ثم اهتديت

ثم اهتديت0%

ثم اهتديت مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: مناظرات وردود
ISBN: 8-21-8629-964
الصفحات: 189

ثم اهتديت

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: ISBN: 8-21-8629-964
الصفحات: 189
المشاهدات: 63519
تحميل: 7124

توضيحات:

ثم اهتديت
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 189 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63519 / تحميل: 7124
الحجم الحجم الحجم
ثم اهتديت

ثم اهتديت

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: 8-21-8629-964
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ـ إذاً ، في أي كتاب سأعرف الحقيقة ، وكل مؤلف وكل فرقة وكل مذهب يدعي أنه على الحق.

ـ سأعطيك الآن دليلا ملموسا ، لا يختلف فيه المسلمون بشتى مذاهبهم وفرقهم ومع ذلك فأنت لا تعرفه!

ـ وقل ربي زدني علما.

ـ هل قرأت تفسير الآية الكريمة :( أن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) (١) .

فقد أجمع المفسرون سنة وشيعة على أن الصحابة الذين نزلت فيهم هذه الآية ، جاؤوا إلى رسول الله فقالوا : يارسول الله عرفنا كيف نسلم عليك ولم نعرف كيف نصلي عليك! فقال : قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ولا تصلوا علي الصلاة البتراء ، قالوا : وما الصلاة البتراء يارسول الله ، قال : أن تقولوا اللهم صل على محمد وتصمتوا ، وأن الله كامل ولا يقبل إلا الكامل. ولكل ذلك عرف الصحابة ومن بعدهم التابعون أمر رسول الله فكانوا يصلون عليه الصلاة الكاملة ، حتى قال الامام الشافعي في حقهم :

يا آل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم الشأن أنكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له

كان كلامه يطرق سمعي وينفذ إلى قلبي ويجد في نفسي صدي إيجابيا ، وبالفعل فقد سبق لي أن قرأت مثل هذا في بعض الكتب ، ولكن لا أذكر في أي كتاب بالضبط ، واعترفت له بأننا عندما نصلي على النبي نصلي على آله وصحبه أجمعين ولكن لا نفرد عليا بالسلام كما يقول الشيعة.

قال : فما رأيك في البخاري؟ أهو من الشيعة؟

قلت : إمام « جليل من أئمة أهل السنة والجماعة وكتابه أصح الكتب بعد كتاب الله ». عند ذلك قام وأخرج من مكتبته صحيح البخاري وفتحه وبحث عن الصفحة التي

__________________

(١) سورة الاحزاب : آية ٥٦.

٤١

يريدها ، وأعطاني لاقرأ فيه : حدثنا فلان عن فلان عن علي ـعليه‌السلام ـ. ولم أصدق عيني واستغربت حتى أنني شككت أن يكون ذلك هو صحيح البخاري ، واضطربت وأعدت النظر في الصفحة وفي الغلاف ، ولما أحس صديقي بشكي أخذ مني الكتاب وأخرج لي صفحة أخرى فيها : « حدثنا علي بن الحسينعليهما‌السلام » فما كان جوابي بعدها إلا أن قلت : سبحان الله واقتنع مني بهذا الجواب وتركني وخرج ، وبقيت أفكر وأراجع قراءة تلك الصفحات وأتثبت في طبعة الكتاب فوجدتها من طبع ونشر شركة الحلبي وأولاده بمصر.

ياإلهي. لماذا أكابر وأعاند وقد أعطاني حجة ملموسة من أصح الكتب عندنا ، والبخاري ليس شيعيا قطعا ، وهو من أئمة أهل السنة ومحدثيهم ، أأسلم لهم بهذه الحقيقة وهي قولهم علي ( ع ) ، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلها تتبعها حقائق أخرى لا أحب الاعتراف بها ، وقد انهزمت أمام صديقي مرتين فقد تنازلت عن قداسة عبد القادر الجيلاني وسلمت بأن موسى الكاظم أولى منه ، وسلمت أيضا بأن عليا ( ع ) هو أهل لذلك ، ولكني لا أريد هزيمة أخرى ، وأنا الذي كنت منذ أيام قلائل عالما في مصر أفخر بنفسي ويمجدني علماء الازهر الشريف ، أجد نفسي اليوم مهزوما مغلوبا ومع من؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنهم على خطأ ، فقد تعودت على أن كلمة « شيعة » هي مسبة.

إنه الكبرياء وحب الذات ، إنها الانانية واللجاج والعصبية ، إلهي ألهمني رشدي ، وأعني على تقبل الحقيقة ولو كانت مرة. اللهم افتح بصري وبصيرتي واهدني إلى صراطك المستقيم واجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردد هذه الدعوات فقال مبتسما : هدانا الله وإياكم وجميع المسلمين ، وقد قال في محكم كتابه :( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (١) . والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة ، والله سبحانه يهدي إلى الحق كل من بحث عن الحق.

__________________

(١) سورة العنكبوت : آية ٦٩.

٤٢

السفر إلى النجف

أعلمني صديقي ذات ليلة بأننا سنسافر غدا إن شاء الله إلى النجف ، وسألته وما النجف؟ قال : إنها مدينة علمية فيه مرقد الامام علي بن أبي طالب ، فتعجبت كيف يكون للامام علي قبر معروف. لان شيوخنا يقولون أنه لا وجود لقبر معروف لسيدنا علي ، وسافرنا في سيارة عمومية حتى وصلنا إلى الكوفة وهناك نزلنا لزيارة جامع الكوفة وهو من الآثار الاسلامية الخالدة ، وكان صديقي يريني الاماكن الاثرية ويزورني جامع مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة ويحكي لي بإيجاز كيف استشهدا ، كما أدخلني المحراب الذي استشهد فيه الامام علي ، وبعدها زرنا البيت الذي كان يسكنه الامام مع ابنيه سيدنا الحسن وسيدنا الحسين ، وفي البيت البئر التي كانوا يشربون منها ويتوضؤون بمائها ، وعشت لحظات روحية نسيت خلالها الدنيا وما فيها لاسبح في زهد الامام وبساطة عيشه وهو أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الرّاشدين.

ولا يفوتني أن أذكر الحفاوة والتواضع اللذين شاهدتهما هناك في الكوفة ، فما مررنا بمجموعة إلا وقاموا إلينا وسلموا علينا ، وكأن صديقي يعرف الكثير منهم ودعانا أحدهم وهو مدير المعهد بالكوفة إلى بيته حيث إلتقينا باولاده وبتنا عندهم ليلة سعيدة ، وشعرت وكأني بين أهلي وعشيرتي ، وكانوا إذا تكلموا عن أهل السنة والجماعة يقولون : « إخواننا من السنة » فأنست بحديثهم وسألتهم بعض الاسئلة الاختبارية لاتيقن من صدق كلامهم.

تحولنا إلى النجف وهي تبعد عن الكوفة حوالي عشرة كيلو مترات وما أن وصلنا حتّى

٤٣

تذكّرت مسجد الكاظمية في بغداد فبدت المآذن الذهبية تحيط بقبة من الذهب الخالص ودخلنا إلى حرم الامام بعد قراءة الاذن بالدخول كما هي عادة الزوار من الشيعة ، ورأيت هنا أعجب مما رأيت هناك في جامع موسى الكاظم ، وكالعادة وقفت أقرأ الفاتحة وأنا أشك في أن هذا القبر يحوي جثمان الامام علي ، وكأني اقتنعت ببساطة ذلك البيت الذي كان يسكنه في الكوفة وقلت في نفسي حاشى للامام علي أن يرضى بهذه الزخرفة من الذهب والفضة بينما يموت المسلمون جوعا في شتى بقاع الدنيا ، وخصوصا لما رأيت فقراء في الطريق يمدون أيديهم للمارة طلبا للصدقة فكان لسان حالي يقول : أيها الشيعة أنتم مخطئون ، اعترفوا على الاقل بهذا الخطأ فالامام علي هو الذي بعثه رسول الله لتسوية القبور ، فما لهذه القبور المشيدة بالذهب والفضة إنها وأن لم تكن شركا بالله فهي على الاقل خطأ فادح لا يغفره الاسلام.

وسألني صديقي وهو يمد إلي قطعة من الطين اليابس هل أريد أن أصلي ، وأجبته في حدة : نحن لا نصلي حول القبور! قال : إذاً انتظرني قليلا حتى أصلي ركعتين ، وفي انتظاره كنت أقرأ اللوحة المعلقة على الضريح وأنظر إلى داخله من خلال القضبان الذهبية المنقوشة وإذا به مليء بالاوراق النقدية من كل الالوان من الدرهم والريال إلى الدينار والليرة وكلها يلقيها الزوار تبركا للمساهمة في المشاريع الخيرية التابعة للمقام وظننت لكثرتها أن لها شهورا ، ولكن صديقي أعلمني في ما بعد أن المسؤولين عن تنظيف المقام يأخذون كل ذلك في كل ليلة بعد صلاة العشاء.

خرجت وراءه مدهوشا وكأنني تمنيت أن يعطوني منها نصيبا أو يوزعوها على الفقراء والمساكين وما أكثرهم هناك.كنت ألتفت في كل اتجاه داخل السور الكبير المحيط بالمقام حيث يصلي جماعات من الناس هنا وهناك وينصت آخرون إلى بعض الخطباء الذين اعتلوا منبرا وكأني سمعت نواح بعضهم في صوت متهدج. ورأيت جموعا من الناس يبكون ويلطمون على صدورهم وأردت أن أسال صديقي ، ما بال هؤلاء يبكون ويلطمون ومرت بقربنا جنازة وشاهدت بعضهم يرفع الرخام في وسط الصحن وينزل الميت هناك ، فظننت أن بكاء هؤلاء لاجل الميت العزيز عليهم.

٤٤

لقاء العلماء

أدخلني صديقي إلى مسجد في جانب الحرم مفروش كله بالسجاد وفي محرابه آيات قرآنية منقوشة بخط جميل ، ولفت انتباهي مجموعة من الصبيان المعممين جالسين قرب المحراب يتدارسون وكل واحد في يده كتاب ، فأعجبت لهذا المنظر الجميل ولم يسبق لي أن رأيت شيوخا بهذا السن أعمارهم تتراوح ما بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة وقد زادهم جمالا ذلك الزي فأصبحوا كالاقمار ، سألهم صديقي عن « السيد » فأخبروه بأنه يصلي بالناس جماعة ، ولم أفهم من هو « السيد » الذي سألهم عنه غير أنني توقعت أنه أحد العلماء. وعرفت فيما بعد أنه السيد الخوئي زعيم الحوزة العلمية للطائفة الشيعية. مع العلم بأن لقب « السيد » عند الشيعة هو لقب لكل منحدر من سلالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويرتدي « السيد » العالم أو طالب العلوم الدينية عمامة سوداء ، وأما العلماء الآخرون فيرتدون عمامة بيضاء ويلقبون بـ « الشيخ » وهناك نوع من الاشراف الذين ليسوا بعلماء فلهم عمامة خضراء.

طلب إليهم صديقي أن أجلس معهم ريثما يذهب للقاء « السيد » ورحبوا بي وأحاطوني بنصف دائرة وأنا أنظر في وجوههم وأستشعر براءتهم ونقاوة سريرتهم وأستحضر في ذهني حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : « يولد المرء على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » وقلت في نفسي : أو يشيعانه.

سألوني من أي البلاد أنا ، قلت : من تونس ، قالوا : هل يوجد عندكم حوزات

٤٥

علمية؟ أجبتهم : عندنا جامعات ومدارس ، وانهالت علي الاسئلة من كل جانب ، وكلها أسئلة مركزة ومحرجة ، فماذا أقول لهؤلاء الابرياء الذين يعتقدون أن في العالم الاسلامي كله حوزات علمية تدرس الفقه وأصول الدين والشريعة والتفسير ، وما يدرون أن في عالمنا الاسلامي وفي بلداننا التي تقدمت وتطورت ، أبدلنا المدارس القرآنية بروضات للاطفال يشرف عليها راهبات نصرانيات فهل أقول لهم إنهم ما زالوا « متخلفين » بالنسبة إلينا؟.

وسألني أحدهم : ما هو المذهب المتبع في تونس؟ قلت : المذهب المالكي ، قال : ألا تعرفون المذهب الجعفري؟ فقلت : خير إن شاء الله ، ما هذا الاسم الجديد؟ لا ، نحن لا نعرف غير المذاهب الاربعة وما عداها فليس من الاسلام في شيء.

وابتسم قائلا : عفوا ، أن المذهب الجعفري هو محض الاسلام ، ألم تعرف بأن الامام أبا حنيفة تتلمذ على يد الامام جعفر الصادق؟ وفي ذلك يقول أبو حنيفة : « لولا السنتان لهلك النعمان » ، سكت ولم أبد جوابا ، فقد أدخل علي أسما جديدا ما سمعت به قبل ذلك اليوم ولكني حمدت الله أنه ـ أي إمامهم جعفر الصادق ـ لم يكن أستاذا للامام مالك وقلت نحن مالكية ولسنا أحنافا.

فقال : أن المذاهب الاربعة أخذ بعضهم عن بعض فأحمد بن حنبل أخذ عن الشافعي والشافعي أخذ عن مالك وأخذ مالك عن أبي حنيفة وأبوحنيفة أخذ عن جعفر الصادق وعلى هذا فكلهم تلاميذ لجعفر بن محمد ، وهو أول من فتح جامعة إسلامية في مسجد جده رسول الله وقد تتلمذ على يديه أكثر من أربعة آلاف محدث وفقيه ، وعجبت لهذا الصبي الذكي الذي يحفظ ما يقول مثل ما يحفظ أحدنا سورة من القرآن ، وقد أدهشني أكثر عندما كان يسرد علي بعض المصادر التاريخية التي يحفظ عدد أجزائها وأبوابها ، وقد استرسل معي في الحديث وكأنه أستاذ يعلم تلميذه ، وشعرت بالضعف أمامه ، وتمنيت لو أني خرجت مع صديقي ولم أبق مع الصبيان ، فما سألني أحدهم عن شيء يخص الفقه أو التاريخ إلا وعجزت عن الجواب ؛ سألني من أقلد من الائمة؟ قلت : الامام مالك! قال : كيف تقلد ميتا بينك وبينه أربعة عشر قرنا ، فإذا أردت أن تسأله الآن عن مسألة مستحدثة فهل يجيبك؟ فكرت قليلا وقلت : وأنت جعفرك مات أيضا

٤٦

منذ أربعة عشر قرنا فمن تقلد؟ أجاب بسرعة هو والباقون من الصبية : نحن نقلد السيد الخوئي فهو إمامنا. ولم أفهم أكان الخوئي أعلم أم جعفر الصادق ، وبقيت معهم أحاول تغيير الموضوع فكنت أسألهم عن أي شيء يلهيهم عن مسألتي فسألتهم عن عدد سكان النجف وكم تبعد النجف عن بغداد وهل يعرفون بلدانا اخرى غير العراق ، وكلما أجابوا أعددت لهم سؤالا غيره حتى أشغلهم عن سؤالي لاني عجزت وشعرت بالقصور ، ولكن هيهات أن أعترف لهم وإن كنت في داخلي معترفا إذ أن ذلك المجد والعز والعلم الذي ركبني في مصر تبخر هنا وذاب ، خصوصا بعد لقاء هؤلاء الصبيان عرفت الحكمة القائلة :

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة

عرفت شيئا وغابت عنك أشياء

وتصورت أن عقول هؤلاء الصبيان أكبر من عقول أولئك المشايخ الذين قابلتهم في الازهر وأكبر من عقول علمائنا الذين عرفتهم في تونس.

ودخل السيد الخوئي ومعه كوكبة من العلماء عليهم هيبة ووقار ، وقام الصبيان وقمت معهم ، وتقدموا من « السيد » يقبلون يده ، وبقيت مسمرا في مكاني ، ما إن جلس « السيد » حتى جلس الجميع وبدأ يحييهم بقوله : « مساكم الله بالخير » يقولها لكل واحد منهم فيجيبه بالمثل حتى وصل دوري فأجبت كما سمعت ، بعدها أشار علي صديقي الذي تكلم مع « السيد » همسا ، بأن أدنو من « السيد » وأجلسني على يمينه وبعد التحية قال لي صديقي : أحك للسيد ماذا تسمعون عن الشيعة في تونس.فقلت يا أخي كفانا من الحكايات التي نسمعها من هنا وهناك ، والمهم هو أن أعرف بنفسي ماذا يقول الشيعة ، وعندي بعض الاسئلة أريد الجواب عنها بصراحة. فألح علي صديقي وأصر على أن أروي « للسيد » ما هو اعتقادنا في الشيعة ، قلت : الشيعة عندنا هم أشد على الاسلام من اليهود والنصارى لان هؤلاء يعبدون الله ويؤمنون برسالة موسى ( ع ) ، بينما نسمع عن الشيعة أنهم يعبدون عليا ويقدسونه ، ومنهم فرقة يعبدون الله ولكنهم ينزلون عليا بمنزلة رسول الله ورويت قصة جبريل كيف أنه خان الامانة حسب ما يقولون وبدلا من أداء الرسالة إلى علي أداها لمحمد (ص).

أطرق « السيد » رأسه هنيهة ثم نظر إلي وقال : نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وما عليّ إلا عبد من عبيد

٤٧

الله والتفت إلى بقية الجالسين قائلا ومشيرا إلي : أنظروا إلى هؤلاء الابرياء كيف تغلطهم الاشاعات الكاذبة ، وهذا ليس بغريب فقد سمعت أكثر من ذلك من أشخاص آخرين ، فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ، ثم التفت إلي وقال : هل قرأت القرآن؟ قلت : حفظت نصفه ولم أتخط العاشرة من عمري. قال : هل تعرف أن كل الفرق الاسلامية على اختلاف مذاهبها متفقة على القرآن الكريم ، فالقرآن الموجود عندنا هو نفسه موجود عندكم. قلت نعم هذا أعرفه. قال : إذاً ألم تقرأ قول الله سبحانه وتعالى :( وما محمد إلا رسول ، قد خلت من قبله الرسل ) (١) . وقوله أيضا :( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ) (٢) . وقوله :( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) (٣) . قلت بلى أعرف هذه الآيات قال : فأين هو علي؟ إذا كان قرآننا يقول بأن محمدا هو رسول الله فمن أين جاءت هذه الفرية؟ سكت ولم أجد جوابا ، وأضاف يقول : وأما خيانة جبريل « حاشاه » فهذه أقبح من الاولى ، لان محمد كان عمره أربعين سنة عندما أرسل الله سبحانه إليه جبريل ( ع ) ، ولم يكن علي إلا صبيا صغيرا عمره ست أو سبع سنوات ، فكيف يا ترى يخطئ جبريل ولا يفرق بين محمد الرجل وعلي الصبي؟

ثم سكت طويلا بينما بقيت أفكر في أقواله وأنا مطرق أحلل وأتذوق هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلى أعماقي وأزال غشاوة عن بصري وتساءلت في داخلي كيف لم نحلل نحن بهذا المنطق.

أضاف « السيد الخوئي » يقول : وأزيدك بأن الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كل الفرق الاسلامية الاخرى التي تقول بعصمة الانبياء والائمة ، فإذا كان أئمتنا سلام الله عليهم معصومين عن الخطأ وهم بشر مثلنا ، فكيف بجبريل وهو ملك مقرب سماه رب العزة بـ « الروح الامين ».

قلت : فمن أين جاءت هذه الدعايات؟

__________________

( ١ ) سورة آل عمران : آية ١٤٤.

( ٢ ) سورة الفتح : آية ٢٩.

( ٣ ) سورة الاحزاب : آية ٤٠.

٤٨

قال : من أعداء الاسلام الذين يريدون تفريق المسلمين وتمزيقهم وضرب بعضهم ببعض وإلا فالمسلمون أخوة سواء كانوا شيعة أم سنة فهم يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ، وقرآنهم واحد ونبيهم واحد وقبلتهم واحدة ، ولا يختلف الشيعة عن السنة إلا في الامور الفقهية كما يختلف ائمة المذاهب السنية أنفسهم في ما بينهم فمالك يخالف أبا حنيفة ، وهذا يخالف الشافعي وهكذا ...

قلت : إذاً كل ما يحكى عنكم هو محض افتراء قال : أنت بحمد الله عاقل وتفهم الامور وقد رأيت بلاد الشيعة وتجولت في أوساطهم فهل رأيت أو سمعت شيئا من تلك الاكاذيب؟ قلت : لا لم أسمع ولم أر إلا الخير وإني أحمد الله سبحانه أن عرفني بالاستاذ منعم في الباخرة ، فهو السبب في مجيئي إلى العراق وقد عرفت أشياء كثيرة كنت أجهلها فضحك صديقي منعم قائلا : ومنها وجود قبر للامام علي ، فغمزته واستدركت قائلا : بل تعلمت أشياء جديدة حتى من هؤلاء الصبيان وتمنيت لو أتيحت لي الفرصة وتعلمت مثلهم في الحوزة العلمية هنا.

قال « السيد » : أهلا وسهلا ، إن كنت تريد طلب العلم فالحوزة على ذمتك ، ونحن في خدمتك ، ورحب الحاضرون بهذا الاقتراح وخصوصا صديقي منعم الذي تهلل وجهه. قلت : أنا متزوج وعندي ولدان : قال : نحن نتكفل بكل مستلزماتكم من سكن ومعاش وكل ما تحتاجون إليه والمهم هو طلب العلم ، فكرت قليلا وقلت في نفسي ليس من المعقول أن أصبح تلميذا بعد ما قضيت خمس سنوات وأنا أستاذ أمارس التعليم وتربية النشء ؛ وليس من السهولة أن أتخذ قرارا بمثل هذه السرعة.

شكرت السيد الخوئي على هذا العرض وقلت سوف أفكر في الموضوع بجد بعد رجوعي من العمرة بحول الله ولكني في حاجة إلى بعض الكتب ، فقال السيد : أعطوه الكتب ، ونهض جمع من العلماء وفتحوا عدة خزانات وما هي إلا لحظات حتى وجدت أمامي أكثر من سبعين مجلدا فكل واحد جاءني بدورة من الكتب وقال : هذه هديتي ، ورأيت أنه لا يمكنني حمل هذا العدد الكبير معي خصوصا وأني متوجه إلى السعودية الذين يمنعون دخول أي كتاب إلى بلادهم خوفا من تفشي بعض العقائد التي تخالف مذهبهم ولكني ما أردت التفريط بهذه الكتب التي لم تر عيني مثلها في سابق حياتي. فقلت

٤٩

لصديقي وللحاضرين بأن طريقي طويل يمر بدمشق والاردن إلى السعودية وفي العودة سيكون أطول فسأمر بمصر وليبيا حتى الوصول إلى تونس ، وزيادة على ثقل الحمل فإن أغلب الدول تمنع دخول الكتب ، فقال « السيد » أترك لنا عنوانك ونحن نتكفل بإرسالها إليك ، واستحسنت هذا الرأي وأعطيته بطاقة شخصية بها عنواني في تونس ، وشكرت فضله ، ولما ودعته ونهضت للخروج ، نهض معي قائلا : أسأل الله لك السلامة وإذا وقفت على قبر جدي رسول الله فبلغه مني السلام وتأثر الحاضرون وتأثرت كثيرا وأنا أنظر إلى عينيه تدمعان ، وقلت في نفسي حاشى لله أن يكون هذا من المخطئين حاشى لله أن يكون هذا من الكاذبين ، إن هيبته وعظمته وتواضعه تنبيء حقا أنه من سلالة الشرف ، فما كان مني إلا أن أخذت يده وقبلتها رغم ممانعته.

وقام الجميع لقيامي وسلموا علي ، وتبعني بعض الصبية من الذين كانوا يجادلونني وطلبوا مني عنواني للمراسلة فأعطيتهم إياه.

اتجهنا من جديد إلى الكوفة بدعوة أحد الذين كانوا في مجلس السيد الخوئي وهو صديق منعم إسمه أبوشبر ، نزلنا في بيته وسهرنا ليلة كاملة مع مجموعة من الشبان المثقفين وكان من بينهم بعض طلبة السيد محمد باقر الصدر فأشاروا علي بمقابلته وتعهدوا بأنهم سيرتبون لقائي مع حضرته في اليوم التالي ، واستحسن صديقي منعم هذا الاقتراح ولكنه تأسف لعدم إمكانية حضوره لان له شغلا في بغداد يستلزم حضوره ، واتّفقنا على أن أبقى في بيت السيد أبوشبر ثلاثة أيام أو اربعة ريثما يعود منعم ، الذي غادرنا بعد صلاة الفجر وقمنا نحن للنوم وقد استفدت كثيرا من طلبة العلوم الذين سهرت معهم وتعجبت من تنوع العلوم التي يتلقونها في الحوزة فهم زيادة على العلوم الاسلامية من فقه وشريعة وتوحيد يدرسون العلوم الاقتصادية والعلوم الاجتماعية والسياسية ، والتاريخ واللغات وعلوم الفلك وغير ذلك ...

٥٠

لقاء مع السيد محمد باقر الصدر

اتجهت بصحبة السيد أبو شبر إلى بيت السيد محمد باقر الصدر وفي الطريق كان يلاطفني ويعطيني بسطة عن العلماء المشهورين وعن التقليد وغير ذلك ، ودخلنا على السيد محمد باقر الصدر في بيته وكان مليئا بطلبة العلوم وأغلبهم من الشبان المعممين وقام السيد يسلم علينا ، وقدموني إليه فرحب بي كثيرا وأجلسني بجانبه وأخذ يسألني عن تونس والجزائر وعن بعض العلماء المشهورين أمثال الخضر حسين والطاهر بن عاشور وغيرهم ، وأنست بحديثه ورغم الهيبة التي تعلوه والاحترام الذي يحوطه به جلساؤه ، وجدت نفسي غير محرج وكأني أعرفه من قبل واستفدت من تلك الجلسة إذ كنت أسمع أسئلة الطلبة وأجوبة السيد عليها ، وعرفت وقتها قيمة تقليد العلماء الاحياء الذين يجيبون عن كل الاشكالات مباشرة وبكل وضوح ، وتيقنت أيضا من أن الشيعة مسلمون يعبدون الله وحده ويؤمنون برسالة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ كان بعض الشك يراودني والشيطان يوسوس لي بأن ما شاهدته قبل هو تمثيل ، وربما يكون ما يسمونه بالتقية ، أي أنهم يظهرون ما لا يعتقدون ، ولكن سرعان ما يزول الشك وتضمحل تلك الوساوس إذ لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يتفق كل من رأيتهم وسمعتهم وهم مئات على هذا التمثيل ثم لماذا هذا التمثيل؟ ومن هو أنا ، وما يهمهم من أمري حتى يستعملوا معي هذه التقية ثم هذه كتبهم القديمة التي كتبت منذ قرون والحديثة التي طبعت منذ شهور وكلها توحد الله وتثني على رسوله محمد كما قرأت ذلك في مقدماتها ، وها أنا الآن في بيت السيد محمد باقر الصدر المرجع المشهور في العراق وفي خارج العراق وكلما ذكر اسم

٥١

محمد صاح الجميع في صوت واحد : « اللهم صل على محمد وآل محمد ».

وجاء وقت الصلاة وخرجنا إلى المسجد وكان بجوار البيت وصلى بنا السيد محمد باقر الصدر صلاة الظهر والعصر ، وأحسست بأني أعيش وسط الصحابة الكرام فقد تخلل الصلاتين دعا رهيب من أحد المصلين ، وكان له صوت شجي ساحر وبعدما أنهى الدعاء صاح الجميع « اللهم صل على محمد وآل محمد » وكان الدعاء كله ثناء وتمجيدا على الله جل جلاله ثم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وجلس السيد في المحراب بعد الصلاة. وأخذ بعضهم يسلمون عليه ويسألونه سرا وعلانية وكان يجيب سرا عن بعض الاسئلة التي فهمت أنها تتطلب الكتمان لانها تتعلق بشؤون خاصة ، وكان السائل إذا حصل على الجواب يقبل يده وينصرف ، هنيئا لهم بهذا العالم الجليل الذي يحل مشاكلهم ويعيش همومهم.

رجعنا بصحبة السيد الذي أولاني من الرعاية والعناية وحسن الضيافة ما أنساني أهلي وعشيرتي وأحسست بأني لو بقيت معه شهرا واحدا لتشيعت لحسن أخلاقه وتواضعه وكرم معاملته ، فلم أنظر إليه إلا وابتسم في وجهي وابتدرني بالكلام ، وسألني هل ينقصني شيء ، فكنت لا أغادره طيلة الايام الاربعة إلا للنوم ، رغم كثرة زواره والعلماء الوافدين عليه من كل الاقطار ، فقد رأيت السعوديين هناك ولم أكن اتصور بأن في الحجاز شيعة ، وكذلك علماء من البحرين ومن قطر ومن الامارات ومن لبنان وسوريا وإيران وأفغانستان ومن تركيا ومن أفريقيا السوداء وكان السيد يتكلم معهم ويقضي حوائجهم ولا يخرجون من عنده إلا وهم فرحون مسرورون ، ولا يفوتني أن أذكر هنا قضية حضرتها وأعجبت في كيفية فصلها ، وأذكرها للتاريخ لما لها من أهمية بالغة حتى يعرف المسلمون ماذا خسروا بتركهم حكم الله.

جاء إلى السيد محمد باقر الصدر أربعة رجال أظنهم عراقيين عرفت ذلك من لهجتهم ، كان أحدهم ورث مسكنا من جده الذي توفي منذ سنوات وباع ذلك المسكن إلى شخص ثان كان هو الآخر حاضرا ، وبعد سنة من تاريخ البيع جاء أخوان ، وأثبتا أنهما وارثان شرعيان للميت ، وجلس أربعتهم أمام السيد وأخرج كل واحد منهم أوراقه وما عنده من حجج وبعد ما قرأ السيد كل أوراقهم وتحدث معهم بضع دقائق حكم بينهم بالعدل ،

٥٢

فأعطى الشاري حقه في التصرف بالمسكن وطلب من البائع أن يدفع للاخوين نصيبهما من الثمن المقبوض ، وقام الجميع يقبلون يده ، ويتعانقون ، ودهشت لهذا ولم أصدق ، وسألت أبا شبر ، هل انتهت القضية؟ قال : « خلاص كل اخذ حقه » ، سبحان الله! بهذه السهولة ، وبهذا الوقت الوجيز ، بضع دقائق فقط كافية لحسم النزاع؟ إن مثل هذه القضية في بلادنا تستغرق عشر سنوات على أقل تقدير ويموت بعضهم ، ويواصل أولاده بعده تتبع القضية ويصرفون رسوم المحكمة والمحامين ما يكلفهم في أغلب الاحيان ثمن المسكن نفسه ، ومن المحكمة الابتدائية إلى محكمة الاستئناف ثم إلى التعقيب وفي النهاية يكون الجميع غير راضين بعد ما يكونون قد انهكوا بالتعب والمصاريف والرشوة ، والعداوة والبغضاء بين عشائرهم وذويهم ، أجابني أبوشبر ، وعندنا أيضا نفس الشيء أو أكثر فقلت : كيف؟ قال : إذا رفع الناس شكواهم إلى المحاكم الحكومية ، فيكون مثل ما حكيت أما إذا كانوا يقلدون المرجع الديني ويلتزمون بالاحكام الاسلامية ، فلا يرفعون قضاياهم إلا إليه فيفصلها في بضع دقائق كما رأيت ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يعقلون؟ والسيد الصدر لم يأخذ منهم فلسا واحدا ، ولو ذهبوا إلى المحاكم الرسمية لتعرت رؤوسهم. ضحكت لهذا التعبير الذي هو سار عندنا أيضا وقلت : سبحان الله! أنا لا زلت مكذبا ما رأيت ، ولولا ما شاهدته بعيني ما كنت لاصدق أبدا ، فقال أبو شبر : لا تكذب ياأخي فهذه بسيطة بالنسبة إلى غيرها من القضايا التي هي أشد تعقيدا وفيها دماء ، ومع ذلك يحكم فيها المراجع ويفصلونها في سويعات ، فقلت متعجبا : إذاً عندكم في العراق حكومتان ، حكومة الدولة وحكومة رجال الدين ، فقال : كلا عندنا حكومة الدولة فقط ، ولكن المسلمين من الشيعة الذين يقلدون مراجع الدين ، لا علاقة لهم بالحكومة ، لانها ليست حكومة إسلامية فهم خاضعون لها بحكم المواطئية والضرائب والحقوق المدنية والاحوال الشخصية ، فلو تخاصم مسلم ملتزم مع أحد المسلمين غير الملتزمين فسوف يضطر حتما لرفع قضيته إلى محاكم الدولة ، لان هذا الاخير لا يرضى بتحكيم رجال الدين ـ أما إذا كان المتخاصمان متلزمين فلا أشكال هناك ، وما يحكم به المرجع الديني نافذ على الجميع. وعلى هذا الاساس تحل القضايا التي يحكم فيها المرجع في يومها بينما تظل القضايا الاخرى شهورا بل أعواما.

إنها حادثة حركت في نفسي شعور الرضى بأحكام الله سبحانه وتعالى وفهمت معنى

٥٣

قوله تعالى في كتابه المجيد :

( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ،... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) (١) صدق الله العظيم.

كما حركت في نفسي شعور النقمة والثورة على هؤلاء الظلمة الذين يبدلون أحكام الله العادلة بأحكام وضعية بشرية جائرة ، ولا يكفيهم كل ذلك بل ينتقدون بكل وقاحة وسخرية الاحكام الآلهية ، ويقولون بأنها بربرية ووحشية لانها تقيم الحدود فتقطع يد السارق وترجم الزاني ، وتقتل القاتل ، فمن أين جاءتنا هذه النظريات الغريبة عنا وعن تراثنا ، لا شك إنها من الغرب ومن أعداء الاسلام الذين يدركون أن تطبيق أحكام الله يعني القضاء عليهم نهائيا ، لانهم سراق ، خونة ، زناة ، مجرمون وقتلة. ولو طبقت أحكام الله عليهم لاسترحنا من هؤلاء جميعا وقد دارت بيني وبين السيد محمد باقر الصدر في تلك الايام حوارات عديدة وكنت أسأله عن كل صغيرة وكبيرة من خلال ما عرفته من الاصدقاء الذين حدثوني عن كثير من عقائدهم وما يقولونه في الصحابة رضي الله عنهم وما يعتقدونه في الائمة الاثني عشر علي وبنيه ، وغير ذلك من الاشياء التي نخالفهم فيها.

سألت السيد الصدر عن الامام علي ، ولماذا يشهدون له في الآذان بأنه ولي الله؟ أجاب قائلا : إن أمير المؤمنين عليا سلام الله عليه وهو عبد من عبيد الله الذين اصطفاهم الله وشرفهم ليواصلوا حمل أعباء الرسالة بعد أنبيائه وهؤلاء هم أوصياء الانبياء ، فلكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب هو وصيّ محمد ، ونحن نفضله على سائر الصحابة بما فضله الله ورسوله ولنا في ذلك أدلة عقلية ونقلية من القرآن والسنة وهذه الادلة لا يمكن أن يتطرق إليها الشك لانها متواترة وصحيحة من طرقنا وحتى من طرق أهل السنة والجماعة ، وقد ألف في ذلك علماؤنا العديد من الكتب ، ولما كان الحكم الاموي يقوم على طمس هذه الحقيقة ومحاربة أمير المؤمنين علي وأبنائه وقتلهم ، ووصل بهم الامر إلى سبه ولعنه على منابر المسلمين وحمل الناس على ذلك بالقهر والقوة ، فكان شيعته وأتباعه رضي الله عنهم

__________________

( ١ ) سورة المائدة : الآيات ٤٤ ـ ٤٥ ـ ٤٧.

٥٤

يشهدون أنه ولي الله ، ولا يمكن للمسلم أن يسب ولي الله ، وذلك تحديا منهم للسلطة الغاشمة حتى تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وحتى تكون حافزا تاريخيا لكل المسلمين عبر الاجيال فيعرفون حقيقة علي وباطل أعدائه.

ودأب فقهاؤنا على الشهادة لعلي بالولاية في الاذان والاقامة استحبابا ، لا بنية أنها جزء من الآذان أو الاقامة فإذا نوى المؤذن أو المقيم أنها جزء بطل أذانه وإقامته.

والمستحبات في العبادات والمعاملات لا تحصى لكثرتها والمسلم يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها ، وقد ورد على سبيل المثال أنه يذكر استحبابا بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، بأن يقول المسلم ، وأشهد أن الجنة حق والنار حق وأن الله يبعث من في القبور.

قلت : إن علماءنا علمونا : أن أفضل الخلفاء على التحقيق سيدنا أبوبكر الصديق ، ثم سيدنا عمر الفاروق ثم سيدنا عثمان ثم سيدنا علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين؟ سكت السيد قليلا ، ثم أجابني.

لهم أن يقولوا ما يشاؤون ، ولكن هيهات أن يثبتوا ذلك بالادلة الشرعية ، ثم إن هذا القول يخالف صريح ما ورد في كتبهم الصحيحة المعتبرة ، فقد جاء فيها : أن أفضل الناس أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ولا وجود لعلي بل جعلوه من سوقة الناس وإنما ذكره المتأخرون استحبابا لذكر الخلفاء الراشدين.

سألته بعد ذلك عن التربة التي يسجدون عليها والتي يسمونها « بالتربة الحسينية » أجاب قائلا :

يجب أن يعرف قبل كل شيء أننا نسجد على التراب ، ولا نسجد للتراب ، كما يتوهم البعض الذين يشهرون بالشيعة ، فالسجود هو لله سبحانه وتعالى وحده ، والثابت عندنا وعند أهل السنة أيضا أن أفضل السجود على الارض أو ما أنبتت الارض من غير المأكول ، ولا يصح السجود على غير ذلك ، وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفترش التراب وقد اتخذ له خمرة من التراب والقش يسجد عليها ، وعلم أصحابه رضوان الله عليهم فكانوا يسجدون على الارض ، وعلى الحصى ، ونهاهم أن يسجد أحدهم على طرف ثوبه ، وهذا من المعلومات بالضرورة عندنا.

٥٥

وقد اتخذ الامام زين العابدين وسيد الساجدين على بن الحسينعليهما‌السلام تربة من قبر أبيه أبي عبدالله باعتبارها تربة زكية طاهرة سالت عليها دماء سيد الشهداء ، واستمر على ذلك شيعته إلى يوم الناس هذا ، فنحن لا نقول بأن السجود لا يصح إلا عليها ، بل نقول بأن السجود يصح على أي تربة أو حجرة طاهرة كما يصح على الحصير والسجاد المصنوع من سعف النخيل وما شابه ذلك.

قلت ـ على ذكر سيدنا الحسين رضي الله عنه ـ لماذا يبكي الشيعة ويلطمون ويضربون أنفسهم حتى تسيل الدماء وهذا محرم في الاسلام ، فقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ».

أجاب السيد قائلا : الحديث صحيح لا شك فيه ولكنه لا ينطبق على مأتم أبي عبدالله ، فالذي ينادي بثأر الحسين ويمشي على درب الحسين دعوته ليست دعوى جاهلية ، ثم إن الشيعة بشر فيهم العالم وفيهم الجاهل ولديهم عواطف ، فاذا كانت عواطفهم تطغى عليهم في ذكرى استشهاد أبي عبدالله وما جرى عليه وعلى أهله وأصحابه من قتل وهتك وسبي ، فهم مأجورون لان نواياهم كلها في سبيل الله ، والله سبحانه وتعالى يعطي العباد على قدر نواياهم ، وقد قرأت منذ أسبوع التقارير الرسمية للحكومة المصرية بمناسبة موت جمال عبد الناصر ، تقول هذه التقارير الرسمية بأنه سجل أكثر من ثماني حالات انتحارية قتل أصحابها أنفسهم عند سماع النبأ فمنهم من رمى نفسه من أعلى العمارة ومنهم من ألقى بنفسه تحت القطار وغير ذلك ، وأما المجروحون والمصابون فكثيرون ، وهذه أمثلة أذكرها للعواطف التي تطغى على أصحابها وإذا كان الناس وهم مسلمون بلا شك يقتلون أنفسهم من أجل موت جمال عبد الناصر وقد مات موتا طبيعيا ، فليس من حقنا ـ بناء على مثل هذا ـ أن نحكم على أهل السنة بأنهم مخطئون.

وليس لاخواننا من أهل السنة أن يحكموا على إخوانهم من الشيعة بأنهم مخطئون في بكائهم على سيد الشهداء ، وقد عاشوا محنة الحسين وما زالوا يعيشونها حتى اليوم ، وقد بكى رسول الله نفسه على ابنه الحسين وبكى جبريل لبكائه.

ـ قلت ولماذا يزخرف الشيعة قبور أوليائهم بالذهب والفضة وهو محرم في الاسلام.

أجاب السيد الصدر : ليس ذلك منحصرا بالشيعة ، ولا هو حرام فها هي مساجد

٥٦

إخواننا من أهل السنة سواء في العراق أو في مصر أو في تركيا أو غيرها من البلاد الاسلامية مزخرفة بالذهب والفضة وكذلك مسجد رسول الله في المدينة المنورة وبيت الله الحرام في مكة المكرمة الذي يكسى في كل عام بحلة ذهبية جديدة يصرف فيها الملايين ، فليس ذلك منحصرا بالشيعة.

قلت : إن علماء السعودية يقولون : إن التمسح بالقبور ودعوة الصالحين والتبرك بهم ، شرك بالله ، فما هو رأيكم؟ أجاب السيد محمد باقر الصدر :

اذا كان التمسح بالقبور ودعوة أصحابها بنية أنهم يضرون وينفعون ، فهذا شرك ، لا شك فيه : وإنما المسلمون موحدون ويعلمون أن الله وحده هو الضار والنافع وإنما يدعون الاولياء والائمةعليهم‌السلام ليكونوا وسيلتهم إليه سبحانه وهذا ليس بشرك ، والمسلمون سنة وشيعة متفقون على ذلك من زمن الرسول إلى هذا اليوم ، عدا الوهابية وهم علماء السعودية الذين ذكرت والذين خالفوا إجماع المسلمين بمذهبهم الجديد الذي ظهر في هذا القرن ، وقد فتنوا المسلمين بهذا الاعتقاد وكفروهم وأباحوا دماءهم ، فهم يضربون الشيوخ من حجاج بيت الله الحرام لمجرد قول أحدهم : السلام عليك يارسول الله ، ولا يتركون أحدا يتمسح على ضريحه الطاهر ، وقد كان لهم مع علمائنا مناظرات ، ولكنهم أصروا على العناد واستكبروا استكبارا.

فإن السيد شرف الدين من علماء الشيعة لما حج بيت الله الحرام في زمن عبدالعزيز آل سعود ، كان من جملة العلماء المدعوين إلى قصر الملك لتهنئته بعيد الاضحى كما جرت العادة هناك ولما وصل الدور إليه وصافح الملك قدم إليه هدية وكانت مصحفا ملفوفا في جلد ، فأخذه الملك وقبله ووضعه على جبهته تعظيما له وتشريفا ، فقال له السيد شرف الدين عندئذ : أيها الملك لماذا تقبل الجلد وتعظمه وهو جلد ماعز؟ أجاب الملك ، أنا قصدت القرآن الكريم الذي بداخله ولم أقصد تعظيم الجلد! فقال السيد شرف الدين عند ذلك : أحسنت أيها الملك ، فكذلك نفعل نحن عندما نقبل شباك الحجرة النبوية أو بابها فنحن نعلم أنه حديد لا يضر ولا ينفع ، ولكننا نقصد ما وراء الحديد وما وراء الاخشاب نحن نقصد بذلك تعظيم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قصدت أنت القرآن بتقبيلك جلد الماعز الذي يغلفه.

٥٧

فكبر الحاضرون إعجابا له وقالوا : صدقت ، واضطر الملك وقتها إلى السماح للحجاج ان يتبركوا بآثار الرسول حتى جاء الذي بعده فعاد إلى القرار الاول ـ فالقضية ليست خوفهم أن يشرك الناس بالله ، بقدر ما هي قضية سياسية قامت على مخالفة المسلمين وقتلهم لتدعيم ملكهم وسلطتهم على المسلمين والتاريخ أكبر شاهد على ما فعلوه في أمة محمد.

وسألته عن الطرق الصوفية فأجابني بايجاز : بأن فيها ماهو إيجابي وفيها ما هو سلبي ، فالايجابي منها تربية النفس وحملها على شظف العيش والزهد في ملذات الدنيا الفانية ، والسمو بها إلى عالم الارواح الزكية ، أما السلبي منها ، فهو الانزواء والهروب من واقع الحياة وحصر ذكر الله في الاعداد اللفظية وغير ذلك ، والاسلام ـ كما هو معلوم ـ يقر الايجابيات ويطرح السلبيات ويحق لنا أن نقول بأن مبادئ الاسلام وتعاليمه كلها إيجابية.

٥٨

الشك والحيرة

كانت أجوبة السيد محمد باقر الصدر ، واضحة ومقنعة ولكن أنى لها أن تغوص في أعماق واحد مثلي قضى خمسة وعشرين عاما من عمره على مبدأ تقديس الصحابة واحترامهم وخصوصا الخلفاء الراشدين الذين أمرنا رسول الله بالتمسك بسنتهم والسير على هديهم ، وعلى رأس هؤلاء سيدنا أبوبكر الصديق وسيدنا عمر الفاروق ، وإني لم أسمع لهما ذكرا منذ قدمت العراق ، وإنما سمعت أسماء أخرى غريبة عني أجهلها تماما ، وأئمة بعدد إثنى عشر إماما ، وإدعاء بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نص على الامام علي بالخلافة قبل وفاته ، كيف لي أن أصدق ذلك. أي أن يتفق المسلمون وهم الصحابة الكرام خير البشر بعد رسول الله ويتصافقوا ضد الامام علي كرم الله وجهه ، وقد علمونا منذ نعومة أظافرنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحترمون الامام عليا ويعرفون حقه فهو زوج فاطمة الزهراء وأبوالحسن والحسين وباب مدينة العلم ، كما يعرف سيدنا علي حق أبي بكر الصديق الذي أسلم قبل الناس جميعا وصاحب رسول الله في الغار ذكره الله تعالى في القرآن ، وقد ولاه رسول الله إمامة الصلاة في مرضه وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبابكر خليلا ، ولكل ذلك اختاره المسلمون خليفة لهم ، كما يعرف الامام علي حق سيدنا عمر الذي أعز الله به الاسلام وسماه رسول الله بالفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل كما يعرف حق سيدنا عثمان الذي استحت منه ملائكة الرحمن والذي جهز جيش العسرة وسماه رسول الله بذي النورين ، فكيف يجهل إخواننا الشيعة كل هذا أو

٥٩

يتجاهلونه ويجعلون من هؤلاء أشخاصا عاديين تميل بهم الاهواء والاطماع الدنيوية عن اتباع الحق فيعصون أوامر الرسول بعد وفاته وهم الذين كانوا يتسابقون لتنفيذ أوامره فيقتلون أولادهم وآباءهم وعشيرتهم في سبيل عزة الاسلام ونصرته ، والذي يقتل أباه وولده طاعة لله ورسوله لا يمكن أن تغره أطماع دنيوية زائلة هي اعتلاء منصة الخلافة فيتجاهل أمر رسول الله ويتركه ظهريا.

نعم من أجل كل هذا ما كنت لاصدق الشيعة في كل ما يقولون رغم أني اقتنعت بأمور كثيرة ، وبقيت بين الشك والحيرة ، الشك الذي أدخله علماء الشيعة في عقلي لان كلامهم معقول ومنطقي ، والحيرة التي غمرتني فلم أصدق أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينزلون إلى هذا المستوى الاخلاقي فيصبحون بشرا عاديين مثلنا ، لم تصقلهم أنوار الرسالة ولم يهذبهم الهدى المحمدي؟ يا إلهي كيف يكون ذلك؟ أيمكن أن يكون الصحابة على هذا المستوى الذي يقول به الشيعة؟ والمهم هو أن هذا الشك وهذه الحيرة هما بداية الوهن وبداية الاعتراف بأن هناك أمورا مستورة لابد من كشفها للوصول إلى الحقيقة.

جاء صديقي منعم وسافرنا إلى كربلاء ، وهناك عشت محنة سيدنا الحسين كما يعيشها شيعته وعلمت وقتئذ بأن سيدنا الحسين لم يمت ، فالناس يتزاحمون ويتراصون حول ضريحه كالفراشات ويبكون بحرقة ولهفة لم أشهد لهما مثيلا ، فكأن الحسين استشهد الآن ، وسمعت الخطباء هناك يثيرون شعور الناس بسردهم لحادثة كربلاء في نواح ونحيب ، ولا يكاد السامع لهم أن يمسك نفسه ويتماسك حتى ينهار ، فقد بكيت وبكيت وأطلقت لنفسي عنانها وكأنها كانت مكبوتة ، وأحسست براحة نفسية كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم ، وكأني كنت في صفوف أعداء الحسين وانقلبت فجأة إلى أصحابه وأتباعه الذين يفدونه بأرواحهم ، وكان الخطيب يستعرض قصة الحر وهو أحد القادة المكلفين بقتال الحسين ، ولكنه وقف في المعركة يرتعش كالسعفة ولما سأله بعض أصحابه : أخائف أنت من الموت أجابه الحر ، لا والله ولكنني أخير نفسي بين الجنة والنار ثم همز جواده وانطلق إلى الحسين قائلا : هل من توبة يابن رسول الله ، ولم أتمالك عند سماع هذا أن سقطت على الارض باكيا وكأني أمثل دور الحر وأطلب من الحسين : هل من توبة ياابن رسول الله ، سامحني ياابن رسول الله ، وكان صوت الخطيب مؤثرا ، وارتفعت

٦٠