المحسن السبط مولود أم سقط

المحسن السبط مولود أم سقط9%

المحسن السبط مولود أم سقط مؤلف:
المحقق: السيد حسن الموسوي الخرسان
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 628

المحسن السبط مولود أم سقط
  • البداية
  • السابق
  • 628 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85578 / تحميل: 7863
الحجم الحجم الحجم
المحسن السبط مولود أم سقط

المحسن السبط مولود أم سقط

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

هذا الاختيار في تسمية أخويه الحسين والمحسن ، وأتم حق أبنائه في إحسان أسمائهم ، فاختار لهم أسماء النبي ، وأسلافه من الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان(١) .

ولا نريد مناقشة العقّاد في تعليله العليل ؛ بأنّ علياً لشجاعته المنقطعة النظير ، كان يحبّ أن يعدّ ابنه فيرشحه لتلك الشجاعة عن طريق تسميته بحرب ؟!

وكأنّ مجرّد التسمية باسم صفة ، سوف يؤثّر خصائص تلك الصفة في المسمّى ! ؟ وما أدري بماذا يجيب ـ لو كان حياً ـ عن تخلّف الصفة فعلاً عن الموصوف بها اسماً ، فكم من اسمه اسد وهو في الحروب نعامة ، وكم من اسمه حاتم وهو في بخله زاد على ما در ، وكم وكم ، ولنا في أسماء الأضداد ما يغني عن إكثار الشواهد ، إذن ليس الأمر كما ذهب إليه العقّاد وغيره.

ثم هل لنا أن نسأل عن شجاعة أبناء عليّ التي ورثوها ، وكانت ظاهرة للعيان خصوصاً في حرب الجمل ، وصفين ، والنهروان ، هل كانت نتيجة تسميتهم بحرب ؟! وهذا ما لم يكن ولم يقع ، أم هي صناعة على نحو صناعات أبيهم كما قاله العقّاد فيه ! ثمّ ما بالنا نجد التفاوت في تلك الصناعة ، فيمتاز بعضهم على بعض في الحروب ، أوليسوا هم جميعاً خرّيجوا مدرسة واحدة ، والمربّي لهم واحد.

وما دام الإمام ـ إن صدقت الأحلام التي راودت مخيّلة الوضّاعين ـ كان يحب أن يكتنى بأبي حرب لأنّه يحبّ الحرب ، وقد حاول ثلاث مرّات أن يسمّي أحد أبنائه من ولد فاطمةعليها‌السلام فلم يقرّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا لم يسمّ أحد الباقين من أبنائه الّذين هم من غير فاطمةعليها‌السلام بهذا الاسم المحبّب إليه !! ولم يكن ثمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله موجوداً حتى يغيّره مثلاً.

__________________

(١) موسوعة العقّاد ( العبقريات الإسلامية ) : ٨٢١.

أما عن تسمية أبناء الإمام بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان , فقد روى البلاذري في أنساب الأشراف ٢ : ١٩٢ ، قال : وكان عمر ابن الخطاب سمّى عمر بن عليّ باسمه ووهب له غلاماً. أقول : وما يدرينا لعلّ في مخبآت الآثار ما يكشف أنّ عمر تبع مَنْ قبله في ذلك , ومن أتى بعده كان على وتيرته , على أنّه ورد في تسمية ابنه عثمان : سماه باسم عثمان بن مظعون السلف الصالح , كما ورد في وصفه.

٤١

وأيضاً ما دام الإمام كان مغرماً باسم حرب لأنّه شجاع ، ويحب أن يكتني بأبي حرب وقد غيّره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لماذا لم يعدل إلى ما يرادف ذلك في المعنى كالهيجاء والوغى والقتال والنزال والطعان ، فينال بذلك مبتغاه حين يلقّب بأبي الهيجاء مثلاً ، أو أبي الوغى ، وأبي مقاتل ، وأبي منازل ، وأبي مطاعن ، كما كان العرب يفعلون ذلك ، وحتى كانوا يكتنون بأسماء آلات الحرب كالصارم والهندي والخطي ، فهذا أبو الصوارم ، وذاك أبو الخطي ، وثالث أبو الهندي ، وهكذا دواليك ، فخذ ما شئت من أمثلة لديك.

فقد جاء في حديث رواه الصدوق في معاني الأخبار(١) بسنده عن أحمد بن أشيم ، قال للرضاعليه‌السلام : جعلت فداك لم سمّوا العرب أولادهم بكلب ونمر وفهد وأشباه ذلك ؟ قال : كانت العرب أصحاب حرب ، فكانت تهوّل على العدو بأسماء أولادهم ، ويسمون عبيدهم فرج ومبارك وميمون وأشباه ذلك يتيمّنون بها.

ثم لو كانت ارادته اسم المعنى الوصفي من حرب ، لتحول بعد التغيير الأول إلى بعض مشتقاته اللفظية ، مثل ( محارب ) فيسمى ولده الثاني أو الثالث ، ولينظر هل كان النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) يقرّه على ذلك أم يغيّره ؟

ثم أنّ سيرة الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام في حروبه كلّها كانت سيرة مثلى ، تأبى على مناوئيه وأعدائه فضلاً عن أوليائه أن يقولوا بأنّه كان يحب الحرب ، لأنّه شجاع متعطش لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح.

فإنّا نقرأ حياته في الحروب التي خاض غمارها أيّام الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله بدءاً من بدر ثم اُحد وحنين والأحزاب وخيبر وإلى آخرها ، فلم يكن يعدو أوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يرهق الناس بطشاً حتى يؤذن له.

وما حديث مبارزته لعمرو بن عبدود إلا دليل على تلك السيرة المثلى ، فهو حيث يقرّره بأنّه يجيب إلى إحدى خصال ثلاث ، فيبدأ بدعوته إلى الاسلام ،

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق : ٣٩١ ؛ عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ : ٣١٥.

٤٢

وحين يأبى عليه ذلك ، يطلب منه أن يرجع بالجيش عن محاربة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثانياً ، وحين يأبى ذلك يطلب إليه الن ـ زول إلى الحرب.

وأما الحروب التي بعد النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) فقد فرضت عليه ، ولم يكن راغباً في إثارتها ، لولا بغي البغاة عليه ، من ناكثين وقاسطين ومارقين ، ومع ذلك كله كان لا يبدؤهم بقتال حتى يعذر إليهم ، يتريّث طويلاً ، ويبعث الرسل تلو الرسل إلى أعدائه ، بالأعذار تلو الأعذار ، ثم الإنذار تلو الإنذار ، يخوفهم عواقب البغي والعدوان ، ويحذّرهم مغبّة إغواء الشيطان لهم ، حذار عواقب الحرب الوخيمة ، حتى إذا تمادوا في طغيانهم ، وأصرّوا على منابذته ومناجزته ، ثم هُم بدؤوه بالقتال ، شمّر للحرب عن ساعده ، فخاض الغمرة وأصلاهم نارها ، وألزم عقباهم عارها.

هذا عليّعليه‌السلام الذي كان يحب الحرب !؟ نعم يخوض الحرب حين لا مناص من خوضها وقد شبّت وقدتها ، أما أنه يحبها ويدعو إليها فلا ، بل هو رجل السلم والسلام ، وما علم المسلمون الحكم في قتال أهل القبلة إلاّ من سيرته في الحروب الثلاثة : الجمل وصفين والنهروان.

فهل مثل هذا الإنسان يمكن أن يقال فيه كان يحب أن يكتني بأبي حرب ، لأنه يحب الحرب ، ويجعل العقّاد من ذلك دليلاً على حسن اختيار الإمام لأحسن الأسماء لأبنائه ، على أنّ في باقي قوله بعد ذلك : وأتمّ حق أبنائه في إحسان أسمائهم فاختار لهم أسماء النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) وأسلافه ، ما يستبعد اسم المعنى الوصفي ( لحرب ) فلاحظ.

والآن وبعد هذه التساؤلات التي استبعدت أن يكون المراد بحرب في زعم الزاعمين أن علياً أحب أن يكتنى بأبي حرب ، يعني الحرب ضد السلم ، إذن هل المراد بحرب اسم علم شخصي شغف الإمام به حباً ، فأحبّ أن يسمّي أحد أبنائه باسمه تيمناً به ، وإذا كان ذلك فمن هو ذلك صاحب الاسم المزعوم ؟

٤٣

وإذا رجعنا إلى تاريخ تلك الحقبة التي ذكروا أن علياً سمّى أوهمّ أو أحبّ أن يكتني بتسمية ابنه الأول ( حرب ) لانجد إلاّ حرب بن أمية بن عبد شمس ، وهذا هو والد أبي سفيان صخر بن حرب ، وهو جدّ معاوية بن أبي سفيان.

ولعل القارئ داعبت مخيلته ظنون توحي إليه بأنّ الحديث من نسيج أحفاد حرب ، ليجعلوا من أبيهم انساناً محبباً ومرموقاً حتى همّ عليّ ، أو سمّى ، أو أحبّ أن يسمّي أحد أبنائه باسمه ، وكرر ذلك ثلاث مرّات إلاّ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غيّر ، إذن كان لحرب ذكر ونباهة ومقام معلوم مزعوم ، ولنترك التعقيب فعلاً على ذلك حتى نقرأ ما يلي من النقطة الثانية ، ولكن أود تنبيه القارئ إلى أنّ الذي يشير إلى المراد بحرب هو اسم العلم الشخصي ، هو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ما شأن حرب ) ؟ كما مرّ في الحديث الثاني في المصدر الثاني.

* * *

٤٤
٤٥

النقطة الثانية

هل كان اسم حرب من الأسماء المحبوبة أم المبغوضة ؟

هذا سؤال يصح أن يقال إذا كان القارئ على علم بأنّ هناك أسماء محبوبة وأخرى مبغوضة ، ورد التنبيه عليها من الشرع ، وليس المقصود هنا بالمحبوبية والمبغوضية ما يراه الإنسان في نفسه.

وإذا رجعنا إلى الأحاديث التي وردت عن صاحب الشرع في تلك المسألة ، نجد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغيّر الاسم القبيح ـ كما في حديث عائشة ( في الفتح الكبير للنبهاني ) نقلاً عن الترمذي وهو في جامعه(١) .

وقد روى الحميري في قرب الإسناد(٢) بسنده عن الإمام الصادقعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان.

وقد غيّر بعض الأسماء ، كما في حديث سعيد بن المسيب بن حزن أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجده حزن : ما اسمك ؟ قال : حزن ، قال : أنت سهل ، قال له : السهل يوطأ أو يمتهن ، قال سعيد : فما زالت الحزونة فينا بعد. والحديث أخرجه أبو داود في السنن(٣) كما أخرجه غيره.

__________________

(١) الفتح الكبير للنبهاني ٢ : ٣٨٥ ، عن سنن الترمذي ٢ : ١٠٧.

(٢) قرب الإسناد للحميري : ٤٥.

(٣) سنن أبي داود ٤ : ٢٨٩.

٤٦

وإلى القارئ نموذجاً من الأسماء التي غيّرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال أبو داود : وغيّر النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) اسم العاص ، وعزيز ، وعقلة ، وشيطان ، والحكم ، وغراب ، وحباب ، وشهاب فسماه هشاماً ، وسمى حرباً سلماً ، وسمى المضطجع المنبعث ، وأرضاً تسمى عَفِرَة سماها خَضِرة ـ بمعجمة ـ وشعب الضلالة سماه شعب الهدى ، وبنو الزنية سمّاهم بني الرشدة ، وسمى بني مغوية بني رشدة.

قال أبو داود : وتركت أسانيدها للاختصار(١) .

وأخرج الترمذي في صحيحه(٢) والبغوي في مصابيح السنّة(٣) أنه غيّر اسم عاصية بنت عمر فسماها جميلة.

وقد ذكر البخاري في صحيحه في كتاب الأدب بعض تلك الأسماء ، وزاد في كتاب الأدب المفرد كثيراً من الأحاديث في ذلك فلتراجع.

وإذا علمنا أنّ هناك أسماء مبغوضة غيّرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان منها اسم حرب فغيّره وسمّاه سلماً ـ كما مرّ عن أبي داود ـ فما بال الإمام عليّعليه‌السلام يحبّ أن يكتني بحرب ؟ أو لم يكن يعلم بما رواه أبو وهب الجشمي في خصوص حرب ؟ وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد(٤) وغيره بأسانيدهم عن أبي وهب ـ وكانت له صحبة ـ عن النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) أنّه قال : ( تسمّوا بأسماء الأنبياء ، وأحبّ الأسماء إلى الله( عزّ وجلّ ) عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمام ، وأقبح الأسماء حرب ومرّة )(٥) .

__________________

(١) سنن أبي داود ٤ : ٢٨٩.

(٢) صحيح الترمذي ٢ : ١٣٧.

(٣) مصابيح السنّة للبغوي ٢ : ١٤٨.

(٤) الأدب المفرد للبخاري : ٢١١ ، وأبو داود في السنن ٢ : ٣٠٧ ؛ والبيهقي في السنن الكبرى ٩ : ٣٠٦ ؛ وأحمد في المسند ٤ : ٣٤٥ ، وابن القيم في زاد المعاد : ٢٥٨ ـ ٢٦٠ ؛ والنبهاني في الفتح الكبير ٢ : ٣٨٥ ؛ وابن عبد البر في الاستيعاب ٢ : ٧٨.

(٥) لقد ورد الحديث عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام كما في الجعفريات ملحقاً بكتاب قرب الإسناد ؛

٤٧

أفهل يُعقل أنّ أباوهب الجشمي ، وهو رجل كانت له صحبة كما يصفونه ، يروي هذا الحديث وعلي لا يرويه ولا يدريه ؟ وهو هو في سابقته وصحبته ومكانته وحظوته ؟ وهو القائل :« ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي كلّ يوم علماً من أخلاقه ، ويأمرني بالاقتداء به » (١) .

أوليس يدل اصرار الإمام على التسمية بحرب ـ سواء قلنا بأنّه اسم معنى أي ضد السلم ، أو قلنا بأنّه اسم علم كما يحلو لواضعيه ـ أنّ علياً يصرّ على مخالفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأستغفر الله من ذلك.

قال ابن قيّم الجوزية في زاد المعاد(٢) :

( فصل ) ولمّا كان مسمى الحرب والمرة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها ، كان أقبح الأسماء حرباً ومرة ، وعلى قياس هذا حنظلة وحزن وما أشبههما ، وما أجدر هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها كأثر اسم حزن الحزونة في سعيد وأهل بيته.

وقال أيضاً في فصل آخر بعده : ولمّا كان الأنبياء سادات بني آدم كانت أسماؤهم أشرف الأسماء ، فندب النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) أمّته إلى التسمّي بأسمائهم ، كما في سنن أبي داود والنسائي عنه : « تسمّوا بأسماء الأنبياء ».

ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلاّ أنّ الاسم يذكّر بمسماه ، ويقتضي التعلق بمعناه لكفى به مصلحة ، مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذكرها ، وأن لا تنسى وأن يذكر أسماؤهم بأوصافهم وأحوالهم.

__________________

بلفظ ( نعم الأسماء عبد الله وعبد الرحمن والأسماء المعبّدة ، وشرها همام والحارث ) وأخرجه السيد الراوندي في نوادره : ٩ ، وفيه : ( نعم الأسماء عبد الله وعبد الرحمن والأسماء المعبدة ، وشرها همام والحارث ) ونقله عن النوادر في البحار ١٠٤ : ١٣٠ ، ومستدرك الوسائل ٣ : ٦١٨ ، ولقد ورد في حديث جابر مرفوعاً أنّه ( صلّى الله عليه وسلّم ) قال : ( وشر الأسماء ضرار ومرّة وحرب وظالم ) راجع الخصال للصدوق : ٢٢٨.

(١) نهج البلاغة ، شرح محمّد عبدة ٢ : ١٨٢.

(٢) زاد المعاد لابن قيّم الجوزية ٢ : ٦.

٤٨

أقول : فإذا كان الحال هكذا في الأسماء ، فمنها محبوب ومنها مبغوض ، وكان حرب من الأسماء المبغوضة ، فهل يعقل أنّ الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، كان يحب الاكتناء بأبي حرب ـ الاسم المبغوض ـ ليكون على ذكر منه ؟ إنّها فرية عليه ، ولكم افترى عليه أعداؤه.

والآن لابدّ لنا من وقفة وتأمل عند هذا الإصرار المزعوم ، لنطلع من خلال ذلك على طبيعة الحدث الذي عاشه الإمام يوم أحب أن يكتني بأبي حرب كما يزعمون.

* * *

٤٩

النقطة الثالثة

ماذا يعني إصرار الإمام في تسمية أبنائه بحرب ؟

النقطة الثالثة : ماذا كان يعني إصرار الإمام ـ إن صدقت الأحلام ـ في تسمية أبنائه بحرب ؟

إنّ في زعم إصرار الإمام عليّعليه‌السلام تكرار التجربة الفاشلة ـ إن صدقت أحلام صُنّاعي الحديث ـ حمل كثير من الآصار على عليّ ؟!

فعليٌ يحب أن يُسمي أوّل أبنائه حرباً ـ الاسم المبغوض ـ وكأنّه إنسان لا يعلم أنّ ذلك من أقبح الأسماء ؟ وعلي يكرّر تلك الرغبة الملحّة مع تغيير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك الاسم أول مرّة ، وعلي لا ينتفع بتلك التجربة ، ولا يأخذ منها عبرة ، وكأنّه إنسان لا تعظه التجارب ! فيعاود مُصرّاً على اسم حرب والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يغيّره ، وعلي يكرر تجربته الثالثة ـ كما يقولون ـ ثم يغيّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الاسم.

ثم عليّعليه‌السلام لا يدرك مغزى قول النبي :صلى‌الله‌عليه‌وآله ( ما شأن حرب هو حسن ) ومرّة ثانية يقول كلمته : ( ما شأن حرب هو حسين ) وثالثة يقول أيضاً : ( ما شأن حرب هو محسن ) ؟

ففي كلّ هذه المرّات وعليعليه‌السلام بعد على اصراره ؟ يا لله أهكذا كان أبو الحسن عليّ بن أبي طالب يضحي بكل ما لديه من رصيد الجهاد والجهود في خدمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه الحنيف ، وهو أول من آمن به! كيف يضحي بجميع ذلك على مذبح الشهوات والرغبات ؟ أهي الأنانية ؟ ليحقق مكسباً عظيماً حين يسمي أحد أبنائه حرباً ولا يصغي لتغيير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سمعاً ؟ أهذا هو عليّ الذي همّ أو

٥٠

أحب أو سمّى أبناءه حرباً فغيّرها النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) ؟ نعم ، فهو كذلك بهذه الصورة التي رسمها له أعداؤه من خلال هذا الحديث ، ولكن أهكذا كان عليّعليه‌السلام حقيقة ؟

لاها الله إنّها الشناشن الأخزمية ، والضغائن الجاهلية ، ووراء ذلك كله بعدُ سر مصون ، ليس في الغيب المكنون ، ولكن من باب ذر الرماد في العيون ، وإذا تمّ لهم ما يريدون ، ففي ذلك مكسب عظيم يجني المفترون الأفّاكون ، في طمس الحقائق وتشويه التاريخ ، وسنكشف عنه بعد أن نقرأ البيان عن النوازع المغرية في اسم حرب ، وذلك في النقطة الرابعة.

ولم يكن هذا هو الافتراء الوحيد على عليّعليه‌السلام ، فقد افترى عليه في زمانه وبعد زمانه ، كما افتري على أخيه الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل ، وما ذلك الافتراء إلاّ نتائج الحكم الأموي البغيض ، الذي شوّه ما استطاع لذلك سبيلاً ، فكانت سماسرة الوضع يلهثون وراء أصفره الرنّان ، فيضعون له ما يشاء ويطلب منهم الحكام ، ولا نريد الخوض في تفاصيل ذلك لئلاّ يطول الكلام.

ولنرجع البصر إلى خصوص الافتراء على عليّعليه‌السلام في خصوص الأسماء ، فقد أخرج الكليني في الكافي والطوسي في التهذيب(١) باسنادهما عن معمر بن خثيم قال : قال لي أبو جعفرعليه‌السلام :« ما تكتني » ؟ قال : ما اكتنيت بعدُ ، ومالي من ولد ولا امرأة ولا جارية ، قال :« فما يمنعك من ذلك » ؟ قال : قلت : حديث بلغنا عن عليّعليه‌السلام قال : من اكتنى وليس له أهل فهو أبو جعر ، فقال أبو جعفرعليه‌السلام :« شوه ، ليس هذا من حديث عليّ ، إنّا لنكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم » .

فانظر بربك إلى هذا الحديث الذي كشف عن دوافع الافتراء المؤلم في أيّام الإمام الباقرعليه‌السلام الذي توفي سنة ١١٤ ، فما ظنك بما حدث من بعد ذلك ؟

* * *

__________________

(١) الكافي ٢ : ٨٧ ، التهذيب للطوسي ٧ : ٤٣٨ و ٢ : ٢٤٦.

٥١

النقطة الرابعة

الدوافع المغرية في شخصية حرب ؟

النقطة الرابعة : في بحث الدوافع المغرية في شخصية حرب بدءاً من آبائه ومروراً به وانتهاءاً بأبنائه.

ليس العجب من رواة السوء حين يروون مثل ذلك الحديث المزعوم ، وليس العجب من زوامل الأسفار الّذين يثبتون الحديث في أسفارهم ، وليس العجب من تهالك بعض الحفاظ في تصحيح الاسناد ، ليثبت للأشهاد أنّه حصل على صك الغفران بصحة السند ، وكأنّ ذلك يكفي ويغني عن النظر في المتن ، وإن كان منكراً من القول وزوراً.

ليس العجب من كل أولئك ، ما داموا جميعاً في صف المعسكر المناوئ لعليعليه‌السلام ، أو ممّن شايع مناوئيه.

ولكن العجب كل العجب أن نقرأ الحديث في بعض كتب شيعة عليّعليه‌السلام ، ينقلونه عن الخصوم ويمرّون عليه مرور الكرام ، وكأنّهم لم يفقهوا ما فيه ، وتلك ـ لعمر الحق ـ مصيبة سلامة الطوية التي تجني البلية ، مع فقدان الرويّة ، وفتح الشهيّة لجمع كل ما هبّ ودبّ مما روى الأولياء والأعداء من دون تمحيص ، غافلين عن دس السم في العسل.

وأعجب من ذلك كلّه أن يكون ضحية الكذب والافتراء عليه شخصية الإسلام الأولى بعد نبيه الكريم ، والذي صحّ فيه قول زائره : ( أشهد أنّك أوّل مظلوم وأوّل من غصب حقه ).

٥٢

وقد يهون ذلك العجب إذا تذكرنا أنّ الافتراء عليه كان منذ عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أن الأفّاكين رفعوا عليه شكاوى إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يشكهم ونهرهم وقال لهم :« ما تريدون من عليّ ، عليّ منّي وأنا من عليّ » (١) .

ولكن العجب أشد العجب من أن يفترى على عليّ فيضحى به باسم الإسلام ، وهو أوّل من آمن به ، فيجعل منه إنسان كأنّه لا يفقه من الإسلام حكماً ولا أدباً ، وهو الذي لولاه ما قام للإسلام عمود ، ولا اخضرّ له عود ، وحين تقرع طبول أعدائه ، وتتراقص على أنغامهم أقلام بعض السذّج من أوليائه ، دون أن يشعروا ، بأنّ ذلك الطبل إنّما كان للحرب ، وليس هو طبل الميلاد أو طبل الأفراح ، ولم يشعروا ـ ويا للأسف ـ أنّ بني حرب ـ حزب الشيطان ـ قد حاربوا علياً بكل حول وطول ، وبشتى الوسائل التي واتتهم السبل إليها.

فلئن حاربوه بالسيف ولم يشف ذلك غليلهم ، ولئن حاربوه باللعن على منابر المسلمين تنقيصاً له ولم يبرد بذلك أوار حقدهم ، ولئن قعدوا له بكل مرصد فافتروا عليه خطبة ابنة أبي جهل ، ونسجوا لها ما ساعدتهم أنوالهم ، ولئن ولئن وفي كل ذلك لم يصنعوا شيئاً ، بل كانت النتائج عكس ما أرادوا.

فهم كلّما أرادوا النيل منه وإذا هم كأنّما يأخذون بضبعيه ، ويرفعونه إلى سماء المجد والعظمة ، والآن ماذا يمنعهم أن يصوروه إنساناً يحبهم ؟ وإن كانوا هم لا يحبّونه ؟ وما الذي يمنعهم أن يبنوا لهم صرحاً ممرداً من قوارير الأحلام على قاعدة عليّعليه‌السلام الصُلبة في الإسلام ، فيجعلوا من آبائهم وأجدادهم شخوصاً محببة ، يتمنّى إنسان مثل عليّ في مكانته المفضّلة أن يكتني باسم جدهم ، وهذا هو ما يوحيه الحديث المزعوم ، حديث يروي : كان عليّ يحب أن يكتني بأبي حرب.

__________________

(١) راجع كتاب ( عليّ إمام البررة ) ٢ : ٨٠ ـ ٩٥.

٥٣

والآن لنقرأ عن حرب وآبائه وأبنائه في مواقفهم من آباء وأجداد عليّ ، لنرى هل يُعقل أن يكون عليّ أحبّ أن يكتني بأبي حرب ؟ فنقول :

في ذكر حرب بن أميّة :

إنّه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وفي عبد مناف يجتمع نسب عليّعليه‌السلام والهاشميين مع أبناء عبد شمس.

قال المقريزي : وقد كانت المنافرة لا تزال بين بني هاشم وبين عبد شمس(١) .

وقال : وكانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف بن قصي ، وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وسببها أن هاشماً كانت إليه الرفادة مع السقاية ، وذلك أنّ أخاه عبد شمس كان يسافر وكان يقيم بمكة ، وكان رجلاً مقلاً وله ولد كثير ، فاصطلحت قريش على أن يلي هاشم السقاية والرفادة ، وكان هاشم رجلاً موسراً ، وكان إذا حضر موسم الحج قام في قريش فقال :

يا معشر قريش إنّكم جيران الله وأهل بيته ، وإنّكم يأتيكم في هذا الموسم زوّار الله يعظمون حرمة بيته ، وهم ضيوف الله ، وأحق المضيّف بالكرامة ضيفه ، وقد خصّكم الله بذلك وأكرمكم به ، حفظه منكم أفضل ما حفظ جار من جاره ، فأكرموا ضيفه وزوّاره ، فإنّهم يأتون شعثاً غُبراً من كلّ بلد على ضوامر كالقداح ، وقد أزحفوا وتفلوا وقملوا ، فأقروهم وأنموهم وأعينوهم.

وكانت قريش ترافد على ذلك ، حتى أن كان أهل البيت يرسلون اليسير على قدرهم ، فيضمّه هاشم إلى ما أخرج من ماله وما جمع مما يأتيه به الناس فإن عجز كمّله ، وكان هاشم يخرج في كلّ سنة مالاً كثيراً ، وكان قوم من قريش يترافدون فكانوا أهل يسار ، فكان كلّ إنسان منهم ربما أرسل بمائة مثقال هرقلية.

وكان هاشم يأمر بحياض من أدُم فتجعل في موضع زمزم ـ من قبل أن تحفر زمزم ـ ثم يستقي فيها من البئار التي بمكة فيشرب الحاج ، وكان أوّل ما

__________________

(١) النزاع والتخاصم : ١٨.

٥٤

يطعمهم قبل التروية بيوم بمكة ، ويطعمهم بمنى وبعرفة وبجمع ، فكان يثرد لهم الخبز ، واللحم والخبز والسمن ، والسويق والتمر ، ويحمل لهم الماء حتى يتفرق الناس لبلادهم ، وكان هاشم يسمّى عمرواً ، وإنّما قيل له هاشم لهشمه الثريد بمكة ، وفيه يقول مادحه :

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنتون عجاف

وكان أمية بن عبد شمس ذا مال ، فتكلّف أن يفعل كما فعل هاشم من إطعام قريش فعجز عن ذلك ، فشمت به ناس من قريش وعابوه ، فغضب ونافر هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة ، وعلى جلاء عشر سنين ، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي ـ جد عمرو بن الحمق ـ وكان منزله عسفان ، وخرج مع أمية أبو همهمة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك الفهري.

فقال الكاهن : والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو من طائر ، وما اهتدي بعَلَم مسافر ، من مُنجد وغائر ، لقد سبق هاشمُ أمية إلى المآثر ، أوّل منه وآخر ، وأبو همهمة بذلك خابر.

وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر ، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين(١) .

قال العقّاد : فكان هذا أوّل عداوة وقعت في بني هاشم وبني أمية.

أقول : وتجد حديث هذه المنافرة في جملة من المصادر التاريخية منها المنمّق لمحمد بن حبيب(٢) ، ثم قال ابن حبيب :

ومن ثم يقال : انّ أمية استلحق أبا عمرو ابنه ، وهو ذكوان وهو رجل من أهل صفورية ، فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده ، فأولدها أمية وهو أبو معيط ، ويقال : استلحق ذكوان أيضاً أبان.

__________________

(١) شخصيات اسلامية ضمن موسوعة العقّاد : ٥٤٩.

(٢) المنمق : ١٠٣.

٥٥

أقول : وما ذكره ابن حبيب منسوباً إلى القيل ، فقد ذكره المقريزي في النزاع والتخاصم(١) كحقيقة ثابتة وبما هو أقبح من ذلك ، حيث قال : وصنع أمية في الجاهلية شيئاً لم يصنعه أحد من العرب ، زوّج ابنه أبا عمرو بن أمية امرأته في حياة منه ، والمقتيون في الاسلام هم الّذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن من بعد موتهم ، وأما أن تزوجها في حياته ويبنى عليها وهو يراه ، فإنّ هذا لم يكن قط(٢) ، وأمية جاوز هذا المعنى ولم يرض بهذا المقدار حتى نزل عن ماله وزوّجها منه ثم قال : وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية قد زاد في المقت درجتين ، يشير إلى ما مرّ عن ابن حبيب.

قال المقريزي في النزاع والتخاصم(٣) : ولم يكن أمية في نفسه هناك ، وإنما يرفعه أبوه وبنوه ، وكان مضعوفاً ، وكان صاحب عهار ، يدل على ذلك قول نفيل بن عبد العزى جد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين تنافر حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم ، فنفر عبد المطلب ، وتعجب من اقدامه عليه وقال :

أبوك معاهر وأبوه عفّ

وذاد الفيل عن بلد الحرام

وذلك أنّ أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة ، فضربه رجل منهم ضربة بالسيف ، وأراد بنو أمية ومن تابعهم إخراج بني زهرة من مكة ، فقام دونهم قيس بن عدي السهمي وكانوا أخواله ، وكان منيع الجانب ، شديد العارضة ، حميّ الأنف ، أبيّ النفس ، فقام دونهم وقال : ( أصبح ليل ) فذهبت مثلاً ، ونادى : ( ألا إنّ الظاعن

__________________

(١) النزاع والتخاصم : ٢٢.

(٢) ذكر ذلك الجاحظ في رسالته الثانية من رسائله ، وهي من كتاب فضل هاشم على عبد شمس راجع ص ٧٥ ، جمع وتحقيق حسن الهندوبي ، ط : مصر سنة ١٣٥٢ ه‍.

(٣) النزاع والتخاصم : ٢١.

٥٦

مقيم ) ففي هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهرة :

مهلاً أميّ فإنّ البغي مهلكة

لا يكسبنّك يومٌ شرّه ذكر

تبدو كواكبه والشمس طالعة

يصبّ في الكأس منه الصاب والمقر

أقول : فهذا أمية والد حرب ، وكان كأبيه فقد حسد عبد المطلب بن هاشم على مآثره ، فنافره إلى نفيل بن عبد العزّى جد عمر بن الخطاب ، فقال حين تنافرا إليه وقد عجب من اقدام حرب على منافرة عبد المطلب ، فقال كما في النزاع والتخاصم(١) كما مرّ :

أبوك معاهر وأبوه عفّ

وذاد الفيل عن بلد الحرام

ثم قال له : يا أبا عمرو أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة ، وأعظم منك هامة ، وأوسم منك وسامة ، وأقلّ منك لامة ، وأكثر منك ولداً ، وأجزل منك صفداً ـ عطاءً _. وحديث هذه المنافرة في المحبّر والمنمّق وغيرهما فليرجع إليهما طالبها(٢) .

هذا هو حرب الذي زعموا أنّ علياً أحب اسمه فأراد أن يكتني به ، فهل نسي عليّعليه‌السلام أنّه الذي نافر جديه هاشم وعبد المطلب فحكم لهما المحكمون ، وأخزوه حتى أجلي عن مكة إلى الشام ، فأقام بها عشر سنين ؟

ثم هل أنّ علياً نسي أنّ حرب هو والد أبي سفيان رأس الكفر والشقاق ، والذي كان زنديقاً(٣) كما يقول عنه المؤرّخون ، ويكفي في خزايته ، مواقفه بدءاً من بدء الدعوة ومروراً بحروب بدر وأحد والأحزاب ، وأخيراً بفتح مكة ؟

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) المحبّر : ١٧٣ ، المنمّق : ٩٤.

(٣) عليّ سامي النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ١ : ٢٣١ ، وقال في كتابه أيضاً ٢ : ٦٦ : وكان من أخطر الزنادقة أبو سفيان الأموي وعدو الإسلام العتيد.

٥٧

ثم هل نسي عليّ أنّ حرب هو والد أم جميل ـ وهي حمالة الحطب ـ التي كانت تؤذي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نزلت سورة في ذمها وذم زوجها ، فقال تعالى :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ *تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَّسَدٍ ) (١) فهل يُعقل أنّ علياً لا يعرف مَن هو حرب ؟ ومن هم آباء حرب ؟ ومن هم أبناء حرب حتى يغرم باسم حرب ؟

والآن بعد هذا الخطو السريع في رحاب التاريخ ، فهل رأينا من دافعٍ أو شافع مغرٍ يحمل علياً على التهالك في تسمية أبنائه ( بحرب ) ؟

هل كانت بين البيتين في ميزان التفاضل موازنة صحيحة ، في منكب أو موكب يتساوى فيها رجال البيتين ؟ هل كانت لدى المقارنة بين رجال الحييّن مساواة في حول أو طول ؟ ثم أليس هو القائل في هذا المضمار رداً على معاوية حفيد حرب :

وأما قولك : إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن ، ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحق كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل ، ولبئس الخلف خلفاً يتبع سلفاً هوى في نار جهنم(٢) .

ألم يسمع علي قول أبيه في بني حرب حيث يقول :

قديماً أبوهم كان عبداً لجدنا

بني أمة شهلاء جاش بها البحر

لقد سفهوا أحلامهم في محمّد

فكانوا كجعر بئس ما ظفطت جعر(٣)

__________________

(١) المسد : ١ ـ ٥.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ٢١٩.

(٣) نفس المصدر ٤ : ٤٦٧.

٥٨

كيف لم يسمع ؟ وكيف لم يعلم ؟ والأمر بين الحييّن من الوضوح حتى كان يعرفه بنو هاشم كما يعرفه أبناء حرب أنفسهم.

فهذا ابن جعفر يقول ليزيد بن معاوية مفاخراً له بحضور أبيه معاوية : بأيّ آبائك تفاخرني ؟! أبحرب الذي أجرناه ؟ أم بأمية الذي ملكناه ؟ أم بعبد شمس الذي كفلناه ؟ فقال معاوية : لحرب بن أمية يقال هذا ؟ ما كنت أحسب أن أحداً في عصر حرب يزعم أنّه أشرف من حرب ، فقال عبد الله بن جعفر : بلى أشرف منه من كفأ إناءه عليه وجلّله بردائه ، فنهى معاوية ولده عن مفاخرة بني هاشم ، وأنّهم لا يجهلون ما علموا ، ولا يجد مبغضهم لهم سباً(١) .

فاتضح من خلال ما تقدم أن ليس في شخصية حرب من دوافع مغرية تدعو الإمام علياًعليه‌السلام لأن يحب أن يكتنى باسمه ، فيبقى الحديث المزعوم الذي لم يثبت لصنّاعه ما أرادوه ، حبراً على ورق فلا يسمن ولا يغني إذا ما قرأنا ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير(٢) بسنده عن سورة بنت مشرح قالت : كنت فيمن حضر فاطمة( رضي الله عنها ) حين ضربها المخاض في نسوة ، فأتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ( كيف هي ؟ ) قالت : إنها لمجهودة يا رسول الله ، قال : ( فإذا هي وضعت فلا تسبقين فيه بشيء ) قالت : فوضعت فسروّه ولغفوه في خرقة صفراء ، فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ( ما فعلت ؟ ) قالت : قد ولدت غلاماً وسررته ولففته في خرقة ، قال : ( عصيتني ) قالت : أعوذ بالله من من معصية الله ومن غضب رسوله ، قال : ( ائتيني به ) فأتيته به ، فألقى الخرقة الصفراء ، ولفّه في خرقة بيضاء ، وتفل في فيه ، وألبأه بريقه ، فجاء عليرضي‌الله‌عنه فقال : ( ما سميته يا علي ؟ ) قال : سمّيته جعفراً يا رسول الله ، قال : ( لا ولكن حسن وبعده حسين ، وأنت أبو حسن الخير )(٣) .

__________________

(١) نفس المصدر ٤ : ٤٣٥.

(٢) المعجم الكبير ٣ : ٢٣.

(٣) قال محقق الكتاب في الهامش : قال في المجمع ٩ : ١٧٥ ، رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما

٥٩

فالآن حصحص الحق ، وتبيّن الصدق ، بأنّ علياً أراد تسمية ابنه الأول باسم أخيه جعفر شهيد مؤتة ، إلا أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سمّاه حسناً كما سمى الوليد الثاني حسيناً قبل أن يولد ، مما دلّ على أن الوحي الإلهي تصرّف في المقام ، فأين يكون موضع الحديث المزعوم بعد ما نقرأ حديث سورة بنت مسرح القابلة ؟

وبعد بيان زيف الحديث المزعوم من هذا الجانب ، فهل ثمة جانب آخر يريد الوضاعون الاستفادة منه ؟

نعم ، وذلك هو الجانب الأهم ، وهو الذي أخفوه أو حاولوا إخفاءه وذلك هو : إثبات ولادة المحسن السبط الثالث للرسول( صلّى الله عليه وسلّم ) في عهده ، وهذا الوليد الذكر هو الثالث من أبناء الإمام أمير المؤمنين من الصديقة فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

وهذا ما سنقرأ عنه شيئاً في النقطة السادسة.

* * *

__________________

عمر بن فيروز وعمر بن عمير ولم أعرفهما ، وبقية رجاله وثّقوا. وسيأتي ( ٧٨٦ / ٢٤ ).

أقول : ولدى مراجعة الموضع المشار إليه ، وجدت الحديث كما هو إلا أن فيه اسم القابلة سودة بنت مسرح ، ولم ينبه المحقق على ذلك ، والصواب ما في الموضع الثاني ، وقد ذكرها ابن عبد البر في الاستيعاب بهامش الإصابة ٤ : ٣١٨ ، وأشار إلى الحديث المذكور باختصار.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628