المحسن السبط مولود أم سقط

المحسن السبط مولود أم سقط9%

المحسن السبط مولود أم سقط مؤلف:
المحقق: السيد حسن الموسوي الخرسان
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 628

المحسن السبط مولود أم سقط
  • البداية
  • السابق
  • 628 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85592 / تحميل: 7865
الحجم الحجم الحجم
المحسن السبط مولود أم سقط

المحسن السبط مولود أم سقط

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً.

وأما اللاتي تركتهنّ : فوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ، فإنّه تخيل إليّ أنّه لا يرى شراً إلاّ أعان عليه ، ووددت أنّي حين سيّرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة(٢) ، فإن ظفر المسلمون ظفروا ، وإن هربوا كنت بصدد لقاء أو مدداً.

ووددت أنّي كنت إذ وجّهت خالد بن الوليد إلى الشام ، كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق ، فكنت قد بسطت يديّ كلتيهما في سبيل الله ـ ومدّ يديه ـ ، ووددت أنّي كنت سألت رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) لمن هذا الأمر ؟ فلا ينازعه أحد ، ووددت أنّي كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ؟ ووددت أنّي كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة ؟ فإنّ في نفسي منهما شيئاً.

قال لي يونس : قال لنا يحيى : ثم قدم علينا عُلوان بعد وفاة الليث ، فسألته عن هذا الحديث فحدّثني به كما حدّثني الليث بن سعد حرفاً حرفاً ، وأخبرني أنّه هو حدّث به الليث بن سعد ، وسألته عن أبيه ، فأخبرني أنّه علوان بن داود.

__________________

وأعطاه سلاحاً فشد غارة على كل مسلم ، ولمّا أمكنت الفرصة منه وجيئ به إلى أبي بكر أمر فأوقدوا ناراً ثم أمر به فرموه مقموطاً فيها. وقول أبي بكر : كنت قتلته سريحاً أو خليّته نجيحاً.

(١) القتل السريح : السريع ، والنجيح : الوشيك.

(٢) موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلاً ، وبه نزل أبو بكر في خلافته لما وجّه خالد بن الوليد لقتال أهل الردة ( معجم البلدان ). وقال عبد الله الليثي : ـ وكانت بنو عبد مناة من المرتدة ـ وهم بنو ذبيان ـ في ذلك الأمر بذي القصة وبذي حمى :

أطعنا رسول الله ما كان بيننا

في العباد الله ما لأبي بكر

أيورثها بكراً إذا مات بعده

وتلك لعمر الله قاصمة الظهر

فهلا رددتم وفدنا بزمانه

وهلاً خشيتم حس راغية البكر

وإن التي سالوكم فمنعتمُ

لك التمر أو أحلى إليّ من التمر

تاريخ الطبري ٣٤٠ : ٢٤٦ ، وأوردها دون البيت الرابع الأصبهاني في الأغاني ٣ : ١٥٧ , منسوبة للحطيئة.

٢٠١

وحدّثني محمد بن إسماعيل المرادي ، قال : حدّثنا عبد الله بن صالح المصري ، قال : حدّثني الليث ، عن عُلوان ، عن صالح بن كيسان ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، أنّ أبا بكر قال : ـ ثم ذكر نحوه ، ولم يقل فيه ( عن أبيه ) ـ.

إلى هنا انتهى النص ، وقد عقب عليه الطبري بإسنادين آخرين لروايته زيادة في التوثيق.

وقد مرّت الإشارة إلى أن هذا الخبر قد رواه أحمد بن عبد العزيز الجوهري ( كان حياً سنة٣٢٠ ه‍ ) ، في كتاب السقيفة ، وما ذكره رواه عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة(١) ، حيث انتصب قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي مدافعاً عن أبي بكر ، وما طعن به عليه من هذا الخبر ، وذكر ابن أبي الحديد ردّ الشريف المرتضى عليه في كتابه الشافي ، وسيأتي ذكر ذلك.

كما سيأتي ذكر أكثر من عشرة آخرين رووا الخبر بتفاوت رواياتهم ، وجرى عليه من بعضهم محاولات بائسة ويائسة ، تكتماً وتلعثماً ، حتى أنّ بعضهم ذكر خبر عيادة عبد الرحمن بن عوف وتبرم أبي بكر ، لكنّه ألغى ذكر جميع المثلثات ، وآخر ذكرها دون ذكر ( كشف بيت فاطمة ) فكنّى عنه بقوله : ( كذا وكذا ).

وثالث ذكرها وسمى البيت بيت علي ، تهرباً من ذكر بيت فاطمة التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، غافلاً أو متغافلاً عن أنّ بيتهما واحد ، وهما في الحرمة سيان ، وبيتهما من أفاضل تلك البيوت التي أمر الله سبحانه وتعالى بأن تصان حرمتها ويعرف قدرها ، كما في رواية أنس وبريدة ، وقد رواها الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل(٢) ، والسيوطي في الدر المنثور(٣) في ذيل تفسير قوله تعالى :( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (٤) في سورة النور قال :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ : ٤٥ ـ ٤٧ , وأشار إليه ثانية في ١٧ : ١٤.

(٢) شواهد التنزيل ١ : ٤١.

(٣) الدر المنثور ٥ : ٥٠.

(٤) النور : ٣٦.

٢٠٢

وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قالا : قرأ رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) هذه الآية :( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ ) فقام إليه رجل فقال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال :« بيوت الأنبياء » ، فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها ـ لبيت علي وفاطمة ـ قال : «نعم ، من أفاضلها » ـ من أفضلها.

وهذا فيما أحسب هو الذي حدا بجمع من المحدّثين والمؤرّخين التستر على شناعة المثلثات ، وما فيها من إدانة لأبي بكر والطعن عليه ، خصوصاً ذكر ( كشف بيت فاطمة ) فذكره يعني الاعتراف بالإساءة والمهانة ، وهو حقيق بالإدانة.

ولئلا يظن ظان مستنكر أو متعال مستكبر أنّ ذلك منّا مجرّد تهويل ؛ فلنعرض أمام القرّاء ما لحق مثلثات أبي بكر من تضليل ، فنقول :

إنّ أول من وقفت عليه مستعظماً ذكر ( كشف بيت فاطمة ) صراحة ، هو أبو عبيد القاسم ابن سلام ( ت ٢٢٤ ه‍ ) ، في كتابه ( الأموال ) ، فقد ذكر الخبر وبادر إلى الكناية عن ( كشف بيت فاطمة ) فقال : ( أما الثلاث التي فعلتها ، ووددت أنّي لم أفعلها : فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا لخلة ذكرها لا أريد ذكرها ) ، وهذا ما جعلنا نهزأ منه حتى قلنا : إنّها لملكية فوق الملك.

فأبو بكر نفسه يذكر الخلّة ـ كشف بيت فاطمة ـ نادماً عليها وأبو عبيد يأبى ذكرها !

وللإنصاف أن نقول له : إنّ حميد بن زنجويه ( ت ٢٥١ ه‍ ) ، الذي أتى بعدك زماناً ، وهو أقل ذكراً وشأناً ، كان أفصح بياناً وأقوى جناناً ، فقد ذكر الخبر مرّتين في كتابه الأموال ، كانت الأولى في صفحة ٣٠٣ ـ ٣٠٥ ، فذكر الخبر بنصّه وفصّه لم يغير شيئاً مما يمس جوهر القضية ، وحتى في إسناده كان رجاله ثقاة(١) .

__________________

(١) كتاب الأموال لحميد بن زنجويه ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٥.

٢٠٣

لكنه في المرّة الثانية في صفحة / ٣٤٧ فقد ذكر النص بسند آخر. فقال فيه : ( أما اللاتي وددت أنّي تركتهنّ ، فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا ، لشيء ذكره ) وهذا منه مستغرب بعد ذكره أولاً كما مرّ ، ولا أحسبه إلاّ أنّه إنهار أمام تهديد أو وعيد ، فاتقى الشر فذكره كناية.

أما ثالث القوم الذين تلاعبوا بالنص بصورة غير ذكية ، فهو أبو العباس المبرد في كتابه الكامل(١) ، فقد ذكر الخبر مقتصراً على حديث أبي بكر مع عبد الرحمن بن عوف من دون ذكر المثلثات ، وهذا ممّا يؤاخذ عليه.

ورابعهم كان المسعودي الشافعي ( ت ٣٤٥ ه‍ ) ، فهو ليس بدون من تقدّمه في تعامله مع النص بغير مسوّغ ، فقد ذكره في كتابه مروج الذهب(٢) ، فقال : ( ومرض أبو بكر قبل وفاته بخمسة عشر يوماً ، ولمّا احتضر قال : ما آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتها وددت أنّي تركتها ، فوددت أنّي لم أكن فتشت بيت فاطمة ، وذكر كلاماً كثيراً ) ، فعدم ذكره ذلك الكلام الكثير مما يؤاخذ عليه.

وخامسهم الباقلاني ( ت ٤٠٣ ه‍ ) ، فقد ذكر في كتابه إعجاز القرآن(٣) ، عيادة عبد الرحمن بن عوف لأبي بكر ، وحديث أبي بكر وتبرّمه من أصحابه ، ولم يذكر عن المثلثات شيئاً ، فحذفها جملة وتفصيلاً ، وقد مرّ في نظرة إلى المصادر ما في طبعتي الكتاب ، وعمل المحققين فيه فراجع.

وسادس هذا النمط المفرط في الايهام والاستبهام ، أبو نعيم الاصبهاني ( ت٤٣٠ ه‍ ) ، فقد ذكر في كتابه حلية الأولياء(٤) حديث أبي بكر مع عبد الرحمن

__________________

(١) الكامل ١ : ٦.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣٠٨.

(٣) إعجاز القرآن للباقلاني٢١٠ ـ ٢١١.

(٤) حلية الأولياء ١ : ٣٤.

٢٠٤

بن عوف الا ذكر المثلثات ، فلم يأت بشيء عنها أبدا ، لماذا ذلك ؟ والجواب لا يخفى على أولي الألباب.

نعم ، ذكر نصاً يوحي بندامة أبي بكر على ما فرّط ، فقد قال : إنّ عمر دخل على أبي بكر وهو يجبذ لسانه ، فقال له عمر : مه ؟ غفر الله لك ، فقال أبو بكر : إن هذا أوردني الموارد(١) .

وسابع تابع لم يتخلّف عن المسيرة ، وذلك هو الحافظ الهيثمي ( ت ٨٠٧ ه‍ ) ، فقد ذكر الحديث في مجمع الزوائد(٢) ، وقال : رواه الطبراني وفيه علوان بن داود البجلي وهو ضعيف ، وهذا الأثر مما أنكر عليه.

وثامنهم المتقي الهندي ( ت ٩٧٥ ه‍ ) ، ذكر الخبر في كنز العمّال(٣) ، وذكر في الكنز مصادره التي روى الخبر عنها فقال : ( أبو عبيد في كتاب الأموال ، عق ، وخيثمة بن سليمان الإطرابلسي في فضائل الصحابة ، طب ، كر ، حن ) وقال : إنّه حديث حسن إلاّ أنّه ليس فيه شيء عن النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) ، وقد أخرج ( خ ) في كتابه غير شيء من كلام الصحابة ).

أقول : إنّ المتقي الهندي أشار إلى المصادر التالية :

١ ـ كتاب الأموال لأبي عبيد ، وقد تقدم ذكره ، وإنّ المطبوع ليس فيه التصريح بكشف بيت فاطمة ، فراجع.

__________________

(١) حلية الأولياء ١ : ٣٣ ، قال الجوهري في الصحاح : ١٠٥٩ ، وفي حديث أبي بكر حيث دخل عليه عمر وهو ينصنص لسانه ، ويقول : هذا أوردني الموارد , قال أبو عبيد هو بالصاد لا غير ، قال : وفيه لغة أخرى ليست في الحديث نضنضت بالضاد , وكذا جاء في لسان العرب , وتاج العروس وغيرهما في مادتي : ( نص ) و ( نض ) , فراجع.

(٢) مجمع الزوائد ٥ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٣) كنز العمال ٥ : ٣٦٨.

٢٠٥

٢ ـ عق = يعني كتاب الضعفاء للعقيلي(١) ( ت ٣٢٢ ه‍ ) ، وهو قد ذكر الخبر في ترجمة عُلوان بن داود بأربعة أسانيد ، ومع ذلك فقد جرح عُلوان فوصفه : بأنّه منكر الحديث.

٣ ـ خيثمة = يعني خيثمة بن سليمان الإطرابلسي ، ( ت ٣٤٣ ه‍ ) ، له كتاب فضائل الصحابة ، والخبر فيه في ترجمة أبي بكر.

٤ ـ طب = يعني الطبراني ، ذكر الخبر في المعجم الكبير(٢) .

٥ ـ كر = يعني ابن عساكر في تاريخ دمشق ، والخبر فيه في ترجمة أبي بكر.

٦ ـ ص = يعني سعد بن منصور ( ت ٢٢٧ ه‍ ) ، والخبر في سننه.

فهذه ستة مصادر سبق ذكر الأول منها فقط ، وتضاف الخمسة الباقية إلى الأرقام الثمانية التي استعرضنا ما عند أصحابها ممّن لم يستمرؤا طعم مرارة الاعتراف ، ولم يخضعوا لقبول الحق والإنصاف ، فتحامل بعضهم على الرواة ، وأجهز بعضهم على الخبر فبتر منه ما ظن يجديه ، وما درى أن الحذف أو الاضمار ليس يغنيه ، مهما فعل حفاظاً على قداسة الموروث مما يعنيه ، فأبو بكر نفسه قال ذلك واعياً جازماً ، وآسفاً نادماً.

وأجدى بهم لو قالوا لأتباعهم وأشياعهم إنّه قال ذلك هجراً من غلبة الوجع عليه ، كما سبق لهم أن قالوا تبعاً لعمر بن الخطاب ومن شايع وتابع ، حين قال في النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مثل ذلك ، كما في حديث الرزية كل الرزية ويرويه حبر الأمة عبد الله بن عباس ويبكي حتى يبلّ بدموعه الحصباء ، وحديثه في البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح والسنن والسيرة.

__________________

(١) الضعفاء ٣ : ٤١٩ ـ ٤٢٠.

(٢) المعجم الكبير ١ : ٦٢.

٢٠٦

ولكنّهم تشبثوا في المقام بنسائج العنكبوت ، وأقوى من شمّر فاشتهر بحرارة الدفاع وطول الباع ، هو قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني ، إلا أنّه لم يحسن قيلاً ولم يغن فتيلاً ، ولقد انبرى لتفنيد مزاعمه وأباطيله ، وكشف تدجيله وأضاليله ، الشريف المرتضى علم الهدىرحمه‌الله (١) في كتابه الشافي ، وهو شافٍ وكافٍ ، وقد لخصه الشيخ الطوسيرحمه‌الله .

ومن الخير أن أعرض أمام القارئ ملخص ما قاله الأول ـ عبد الجبار ـ وما رد الثاني ـ الشريف المرتضى ـ في خصوص المقام نقلاً عن تخليص الشافي ؛ لئلا يظن بنا ظان غير الحق والصدق.

كما ننقل ذلك برواية ابن أبي الحديد الشافعي المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة ، فهو قد نقل النص عن الشافي بواسطة تلخيصه ، وإن لم يصرّح بذلك.

ما ذكره قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي :

روى ابن أبي الحديد في شرح النهج(٢) ، قال : قال : قاضي القضاة : ومما طعنوا به على أبي بكر أنه قال عند موته : ليتني كنت سألت رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) عن

__________________

(١)أقول : وشمّر ابن أبي الحديد عن ساعديه , وانبرى ناصباً من نفسه قاضياً ، فعقّب على كلام الشريف المرتضى وناقشه في رده على قاضي القضاة ، في مسألة الشك في الإمامة , وتمني أبي بكر السؤال عنها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله , ورده على القاضي في الاستشهاد بالآية المباركة في مسألة إبراهيمعليه‌السلام ، وأطال في ذلك فمن أراده فليراجعه.

ويعنينا في المقام تعقيبه على تمني أبي بكر عدم كشف بيت فاطمة عليها‌السلام , وقد أنكره قاضي القضاة وأثبته الشريف المرتضى , قال ابن أبي الحديد : وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة عليها‌السلام فقد تقدم الكلام فيه ، والظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى والشيعة ، ولكن لا كل ما يزعمونه ، بل كان بعض ذلك ، وحقٌ لأبي بكر أن يندم ويتأسّف على ذلك ، وهذا يدل على قوة دينه وخوفه من الله تعالى ، فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعناً عليه .

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٧ : ١٦٤.

٢٠٧

ثلاثة : فذكر في أحدها : ليتني كنت سألت هل للأنصار في هذا الأمر حق ؟ قالوا : وذلك يدل على شكه في صحة بيعته.

وربما قالوا : قد روي أنّه قال في مرضه : ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه ، وليتني في ظلة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين ، فكان هو الأمير وكنت الوزير.

قالوا : وذلك يدلّ على ما روي من إقدامه على بيت فاطمةعليها‌السلام ، عند اجتماع عليعليه‌السلام والزبير وغيرهما فيه ، ويدلّ على أنّه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه.

قال قاضي القضاة : والجواب أنّ قوله : ( ليتني ) لا يدل على الشك فيما تمنّاه ، وقول إبراهيمعليه‌السلام :( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (١) أقوى من ذلك في الشبهة ، ثم حمل تمنّيه على أنه أراد سماع شيء مفصل ، أو أراد : ليتني سألته عند الموت لقرب العهد ، لأنّ ما قرب عهده لا يُنسى ، ويكون أردع للأنصار على ما حاولوه.

ثم قال : على أنّه ليس في ظاهره أنّه تمنى أن يسأل : هل لهم حق في الإمامة أم لا ؟ لأنّ الإمامة قد يتعلّق بها حقوق سواها ، ثم دفع الرواية المتعلّقة ببيت فاطمةعليها‌السلام ، وقال : فأمّا تمنيه أن يبايع غيره : فلو ثبت لم يكن ذماً ، لأنّ من اشتد التكليف عليه فهو يتمنّى خلافه.

ثم قال ابن أبي الحديد(٢) : اعترض المرتضىرحمه‌الله هذا الكلام فقال : ليس يجوز أن يقول أبو بكر : ( ليتني كنت سألت عن كذا ) إلاّ مع الشك والشبهة ؛ لأنّ مع العلم واليقين لا يجوز مثل هذا القول ، هكذا يقتضي الظاهر ، فأمّا قول

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) شرح النهج ١٧ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

٢٠٨

إبراهيمعليه‌السلام ، فإنّما ساغ أن يعدل عن ظاهره لأنّ الشك لا يجوز على الأنبياء ويجوز على غيرهم ، على أنّهعليه‌السلام قد نفى عن نفسه الشك بقوله :( بَلَىٰ وَلَٰكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل وأيّ شيء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله : ( إنّ هذا الأمر لا يصلح إلاّ لهذا الحي من قريش ) وأيّ فرق بين ما يقال عند الموت ، وبين ما يقال قبله إذا كان محفوظاً معلوماً ، لم ترفع كلمة ولم تنسخ.

فأمّا قوله : إنّا قد بيّنا أنّه لم يكن منه في بيت فاطمة ما يوجب أن يتمنّى أنّه لم يفعله ، فقد بينّا فساد ما ظنّه فيما تقدم ، فأمّا قوله : إنّ من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه ، فليس بصحيح ؛ لأنّ ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين ، والنظر للمسلمين في تلك الحال ، وما عداها كان مفسدة ، ومؤدياً إلى الفتنة ، فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحاً.

٢٠٩

نصوص الإدانة :

والآن فلنستعرض نصوص الإدانة ، ننقلها بأمانة من مصادر موثوقة عند الخصوم ، وليقرأها القارئ بإمعان وتدبّر ؛ ليعرف مدى الظلم الذي ألحقه نفرٌ من الصحابة بالقرابة ، مع قرب العهد بوصايا الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بهم ، وهو بعدُ لم تجنّه أكفانه ، اكتنفه أهله الأدنون ومعهم من قوي إيمانه ، وعافهم من خفّ ميزانه وغرّه أعوانه ، فكانت السقيفة ، وتنصيب الخليفة ، وتتابعت الأحداث على علي والزهراءعليهما‌السلام حتى ماتت بغصّتها أسيفة.

وسنأتي على ذكر النصوص حسب تسلسلها في مصادر المؤرّخين الذين مرّ ذكرهم والتعريف بهم ، وربما أشرنا إلى ما عند غيرهم مما يوافق ما عندهم.

فماذا عندهم ؟

ما ذكره ابن إسحاق :

أولاً : ماذا عند محمد بن إسحاق ( ت ١٥١ ه‍ ) ؟

النص الأوّل : قال ابن إسحاق : ولمّا قبض رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) ، انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة ، واعتزل عليّ بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ، فأتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر ، فقال : إنّ هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة ، فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ، ورسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) في بيته لم يُفرغ من أمره ، قد أغلق دونه الباب أهلُه ، قال

٢١٠

عمر : فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه(١) .

فهذا الخبر صريح بأنّ الانقسام والتحزب ظهر عند الصحابة حين قبض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يعقل ولا يقبل أن يقال بحدوثه مقارناً لظهوره ، بل إن جذور الخلاف كانت موجودة قبل ذلك الحين ، إذ لا يكون ظهور إلاّ بعد خفاء ، وهذا ما نجد له شواهد في عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عرف ذلك منهم ، فحذّرهم مغبّة العواقب السيّئة ، وأنذرهم بسوء العاقبة ، ودعاهم إلى وحدة الكلمة وتوحيد الصف ، وأبان لهم أنّه تركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.

كما أنّ الخبر صريح بأنّ رموز الصحابة من مهاجرين وأنصار ـ عدا أهل البيتعليهم‌السلام ـ قد تركوا الجثمان الطاهر ، وانصرفوا يتنازعون أمر الخلافة.

والخبر صريح بأنّ أهل البيتعليهم‌السلام قد أغلقوا دونه الباب ، وهنا تبدو إشارة خفيّة إلى أنّ ابن إسحاق قد غصّ بذكر أسماء من هم أهله الذين أغلقوا دونه الباب وعمّن أغلقوه ؟ ولا ضير فإنّ ابن إسحاق يعيش في كنف العباسيين ، وهو بمثابة مؤرّخ دولة رسمي عندهم ، فكيف يجرأ على أن يذكر الأسماء ، ولابد له من ذكر عليعليه‌السلام في أولهم وفي مقدمتهم ، ثم يذكر العباس وابنه الفضل ، وهذا ما لا يرضاه أولياء نعمته ، ففي الكتمان السلامة ، وإن لحقته في ذلك الملامة.

النص الثاني : قال ابن إسحاق : وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار ، انّ عبد الله بن أبي بكر حدّثني عن ابن شهاب الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن عوف ـ قال : وكنت في منزله بمنى أنتظره ، وهو عند عمر في آخر حجة حجّها

__________________

(١) انظر : السيرة النبوية لابن هشام في أمر سقيفة بني ساعدة : ق ٢ / ٦٥٦.

٢١١

عمر ـ قال : فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر ، فوجدني في منزله بمنى أنتظره ـ وكنت أقرئه القرآن ـ.

قال ابن عباس : فقال عبد الرحمن بن عوف : لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً ، والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت ، قال : فغضب عمر ، فقال : إنّي إن شاء الله لقائم العشية في الناس ، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم.

قال عبد الرحمن : فقلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، وإنّهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وإنّي أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها اولئك عنك كل مطير ، ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة ، فإنّها دار السنة ، وتخلّص بأهل الفقه وأشراف الناس ، فتقول ما قلت بالمدينة متمكناً ، فيعي أهل الفقه مقالتك ، ويضعوها على مواضعها ، قال : فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجّلت الرواح حين زالت الشمس ، فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر ، فجلست حذوه ، تمسّ ركبتي ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب ، فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد : ليقولنّ العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف ، قال : فأنكر عليّ سعيد بن زيد ذلك ، وقال : ما عسى أن يقول ما لم يقل قبله ؟.

فجلس عمر على المنبر ، فلمّا سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهل له ، ثم قال : أمّا بعد ، فإنّي قائل لكم اليوم مقالة ، قد قدّر لي أن أقولها ، ولا أدري

٢١٢

لعلّها بين يدي أجلي ، فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته ؛ ومن خشي أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب عليّ :

إنّ الله بعث محمداً وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وعلمناها ووعيناها ، ورجم رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) ، ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإنّ الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، وإذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف.

ثم إنّا قد كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : ( لا ترغبوا عن آبائكم ، فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) ألا إنّ رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) قال : ( لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم ، وقولوا : عبد الله ورسوله ).

ثم إنّه قد بلغني أنّ فلاناً قال : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً ، فلا يغرنّ امرأ أن يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت ، وإنّها قد كانت كذلك ، إلا أنّ الله قد وقى شرّها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر ، فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين ، فإنّه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا.

إنّه كان من خبرنا حين توفى الله نبيّه( صلّى الله عليه وسلّم ) أنّ الأنصار خالفونا ، فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة ، وتخلّف عنّا علي بن أبي طالب والزبير بن العوّام ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر ، فقلت لأبي بكر : إنطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، وقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، قالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم ، قال : قلت : والله لنأتينّهم.

٢١٣

فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمّل(١) ، قلت : من هذا ؟ فقالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ماله ؟ فقالوا : وجع.

فلما جلسنا تشهّد خطيبهم ، فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا ، وقد دفّت دافّة من قومكم(٢) ، قال : وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ، ويغصبونا الأمر.

فلمّا سكت أردت أن أتكلم ، وقد زوّرت(٣) في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ، وكنت أداري منه بعض الحد ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر ، فكرهت أن أغضبه ، فتكلم وهو كان أعلم منّي وأوقر ، فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته أو مثلها أو أفضل حتى سكت.

قال : أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسباً وداراً ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أيّهما شئتم ، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئاً ممّا قاله غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يُقرّبني ذلك إلى إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر.

قال قائل من الأنصار : أنا جُذيلها المحكك(٤) وعذيقها المرجب(٥) ، منّا أمير ومنكم أمير ، يا معشر قريش ، قال : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات ، حتى تخوّفت

__________________

(١) مزمّل : ملتفٌ في كساء أو غيره.

(٢) الدافة : القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالشديد ؛ وفي المقام كناية عن بوادر غير محمودة لهضم حقوق الأنصار.

(٣) زوّرت مقالة : أصلحتها وحسّنتها.

(٤) الجذيل : تصغير جذل ، وهو عود يكون في وسط مبرك الإبل تحتك به ، وتستريح إليه ، فتضرب به المثل للرجل يستشفى برأيه ووجد عنده الراحة.

(٥) العذيق : تصغير عذق وهي النخلة بنفسها ، والمرجب الذي تبنى إلى جانبه دعامة ترفده لكثرة حمله ، يضرب به المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه قومه.

٢١٤

الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ، ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار ، ونزونا(١) على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عُبادة ؛ قال : فقلت : قتل الله سعد بن عبادة(٢) .

وفي هذا الخبر عدّة وقفات تدعو إلى التأمّل ، نشير إلى بعضها لغرض تنبيه القارئ عليها ، وله رأيه في تفسيرها :

أ ـ التكتم على اسم الرجل الذي أتى عمر فقال له : « هل لك في فلان يقول » ، فمن هو ذلك الرجل النمّام ؟ ومن هو فلان القائل : « والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً ؟ » ، وأخيراً : فمن هو فلان الذي يريد مبايعته ؟

تكتّم يبعث على الريبة في الرواة بدءاً من ابن إسحاق ومروراً برجال إسناده ، وانتهاءً بعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف ، وإن كانا هما آخر من تتوجه اليهما أصابع الاتهام ، لأنّهما كانا يرويان ما هو أشد إدانة.

أما ابن عباس فمروياته في تلك الأحداث سابقاً ولاحقاً كثيرة ، وفي محاججته مع عمر في أمر الخلافة ما يرفع عنه إصر الإتهام ، وأما عبد الرحمن بن عوف ، فلا مجال لتهمته في المقام بعد أن قرأنا له فيما سبق روايته مثلثات أبي بكر ، وهي تكفي في الإدانة ، فتبقى أطراف الشبهة بين الأربعة :

أولهم : ابن إسحاق ، وقد مرّ التعريف به.

وثانيهم : شيخه عبد الله بن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، أثنى عليه علماء الرجال ، فوثّقه ابن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي وغيرهم.

وثالثهم : محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وهذا هو أقرب إلى التهمة من غيره ، فقد كان مبالغاً في ركاب الأمويين ، وله روايات عديدة كتم فيها اسم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وردت في مصنّف عبد الرزاق وغيره ، فراجع.

__________________

(١) وثبنا عليه ووطئناه.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ق ٢ ، ٦٥٧ ـ ٦٦٠.

٢١٥

ورابعهم : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وهو أحد فقهاء المدينة ، تابعي كثير الحديث ، وثّقه وأثنى عليه غير واحد ، فهو بعيد عن التهمة.

ب ـ وفي الخبر إشعار بأنّ هناك اُناس يتربصون موت عمر ليبايعوا من يرونه أهله ، وقد أقلق ذلك عمر ، فصار يعدّ لتحذير الناس منهم عدّته ، وأراد أن يفاجأ الناس في أيام منى ، لولا أنّ عبد الرحمن بن عوف حذّره مغبة ذلك ، فأخذ بنصيحته.

ج ـ وفي الخبر تصريح خطير من عمر في المدينة في ذكره آية الرجم : ( فقرأناها وعلمناها ووعيناها ) وليس في كتاب الله أيّ آية في ذلك ، وقد شرق أصحاب الحديث وغرّبوا في توجيه ذلك ، وسيأتي ما يتعلق به فيما عند البخاري.

د ـ وفي الخبر كذلك ما ذكر من قراءته في كتاب الله : ( لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) وهذا ما خلا منه كتاب الله ، ولأئمة الحديث في توجيهه كسابقه كلام طويل عريض.

ه‍ ـ إقرار عمر بأنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وإنّ الله قد وقى شرّها. فهي فلتة عن غير سابق مشورة بين المسلمين ، ولا عهد من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد تمت ، وفيها شرّ إلاّ أنّ الله قد وقى شرها.

و ـ وفي الخبر ذكر تخلف علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما ، وفي إقراره بتخلّف هؤلاء يكفي لنسف زعم الإجماع على خلافة أبي بكر.

ذ ـ وفي الخبر : « واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر » ، وتكرر ذكر المهاجرين مرّة أخرى ، ولم يصرّح باسم واحدٍ غير أبي عبيدة بن الجراح كان معه ، فمن هم أولئك المهاجرون الذين كانوا معه ؟

ح ـ وفي الخبر قول أبي بكر في حجته : ( ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ) فأين هذا من مزاعم حيكت له من بعد كدعوى تقديمه في الصلاة ، وصحبة الغار وو ...

٢١٦

ط ـ وفي الخبر قول أبي بكر : ( وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم ) وكأن ولاية الأمر إليه مفوضة ، وله أن يرشح من يرضاه.

ي ـ وفي الخبر قول الأنصاري : ( منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ) وهذا يدلّ على أنّ الاجتماع كان لاقتسام السلطة بين من حضر من قريش وبين الأنصار ، وليس ثمة عهد نبوي ، ولا هناك حساب لآخرين من المهاجرين لم يحضروا.

ك ـ وأخيراً تمت البيعة بقول عمر : ( ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته ).

ما ذكره عبد الرزاق الصنعاني :

ثانياً : ماذا عند عبد الرزاق بن همام الصنعاني ؟

عنده عدّة نصوص نختار منها ما يلي :

النص الأول : لقد روى في كتابه المصنّف(١) عن معمر قال : وأخبرني أيوب عن عكرمة قال : قال العباس بن عبد المطلب : والله لأعلمنّ ما بقاء رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) فينا ، فقلت : يا رسول الله لو اتخذت شيئاً تجلس عليه يدفع عنك الغبار ، ويردّ عنك الخصم ، فقال النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) :« لأدعنّهم ينازعوني ردائي ويطؤون عقبي ، ويغشاني غبارهم حتى يكون الله يريحني منهم » ، فعلمت أنّ بقاءه فينا قليل.

قال : فلما توفي رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) قام عمر فقال : إنّ رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) لم يمت ، ولكن صعق كما صعق موسى ، والله أنّي لأرجو أن يعيش رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) حتى يقطع أيدي رجال وألسنتهم من المنافقين يقولون : إنّ رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) قد مات.

فقام العباس بن عبد المطلب فقال : أيّها الناس هل عند أحد منكم عهدٌ أو عقدٌ من رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : فإنّ رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) لم يمت حتى وصل

__________________

(١) مصنف عبد الرزاق ٥ : ٤٣٣.

٢١٧

الحبال ، ثم حارب وواصل وسالم ونكح النساء وطلّق ، وترككم عن حجة بيّنة وطريق ناهجة ، فإن يك ما يقول ابن الخطاب حقاً فإنّه لن يعجز الله أن يحثو عنه فيخرجه إلينا ، وإلاّ فخل بيننا وبين صاحبنا ، فإنّه يأسن كما يأسن الناس.

فهذا الخبر يكشف لنا عن أمور هي كما يلي :

١ ـ ثمة غبار يُثار عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيؤذيه ، فيشير عليه عمه العباس باتخاذ ما يدفع عنه الغبار.

٢ ـ وثمة خصومة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أشار إليها عمه بقوله : ويرد عنك الخصم.

٣ ـ وثمة سخط وألم من أولئك الذين يؤذون النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) ، فينازعونه رداءه ، ويطؤون عقبه ، ويغشونه غبارهم ، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يصبر على جميع ذلك حتى يكون الله يخرجه منهم.

٤ ـ وثمة مقالة عمر الفجة الجوفاء الحمقاء بإنكار موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقرآن فيه :( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (١) وفيه :( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ ) (٢) وفيه :( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (٣) فهل يعقل أنّ عمر كل هذا لم يقرأه ولم يسمعه.

وهب أنّ ذلك كله كان ، أفهل نسي حديث الكتف والدواة الذي انبرى هو للرد على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بكلمته الجافية النابية : ( إنّه يهجر ).

٥ ـ ثم ما باله يصف من قال مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالمنافقين ، فمن هم أولئك ؟ إنّها مكابرة وقحة ، وجرأة عظيمة على أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٦ ـ وفي قيام العباس للرد عليه في سؤاله من الناس عمّن عنده عهد أو عقد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي هذا كشف عمّا تكنّه الصدور ، وتقرير بأن ليس عند

__________________

(١) الزمر : ٣٠.

(٢) الأنبياء : ٣٤.

(٣) آل عمرن : ١٤٤.

٢١٨

واحد من الناس أيّ عهد أو عقد يمكن أن يحتج به بعد ذلك ، وهي لفتة بارعة تدلّ على حنكة وحزم في مثل ذلك الموقف الرهيب أمام الوعيد العمري.

٧ ـ وأخيراً يكشف آخر الخبر أنّ عمر كان ممانعاً من تجهيز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لذلك قال العباس : فخل بيننا وبين صاحبنا ، فانّه يأسن كما يأسن الناس.

وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات ، والدارمي في سننه ، وابن حجر في فتح الباري ، وغيرهم بتفاوت يسير في ألفاظهم(١) .

النص الثاني : عبد الرزاق(٢) قال : أخبرنا معمر عن الزهري ، قال : أخبرني أنس بن مالك أنّه سمع خطبة عمر الآخرة ، حين جلس على منبر النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) ، وذلك الغد من يوم توفي رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) قال : فتشهد عمر وأبو بكر صامت لا يتكلم ، ثم قال عمر : أما بعد ، فإنّي قلت مقالة وإنّها لم تكن كما قلت ، وإنّي والله ما وجدت المقالة التي قلت في كتاب الله تعالى ، ولا في عهد عهده إليّ رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) ، ولكنّي كنت أرجو أن يعيش رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) حتى يدبرُنا ـ يريد بذلك حتى يكون آخرنا ـ فإن يك محمد قد مات فإنّ الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به ، هذا كتاب الله فاعتصموا به تهتدون لما هدى الله به محمداً( صلّى الله عليه وسلّم ) ، ثم إن أبا بكر صاحب رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) ، وثاني اثنين ، وانّه أولى الناس بأموركم ، فقوموا فبايعوه.

وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة ، وكانت بيعة العامة على المنبر ، قال الزهري : ، أخبرني أنس ، قال : لقد رأيت عمر يُزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجاً.

وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في الطبقات(٣) إلى ذكر كتاب الله والاهتداء به ، إلا أنّ البخاري رواه في صحيحه كما في فتح الباري(٤) ، وفي آخره : سمعت عمر

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٢ : ٢٦٦ ، والدارمي في سننه ١ : ٢٢ وابن حجر في فتح الباري ٨ : ١٠٣.

(٢) المصنف ٥ : ٤٣٧.

(٣) طبقات ابن سعد ٢ : ٢٧٠.

(٤) صحيح البخاري ، فتح الباري ١٣ : ١٦٤ ـ بتمامه.

٢١٩

يقول لأبي بكر يومئذٍ : اصعد المنبر ، فلم يزل به حتى صعد المنبر ، فبايعه الناس عامة.

وفي الخبر دلالة واضحة على موقف عمر من شد أزر أبي بكر ، وحرصه على إتمام الأمر له.

النص الثالث : روى أيضاً(١) خطبة عمر التي قال فيها تعقيباً على ما بلغه من مقالة بعضهم : لو مات ـ عمر ـ قد بايعت فلاناً.

وجاء فيها : ( إنّ الله بعث محمداً( صلّى الله عليه وسلّم ) بالحق وأنزل معه الكتاب ، فكان مما أنزل الله عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) ورجمنا بعده ، وإنّي خائف أن يطول بالناس زمان فيقول قائل : والله ما الرجم في كتاب الله ، فيضل أو يترك فريضة أنزلها الله ، ألا وانّ الرجم حق على من زنى إذا أحصن وقامت البينة ، وكان الحمل والاعتراف.

ثم قد كنّا نقرأ : ( ولا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم ) أو ( فإنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم ) ، ثم إنّ رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) قال : لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم صلوات الله عليه ، فإنّما أنا عبد الله ، فقولوا عبد الله ورسوله ، ثم أنّه بلغني أنّ فلاناً منكم يقول : انّه لو قد مات أمير المؤمنين قد بايعت فلاناً ، فلا يغرنّ أمرءاً أن يقول : انّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقد كانت إلا أن الله وقى شرها ، وليس فيكم من يقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.

إنّه كان من خبرنا حين توفي رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) ، وإن علياً والزبير ومن معه تخلفوا عنه في بيت فاطمة ، وتخلّفت عنّا الأنصار بأسرها في سقيفة بني ساعدة ، واجتمع المهاجرون على أبي بكر ، فقلت : يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار ، فانطلقنا نؤمّهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار قد شهدا بدراً ، فقالوا : .

__________________

(١) المصنف ٥ : ٤٣٩.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

( سورة البقرة آية ٢٥٥ ). ٣٤٥

( بيان ). ٣٤٥

( بحث روائي ). ٣٥٤

( سورة البقرة آية ٢٥٦ - ٢٥٧ ). ٣٦٠

( بيان ). ٣٦٠

( بحث روائي ). ٣٦٥

( سورة البقرة آية ٢٥٨ - ٢٦٠ ). ٣٦٧

( بيان ). ٣٦٧

( كلام في الاحسان وهدايته والظلم واضلاله ). ٣٧٦

( القصّة ). ٣٨٣

( بحث روائي ). ٣٩٩

( سورة البقرة آية ٢٦١ - ٢٧٤ ). ٤٠٣

( بيان ). ٤٠٤

( كلام في الإنفاق ). ٤٠٥

( بحث روائي ). ٤٢٣

( سورة البقرة آية ٢٧٥ - ٢٨١ ). ٤٣١

( بيان ). ٤٣١

( بحث روائي ). ٤٤٩

( بحث علمي ). ٤٥٤

( بحث آخر علمي ). ٤٥٨

( سورة البقرة آية ٢٨٢ - ٢٨٣ ). ٤٦١

( بيان ). ٤٦١

( سورة البقرة آية ٢٨٤ ). ٤٦٤

( بيان ). ٤٦٤

( بحث روائي ). ٤٦٧

( سورة البقرة آية ٢٨٥ - ٢٨٦ ). ٤٦٩

( بيان ). ٤٦٩

٤٨١

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628