هما من الأسماء الحسنة والممدوحة، لكنّهم أبدلوها بأمّ جعلان والخبيثة(١) .

والآن نسأل: هل أنّ هوازن عيّرت ابن أبي قحافة قبل إسلامه ظاهراً أم بعده ؟ فلو ‏تأملت النصوص لرأيتها تؤكّد الثاني، لأ نّهم قالوا: أ ذا الخلال نبايع بعد رسول الله(٢) .

ونحن لا يمكننا أن نفهم مقصود هوازن وسبب تعييرها لابن أبي قحافة إلاّ بعد أن ‏نتعرَّف على معنى كلمة الخلال في لغة العرب، وكيفية ربطها بنزاعات الردّة، وهل أنّ ‏هذا يرتبط بنحو وآخر بكلام أبي بكر لمخالفيه في أ نّه لا يتركهم حتّى و إن منعوه عقال ‏بعير ؟!‏

____________________

١- مر عليك في صفحات: ١٩٣ إلى ٢١٢.

٢- مصنف بن أبي شيبة ٧: ٩٢، لسان العرب ١١: ٢١٤.

٤٥٦

معنى الخلال في لغة العرب

الخلال: العود الذي يتخلل به، وما خُلَّ به الثوب أيضاً والخشبات الصغار اللواتي ‏يخلّ بها ما بين شقاق البيت.

والخلال: عود يجعل في لسان الفصيل لئلاّ يرضع ولا يقدر على المص، قال امرؤ ‏القيس:‏

فكَرَّ إليه بمِبْراتِهِ كما خَلَّ ظَهْرَ اللسان الُمجِرّ

وقيل: خَلَّهُ شَقَّ لسانه ثم جعل فيه ذلك العود.

وفصيل مخلول: إذا غرز خلال على أنفه لئلاّ يرضع أُمه، وذلك أ نّها تزجيه إذا ‏أوجع ضرعَها الخلالُ(١)

وفي غريب القرآن للأصفهاني:‏

والخلال لما تخلّل به الأسنان وغيرها، يقال: خَلَّ سِنَّهُ، وخلَّ ثوبه بالخلال يخلها، ‏ولسانَ الفصيل بالخلال ليمنعه من الرضاع(٢) .

وعن الأصمعي قال: إذا ارادوا أن يمنعوا الفصيل من الرضاع خلّوه: أدخلوا في أنفه ‏من داخل خلالاً محدَّد الرأس بأسفله حجنة(٣) .

وفي خزانة الأدب للبغدادي: إنّ الفصيل إذا لهج بالرضاع جعلوا في أنفه خلالة ‏محددة، فإذا جاء يرضع أ مّه نخستها تلك الخلالة فمنعته من الرضاع(٤) .

والآن بعد كلّ هذا التفصيل هل يمكننا ربط مقولتي ‏(‏أبي الفصيل‏)‏ و ‏(‏ذي الخلال‏)‏ من ‏قبل مناوئيه أثناءَ الأحداث التي تلت وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقول ابن أبي قحافة (لو ‏منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه)(٥) ، والقول بأنّ هناك ارتباطاً بين الفصيل ‏

____________________

١- لسان العرب ١١: ٢١٤.

٢- المفردات في غريب القرآن للاصفهاني ١: ١٥٣.

٣- غريب الحديث للحربي ١: ٢٦٣.

٤- خزانة الأدب ٢: ٣٩٢.

٥- موطأ مالك ١: ٢٦٩ح ٦٠٥، مصنف بن أبي شيبة ٦: ٤٣٨ ح ٣٢٧٣٥، تاريخ الطبري ٢: ٢٥٥، ‏البداية والنهاية ٦: ٣١٢، شرح النهج ١٧: ٢٠٩. والعقال: الحبل الذي يعقل به البعير الذي كان يؤخذ في ‏الصدقة.

٤٥٧

والخلال والعقال، وأنّ لابن أبي قحافة ارتباطاً نفسياً مريباً بالناقة، أم أنّ ذلك يشير ‏إلى اهتمامه باُمور الصدقات ؟

وإذا كان يشير إلى اهتمامه بالصدقات فلماذا لا يشير إلى الغلاّت الأربع أو النقدين، أو ‏البقر والغنم ؟!‏

ألم يكن قوله: لو منعوني حبّة حنطة، أو تمرة واحدة ؟ أبلغ وأوفى لإيصال ‏المطلوب، وهو مما يبين اهتمامه وحرصه على الزكوات أكثر ؟

وأ يّهما هو الأبلغ للدلالة على حرص الخليفة على حقوق المسلمين، أهي مقولته تلك، ‏أو ما قاله الإمام علي ممتنعاً من قبول ملفوفة الأشعث بن ‎ قيس، والتي اعتبرها كأ نّها عجنت بريق الحية، قائلاً: وأعجبُ من ذلك ‎

طارقٌ طرقنا بملفوفة في وعائها، ومعجونة شنئتها كانّها عجنت بريق حية ‎

أو قيئها.

فقلت: أصلة، أم زكاة، أم صدقة ؟ فذلك محرَّم علينا أهل البيت.

فقال: لاذا ولا ذاك ولكنها هدية.

فقلت: هبلتك الهبول ! أعن دين الله أتيتني لتخدعني ؟ أمختبط أنت أم ذو جنة، أم ‏تهجر، والله لو أُعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها ‏جلب شعيرة ما فعلته، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها(١)

وعليه فالقبائل العربية مثل هوازن وقريش وغيرها كانت تعيّر ابن أبي قحافة بأبي ‏الفصيل وذي الخلال، و إنّ تأكيدهم على هاتين الكلمتين تحمل معاني كثيرة واضحة ‏للبصير العالم.

____________________

١- نهج البلاغة ٣٤٦ الخطبة ٢٢٤، شرح النهج ١١: ٢٤٥، خلاصة الأثر ١: ٢٠٦.

٤٥٨

وهي تؤكّد أيضاً بأنّ كنية ‏(‏أبي بكر‏)‏ لم تكن لابن أبي قحافة في الجاهلية، بل وضعت ‏له لاحقاً.

وخلاصة الكلام وفصيل الخصام: هو أنّ عتيقاً أو عبد الكعبة كان وضيع النسب ‏والحسب حسبما ذكرته كتب التاريخ، فكان فقيراً محتاجاً كأبيه، يشتغل بوضيع الأعمال، ‏وكان يُكنّى ب- ‏(‏أبي الفصيل‏)‏ ويلقّب ب- ‏(‏ذي الخلال‏)‏، لاشتغاله عند ابن جدعان أو غيره ‏برعاية الانعام، والاهتمام بصغارها إيلاداً ورضاعاً، فلذلك أطلق عليه في الجاهلية كنية ‏‏(‏أبي الفصيل‏)‏ ولُقب ب- ‏(‏ذي الخلال‏)‏، وكان لا يُعرف إلاّ بذلك.

ويظهر أ نّه كان يتنفّر من هذه الكنية وهذا اللقب أشدّ التنفّر لحرمانه من نعمة البعران ‏التي يرعاها.

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمولُ

فلما تولّى أزمّة الأمور أراد مَحْوَ ما كان يعرف بها، فبدأ بذلك هو وأعوانه وأهل ‏ودّه، فادّعى أو ادُّعي له بأنّ اسمه في الجاهلية كان عبدالله، مع أ نّه كان يسمى: ‏عبدالكعبة.

وادُّعي أنّ الله أغنى النبيّ بماله، مع أ نّه كان لا يملك شبع بطنه(١) .

وادّعي له بأ نّه أوّل من أسلم، مع أ نّه سابع أو ثامن من اسلم.

وادّعي له لقب الصديق مع أ نّها لقب للإمام علي حسبما قالعليه‌السلام .

وادُّعي له بأنّ كنيته أبو بكر، مع أنّ كنيته أبو الفصيل.

وفيما كان يُدعى ويلقب ب- ‏(‏ذي الخِلال‏)‏ عيباً له بُدِّل ذلك وجعل مدحاً له.

وهكذا تمتد قائمة التغييرات والتبديلات، غير أنّ المهم هنا هو الكنية، إذ قد عرفنا أ نّه ‏كان يكنّى في الجاهلية ب- ‏(‏أبي الفصيل‏)‏ ويلقب ب- ‏(‏ذي الخلال‏)‏ وحين ‏

____________________

١- مر عليك في صفحة ٤٤٢ كلام عمر له: ‏(‏تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين ؟ قال: فمن اين اطعم ‏عيالي ؟‏)‏.

٤٥٩

صار ‏(‏خليفة‏)‏ أراد أن يشبع نهمه من الإبل، فراح يجرّد خصومه من الإبل، وكانت ‏الحروب المسمّاة ب- ‏(‏حروب الردة‏)‏ حرب أموال مدارها الإبل، إذ لم نعهد ولم نقرأ ولم نَرَ ‏أبا بكر يحارب أحداً على منعه زكاة النقدين، أو الغلات الأربع، أو حتى البقر والأغنام، ‏بل انحصرت حروبه ب- ‏(‏دعاوي إبليّة‏)‏ أو قل ‏(‏فصيلية‏)‏ أو ‏(‏خلالية‏)‏، ولذلك راح مناوؤه ‏يشيرون إلى ذلك ويصرّحون بكل وضوح بأنّ الحرب معهم ليست دينية زكويّة، و إنما ‏هي من أجل الإبل، تجريداً لهم عن مصادر القوّة آنذاك، و إشباعاً لنهمه.

و إذا أردت التأكّد من ذلك فانظر إلى تأكيد أبي بكر على ‏(‏عقال بعير‏)‏ دون البواقي، ‏واقرأ معي ما فعله زياد بن لبيد عامل أبي بكر على صدقات حضرموت:‏

فقد أخذ يوماً من الأيام ناقة من إبل الصدقة فوسمها وسرّحها مع الإبل التي يريد أن ‏يوجّه بها إلى أبي بكر، وكانت هذه الناقة لفتىً من كندة يقال له زيد بن معاوية القشيري، ‏فأقبل إلى رجل من سادات كندة يقال له حارثة بن سراقة، فقال له: يابن عم، إنّ زياد بن ‏لبيد قد أخذ ناقة لي فوسمها وجعلها في إبل الصدقة، وأنا مشغوف بها، فإن رايت أن تكلمه ‏فيها فلعله أن يطلقها ويأخذ غيرها من إبلي، فإني لست أمنع عليه.

فأقبل حارثة بن سراقة إلى زياد بن لبيد فكلمه وأبى زياد وشبّت الحرب واستعرت، ‏وكان فيما قاله حارثة بن سراقة: نحن إنّما اطعنا رسول الله إذ كان حياً، ولو قام رجل من ‏أهل بيته لأطعناه، وأ مّا ابن أبي قحافة فماله طاعة في رقابنا ولا بيعة(١) .

فهؤلاء لم يكونوا مانعين للزكاة، بل استاءُوا من جَشَعَ أبي بكر وعماله، وطمعه في ‏إبلِهم، خصوصاً وأ نّهم كانوا قد رأوا كيف كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يأخذ منهم ‏الصدقات والزكوات بكلّ رقة ولطف، بحيث كان المسلمون يعطون ذلك ‏

____________________

١- انظر تفصيل القضية في كتاب الردة للواقدي: ١٦٩ - ١٧١.

٤٦٠