المحسن السبط مولود أم سقط

المحسن السبط مولود أم سقط12%

المحسن السبط مولود أم سقط مؤلف:
المحقق: السيد حسن الموسوي الخرسان
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 628

المحسن السبط مولود أم سقط
  • البداية
  • السابق
  • 628 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85563 / تحميل: 7862
الحجم الحجم الحجم
المحسن السبط مولود أم سقط

المحسن السبط مولود أم سقط

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

هذا الاختيار في تسمية أخويه الحسين والمحسن ، وأتم حق أبنائه في إحسان أسمائهم ، فاختار لهم أسماء النبي ، وأسلافه من الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان(١) .

ولا نريد مناقشة العقّاد في تعليله العليل ؛ بأنّ علياً لشجاعته المنقطعة النظير ، كان يحبّ أن يعدّ ابنه فيرشحه لتلك الشجاعة عن طريق تسميته بحرب ؟!

وكأنّ مجرّد التسمية باسم صفة ، سوف يؤثّر خصائص تلك الصفة في المسمّى ! ؟ وما أدري بماذا يجيب ـ لو كان حياً ـ عن تخلّف الصفة فعلاً عن الموصوف بها اسماً ، فكم من اسمه اسد وهو في الحروب نعامة ، وكم من اسمه حاتم وهو في بخله زاد على ما در ، وكم وكم ، ولنا في أسماء الأضداد ما يغني عن إكثار الشواهد ، إذن ليس الأمر كما ذهب إليه العقّاد وغيره.

ثم هل لنا أن نسأل عن شجاعة أبناء عليّ التي ورثوها ، وكانت ظاهرة للعيان خصوصاً في حرب الجمل ، وصفين ، والنهروان ، هل كانت نتيجة تسميتهم بحرب ؟! وهذا ما لم يكن ولم يقع ، أم هي صناعة على نحو صناعات أبيهم كما قاله العقّاد فيه ! ثمّ ما بالنا نجد التفاوت في تلك الصناعة ، فيمتاز بعضهم على بعض في الحروب ، أوليسوا هم جميعاً خرّيجوا مدرسة واحدة ، والمربّي لهم واحد.

وما دام الإمام ـ إن صدقت الأحلام التي راودت مخيّلة الوضّاعين ـ كان يحب أن يكتنى بأبي حرب لأنّه يحبّ الحرب ، وقد حاول ثلاث مرّات أن يسمّي أحد أبنائه من ولد فاطمةعليها‌السلام فلم يقرّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا لم يسمّ أحد الباقين من أبنائه الّذين هم من غير فاطمةعليها‌السلام بهذا الاسم المحبّب إليه !! ولم يكن ثمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله موجوداً حتى يغيّره مثلاً.

__________________

(١) موسوعة العقّاد ( العبقريات الإسلامية ) : ٨٢١.

أما عن تسمية أبناء الإمام بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان , فقد روى البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ١٩٢ ، قال : وكان عمر ابن الخطاب سمّى عمر بن عليّ باسمه ووهب له غلاماً. أقول : وما يدرينا لعلّ في مخبآت الآثار ما يكشف أنّ عمر تبع مَنْ قبله في ذلك , ومن أتى بعده كان على وتيرته , على أنّه ورد في تسمية ابنه عثمان : سماه باسم عثمان بن مظعون السلف الصالح , كما ورد في وصفه.

٤١

وأيضاً ما دام الإمام كان مغرماً باسم حرب لأنّه شجاع ، ويحب أن يكتني بأبي حرب وقد غيّره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لماذا لم يعدل إلى ما يرادف ذلك في المعنى كالهيجاء والوغى والقتال والنزال والطعان ، فينال بذلك مبتغاه حين يلقّب بأبي الهيجاء مثلاً ، أو أبي الوغى ، وأبي مقاتل ، وأبي منازل ، وأبي مطاعن ، كما كان العرب يفعلون ذلك ، وحتى كانوا يكتنون بأسماء آلات الحرب كالصارم والهندي والخطي ، فهذا أبو الصوارم ، وذاك أبو الخطي ، وثالث أبو الهندي ، وهكذا دواليك ، فخذ ما شئت من أمثلة لديك.

فقد جاء في حديث رواه الصدوق في معاني الأخبار(١) بسنده عن أحمد بن أشيم ، قال للرضاعليه‌السلام : جعلت فداك لم سمّوا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد وأشباه ذلك ؟ قال : كانت العرب أصحاب حرب ، فكانت تهوّل على العدو بأسماء أولادهم ، ويسمون عبيدهم فرج ومبارك وميمون وأشباه ذلك يتيمّنون بها.

ثم لو كانت ارادته اسم المعنى الوصفي من حرب ، لتحول بعد التغيير الأول إلى بعض مشتقاته اللفظية ، مثل ( محارب ) فيسمى ولده الثاني أو الثالث ، ولينظر هل كان النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) يقرّه على ذلك أم يغيّره ؟

ثم أنّ سيرة الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في حروبه كلّها كانت سيرة مثلى ، تأبى على مناوئيه وأعدائه فضلاً عن أوليائه أن يقولوا بأنّه كان يحب الحرب ، لأنّه شجاع متعطش لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح.

فإنّا نقرأ حياته في الحروب التي خاض غمارها أيّام الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بدءاً من بدر ثم اُحد وحنين والأحزاب وخيبر وإلى آخرها ، فلم يكن يعدو أوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يرهق الناس بطشاً حتى يؤذن له.

وما حديث مبارزته لعمرو بن عبدود إلا دليل على تلك السيرة المثلى ، فهو حيث يقرّره بأنّه يجيب إلى إحدى خصال ثلاث ، فيبدأ بدعوته إلى الاسلام ،

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق : ٣٩١ ؛ عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ : ٣١٥.

٤٢

وحين يأبى عليه ذلك ، يطلب منه أن يرجع بالجيش عن محاربة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثانياً ، وحين يأبى ذلك يطلب إليه الن ـ زول إلى الحرب.

وأما الحروب التي بعد النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) فقد فرضت عليه ، ولم يكن راغباً في إثارتها ، لولا بغي البغاة عليه ، من ناكثين وقاسطين ومارقين ، ومع ذلك كله كان لا يبدؤهم بقتال حتى يعذر إليهم ، يتريّث طويلاً ، ويبعث الرسل تلو الرسل إلى أعدائه ، بالأعذار تلو الأعذار ، ثم الإنذار تلو الإنذار ، يخوفهم عواقب البغي والعدوان ، ويحذّرهم مغبّة إغواء الشيطان لهم ، حذار عواقب الحرب الوخيمة ، حتى إذا تمادوا في طغيانهم ، وأصرّوا على منابذته ومناجزته ، ثم هُم بدؤوه بالقتال ، شمّر للحرب عن ساعده ، فخاض الغمرة وأصلاهم نارها ، وألزم عقباهم عارها.

هذا عليّعليه‌السلام الذي كان يحب الحرب !؟ نعم يخوض الحرب حين لا مناص من خوضها وقد شبّت وقدتها ، أما أنه يحبها ويدعو إليها فلا ، بل هو رجل السلم والسلام ، وما علم المسلمون الحكم في قتال أهل القبلة إلاّ من سيرته في الحروب الثلاثة : الجمل وصفين والنهروان.

فهل مثل هذا الإنسان يمكن أن يقال فيه كان يحب أن يكتني بأبي حرب ، لأنه يحب الحرب ، ويجعل العقّاد من ذلك دليلاً على حسن اختيار الإمام لأحسن الأسماء لأبنائه ، على أنّ في باقي قوله بعد ذلك : وأتمّ حق أبنائه في إحسان أسمائهم فاختار لهم أسماء النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) وأسلافه ، ما يستبعد اسم المعنى الوصفي ( لحرب ) فلاحظ.

والآن وبعد هذه التساؤلات التي استبعدت أن يكون المراد بحرب في زعم الزاعمين أن علياً أحب أن يكتنى بأبي حرب ، يعني الحرب ضد السلم ، إذن هل المراد بحرب اسم علم شخصي شغف الإمام به حباً ، فأحبّ أن يسمّي أحد أبنائه باسمه تيمناً به ، وإذا كان ذلك فمن هو ذلك صاحب الاسم المزعوم ؟

٤٣

وإذا رجعنا إلى تاريخ تلك الحقبة التي ذكروا أن علياً سمّى أوهمّ أو أحبّ أن يكتني بتسمية ابنه الأول ( حرب ) لانجد إلاّ حرب بن أمية بن عبد شمس ، وهذا هو والد أبي سفيان صخر بن حرب ، وهو جدّ معاوية بن أبي سفيان.

ولعل القارئ داعبت مخيلته ظنون توحي إليه بأنّ الحديث من نسيج أحفاد حرب ، ليجعلوا من أبيهم انساناً محبباً ومرموقاً حتى همّ عليّ ، أو سمّى ، أو أحبّ أن يسمّي أحد أبنائه باسمه ، وكرر ذلك ثلاث مرّات إلاّ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غيّر ، إذن كان لحرب ذكر ونباهة ومقام معلوم مزعوم ، ولنترك التعقيب فعلاً على ذلك حتى نقرأ ما يلي من النقطة الثانية ، ولكن أود تنبيه القارئ إلى أنّ الذي يشير إلى المراد بحرب هو اسم العلم الشخصي ، هو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما شأن حرب ) ؟ كما مرّ في الحديث الثاني في المصدر الثاني.

* * *

٤٤
٤٥

النقطة الثانية

هل كان اسم حرب من الأسماء المحبوبة أم المبغوضة ؟

هذا سؤال يصح أن يقال إذا كان القارئ على علم بأنّ هناك أسماء محبوبة وأخرى مبغوضة ، ورد التنبيه عليها من الشرع ، وليس المقصود هنا بالمحبوبية والمبغوضية ما يراه الإنسان في نفسه.

وإذا رجعنا إلى الأحاديث التي وردت عن صاحب الشرع في تلك المسألة ، نجد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغيّر الاسم القبيح ـ كما في حديث عائشة ( في الفتح الكبير للنبهاني ) نقلاً عن الترمذي وهو في جامعه(١) .

وقد روى الحميري في قرب الإسناد(٢) بسنده عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان.

وقد غيّر بعض الأسماء ، كما في حديث سعيد بن المسيب بن حزن أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجده حزن : ما اسمك ؟ قال : حزن ، قال : أنت سهل ، قال له : السهل يوطأ أو يمتهن ، قال سعيد : فما زالت الحزونة فينا بعد. والحديث أخرجه أبو داود في السنن(٣) كما أخرجه غيره.

__________________

(١) الفتح الكبير للنبهاني ٢ : ٣٨٥ ، عن سنن الترمذي ٢ : ١٠٧.

(٢) قرب الإسناد للحميري : ٤٥.

(٣) سنن أبي داود ٤ : ٢٨٩.

٤٦

وإلى القارئ نموذجاً من الأسماء التي غيّرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال أبو داود : وغيّر النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) اسم العاص ، وعزيز ، وعقلة ، وشيطان ، والحكم ، وغراب ، وحباب ، وشهاب فسماه هشاماً ، وسمى حرباً سلماً ، وسمى المضطجع المنبعث ، وأرضاً تسمى عَفِرَة سماها خَضِرة ـ بمعجمة ـ وشعب الضلالة سماه شعب الهدى ، وبنو الزنية سمّاهم بني الرشدة ، وسمى بني مغوية بني رشدة.

قال أبو داود : وتركت أسانيدها للاختصار(١) .

وأخرج الترمذي في صحيحه(٢) والبغوي في مصابيح السنّة(٣) أنه غيّر اسم عاصية بنت عمر فسماها جميلة.

وقد ذكر البخاري في صحيحه في كتاب الأدب بعض تلك الأسماء ، وزاد في كتاب الأدب المفرد كثيراً من الأحاديث في ذلك فلتراجع.

وإذا علمنا أنّ هناك أسماء مبغوضة غيّرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان منها اسم حرب فغيّره وسمّاه سلماً ـ كما مرّ عن أبي داود ـ فما بال الإمام عليّعليه‌السلام يحبّ أن يكتني بحرب ؟ أو لم يكن يعلم بما رواه أبو وهب الجشمي في خصوص حرب ؟ وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد(٤) وغيره بأسانيدهم عن أبي وهب ـ وكانت له صحبة ـ عن النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) أنّه قال : ( تسمّوا بأسماء الأنبياء ، وأحبّ الأسماء إلى الله( عزّ وجلّ ) عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمام ، وأقبح الأسماء حرب ومرّة )(٥) .

__________________

(١) سنن أبي داود ٤ : ٢٨٩.

(٢) صحيح الترمذي ٢ : ١٣٧.

(٣) مصابيح السنّة للبغوي ٢ : ١٤٨.

(٤) الأدب المفرد للبخاري : ٢١١ ، وأبو داود في السنن ٢ : ٣٠٧ ؛ والبيهقي في السنن الكبرى ٩ : ٣٠٦ ؛ وأحمد في المسند ٤ : ٣٤٥ ، وابن القيم في زاد المعاد : ٢٥٨ ـ ٢٦٠ ؛ والنبهاني في الفتح الكبير ٢ : ٣٨٥ ؛ وابن عبد البر في الاستيعاب ٢ : ٧٨.

(٥) لقد ورد الحديث عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام كما في الجعفريات ملحقاً بكتاب قرب الإسناد ؛

٤٧

أفهل يُعقل أنّ أباوهب الجشمي ، وهو رجل كانت له صحبة كما يصفونه ، يروي هذا الحديث وعلي لا يرويه ولا يدريه ؟ وهو هو في سابقته وصحبته ومكانته وحظوته ؟ وهو القائل :« ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي كلّ يوم علماً من أخلاقه ، ويأمرني بالاقتداء به » (١) .

أوليس يدل اصرار الإمام على التسمية بحرب ـ سواء قلنا بأنّه اسم معنى أي ضد السلم ، أو قلنا بأنّه اسم علم كما يحلو لواضعيه ـ أنّ علياً يصرّ على مخالفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأستغفر الله من ذلك.

قال ابن قيّم الجوزية في زاد المعاد(٢) :

( فصل ) ولمّا كان مسمى الحرب والمرة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها ، كان أقبح الأسماء حرباً ومرة ، وعلى قياس هذا حنظلة وحزن وما أشبههما ، وما أجدر هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها كأثر اسم حزن الحزونة في سعيد وأهل بيته.

وقال أيضاً في فصل آخر بعده : ولمّا كان الأنبياء سادات بني آدم كانت أسماؤهم أشرف الأسماء ، فندب النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) أمّته إلى التسمّي بأسمائهم ، كما في سنن أبي داود والنسائي عنه : « تسمّوا بأسماء الأنبياء ».

ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلاّ أنّ الاسم يذكّر بمسماه ، ويقتضي التعلق بمعناه لكفى به مصلحة ، مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذكرها ، وأن لا تنسى وأن يذكر أسماؤهم بأوصافهم وأحوالهم.

__________________

بلفظ ( نعم الأسماء عبد الله وعبد الرحمن والأسماء المعبّدة ، وشرها همام والحارث ) وأخرجه السيد الراوندي في نوادره : ٩ ، وفيه : ( نعم الأسماء عبد الله وعبد الرحمن والأسماء المعبدة ، وشرها همام والحارث ) ونقله عن النوادر في البحار ١٠٤ : ١٣٠ ، ومستدرك الوسائل ٣ : ٦١٨ ، ولقد ورد في حديث جابر مرفوعاً أنّه ( صلّى الله عليه وسلّم ) قال : ( وشر الأسماء ضرار ومرّة وحرب وظالم ) راجع الخصال للصدوق : ٢٢٨.

(١) نهج البلاغة ، شرح محمّد عبدة ٢ : ١٨٢.

(٢) زاد المعاد لابن قيّم الجوزية ٢ : ٦.

٤٨

أقول : فإذا كان الحال هكذا في الأسماء ، فمنها محبوب ومنها مبغوض ، وكان حرب من الأسماء المبغوضة ، فهل يعقل أنّ الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، كان يحب الاكتناء بأبي حرب ـ الاسم المبغوض ـ ليكون على ذكر منه ؟ إنّها فرية عليه ، ولكم افترى عليه أعداؤه.

والآن لابدّ لنا من وقفة وتأمل عند هذا الإصرار المزعوم ، لنطلع من خلال ذلك على طبيعة الحدث الذي عاشه الإمام يوم أحب أن يكتني بأبي حرب كما يزعمون.

* * *

٤٩

النقطة الثالثة

ماذا يعني إصرار الإمام في تسمية أبنائه بحرب ؟

النقطة الثالثة : ماذا كان يعني إصرار الإمام ـ إن صدقت الأحلام ـ في تسمية أبنائه بحرب ؟

إنّ في زعم إصرار الإمام عليّعليه‌السلام تكرار التجربة الفاشلة ـ إن صدقت أحلام صُنّاعي الحديث ـ حمل كثير من الآصار على عليّ ؟!

فعليٌ يحب أن يُسمي أوّل أبنائه حرباً ـ الاسم المبغوض ـ وكأنّه إنسان لا يعلم أنّ ذلك من أقبح الأسماء ؟ وعلي يكرّر تلك الرغبة الملحّة مع تغيير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك الاسم أول مرّة ، وعلي لا ينتفع بتلك التجربة ، ولا يأخذ منها عبرة ، وكأنّه إنسان لا تعظه التجارب ! فيعاود مُصرّاً على اسم حرب والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يغيّره ، وعلي يكرر تجربته الثالثة ـ كما يقولون ـ ثم يغيّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاسم.

ثم عليّعليه‌السلام لا يدرك مغزى قول النبي :صلى‌الله‌عليه‌وآله ( ما شأن حرب هو حسن ) ومرّة ثانية يقول كلمته : ( ما شأن حرب هو حسين ) وثالثة يقول أيضاً : ( ما شأن حرب هو محسن ) ؟

ففي كلّ هذه المرّات وعليعليه‌السلام بعد على اصراره ؟ يا لله أهكذا كان أبو الحسن عليّ بن أبي طالب يضحي بكل ما لديه من رصيد الجهاد والجهود في خدمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه الحنيف ، وهو أول من آمن به! كيف يضحي بجميع ذلك على مذبح الشهوات والرغبات ؟ أهي الأنانية ؟ ليحقق مكسباً عظيماً حين يسمي أحد أبنائه حرباً ولا يصغي لتغيير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سمعاً ؟ أهذا هو عليّ الذي همّ أو

٥٠

أحب أو سمّى أبناءه حرباً فغيّرها النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) ؟ نعم ، فهو كذلك بهذه الصورة التي رسمها له أعداؤه من خلال هذا الحديث ، ولكن أهكذا كان عليّعليه‌السلام حقيقة ؟

لاها الله إنّها الشناشن الأخزمية ، والضغائن الجاهلية ، ووراء ذلك كله بعدُ سر مصون ، ليس في الغيب المكنون ، ولكن من باب ذر الرماد في العيون ، وإذا تمّ لهم ما يريدون ، ففي ذلك مكسب عظيم يجني المفترون الأفّاكون ، في طمس الحقائق وتشويه التاريخ ، وسنكشف عنه بعد أن نقرأ البيان عن النوازع المغرية في اسم حرب ، وذلك في النقطة الرابعة.

ولم يكن هذا هو الافتراء الوحيد على عليّعليه‌السلام ، فقد افترى عليه في زمانه وبعد زمانه ، كما افتري على أخيه الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل ، وما ذلك الافتراء إلاّ نتائج الحكم الأموي البغيض ، الذي شوّه ما استطاع لذلك سبيلاً ، فكانت سماسرة الوضع يلهثون وراء أصفره الرنّان ، فيضعون له ما يشاء ويطلب منهم الحكام ، ولا نريد الخوض في تفاصيل ذلك لئلاّ يطول الكلام.

ولنرجع البصر إلى خصوص الافتراء على عليّعليه‌السلام في خصوص الأسماء ، فقد أخرج الكليني في الكافي والطوسي في التهذيب(١) باسنادهما عن معمر بن خثيم قال : قال لي أبو جعفرعليه‌السلام :« ما تكتني » ؟ قال : ما اكتنيت بعدُ ، ومالي من ولد ولا امرأة ولا جارية ، قال :« فما يمنعك من ذلك » ؟ قال : قلت : حديث بلغنا عن عليّعليه‌السلام قال : من اكتنى وليس له أهل فهو أبو جعر ، فقال أبو جعفرعليه‌السلام :« شوه ، ليس هذا من حديث عليّ ، إنّا لنكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم » .

فانظر بربك إلى هذا الحديث الذي كشف عن دوافع الافتراء المؤلم في أيّام الإمام الباقرعليه‌السلام الذي توفي سنة ١١٤ ، فما ظنك بما حدث من بعد ذلك ؟

* * *

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٧ ، التهذيب للطوسي ٧ : ٤٣٨ و ٢ : ٢٤٦.

٥١

النقطة الرابعة

الدوافع المغرية في شخصية حرب ؟

النقطة الرابعة : في بحث الدوافع المغرية في شخصية حرب بدءاً من آبائه ومروراً به وانتهاءاً بأبنائه.

ليس العجب من رواة السوء حين يروون مثل ذلك الحديث المزعوم ، وليس العجب من زوامل الأسفار الّذين يثبتون الحديث في أسفارهم ، وليس العجب من تهالك بعض الحفاظ في تصحيح الاسناد ، ليثبت للأشهاد أنّه حصل على صك الغفران بصحة السند ، وكأنّ ذلك يكفي ويغني عن النظر في المتن ، وإن كان منكراً من القول وزوراً.

ليس العجب من كل أولئك ، ما داموا جميعاً في صف المعسكر المناوئ لعليعليه‌السلام ، أو ممّن شايع مناوئيه.

ولكن العجب كل العجب أن نقرأ الحديث في بعض كتب شيعة عليّعليه‌السلام ، ينقلونه عن الخصوم ويمرّون عليه مرور الكرام ، وكأنّهم لم يفقهوا ما فيه ، وتلك ـ لعمر الحق ـ مصيبة سلامة الطوية التي تجني البلية ، مع فقدان الرويّة ، وفتح الشهيّة لجمع كل ما هبّ ودبّ مما روى الأولياء والأعداء من دون تمحيص ، غافلين عن دس السم في العسل.

وأعجب من ذلك كلّه أن يكون ضحية الكذب والافتراء عليه شخصية الإسلام الأولى بعد نبيه الكريم ، والذي صحّ فيه قول زائره : ( أشهد أنّك أوّل مظلوم وأوّل من غصب حقه ).

٥٢

وقد يهون ذلك العجب إذا تذكرنا أنّ الافتراء عليه كان منذ عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أن الأفّاكين رفعوا عليه شكاوى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يشكهم ونهرهم وقال لهم :« ما تريدون من عليّ ، عليّ منّي وأنا من عليّ » (١) .

ولكن العجب أشد العجب من أن يفترى على عليّ فيضحى به باسم الإسلام ، وهو أوّل من آمن به ، فيجعل منه إنسان كأنّه لا يفقه من الإسلام حكماً ولا أدباً ، وهو الذي لولاه ما قام للإسلام عمود ، ولا اخضرّ له عود ، وحين تقرع طبول أعدائه ، وتتراقص على أنغامهم أقلام بعض السذّج من أوليائه ، دون أن يشعروا ، بأنّ ذلك الطبل إنّما كان للحرب ، وليس هو طبل الميلاد أو طبل الأفراح ، ولم يشعروا ـ ويا للأسف ـ أنّ بني حرب ـ حزب الشيطان ـ قد حاربوا علياً بكل حول وطول ، وبشتى الوسائل التي واتتهم السبل إليها.

فلئن حاربوه بالسيف ولم يشف ذلك غليلهم ، ولئن حاربوه باللعن على منابر المسلمين تنقيصاً له ولم يبرد بذلك أوار حقدهم ، ولئن قعدوا له بكل مرصد فافتروا عليه خطبة ابنة أبي جهل ، ونسجوا لها ما ساعدتهم أنوالهم ، ولئن ولئن وفي كل ذلك لم يصنعوا شيئاً ، بل كانت النتائج عكس ما أرادوا.

فهم كلّما أرادوا النيل منه وإذا هم كأنّما يأخذون بضبعيه ، ويرفعونه إلى سماء المجد والعظمة ، والآن ماذا يمنعهم أن يصوروه إنساناً يحبهم ؟ وإن كانوا هم لا يحبّونه ؟ وما الذي يمنعهم أن يبنوا لهم صرحاً ممرداً من قوارير الأحلام على قاعدة عليّعليه‌السلام الصُلبة في الإسلام ، فيجعلوا من آبائهم وأجدادهم شخوصاً محببة ، يتمنّى إنسان مثل عليّ في مكانته المفضّلة أن يكتني باسم جدهم ، وهذا هو ما يوحيه الحديث المزعوم ، حديث يروي : كان عليّ يحب أن يكتني بأبي حرب.

__________________

(١) راجع كتاب ( عليّ إمام البررة ) ٢ : ٨٠ ـ ٩٥.

٥٣

والآن لنقرأ عن حرب وآبائه وأبنائه في مواقفهم من آباء وأجداد عليّ ، لنرى هل يُعقل أن يكون عليّ أحبّ أن يكتني بأبي حرب ؟ فنقول :

في ذكر حرب بن أميّة :

إنّه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وفي عبد مناف يجتمع نسب عليّعليه‌السلام والهاشميين مع أبناء عبد شمس.

قال المقريزي : وقد كانت المنافرة لا تزال بين بني هاشم وبين عبد شمس(١) .

وقال : وكانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف بن قصي ، وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وسببها أن هاشماً كانت إليه الرفادة مع السقاية ، وذلك أنّ أخاه عبد شمس كان يسافر وكان يقيم بمكة ، وكان رجلاً مقلاً وله ولد كثير ، فاصطلحت قريش على أن يلي هاشم السقاية والرفادة ، وكان هاشم رجلاً موسراً ، وكان إذا حضر موسم الحج قام في قريش فقال :

يا معشر قريش إنّكم جيران الله وأهل بيته ، وإنّكم يأتيكم في هذا الموسم زوّار الله يعظمون حرمة بيته ، وهم ضيوف الله ، وأحق المضيّف بالكرامة ضيفه ، وقد خصّكم الله بذلك وأكرمكم به ، حفظه منكم أفضل ما حفظ جار من جاره ، فأكرموا ضيفه وزوّاره ، فإنّهم يأتون شعثاً غُبراً من كلّ بلد على ضوامر كالقداح ، وقد أزحفوا وتفلوا وقملوا ، فأقروهم وأنموهم وأعينوهم.

وكانت قريش ترافد على ذلك ، حتى أن كان أهل البيت يرسلون اليسير على قدرهم ، فيضمّه هاشم إلى ما أخرج من ماله وما جمع مما يأتيه به الناس فإن عجز كمّله ، وكان هاشم يخرج في كلّ سنة مالاً كثيراً ، وكان قوم من قريش يترافدون فكانوا أهل يسار ، فكان كلّ إنسان منهم ربما أرسل بمائة مثقال هرقلية.

وكان هاشم يأمر بحياض من أدُم فتجعل في موضع زمزم ـ من قبل أن تحفر زمزم ـ ثم يستقي فيها من البئار التي بمكة فيشرب الحاج ، وكان أوّل ما

__________________

(١) النزاع والتخاصم : ١٨.

٥٤

يطعمهم قبل التروية بيوم بمكة ، ويطعمهم بمنى وبعرفة وبجمع ، فكان يثرد لهم الخبز ، واللحم والخبز والسمن ، والسويق والتمر ، ويحمل لهم الماء حتى يتفرق الناس لبلادهم ، وكان هاشم يسمّى عمرواً ، وإنّما قيل له هاشم لهشمه الثريد بمكة ، وفيه يقول مادحه :

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وكان أمية بن عبد شمس ذا مال ، فتكلّف أن يفعل كما فعل هاشم من إطعام قريش فعجز عن ذلك ، فشمت به ناس من قريش وعابوه ، فغضب ونافر هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة ، وعلى جلاء عشر سنين ، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي ـ جد عمرو بن الحمق ـ وكان منزله عسفان ، وخرج مع أمية أبو همهمة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك الفهري.

فقال الكاهن : والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو من طائر ، وما اهتدي بعَلَم مسافر ، من مُنجد وغائر ، لقد سبق هاشمُ أمية إلى المآثر ، أوّل منه وآخر ، وأبو همهمة بذلك خابر.

وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر ، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين(١) .

قال العقّاد : فكان هذا أوّل عداوة وقعت في بني هاشم وبني أمية.

أقول : وتجد حديث هذه المنافرة في جملة من المصادر التاريخية منها المنمّق لمحمد بن حبيب(٢) ، ثم قال ابن حبيب :

ومن ثم يقال : انّ أمية استلحق أبا عمرو ابنه ، وهو ذكوان وهو رجل من أهل صفورية ، فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده ، فأولدها أمية وهو أبو معيط ، ويقال : استلحق ذكوان أيضاً أبان.

__________________

(١) شخصيات اسلامية ضمن موسوعة العقّاد : ٥٤٩.

(٢) المنمق : ١٠٣.

٥٥

أقول : وما ذكره ابن حبيب منسوباً إلى القيل ، فقد ذكره المقريزي في النزاع والتخاصم(١) كحقيقة ثابتة وبما هو أقبح من ذلك ، حيث قال : وصنع أمية في الجاهلية شيئاً لم يصنعه أحد من العرب ، زوّج ابنه أبا عمرو بن أمية امرأته في حياة منه ، والمقتيون في الاسلام هم الّذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن من بعد موتهم ، وأما أن تزوجها في حياته ويبنى عليها وهو يراه ، فإنّ هذا لم يكن قط(٢) ، وأمية جاوز هذا المعنى ولم يرض بهذا المقدار حتى نزل عن ماله وزوّجها منه ثم قال : وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية قد زاد في المقت درجتين ، يشير إلى ما مرّ عن ابن حبيب.

قال المقريزي في النزاع والتخاصم(٣) : ولم يكن أمية في نفسه هناك ، وإنما يرفعه أبوه وبنوه ، وكان مضعوفاً ، وكان صاحب عهار ، يدل على ذلك قول نفيل بن عبد العزى جد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين تنافر حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم ، فنفر عبد المطلب ، وتعجب من اقدامه عليه وقال :

أبوك معاهر وأبوه عفّ

وذاد الفيل عن بلد الحرام

وذلك أنّ أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة ، فضربه رجل منهم ضربة بالسيف ، وأراد بنو أمية ومن تابعهم إخراج بني زهرة من مكة ، فقام دونهم قيس بن عدي السهمي وكانوا أخواله ، وكان منيع الجانب ، شديد العارضة ، حميّ الأنف ، أبيّ النفس ، فقام دونهم وقال : ( أصبح ليل ) فذهبت مثلاً ، ونادى : ( ألا إنّ الظاعن

__________________

(١) النزاع والتخاصم : ٢٢.

(٢) ذكر ذلك الجاحظ في رسالته الثانية من رسائله ، وهي من كتاب فضل هاشم على عبد شمس راجع ص ٧٥ ، جمع وتحقيق حسن الهندوبي ، ط : مصر سنة ١٣٥٢ ه‍.

(٣) النزاع والتخاصم : ٢١.

٥٦

مقيم ) ففي هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهرة :

مهلاً أميّ فإنّ البغي مهلكة

لا يكسبنّك يومٌ شرّه ذكر

تبدو كواكبه والشمس طالعة

يصبّ في الكأس منه الصاب والمقر

أقول : فهذا أمية والد حرب ، وكان كأبيه فقد حسد عبد المطلب بن هاشم على مآثره ، فنافره إلى نفيل بن عبد العزّى جد عمر بن الخطاب ، فقال حين تنافرا إليه وقد عجب من اقدام حرب على منافرة عبد المطلب ، فقال كما في النزاع والتخاصم(١) كما مرّ :

أبوك معاهر وأبوه عفّ

وذاد الفيل عن بلد الحرام

ثم قال له : يا أبا عمرو أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة ، وأعظم منك هامة ، وأوسم منك وسامة ، وأقلّ منك لامة ، وأكثر منك ولداً ، وأجزل منك صفداً ـ عطاءً _. وحديث هذه المنافرة في المحبّر والمنمّق وغيرهما فليرجع إليهما طالبها(٢) .

هذا هو حرب الذي زعموا أنّ علياً أحب اسمه فأراد أن يكتني به ، فهل نسي عليّعليه‌السلام أنّه الذي نافر جديه هاشم وعبد المطلب فحكم لهما المحكمون ، وأخزوه حتى أجلي عن مكة إلى الشام ، فأقام بها عشر سنين ؟

ثم هل أنّ علياً نسي أنّ حرب هو والد أبي سفيان رأس الكفر والشقاق ، والذي كان زنديقاً(٣) كما يقول عنه المؤرّخون ، ويكفي في خزايته ، مواقفه بدءاً من بدء الدعوة ومروراً بحروب بدر وأحد والأحزاب ، وأخيراً بفتح مكة ؟

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) المحبّر : ١٧٣ ، المنمّق : ٩٤.

(٣) عليّ سامي النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ١ : ٢٣١ ، وقال في كتابه أيضاً ٢ : ٦٦ : وكان من أخطر الزنادقة أبو سفيان الأموي وعدو الإسلام العتيد.

٥٧

ثم هل نسي عليّ أنّ حرب هو والد أم جميل ـ وهي حمالة الحطب ـ التي كانت تؤذي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نزلت سورة في ذمها وذم زوجها ، فقال تعالى :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ *تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَّسَدٍ ) (١) فهل يُعقل أنّ علياً لا يعرف مَن هو حرب ؟ ومن هم آباء حرب ؟ ومن هم أبناء حرب حتى يغرم باسم حرب ؟

والآن بعد هذا الخطو السريع في رحاب التاريخ ، فهل رأينا من دافعٍ أو شافع مغرٍ يحمل علياً على التهالك في تسمية أبنائه ( بحرب ) ؟

هل كانت بين البيتين في ميزان التفاضل موازنة صحيحة ، في منكب أو موكب يتساوى فيها رجال البيتين ؟ هل كانت لدى المقارنة بين رجال الحييّن مساواة في حول أو طول ؟ ثم أليس هو القائل في هذا المضمار رداً على معاوية حفيد حرب :

وأما قولك : إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن ، ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحق كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل ، ولبئس الخلف خلفاً يتبع سلفاً هوى في نار جهنم(٢) .

ألم يسمع علي قول أبيه في بني حرب حيث يقول :

قديماً أبوهم كان عبداً لجدنا

بني أمة شهلاء جاش بها البحر

لقد سفهوا أحلامهم في محمّد

فكانوا كجعر بئس ما ظفطت جعر(٣)

__________________

(١) المسد : ١ ـ ٥.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٢١٩.

(٣) نفس المصدر ٤ : ٤٦٧.

٥٨

كيف لم يسمع ؟ وكيف لم يعلم ؟ والأمر بين الحييّن من الوضوح حتى كان يعرفه بنو هاشم كما يعرفه أبناء حرب أنفسهم.

فهذا ابن جعفر يقول ليزيد بن معاوية مفاخراً له بحضور أبيه معاوية : بأيّ آبائك تفاخرني ؟! أبحرب الذي أجرناه ؟ أم بأمية الذي ملكناه ؟ أم بعبد شمس الذي كفلناه ؟ فقال معاوية : لحرب بن أمية يقال هذا ؟ ما كنت أحسب أن أحداً في عصر حرب يزعم أنّه أشرف من حرب ، فقال عبد الله بن جعفر : بلى أشرف منه من كفأ إناءه عليه وجلّله بردائه ، فنهى معاوية ولده عن مفاخرة بني هاشم ، وأنّهم لا يجهلون ما علموا ، ولا يجد مبغضهم لهم سباً(١) .

فاتضح من خلال ما تقدم أن ليس في شخصية حرب من دوافع مغرية تدعو الإمام علياًعليه‌السلام لأن يحب أن يكتنى باسمه ، فيبقى الحديث المزعوم الذي لم يثبت لصنّاعه ما أرادوه ، حبراً على ورق فلا يسمن ولا يغني إذا ما قرأنا ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير(٢) بسنده عن سورة بنت مشرح قالت : كنت فيمن حضر فاطمة( رضي الله عنها ) حين ضربها المخاض في نسوة ، فأتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ( كيف هي ؟ ) قالت : إنها لمجهودة يا رسول الله ، قال : ( فإذا هي وضعت فلا تسبقين فيه بشيء ) قالت : فوضعت فسروّه ولغفوه في خرقة صفراء ، فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ( ما فعلت ؟ ) قالت : قد ولدت غلاماً وسررته ولففته في خرقة ، قال : ( عصيتني ) قالت : أعوذ بالله من من معصية الله ومن غضب رسوله ، قال : ( ائتيني به ) فأتيته به ، فألقى الخرقة الصفراء ، ولفّه في خرقة بيضاء ، وتفل في فيه ، وألبأه بريقه ، فجاء عليرضي‌الله‌عنه فقال : ( ما سميته يا علي ؟ ) قال : سمّيته جعفراً يا رسول الله ، قال : ( لا ولكن حسن وبعده حسين ، وأنت أبو حسن الخير )(٣) .

__________________

(١) نفس المصدر ٤ : ٤٣٥.

(٢) المعجم الكبير ٣ : ٢٣.

(٣) قال محقق الكتاب في الهامش : قال في المجمع ٩ : ١٧٥ ، رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما

٥٩

فالآن حصحص الحق ، وتبيّن الصدق ، بأنّ علياً أراد تسمية ابنه الأول باسم أخيه جعفر شهيد مؤتة ، إلا أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سمّاه حسناً كما سمى الوليد الثاني حسيناً قبل أن يولد ، مما دلّ على أن الوحي الإلهي تصرّف في المقام ، فأين يكون موضع الحديث المزعوم بعد ما نقرأ حديث سورة بنت مسرح القابلة ؟

وبعد بيان زيف الحديث المزعوم من هذا الجانب ، فهل ثمة جانب آخر يريد الوضاعون الاستفادة منه ؟

نعم ، وذلك هو الجانب الأهم ، وهو الذي أخفوه أو حاولوا إخفاءه وذلك هو : إثبات ولادة المحسن السبط الثالث للرسول( صلّى الله عليه وسلّم ) في عهده ، وهذا الوليد الذكر هو الثالث من أبناء الإمام أمير المؤمنين من الصديقة فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

وهذا ما سنقرأ عنه شيئاً في النقطة السادسة.

* * *

__________________

عمر بن فيروز وعمر بن عمير ولم أعرفهما ، وبقية رجاله وثّقوا. وسيأتي ( ٧٨٦ / ٢٤ ).

أقول : ولدى مراجعة الموضع المشار إليه ، وجدت الحديث كما هو إلا أن فيه اسم القابلة سودة بنت مسرح ، ولم ينبه المحقق على ذلك ، والصواب ما في الموضع الثاني ، وقد ذكرها ابن عبد البر في الاستيعاب بهامش الإصابة ٤ : ٣١٨ ، وأشار إلى الحديث المذكور باختصار.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ويمكن ان تكون الجملة( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) لها علاقة بالبرق الذي يصنع هذه الغيوم المليئة بالمياه.

الآية الاخرى تشير الى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (1) .

نعم ، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يضرب به المثل ، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد ولهما منافع متعدّدة كما أشرنا إليها ، ويقومان بعملية التسبيح ، وبعبارة اخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين. فهو كتاب معنوي ، وقصيدة غرّاء ، ولوحة جميلة وجذّابة ، نظام محكم ومنظّم ومحسوب بدقّة ، وبلسان حاله يتحدّث عن علم ومهارة وذوق الكاتب والرسام والمعمار ويحمده ويثني عليه ، كلّ ذرّات هذا العالم لها اسرار ونظام دقيق. وتحكي عن تنزيه الله وخلوّه من النقص والعيوب (وهل التسبيح غير ذلك؟!).

وتتحدّث عن قدرته وحكمته (وهل الحمد غير بيان صفات الكمال؟!).

وقد احتمل بعض الفلاسفة انّ لكلّ ذرّات هذا العالم نوعا من العقل والشعور ، فهي من خلال هذا العقل تسبّح الله وتقدّسه ، ليس بلسان الحال فقط ، بل بلسان المقال ايضا.

وليس الرعد وسائر اجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى ، بل حتّى الملائكة( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (2) فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم ، وبالتالي فهم يخشون العقاب الالهي ، ونحن نعلم انّ الخوف يصيب أولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم خوف بنّاء يحثّ الشخص على

__________________

(1) للتوضيح اكثر في معنيي التسبيح والتقديس للكائنات سيأتي في ذيل الآية( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الاسراء ، 44.

(2) يقول الشيخ الطوسيرحمه‌الله في تفسيره التبيان : الخيفة بيان لحالة الشخص امّا الخوف فمصدر.

٣٦١

السعي والحركة.

وللتوضيح اكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية الى الصاعقة( وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) ومع كلّ ذلك ـ وبمشاهدة آيات العظمة الالهية في عالم التكوين من السّماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها ، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث ، حتّى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق ـ نرى انّ هناك جماعة جاهلة تجادل في الله( وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) .

«المحال» في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر ، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية ، ولهذا السبب يستطيع ان ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.

وذكر المفسّرون وجوها عديدة في تفسير( شَدِيدُ الْمِحالِ ) فتارة بمعنى «شديد القوّة» ، او «شديد العذاب» ، او «شديد القدرة» او «شديد الأخذ»(1) .

الآية الاخيرة تشير الى مطلبين :

الاوّل : قوله تعالى :( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ ) فهو يستجيب لدعواتنا ، وهو عالم بدعاء العباد وقادر على قضاء حوائجهم ، ولهذا السبب يكون دعاؤنا ايّاه وطلبنا منه حقّا ، وليس باطلا.

ولكن دعاء الأصنام باطل( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) نعم هكذا في دعوة الباطل ليست اكثر من وهم ، لانّ ما يقولونه من علم وقدرة الأصنام ما هو الّا أوهام وخيال ، او ليس الحقّ هو عين الواقع واصل الخير والبركة؟ والباطل هو الوهم واصل الشرّ والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيّا ورائعا يقول :( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ

__________________

(1) فسر البعض «المحال» من «المحل ، الماحل» بمعنى المكر والجدال والتصميم على العقوبة ، ولكن ما أشرنا اليه أعلاه هو الصحيح ، والتفسيران قريبا المعنى.

٣٦٢

فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ) . فهل يستطيع احد ان يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر الّا من انسان مجنون!

وتحتمل الآية تفسيرا آخر ، فهي تشبّه المشركين كمن بسط كفّه في الماء ليتجمع فوقها الماء ، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئا منه لانّ الماء يتسرّب من بين أصابع الكفّ المفتوحة.

وهناك تفسير ثالث وهو انّ المشركين ـ لحلّ مشاكلهم ـ كانوا يلجأون الى الأصنام ، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده ، هل يحفظ الماء في يد؟! وهناك مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له : هو كقابض الماء باليد ، ويقول الشاعر :

فأصبحت فيما كان بيني وبينها

من الودّ مثل القابض الماء باليد

ولكنّنا نعتقد انّ التّفسير الاوّل أوضح!

وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى :( وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) وايّ ضلال اكبر من ان يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ولكنّه لا يصل الى مقاصده. ولا يحصل على شيء نتيجة تعبه وجهده.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة ، ولكي تبرهن كيف انّ المشركين ضلّوا الطريق تقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) .

* * *

بحوث

1 ـ ما هو المقصود من سجود الكائنات؟

السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم ، فإنّ جميع الملائكة

٣٦٣

والناس ذوي العقول والأفكار متواضعين لله وخاضعين لأوامره ، وهناك نوعان من السجود ، سجود تكويني وهو انّ الكلّ خاضعون ومسلّمون للقوانين الطبيعيّة مثل الحياة والممات والمرض و و ، والبعض منهم له سجود تشريعي بالاضافة الى السجود التكويني ، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون لله.

2 ـ ما هو معنى( طَوْعاً وَكَرْهاً ) ؟

عبارة( طَوْعاً وَكَرْهاً ) يمكن ان تكون اشارة الى انّ المؤمنين خاضعون لله بميلهم وإرادتهم ، وامّا غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعيّة التي تسير بأمر الله ان شاؤوا وان أبوا.

و (الكره) بضمّ الكاف تعني الكراهية في داخل الإنسان ، و (كره) بفتح الكاف ما حمل عليه الإنسان من خارج نفسه ، وبما انّ الأشخاص غير المؤمنين مقهورون للعوامل الخارجية وللقوانين الطبيعيّة ، استعمل القرآن (كره) بفتح الكاف.

ويحتمل في تفسير( طَوْعاً وَكَرْهاً ) انّ المقصود من «طوعا» هو التوافق والميل الفطري والطبيعي بين الإنسان والأسباب الطبيعيّة (مثل حبّ اي انسان للحياة) والمقصود من «كرها» هو ما فرض على الإنسان من الخارج مثل موت أحد الأشخاص بسبب المرض او اي عامل طبيعي آخر.

3 ـ ما هو معنى كلمة الظلال؟

«الظّلال» جمع «ظل» واستعمال هذه الكلمة في الآية يشير الى انّ المقصود في السجود ليس فقط السجود التشريعي ، فظلال الكائنات ليست خاضعة لارادتهم واختيارهم ، بل هو تسليم لقانون الضوء ، وعلى هذا يكون سجودهم تكويني ، يعني التسليم لقوانين الطبيعيّة.

٣٦٤

وطبيعي ليس المقصود من «الظلال» انّ جميع ما في السّماوات والأرض لها وجود مادّي كي يكون لها ظلال ، ولكن الآية تشير الى تلك الأشياء التي لها ظلال ، فمثلا يقال : انّ جمعا من العلماء وأبنائهم شاركوا في المجلس الكذائي ، وليس المقصود هنا انّ لكلّ العلماء أبناء «فتدبّر».

وعلى ايّة حال فإنّ الظلّ امر عدمي ، وهو ليس اكثر من فقدان النّور ، ولكن له آثارا ووجودا بسبب النّور المحيط به ، ولعلّ الآية تشير الى هذه النقطة ، وهي انّه حتّى الظلال خاضعة لله.

4 ـ ما هو معنى كلوة( الْآصالِ ) ؟

«الآصال» جمع «اصل» وهي جمع «اصيل» ومعناه آخر وقت من النهار ، ولذلك يعتبر اوّل الليل ، والغدو جمع غداة بمعنى اوّل النهار.

ورغم انّ السجود والخضوع للأشياء الكونية في مقابل الأوامر الالهيّة دائمة ومستمرّة في كلّ وقت ، ولكن ذكرها هنا في موقعين (الصبح والعشاء) امّا انّه كناية عن دوام الوقت ، فمثلا تقول : انّ فلانا يطلب العلم صباحا ومساء ، فالمقصود وهو انّه في كلّ وقت يطلب العلم ، وامّا ان يكون المقصود من الآية ما جاء في الكلام عن الظلال والتي تكون واضحة اكثر في اوّل النهار وآخره.

* * *

٣٦٥

الآية

( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) )

التّفسير

لماذا عبادة الأصنام؟

كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله واثبات وجوده ، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدّة جهات ، حيث تخاطب ـ اوّلا ـ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقول :( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ثمّ تأمر النّبي ان يجيب على السؤال قبل ان ينتظر جوابهم( قُلِ اللهُ ) ثمّ انّه يلومهم ويوبّخهم بهذه الجملة( قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) .

لقد بيّن ـ اوّلا ـ عن طريق ربوبيته انّه المدبّر والمالك لهذا العالم ، ولكلّ خير

٣٦٦

ونفع من جانبه ، وقادر على دفع اي شرّ وضرّ ، وهذا يعني انّكم بقبولكم لربوبيته يجب ان تطلبوا كلّ شيء من عنده لا من الأصنام العاجزة عن حلّ ايّة مشكلة لكم. ثمّ يذهب الى ابعد من ذلك حيث يقول : انّ هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا فكيف يمكنها ان تنفعكم او تضرّكم؟ وهم والحال هذه لا يحلّون اي عقدة لكم حتّى لو قمتم بعبادتهم ، فهؤلاء لا يستطيعون تدبير أنفسهم فما ذا ينتظر منهم؟

ثمّ يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدّد فيها وضع الافراد الموحّدين والمشركين ، فيقول اوّلا :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ) فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر ، ولا يصحّ قياس الأصنام على الخالق جلّ وعلا.

ويقول ثانيا :( أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ) كيف يمكن ان نساوي بين الظلام الذي يعتبر قاعدة الانحراف والضلال ، وبين النّور المرشد والباعث للحياة ، وكيف يمكن ان نجعل الأصنام التي هي الظّلمات المحضة الى جنب الله الذي هو النّور المطلق ، وما المناسبة بين الايمان والتوحيد اللذان هما نور القلب والروح ، وبين الشرك اصل الظلام؟!

ثمّ يدلل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول :( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) والحال ليس كذلك ، فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها ، فهم يعلمون انّ الله خالق كلّ شيء ، وعالم الوجود مرتبط به ، ولذلك تقول الآية :( قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) .

* * *

٣٦٧

بحوث

1 ـ الخالقية والرّبوبية يتطلّبان العبادة

يمكن ان يستفاد من الآية أعلاه انّ الخالق هو الربّ المدبّر ، لانّ الخلقة امر مستمر ودائمي ، وليس من خلق الكائنات يتركهم وشأنهم ، بل انّه تعالى يفيض بالوجود عليهم باستمرار وكلّ شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدّسة ، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلّها بيد الله ، ولهذا السبب يكون هو النافع والضارّ. وغيره لا يملك شيء الّا منه ، فهل يوجد احد غير الله احقّ بالعبادة؟

2 ـ كيف يسأل ويجيب بنفسه؟

بالنظر الى الآية أعلاه يطرح هذا السؤال : كيف امر الله نبيّه ان يسأل المشركين : من خلق السماوات والأرض؟ وبعدها بدون ان ينتظر منهم الجواب يأمر النّبي ان يجيب هو على السؤال وبدون فاصلة يوبّخ المشركين على عبادتهم الأصنام ، اي طراز هذا في السؤال والجواب؟

ولكن مع الالتفات الى هذه النقطة يتّضح لنا الجواب وهو انّه في بعض الأحيان يكون الجواب للسؤال واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار. فمثلا نسأل أحدا : هل الوقت الآن ليل ام نهار؟ وبلا فاصلة نجيب نحن على السؤال فنقول : الوقت بالتأكيد ليل. وهذه كناية لطيفة ، حيث انّ الموضوع واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار للجواب ، بالاضافة الى انّ المشركين يعتقدون بخلق الله للعالم ولم يقولوا ابدا انّ الأصنام خالقة السّماء والأرض ، بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم وقدرتهم على نفع الإنسان ودفع الضرر عنه ، ولهذا السبب كانوا يعبدوهم. وبما انّ الخالقية غير منفصلة عن الرّبوبية يمكن ان نخاطب المشركين بهذا الحديث ونقول : أنتم الذين تقولون بأنّ الله خالق ، يجب ان تعرفوا انّ الربوبية لله كذلك ،

٣٦٨

ويختصّ بالعبادة ايضا لذلك.

3 ـ العين المبصرة ونور الشمس شرطان ضروريان

يشير ظاهر المثالين (الأعمى والبصير) و (الظّلمات والنّور) الى هذه الحقيقة ، وهي انّ النظر يحتاج الى شيئين : العين المبصرة ، وشعاع الشمس ، بحيث لو انتفى واحد منهما فإنّ الرؤية لا تتحقّق ، والآن يجب ان نفكّر : كيف حال الافراد المحرومين من البصر والنّور؟ المشركون المصداق الواقعي لهذا ، فقلوبهم عمي ومحيطهم مليء بالكفر وعبادة الأصنام ، ولهذا السبب فهم في تيه وضياع. وعلى العكس فالمؤمنون بنظرهم الى الحقّ ، واستلهامهم من نور الوحي وارشادات الأنبياء عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح.

4 ـ هل انّ خلق الله لكلّ شيء دليل على الجبر؟

استدلّ جمع من اتباع مدرسة الجبر انّ جملة( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) في الآية أعلاه لها من السعة بحيث تشمل حتّى عمل الافراد ، فالله خالق اعمالنا ونحن غير مختارين.

يمكن ان نجيب على هذا القول بطريقين :

اوّلا : الجمل الاخرى للآية تنفي هذا الكلام ، لانّها تلوم المشركين بشكل اكيد فإذا كانت اعمالنا غير اختيارية ، فلما ذا هذا التوبيخ؟! وإذا كانت ارادة الله ان نكون مشركين فلما ذا يلومنا؟! ولماذا يسعى بالأدلّة العقليّة لتغيير مسيرتهم من الضلالة الى الهداية؟ كلّ هذا دليل على أنّ الناس أحرار في انتخاب طريقهم.

ثانيا : انّ الخالقية بالذات من مختصّات الله تعالى. ولا يتنافى مع اختيارنا في الأفعال ، لانّ ما نمتلكه من القدرة والعقل والشعور ، وحتّى الاختيار والحرية ، كلّها

٣٦٩

من عند الله ، وعلى هذا فمن جهة هو الخالق (بالنسبة لكلّ شيء وحتّى أفعالنا) ومن جهة اخرى نحن نفعل باختيارنا ، فهما في طول واحد وليس في عرض وأفق واحد ، فهو الخالق لكلّ وسائل الأفعال ، ونحن نستفيد منها في طريق الخير او الشرّ.

فمثلا الذي يؤسّس معملا لتوليد الكهرباء او لإنتاج أنابيب المياه ، يصنعها ويضعها تحت تصرّفنا ، فلا يمكن ان نستفيد من هذه الأشياء الّا بمساعدته ، ولكن بالنتيجة يكون التصميم النهائي لنا ، فيمكن ان نستفيد من الكهرباء لامداد غرفة عمليات جراحية وانقاذ مريض مشرف على الموت ، او نستخدمها في مجالس اللهو والفساد ، ويمكن ان نروي بالماء عطش انسان ونسقي وردا جميلا ، او نستخدم الماء في إغراق دور الناس وتخريبها.

* * *

٣٧٠

الآية

( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (17) )

التّفسير

وصف دقيق لمنظر الحقّ والباطل :

يستند القرآن الكريم ـ الذي يعتبر كتاب هداية وتربية ـ في طريقته الى الوقائع العينيّة لتقريب المفاهيم الصعبة الى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسّية الرائعة من حياة الناس ، وهنا ـ ايضا ـ لأجل ان يجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك ، الايمان والكفر ، الحقّ والباطل ، يضرب مثلا واضحا جدّا لذلك

يقول اوّلا :( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) الماء عماد الحياة واصل النمو والحركة ،

٣٧١

( فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها ، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض ، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كلّ ما يقف امامها ، وفي هذه الأثناء يظهر الزّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم :( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ) .

«الرابي» من «الربو» بمعنى العالي او الطافي ، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل.

وليس ظهور الزبد منحصرا بهطول الأمطار ، بل( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ) (1) اي الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزينة منها او صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.

بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتّى للفلزات وللمتاع ، يستنتج القرآن الكريم( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ) ثمّ يتطرّق الى شرحه فيقول :( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) .

فأمّا الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا ، وامّا الماء الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض او ينفذ الى الاعماق وتتكوّن منه العيون والآبار تروي العطاش ، وتروي الأشجار لتثمر ، والازهار لتتفتّح ، وتمنح لكلّ شيء الحياة.

وفي آخر الآية ـ للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال ـ يقول تعالى :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ ) .

* * *

__________________

(1) تشير هذه الآية الى الافران التي تستعمل لصهر الفلزان ، فهذه الافران تتميّز بوجود النّار من تحتها ومن فوقها يعني نار تحت الفلز ونار فوقه ، وهذه من أفضل انواع الافران حيث تحيط بها النّار من كلّ جانب.

٣٧٢

بحوث

هذا المثال البليغ الذي عبّر عنه القرآن الكريم بألفاظ موزونة وعبارات منظّمة. وصوّر فيها الحقّ والباطل بأروع صورة ، فيه حقائق مخفيّة كثيرة ونشير هنا الى قسم منها :

1 ـ ما هي علائم معرفة الحقّ والباطل؟

يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحقّ والباطل ـ إذا أشكل عليه الأمر ـ الى علائم وأمثال حتّى يتعرّف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد بيّن القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه :

الف : ـ الحقّ مفيد ونافع دائما ، كالماء الصافي الذي هو اصل الحياة. امّا الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع ، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآنا أو يسقي أشجارا ، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن ان يستفاد منه للزينة او للاستعمالات الحياتية الاخرى ، وإذا استخدمت لغرض فيكون استخدامها رديئا ولا يؤخذ بنظر الاعتبار كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.

باء : ـ الباطل هو المستكبر والمرفّه كثير الصوت ، كثير الأقوال لكنّه فارغ من المحتوى ، امّا الحقّ فمتواضع قليل الصوت ، وكبير المعنى ، وثقيل الوزن(1) .

جيم ـ الحقّ يعتمد على ذاته دائما ، امّا الباطل فيستمدّ اعتباره من الحقّ ويسعى للتلبّس به ، كما انّ (الكذب يتلبّس بضياء الصدق) ولو فقد الكلام الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع الى شعاعه الخاطف واعتباره المؤقّت الذي سرقه من الحقّ ، امّا الحقّ فهو مستند الى نفسه واعتباره منه.

__________________

(1) يقول الامام عليعليه‌السلام في وصفه أصحابه يوم الجمل «وقد ارعدوا وابرقوا ومع هذين الأمرين الفشل ، ولسنا نرعد حتّى نوقع ولا نسيل حتّى نمطر».

٣٧٣

2 ـ ما هو الزّبد؟

«الزبد» بمعنى الرغوة التي تطفوا على السائل ، والماء الصافي اقلّ رغوة ، لانّ الزبد يتكوّن بسبب اختلاط الأجسام الخارجية مع الماء ، ومن هنا يتّضح انّ الحقّ لو بقي على صفائه ونقائه لم يظهر فيه الخبث ابدا ، ولكن لامتزاجه بالمحيط الخارجي الملوّث فإنّه يكتسب منه شيئا ، فتختلط الحقيقة مع الخرافة ، والحقّ بالباطل ، والصافي بالخابط. فيظهر الزبد الباطل الى جانب الحقّ.

وهذا هو الذي يؤكّده الامام عليعليه‌السلام حيث يقول : لو انّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه السن المعاندين».(1) .

يقول بعض المفسّرين انّ للآية أعلاه ثلاث امثلة : «نزول آيات القرآن» تشبيه بنزول قطرات المطر للخير ، «قلوب الناس» شبيهة بالأرض والوديان وبقدر وسعها يستفاد منها ، «وساوس الشيطان» شبيهة بالزبد الطافي على الماء ، فهذا الزبد ليس من الماء ، بل نشأ من اختلاط الماء بمواد الأرض الاخرى ، ولهذا السبب فوساوس النفس والشيطان ليست من التعاليم الالهية ، بل من تلوّث قلب الإنسان ، وعلى ايّة حال فهذه الوساوس تزول عن قلوب المؤمنين ويبقى صفاء الوحي الموجب للهداية والإرشاد.

3 ـ الاستفادة تكون بقدر الاستعداد واللياقة!

يستفاد من هذه الآية ـ ايضا ـ انّ مبدا الفيض الالهي لا يقوم على البخل والحدود الممنوعة ، كما انّ السحاب يسقط امطاره في كلّ مكان بدون قيد او

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 50.

٣٧٤

شرط ، وتستفيد الأرض والوديان منها على قدر وسعها ، فالأرض الصغيرة تستفيد اقلّ والأرض الواسعة تستفيد اكثر ، وهكذا قلوب الناس في مقابل الفيض الالهي.

4 ـ الباطل والأوضاع المضطربة

عند ما يصل الماء الى السهل او الصحراء ويستقرّ فيها ، تبدا المواد المختلطة مع الماء بالترشّح ويذهب الزبد فيظهر الماء النقي مرّة ثانية ، وعلى هذا النحو فالباطل يبحث عن سوق مضطربة حتّى يستفيد منها ، ولكن بعد استقرار السوق وجلوس كلّ تاجر في مكانه المناسب وتحقق الالتزامات والضوابط في المجتمع ، لا يجد الباطل له مكانا فينسحب بسرعة!

5 ـ الباطل يتشكّل بأشكال مختلفة

انّ واحدة من خصائص الباطل هي انّه يغيّر لباسه من حين لآخر ، حتّى إذا عرفوه بلباسه يستطيع ان يخفي وجهه بلباس آخر ، وفي الآية أعلاه اشارة لطيفة لهذه المسألة ، حيث تقول : لا يظهر الزبد في الماء فقط ، بل يظهر حتّى في الافران المخصوصة لصهر الفلزات بشكل ولباس آخر ، وبعبارة اخرى فإنّ الحقّ والباطل موجودان في كلّ مكان كما يظهر الزبد في السوائل بالشكل المناسب لها. وعلى هذا يجب ان لا نخدع بتنوّع الوجوه وان نعرف أوجه الباطل ونطرحه جانبا.

6 ـ ارتباط البقاء بالنفع

تقول الآية :( وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) ليس الماء فقط يبقى ويذهب الزبد الطافي عليه ، بل حتّى الفلزات تلك التي تستعمل للزينة او للمتاع

٣٧٥

يبقى الخالص منها ويذهب خبثه. وعلى هذا النحو فالناس والمدارس والمبادئ لهم حقّ الحياة على قدر منفعتهم ، وإذا ما رأينا بقاء اصحاب المبادئ الباطلة لفترة فإنّ ذلك بسبب وجود ذلك المقدار من الحقّ الذي اختلط فيه ، وبهذا المقدار له حقّ الحياة.

7 ـ كيف يطرد الحقّ الباطل؟

«الجفاء» بمعنى الإلقاء والإخراج ، ولهذا نكتة لطيفة وهي انّ الباطل يصل الى درجة لا يمكن فيها ان يحفظ نفسه ، وفي هذه اللحظة يلقى خارج المجتمع ، وهذه العملية تتمّ في حالة هيجان الحقّ ، فعند غليان الحقّ يظهر الزبد ويطفو على سطح ماء القدر ويقذف الى الخارج ، وهذا دليل على انّ الحقّ يجب ان يكون في حالة هيجان وغليان دائما حتّى يبعد الباطل عنه.

8 ـ الباطل مدين للحقّ ببقائه

كما قلنا في تفسير الآية ، فلو لم يكن الماء لما وجد الزبد ، ولا يمكن له ان يستمر ، كما انّه لولا وجود الحقّ فإنّ الباطل لا معنى له ولو لم يكن هناك اشخاص صادقون لما وقع احد تحت تأثير الافراد الخونة ولما صدّق بمكرهم ، فالشعاع الكاذب للباطل مدين في بقائه لنور الحقّ.

9 ـ صراع الحقّ والباطل مستمر

المثال الذي ضربه لنا القرآن الكريم في تجسيم الحقّ والباطل ليس مثالا محدودا في زمان ومكان معينين ، فهذا المنظر يراه الناس في جميع مناطق العالم المختلفة ، وهذا يبيّن انّ عمل الحقّ والباطل ليس مؤقتا وآنيا. وجريان الماء

٣٧٦

العذب والمالح مستمر الى نفخ الصور ، الّا إذا تحوّل المجتمع الى مجتمع مثالي (كمجتمع عصر الظهور وقيام الامام المهديعليه‌السلام ) فعنده ينتهي هذا الصراع ، وينتصر الحقّ ويطوي بساط الباطل ، وتدخل البشرية مرحلة جديدة من تاريخها ، والى ان نصل الى هذه المرحلة فالصراع مستمر بين الحقّ والباطل ، ويجب ان نحدّد موقفنا في هذا الصراع.

10 ـ تزامن الحياة مع السعي والجهاد

المثال الرائع أعلاه يوضّح هذا الأساس لحياة الناس ، وهو انّ الحياة بدون جهاد غير ممكنة ، والعزّة بدون سعي غير ممكنة ايضا ، لانّه يقول : يجب ان يذهب الناس الى المناجم لتهيئة مستلزمات حياتهم في المتاع والزينة( ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ ) . وللحصول على هذين الشيئين يجب تنقية المواد الخام من الشوائب بواسطة نيران الافران للحصول على الفلز الخالص الصالح للاستعمال ، وهذا لا يتمّ الّا من خلال السعي والمجاهدة والعناء.

وهذه هي طبيعة الحياة حيث يوجد الى جانب الورد الشوك ، والى جانب النصر توجد المصاعب والمشكلات ، وقالوا في القديم : (الكنوز في الخرائب وفوق كلّ كنز يوجد ثعبان نائم) ، فإنّ هذه الخربة والثعبان تمثّلان المشاكل والصعوبات للحصول على الموفّقية في الحياة.

ويؤكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي انّ التوفيق لا يحصل الّا بتحمّل المصاعب والمحن ، يقول جلّ وعلا في الآية (214) من سورة البقرة :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) .

٣٧٧

الأمثال في القرآن :

انّ دور المثال في توضيح وتفسير الغايات له اهميّة كبيرة غير قابلة للإنكار ، ولهذا السبب لا يوجد اي علم يستغني عن ذكر المثال لاثبات وتوضيح الحقائق وتقريب معناها الى الأذهان ، وتارة ينطبق المثال مع المقصود بشكل يجعل المعاني الصعبة تنزل من السّماء الى الأرض وتكون مفهومة للجميع ، فيمكن ان يقال : انّ المثال له دور مؤثّر في مختلف الأبحاث العلمية والتربوية والاجتماعية والاخلاقية وغيرها ، ومن جملة تأثيراته :

1 ـ المثال يجعل المسائل محسوسة :

من المعلوم أنّ الإنسان يأنس بالمحسوسات أكثر ، أمّا الحقائق العلمية المعقّدة فهي بعيدة المنال. والأمثال تقرّب هذه الفواصل وتجعل الحقائق المعنوية محسوسة ، وإدراكها يسير ولذيذ.

2 ـ المثال يقرّب المعنى :

تارة يحتاج الإنسان لاثبات مسألة منطقية او عقلية الى ادلّة مختلفة ، ومع كلّ هذه الادلّة تبقى هناك نقاط مبهمة محيطة بها ، ولكن عند ذكر مثال واضح منسّق مع الغاية يقرّب المعنى ويعزّز الادلّة ويقلّل من كثرتها.

3 ـ المثال يعمّم المفاهيم

كثير من البحوث العلمية بشكلها الاصلي يفهمها الخواص فقط ، ولا يستفيد منها عامّة الناس ، ولكن عند ما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم ، ويستفيد منها الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية ، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر

٣٧٨

والثقافة.

4 ـ المثال ، يزيد في درجة التصديق :

مهما تكن الكليّات العقلية منطقية ، فإنّها لا تخلق حالة اليقين الكافية في ذهن الإنسان ، لانّ الإنسان يبحث عن اليقين في المحسوسات ، فالمثال يجعل من المسألة الذهنيّة واقعا عينيّا ، ويوضّحها في العالم الخارجي ، ولهذا السبب فإنّ له اثره في زيادة درجة تصديق المسائل وقبولها.

5 ـ المثال يخرس المعاندين :

كثيرا ما لا تنفع الادلّة العقليّة والمنطقيّة لاسكات الشخص المعاند حيث يبقى مصرّا على عناده ولكن عند ما نصب الحديث في قالب المثال نوصد الطريق عليه بحيث لا يبقى له مجال للتبرير ولا لاختلاق الاعذار. ولا بأس ان نطرح هنا بعض الامثلة حتّى نعرف مدى تأثيرها : نقرا في القرآن الكريم انّ الله سبحانه وتعالى يرد على الذين اشكلوا على ولادة السّيد المسيحعليه‌السلام كيف انّه ولد من امّ بغير أب( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) .(1)

لاحظوا جيدا ، فنحن مهما حاولنا ان نقول للمعاندين : انّ هذا العمل بالنسبة الى قدرة الله المطلقة لا شيء ، فمن الممكن ان يحتجّوا ايضا ، ولكن عند ما نقول لهم هل تعتقدون انّ آدم خلقه الله من تراب؟ فإنّ الله الذي له هذه القدرة كيف لا يستطيع إيجاد شخص بدون أب؟!

__________________

(1) آل عمران ، 59.

٣٧٩

وبالنسبة الى المنافقين الذين يقضون في ظلّ نفاقهم ايّاما مريحة ظاهرا ، فإنّ القرآن الكريم يضرب مثالا رائعا عن حالهم ، فيشبهّهم بالمسافرين في الصحراء فيقول( يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(1) .

فهل يوجد أوضح من هذا الوصف للمنافق التائه في الطريق ، ليستفيد من نفاقه وعمله كي يستمرّ في حياته؟

وعند ما تقول للافراد : انّ الإنفاق يضاعفه لكم الله عدّة مرّات قد لا يستطيعون ان يفهموا هذا الحديث ، ولكن يقول القرآن الكريم :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (2) ، وهذا المثال الواضح اقرب للإدراك.

وغالبا ما نقول : انّ الرياء لا ينفع الإنسان ، فقد يكون هذا الحديث ثقيلا على البعض ، كيف يمكن لهذا العمل ان يكون غير مفيد ، فبناء مستشفى او مدرسة حتّى لو كان بقصد الرياء لماذا ليست له قيمة عند الله؟!

ولكن يضرب الله مثالا رائعا حيث يقول :( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ) .(3) ولكي لا نبتعد كثيرا فالآية التي نحن بصدد تفسيرها تبحث في مجال الحقّ والباطل وتجسّم هذه المسألة بشكل دقيق ، المقدّمات والنتائج ، والصفات والخصوصيات والآثار ، وتجعلها قابلة الفهم للجميع وتسكت المعاندين ، واكثر

__________________

(1) البقرة ، 20.

(2) البقرة ، 261.

(3) البقرة ، 264.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628