المحسن السبط مولود أم سقط

المحسن السبط مولود أم سقط9%

المحسن السبط مولود أم سقط مؤلف:
المحقق: السيد حسن الموسوي الخرسان
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 628

المحسن السبط مولود أم سقط
  • البداية
  • السابق
  • 628 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85596 / تحميل: 7867
الحجم الحجم الحجم
المحسن السبط مولود أم سقط

المحسن السبط مولود أم سقط

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ان علق الامر بزوال علة النهى... إلى غير ذلك (والتحقيق) أنه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال فانه قل مورد منها يكون خاليا عن قرينة على الوجوب أو الاباحة أو التبعية، ومع فرض التجريد عنها لم يظهر بعد كون عقيب الحظر موجبا لظهورها في غير ما تكون ظاهرة فيه غاية الامر يكون موجبا لاجمالها غير ظاهرة في واحد منها الا بقرينة أخرى كما أشرنا (المبحث الثامن) الحق أن صيغة الامر مطلقا لا دلالة لها على المرة ولا التكرار، فان المنصرف عنها ليس الا طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها فلا دلالة لها على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها، والاكتفاء بالمرة فانما هو

______________________________

(قوله: إن علق النهي بزوال) كما في قوله تعالى: فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين، وقوله تعالى: فإذا تطهرن فأتوهن، وقوله تعالى: وإذا حللتم فاصطادوا (قوله: لا مجال للتشبث) اشارة إلى إبطال استدلال بعضهم على مدعاه ببعض موارد الاستعمال كالايات المتقدمة (وحاصله) أن الكلام في المقام في أن وقوع الامر عقيب الحظر هل هو من القرائن العامة التي لا يجوز العدول عن مقتضاها إلا بدليل الموجبة لظهور الصيغة في الاباحة مطلقا أو الوجوب أو رجوع الحكم السابق على النهي أو غير ذلك ؟ والاستعمال لا يدل على شئ من ذلك لامكان استناد الظهور فيه إلى قرينة خاصة غير الوقوع عقيب الحظر فلا يصح الاستناد إليه في اثبات الدعوى (قوله: ومع فرض) يعني لو فرض التجريد عن القرائن الخاصة لم يظهر أن الوقوع عقيب الحظر من القرائن الموجبة لظهور الصيغة في غير الوجوب الذي تكون ظاهرة فيه لولا الوقوع عقيب الحظر (قوله: لاجمالها) وعليه فلا تحمل على الوجوب بناء على وضعها له الا بناء على كون حجية أصالة عدم القرينة من باب التعبد لا من باب حجية الظهور

المرة والتكرار

(قوله: مطلقا) يعنى حيث لا يقيد بمرة أو تكرار (قوله: على المرة والتكرار) سيأتي منه شرحهما (قوله: لا بهيئتها ولا بمادتها) إذ

١٨١

لحصول الامتثال بها في الامر بالطبيعة كما لا يخفى (ثم) لا يذهب عليك أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية - على ما حكاه السكاكي - لا يوجب كون النزاع ههنا في الهيئة - كما في الفصول - فانه غفلة وذهول عن أن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتفاق على أن مادة الصيغة لا تدل إلا على الماهية، ضرورة أن المصدر ليس مادة لسائر المشتقات بل هو صيغة مثلها

______________________________

الهيئة موضوعة وضع الحروف للنسبة الخاصة والمادة موضوعة لصرف الماهية لا بشرط، وكل من المرة والتكرار خارج عن مدلولهما (قوله: لحصول الامتثال) إذ الامتثال يحصل بوجود المأمور به فإذا كان المأمور به صرف الطبيعة وكان يتحقق بالمرة كانت امتثالا للامر، ومنه يظهر بطلان استدلال القائل بالمرة بصدق الامتثال بها (قوله: لا يذهب عليك) قال في الفصول: الحق أن هيئة الامر لا دلالة لها على مرة ولا على تكرار... إلى أن قال: وانما حررنا النزاع في الهيئة لنص جماعة عليه، ولان الاكثر حرروا النزاع في الصيغة وهي ظاهرة بل صريحة فيها، ولانه لا كلام في أن المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا تدل الا على الماهية من حيث هي على ما حكى السكاكي وفاقهم عليه... الخ فأشكل عليه المصنف (ره) بان الاتفاق على عدم دلالة المصدر المجرد الا على الماهية لا يدل على كون النزاع في المقام في الهيئة لا في المادة إذ المصدر ليس مادة للمشتقات التي منها صيغة الامر بل هو مشتق مثلها، والمادة هي الامر المشترك بينه وبينها حسبما حققه (أقول): ما في الفصول يرجع إلى أمرين أحدهما أن المصدر مادة للمشتقات وثانيهما ان الاتفاق على عدم دلالته على المرة والتكرار يقتضي الاتفاق على عدم دلالة مادة (افعل) عليه ويكون النزاع في مدلول الهيئة أما الاول فيمكن أن يكون جاريا على المشهور، وأما الثاني فلا غبار عليه لان المصدر إذا لم يدل على المرة والتكرار دل ذلك عدم دلالة مادته عليهما فيصح الاستدلال به على عدم دلالة مادة (افعل) عليهما فيلزم الاتفاق على الاول الاتفاق على الاخير (قوله: غفلة وذهول) قد عرفت أنه في محله (قوله: ضرورة أن)

١٨٢

كيف وقد عرفت في باب المشتق مباينة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ؟ فكيف بمعناه يكون مادة لها ؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرة أو التكرار في مادتها كما لا يخفى (إن قلت): فما معنى ما اشتهر من كون المصدر أصلا في الكلام (قلت): - مع أنه محل الخلاف - معناه أن الذى وضع اولا بالوضع الشخصي ثم بملاحظته وضع نوعيا أو شخصيا ساير الصيغ التى تناسبه مما جمعه معه مادة لفظ متصورة في كل منها ومنه بصورة ومعنى كذلك، هو المصدر أو الفعل فافهم (ثم) المراد بالمرة والتكرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والافراد ؟ والتحقيق أن يقعا بكلا المعنيين محل النزاع

______________________________

هذا لا يثبت الاشكال على الفصول إلا من جهة ظهور كلامه في كون المصدر مادة للمشتقات، وقد عرفت إمكان حمله على الاصطلاح المشهوري (قوله: فعليه يمكن) قد عرفت أنه لا يمكن (قوله: مع أنه محل) هذا لا دخل له في دفع السؤال إذ قول الكوفيين: ان الفعل هو الاصل في الاشتقاق أءكد في توجه الاشكال فتأمل (قوله: معناه أن) إذا كان هذا معنى كلامهم فليكن هو معنى كلام الفصول (قوله: جمعه معه) الضمير الاول راجع إلى (ما) التي هي عبارة عن سائر الصيغ والثاني راجع إلى (الذي) ويمكن العكس (قوله: ومعنى) معطوف على قوله: لفظ، يعني ومادة معنى متصورة في كل منها ومنه (قوله: هو المصدر) خبر أن (قوله: أو الفعل فافهم) لعله اشارة إلى وجوب حمل كلامهم على ما ذكر بقرينة دعوى الكوفيين ان الفعل هو الاصل إذ لا يراد منه أن الفعل مادة للمشتقات بالمعنى الحقيقي " ثم " ان الموجود في بعض النسخ الضرب على لفظة: وهو أولى (قوله: الدفعة والدفعات) الفرق بين الدفعة والفرد أن الدفعة تصدق على الافراد المتعددة الموجودة في وقت واحد ولا يصدق عليها أنها فرد واحد، وأن الفرد الموجود تدريجا مثل الكلام الممتد المتصل فرد واحد وليس دفعة فبينهما عموم من وجه كما بين الافراد والدفعات ايضا (قوله: والتحقيق أن يقعا) الذي استظهره في الفصول أن النزاع

١٨٣

وان كان لفظهما ظاهرا في المعنى الاول (وتوهم) أنه لو أريد بالمرة الفرد لكان الانسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي من أن الامر هل يتعلق بالطبيعة أو بالفرد ؟ فيقال عند ذلك: وعلى تقدير تعلقه بالفرد هل يقتضي التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد أو لا يقتضي شيئا منهما ؟ ولم يحتج إلى إفراد كل منهما بالبحث - كما فعلوه - وأما لو أريد بها الدفعة فلا علقة بين المسألتين كما لا يخفى (فاسد) لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا فان الطلب - على القول بالطبيعة - إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج ضرورة أن الطبيعة من حيث هي

______________________________

*

فيهما بالمعنى الاول، ونسب إلى القوانين كونه فيهما بالمعنى الثاني، والظاهر ان مراد المصنف (ره) امكان كون النزاع فيهما بالمعنيين لا تحقق النزاع فيهما بهما معا إذ ليس له وجه ظاهر (قوله: وان كان لفظهما) هذا من القرائن التي اعتمد عليها في الفصول لاثبات ما استظهره (قوله: وتوهم انه لو أريد) هذا التوهم للفصول والباعث له عليه ظهور لفظ الفرد المذكور في المسألتين بمعنى واحد وهو ما يقابل الطبيعة (قوله: فاسد لعدم العلقة) حاصله أن المراد بالفرد هنا غير المراد به في تلك المسألة إذ المراد به في تلك المسألة ما يتقوم بالخصوصية المميزة له عن بقية الافراد والمراد به هنا الوجود الواحد للمأمور به فان كان المأمور به هو الطبيعة يقع النزاع في أن صيغة الامر تدل على وجوب وجود واحد للطبيعة أو وجود متعدد لها أو مطلق وجودها فيتأتى النزاع على القول بتعلق الامر بالطبيعة بعين ما يتأتى به على القول بتعلقه بالفرد، والقرينة على إرادة هذا المعنى من الفرد جعله في قبال الدفعة (قوله: باعتبار وجودها) هذا ذكره المصنف (رحمه الله) تمهيدا لتأتي النزاع على القولين لا ردا على الفصول إذ لم يتوهم خلافه في الفصول كما يشهد به دعواه تأتي النزاع على القولين بناء على كون المراد الدفعة إذ لا يخفى أن القائل بالطبيعة لو كان مراده الطبيعة من حيث هي لا معنى لتأتى النزاع في المقام بكل معنى (قوله: ضرورة ان الطبيعة من) قد يقال: الماهية

١٨٤

ليست الا هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة، وبهذا الاعتبار كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها، أما بالمعنى الاول فواضح، وأما بالمعنى الثاني فلوضوح أن المراد من الفرد أو الافراد وجود واحد أو وجودات، وإنما عبر بالفرد لان وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد غاية الامر خصوصيته وتشخصه - على القول بتعلق الامر بالطبايع - يلازم المطلوب وخارج عنه بخلاف القول بتعلقه بالافراد فانه مما يقومه (تنبيه) لا إشكال - بناء على القول بالمرة - في الامتثال وأنه لا مجال للاتيان بالمأمور به ثانيا على أن يكون أيضا به الامتثال فانه من الامتثال بعد الامتثال (وأما) على المختار من دلالته على طلب الطبيعة من دون دلالة على المرة ولا على التكرار فلا يخلو الحال إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان بل في مقام الاهمال أو الاجمال

______________________________

من حيث هي ليست الا هي، ويراد منه معنى أن كل ما هو خارج عنها فليس هو هي لا عينها ولا جزؤها، وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا موجودة ولا معدومة ولا واحد ولا كثير ولا غيرها، وقد يقال ذلك بمعنى أن الخارج عنها ليس عارضا لها بما هي هي بل بشرط الوجود، ويختص النفي بعوارض الوجود كالكتابة والحركة وبهذا المعنى يقال: الماهية من حيث هي لا كاتبة ولا متحركة ولا لا كاتبة ولا لا متحركة، فان الكتابة لما كانت في الرتبة اللاحقة للوجود كان نقيضها هو العدم في الرتبة اللاحقة له أيضا لوحدة رتبة النقيضين فجاز ارتفاع النقيضين في غير تلك الرتبة وحيث أن الطلب ليس من عوارض الماهية من حيث هي بل بشرط الوجود صح أن يقال: الماهية من حيث هي لا مطلوبة ولا لا مطلوبة فتأمل (قوله: وبهذا الاعتبار) أي اعتبار الوجود (قوله: في الامتثال) يعني يتحقق بالمرة (قوله: من الامتثال بعد الامتثال) يعني وهو ممتنع لان الامتثال فعل المأمور به وبالامتثال الاول يسقط الامر فلا يكون فعله ثانيا امتثالا وسيجئ له

١٨٥

فالمرجع هو الاصل، وإما أن يكون اطلاقها في ذاك المقام فلا اشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال، وإنما الاشكال في جواز ان لا يقتصر عليها فان لازم اطلاق الطبيعة المأمور بها هو الاتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة كما لا يخفى (والتحقيق) أن قضية الاطلاق انما هو جواز الاتيان بها مرة في ضمن فرد أو افراد فيكون ايجادها في ضمنها نحوا من الامتثال كايجادها في ضمن الواحد لا جواز الاتيان بها مرة ومرات فانه مع الاتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الامر فيما إذا كان امتثال الامر علة تامة لحصول الغرض الاقصى بحيث يحصل بمجرده فلا يبقى معه مجال لاتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر أو بداعي أن يكون الاتيانان امتثالا واحدا لما عرفت من حصول الموافقة باتيانها وسقوط الغرض معها وسقوط الامر بسقوطه فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض

______________________________

تتمة (قوله: فالمرجع هو الاصل) يعني الاصل العملي فلو تردد الامر بين الطبيعة والتكرار فالاصل البراءة عن وجوب الزائد على المرة مع تعدد الوجود أما مع اتصاله - بناء على تحقق التكرار به - فاستصحاب الوجوب هو المرجع، ولو تردد بين الطبيعة والمرة فلا أثر للشك، ولو تردد بين المرة والتكرار والطبيعة فالحكم كما لو تردد بين الطبيعة والتكرار، وكذا لو تردد بين المرة والتكرار، وربما يختلف الاصل باختلاف تفسير المرة من حيث كونها لا بشرط أو بشرط لا فلاحظ (قوله: في ذاك المقام) أي في مقام البيان (قوله: في الاكتفاء بالمرة) لصدق الطبيعة على المرة (قوله: في جواز ان لا يقتصر) يعني في جواز الاتيان ثانيا بقصد امتثال الامر لا مجرد الاتيان ثانيا بلا قصد الامر فانه لا ريب في جوازه (قوله: أو مرارا) فيجوز الاتيان ثانيا وثالثا بقصد الامتثال (قوله: فرد أو أفراد) يعني افرادا دفعية (قوله: فانه مع الاتيان بها) هذا تعليل لعدم كون مقتضى الاطلاق جواز الاتيان زائدا على المرة، ومرجعه إلى ابداء المانع العقلي عن ثبوت

١٨٦

كما إذا أمر بالماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال باتيان فرد آخر أحسن منه بل مطلقا كما كان له ذلك قبله على ما يأتي بيانه في الاجزاء (المبحث التاسع) الحق انه لا دلالة للصيغة

______________________________

اطلاق المذكور لان الوجود الاول إذا كان علة تامة لسقوط الغرض كان علة تامة لسقوط الامر ايضا فيمتنع كون الوجود اللاحق موضوعا للامر كي يجوز الاتيان به بقصد امتثال الامر، وإذا امتنع كون الاتيان الثاني موضوعا للامر امتنع ان يكون اطلاق الصيغة شاملا للمرة والمرات " أقول ": يمكن منع الاطلاق المذكور مع قطع النظر عن المانع العقلي وذلك لان اطلاق المادة يقتضي أن يكون المراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق فانه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم فتأمل، وأما المانع الذي ذكره فهو يتوقف على امتناع التخيير بين الاقل والاكثر بكل وجه، وسيأتي الكلام فيه (قوله: كما إذا امر بالماء ليشرب) الغرض من الامر باحضار الماء: تارة يكون مجرد تمكن الآمر من شربه ولا ريب في حصوله بمجرد احضاره، واخرى يكون هو الشرب الفعلي فيشكل الامتثال ثانيا من جهة امتناع بقاء الامر مع حصول موضوعه الذي هو صرف الاحضار، فلا بد اما من الالتزام بأن موضوع الامر ليس مطلق الاحضار بل الاحضار المترتب عليه الشرب، والباعث على هذا الالتزام لزوم المساواة عقلا بين الغرض وموضوع الامر سعة وضيقا لامتناع التفكيك بينهما، وعليه فلا يتعين الاحضار الحاصل لان يكون مأمورا به الا بعد ترتب الغرض عليه، ولازمه ان المكلف في مقام الامتثال انما يأتي بالاحضار الاول رجاء كونه مأمورا به لا بقصد ذلك، وحينئذ فللمكلف الاتيان ثانيا وثالثا بهذا القصد بعينه ولا يكون فرق بين الوجود الاول وبقية الوجودات اللاحقة في كيفية الامتثال لكن لازم ذلك القول بالمقدمة الموصلة، واما من الالتزام بأن الغرض كما يبعث إلى الامر اولا بالاحضار يبعث ثانيا إلى صرف الاحضار المنطبق على بقاء الفرد الاول واحضار فرد آخر إذ لا يتعين للدخل في

١٨٧

لا على الفور ولا على التراخي (نعم) قضية إطلاقها جواز التراخي والدليل عليه تبادر طلب ايجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقيدها باحدهما فلا بد في التقييد من دلالة أخرى كما ادعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية، وفيه منع الضرورة أن سياق آية: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية: (واستبقوا الخيرات) انما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخير من دون استتباع تركهما للغضب والشر ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما أنسب كما لا يخفى " فافهم " مع لزوم كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها فلا بد من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ولا يبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق وكان ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه ارشادا إلى ذلك كالآيات والروايات الواردة في البعث على اصل الاطاعة فيكون الامر فيها لما يترتب على المادة بنفسها ولو لم يكن

______________________________

الغرض الفرد الاول بخصوصه بمجرد وجوده بل كما لم يتعين أولا قبل وجوده لم يتعين بعد وجوده، ولازم ذلك الالتزام باوامر طولية بحسب الزمان مادام الغرض باقيا ويكون المراد من بقاء الامر هذا المعنى لا بقاء الامر الشخصي بحدوده لامتناع بقائه بحصول موضوعه فتأمل جيدا.

الفور والتراخى

(قوله: لا على الفور ولا على) كما هو المشهور وعن الشيخ (ره) وجماعة القول بالفور، وعن السيد (ره) الاشتراك بين الفور والتراخي، وعن آخرين التوقف، والتحقيق الاول ويظهر ذلك بملاحظة ما تقدم في المرة والتكرار (قوله: قضية اطلاقها) يعني اطلاق المادة بالاضافة إلى الزمان (قوله: تبادر طلب) يعني ولو كان الوجه في التبادر مقدمات الاطلاق (قوله: ضرورة ان تركهما) يعني أن ظاهر تعليق المسارعة والاستباق بالمغفرة والخير كون تركهما

١٨٨

هناك أمر بها كما هو الشأن في الاوامر الارشادية " فافهم " (تتمة) بناء على القول بالفور فهل قضية الامر الاتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الاتيان به فورا ايضا في الزمان الثاني أولا ؟ وجهان مبنيان على أن مفاد الصيغة - على هذا القول - هو وحدة المطلوب

______________________________

لا ينافي تحقق المغفرة والخير كما هو الحال في كل فعل متعلق بمفعوله، ولازم ذلك عدم وجوب المسارعة والاستباق والا كان تركهما موجبا للغضب والشر كما هو شأن ترك الواجب وهو خلف، بل كان الانسب حينئذ أن يقال: احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق، لا التعبير بما في الآية، إلا أن يقال: ان الغضب الحاصل بترك المسارعة لا يضاد المغفرة التي هي موضوع المسارعة فوجوب المسارعة لا ينافي كون تركها لا يؤدي إلى الغضب بل إلى المغفرة، وكذا الحال في الآية الاخرى، ولكن هذا لو سلم لا ينافي ظهور السياق فيما ذكره المصنف (ره) فتأمل جيدا (والاولى) أن يقال: المغفرة في الآية الاولى يراد منها سببها وهو الاطاعة وكما يمتنع اخذ الاطاعة قيدا للواجب الشرعي يمتنع أخذ المسارعة إليها كذلك وكما أن الامر بالاطاعة ارشادي كذلك الامر بالمسارعة فيها، مع أن الآية على تقدير دلالتها على وجوب المسارعة لا تدل على تقييد الواجب بالفورية بل هي على خلاف ذلك أدل لان مادة المسارعة إلى الشئ إنما تكون فيما هو موسع كما لا يخفى، وكذا الحال في الآية الاخرى على تقدير كون المراد من الخيرات الخيرات الاخروية كما هو الظاهر، ولعله إلى بعض ما ذكرنا اشار بقوله: فافهم (قوله: الارشادية فافهم) لعله اشارة إلى لزوم الالتزام به لما عرفت، (قوله: فهل قضية الامر) ينبغي ان يجعل الاحتمال ثلاثي الاطراف فيقال: هل ظاهر الامر الاتيان به فورا فلو تركه عصى وسقط الامر أو الاتيان به فورا على نحو لو تركه في الزمان الاول عصى في ترك الفورية وبقي الامر بصرف الطبيعة أو الاتيان به فورا ففورا فلو تركه في الزمان الاول عصى ووجب الاتيان به بعد ذلك

١٨٩

أو تعدده ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده فتدبر جيدا

الفصل الثالث

الاتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى الاجزاء في الجملة بلا شبهة، وقبل الخوض في تفصيل المقام وبيان النقض والابرام ينبغي تقديم أمور (أحدها) الظاهر ان المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذى ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعا

______________________________

فورا أيضا... وهكذا، ومبنى الاحتمال الاول ان الفورية في الزمان الاول مقومة لاصل المصلحة فتفوت بفوتها وهذا هو المراد من وحدة المطلوب، ومبنى الثاني ان يكون مصلحتان احداهما قائمة بذات الفعل مطلقا والاخرى قائمة بالفورية في الزمان الاول لا غير، ومبنى الثالث كذلك الا ان مصلحة الفورية ذات مراتب مختلفة يكون ترك الفورية في كل زمان مفوتا لمرتبة من مصلحتها لا لاصلها كما هو مبنى الثاني (قوله: أو تعدده) قد عرفت ان تعدده على نحوين يكونان مبنيين لاحتمالين (قوله: لو قيل بدلالتها على) اما لو كان الدليل على الفورية غير الصيغة فيختلف باختلاف تلك الادلة، وفي المعالم بنى القول بالسقوط على الاستناد لغير الآيتين والقول بعدمه على الاستناد اليهما، ولا يخلو من تأمل ليس هذا محل ذكره والله سبحانه اعلم، ثم انه حيث كان اطلاق يعتمد عليه في نفي الفور والتراخي فلا اشكال واما إذا لم يكن اطلاق كذلك فالمرجع الاصل فلو كان التردد بين الفور والتراخي فالواجب الجمع بين الوظيفتين للعلم الاجمالي بالتكليف باحدهما، ولو كان بين الفور والطبيعة فالمرجع اصل البراءة لو كان وجوب الفورية على نحو تعدد المطلوب ولو كان بنحو وحدة المطلوب فالحكم هو الحكم مع الشك بين الاقل والاكثر، وكذا الحكم لو كان التردد بين الطبيعة والتراخي والله سبحانه أعلم

١٩٠

وعقلا مثل أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا فانه عليه يكون (على وجهه) قيدا - توضيحيا - وهو بعيد - مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على المختار كما تقدم من ان قصد القربة من كيفيات الاطاعة عقلا لا من قيود المأمور به شرعا، ولا الوجه المعتبر عند بعض الاصحاب فانه - مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات، لا وجه لاختصاصه به بالذكر على تقدير الاعتبار فلا بد من ارادة ما يندرج فيه من المعنى وهو ما ذكرناه كما لا يخفى

______________________________

الكلام في الاجزاء

(قوله: مثل ان يؤتى به) بيان للنهج اللازم عقلا بناء على خروج قصد التقرب عن موضوع الامر (قوله: لا خصوص) معطوف على النهج وفيه تعريض بما قد يظهر من عبارة التقريرات فتأملها (قوله: قيدا توضيحيا) لان ذكر المأمور به يغني عنه ثم إن كون القيد توضيحيا لازم للقائلين بأن قصد التقرب داخل في المأمور به (قوله: مع انه يلزم خروج) إذ لا إشكال في عدم الاجزاء لو كان المأمور به في العبادات فاقدا لقصد التقرب وان كان واجدا لجميع ما يعتبر فيه شرعا (قوله: بناء على المختار) أما على القول بكون قصد التقرب قيدا للمأمور به فهي داخلة في محل النزاع لدخولها في العنوان ويكون عدم الاجزاء مع فقد التقرب لعدم الاتيان بالمأمور به شرعا (قوله: ولا الوجه المعتبر) يعني الوجوب والندب (قوله: عند المعظم) فلا وجه لذكره في العنوان في كلام المعظم إلا أن يكون المقصود من ذكره الاحتياط في ذكر القيود لكنه بعيد (قوله: لا مطلق الواجبات) فلا وجه لاخذه قيدا في دعوى الاجزاء مطلقا (قوله: لاختصاصه) يعني من دون سائر القيود المعتبرة في الاطاعة مثل التقرب والتمييز إلا أن يدعى الاكتفاء به عنهما على بعض

١٩١

(ثانيها) الظاهر ان المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحو العلية والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الاتيان لا إلى الصيغة (ان قلت): هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره وأما بالنسبة إلى أمر آخر كالاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهرى بالنسبة إلى الامر الواقعي فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره بنحو يفيد الاجزاء أو بنحو آخر لا يفيده (قلت): نعم لكنه لا ينافى كون النزاع فيها كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم غايته ان العمدة في سبب الاختلاف فيهما انما هو الخلاف في دلالة دليلهما هل انه على نحو يستقل العقل بان الاتيان به موجب للاجزاء ويؤثر فيه وعدم دلالته، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه في الاجزاء بالاضافة إلى أمره فانه لا يكون الا كبرويا لو كان هناك نزاع

______________________________

التقادير فتأمل (قوله: المراد من الاقتضاء ههنا) الواقع في القوانين والفصول وغيرهما في تحرير العنوان قولهم: الامر بالشئ هل يقتضي الاجزاء أولا ؟، وحيث أن ظاهر الاقتضاء فيه الكشف والدلالة كما في قولهم: الامر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي التحريم، نبه المصنف (ره) على ان الاقتضاء في العنوان المذكور في المتن ليس بمعنى الكشف والدلالة بل بمعنى العلية والتأثير كما في قولهم: الامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والوجه في ذلك نسبة الاقتضاء في عنوان المتن إلى الاتيان وفي عنوان غيره إلى الامر وحيث أنه لا معنى لتأثير الامر في الاجزاء وجب حمله على الدلالة يعني يدل الامر على أن موضوعه واف بتمام المصلحة بخلاف الاتيان فان تأثيره في الاجزاء ظاهر إذ لولا كونه علة لحصول الغرض لما كان مامورا به (قوله: هذا إنما يكون) يعني أن حمل الاقتضاء على العلية إنما يصح بالاضافة إلى نفس الامر المتعلق بالماتي فان إجزاءه يلازم سقوط امره لا بالنسبة إلى الامر المتعلق بغيره إذ النزاع في الحقيقة يكون في دلالة الدليل فالاقتضاء فيه بمعنى الدلالة (قوله: نعم) يعني كما ذكرت من أن النزاع في دلالة الدليل (قوله: صغرويا) صورة القياس في المقام هكذا: المأمور به

١٩٢

كما نقل عن بعض (فافهم) (ثالثها) الظاهر ان الاجزاء ههنا بمعناه لغة وهو الكفاية وان كان يختلف ما يكفى عنه فان الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي يكفى فيسقط به التعبد به ثانيا، وبالامر الاضطراري أو الظاهرى الجعلي فيسقط به القضاء لا انه يكون ههنا اصطلاحا بمعنى اسقاط التعبد أو القضاء فانه بعيد جدا

______________________________

*

بالامر الاضطراري مأمور به بالامر الواقعي - ولو تنزيلا - والمامور به بالامر الواقعي يقتضي الاجزاء، ينتج: المأمور به بالامر الاضطراري يقتضي الاجزاء. والنزاع في هذه المسألة بالنسبة إلى الامر الواقعي في الكبرى وبالنسبة إلى الامر الاضطراري في الصغرى بالنسبة إلى الامر الواقعي، وفي الكبرى بالنسبة إلى أمر نفسه والمحكم في الكبرى مطلقا العقل والمحكم في الصغرى الدليل الشرعي فإذا كان الاقتضاء في الكبرى بمعنى العلية كان في النتيجة كذلك، ومنه يظهر أن إثبات الاجزاء في الفعل الاضطراري والظاهري بالنسبة إلى الامر الواقعي يتوقف على إثبات الصغرى والكبرى معا، وفي الفعل الواقعي على اثبات نفس الكبرى لانه عينها (قوله: فافهم) يمكن ان يكون اشارة إلى ان النزاع في مثل هذه الصغرى ليس نزاعا في المسألة الاصولية لان شأن المسائل الاصولية تنقيح الكبريات وأما الصغريات فوضيفة الفقيه، ولذا لم يتعرض في هذا المبحث لصغريات الافعال الاضطرارية والظاهرية تفصيلا فلاحظ (قوله: الظاهر ان الاجزاء) قد تضمنت جملة من العبارات كون الاجزاء له معنيان (احدهما) إسقاط التعبد بالفعل ثانيا (وثانيهما) إسقاط القضاء، وأن المراد هنا أي المعنيين ؟ وقد دفع المصنف (ره) ذلك - تبعا للتقريرات - بان لفظ الاجزاء لم يستعمل في المقام إلا بمعناه اللغوي وهو الكفاية غاية الامر أن ما يكفي عند الماتي به تارة يكون هو التعبد به ثانيا فيكون مسقطا للتعبد به واخرى الامر به قضاء فيكون مسقطا للقضاء لا أن له معنى اصطلاحيا ليتردد في أنه إسقاط التعبد أو إسقاط القضاء (قوله: يكفي فيسقط) يعنى يكفي في حصول الغرض فلا يحتاج إلى التعبد به ثانيا لتحصيله (قوله: فيسقط به) يعنى يكفي أيضا في حصول

١٩٣

(رابعها) الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى، فان البحث ههنا في ان الاتيان بما هو المأمور به يجزئ عقلا بخلافه في تلك المسألة فانه في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها أو بدلالة اخرى (نعم) كان التكرار عملا موافقا لعدم الاجزاء لكنه لا بملاكه، وهكذا الفرق بينها وبين مسألة تبعية القضاء للاداء فان البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها بخلاف هذه المسألة فانه كما عرفت في ان الاتيان بالمأمور يجزئ عقلا عن اتيانه ثانيا اداء أو

______________________________

*

الغرض فلا يثبت الامر بالقضاء ثم إن إجزاء المأمور به الواقعي لما كان بلحاظ الامر به ناسب التعبير باسقاط التعبد به ثانيا وإجزاء المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري لما كان بلحاظ الامر به قضاء ناسب التعبير باسقاط القضاء (قوله: الفرق بين هذه) قد يتوهم أن القول بالمرة قول بالاجزاء والقول بالتكرار قول بعدم الاجزاء (قوله: بما هو المأمور به) يعني بعد الفراغ عن تعيين تمام المأمور به (قوله: فانه في تعيين) وحينئذ فيكون النزاع في الاجزاء مترتبا على النزاع في المرة والتكرار لا أن النزاع فيهما نزاع في الموضوع والنزاع فيه نزاع في الحكم (قوله: بحسب دلالة) يعني فيكون النزاع في أمر لفظي (قوله: عملا) متعلق بقوله: موافقا، يعني هما من حيث العمل سواء لكنه موقوف على أن المراد بالتكرار فعل كل فرد ممكن بعد آخر أما لو كان المراد ما يشمل تكرار الصلاة اليومية وصوم رمضان كما يقتضيه استدلال بعضهم فلا ملازمة بينهما عملا ثم إن هذا بالنسبة إلى أمره أما بالنسبة إلى أمر غيره فلا مجال للتوهم ولا للموافقة عملا (قوله: لا بملاكه) إذ ملاك عدم الاجزاء عدم وفاء المأمور به بالغرض المقصود منه وملاك التكرار عدم حصول تمام المأمور به (قوله: وهكذا الفرق) يعني قد يتوهم أن القول بعدم الاجزاء عين القول بتبعية القضاء للاداء، والقول بالاجزاء قول بعدم تبعية القضاء للاداء (قوله: فان البحث حينئذ) يعني أن البحث في تبعية القضاء للاداء بحث في ان الامر بشئ في وقت

١٩٤

قضاء أولا يجزئ فلا علقة بين المسألة والمسئلتين اصلا (إذا) عرفت هذه الامور فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين (الاول) أن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي بل بالامر الاضطراري أو الظاهري أيضا يجزئ عن التعبد به ثانيا، لاستقلال العقل بانه لا مجال مع موافقة الامر باتيان المأمور به على وجهه لاقتضائه التعبد به ثانيا. نعم لا يبعد ان يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا لا منضما إليه كما اشرنا إليه في المسألة السابقة، وذلك فيما علم ان مجرد امتثاله لا يكون علة تامة لحصول الغرض وان كان وافيا به لو اكتفى

______________________________

*

هل يدل على لزوم فعله في خارج الوقت على تقدير عدم الاتيان به في الوقت بحيث يرجع إلى الامر به مطلقا لكونه في الوقت أولا يدل ؟ فيكون النزاع في تعيين المأمور به من حيث دلالة الامر، وأين هو من النزاع في المسألة ؟ (قوله: فلا علقة بين) أولا من جهة أن إحداهما متضمنة لتعيين نفس المأمور به والاخرى متضمنة لتعيين مقتضاه (وثانيا) من جهة أن النزاع في إحداهما لفظي وفى الاخرى عقلي " وثالثا " من جهة ان القول بعدم الاجزاء انما في ظرف الاتيان بالمأمور به والقول بالتبعية انما هو في ظرف عدم الاتيان به (قوله: بالامر الاضطراري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: أو الظاهري) يعني بالاضافة إلى أمره (قوله: لاستقلال العقل بأنه) قد عرفت أن الامر الحقيقي لابد ان يكون حاكيا عن الارادة وأن الارادة حدوثا وبقاء تتوقف على العلم بالمصلحة المعبر عنها بالداعي تارة وبالغرض أخرى فالماتي به في الخارج إما أن لا يترتب عليه الغرض فلا يكون مامورا به فهو خلف أو يترتب عليه الغرض فبقاء الامر حينئذ إن كان بلا غرض فهو مستحيل كما عرفت وان كان عن غرض آخر غير الغرض الحاصل من الماتي به أولا فيلزمه أن يكون المأمور به فردين في الخارج يترتب على كل منهما غرض خاص فيكون الامر منحلا إلى أمرين يسقط كل منهما بالاتيان بمتعلقه وهو عين الاجزاء المدعى غاية الامر أنه لا يكون فعل أحدهما مسقطا لامر الآخر ومجزئا عنه ولكنه غير محل الكلام إذ الكلام - كما عرفت - في أن فعل المأمور به مجزئ عن الامر به ثانيا (قوله: لا منضما إليه)

١٩٥

به كما إذا اتى بماء امر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعد فان الامر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ولذا لو اهرق الماء واطلع عليه العبد وجب عليه اتيانه ثانيا كما لم يأت به أولا ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه والا لما اوجب حدوثه فحينئذ يكون له الاتيان بماء آخر موافق للامر كما كان له قبل اتيانه الاول بدلا عنه. نعم فيما كان الاتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع التبديل كما إذا أمر باهراق الماء في فمه لرفع عطشه فاهرقه، بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل فله التبديل باحتمال ان لا يكون علة فله إليه السبيل، ويؤيد ذلك بل يدل عليه ما ورد من الروايات في باب اعادة من صلى فرادى جماعة وان الله تعالى يختار احبهما إليه (الموضع الثاني) وفيه مقامان (المقام الاول) في ان الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري هل يجزئ عن الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت اعادة وفى خارجه قضاء أولا يجزئ ؟ تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه (تارة) في بيان ما يمكن ان يقع عليه الامر الاضطراري من الانحاء وبيان ما هو قضية كل منها من الاجزاء وعدمه (وأخرى) في تعيين ما وقع عليه فاعلم انه يمكن

______________________________

*

قد يمكن أن يكون منضما إليه كما في الافراد الدفعية التى تكون امتثالا واحدا لعدم المرجح. فتأمل (قوله: وجب عليه) يعني بعين وجوبه أولا كما تقدم الكلام فيه (قوله: بدلا عنه) قد عرفت أنه يمكن أن يكون منضما إليه (قوله: فلا يبقى موقع) إذ الثاني مما يعلم بعدم ترتب الاثر عليه (قوله: ما ورد من الروايات) كرواية أبي بصير قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أصلي ثم أدخل المسجد فتقام الصلاة وقد صليت فقال (عليه السلام): صل معهم يختار الله أحبهما إليه، ورواية هشام عنه (عليه السلام): في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة قال (عليه السلام): يصلي معهم ويجعلها الفريضة انشاء الله، ونحوها رواية حفص، وفي مرسلة الصدوق: يحسب له أفضلهما وأتمهما

١٩٦

ان يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة وكافيا فيما هو المهم والغرض ويمكن ان لا يكون وافيا به كذلك بل يبقى منه شئ امكن استيفاؤه أو لا يمكن، وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه أو يكون بمقدار يستحب، ولا يخفى انه ان كان وافيا به فيجزئ فلا يبقى مجال اصلا للتدارك لا قضاء ولا اعادة، وكذا لو لم يكن وافيا ولكن لا يمكن تداركه ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة الا لمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الاهم فافهم

______________________________

الامر الاضطراري

(قوله: ان يكون التكليف) يعني موضوعه (قوله: كالتكليف الاختياري) يعني كموضوعه (قوله: وما أمكن كان) يعني أن المقدار الباقي من المصلحة الذي يمكن استيفاؤه قسمان فانه تارة يكون واجب التدارك وأخرى يكون مستحب التدارك (أقول): ما لا يمكن استيفاؤه ايضا قسمان تارة يكون محرم التفويت وأخرى لا يكون كذلك فالاقسام خمسة وإنما لم يتعرض للقسمين المذكورين لعدم اختلافهما في الاجزاء وإن كانا يختلفان في جواز البدار وعدمه (قوله: ولا يخفى) شروع في حكم الاقسام من حيث الاجزاء (قوله: اصلا للتدارك) لان التدارك إنما يكون في ظرف الفوت والمفروض عدمه (قوله: ولا يكاد يسوغ) يعني حيث يكون الفائت مما يحرم تفويته أما إذا لم يكن فلا تحريم للبدار كما أن نسبة التحريم إلى البدار لا تخلو من مسامحة إذ المحرم هو تفويت ذلك المقدار والبدار ليس تفويتا ولا مقدمة له وإنما هو ملازم له فلا ينسب إليه التحريم إلا بالعرض والمجاز ولذا لم تفسد العبادة، ولعله إلى هذا اشار بقوله: فافهم (قوله: إلا لمصلحة) يعني إذا كانت مصلحة في البدار تصلح لمزاحمة المقدار الفائت لم يحرم التفويت الملازم للبدار حينئذ (قوله: لما فيه من)

١٩٧

(لا يقال): عليه فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار لامكان استيفاء الغرض بالقضاء (فانه يقال): هذا كذلك لولا المزاحمة بمصلحة الوقت، وأما تسويغ البدار أو ايجاب الانتظار في الصورة الاولى فيدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقا أو بشرط الانتظار أو مع اليأس عن طرؤ الاختيار ذا مصلحة ووافيا بالغرض، وان لم يكن وافيا وقد امكن تدارك الباقي في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء خارج

______________________________

تعليل لعدم جواز البدار لكن عرفت أن البدار لا تفويت فيه لغرض المولى وإنما هو يلازم التفويت (قوله: فلا مجال لتشريعه) يعني إذا كان البدل الاضطراري غير واف بمصلحة المبدل الاختياري كيف جاز تشريعه ولو في آخر الوقت ؟ لان في تشريعه تفويتا للمصلحة (قوله: هذا كذلك) (أقول): تشريع الاضطراري إنما جاز لاشتماله على المصلحة مع عدم كونه مقدمة للتفويت فالمنع عن تشريعه غير ظاهر الوجه الا ان يكون المراد من تشريعه الامر بفعله في الوقت أو الاذن كذلك الملازمين للاذن في التفويت (قوله: لولا المزاحمة) يعنى انما يكون تفويت التشريع ممنوعا عنه حيث يؤدي إلى تفويت المصلحة مع عدم مزاحمتها بمصلحة أخرى وإلا فلو فرض كون خصوصية الفعل في الوقت مشتملة على مصلحة تزاحم المقدار الفائت لم يكن مانع عن تشريعه كما تقدم مثل ذلك في جواز البدار ثم إنه حيث كان في خصوصية الوقت مصلحة يتدارك بها ما يفوت جاز البدار أول الوقت إذا علم الاضطرار في تمام الوقت ولا موجب للانتظار فتأمل (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما كان الاضطراري فيها وافيا بتمام المصلحة (قوله: الاضطرار مطلقا) وعليه يجوز البدار مطلقا (قوله: أو بشرط الانتظار) وعليه فلا يجوز البدار (قوله: أو مع اليأس) فلا يجوز البدار الا مع اليأس ثم إن هذه الاقسام لا تختص بالصورة الاولى بل تجري في الثانية أيضا إذ قد تكون خصوصية الوقت مطلقا ذات مصلحة تزاحم المقدار الفائت. وقد تكون بشرط الانتظار، وقد تكون بشرط اليأس وقد يكون بغير ذلك فيتبع كلا حكمه (قوله: وان لم يكن وافيا)

١٩٨

الوقت فان كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزئ فلا بد من ايجاب الاعادة أو القضاء وإلا فاستحبابه ولا مانع عن البدار في الصورتين غاية الامر يتخير في الصورة الاولى بين البدار والاتيان بعملين العمل الاضطراري في هذا الحال والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار أو الانتظار والاقتصار باتيان ما هو تكليف المختار، وفي الصورة الثانية يتعين عليه استحباب البدار واعادته بعد طروء الاختيار. هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطراري من الانحاء، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فان لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) وقوله (عليه السلام): (التراب أحد الطهورين ويكفيك عشر سنين) هو الاجزاء وعدم وجوب الاعادة أو القضاء ولا بد في ايجاب الاتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (وبالجملة):

______________________________

*

معطوف على قوله: إن كان وافيا (قوله: فلا بد من ايجاب) لاجل تدارك الباقي (قوله: والا فاستحبابه) الظاهر أن أصل العبارة: والا فيجزئ، بمعنى عدم وجوب الاعادة والقضاء وان كان يستحب (قوله: ولا مانع عن) إذ لا تفويت فيهما (قوله: في الصورة الاولى) وهي ما يكون الباقي فيها مما يجب تداركه (قوله: وفى الصورة الثانية) وهي ما كان الباقي فيها مما يستحب تداركه (قوله: استحباب البدار) هذا الاستحباب بنحو الكلية غير ظاهر الوجه إلا أن يستند فيه إلى مثل آيتي المسارعة والاستباق فتأمل (قوله: وأما ما وقع عليه) التعرض لذلك ينبغي أن يكون في الفقه لا هنا إذ ليس لدليله ضابطة كلية فقد يختلف الدليل باختلاف قرينة الحال أو المقال من حيث الدلالة على الوفاء وعدمه وكأن مقصود المصنف (ره) الاشارة إلى ما يكون كالانموذج لادلة البدل الاضطراري (قوله: هو الاجزاء) أما اقصاء ما كان بلسان البدلية مثل: أحد الطهورين، ونحوه فظاهر، فان اطلاق البدلية يقتضي قيام البدل مقام المبدل منه بلحاظ جميع الآثار والخواص فلا بد من أن يفى بما يفي به المبدل من المصلحة بمرتبتها ويترتب عليه الاجزاء " فان قوله ": هذا الاطلاق

١٩٩

وان كان ثابتا الا انه معارض باطلاق دليل المبدل منه فانه يقتضي تعينه في جميع الاحوال ولازمه وجوب حفظ القدرة عليه الكاشف عن عدم وفاء البدل بمصلحته والا جاز تفويت القدرة عليه، وكما يمكن الجمع بينهما برفع اليد عن اطلاق دليل المبدل فيحمل على تعينه في ظرف القدرة عليه جاز رفع اليد عن اطلاق دليل البدل فيحمل على وفائه ببعض مراتب المصلحة التي يفي بها المبدل واذ لا مرجح يرجع إلى الاصل ويسقط الاطلاق عن المرجعية " قلت ": نسبة دليل البدل إلى دليل المبدل منه نسبة الحاكم إلى المحكوم لانه ناظر إليه موسع لموضوعه فيجب تقديمه عليه وجوب تقديم الحاكم على المحكوم. هذا كله بالنظر إلى طبع الكلام نفسه أما بملاحظة كون البدلية في حال الاضطرار فلا يبعد كون مقتضى الجمع العرفي كون البدل من قبيل الميسور للتام ولاجل ذلك نقول: لا يجوز تعجيز النفس اختيارا لانه تفويت للتام، فتأمل جيدا. وأما ما كان بلسان الامر فقد يشكل اطلاقه المقتضي للاجزاء إذ الامر انما يدل على وفاء موضوعه بمصلحة مصححة للامر به أما أنها عين مصلحة المبدل أو بعضها فلا يدل عليه الامر ولا يصلح لنفي وجوب الاعادة أو القضاء. نعم لو كان المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في حصول الغرض المترتب على الاختياري مع عدم الامر بالاعادة أو القضاء أمكن الحكم بالاجزاء حينئذ اعتمادا على هذا الاطلاق المقامي المقدم على اطلاق دليل المبدل للحكومة، أو كون الامر واردا مورد جعل البدل فيجري فيه ما تقدم، اللهم إلا أن يقال: دليل المبدل ظاهر في التعيين في حال التمكن وعدمه ودليل البدل ظاهر في تعينه في حال عدم التمكن من المبدل وهما متنافيان للعلم بعدم تعينهما معا فيدور الامر (بين) رفع اليد عن ظهور دليل البدل في التعيين ودليل المبدل فيه بالاضافة إلى بعض مراتب المصلحة ولازمه الحكم بتعين المبدل في تحصيل تمام مرتبة الغرض والتخيير بينه وبين البدل في تحصيل بعضها ويترتب عليه عدم الاجزاء (وبين) رفع اليد عن اطلاق دليل المبدل بالاضافة إلى حالتي التمكن وعدمه وحيث أن الثاني أقرب يكون هو المتعين ولازم ذلك اشتراط وجوب المبدل بحال التمكن فيترتب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

١ ـ أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي من أعاظم علماء الإمامية في المائة الرابعة ، أخرج الخطبة في كتابه دلائل الإمامة(١) بستة أسانيد تنتهي إلى ابن عباس ، وإلى زينب بنت أمير المؤمنين ، وإلى عبد الله بن الحسن بن الحسن عن آبائه ، وإلى زيد بن علي عن آبائه.

٢ ـ الشريف المرتضى ( ت ٣٤٦ ه‍ ) أخرج بروايته عن المرزباني ، وهو رواها من طريقين أحدهما ينتهي إلى عروة بن الزبير عن عائشة ، والآخر عن أبي العيناء عن ابن عائشة البصري ، كما في الشافي(٢) .

٣ ـ الشيخ الطوسي ( ت٤٦٠ ه‍ ) أخرج الخطبة برواية شيخه المرتضى المتقدّم ، ذكره في كتابه تلخيص الشافي(٣) .

٤ ـ الشيخ الطبرسي ( من أعلام القرن السادس ) روى الخطبة في كتابه الاحتجاج على أهل اللجاج(٤) .

٥ ـ الشيخ علي بن عيسى الإربلي ( ت ٦٩٢ ه‍ ) روى الخطبة في كتابه كشف الغمة(٥) ، وهو نقلها عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروء ة على مؤلّفها في ربيع الآخر سنة ( ٣٢٢ ه‍ ) كما مرّ. وهناك مصادر أخرى كثيرة ، وقد تناولها جمع بالشروح والتعليق راجع بشأنها كتاب الذريعة.

__________________

(١) دلائل الإمامة : ٣١ ـ ٣٩.

(٢) الشافي : ٢٣٠.

(٣) تلخيص الشافي ٣ : ١٣٩ ـ ١٤٥.

(٤) الاحتجاج على أهل اللجاج : ٦١ ـ ٦٦.

(٥) كشف الغمة ١ : ٤٥٣ ـ ٤٦٦.

٥٢١

موقف الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يومئذٍ :

لما كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد تقدم إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بما سيجري عليه من بعده ، وما سيلاقيه من العتاة من غصبهم مقامه ، وأنّ الأمة ستغدر به وتعصي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أوامره باتباعها له ، وأنّها ستنكر ولايته وإمامته ، وعيّن له ما يجب عليه القيام من بعده إتماماً لجهوده في إقامة دينه ، وأنّ عليه أن يصبر على ذهاب حقه في سبيل الحفاظ على شريعته ، فقد روى أحمد في مسنده(١) ، بسنده عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) : ( انّه سيكون بعدي اختلاف أو أمر ، فإن استطعت أن تكون السَلَم فافعل ).

وعليه أن يعامل المستحوذين على حقه معاملة المسلمين ما داموا ينطقون بالشهادتين ، وقد جاء في نهج البلاغة(٢) : ومن كلام لهعليه‌السلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم ، جاء فيه :

وقام إليه رجل وقال : أخبرنا عن الفتنة ؟ وهل سألت عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقالعليه‌السلام :« لما أنزل الله سبحانه قوله : ( الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (٣) ، علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها ؟ فقال : يا علي إنّ أمّتي سيفتنون من بعدي ، فقلت : يا رسول الله ، أوليس [ قد ] قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحيزت عنّي الشهادة فشقّ ذلك علي ، فقلت لي : أبشر فإنّ الشهادة من ورائك ؟ فقال لي : إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذاً ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هنا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر ،

__________________

(١) مسند أحمد ١ : ٩٠.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ٦٤ ، الخطبة : ١٥٤ ، شرح محمد عبدة.

(٣) العنكبوت : ١ ـ ٢.

٥٢٢

وقال : يا علي إنّ القوم سيفتنون بعدي بأموالهم ، ويمنّون بدينهم على ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، فقلت : يا رسول الله ، بأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة ؟ فقال : بمنزلة فتنة » .

وهذا يوضّح لنا معنى ما ورد في بعض الآثار والأخبار أنّ الناس كفروا وارتدوا بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ ثلاثة(١) ، وفي رواية لابن حجر عن عمرو بن ثابت(٢) : إلاّ خمسة ، وليس ذلك بمستغرب الوقوع عند من يقرأ قوله تعالى :( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (٣) .

وأقوال الرسول الكريم وهو يخاطب صحابته نحو : ( لا ألفينّكم ترجعون بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض )(٤) . ونحو : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) البخاري ومسلم وغيرهما(٥) .

وفي بعض ألفاظ أحاديث الحوض عنه( صلّى الله عليه وسلّم ) قال : ( ليردنّ عليّ الحوض ممن صاحبني إذا رأيتهم ورفعوا إليّ واختلجوا دوني فلأقولنّ : أي رب أصحابي أصحابي ، فليقالنّ لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب اثبات حوض نبينا( صلّى الله عليه وسلّم ) عن أنس ، وأخرجه أحمد في مسنده(٦) .

__________________

(١) الاختصاص للشيخ المفيد : ٤.

(٢) تهذيب التهذيب ٧ : ١٠ ، ترجمة عمرو بن ثابت ، وقد تحامل عليه مترجموه من العامة لأنه قال : لما مات النبي ( صلّى الله عليه وسلّم ) كفر الناس إلاّ خمسة ، فقالوا فيه ما شاؤوا من تجريح.

(٣) آل عمران : ١٤٤.

(٤) النسائي ٧ : ١٢٨.

(٥) موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف ٧ : ١٠١.

(٦) مسند أحمد ٥ : ٤٨ و ٥٠ عن أبي بكرة و ٣٨٨ ، و ٣٩٣ ، و ٤٠٠ عن حذيفة.

٥٢٣

وجاء في البخاري في كتاب التفسير آخر سورة المائدة باب قوله تعالى :( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ) بسنده عن ابن عباس قال : خطب رسول الله( صلّى الله عليه وسلّم ) : ألا ويجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ؟ فأقول كما قال العبد الصالح :( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (١) ، فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.

وفي البخاري في كتاب الرقاق باب في الحوض بسنده عن أبي هريرة أنّ النبي( صلّى الله عليه وسلّم ) قال : يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيحلؤون عن الحوض ، فأقول : يا رب أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى.

إلى غير ذلك من عشرات الأحاديث والآثار التي تنطق بوقوع ارتداد بعض الصحابة عن الصراط السوي الذي تركهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه ، وأمرهم بالتمسك به كما في حديث الثقلين وغيرهم ، ولكن القوم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها ، فانقلبوا على الأعقاب ، ونبذوا العترة والكتاب من وراء ظهورهم.

فلم ير الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ الصبر على ذهاب حقه حفاظاً على بقاء الإسلام والنداء بالشهادتين ، وفي خطبة الشقشقية ما يكشف عن مدى الألم الذي كان يعتصر قلبه بأبي هو وأمي ، فهو أول مظلوم وأول من غصب حقه ، ولما كانعليه‌السلام لم يجد العدد الكافي الذي يعينه ، صَبَر على شدة المحنة وطول الأذى ، ولم يكن سكوته عن طلب حقه إلا لقلة الناصر ، وهو القائل :« لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم » (٢) .

__________________

(١) المائدة : ١١٧.

(٢) مستدرك سفينة البحار ٤ : ٦٤ ، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٤٧ : « لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم ».

٥٢٤

ولقد كتب إليه معاوية كتابه المشهور جاء فيه اعتراف صريح بأنّ الإمام لم يقعد عن طلب حقه ، وقام بإتمام الحجة على المسلمين يومئذٍ ، فقد جاء في ذلك الكتاب : « وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلاً على حمار ، ويداك في يدي ابنيك الحسن والحسين يوم بويع أبو بكر الصديق ، فلم تدع أحداً من أهل بدر والسوابق إلا دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ، واستنصرتهم على صاحب رسول الله ، فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حرّكك وهيّجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم لناهضت القوم »(١) .

وهذا أيضاً ذكره عمرو بن العاص لمعاوية ـ مذكّراً له بشجاعة الإمام ـ بعد منعه الماء في صفين عن الإمام وجيشه ، فقال عمرو :

خلّ بينهم وبين الماء ، فإنّ عليّاً لم يكن ليظمأ وأنت ريّان ، وفي يده أعنة الخيل ، وهو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت ، وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق ، ومعه أهل العراق وأهل الحجاز ، وقد سمعته أنا وأنت وهو يقول : لو استمكنت من أربعين رجلاً ـ فذكر أمراً ـ يعني لو أنّ معي أربعين رجلاً يوم فتش البيت ، يعني بيت فاطمةعليها‌السلام (٢) .

وكم في أقوال الإمامعليه‌السلام من نفثات ألم وبرم من أولئك الغاصبين حقه ، وما سكوته على مضض إلاّ لقلّة الناصر ، والتزاماً بما رسمه له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يفعله في تلك الحال.

ولقد وردت عن الإمامعليه‌السلام عدّة نصوص تعطينا صورة واضحة عن رأيه في أحداث تلك الفترة وما أعقبها من ملابسات ، وعلى كيفية معالجتها بالأصلح ، اتخذ

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي ٢ : ٤٧.

(٢) وقعة صفّين لنصر بن مزاحم : ١٨٢.

٥٢٥

قراره في تلك الأزمة الخانقة من التعايش مع الزمرة الحانقة ، إذ لم ير يومئذٍ غير ذلك من الحل المناسب ، فلنقرأ ما يقولعليه‌السلام :

« إنّ الله لما قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة ، فرأيت أنّ الصبر أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم ، والناس حديثو عهد بالإسلام ، والدين يمخض مخض الوطب ، يفسده أدنى وهن ، ويعكسه أقلّ خلاف » (١) .

وقالعليه‌السلام :« ولقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّني لم أردّ على الله ولا على رسوله ساعة قط ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال ، وتتأخّر عنها الأقدام ، نجدة أكرمني الله بها ، ولقد بذلت في طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله جهدي ، وجاهدت أعداءه بكل طاقتي ، ووقيته بنفسي ، ولقد أفضى إليّ من علمه بما لم يفضَ به إلى أحد غيري ، ولقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفي فأمررتها على وجهي ، ولقد وليت غسله صلى‌الله‌عليه‌وآله والملائكة أعواني ، فضجّت الدار والأفنية ملأ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلون عليه ، حتى واريناه صلوات الله عليه في ضريحه ، فمن ذا أحق به منّي حيّاً وميّتاً » (٢) .

وقالعليه‌السلام :« لما قبض الله نبيّه وكنّا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه من دون الناس ، لا ينازعنا سلطانه أحد ، ولا يطمع في حقنا طامع ، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبيّنا ، فصار الأمر لغيرنا ، وصرنا سوقة ، يطمع فينا الضعيف ، ويتعزز علينا الذليل ، فبكت منّا الأعين لذلك ، وخشيت الصدور ، وجزعت النفوس » (٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار ٣٢ : ٦٢.

(٢) غرر الحكم للآمدي : ٢٤٣.

(٣) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ١١.

٥٢٦

وقالعليه‌السلام في جواب الأسدي ، وقد سأله كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به ، فقال :« يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين (١) ، تُرسل في غير سدَدَ ، ولك بعد ذمامة الصهر وحق المسألة ، وقد استعلمت فاعلم : أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نَسَباً ، والأشدون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نوطاً (٢) ،فإنّها كانت اثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، والحَكَم الله ، والمعود إليه يوم القيامة ، ودع عنك نهباً صيح في حجراته » (٣) .

وقالعليه‌السلام :« اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطّلة من حدودك ، اللّهم إنّي أول من أناب وسمع وأجاب ، ولم يسبقني إلاّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة » (٤) .

إلى غير ذلك من أقوالهعليه‌السلام التي أوضحت للناس عظيم معاناته ، وفي الشقشقية ، ومثلها في كلامه مع ابن عباس في النخيلة وهو صنو الشقشقية بياناً ولساناً ذكرته في ( موسوعة عبد الله بن عباس ) يفيض ألماً ، وتكاد أحرفه تقطر دماً ، ولم تقصر عن ذلك خطبته التي استعرض فيها حال المسلمين بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى أواخر أيام خلافته ، وقد أجاب فيها على مسائل السائلين في مشهد يوم عظيم.

__________________

(١) الوضين : بطان يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج ، فإذا قلق واضطرب اضطرب الرحل ، فكثر تململ الجمل وقلّ ثباته في سيره.

(٢) النَوط ـ بالفتح ـ : التعلق.

(٣) البيت لامريء القيس الكندي ، وتتمته : وهات حديثاً ما حديث الرواحل ، راجع نهج البلاغة شرح محمد عبدة ٢ : ٧٩ ـ ٨٠.

(٤) نهج البلاغة ( شرح محمد عبدة ) ٢ : ١٩.

٥٢٧

وإلى القارئ نص الخطبة نقلاً عن كنز العمال(١) :

عن يحيى بن عبد الله بن الحسن ، عن أبيه قال : كان علي يخطب فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرني مَن أهل الجماعة ؟ ومَن أهل الفرقة ؟ ومَن أهل السنة ؟ ومَن أهل البدعة ؟

فقال :« ويحك ! أما إذ سألتني فافهم عنّي ، ولا عليك أن لا تسأل عنها أحداً بعدي ، فأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلّوا ، وذلك الحق من أمر الله وأمر رسوله ، فأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ومن اتبعني وإن كثروا ، وأما أهل السنة المتمسكون بما سنّه الله لهم ورسوله وإن قلّوا ، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ورسوله ، العاملون برأيهم وأهوائهم وإن كثروا ، وقد مضى منه الفوج الأول وبقيت أفواج ، وعلى الله قصمها واستئصالها عن جدبة الأرض » .

فقام إليه عمّار فقال : يا أمير المؤمنين ! انّ الناس يذكرون الفيء ويزعمون أنّ قاتلنا ( مقاتلنا ظ ) فهو وماله وأهله فيء لنا وولده ، فقام رجل من بكر بن وائل يدعى عبّاد بن قيس ـ وكان ذا عارضة ولسان شديد ـ فقال : يا أمير المؤمنين ! والله ! ما قسمت بالسوية ، ولا عدلت في الرعية ، فقال علي :« ولم ، ويحك ؟ » قال : لأنّك قسمت ما في العسكر ، وتركت الأموال والنساء والذرية ، فقال عبّاد : جئنا نطلب غنائمنا ، فجاءنا بالترهات ! فقال له علي :« إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتى تدرك غلام ثقيف » .

فقال رجل من القوم : ومَن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين ؟ فقال :« رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها » ، قال : فيموت أو يقتل ؟ قال :« بل يقصمة قاصم الجبّارين ، قتله بموت فاحش يحترق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه ، يا أخا بكر ! أنت امرؤ

__________________

(١) كنز العمّال ٢١ : ١٢٦ ـ ١٣٦.

٥٢٨

ضعيف الرأي ، أما علمت أنّا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير ! وأنّ الأموال كانت لهم قبل الفرقة ، وتزوجوا على رشدة ، وولدوا على الفطرة ، وإنّما لكم ما حوى عسكرهم ، وما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم ، فإن عدا علينا أحد منهم أخذناه بذنبه ، وإن كفّ عنّا لم نحمل عليه ذنب غيره ، يا أخا بكر ! لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل مكة ، قسّم ما حوى العسكر ولم يعرض لما سوى ذلك ، وإنّما اتبعت أثره حذو النعل بالنعل ، يا أخا بكر ! أما علمت أنّ دار الحرب يحل ما فيها ، وأنّ دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق ، فمهلاً مهلاً رحمكم الله ! فإن أنتم لم تصدّقوني وأكثرتم علي ـ وذلك أنّه تكلّم في هذا غير واحد ـفأيّكم يأخذ أمه عائشة بسهمه ؟ » .

قالوا : أينا يا أمير المؤمنين ! بل أصبت وأخطأنا ، وعلمت وجهلنا ، ونحن نستغفر الله ! وتنادى الناس من كل جانب : أصبت يا أمير المؤمنين ! أصاب الله بك الرشاد والسداد ! فقام عمّار فقال : يا أيّها الناس ! إنّكم والله إن اتبعتموه وأطعتموه لم يضلّ بكم من منهاج نبيكم قيد شعرة ، وكيف يكون ذلك وقد استودعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المنايا والوصايا ، وفصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران ، إذ قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » فضلاً خصّه الله به إكراماً منه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أعطاه الله ما لم يعطه أحداً من خلقه.

ثم قال علي :« انظروا رحمكم الله ما تؤمرون به فامضوا له ، فإنّ العالم أعلم بما يأتي من الجاهل الخسيس الأخس ، فإنّي حاملكم ـ إن شاء الله تعالى إن أطعتموني ـ على سبيل الجنة ، وإن كان ذا مشقة شديدة ومرارة عتيدة ، وإنّ الدنيا حلوة ، الحلاوة لمن اغتر بها (١) من الشقوة والندامة عمّا قليل ، ثم إنّي مخبركم أنّ

__________________

(١) بياض في جميع النسخ المطبوعة. ولعل تتمة الكلام حسب السياق ( وسيرى ).

٥٢٩

خيلاً من بني إسرائيل أمرهم نبيهم أن لا يشربوا من النهر ، فلجوا في ترك أمره فشربوا منه إلاّ قليلاً منهم ، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا نبيّهم ولم يعصوا ربّهم ، وأما عائشة فأدركها رأي النساء ، وشيء كان في نفسها عليَّ يغلي في جوفها كالمرجل ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إليَّ لم تفعل ، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى ، والحساب على الله ، يعفو عمن يشاء ويعذب من يشاء » .

فرضي بذلك أصحابه وسلموا لأمره بعد اختلاط شديد ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ! حكمت والله فينا بحكم الله ، غير أنّا جهلنا ومع جهلنا لم نأت ما يكره أمير المؤمنين :

وقال ابن يساف الأنصاري :

إنّ رأياً رأيتموه سفاهاً

لخطأ الايراد والاصدار

ليس زوج النبي تقسم فيئاً

ذاك زيغ القلوب والأبصار

فاقبلوا اليوم ما يقول علي

لا تناجوا بالإثم في الإسرار

ليس ما ضمت البيوت بفيء

إنّما الفيء ما تضم الأوار

من كراع في عسكر وسلاح

ومتاع يبيع أيدي التجار

ليس في الحق قسم ذات نطاق

لا ولا أخذكم لذات خمار

ذاك هو فيئكم خذوه وقولوا

قد رضينا لا خير في الإكثار

إنّها أمكم وإن عظم الخط

‍ب وجاءت بزلّة وعثار

فلها حرمة النبي وحقا

ق علينا من سترها ووقار

ثم قام عبّاد بن قيس وقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن الإيمان ، فقال :« نعم ، إنّ الله ابتدأ الأمور فاصطفى لنفسه ما شاء ، واستخلص ما أحب ، فكان مما أحب أنّه ارتضى الإسلام ، واشتقه من اسمه ، فنحله من أحب من خلقه ، ثم شقّه فسهّل

٥٣٠

شرائعه لمن ورده ، وعزّز أركانه على من حاربه ، هيهات من أن يصطلمه مصطلم ! جعله سلماً لمن دخله ، ونوراً لمن استضاء به ، وبرهاناً لمن تمسّك به ، وديناً لمن انتحله ، وشرفاً لمن عرفه ، وحجة لمن خاصم به ، وعلماً لمن رواه ، وحكمة لمن نطق به ، وحبلاً وثيقاً لمن تعلّق به ، ونجاة لمن آمن به.

فالإيمان أصل الحق ، والحق سبيل الهدى وسيفه جامع الحلية ، قديم العدة ، الدنيا مضماره ، والغنيمة حليته ، فهو أبلج منهاج ، وأنور سراج ، وأرفع غاية ، وأفضل داعية ، لمن سلك قصد الصادقين ، واضح البيان ، عظيم الشأن ، الأمن منهاجه ، والصالحات مناره ، والفقه مصابيحه ، والمحسنون فرسانه ، فعصم السعداء بالإيمان ، وخذل الأشقياء بالعصيان من بعد اتجاه الحجة عليهم بالبيان ، إذ وضح لهم منار الحق ، وسبيل الهدى.

فالإيمان يستدل به على الصالحات ، وبالصالحات يعمر الفقه ، وبالفقه يرهب الموت ، وبالموت يختم الدنيا ، وبالدنيا تخرج الآخرة ، وفي القيامة حسرة أهل النار ، وفي ذكر أهل النار موعظة أهل التقوى ، والتقوى غاية لا يهلك من اتبعها ، ولا يندم من عمل بها ، لأنّ بالتقوى فاز الفائزون ، وبالمعصية خسر الخاسرون ، فليزدجر أهل النهي ، وليتذكّر أهل التقوى ، فإنّ الخلق لا مقصر لهم في القيامة دون الوقوف بين يدي الله ، مرفلين في مضمارها نحو القصبة العليا إلى الغاية القصوى ، مهطعين بأعناقهم نحو داعيها ، قد شخصوا من مستقر الأجداث والمقابر إلى الضرورة أبداً ، لكل دار أهلها ، قد انقطعت بالأشقياء الأسباب ، وأفضوا إلى عدل الجبار ، فلا كرّة لهم إلى دار الدنيا ، فتبرؤوا من الذين آثروا طاعتهم على طاعة الله ، وفاز السعداء بولاية الإيمان.

فالإيمان يا ابن قيس على أربع دعائم : الصبر ، واليقين ، والعدل ، والجهاد ، فالصبر من ذلك على أربع دعائم : الشوق ، والشفق ، والزهد ، والترقب ، فمن اشتاق

٥٣١

إلى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.

واليقين من ذلك على أربع دعائم : تبصرة الفتنة ، تأوّل الحكمة ، ومن تأوّل الحكمة عرف العبرة ، ومن عرف العبرة عرف السنة ، ومن عرف السنة فكأنّما كان في الاولين ، فاهتدى إلى التي هي أقوم.

والعدل من ذلك على أربع دعائم : غائص الفهم ، وغمرة العلم ، وزهرة الحكم ، وروضة الحلم ، فمن فهم فسّر جميع العلم ، ومن علم عرف شرائع الحكم ، ومن عرف شرائع الحكم لم يضل ، ومن حلم لم يفرط أمره ، وعاش في الناس حميداً.

والجهاد من ذلك على أربع دعائم : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والصدق في المواطن ، وشنآن الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق ، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه ، ومن شنأ المنافقين وغضب لله غضب الله له ».

فقام إليه عمّار فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن الكفر على ما بُنيَ كما أخبرتنا عن الإيمان ؟ قال :« نعم يا أبا اليقظان ! بني الكفر على أربع دعائم : على الجفاء ، والعمى ، والغفلة ، والشك ، فمن جفا فقد احتقر الحق ، وجهر بالباطل ، ومقت العلماء ، وأصرّ على الحنث العظيم ، ومن عمي نسي الذكر ، واتبع الظن ، وطلب المغفرة بلا توبة ولا استكانة ، ومن غفل حاد عن الرشد ، وغرّته الأماني ، وأخذته الحسرة والندامة ، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب ، ومن عتا في أمر الله شك ، ومن شك تعالى الله عليه فأذلّه بسلطانه ، وصغّره بجلاله ، كما فرّط في أمره فاغتر بربّه الكريم ، والله أوسع بما لديه من العفو والتيسير ، فمن عمل بطاعة الله اجتلب بذلك ثواب الله ، ومن تمادى في معصية الله ذاق وبال نقمة الله ، فهنيئاً لك يا أبا اليقضان عقبى لا عقبى غيرها ، وجنّات لا جنّات بعدها ! » .

٥٣٢

فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! حدّثنا عن ميّت الأحياء ، قال :« نعم ، إنّ الله تعالى بعث النبيّين مبشرين ومنذرين فصدّقهم مصدقون ، وكذّبَهم مكذبون ، فيقاتلون من كذّبهم بمن صدّقهم ، فيظهرهم الله ثم يموت الرسل ، فتخلف خلوف ، فمنهم منكر للمنكر بيده ولسانه وقلبه ، فذلك استكمل خصال الخير ، ومنهم منكر للمنكر بلسانه وقلبه تارك له بيده ، فذلك خصلتان من خصال الخير تمسك بهما ، وضيّع خصلة واحدة وهي أشرفها ، ومنهم منكر للمنكر بقلبه تارك له بيده ولسانه ، فذلك ضيّع شرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة ، ومنهم تارك له بلسانه وقلبه ويده ، فذلك ميّت الأحياء » .

فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا على ما قاتلت طلحة والزبير ؟ قال :« قاتلتهم على نقضهم بيعتي ، وقتلهم شيعتي من المؤمنين : حكيم بن جبلة العبدي من عبد القيس ، والسائحة (١) ، والأساورة (٢) بلا حق استوجبوه منهما ، ولا كان ذلك لهما دون الإمام ، ولو أنهما فَعلا ذلك بأبي بكر وعمر لقاتلاهما ، ولقد علم مَن ههنا مِن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أبا بكر وعمر لم يرضيا ممن امتنع من بيعة أبي بكر حتى بايع وهو كاره ، ولم يكونوا بايعوه بعد الأنصار ، فما بالي وقد بايعاني طائعينَ غير مكرَهينَ ؟! ولكنهما طمعا منّي في ولاية البصرة واليمن ، فلما لم أولّهما ، وجاءهما الذي غلب من حبهما للدنيا وحرصهما عليها ، خفت أن يتخذا عباد الله خولاً ، ومال المسلمين لأنفسهما ، فلمّا زويت ذلك عنهما وذلك بعد أن جرّبتهما واحتججت عليهما » .

__________________

(١) هكذا في النسخ المطبوعة والصواب ( السبابجة ) وهم قوم من السند ، كانوا بالبصرة كشرطة وحرّاس السجن ، الصحاح ١ : ٣٢١ ، ( سبج ).

(٢) الأساورة : قوم من العجم نزلوا بالبصرة كالأحامرة بالكوفة ، القاموس المحيط ٢ : ٥٤ ( سورة ).

٥٣٣

فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو ؟ قال :« سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّما أهلك الله الأمم السالفة قبلكم بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يقول الله ( عزّ وجلّ ) : ( كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (١) .

وإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله ( عزّ وجلّ ) ، فمن نصرهما نصره الله ، ومن خذلهما خذله الله ، وما أعمال البر والجهاد في سبيله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كبقعة في بحر لجي ، فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق ، وأفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ، وإنّ الأمر لينزل من السماء إلى الأرض كما ينزل قطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان ، في نفس ، أو أهل ، أو مال ، فإذا أصاب أحدكم نقصاناً في شيء من ذلك ، ورأى الآخر ذا يسار لا يكوننّ له فتنة ، فإنّ المرء المسلم البرئ من الخيانة لينتظر من الله إحدى الحسنيين : إما من عند الله فهو خير واقع ، وإما رزق من الله يأتيه عاجل ، فإذا هو ذو أهل ومال ومعه حسبه ودينه ، المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله لأقوام » .

فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن أحاديث البدع ، قال :« نعم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إنّ أحاديث ستظهر من بعدي حتى يقول قائلهم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كل ذلك افتراء عليَّ ، والذي بعثني بالحق ! لتفترقنّ أمّتي على أصل دينها وجماعتها على ثنتين وسبعين فرقة ، كلّها ضالة مضلّة تدعوا إلى النار ، فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله ( عزّ وجلّ ) ، فإنّ فيه نبأ ما كان قبلكم ،

__________________

(١) المائدة : ٧٩.

٥٣٤

ونبأ ما يأتي بعدكم ، والحكم فيه بيّن ، من خالفه من الجبابرة قصمه الله ، ومن ابتغى العلم في غيره أضلّه الله ، فهو حبل الله المتين ، ونوره المبين ، وشفاؤه النافع ، وعصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعه ، لا يعوّج فيقام ، ولا يزيغ فيتشعب ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلقه كثرة الرد ، وهو الذي سمعته الجن فلم تناه أن ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا : يا قومنا ! ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا *يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ) (١) ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم » .

فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن الفتنة هل سألت عنها رسول الله ؟ قال :« نعم ، إنّه لما نزلت هذه الآية من قول الله ( عزّ وجلّ ) : ( الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (٢) ، علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيٌّ بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ! ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها ؟ فقال : يا علي ! إن أمتي سيفتنون من بعدي ، قلت : يا رسول الله ! أوليس قد قلت لي يوم اُحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين ، وحزنت على الشهادة فشق ذلك عليَّ ، فقلت لي : أبشر يا صدّيق ! فانّ الشهادة من ورائك ، فقال لي : فإنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذا ! وأهوى بيده إلى لحيتي ورأسي ، فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ! ليس ذلك من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرى والشكر ! فقال لي : أجل.

ثم قال لي : يا علي ! انّك باق بعدي ، ومبتلى بأمتي ، ومخاصَم يوم القيامة بين يدي الله تعالى ، فاعدد جواباً ، فقلت : بأبي أنت وأمي ! بيّن لي ما هذه الفتنة التي يبتلون بها ، وعلى ما أجاهدهم بعدك ؟ فقال : إنّك ستقاتل بعدي الناكثة والقاسطة والمارقة ـ وحلاهم وسماهم رجلاً رجلاً ـثم قال لي : وتجاهد أمتي على كل من

__________________

(١) الجن : ١ ـ ٢.

(٢) العنكبوت ١ ـ ٢.

٥٣٥

خالف القرآن ممن يعمل في الدين بالرأي ، ولا رأي في الدين ، إنّما هو أمر من الرب ونهيه.

فقلت : يا رسول الله ! فأرشدني إلى الفلج عند الخصومة يوم القيامة ، فقال : نعم ، إذا كان ذلك فاقتصر على الهدى ، إذا قومك عطفوا الهدى على العمى ، وعطفوا القرآن على الرأي فتأوّلوه برأيهم ، تتبع الحجج من القرآن بمشتبهات الأشياء الكاذبة عند الطمأنينة إلى الدنيا والتهالك والتكاثر ، فاعطف أنت الرأي على القرآن إذا قومك حرّفوا الكلم عن مواضعه عند الأهواء الساهية ، والأمر الصالح ، والهرج والاثم ، والقادة الناكثة ، والفرقة القاسطة ، والأخرى المارقة أهل الافك المردي ، والهوى المطغي ، والشبهة الحالقة ، فلا تنكلنّ عن فضل العاقبة فإنّ العاقبة للمتقين.

وإيّاك يا علي أن يكون خصمك أولى بالعدل والإحسان والتواضع لله ، والاقتداء بسنتي والعمل بالقرآن منك! فإن من فلج الرب على العبد يوم القيامة أن يخالف فرض الله أو سنّة سنّها نبي ، أو يعدل عن الحق ويعمل بالباطل ، فعند ذلك يملي لهم فيزدادوا إثماً ، يقول الله :( أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (١) .

فلا يكوننّ الشاهدون بالحق ، والقوامون بالقسط عندك كغيرهم ، يا علي ! إنّ القوم سيفتنون ويفتخرون بأحسابهم وأموالهم ، ويزكون أنفسهم ، ويمنّون دينهم على ربهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون عقابه ، ويستحلّون حرامه بالمشتبهات الكاذبة ، فيستحلون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، ويمنعون الزكاة ، ويطلبون البر ، ويتخذون فيما بين ذلك أشياء من الفسق لا توصف صفتها ، ويلي أمرهم السفهاء ،

__________________

(١) آل عمران : ١٧٨.

٥٣٦

ويكثر تتبعهم على الجور والخطأ ، فيصير الحق عندهم باطلاً ، والباطل حقاً ، ويتعاونون عليه ويرمونه بألسنتهم ، ويعيبون العلماء ويتخذونهم سخرياً.

قلت : يا رسول الله ! فبأية المنازل هم إذا فعلوا ذلك ، بمنزلة فتنة أو بمنزلة ردّة ؟ قال : بمنزلة فتنة ، ينقذهم الله بنا أهل البيت عند ظهورنا السعداء من أولي الألباب ، إلا أن يدعوا الصلاة ، ويستحلّوا الحرام في حرم الله ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر.

يا علي ! بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه ، بنا أهلك الأوثان ومن يعبدها ، وبنا يقصم كلّ جبار وكلّ منافق ، حتى إنّا لنقتل في الحق مثل من قتل في الباطل ، يا عليّ ! إنّما مثل هذه الأمة مثل حديقة أطعم منها فوجاً عاماً ثم فوجاً عاماً ، فلعل آخرها فوجاً أن يكون أثبتها أصلاً ، وأحسنها فرعاً ، وأحلاها جنى ، وأكثرها خيراً ، وأوسعها عدلاً ، وأطولها ملكاً.

يا علي ! كيف يهلك الله أمة أنا أولها ، ومهدينا أوسطها ، والمسيح ابن مريم آخرها.

يا علي ! انّما مثل هذه الأمة كمثل الغيث لا يدرى أوّله خير أم آخره ، وبين ذلك نهج أعوج لست منه وليس منّي.

يا علي ! وفي تلك الأمة يكون الغلول والخيلاء وأنواع المثلات ، ثم تعود هذه الأمة إلى ما كان خيار أوائلها ، فذلك من بعد حاجة الرجل إلى قوت امرأته ـ يعني غزلها ـحتى أنّ أهل البيت ليذبحون الشاة فيقنعون منها برأسها ، ويواسون ببقيتها ، من الرأفة والرحمة بينهم » .

نماذج من مواقف علماء التبرير من تلك الأحداث :

بعد استعراض ما مرّ من النصوص التي يجب أن تقرأ بإمعان ، وقد قرأها القارئ فهل حصلت لديه قناعة بأنّ ثمة إدانة لأفعال السلف ، بما جرى منهم على أهل البيتعليهم‌السلام من ظلم بعد موت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان ( المحسن السبط ) أول شهيد لعنف تلك الأحداث ؟

٥٣٧

لا ريب أنّ مَن غَلَبَ عقله على هواه حصلت لديه قناعة كافية ، بأنّ ظلماً قد جرى فأسقط جنيناً على الثرى ، وبقيت فعال الظالمين السالفين وصمة عار على الخالفين ، وهذا ما أدركه علماء التبرير ، ولابدّ لهم ما داموا وهم من أنصار الخلافة ، أن يغالطوا أنفسهم ليتمكنوا من مغالطة الآخرين ، وهذا ما حدث كما أراه في أقوالهم ، فقد نفوا أن يكون أيّ ظلم لحق بأهل البيت ، ونفوا ذلك جملةً وتفصيلاً من دون حجة مقبولة ، وأنّى لهم إقامة الحجة على ذلك ، وحجتهم دعم الحاكمين ، فهم أقوى سند ، ومنهم المَدد وعليهم المعتمد ، ويكفيهم زرع الشك فيما يرويه أنصار الإمامة ، لأنّهم أقوى منهم شكيمة وأهدى سبيلاً وأقوم قيلاً ، ولو كان ذلك دفعاً بالصدور.

وإلى القارئ نماذج مما قاله بعض علماء التبرير :

١ ـ أبو بكر الباقلاني ( ت ٤٠٣ ه‍ ) متكلم على مذهب الأشعري ، له نشاط في الرد على المعتزلة والشيعة والخوارج والجهمية وغيرهم ، وكتابه ( التمهيد ) دليل ذلك ما عليه من مزيد. قال في كتابه ( نكت الانتصار لنقل القرآن ) :

وأمّا طعن الرافضة على الصحابة فلا يلتفت إليه ، لأنّهم جروا على عادتهم في سب السلف ورميهم بالكفر ، وقولهم : إنّ علياً جرّ إلى بيعة أبي بكر بحبل أسود وإنّ عمر ( رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن )(١) .

وعلى نهج هذا الأشعري في تحامله على الرافضة ، كان نهج المعتزلي كما سيأتي ، فجرى التالون على ما أسّس الأولون ، وما أدري لماذا كل هذا الحقد على الشيعة ؟ فما هو ذنبهم في روايتهم ذلك ؟ فهم لم يبهتوا الصحابة بما لم يكن فيهم ومنهم ، وعلى تقدير ذكرهم يوجب الإدانة ، فليكن الأشعري أو المعتزلي منصفاً

__________________

(١) نكت الانتصار لنقل القرآن : ٣٦.

٥٣٨

في نقده ، وعادلاً في توزيع حقده ، فيصبّ ثمالة جام غضبه على الذين ذكروا ذلك من أصحاب مذهبه ، فإن يك ما ذكروه كذباً فعليهم وزر ما رووه ، وإن يك صدقاً ، فوزر ذلك على الذين اقترفوه.

ألم يذكر عبد القادر البغدادي الأشعري في كتابه ( الفرق بين الفرق )(١) عن النظام المعتزلي ذلك ؟ وليسا هما من الرافضة ؟

ألم يذكر ذلك المقريزي ـ وهو سنّي ـ في كتابه الخطط(٢) ، فهل هو من الرافضة ؟

ألم يذكر ذلك الشهرستاني ـ وهو سنّي متعصب على الشيعة ـ في كتابه الملل والنحل ، كما تقدم في النصوص ؟ فهل هو من الرافضة ؟

ألم يذكر ذلك الصفدي ـ وهو من مؤرخي السنّة ـ في كتابه الوافي بالوفيات كما تقدم في النصوص ، فهل هو من الرافضة ؟

أليس هؤلاء جميعاً نقلوا ما قاله إبراهيم النظام المعتزلي البغدادي ، تلميذ الجاحظ المعتزلي البصري ، فقال : انّ عمر ضرب بطن فاطمة ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى ألقت المحسن من بطنها ، وكان يصيح أحرقوا الدار بمن فيها ، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين راجع نص الشهرستاني فيما تقدم من النصوص.

ألم يذكر الذهبي السنّي العتيد العنيد في ميزان الاعتدال(٣) ، في ترجمة أبي دارم عنه أنّ عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن. فهل على الرافضة من وزر لو قالوا ما رواه هؤلاء ؟

__________________

(١) الفرق بين الفرق : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) الخطط للمقريزي ٢ : ٣٤٦.

(٣) ميزان الاعتدال ١ : ١٣٩.

٥٣٩

٢ ـ قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ( ت ٤١٥ ه‍ ) من شيوخ المعتزلة ومتكلميهم ، فقد قال في كتابه ( تثبيت دلائل النبوة ) متحاملاً بظلم على الرافضة : ومن عجيب اُمورهم قولهم والذي عرفنا بالخبر أن يزيد بن معاوية قتل الحسين وأشخص ذريته إلى الشام ، هو الذي عرفنا بعقولنا انّ أبا بكر ما ضرب فاطمة ، ولا قتل المحسن ، وهذا في القياس كمن قال : إذا كان يزيد بن معاوية قد غزى ـ كذا والصواب غزا ـ المدينة ومكة واستباحهما أن يكون أبو بكر قد فعل مثل ذلك(١) .

وقال : وقيل أيضاً للرافضة : إذا كان أبو بكر قد ضرب فاطمة وقتل المحسن ، فقد كان ينبغي أن يحصل العلم بذلك عند كل من سمع الأخبار ، وأن يكون العلم بذلك مثل العلم بقتل يزيد الحسين ، ومثل قتل معاوية حجر بن عدي ، وعبيد الله بن زياد مسلم بن عقيل ، بل كان ينبغي أن يكون العلم بما ادعيتم أقوى من العلم بهؤلاء القتلى ، لأنّ هذه الحادثة التي ادعيتموها على أبي بكر كانت بالمدينة ، وقد شهدها العباس وولده ، وعلي بن أبي طالب وولده ، وعقيل وولده ، وجميع بني هاشم ومواليهم ونسائهم ، وجميع المهاجرين والأنصار وأولادهم ونسائهم ، وقد كان بالمدينة حين توفى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من مائة ألف إنسان ، وكان يكون العلم بهذا أقوى مما كان بكربلا.

ولكن دعاوى الرافضة على ضرب فاطمةعليها‌السلام وقتل ولدها ، وأمر أبي بكر خالد بن الوليد بقتل علي بن أبي طالب كدعواهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله النصوص التي يدّعونها ، وكل من تأمّل أمرهم تبيّن له بطلان ذلك ، ووضح له وضوح الشمس(٢) .

__________________

(١) تثبيت دلائل النبوة : ٢٣٩.

(٢) نفس المصدر : ٢٤٠.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628