ثم شيعني الالباني

ثم شيعني الالباني0%

ثم شيعني الالباني مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 305

  • البداية
  • السابق
  • 305 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65177 / تحميل: 6503
الحجم الحجم الحجم
ثم شيعني الالباني

ثم شيعني الالباني

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
العربية

تعالى لهم نصيباً فيها ولا كفلاً منها؛ ولكن ومع كلّ ذلك: هيهات هيهات وقد سبق القضاء بنقض الميثاق!

وبالتالي فإنّ يوم الغدير المبارك حصلت فيه معجزة من معاجز النبوّة وتأييد إلهي للنبيّ(صلى الله عليه وآله) وللإسلام وللمسلمين أيضاً، فبعد أداء المسلمين لهذه الشعيرة العظيمة والتي تعتبر من أهم العبادات وأعظمها تواضعاً وتسليماً وانقياداً لله تعالى وأوامره ــ حيث يعتبر هذا الجو مناسباً، بل هو أفضل ما يمكن توفّره لتقبّل مثل هذا الأمر الصعب القبول على النفوس ــ وبمصاحبة رسول الله(صلى الله عليه وآله) يداً بيد وبعد حثّ الله تعالى لرسوله(صلى الله عليه وآله) وحبيبه ووعده ووعيده وتأمينه وتسكين قلقه من اعتراض قريش وتكفّل حمايته وعصمته منهم، قام رسول الله(صلى الله عليه وآله) عند غدير خم في الجحفة في طريق العودة من حجّة الوداع، وبعد التي واللتيا صدع(صلى الله عليه وآله) فيهم بأمر ربّه قائلاً: (ألا أيّها الناس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، وإنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي؛ أحدهما أعظم من الآخر الثقلين ــ وقال عنه الهيثمي وإسناده جيد: (خليفتين، أمرين) وفي رواية الحاكم: إن اتبعتموهما، وفي رواية أخرى عند الألباني عن الترمذي والطبراني وكذا عند أحمد: ما إن أخذتم به ــ كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) (١) ، وفي رواية أخرى قال: ثمّ قال: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ألست أولى بكم من أنفسكم)؟ قالوا: بلى، قال: (فمن كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه) (٢) .

________________________

١- أخرجه مسلم بتفصيل والحاكم في مستدركه (٣/١١٠)، والترمذي وأحمد والطبراني وابن أبي عاصم والدارقطني والديلمي، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله والطحاوي، وصحح بعض طرقه الحاكم ووافقه على أكثرها الذهبي، وحسّنه الترمذي وصححه الألباني اُنظر السلسلة الصحيحة له: (ح١٧٦١) والهيثمي وغيرهم كثير.

٢- مسند أحمد (١/١١٩) و(٤/٢٨١)، وابن ماجة (١/٤٣)، والحاكم في مستدركه (٣/١١٠) وصحح أحد أسانيده على شرط الشيخين، والآخر على شرط مسلم.

٨١

صعود وتيرة المواجهة:

بعد يوم التنصيب في الغدير وبعد أن تم التبليغ على أتم وجه وأكمله لم تتوفّق قريش واقعاً للتسليم بأمر الله تعالى بعد هذه المعجزة الإلهية وإقامة الحجّة الواضحة البالغة ؛ لأنّها بقيت مصرّة على التحدّي والعناد وعدم القبول والرضوخ للأمر الواقع بعد عقدهم الإمامة لعليّ(عليه السلام) بأنفسهم ومبايعتهم له تحت أنظار وشهادة المسلمين كافّة وبإشراف رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فجعل الله تعالى الأمر بعد يوم الغدير كما هو الحال قبله وفق الأسباب والمسببات الطبيعية والاختيار وصراع الإرادات دون التدخّل الإلهي، كالذي حصل يوم الغدير أو المعجزات أو الصرفة (١) ، فأوكلهم كالعادة إلى أنفسهم ؛ لأنّ الحجّة قد تمّت عليهم: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (٢) ، ولذلك فعلوا بعد ذلك نفس ما فعلوه في حجّة الوداع عند خطبته(صلى الله عليه وآله) هناك، فقاموا بعد شهرين فقط من قبولهم لولاية عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعليّ(عليه السلام) برزية يوم الخميس، وتخلّفوا عن جيش أسامة، ورتَّّبوا صلاة أبي بكر بالناس، وادَّعوا أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) أمرهم بتقديمه للصلاة خلافاً لكلّ القرائن والشواهد والدعاوى، وأنّ الناس ليسوا بحاجة إلى عليّ(عليه السلام)، وأنّ هؤلاء أهم منه وأليق بالنيابة والخلافة، ولكن هيهات هيهات أن يتمّ لهم ذلك دون أن يفتضحوا، ودون أن تتم حجّة الله البالغة بخطل ما ارتكبوا وضلال ما عملوا وعدم رضا الله ورسوله بكلّ ما فعلوا.

________________________

١- الصرفة: هي عبارة عن منع الله تعالى لأناس من فعل شيء ما بتدخّل إلهي إعجازي وصرفهم بقدرته عن فعله، مثل صرف الله تعالى قريشاً بأن يأتون بمثل هذا القرآن على قول، وكذلك صرف قريش عن قتل النبي(صلى الله عليه وآله)، ومثل ذلك صرف قريش عن منع النبيّ(صلى الله عليه وآله) من تبليغ ما أمره الله تعالى بتبليغه من ولاية أمير المؤمنين يوم الغدير.

٢- الكهف: ٢٩.

٨٢

فحاول(صلى الله عليه وآله) بعد ذلك محاولة أخرى لإتمام هذا الأمر بعد أن يئس من تسليمهم بولاية عليّ(عليه السلام) عليهم من بعده وكتابة ذلك في محضرهم، فقام(صلى الله عليه وآله) بإخراجهم وإبعادهم عن المدينة لغزو الروم لعلمه بقرب أجله، فأرسلهم إلى مؤتة وأمّر أسامة بن زيد على شيوخ قريش ــ وهو الفتى والمولى الأسود الذي كان يناهز الثامنة عشر من عمره ــ صارخاً في وجوههم، آمراً بإسراعهم وإنفاذهم، منكراً عليهم تأخّرهم وتخلّف بعضهم، مرغماً بذلك أنوفهم، كاسراً لكبريائهم، مبيّناً لهم واقعهم وحقيقة مكانتهم بعد أن أمّر عليهم عمرو بن العاص قبل ذلك، مهيّئاً الظرف، وممهّداً للضربة القاصمة للظهر الفاضحة للمتكبّر المعاند الجبّار؛ ليتمّ أمر الله ويستتب وفقاً لإرادته التشريعية (وتعالى سبحانه) دون احتكاك أو اعتراض أو تعكير أو تدخّل أو امتعاض أو مواجهة أو رمي للنبيّ(صلى الله عليه وآله) بهجر أو هذيان، فيتحقق حينئذ أمر الله تعالى على أرض الواقع، فيؤدّي النبيّ(صلى الله عليه وآله) بذلك ما يراه حقّاً للأمّة وواجباً عليه من إرشادهم وهدايتهم على أتم وجه ممكن، لحرصه الشديد(صلى الله عليه وآله) على أمّته المسكينة خوفاً عليها من الضياع والضلال من بعده، ووقوعها فريسة سهلة للذئاب التي تحيط بها، محذّراً العامّة من اتّباع سادتهم وكبرائهم كما حذّرهم تعالى من فعل ذلك بقوله عزّ من قائل: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (١) ، ولطالما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) يحذّرهم وينذرهم من وقوعهم في ذلك كما في الأمم السابقة بمثل قوله(صلى الله عليه وآله) لهم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتّى إذا دخلوا جحر ضب تبعتموهم! قالوا: اليهود والنصارى؟ قال(صلى الله عليه وآله): فمن؟!) (٢) .

وتحذيره(صلى الله عليه وآله) لأمّته من الأئمة المضلّين وخوفه عليهم منهم أكثر من الدجال

________________________

١- الأحزاب: ٦٧ ــ ٦٨.

٢- صحيح البخاري (٨/١٥١).

٨٣

حيث قال(صلى الله عليه وآله): (غير الدجال أخوف على أمّتي من الدجال؛ الأئمة المضلّين) (١) .

ولكنهم اعترضوا وكابروا وطعنوا في أمير رسول الله(صلى الله عليه وآله) الذي ولاه عليهم بنفسه، وعرفوا القصد من وراء هذا البعث وهذه الإمرة، فطعنوا في أسامة كما طعنوا في أبيه من قبل على عادتهم، واستنكفوا واستكبروا من الانقياد لموالي وعبيد ــ ولو كانوا موالي رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو من السابقين الأولين أو منصبين من قبل من لا ينطق عن الهوى ــ وهم يرون أنفسهم سادة لهم لكونهم من قريش! فحصل ما حصل، وفعلوا فعلتهم تلك، وطعنوا فيه، ليصارعوا هذا النهج النبوي الذي لا يروق لهم أبداً، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيهم خطيباً مغضباً مريضاً معصوب الرأس وهو في مرض موته في آخر أيامه معهم في هذه الدنيا فقال: (إن تطعنوا في إمارته فقد

________________________

١- مسند أحمد (٥/١٤٥) وذكره النووي في شرحه لمسلم وقال: معناه أنّ الأشياء التي أخافها على أمّتي أحقّها بأن تُخاف الأئمة المضلّون. وأخرج الحديث أيضاً الهيثمي في مجمع زوائده (٥/٢٣٩) وقال: رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات، ورواه عن علي(عليه السلام) أيضاً وقال عنه: رواه أبو يعلى وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف وقد وُثق ورواه عن عمر حيث قال لكعب: إنّي سائلك عن أمر فلا تكتمني، قال: والله ما أكتمك شيئاً أعلمه، قال: ما أخوف ما تخاف على أمّة محمّد(صلى الله عليه وآله)؟ قال: أئمة مضلّين، قال عمر: صدقتَ، فقال: أسرَّ إليَّ وأعلمنيه رسول الله(صلى الله عليه وآله). قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. ثمّ قال الهيثمي: وعن ثوبان قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): إنّما أخاف على أمّتي الأئمة المضلّين. قال: رواه أحمد ورجاله ثقات. وعن أبي الدرداء رواه أيضاً عن أحمد والطبراني وعن شداد بن أوس، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وعن أبي أمامة أيضاً.

وأخرجه الألباني عن السيوطي في صحيح الجامع الصغير(ح٤١٦٥) وقال: صحيح. وكذلك ذكره في سلسلته الصحيحة (ح١٥٨٢ ــ ح ١٩٨٩). وقال الألباني عن طريق ثوبان: أنّه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: (إنّما أخاف على أمّتي الأئمة المضلّين). أخرجه أبو داود (٢/٢٠٣) والدارمي (١/٧٠) و(٢/٣١١) والترمذي (٣/ ٢٣١) وأحمد (٥/١٧٨) وقال الترمذي: حديث صحيح. قلت (الألباني): وإسناده صحيح على شرط مسلم. وأخرجه الحاكم (٤/٤٤٩) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

٨٤

كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقاً للإمرة... ــ وفي مسلم ــ وإنَّ هذا لخليق) (١) ، وأمرهم بإنفاذ الجيش بأسرع وقت ودون تأخير، وحذّرهم من التمهّل والتباطئ، فقال(صلى الله عليه وآله) لهم بعدما اشتدّ به المرض وارتقى المنبر وكرر قوله وأمره: (أنفذوا جيش أسامة أنفذوا جيش أسامة) (٢) ، ولكن دون جدوى!!

وحاول رسول الله(صلى الله عليه وآله) في آخر خميس له في هذه الدنيا ــ في محاولة أخيرة ولإقامة الحجّة طبعاًـ إقناعهم بضرورة هذا الأمر وأهميته، وترغيبهم بتنفيذه، وترهيبهم من تركه ونبذه، فأراد تأكيده بكتابته وتوثيقه بمسمع منهم ومرأى؛ فقال لهم(صلى الله عليه وآله): (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً) (٣) ، فتنبّه القوم أيضاً لمراد النبيّ(صلى الله عليه وآله) من طلبه كتابة هذا الكتاب بتنصيب عليّ(عليه السلام) للخلافة كتابةً هذه المرّة في كتاب ــ هم من كان يجب أن يقدّموه بأيديهم وبكامل إرادتهم واختيارهم ورضاهم فيشهدوا على محتواه ــ ليلزمهم تنفيذه دون اجتهاد في مقابله؛ فلا يمكنهم بعد ذلك إنكاره أو رفضه أو التمرّد والاعتراض عليه أو الطعن فيه أو تغييره إن قُدِّر لهذا الكتاب أن يكتب؛ فاعترضوا عليه واختلفوا وتنازعوا معه وتجرؤوا عليه ورموه بالهجر، وأصرّوا على عدم كتابته وردِّ أمره(صلى الله عليه وآله) مع تأكيده عليه وإظهاره لأهميته بقوله: (لن تضلوا بعده أبداً) مع القرينة الحالية التي تدلّ على أهمية ذلك بكونه على فراش الموت ويريد كتابة وصيته وبوادر توديعه لهذه الدنيا في الأفق لائحة ومقدّمات مغادرته إلى الرفيق الأعلى واضحة!

________________________

١- البخاري ومسلم، وخليق، بمعنى: أهل.

٢- الطبقات الكبرى لابن سعد (٢/٢٤٩) و(٤/٦٨) وتاريخ دمشق لابن عساكر (٢/٤٧و٥١و٥٦) و(٨/٦٢) وسيرة ابن هشام (٤/١٠٦٤) وإمتاع الأسماع للمقريزي (٢/١٢٥و١٣٢) و(١٤/٥١٧و٥٢٠و٥٣٢) بألفاظ متقاربة ومنها (أنفذوا بعث أسامة).

٣- البخاري (٤/٣١) و(٥/١٣٧) و(٧/٩) و(٨/١٦١) ومسلم (٥/٧٦).

٨٥

وكذلك قوله(صلى الله عليه وآله) لهم بصراحة وبالإخبار المباشر عن خطورة ما هم مقدمون عليه، وما سينتقض من بعده من عرى الإسلام وأصوله: (لَتَنقُضُنَّ عرى الإسلام عروة عروة كلّما انتقضت عروة تمسّك الناس بالتي تليها أوّلها نقضاً الحكم وآخرها الصلاة) (١) ، الذي أخرجه ابن حبان في باب: ذكر الأخبار بأنّ أوّل ما يظهر من نقض عرى الإسلام من جهة الأمراء فساد الحكم والحكّام. وكذا في قوله(صلى الله عليه وآله) لهم: (إنّي والله لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها) (٢) .

ولكن دون جدوى!!

وهكذا أدّى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما عليه وزيادة، ولكن قد سبق القضاء والسنّة الإلهية الكونية بأنّ المسلمين سوف لا يجتمعون على تنفيذ أمر الله تعالى وطاعته في هذا الأصل العظيم والمهم كما هو الحال في سائر التشريعات الإلهية: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (٣) ، وأنّهم سوف لن يطيعوا كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) في هذا الأمر العظيم؛ كما نص عليه (صلى الله عليه وآله) بكلّ صراحة ووضوح، حيث نُقل عنه أنّه قال: (إن تؤمّروا عليّاً ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً يأخذ بكم الطريق المستقيم) (٤) ، فحصل نتيجة فعلهم ذلك كلّ الذي حصل،

________________________

١- رواه ابن حبان في صحيحه (١٥/١١١) والحاكم في مستدركه (٤/٩٢) والهيثمي في مجمع زوائده (٧/٢٨١) وقال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (٥٠٧٥).

٢- أخرجه البخاري (٢/٩٤) و(٤/١٧٦) و(٥/٤٠) و(٧/١٧٣و٢٠٩) ومسلم (٧/٦٨).

٣- هود: ١١٨ ــ ١١٩.

٤- أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (٥/١٧٦) عن أحمد والبزار والطبراني في الأوسط وقال عن الأخير ورجال البزار ثقات، وعن البزار أيضاً بلفظ (قالوا يا رسول الله ألا تستخلف علينا؟ قال: إنّي إنْ استخلف عليكم فتعصون خليفتي ينزل عليكم العذاب قالوا... ألا نستخلف علياً؟ قال: إن تستخلفوه ولن تفعلوا يسلك بكم الطريق المستقيم وتجدوه هادياً مهدياً) وأخرجه الحاكم في مستدركه (٣/٧٠) وصححه بلفظ: (... قالوا لو استخلفت علينا علياً؟ قال: إنّكم لا تفعلوا وإن تفعلوا تجدوه هادياً مهدياً يسلك بكم الطريق المستقيم) وبلفظ (وإن تولّوا علياً تجدوه هادياً مهدياً يسلك بكم الطريق) وأخرجه الحاكم أيضاً في (٣/١٤٢) بلفظ (وإن ولّيتموها علياً فهادٍ مهتدٍ يقيمكم على صراط مستقيم) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

٨٦

وتسبب بنو آدم كعادتهم بوقوع الظلم والاختلاف والابتعاد عن الدين الحقّ والخروج عليه والرِدّة عنه، كما حصل ذلك بعد جميع أنبياء الله ورسله(عليهم السلام) دون استثناء هذه الأمّة طبعاً؛ من الوقوع في الفتنة والاختلاف بعد إنزال التشريعات وإرسال الأنبياء والرسل(عليهم السلام)، كما أكّد تعالى ذلك بقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحقّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (١) ، وقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (٢) .

________________________

١- البقرة: ٢١٣.

٢- الأحزاب: ٦٢.

٨٧

الانتقال إلى المواجهة العلنية

لمّا أحسّ الحزب القريشي المعارض لولاية أهل البيت(عليهم السلام) على الناس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأنَّ إسلوبهم الهاديء والتصدّي غير المعلن للنبيّ(صلى الله عليه وآله) أصبح غير نافع لهم، وأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) بدأ بالتوضيح وإلقاء الحجج أكثر فأكثر مع تكثيف جهوده في التبليغ بالتصريح دون التلويح، قرروا تغيير طريقتهم بتصعيد التصدّي للنبيّ(صلى الله عليه وآله) بصورة مباشرة واضحة قويّة وقحة ليحولوا دون إصرار النبيّ(صلى الله عليه وآله) على الكتابة، مع ضعفه ومرضه(صلى الله عليه وآله) وظرفه المحرج وإصراره على قبولهم ورضاهم وتسليمهم، فاتّهموا رسول الله(صلى الله عليه وآله) حينئذ بالهجر والهذيان، فهددوا بذلك أيما تهديد، واستعملوا أقوى ما لديهم من سلاح خبيث، فقالوا كلمتهم الآثمة تلك، في إشارة بل رسالة واضحة للنبيّ(صلى الله عليه وآله) بأنّه إن كتب هذا الكتاب فإنّهم سيقومون بالطعن فيه، وفي رسالته وبعثته ونبوّته فضلاً عن إمامة عليّ(عليه السلام) وعترته، فيحصل بذلك الفساد والردة ويعود الكفر وأيام الجاهلية من أوسع أبوابها، فارتأى النبيّ(صلى الله عليه وآله) السكوت حينئذ وترك الكتابة، واكتفى بتبليغه السابق لهم، وبطردهم وإظهار غضبه عليهم، كما نصَّ على ذلك ابن عباس فيما يرويه البخاري، فحصل ما حصل من رزية ومصيبة، وتسلّط بطانة الشر والسوء عل الأمّة دون حصوله(صلى الله عليه وآله) على تسليمهم لأمره ورضاهم بحكم الله وحكمه بتنصيبهم وقبولهم خلافة وإمامة من هو الأفضل ــ كما يعلمون وكما هو واضح للجميع ــ لحمل راية الدين وصلاح هذه الأمّة وإتمام

٨٨

مسيرتها المباركة!

لكن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قام بعد فعلتهم الشنيعة تلك، بمحاولة أخرى قبل يومين أو ثلاثة من وفاته(صلى الله عليه وآله)، حين أراد إخراجهم من المدينة للغزو تأكيداً وتذكيراً وتجديداً لأمره السابق لهم بالخروج لغزو الروم في بداية مرضه قبل أسبوعين تقريباً، وذلك لإتمام أمر خليفته على أمّته من بعده بعيداً عنهم وعن اعتراضهم عليه واختلافهم معه، بعد أن رأى ما رأى من مواجهتهم له وكلامهم فيه وطعنهم في كلّ شيء وهدمهم لكلّ ما بناه وشيّده فيهم لسنوات!!

وبذلك قام النبيّ(صلى الله عليه وآله) ــ بعد أن استنفذجميع خياراته ــ بخيار أخير حرصاً عليهم وعلى الأمّة ــ ليقطع الحجّة والتذرّع بعد ذلك ــ بعد رفضهم الأمر وتمرّدهم واعتراضهم عليه حتّى وصل الأمر بهم إلى تهديده(صلى الله عليه وآله) بالمساس والطعن بشخصه الشريف(صلى الله عليه وآله) وعصمته ونبوّته ورسالته كلّها إن كتب تلك الوصية الخطيرة التي يريد النص فيها على الأمر من بعده كما هو واضح؛ حينما عصوا أمره ولم يقدّموا له الكتاب الذي طلب منهم تقديمه بأنفسهم وأيديهم وبرضاً وطيب نفس وتسليماً، فكذلك لم يأتمروا بأمره لهم وطلبه الأخير منهم فلم ينفذوا جيش أسامة طيلة تلك الأيام، بحجّة خوفهم من وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله) في مرضه هذا وهم بعيدون عن المدينة!! (١) مع أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) هو الذي استنفرهم وبعثهم بنفسه وهو على تلك الحالة من شدّة المرض حينما خرج لهم ــ أرواح العالمين له الفداء ــ وهو معصوب الرأس من شدّة وجعه، ومع علمه بقرب أجله، وصعد المنبر وهو على تلك الحالة وأنكر عليهم عدم خروجهم وعدم انصياعهم لأوامره وعدم رضاهم بتنصيب أسامة عليهم وتأخّرهم وتململهم في خروجهم وتلكّؤهم في مغادرة المدينة

________________________

١- وهذا أيضاً دليل على أنّهم يعلمون جيّداً بما يريد(صلى الله عليه وآله) تحصيله بإبعادهم.

٨٩

المنورة.

فحصل ما حصل! وحققوا ما طمحوا وسعوا إلى حصوله وما بذلوا لتحقيقه حتّى مع وضوح بغض الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) ذلك!!

نجحوا فجنحوا وهلكوا فأهلكوا!

نعم، لقد نجحوا بأفعالهم تلك في منع وقوع ما كانوا يكرهون وقوعه من كتابة النص على الإمام عليّ(عليه السلام) والوصية له وإبعاد الأمر عنهم وحرمانهم من القيادة والرئاسة والى الأبد، فوقع لهم ما أرادوا بعد كلّ الجهود الاستثنائية التي بذلها رسول الله(صلى الله عليه وآله) لتبليغهم دين الله تعالى!

نعم، نجحوا في جعل بيان الأمر بذلك المستوى، حيث يتمكّنون من إنكاره أو تأويله أو الالتفاف عليه دون أن يستطيع أحد تكفيرهم أو شنّ الحرب عليهم؛ ولكن لم يكن ذلك لذكائهم ولا لصحّة فعلهم أو إقرار النبيّ(صلى الله عليه وآله) لهم، بل لجرأتهم على رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعنادهم لأحكام دين الله التي لا تروق لهم، خصوصاً وأنّ هذا الأمر يشترط في نفوذه في الناس وتطبيقه على الأمّة جمعاء وتحصيل جميع مصلحته وفائدته وجني تمام ثماره؛ قبوله من الناس وقناعتهم به وبعصمته، والبيعة له والرضا عنه والانقياد للإمام والقائد، والتسليم لأوامره دون شك أو ارتياب فيما يقول ويفعل ويسن؛ لتتمّ المصلحة كاملة من علل تشريعه، فيؤمن من الضلال والاختلاف حينها، لحصولها باختيارهم حينئذ ودون إكراه، ولذلك قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (١) ، أي: لا يمكن أن تتحصل ثمرات الدين والتديّن بالإكراه.

وكذلك أشار رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى هذا الشرط حين أوصى الأمّة بوجوب التزام

________________________

١- البقرة: ٢٥٦.

٩٠

سنّة خلفائه، والإشارة منه إلى كونها امتداداً لتعاليمه وإكمالاً لسنّته حين أمر أمّته وأوصاها قائلاً: (عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ) (١) .

وكذلك ما ذكرناه آنفاً من إشارته(صلى الله عليه وآله) إلى ذلك الاختيار المطلوب لأحكام الله تعالى دون إجبار وإكراه منه أو من الإمام(عليه السلام) عليها، فأوضح ذلك بقوله(صلى الله عليه وآله): (وإن تؤمّروا ــ أو إن تولّوا ــ أو إن ولّيتموها ــ عليّاً وما أراكم فاعلين) (٢) ، وهذا نظير قوله تعالى بعد تحريم الخمر عدّة مرّات دون انتهاء البعض عنه، وقول البعض في كلّ مرّة: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً دون ترك للخمر أو ارتداع عَنه! فأنزل الله (عزوجل): {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (٣) إلى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (٤) ، الذي حمل بين طيّاته العتاب والازدراء والإنكار والتهديد لمن لم يستجب لأمر الله تعالى مباشرة وتمادى في التعاطي مع النهي الإلهي والإرادة الإلهية.

فمثل هكذا أسلوب في الأوامر والنواهي الإلهية لا يعني أنّ الله تعالى يخيّرهم بين الفعل والترك وأنّ لهم أن يفعلوا ولهم أن يتركوا، فعدم الإجبار

________________________

١- أخرجه أحمد (٤/١٢٧) وأبو داود (٢/٣٩٣) والدارمي (١/٤٥) وابن ماجة (١/٦) والترمذي (٤/١٥٠) وصححه ووافقه المنذري، والحاكم (١/٩٦،٩٧) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصححه الألباني أيضاً كما في الصحيحة (ح٩٣٧).

٢- رواه الحاكم في مستدركه (٣/٧٠) والهيثمي في مجمع زوائده (٥/١٧٦) وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار ثقات، ورواه الحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين بلفظ (وإن ولّيتموها عليّاًً فهاد مهتد يقيمكم على صراط مستقيم) وللمزيد راجع تخريجه السابق.

٣- المائدة: ٩٠.

٤- المائدة: ٩١.

٩١

والإكراه لا يبرر مطلقاً لمن لا يمتثل، وإنّما المقصود من ذلك كلّه أنّ الله تعالى يأمرنا بحكمه الواجب والمحتّم علينا فعله، كالصلاة والزكاة وإمامة عليّ(عليه السلام) وعدم القتل وعدم شرب الخمر الخ...، وهو في الوقت نفسه يترك لنا الخيار بفعله وعدمه بعد أمره لنا بالامتثال لا على نحو التخيير في الأمر، وإنّما أثبت لنا الاختيار بين الامتثال بالطاعة وعدمه بالمعصية ؛ لأنّه تعالى لا يحملنا قسراً وجبراً على الطاعة والعبادة والامتثال؛ لئلا يبطل التكليف والاختيار، ومن ثمّ الثواب والعقاب.

وهذه نكتة مهمّة ودقيقة، جارية في جميع التكاليف والأوامر والنواهي الشرعية، والتي ينبغي فهمها جيّداً وأخذها بنظر الاعتبار دائماً، حتّى نستطيع فهم مسألة الإمامة الإلهية والخلافة الربّانية بالنص وغيرها من المسائل، ونقض البعض على الشيعة ــ مغالطةً ــ بعدم تحققها في الخارج وعدم حصولها في الواقع؛ بقولهم لو كان الله يريد ذلك لحصل، وبما أنّ تلك الإمامة لم تتحقق فلا إرادة إلهية ولا إمامة ربّانية!

والجواب الواضح على ذلك: هو أنّ الذي لا يتخلّف عن الوقوع والحصول بسبب الإرادة الإلهية هو التكوينيات وليس التشريعيات، والإمامة والخلافة بالتنصيب الإلهي تكوينية ولكن بحسب الأمر الإلهي للعباد بالتزامها واتّخاذها عقيدة هي تشريعية، فيمكن أن يتمرّد العبد على سيّده فيكون عاصياً لا يطيع أوامره!! فإرادته تعالى وطلبه من خلقه أن يعبدوه شيء وعدم استجابة كلّ الناس شيء آخر؛ فهذه مغالطة مكشوفة!

وبالتالي فإنّ تشريع الأوامر من الله تعالى شيء، وتنفيذ الناس لهذه الأوامر شيء آخر، فينبغي التفريق بين الأمرين وعدم الخلط والتلبيس على الناس بذلك!!

٩٢

ترك الكتابة

كان رفضهم وتصدّيهم للأمر النبوي في كلّ مرّة (كما حصل ذلك في مثل حجّة الوداع ورزية يوم الخميس وعدم إنفاذ جيش أسامة) سبباً في ترك النبيّ(صلى الله عليه وآله) لكتابة الوصية هذه المرّة (في رزية يوم الخميس) من بابٍ أولى ؛ لأنّهم رموه هنا بالهجر والهذيان! فطعنوا في عصمته ونبوّته هنا صراحة وكذّبوه(صلى الله عليه وآله) بعد ما فعلوه في منعه والتصدّي له حين أراد(صلى الله عليه وآله) تبليغهم هذا الأمر مشافهة في حجّة الوداع، مع حرصه(صلى الله عليه وآله) على توفير البيئة والظرف المناسبين حيث اختار أفضل الأوقات وأنسبها للقبول والتسليم وهو حجّة الوداع!!

فعدم تسليم وقبول قريش لهذا الأمر مهما كلّفهم ذلك أوّلاً، وعلمه(صلى الله عليه وآله) بما سيؤول إليه حالهم، وما يخططون له، وما سيقومون به بعد وفاته(صلى الله عليه وآله) إن كتب تلك الوصية ثانياً؛ كلّ ذلك جعل رسول الله(صلى الله عليه وآله) يرجح عدم كتابة تلك الوصية المهمّة بعد رفضهم لها وعدم تقديمهم الكتاب الذي طلب منهم تقديمه له(صلى الله عليه وآله)، وتنازعهم واختلافهم ورميه بالهجر والهذيان والعياذ بالله؛ ممّا سيؤدّي إلى طعنهم في شخصه الشريف(صلى الله عليه وآله) وعصمته ونبوّته ووصيته، وزعمهم وادّعائهم أنّه(صلى الله عليه وآله) قد كتب تلك الوصية في مرض موته وهو في حالة هجر وهذيان!! وأنّه غلب عليه مرض الموت كما صرّحوا حينها فأثّر فيه المرض وغيَّره، وأنّه (حاشاه وصلّى عليه الإله) لم يكُن في تمام عقله ووعيه فلم يدرِ ما يقول وما يكتب ــ والعياذ بالله ــ فهذا ما سيحصل

٩٣

بالتأكيد إن هم عجزوا وفشلوا في منع رسول الله(صلى الله عليه وآله) من كتابة وصيته التي أراد كتابتها وأصرّ عليها.

ولذلك استمات عمر وحزبه ومن معه في منع رسول الله(صلى الله عليه وآله) من الكتابة، لتسهل المهمّة عليهم مستقبلاً في أخذ ومصادرة الخلافة والاستبداد بها دون عليّ(عليه السلام)، ومخالفة النصوص والإشارات دون عناء الاصطدام بالوصية الصريحة والمكتوبة الناصّة على عليّ(عليه السلام) من قبل النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وبحضورهم وشهادتهم هم أنفسهم ورضاهم كما حاول رسول الله(صلى الله عليه وآله) فعله وتحقيقه؛ فإنّه حينئذ سيؤدّي إلى طعنهم المباشر بالنبيّ(صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى، فاجتهادهم يكون حينئذ في مقابل النص الواضح المكتوب المشهود من قبلهم والمقدّم فيه القرطاس بأيديهم؛ فيؤدّي ذلك إمّا إلى التقاتل والصدام مع عليّ(عليه السلام) وحزبه المؤمنين الذي سيكون شاملاً ومحتدماً في هذه الحالة عمّا هو الحال عليه لو لم تكتب الوصية؛ لأنّهم حينئذ سيخالفون نصّاً إلهياً بتنصيب النبيّ(صلى الله عليه وآله) واضحاً وصريحاً لا لبس فيه ولا مجال للالتفاف عليه، أو أنّه سيؤدّي إلى الخروج عن الدين بشكل سافر لطعنهم المباشر أو تشكيكهم بشخص النبيّ(صلى الله عليه وآله) أو نبوّته أو عصمته! نعوذ بالله من الخذلان ومن مسالك الشيطان.

ابن تيمية قد كفانا المؤنة!

وجدت ابن تيمية يعترف بهذا الفهم تماماً، وينصّ على هذه الحقيقة فعلاً، وهو ليس رافضياً بكلّ تأكيد! بل هو شيخ إسلامهم، وأشدّ الناس بغضاً ومحاربة للشيعة! فقد قال ما نصّه: "فلمّا كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتاباً فقال عمر: (ماله أهجر؟) فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمى، أو هو ممّا يقول على عادته؟ فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى، فكان هذا ممّا خفى على عمر،

٩٤

كما خفى عليه موت النبيّ(صلى الله عليه وآله) بل أنكره، ثمّ قال بعضهم: هاتوا كتاباً. وقال بعضهم: لا تأتوا بكتاب. فرأى النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّ الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ؛ لأنّهم يَشُكُّون هل أملاه مع تغيّره بالمرض؟ أم مع سلامته من ذلك؟ فلا يُرفع النزاع، فتركه" (١) ، انتهى كلام ابن تيمية بلفظه.

فتأكّد النبيّ(صلى الله عليه وآله) من عدم جدوى أيّة محاولة منه لإقناعهم بامتثال أمره وردعهم عن تمرّدهم واستكبارهم وغيّهم؛ فردّ عليهم هذه المرّة بطردهم ــ على غير عادته(صلى الله عليه وآله) من عدم قيامه يوماً ما بطرد أحد من بيت النبوّة أبداً مهما فعل ذلك الشخص ومهما أساء ــ فأوضح وأشار بصدور مثل هذا الفعل منه(صلى الله عليه وآله) إلى أنَّ الخطب عظيم، والرزية كبيرة، واعتراضهم عليه هنا ليس خطأً شخصياً ولا بسيطاً، ناهيك عن كونه ممدوحاً وصحيحاً كما يزعم البعض!! فيكون فعله(صلى الله عليه وآله) غضبة واضحة غضبها لله تعالى ولدينه، وحسرة صريحة، بل صرخة مدوِيّة على مصير أمّته وما يحدق بها ممّا تخططهُ قريش لهذه الأمّة المسكينة وتكيد لها من بعده(صلى الله عليه وآله)، فدلّ على ذلك وأكّده أيضاً بقوله(صلى الله عليه وآله) لهم حين ردّوا عليه(صلى الله عليه وآله): "فذهبوا يردّون عليه فقال: (دعوني) ــ وفي رواية: (قوموا عنّي) ــ فإنّ الذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه)" (٢) كما رواه البخاري.

وقد استظهر ورجّح ابن حجر في فتحه إنكار النبيّ(صلى الله عليه وآله) على مانعيه من الكتابة ــ بخلاف ما يزعمه بعض المرقعين ــ عند شرحه لهذا الحديث فقال: "قلت: ويحتمل عكسه، أي: إنّ الذي أشرتُ عليكم به من الكتابة خير ممّا تدعونني إليه من عدمها، بل هذا هو الظاهر" (٣) .

________________________

١- منهاج السنّة لابن تيمية (٦/٣١٥).

٢- صحيح البخاري (٤/٣١) و(٥/١٣٧)، ومسلم في صحيحه أيضاًً (٥/٧٥)، وبلفظ قوموا عنّي: البخاري (١/٣٧) و(٧/٩) و(٨/١٦١).

٣- فتح الباري (٨/١٠٢).

٩٥

وجود النص:

يشهد لوجود هذا الرفض من قبل الحزب القريشي المعارض وعدم تسليمهم لهذا الأمر وتصدّي النبيّ(صلى الله عليه وآله) لهم في المقابل؛ ما جاء في الحديث الذي يرويه بريدة وعمران بن حصين اللّذان يحكيان لنا حادثة حصلت بين عليّ(عليه السلام) ومخالفيه والمعترضين عليه من مناوئيه خلال هذه الفترة أيضاً ــ أي: آخر أيام حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ــ وموقف النبيّ(صلى الله عليه وآله) من هذين الفريقين، وفيه ما نصّه: "فقال لهم النبيّ(صلى الله عليه وآله): (ما تريدون من عليّ إنّ عليّاً مّني وأنا من عليّ وهو ولي كلّ مؤمن بعدي)" (١) . فهذا الحديث ــ وغيره ــ يوضّح وقوع الرفض والطعن في الإمام(عليه السلام) وعدم الرغبة فيه والتعاقد والتآمر عليه منذ حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وحتّى وفاته(عليه السلام) (٢) ؛ ولذلك كان(صلى الله عليه وآله) كثيراً ما يؤكّد على حُبّ عليّ(عليه السلام) مبيّناً أنّ بغضه علامة على النفاق وأنّ سبّه بمنزلة سبّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) نفسه وسبّ النبيّ سبّ الله تعالى (٣) ، هذا من جهة.

________________________

١- رواه الترمذي وحسنه (٣٧١٣)، والنسائي في الخصائص (ص١٣و١٧)، وابن حبان (٢٢٠٣)، وأحمد (٤/٤٣٧) و(١/٣٣٠)، والطيالسي (٨٦٨و٢٨٧٥)، والحاكم (٣/١١٠) و(٣/١٣٣) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي، ومن ثمّ أقرّهم الألباني، وعن الطريق الآخر قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي أيضاً، وأقرّهم الألباني كذلك انظر السلسلة الصحيحة (٢٢٢٣)، وقال ابن حجر عنه أيضاً في الإصابة وإسناده قوي، وفيه تآمر أربعة من الصحابة على علي(عليه السلام) منهم خالد، فراجع الحديث بتمامه.

٢- وهنالك روايات عديدة وبمناسبات شتّى تثبت انحراف الناس عن علي(عليه السلام) وبغضهم له، كحديث بريدة الذي ذكرناه آنفاً، وحديث عائشة في البخاري الذي يبيّن سبب مبايعة علي لأبي بكر والتماس مصالحته حين قالت ما نصّه: "فلمّا ماتت فاطمة استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته..." وغيرها كثير، فراجع ثمة. وكذا حديث وهب بن حمزة حين قال: "خرجت مع علي من المدينة إلى مكة.... فلمّا قدمت لقيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقلت: رأيت من علي كذا وكذا فقال: لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي" قال عنه الهيثمي: رواه الطبراني وفيه دكين ذكره ابن أبي حاتم ولم يضعّفه أحد وبقية رجاله وثّقوا.

٣- روى الحاكم (٣/١٢١)، وأحمد (٦/٣٢٣)، والنسائي في خصائص علي (ص٩٩) وغيرهم عن أبي عبد الله الجدلي عن أم المؤمنين أم سلمة قولها لهم: أيُسب رسول الله(صلى الله عليه وآله) فيكم (في ناديكم)؟ فقلت: معاذ الله أو سبحان الله فقالت:سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: (من سبّ علياً فقد سبّني)، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، وكذا صحح طرقه الهيثمي فقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة، راجع مجمعه (٩/١٣٠).

٩٦

ومن جهة أخرى ففي حديث (وهو وليكم بعدي) نصّ من النبيّ(صلى الله عليه وآله) على خلافة وولاية الإمام عليّ(عليه السلام) بعده(صلى الله عليه وآله).

وممّا يدل على نصّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) على إمامة عليّ(عليه السلام) هنا؛ وصف بعض علماء السنّة الحديث المتقدّم بأنّه: "ممّا يقوّى به معتقد الشيعة"!! وأنّه "لو صحّ لدلّ على خلافة عليّ بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله) دون فصل"، كما فهم ذلك المباركفوري السلفي حيث قال ما نصّه: "وقد استدلّ به الشيعة على أنّ عليّاً(رضي الله عنه) كان خليفة بعد رسول الله من غير فصل، واستدلالهم به عن هذا باطل فإنّ مداره عن صحّة زيادة لفظ بعدي وكونها صحيحة محفوظة قابلة للاحتجاج والأمر ليس كذلك.. ــ ثمّ قال ــ وظاهرٌ أنّ قوله بعدي في هذا الحديث؛ ممّا يقوّى به معتقد الشيعة" (١) ، فالمباركفوري السلفي المتشدد يعترف بدلالة الحديث ونصّه على كون عليّ(عليه السلام) خليفة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) من غير فصل، ولكنه لم يسلّم بها وردّها بسبب تضعيفه لكلمة (بعدي) في الحديث، فهو يفهم ذلك ويسلم به لو كان الحديث عنده ثابتاً بتمامه!!

وقد تبيّن لي لاحقاً صحّة هذه الكلمة وخطأه في تضعيفها وردّها وبطلان قوله فيها وتقليده لابن تيمية في ذلك دون فحص أو تحقيق أو متابعة أو تدقيق، حيث وجدت ما فعله الألباني عندما بحث في طرق الحديث وأخرج أسانيدها وصححها بنفسها بحسب ضوابط وقواعد علم الحديث، إضافة لتقويتها بما

________________________

١- تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي (١٠/١٤٦).

٩٧

يعضدها من شواهد ومتابعات كحديث الغدير المتواتر باعتراف الألباني الذي جعله وهذا الحديث ذو دلالة وإشارة واحدة ومعنى واحد للولاية فيهما!!

فلمّا وجدت هذه الكثرة من الأقوال وشدّة اختلافهم في هذا الحديث، بحثت فيه بنفسي، مع أنّي رأيت تصحيح محدّث العصر الألباني السلفي الذي أطمئن لعلمه وأثق به لسعة اطّلاعه وإنصافه عموماً، ولكن ليطمئن قلبي ولتقوى حجّتي أمام ربّي، إن سألني كيف وثقت بالألباني وأخذت بقوله وتصحيحه لهذا الحديث دون غيره؟ خصوصاً بعد ما رأيت من فعله وتساهله في تصحيح حديث كتاب الله وسنّتي وتأويله لحديث كتاب الله وعترتي أهل بيتي بمعانٍ بعيدة وغير مقبولة، وما إلى ذلك من هفواته بل زلاّته ؛ ولذلك بحثت في الأحاديث بنفسي.

فابن تيمية يكذّبه، والمباركفوري يشكك به ويطعن في كلمة مهمّة فيه بسبب تفرّد بعض الرواة من الشيعة بهذه الكلمة بزعمه رغم اعترافه بصدقهما ووثاقتهما!! فوجدت بأنّ للحديث طريقين: أحدهما عن الأجلح الكندي، وهو شيعي ولكنّه ثقة وصدوق عند علمائنا، كما أنّ الطريق الثاني عن جعفر بن سليمان، وهو ثقة عندنا أيضاً ومن رجال مسلم.

فوجدت أنّ المباركفوري يضعّف كلمة (بعدي) في الحديث مع توثيقه لرواته وصحّة سنده عنده! معللاً فعلته تلك بأنّ كلّ طريق من هذين الحديثين فيه راوٍ شيعي وقد تفرّدا بزيادة لفظ (بعدي) في الحديث خلافاً لقواعد الحديث كما صرّح الألباني بذلك، فقال المباركفوري: "والظاهر أنّ زيادة لفظ (بعدي) في هذا الحديث من وهم هذين الشيعيين"!! فضعّف هذا الحديث العظيم بجرّة قلم! مع أنّ دعواه هذه كاذبة أصلاً ؛ لأنّ هذا الحديث لا يروى بطرق وأسانيد أخرى من دون هذه الكلمة ليقول بأنّ هذه الكلمة من وهم هذين الشيعيين، وكذلك وجود طرق أخرى للحديث فيها هذه الكلمة وليس في أسانيدها شيعي واحد كما في حديث ابن عباس ووهب بن حمزة، وخصوصاً حديث

٩٨

وهب ففيه فوائد متعددة، فإنّه ينصّ على معنى الولاية مع وجود كلمة بعدي فيها، فروى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال له عن عليّ(عليه السلام): (إنّه أولى الناس بكم بعدي) (١) ، فهذا الحديث أصرحها دلالة وأدلّها على مقام ومعنى ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

تناقض الألباني:

أذكر أنّي قبل اطّلاعي على كلام الشيخ الألباني كنت قد اقتنعت حينها بقول المباركفوري طبعاً، فأزال همّي وارتحت قليلاً بسبب شرحه وقوله وتنفّست حينها الصعداء!

ولكن بعد أيام قلائل حصل ما لم يكن بالحسبان! حين وجدت بأنّ الألباني يصحح هذا الحديث، بل وجدت أنّه أتى له بطريق ثالث صححه أيضاً ــ بعد دفاعه المستميت طبعاً عن الطريقين الأوّلين وتصحيحه لهما ــ والذي أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وكذا ابن حجر العسقلاني والهيثمي عن ابن عباس، وهو بسند آخر وليس فيه الأجلح الكندي أو جعفر بن سليمان.

ففاجأني الألباني حين صحح هذا الحديث بقوّة! ثمّ فاجأني أيضاً حينما ردّ واستنكر كلام ابن تيمية بأشدّ أسلوب وأعنف لفظ! بل لم أرَ كلاماً للألباني بهذا المستوى من الهجوم والقسوة في حقّ ابن تيمية كما فعل هنا ــ مع إعجابه الشديد به والسير على نهجه، بل التزامه لنفس مدرسته وآرائه ــ حين وصف ابن تيمية ورماه بالجرأة والتسرّع والمبالغة في الردّ على الشيعة، قائلاً: "فمن العجيب حقّاً أن يتجرّأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنّة

________________________

١- مجمع الزوائد للهيثمي (٩/١٠٩) وقال: رواه الطبراني وفيه دكين ذكره ابن أبي حاتم ولم يضعّفه أحد وبقية رجاله وثّقوا.

٩٩

(٤/١٠٤) كما فعل بالحديث المتقدّم هناك (من كنت مولاه) مع تقريره رحمه الله أحسن تقرير... ــ إلى أن قال ــ هذا كلّه من بيان شيخ الإسلام وهو قويّ متين كما ترى!! فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث؛ إلاّ التسرّع والمبالغة في الردّ على الشيعة، غفر الله لنا وله" (١) .

ولمّا رجعت إلى كلام ابن تيمية فوجئت مرّة ثالثة ممّا قاله الألباني عن تقرير وردّ وفهم ابن تيمية ووصفه إيّاه بأنّه قويّ متين(!!)؛ فإنّ الواضح والصريح من كلام ابن تيمية أنّه يكذّبُ الحديثَ ويقول باستحالة صدوره عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ويردّ معناه، بل لا يرى له معنى صحيحاً لأجل تناقض متنه(بزعمه)! وعدم استفادة معنى له يصح لغةً، فتناقض الألباني هنا! وقام بتصحيح الحديث وفهمه في نفس الوقت بفهم ابن تيمية الذي يكذّب الحديث ويردّه بسبب خطورة معناه وادّعائه عدم وجود معنى صحيح يفهم منه أصلاً!! فوقع الألباني هنا في تناقض صارخ وتخبّط واضح وخلط فاضح وغفلة غير لائقة بمثله، ولكن ما جعلني أصدّق بصدور مثل هذا الأمر عنه هو قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (٢) .

كبير السلفية (الألباني) يردّ بعنف على شيخ إسلامه لصالح الشيعة:

قد أثارني وأذهلني ردّ الألباني هنا، وبهذه العبارات القاسية، وإنكاره على ابن تيمية، وهو من هو عنده وعند كلّ سلفي!! وتذكّرت مورداً آخر يتكلّم الألباني فيه على ابن تيمية بقسوة، وذلك في سلسلته الصحيحة عند كلامه في

________________________

١- سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ محمّد ناصر الدين الألباني (ح٢٢٢٣).

٢- النساء: ٨٢.

١٠٠