ثم شيعني الالباني

ثم شيعني الالباني0%

ثم شيعني الالباني مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 305

  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65170 / تحميل: 6503
الحجم الحجم الحجم
ثم شيعني الالباني

ثم شيعني الالباني

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
العربية

(عرض عليَّ ملك استأذن ربّه أن يسلّم عليّ ويبشّرني في أنّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة)، وزاد الترمذي وأحمد: (وأنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة). وقال الترمذي: حسن غريب، لا نعرفه إلاّ من حديث إسرائيل. قال (الألباني): وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح؛ غير ميسرة.. وهو ثقة، وصحح الزيادة الحاكم (٣/١٥١)، ووافقه الذهبي".

ثمّ ختم الألباني تخريجه لهذا الحديث بقوله: "وبالجملة؛ فالحديث صحيح بلا ريب؛ بل هو متواتر كما نقله المنّاوي، وكذلك الزيادات التي سبق تخريجها، فهي صحيحة ثابتة، ومنها طبعاً: (وأبوهما خير منهما وفاطمة سيّدة نسائها)". انتهى الحديث.

فارتحت لذلك كثيراً وأُثلج صدري وقلبي وسررت بهذه الكلمات العظيمة والتي لا يفهم الحديث على واقعه ومراد النبيّ(صلى الله عليه وآله) منه إلاّ بوجودها، ولكن يد الغدر والتحريف والتلاعب والهوى امتّدت لتشوّه هذا الحديث وتعبث به وتحرّف معناه وتلوي عنقه وتسلبه بريقه ونوره الذي تتضح من خلاله منزلة أهل البيت الطاهرين، وكذلك تفهم سائر فضائلهم(عليهم السلام) على حقيقتها لا كما يفهمونها بعد تلاعبهم بألفاظها ومعانيها، ناهيك عن ردّها وإنكارها كما هو ديدنهم في التعامل مع فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، كما رووا في مقابل هذا الحديث الرائع الشريف حديثاً مكذوباً لا طعم له ولا لون ولا رائحة، فرووا أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) قد قال أيضاً: (أبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة)!!

وهذا ديدن جميع السلفيين مع فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، وخصوصاً شيخ إسلامهم ومنظّرهم ابن تيمية، والذي قال بالحرف الواحد في منهاج سنّته عن

١٤١

فضائل وخصائص أمير المؤمنين(عليه السلام) (١) عند ردّه على استدلال العلاّمة الحلّي بفضائل أمير المؤمنين(عليه السلام) الصحيحة ومن كتبهم المعتبرة: "إنّ هذه الأحاديث التي ذكرها ــ يعني العلامة ــ أكثرها كذب أو ضعيف باتّفاق أهل المعرفة بالحديث، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدلّ على إمامة عليّ ولا على فضيلته على أبي بكر وعمر وليست من خصائصه، بل هي فضائل شاركه فيها غيره بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر فإن كثيراً منها خصائص لهما" (٢) .

وكذلك أعاد ذلك: "وقد قال العلماء: ما صحّ لعليّ من الفضائل فهي مشتركة شاركه فيها غيره بخلاف الصديق فإنّ كثيراً من فضائله وأكثرها خصائص له لا يشركه فيها غيره" (٣) .

فلا ندري من يكون هؤلاء العلماء؟ وأين قولهم؟ والدليل بخلافها وعلى العكس منها تماماً!

وكذلك قال: "فإنَّ فضائل عليّ الثابتة عامّتها مشتركة بينه وبين غيره بخلاف فضائل أبي بكر وعمر فإنّ عامّتها خصائص لم يشاركا فيها" (٤) .

عامله الله بما يستحق على هذا النصب الصارخ والعداء الفاضح!!

فحمدت الله تعالى وشكرته على هدايته وتوفيقه لي ورفع الغشاوة والظلمة عن عيني وقلبي حتّى رأيت حقائق الأشياء بواقعها والمراد منها؛ فجزمت بكذب

________________________

١- التي ألّف فيها النسائي صاحب أصح السنن الأربعة جزءاً وأسماه خصائص علي، والتي وصف الحافظ ابن حجر أسانيد أحاديثه بأنّها كلّها جياد.

٢- منهاج السنّة (٥/٦).

٣- منهاج السنّة (٧/١٢١).

٤- منهاج السنّة (٧/١٧٣).

١٤٢

ووضع حديث (أبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة) (١) ، وأصبح وضعه واضحاً جليّاً عندي وعند كلّ عاقل وكلّ شخص صادق غير متعصّب ولا معاند.

فإنّ تمام حديث الحسنين(عليهما السلام) ونصّه الكامل يبيّن المراد الحقيقي منه وهو أفضلية سيادة الحسن والحسين(عليهما السلام) على أهل الجنّة أجمعين عدا رسول ربّ العالمين(صلى الله عليه وآله) سيّد ولد آدم وسيّد العترة بضرورة الدين، وكذلك أبويهما لاستثنائهما في نفس الحديث؛ فإنّ استثناء النبيّ(صلى الله عليه وآله) لأجناس مختلفة عن جنسهما كبعض الأنبياء وأبيهما وأمّهما يبيّن ويثبت العموم المراد منه، بحيث إنّه لولا الاستثناء ومزيد البيان لفُهِم أنّهما(عليهما السلام) أفضل البشر سواء الأنبياء منهم أو الشباب أو الشيوخ والكهول أو النساء؛ فعليّ(عليه السلام) قد استشهد وهو في سن أبي بكر وعمر فلا يبقى لهم أيُّ عذر بعد استثناء عليّ(عليه السلام) دون أقرانه في نفس الحديث ليخصصوا الحديث بمن مات وهو شاب وعدم شموله لمن مات شيخاً أو كهلاً ــ مع استشهادهما(عليهما السلام) كهلين أو شيخين أيضاً ــ أو تأويلهم له بمن كان كذلك في الجنّة كما أبطلنا ذلك آنفاً من كون أهل الجنّة في عمر واحد! وما إلى ذلك من أجوبة متكلّفة لليّ عنق الحديث عن وجهته الصحيحة، وتحريف دلالته الواضحة الصريحة؛ كما فهم ذلك أتباعهم ومن عرف حقّهم، والتزم وصية نبيّه(صلى الله عليه وآله) فيهم، والذي لا مصلحة له في جحد فضلهم وتحريف ما ورد فيهم حسداً أو حقداً أو تنافساً.

________________________

١- أخرجه الترمذي (٥/٢٧٢) بثلاثة طرق، ضعّف واحدة، وسكت عن أخرى، ووصف الثالثة بأنّها حسنة غريبة، وراجع في تخريجه وتضعيف كلّ أسانيده وعدم تصحيح أيّ منها مجمع الزوائد للهيثمي (٩/٥٣)، وخصوصاً لو أُخذ بنظر الاعتبار قول أبي حاتم فيه كما نقله الألباني عن ابنه في السلسلة الصحيحة (ح٨٢٤)، فقد نقل ابنه عنه قوله في هذا الحديث: هذا حديث باطل (يعني بهذا الإسناد) وامتنع أن يحدّثنا وقال: اضربوا عليه. ومن الواضح أنّ كلام أبي حاتم شيء وكلام ابنه وفهمه له شيء آخر، خصوصاً مع تصريحه ببطلان الحديث لا الإسناد!!

١٤٣

وبذلك تبيّن لي الطريق بكلّ وضوح، وزال عنّي كلّ شك وجحود، فاستعنت بالله أن يقدرني على اتّباع الحقّ ويسهّل لي سلوك سبيل الصدق، وترك ما كنت عليه ممّا توارثته عن الآباء والأجداد دون دليل أو برهان أو كتاب منير، وقد قال تعالى وتعهّد لكلّ من طلب الحقّ ورام الصدق والبر والمعروف بأن يوفّقه للوصول له وإدراكه وتيسير رحلته وإتمام مهمّته بيسر وتسديد وتأييد وتوفيق ليس له نظير وغير متوقّع ودون أيّ حساب أو احتساب، فقال(عزوجل): {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (١) ، وقال عزّ من قائل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (٢) .

________________________

١- الليل: ٥ ــ ٧.

٢- النازعات: ٤٠ - ٤١.

١٤٤

أصعب ما واجهني

كان أصعب موقف صادفني خلال هذه الأحداث هو يوم تلجلجت هذه المعلومات في صدري، وانكشفت هذه الأمور أمام عيني، وتيقّن قلبي بوجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) من عترة النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون غيرهم ؛ للأمن من الضلال والوصول إلى رضا الجبّار ودخول جنان الرحمن، وبعد تبين عدم وجود دليل لي على اتّباع الصحبان دون المنتجبين الأطهار، واتّخاذ الصحابة أئمة دون القرابة والآل.

فاحترت وتحيّرت ماذا أفعل بعد ذلك؟!! وكيف أتصرّف مع أهلي وقرابتي وجيراني وأصدقائي ورفاقي في المسجد ومعارفي في السوق وزملائي في الجامعة؟!

ففكّرت باللجوء إلى أحد أصدقائي لأبث له ما أصبت به من هم وغمّ، وما كشفتُ من حقيقة ليست بالسهلة عليَّ، سواء بالاعتقاد بها أو ترجيحها أو بالتكلّم بها أو طرحها على مائدة البحث والنظر والتحليل، فهذا أمر صعب ومتعسّر القبول، ولا يصدّق السلفي ولا يؤخذ كلامه على محمل الجد إن طرحه أو تكلّم به! ولكن كيف أعتقد بذلك وحدي دون أن أعرض ذلك الأمر الخطير على إنسان عاقل؟ لأستفيد من ملاحظاته أو خبرته أو فهمه أو علمه، ولأستفيد من عقله ومعلوماته وتحليله ورأيه بذلك، فقد يخطئ الإنسان ويجهل دون أن يعلم فيحصل له جهل مركب، لذا رأيت أنّ ذلك محتّم عليّ ومكمّل لبحثي، وعلى الأقل

١٤٥

ليطمئن قلبي بأنّي لم أعتقد ذلك عن هوى أو غباء أو تسويل نفس أو تضليل من شيطان، أو حتّى تلبّس جنّ كما ادّعاه أحد أصدقائي السلفيين ممّن أصيب بالدهشة والذهول لخبر تشيّعي وما أُشيع عن تحوّلي! فأخبرني مرّة بأنّه لا يصدّق تحوّلي وتشيّعي وإنّما يعتقد جازماً بأنّ جنّياً رافضياً قد تلبّسني!!

فلم يخطر في بالي إلاّ صديقي (المهندس حارث السامرائي)، وهو أعزّ شخص عليّ وأقرب الناس إلي والذي كنت أقضي أكثر أوقاتي معه، حيث كنا متفاهمين على أعلى درجات التفاهم والتوافق في الأفكار وحتّى الخواطر، وكان مهندساً طيّب القلب متواضعاً ذكياً متوقد الذهن، قد كان من قبل مائلاً للإخوان المسلمين ليس له كثير باع بأمور الدين وطلب العلم، وقد كنت أدعوه ليكون من السلفيين، فأصبح سلفياً بعد اللتيا والتي، وبعد شقّ الأنفس، والكثير من المتاعب والمشاكل والمفارقات التي حصلت بيني وبينه، والتي وصلت حدّ العداوة والبغضاء، طبعاً بسبب أسلوبي السلفي الحادّ والفظ، وتجريحي بأبي حنيفة ونقده والذي كان يقلّده وكذلك لكونه من أهالي الأعظمية التي تحوي ضريح أبي حنيفة النعمان، حتّى أثّرنا فيه أنا وأصدقائي، فتحوّل سلفياً في نهاية المطاف، وأصبحنا صديقين حميمين لصيقين، ثمّ درس وتعلّم بعض الأمور وفهم المنهج السلفي جيّداً وأصبح من دعاته والمعجبين به على أحسن ما كنت أتوقّعه منه وعلى أتمّ وجه وأبلغ صورة، فأطلق لحيته الكثة الطويلة بعد أن كان يعتاد حلقها وتخفيفها، ولبس الثوب القصير بعد أن كان يرتدي البنطال، وكان ممّا درسه كتاب التوحيد بشرح قرة عيون الموحّدين وفتح المجيد وبدأ بقراءة كتب ابن تيمية، ودرسنا مصطلح الحديث (الباعث الحثيث) سوية عند شيخنا (أبو دعاء) بعد أن كان يقرأ سابقاً لسيّد قطب، وخصوصاً تفسيره (في ظلال القرآن) وبعض كتب عبد القادر الكَِيلاني والصوفية لكون أخيه صوفياً وما إلى ذلك من ترهات... (بزعمنا واعتقادنا كسلفية)!!!

١٤٦

فمرّة أردت مفاتحته بما اكتشفت، ولكن خانتني الشجاعة في البوح بذلك، وخشيت على نفسي من التفوّه له بشيء عن هذا الموضوع مع كونه ثقتي وموضع سرّي وأعزّ صديق عندي، ولكن الأمر ليس بالهيّن ومعلومات الرجل ليست كثيرة في هذا الباع من آراء وأقوال الفرق والمذاهب، فكيف سيكون ردّه لو أبحت له بما في داخلي وأعلنت له تشيّعي بعد أن عانيت ما عانيت معه لكي يصبح سلفياً ويقتنع بهذا المذهب الممقوت والمكروه في العراق ولا سيما في مسجدنا الإخواني الصبغة والتوجّه، ولم يمض على اقتناعه بالسلفية سوى سنتين تقريباً! فكيف أقنعه مرّة أخرى بترك السلفية واعتناق التشيّع مع أنّ التشيّع عندنا ممقوت مكروه منبوذ أكثر بكثير من السلفية؟!

ومرّت الأيام والشهور وأنا أحترق وأتألّم من حالي ومآلي، وما أنا فيه من انهيار مذهب أهل السنّة عندي بشكل قاطع وأكيد، وعدم استطاعتي ترك المذهب والمسجد والأصدقاء والأخوان هكذا دون نقاش مع أحد أو طرح لما توصّلت إليه واقتنعت به من دون تأكّدٍ من عدم إصابتي بالجنون أو الجنوح عن الصراط بإضلال النفس أو الشيطان أو انتقام الله وإمداده لي وتضليلي إن كنتُ مستحقاً للضلال؛ فكان لابدّ لي من مفاتحة أحد ممّن أعرفه بهذا الأمر، لأتأكّد من عدم فقداني لعقلي وعدم ضلالي، فأكون بالتالي على بينة من أمري وما أفعله من فهم وتفكير أدّى بي إلى ترك مذهبي وتغيير عقيدتي وهي أعزّ شيء أمتلكه، فتغيير العقيدة من أصعب الأمور على الإنسان على الإطلاق ؛ لأنّك ستهدم عقيدة راسخة عادة وتأتي بدلاً عنها بأخرى تحلّ محلّها فكأنّك تميت نفساً وتحيي أخرى!

فلم يبق أمامي سواه لأصارحه، لعلّه يقتنع بما اقتنعت به أو يوقظني من منامي على أقل تقدير!

١٤٧

وكانت أوّل مرّة تكلّمت فيها معه عن بعض ما أعانيه من صراع من دون توضيح، وبالعموميات وبصورة غير مباشرة، فلم يفهمني جيّداً ولم يعرف مرادي ومقصدي! وهذا أمر متوقّع بل أكيد حينما شكوت له من السلفية ومنهجهم غير المنضبط، وقلت له بأنّ كلّ مجموعة وكلّ جامع وكلّ شخص أصبح مذهباً بذاته فأين الفرقة الناجية؟ إن كان السلفيون أنفسهم فرقاً يضلل بعضهم بعضاً، ويختلف بعضهم مع بعض، ويكره بعضهم بعضاً، فكيف بسائر الفرق والجماعات؟! وكيف تكون الجماعات السلفية على اختلافها وافتراقها تمثّل فرقة واحدة وناجية؟!

وخذ على ذلك مثلاً، في بغداد فقط ترى جماعة الشيخ عبد الملك المفتي (١) يختلفون مع جماعة الشيخ محمود (٢) ، وهؤلاء يختلفون مع جماعة شيخ عادل (٣) وجماعة شيخ فؤاد (٤) ، وهؤلاء بدورهم يختلفون مع جماعة شيخ سامي (٥) ، وأمّا جماعة شيخ فائز (٦) فحدّث ولا حرج في الاختلاف والتكفير، وما إلى ذلك لسائر الفرق الأخرى عداهم، لأنهم وهابيون تكفيريون حتّى السلفيين عندهم ليسوا بسلفيين أصلاً، وليسوا من الفرقة الناجية.. بل حتّى الجماعة الواحدة من السلفيين

________________________

١- هذه الجماعة في منطقة حي الجامعة في كرخ بغداد.

٢- هذه الجماعة تتواجد في قرية سعيدة والزعفرانية في رصافة بغداد.

٣- هؤلاء يتواجدون في منطقة الغزالية وهي في كرخ بغداد.

٤- هؤلاء في بغداد الجديدة، نّواب ضبّاط في رصافة بغداد، وقد اغتيل شيخ فؤاد من قبل نظام صدام وهو في اليمن.

٥- هؤلاء يتواجدون في حي العامل لوجود شيخ سامي في مسجد المنطقة وهو جامع العشرة المبشرة في كرخ بغداد.

٦- هذه الجماعة تعتبر أعرق وأقدم وأوّل حركة وهابية تنشأ في العراق، ويتواجدون بحسب علمي في منطقة الشعب وحي أور والطالبية في رصافة بغداد، وقد قام صدام بإعدام ثمانية من كبار ومؤسسي هذه الجماعة، فأفل نجمها واضمحل حجمها وتفككت قاعدتها ويبدو أنّ فكرهم مطابق إلى حدّ كبير لفكر القاعدة.

١٤٨

من أبناء المسجد الواحد فإنّهم كانوا يختلفون أشدّ الاختلاف في بعض الأحكام وبعض القضايا وبعض الأفهام للحديث أو الآية أو كلام ابن تيمية أو غيره.

فقلت له: ألا ترى بأنّه ينطبق علينا معاشر السلفيين قول الله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (١) ؟

فوافقني (حارث) بذلك الشعور ظاهراً! وعرفت بعد ذلك بأنّه ذهب إلى أصدقائي من السلفيين في جامع آخر وهو (جامع الفردوس) (٢) وأخبرهم بأنّي قد أكون تأثّرتُ بالإخوان فيجب أن يدركوني من الضياع والضلال والردّة عن الحقّ، فقاموا بالتردد عليَّ حينها كثيراً حتّى أنّ زياراتهم لي كانت يومية تقريباً، فاستغربت حينها لذلك وارتبت كثيراً من تصرّفهم وتقرّبهم وتوددهم هذا.

فقلت في نفسي: لمَ يفعلون ذلك وفي هذا الوقت بالذات؟ ماذا فعلت وماذا تكلّمت بعدُ حتّى يفعلوا مثل هذا الفعل! ويواسوني ويُسمِعوني بعض الكلمات مزاحاً ويومئون إلى تأثّري بالإخوان المسلمين وانحرافي عن السلفية نوعاً ما بزعمهم؟! بعد أن كنت متشدداً بعض الشيء، ففعلت وتركت بعض ما لا ينبغي لمثلي فعله أو تركه، من ارتدائي حينها البنطال (الكابوي)، وتخفيف لحيتي وتساهلي في بعض الأمور كعدم لبس القصير، أو تحريك الإصبع في التشهّد، أو رفع اليدين على الصدر في التكتف، وما إلى ذلك بالإضافة إلى انتقادي للمدرسة السلفية عند (حارث) ــ الذي أخبرهم بذلك النقد اللاذع ــ وبذلك حاولوا أن يُحسِّنوا صورتهم وصورة المدرسة السلفية بإظهار بعض المحاسن، كالزيارة والتواصل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأسلوب جديد وتفاهم وتفهّمٍ للآخرين، دون تفسيق مباشر، وهجر للمخالف لهم، كما كان ديدنهم!!

________________________

١- الحشر: ١٤.

٢- في منطقة حي أور في بغداد الرصافة.

١٤٩

يوم الفصل

بعد ذلك حاولت مراراً وتكراراً مفاتحته مباشرة فلم أجد لذلك سبيلاً، واستطعت مرّة أن أفاتحه بالموضوع حين خرجنا من صلاة العصر من المسجد وكان يوم جمعة وكانت بداية أيام محرم.

ففاتحته في الموضوع فحصل الفتح بتوفيق الله تعالى ومنّه وقدرته ولطفه وبركة أيام سيّد الشهداء وأبي الأحرار الإمام الحسين(عليه السلام)، فبعد أخذ العهود والمواثيق الغليظة منه بأن لا يخرج كلامي لأيّ شخص غيرنا كائناً من كان، استغرب كثيراً من قولي وتشديدي وإقسامي عليه بهذا الشكل!

فقال: نحن بيننا كلام وأسرار وتفاصيل عن حياتنا الخاصّة فلماذا هذا التشديد اليوم؟!

فقلت له: إنّ الأمر مهم وشديد وخطير ويختلف عن كلّ ما نتكلّم به كلّ يوم! فاشتدّ شوقه لمعرفة الكلام الجديد والمخيف، فخاطبته حينها بأسلوب ارتجالي ودون تكلّف أو تحضير مسبق، فذكرت له صلاة الجمعة في ذلك اليوم وما تكلّم فيه الخطيب دون ذكر سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وسبطه ونحن في أيامه وأيام شهادته(عليه السلام) وأنكرت ذلك عليه فوافقني.

وذكّرته بعد ذلك بما جرى قبل أشهر في جامع عبد الله بن عمر حينما حضرنا محاضرة للشيخ عداب محمود الحمش المحدّث السلفي المبعد عن

١٥٠

السعودية الذي تكلّم عن أهمية السنّة النبويّة! فتذكّرها.

فقلت له: هل تذكر ما قاله في ذلك اليوم عن حديث كتاب الله وعترتي؟

قال: لا.

فأخبرته بما قال، فتذكّر ذلك وقال: صحيح، فقد خرجنا يومئذٍ غير راضين عليه، كنت أراك غاضباً منه لأجل كلامه عن حديث الثقلين، أمّا أنا فقد استغربت حينها من كلامه في البدعة وتفصيله فيها على غير المعروف والمألوف عند السلفية، ولم أنتبه أصلاً لكلامه في هذا الحديث!

فذكرت له كلامه في تضعيف الألباني حديث (كتاب الله وسنّتي)، وأنّي قد راجعت بعد ذلك وتأكّدت من صحّة دعواه وأنّ الشيخ الألباني قد ضعّف فعلاً كلّ أسانيد حديث (كتاب الله وسنّتي) وصحح حديث (كتاب الله وعترتي) بأسانيده الصحيحة بذاتها والحسنة بذاتها والصحيحة والحسنة لغيرها وكثرة طرقه أيضاً.

وسألته بعد ذلك: ماذا نعرف عن أهل البيت(عليهم السلام) كي نطبّق هذا الحديث ووصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذه ونعمل بها؟! هل نعرف مثلاً ولاداتهم أو وفياتهم أو نهتمّ بها كما يفعل الشيعة؟ وها نحن في أيام محرم فانظر إلى اهتمام الشيعة وحزنهم ومعرفتهم بهم، وهل نعرف أو ننقل أخلاقهم أو أقوالهم أو خطبهم أو أحاديثهم أو فقههم أو عقائدهم؟

فقال: لا والله، لا نعرف شيئاً عنهم! ولم يذكرهم علماؤنا أو خطباؤنا إلاّ عرضاً.

فقلت له: مع أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد خلّفهم فينا وأوصانا باتّباعهم وأخذ الدين والسنّة عنهم!

١٥١

فقال: فعلاً هذا أمر محيِّر! ولكن ما العمل؟ فعلماؤنا لم يرووا عنهم والرواة عنهم كلّهم كاذبون!

فقلت له: وكيف نترك أهل البيت(عليهم السلام) للكاذبين إن كنّا فعلاً نعمل بوصية رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟! كيف نترك الإمام الصادق(عليه السلام) يحدّث الكاذبين فقط دون الصادقين فيفعلون بأحاديثه ما يشاؤون، ويكذبون عليه بما يهوون، ويشكّلون مذهباً معارضاً لنا، مشتتاً لجمعنا وجماعتنا، هادماً لإسلامنا، مخالفاً لأحكامنا، سارقاً منّا أئمتنا، ونحن من يجب أن يتمسّك به ويأخذ الدين عنه! فهل يعقل ذلك؟! هل يعقل أن نترك الصادق للكاذبين ونتركه لهم وندّعي بعد ذلك بأنّنا نحن من يلتزم بوصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيهم؟! ونحن من يلازمهم ويأخذ الدين عنهم وليس من انتسب إليه والتزم به وأحاطه وحدّث عنه!

فقال: فعلاً هذا الكلام منطقي، وهذا الأمر غير طبيعي!

فقلت له: أتعرف أنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) مجمع على عدالتهم عندنا! وأنّهم أفضل أهل زمانهم! وأنّ الإمام عليّ(عليه السلام) هو أفضل الصحابة، وهو من يجب اتّباعه بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو خليفته الشرعي!

قال: كيف ذلك؟

فأخبرته بحديث الغدير بعد حديث الثقلين، وأخبرته بفضائل عليّ(عليه السلام) واحدة تلو الأخرى، وهو يستمع إليّ وكأنّ على رأسه الطير متعجّباً مصدوماً فاتحاً عينيه وفمه بدهشة واضحة وكأنّه لم يسمعها من قبل!!

حتّى قال لي: كلّ هذه الأحاديث عندنا صحيحة السند أيضاًَ؟!!

قلت له: لم آتك بحديث واحد ضعيف أو حديث من غير كتب أهل السنّة المعتبرة!

١٥٢

حتّى وصلت إلى ذكر كلام ابن عباس ــ الذي حصل لنا بعده ما حصل ــ حين قلت له: ويكفي في تفضيل أمير المؤمنين(عليه السلام) قول ابن عباس فيه وهو حبر الأمّة وترجمان القرآن، كما روى ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة: "إن أتانا الثبت عن عليّ لا نعدل به" (١) ! فهذه شهادة من ابن عباس بوجود خصيصة للإمام عليّ(عليه السلام) تفضّله وتميّزه عمّن سواه وعلى لسان حبر الأمّة الذي دعا له رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأنّ يفقّهه الله تعالى في الدين ويعلّمه التأويل، فأين علم عليّ(عليه السلام) هذا الذي يعتزّ به حبر الأمّة بهذا الشكلّ! وهل نحن نفعل ذلك مع أحاديث عليّ(عليه السلام)؟!

أبداً ــ والكلام لي ــ خذ مثلاً: البخاري يروي حديث شرب الماء واقفاً عن عليّ(عليه السلام) وقد فعله أمام الناس مستنكراً على من يشرب الماء عن جلوس ومن يتورّع عن شربه قائماً، بالإضافة إلى أنّه(عليه السلام) نقل فعل ذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بالإضافة إلى كونه(عليه السلام) خليفةً راشداً وإماماً للمسلمين وأميراً للمؤمنين، ومع ذلك لا يأخذ السلفيون بهذا الحديث ولم يعملوا به وردّوه عليه! فخالفوه وفضّلوا أحاديث أنس وأبي هريرة على أحاديث عليّ(عليه السلام) وفقهه، مع إنّها أصحّ منها إسناداً!! وهو خليفة راشد تجب متابعته وتقديمه على غيره بنص حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو نصّ في المسألة، وقول ابن عباس أيضاً الذي ذكرناه، فكيف نسمّي أنفسنا وندعي بأنّنا نحن من يتّبع أهل البيت(عليهم السلام) دون غيرنا؟!!

فتعجّب (حارث) لذلك!! وأيّدني تماماً في كلامي.

وذكّرته بالبخاري الذي لم يحتج بالإمام الصادق(عليه السلام) وهو يُلقّب في الأمّة كلّها بالصادق، فهو لم يصدّقه ولم يحتج بحديثه مع أنّه يحتج بحديث مثل مروان ابن الحكم وعمران بن حطان وحريز بن عثمان وأمثالهم! فكيف ندّعي بعد هذا

________________________

١- سبق تخريجه.

١٥٣

كلّه بأنّنا نحن من يتّبع أهل البيت(عليهم السلام) ويحبّهم ويتمسّك بهم في الحقيقة والواقع؟! فأيّ حقيقة هذه وأيّ واقع؟!

حصل الفتح في هذه اللحظة العظيمة أخيراً.. واقتنع صديقي (حارث) بكلامي حينها، ورجّحه وتقبّله.

وقال لي: كلّ هذه الفضائل وهذه الأحاديث عندنا؟!

قلت له: إي والله وفي أصحّ كتبنا وعند أفضل علمائنا ومحققينا كالبخاري ومسلم في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه عليهما، وبموافقة الذهبي في تلخيصه، وابن حجر في الإصابة، والذهبي في سير أعلام النبلاء، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، والمزي في تهذيب الكمال، والبداية والنهاية لأشدّ عالم سنّي سلفي يقلّد شيخه ابن تيمية ومنهجه في كلّ شيء وهو ابن كثير الدمشقي والذي يكاد يكون ناصبياً كشيخه، والاستيعاب لابن عبد البر، وأسد الغابة لابن الأثير، وما إلى ذلك من كتب لعلماء محققين ومعتبرين عند السلفيين دون غيرهم ممّن نعدّهم من المتساهلين!

وقلت له: إن شئتَ نذهب الآن إلى بيتي لنتأكّد وأريك أكثر ممّا ذكرت لك من فضائل لأمير المؤمنين(عليه السلام) عند ابن حجر والألباني والآخرين، كحديث المؤاخاة، وسدّ كلّ الأبواب إلاّ باب عليّ، وكون عليّ باب مدينة العلم وباب دار الحكمة، وأقضى الصحابة، وأنّه كرار وليس بفرار يقاتل جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، وأنه لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق، وأنّ من سبّه وأبغضه فقد سبّ وأبغض النبيّ ومن سبّ النبيّ وأبغضه فقد سبّ الله تعالى وأبغضه، وما إلى ذلك!

فأذعن لي قائلاً: الله أكبر، كلّ ذلك عندنا ونحن لا ندري!! فكيف نفضّل

١٥٤

غيره عليه؟! وكيف نتّبع غيره ونستبدله بمن هو أدنى منه، ومن لم يوص رسول الله باتّباعه وليس له من الفضائل نصف ما لعليّ ولا حتّى عُشرها؟!!

فقلت له: إذن يجب أن نعترف بوجوب اتّباع أهل البيت(عليهم السلام) وأفضلية عليّ(عليه السلام) على الشيخين!

فقال: أكيد!

بعد ذلك ذهبنا إلى البيت وأريته ما قلت له بأمّ عينيه، قلت مشكلاً: ولكننا لا نروي عن أهل البيت(عليهم السلام) شيئاً كثيراً وديناً كاملاً! فكيف العمل؟

فقال: دعنا نبحث، فأنا متأكّد بأنّنا سنجد ذلك.

قلت له: إنّي بحثت كثيراً ولم أصل إلى نتيجة في ذلك!

قال: كيف ذلك؟

قلت له: قد قلت لك: إنّ علماءنَا يروون الأحاديث عن أهل البيت(عليهم السلام) التي تناسب مذهبنا فقط دون التي يختصون بها، ودون التي تخالف روايات النواصب والحكومات وسنّة أبي بكر وعمر!

فقال مغضباً: كيف؟!

قلت له: بالإضافة إلى ما ذكرته لك من مقارنة بين روايتنا لأبي هريرة ورواياتنا عن عليّ(عليه السلام) ومخالفتهم لرواية عليّ(عليه السلام) التي تخالف روايات غيره كأبي هريرة وأنس، فهل يمكن أن يقرن المنصف عليّاً(عليه السلام) بمثل هؤلاء؟!

قال: طبعاً لا.

قلت له: انظر لو أخذنا مثلاً على ذلك رواية شرب الماء واقفاً، والإمام عليّ(عليه السلام) هو خليفة وإمام عندنا، وروايته أصحّ سنداً، فهي في صحيح البخاري، وكذلك انظر لإعراض البخاري عن رواية جعفر الصادق(عليه السلام) وعدم الاحتجاج به!

١٥٥

وأنّ مالكاً كان لا يروي عن جعفر بن محمّد(عليه السلام) حتّى يضمّه إلى آخر من أولئك الرفعاء ثمّ يجعله بعده!! وفي رواية تظهر عملهم للحكومات قال الراوي: لم يرو مالك عن جعفر حتّى ظهر أمر بني العباس (١) !! وقال ابن حجر بعد ذلك: وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ولا يُحتج به ويُستضعف؛ سُئل مرّة: سمعت هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال: نعم، وسئل مرّة، فقال: إنّما وجدتها في كتبه، قلت (ابن حجر): يحتمل أن يكون الأؤلان وقعا عن أحاديث مختلفة فذكر فيما سمعه أنّه سمعه وفيما لم يسمعه أنّه وجده وهذا يدلّ على تثبّته، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من سادات أهل البيت(عليهم السلام) فقهاً وعلماً وفضلاً يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه، وقد اعتبرت حديث الثقات عنه فرأيت أحاديث مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ومن المحال أن يلصق به ما جناه غيره (٢) .

بل قال ابن حبان (٣) بعد قوله: يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه: "لأنّ في حديث ولده عنه مناكير كثيرة، وإنّما مَرَّضَ القول فيه مَن مرّض من أئمتنا لِما رأوا في حديثه من رواية أولاده، وقد اعتبرت حديثه من الثقات عنه مثل ابن

________________________

١- تهذيب التهذيب (٢/٨٨) وغيره كتهذيب الكمال وميزان الاعتدال والكامل فراجع ثمت.

٢- تهذيب التهذيب (٢/٨٨) وغيره فراجع.

ويقصد بعبارته الأخيرة بأنّ أبناء جعفر هم الكذابون فليس من الإنصاف إلصاق الكذب بجعفر بسبب أبنائه. الله أكبر (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذباً) فأولاد جعفر هم موسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا وهم من أوثق الناس وأئمتهم وعدول الأمّة بالاتّفاق فكيف يدّعى بأنّ الخلل في أحاديث الصادق كان بسبب كذب أولاده!!؟؟ فهذا يكشف ويدل بوضوح بأنّ لجعفر الصادق وأولاده مذهباً خاصاً وأحاديث مخالفة لما يرويه العامّة السنّة تروى عنه بواسطة خواصّه والأئمة من ولده ممّا يختلف ويخالف روايات العامّة ويصطدم معها، وهذا يرد الشبهة التي تثار على الشيعة بأنّ أهل الكوفة الرافضة وابن سبأ والفرس هم من وضعوا الأحاديث على جعفر وكذبوا عليه وأسسوا هذا المذهب الذي لا يمت بصلة لأهل البيت، فابن حبان والقطان وابن خلدون يشهدون بأنّ هذه الأحاديث المخالفة وهذا المذهب المخالف هو ثابت عن أهل البيت ونسبته لهم حقيقية والمتهم فيه هم أهل البيت أنفسهم ولو شكك المرجفون المنحرفون.

٣- الثقات (٦/١٣١).

١٥٦

جريج والثوري ومالك وشعبة وابن عيينة ووهب بن خالد ودونهم، فرأيتُ أحاديث مستقيمة ليس فيها شيء يخالف حديث الأثبات، ورأيت في رواية ولده عنه أشياء ليس من حديثه ولا من حديث أبيه ولا من حديث جدّه، ومن المحال أن يلزق به ما جنت يدا غيره" انتهى.

وكذلك أبو حنيفة يبيّن لنا عمله للحكومات ومعاداة أئمة السنّة وحكوماتهم لأهل البيت(عليهم السلام) واختلافهم معهم جذرياً، فأوضح بقصّته هذه أعلمية أهل البيت(عليهم السلام) على الجميع ووجود مذهب خاص ينفردون به، يختلف عن مذاهب أهل السنّة!

فقد رووا عن أبي حنيفة أنّه قال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّد، قالوا: كيف؟ قال: لمّا أقدمه المنصور إلى الحيرة بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد فهيّئ له من مسائلك الصعاب قال: فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر، فأتيته بالحيرة فسلَّمتُ وأذن لي فجلست، ثمّ التفت إلى جعفر فقال: يا أبا عبد الله تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا أبو حنيفة، ثمّ أتبعها: قد أتانا! ثمّ قال: يا أبا حنيفة هات مسائلك نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله، وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون كذا وكذا وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ونحن (أهل البيت) نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعاً، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة! ثمّ قال أبو حنيفة: أليس قد رُوينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس (١) .

وفي نفس هذا المسار جاء قول ابن خلدون: "وشذَّ أهل البيت بمذاهب

________________________

١- تهذيب الكمال للمزي (٥/٧٩)، سير أعلام النبلاء للذهبي (٦/٢٥٨)، تاريخ الإسلام للذهبي أيضاً (٩/٨٩)، الكامل لابن عدي (٢/١٣٢).

١٥٧

ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم" (١) !!

ولو نظرنا إلى كلامهم الذي يثبت بأنّ لأهل البيت(عليهم السلام) مذهباً خاصاً ينفردون به؛ تجدهم يتخبّطون في إلصاق الذنب بمخالفة الأئمة وأحاديثهم لمذهب السنّة، فحاول بعضهم الطعن بالإمام الصادق(عليه السلام) نفسه المجمع على وثاقته عندهم! وبعضهم طعن في أولاده في روايتهم عنه(عليه السلام) كما رأينا صنع ابن حبان وابن خلدون! وآخرون لم يرووا عنهم تجنّباً لأحاديثهم المخالفة لمشهور أهل السنّة كمالك فلم يرو عنه إلاّ خوفاً أو طمعاً بعد ظهور أمر بني العباس أو عند موافقته لروايات السنّة! وآخرون حاولوا التآمر والتعاون مع الحكومات والسلطات والقوّة لإرهاب الإمام(عليه السلام) وسائر الأئمة(عليهم السلام) تزلفاً له أو اقصاءً وحسداً للإمام(عليه السلام)! وبهذه الأساليب وغيرها تعامل أهل السنّة مع أهل البيت(عليهم السلام) ورواياتهم!

فأين دعوى اتّباعهم وقبولهم والتزامهم؟! وأين رعاية وصية جدّهم فيهم صلوات ربّي وسلامه عليه وعليهم؟! وأين الكاذبون الذين يدّعي أهل السنّة بأنّهم هم من كذبوا ونسبوا للإمام الصادق كذباً(عليه السلام) ما يخالف أهل السنّة؟!

إذن، فكيف ندّعي بعد كلّ هذا الكلام بأنّنا أولى بأهل البيت(عليهم السلام) من الشيعة؟! وأنّنا نحن الذين نتّبع أهل البيت(عليهم السلام) ونروي عنهم لا الشيعة؟! وأنَّ عِلمَهم عندنا وأنّ الشيعة كذبوا عليهم وجاؤوا بمذهب مكذوب نسبوه إليهم كذباً وزوراً ما أنزل الله به من سلطان لا يمت بأيّ صلة بأهل البيت(عليهم السلام)؟!

فقال لي (حارث): أرجوك دعنا من الشيعة، ولنجد حلاًّ لهذه المصيبة! كيف سنصل إلى أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) ومذهبهم بطرق صحيحة ثابتة؟

________________________

١- تاريخ ابن خلدون (١/ ٤٤٦).

١٥٨

فقلت له: قد بيّنْت لك بأنّه لا توجد عندنا هكذا أحاديث بحيث يتكوّن منها مذهب كامل في الفقه والأخلاق والعقائد! وذكرت لك طريقة رواية علمائنا عن أهل البيت(عليهم السلام) وعدم وثوقهم بما يروونه! وعدم روايتهم عنهم إلاّ بما يتناسب مع مذهبنا ورواياتنا وروايات النواصب والخوارج وآراء الحكومات التي كوّنوا منها مذهباً أطلقوا عليه مذهب أهل السنّة والجماعة في مقابل مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ومدرستهم!!

فقال لي: ما الحل إذن؟

فقلت له ــ بعد أن يئستُ بصورة غير مباشرة من إقناعه بأنّ الشيعة هم من يتّبع أهل البيت ــ : عندي حل!

قال: قل ما هو؟

فقلت له: هناك من العلماء من السلف من قيل عنه بأنّه شيعي أو متشيّع وهو مع ذلك يسير على منهج أهل السنّة، وهم محدّثون وعلماء محترمون حتّى عند السنّة أنفسهم، كالكوفيين (١) والنسائي والحاكم وعبد الرزاق الصنعاني ووكيع بن الجراح شيخ الشافعي وسفيان الثوري وسعيد بن جبير ومقاتل ومجاهد والكلبي وابن إسحق، وغيرهم.. فما رأيك بأن نبحث عن عقائدهم وأقوالهم الفقهية لكونهم متابعين وموالين لأهل البيت(عليهم السلام) ومعروفين بالتشيّع لهم؟

فقال: أحسنت! هؤلاء هم من سينقذنا ممّا نحن فيه، وهؤلاء يمثّلون الحقّ إن شاء الله، فهم برزخ وسط بين الفريقين بلا إفراط ولا تفريط.

فبحثنا كثيراً عمّا رجوناه فلم نهتدِ إلى شيء يذكر ممّا تأمّلناه منهم، بل لا يوجد عندنا نقل يثبت أيّ رأي لهم فقهي أو عقائدي يختلف عن أقوال أهل

________________________

١- على اصطلاح أهل السنّة وكلام المحدّثين في أهل الكوفة وإلاّ فالكوفة فيها مذاهب ومشارب شتّى.

١٥٩

السنّة ؛ لأنّهم لا يمثّلون مدرسة مستقلة لها كيانها ومنهجها الخاص وطلاّبها، وبالتالي فلم نهتد لأيّ شيء جديد يجعلنا نطمئن بأنّنا نلتزم وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) في اتّباع العترة الطاهرة!

وبعد ثلاثة أو أربعة أيام قلت لحارث: سوف لن نصل إلى نتيجة في فعلنا هذا، ونحن في الواقع نضيّع وقتنا الثمين ونضيّع أنفسنا بهذه المحاولة!

قال لي حارث: وكيف ذلك؟!

قلت له: يا أخي نحن تركنا الوصية الحقيقية وذهبنا نتمسّك بمن نظن أنّه اتّبع العترة، والنبيّ(صلى الله عليه وآله) يأمرنا ويوصينا باتّباع العترة ولم يأمرنا باتّباع من نظن فيهم وبلا دليل بأنّهم يتّبعون العترة، هذا أوّلاً.

وثانياً: سوف لن نحصل على مذهب هؤلاء من خلال كتب أهل السنّة ؛ لأنّ هؤلاء كغيرهم من الشيعة ممكن أن يكونوا خائفين ويستعملون التقية مع الناس والعلماء والحكّام لا سيما وهم في وسط سنّي مستمر، فكيف سنصل إلى آرائهم الحقيقية والصحيحة والتي لو صرّحوا بها لما أصبحوا من كبار علماء وأئمة أهل السنّة؟!

وثالثاً: إن النبيّ(صلى الله عليه وآله) وعدنا فقال: (لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك) (١) ، وهؤلاء العلماء كانوا متواجدين في فترة واحدة تقريباً ولا نعرف من قبلهم ممّن يحمل أفكارهم ولا من بعدهم، فكيف ينطبق عليهم الحديث؟ وكيف يكونون هم الفرقة الناجية؟ فهؤلاء يتواجدون في وسط السلسلة فلا أوّل لهم ولا آخر!

________________________

١- رواه البخاري (٤/١٨٧) و(٨/١٤٩و١٨٩) ومسلم (١/٩٥) و(٦/٥٢ـ٥٣) بألفاظ وطرق متعددة.

١٦٠