لأكون مع الصادقين

لأكون مع الصادقين0%

لأكون مع الصادقين مؤلف:
الناشر: ستارة
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 449

لأكون مع الصادقين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
الناشر: ستارة
تصنيف: الصفحات: 449
المشاهدات: 54626
تحميل: 7093

توضيحات:

لأكون مع الصادقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 449 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54626 / تحميل: 7093
الحجم الحجم الحجم
لأكون مع الصادقين

لأكون مع الصادقين

مؤلف:
الناشر: ستارة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أوجب اللّه فيها الخمس لا تختصّ بدار الحرب ، لأنّ الركاز الذي هو كنزٌ يستخرج من باطن الأرض ، وهو ملك لمن استخرجه ، ولكن يجب عليه دفع الخمس منه لأنّهُ غنيمة ، كما أنّ الذي يستخرج العنبر واللؤلؤ من البحرِ يَجبْ عليه إخراج الخمس؛ لأنّه غنيمة.

وبما أخرجه البخاري في صحيحه يتبيّن لنا أن الخُمس لا يختصّ بغنائمِ الحرب.

فرأىُ الشيعة يبقى دائماً مصداقُ الحقيقة التي لا تناقضُ فيها ولا اختلاف ، وذلك لأنّهم يرجعون في كلّ أحكامهم وعقائدهم إلى أئمة الهدى الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرّهم تطهيراً ، والذين هم عدلُ الكتاب ، لا يَضِلّ من تمسّكَ بهم ، ويأمن من لجأ إليهم.

على أنّه لا يمكن لنا أن نعتمدَ على الحروب لإقامة دولة الإسلام ، وذلك يخالف سماحة الإسلام ودعوته للسّلم ، فالإسلام ليس دولة استعماريّة تقوم على استغلال الشعوب ونهب خيراتها ، وهو ما يحاول الغربيّون إلصاقه بنا عندما يتكلّمون عن نبي الإسلام بكلّ ازدراء ، ويقولون : بأنّه توسّع بالقوّة والقهر وبالسيف لاستغلال الشعوب!!

وبما أنّ المال هو عصب الحياة ، وخصوصاً إذا كانت نظرية الاقتصاد الإسلامي تقتضي إيجاد مايسمّى اليوم بالضمان

٢٦١

الاجتماعي لتضمن للمعوزين والعاجزين معاشهم بكرامة وشهامة ، فلا يُمْكنْ لدولة الإسلام أن تعتمد على مايخرجه أهل السنّة والجماعة من الزكاة ، وهي تمثل في أحسن الأحوال اثنين ونصف بالمائة ، وهي نسبة ضعيفة لا تقوم بحاجة الدولة من إعداد القوّة ، ومن بناء المدارس والمستشفيات ، وتعبيد الطرقات ، فضلاً عن أن تضمن لكلّ فرد دخلاً يكفي معاشَه ويضمن حياته ، كما لا يمكن لدولة الإسلام أن تعتمد على الحروب الدامية وقتال الناس؛ لتضمن بقاءها وتطوّر مؤسساتها على حساب المقتولين الذين لم يرغبوا في الإسلام.

فأئمة أهل البيت سلام اللّه عليهم كانوا أعلم بمقاصد القرآن ، كيف لا وهم ترجمانه ، وكانوا يرسمون للدولة الإسلامية معالم الاقتصاد ، ومعالم الاجتماع ، لو كان لهم رأىٌ يطاع.

ولكن للأسف الشديد كانت السلطة والقيادة في يد غيرهم الذين اغتصبوا الخلافة بالقوّة والقهر ، وبقتل الصلحاء من الصحابة واغتيالهم ، كما فعل ذلك معاوية ، وبدّلوا أحكام اللّه بما اقتضته مصالحهم السياسية والدنيوية ، فَضلّوا وأضلّوا ، وتركوا هذه الأُمة تحت الحضيض لم تقم لها قائمة حتّى يومنا هذا.

فبقيت تعاليم أهل البيت مجرّد أفكار ونظريات يؤمن بها الشيعة

٢٦٢

ولم يجدوا لتطبيقها من سبيل ، إذ أنّهم كانوا مطاردين في مشارق الأرض ومغاربها ، وقد تتّبعهم الأمويون والعبّاسيون عبر العصور.

وما أن انقرضت الدولتان وأوجد الشيعة مجتمعاً عملوا بأداء الخُمسْ الذي كانوا يؤدّونه للأئمة سلام اللّه عليهم خُفية ، وهم الآن يؤدّونه إلى المرجع الذي يقلّدونه ، نيابة عن الإمام المهديعليه‌السلام ، وهؤلاء يقومون بصرفه في أبوابه المشروعة ، من تأسيس حوزات علمية ، ومبرّات خيرية ، ومكتبات عمومية ، ودور أيتام ، وغير ذلك من أعمال جليلة ، كدفع رواتب شهرية لطلبة العلوم الدينية والعلمية وغيرها.

ويكفينا أن نستنتج من هذا أنّ علماء الشيعة مستقلّون عن السلطة الحاكمة؛ لأنّ الخمس يفي بحاجاتهم ويقومون بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.

أمّا علماء أهل السنّة والجماعة فهم عالة على الحكّام ، وموظفون لدى السلطة الحاكمة في البلاد ، وللحاكم أن يقرّب من شاء منهم أو يبعّد ، حسب تعامله معه وإفتائهم لمصالحه. فأصبح العَالِمُ بذلك أقرب إلى الحاكم منه إلى مجرد عَالِم! هذه بعض الآثار الوخيمة التي ترتّبت على ترك العمل بفريضة الخُمس بمعناها الذي فهمه أهل البيتعليهم‌السلام .

٢٦٣
٢٦٤

التقليد

يقول الشيعة : أمّا فروع الدين ، وهي أحكام الشريعة المتعلّقة بالأعمال العبادية : كالصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، فالواجب في أحكامها أحد الأُمور الثلاثة :

أ ـ أن يجتهد وينظر الإنسان في أدلّة الأحكام إذا كان أهلاً لذلك.

ب ـ أو أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط.

ت ـ أو أن يقلّد المجتهد الجامع للشرائط ، بأن يكون من يقلّده حيّاً عاقلاً ، عادلاً ، عالماً ، صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه.

والاجتهاد في الأحكام الفرعيّة واجب كفائي على جميع المسلمين ، فإذا نهض به من اجتمعت فيه الشروط سقط عن باقي المسلمين ، فيجوز لهم تقليده والرجوع إليه في فروع دينهم؛ لأنّ رتبة الاجتهاد ليست من الأُمور الميسورة ولا هي في متناول الجميع ، بل تحتاج إلى كثير من الوقت والعلوم والمعارف والاطّلاع ، وهذا لا يتهيأ إلاّ لمن جدَّ وكدّ وأمضى عمره في البحث والتعلّم ، ولا ينال

٢٦٥

الاجتهاد إلاّ ذو حظٌ عظيم.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أراد اللّه به خيراً فَقّههُ في الدينِ »(1) .

وقول الشيعة هذا لا يختلف عن قول أهل السنّة والجماعة ، إلاّ في شرط حياة المجتهد.

غير أنّ الخلاف الواضح بينهم هو في العمل بالتقليد ، إذ أنّ الشيعة يعتقدون بأنّ المجتهد الجامع للشروط المذكورة هو نائب للإمامعليه‌السلام في حال غيبته ، فهو الحاكم والرئيس المطلق ، له ما للإمام في الفصل في القضاء والحكومة بين الناس والرادّ عليه رادّ على الإمام.

فليس المجتهد الجامع للشروط عند الشيعة مرجعاً يرجع إليه في الفتيا فحسب ، بل إنّ له الولاية العامّة على مقلّديه ، فيرجعون إليه في الأحكام والفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من القضاء ، ويعطونه الزكاة وخُمس أموالهم ، يتصرّف بها كما تفرضه عليه الشريعة نيابة عن إمام الزمانعليه‌السلام .

أمّا عند أهل السنّة والجماعة فليس للمجتهد هذه المرتبة ، ولكنّهم يرجعون في المسائل الفقهية لأحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب ، وهم : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل.

والمعاصرون من أهل السنّة قد لا يلتزمون بتقليد واحد من

__________________

1 ـ الأمالي للمفيد : 158 ح 9 ، سننن الترمذي 4 : 137 ح 2783.

٢٦٦

هؤلاء على سبيل التعيين ، فقد يأخذون بعض المسائل من أحدهم والبعض الآخر من غيره حسبما تقتضيه حاجتهم ، كما فعل ذلك السيد سابق الذي ألّفَ فِقْهاً مأخوذاً من الأربعة؛ لأنّ أهل السنّة والجماعة يعتقدون بأنّ الرحمة في اختلافهم ، فللمالكي مثلاً أن يأخذُ برأي أبي حنيفة إذا وجدَ حلاً لمشكلته قد لا يجده عند مالك(1) .

__________________

1 ـ اختلفت أقوال أهل السنّة في هذا الأمر :

قال النووي في المجموع 1 : 88 المسألة الثالثة من آداب المستفتي : « هل يجوز للعامي أن يتخيّر ويقلّد أي مذهب شاء؟ قال الشيخ : ينظر إن كان منتسباً إلى مذهب بنيناه على وجهين ـ حكاهما القاضي حسين : في أنّ العامي هل له مذهب أم لا؟ ـ أحدهما : لا مذهب له لأنّ المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما ، والثاني : ـ وهو الأصح عند القفال ـ له مذهب فلا يجوز له مخالفته ...

وإن لم يكن منتسباً ، بني على وجهين ـ حكاهما ابن برهان : في أنّ العامي هل يلزمه أن يتذهّب بمذهب معيّن يأخذ برخصة وعزائمه؟ ـ أحدهما : لا يلزمه فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء ، أم يجب عليه البحث عن أشدّ المذاهب وأصحّها أصلا ليقلد أهله؟ فيه وجهان والثاني : يلزمه ، وبه قطع أبو الحسن الكيّا ، وهو جار في كلّ من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم ».

فالمسألة إذاً خلافية بينهم ، هذا من حيث النظر والتأمل ، أمّا من حيث العمل

٢٦٧

وأضربُ لذلك مثلاً حتّى يتبينّ للقارئ فيفهم المقصود : كان عندنا

__________________

فهم كما قال الشاطبي في الموافقات 4 : 77 : « وقد أدّى إغفال هذا الأصل [ أي أنّ الشريعة كلّها ترجع إلى قول واحد في فروعها وان كثر الخلاف كما أنّها في أُصولها كذلك ] إلى أن صار كثير من مقلّدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال إتباعاً لغرضه وشهوته ، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق ، ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلا عن زماننا ، كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب إتباعاً للغرض والشهوة ».

ثمّ ذكر عدّة حكايات تتعلّق بالموضوع إلى أن قال :

« وذكر ابن باجي في كتاب التبيين لسنن المهتدين وربما زعم بعضهم أنّ النظر والاستدلال الأخذ من أقاويل مالك وأصحابه بأيّها شاء دون أن يخرج عنها ولايميل إلى ما مال منها لوجه يوجب له ذلك ، فيقضي في قضية بقول مالك ، وإذا تكرّرت تلك القضية كان له أن يقضي فيها بقول ابن القاسم مخالفاً للقول الأول لا لرأي تجدّد له وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدّم أنّه كان يقول معلناً غير مستتر أنّ الذي لصديقي عليّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه ».

والغرض من هذا العرض السريع إنّما هو بيان الاختلاف والاضطراب الذي وقعوا فيه ، وليس ذلك إلاّ للبعد عن هدي الثقلين.

فما ذكره في كشف الجاني : 159 ناشئ من قلّة الاطلاع والمجادلة بغير حقّ. أضف إلى أن المؤلّف لم يقل بأنّ المالكي يحقّ له الأخذ بمذهب الحنفي حتى لو كان لديه حلّ لمشكلته عند المذهب المالكي ، وإنّما قيّد بقوله : ( إذا وجد حلاّ لمشكلته قد لا يجده عند مالك ) ، وعليه فالمؤلّف عبارته سلمية وواضحة جداً ، لا كما حاول عثمان الخميس إيهام القارئ بأنّ المؤلّف افترى هذا الكلام على أهل السنّة وأخذ بنقل عبارات لا ربط لها بالموضوع.

٢٦٨

في تونس ( في وقت المحاكم القضائية ) فتاةٌ بالغة أحبّتْ رجُلاً وأرادتْ الزواج منه ، ولكنَّ أباها رفض أن يزوجَها من هذا الشاب لسبب « اللّه أعلم به » ، فهربت الفتاة من بيت أبيها وتزوّجتْ ذلك الشاب بدون إذن أبيها ، ورفع الأب شكوى ضِدَّ الزوج.

ولّما حَضرَتْ الفتاة وزوجها لدى القاضي ، وسألَها عن السبب في الهروب من البيت والزواج بدون إذن وليّها ، قالتْ : سيّدي ، أنا عمري خمسة وعشرون عاماً ، وأحبْبتُ الزواج من هذا الرجل على سنّة اللّه ورسوله ، ولأنّ أبي يريد أن يزوّجني بمن أكره ، فتزوّجتُ على رأي أبي حنيفة الذي يعطيني حقّ الزواج بمن أحبّ لأنىّ بالغة.

يقول القاضي رحمة اللّه عليه ( روى لي بنفسه هذه القصّة ) : « فجئنا في المسألة فوجدناها على حقّ ، وأعتقد بأنّ أحد العلماء المطّلعين هو الذي لَقّنَها ماذا تقول ». يقول هذا القاضي : فرددتُ دعوة الأب وأمضيتُ الزواج ، فخرج الأب غَاضباً يضرب يديه على بعضها ويقول : « حَنّفَتْ الكَلْبَة » أي إن ابنته تركت مالك واتبعتْ أبا حنيفة ، وكلمة الكلبة فيها إهانة لابنته التي قال فيما بعد بأنّه يتبرّأ منها.

والمسألة هي اختلاف في اجتهاد المذاهب ، فبينما يرى مالك إنّ الفتاة البكر لا يصحّ زواجها إلاّ بإذن ولي الأمر وحتى إذا كانت ثيباً ، فهو شريكها في الزواج فلا تنفرد به وحدها ولابدّ من موافقته ، يرى

٢٦٩

أبو حنيفة : إنّ البالغة بكراً كانتْ أم ثيباً ، لها أن تنفرد باختيار الزوج ، وأن تنشئ العقد بنفسها(1) .

فهذه المسألة الفقهيّة فرّقتْ بين الأب وابنته حتّى تبرّأ منها ، وكثيراً ماكان الآباء يتبرّؤون من بناتهم لعدّة أسباب ، منها : الهروب من البيت مع رجُل تحبُّ الزواج منه. ولهذا التبرّئ عواقب وخيمة ، إذ أنّ الأب يلجأ في أغلب الأحيان إلى حرمان ابنته من الميراث وتبقى الفتاة عدوّة للإخوة الذين يتبرّؤون بدورهم من أُختهم التي جلبت لهم العار.

فليست القضية ـ إذن ـ كما يقول أهل السنّة بأنّ في اختلافهم رحمة ، أو على الأقلّ ليست الرحمة في كلّ القضايا الخلافية.

ويبقى بعد هذا خلاف آخر بينهما ألا وهو تقليّد الميّت ، فأهل السنّة يقلّدون أئمةً ماتوا منذ قرون ، وأغلق عندهم باب الاجتهاد من ذلك العهد ، وكلّ من جاء بعدهم من العلماء اقتصروا على الشروح والمدوّنات شعراً ونثراً لفِقه المذاهب الأربعة ، وقد تعالت أصوات المنادين من بعض المعاصرين بِفَتحِ الباب والرجوع للاجتهاد ، لما تقتضيه مصلحة الزّمان ، ولما استجدّ من أمور كانت مجهولة في زمن الأئمة الأربعة.

__________________

1 ـ راجع كتاب الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 4 : 34.

٢٧٠

أمّا الشيعة فلا يجوّزون تقليد الميّت ، ويرجعون في كلّ أحكامهم إلى المجتهد الحي الجامع للشروط التي ذكرناها سابقاً ، وذلك بعد غيبة الإمام المعصوم ، والذي كلّفهم بالرجوع إلى العلماء العدول في زمن غيبته وحتّى ظهوره.

فالسنّي المالكي مثلاً يقول : هذا حلال وهذا حرام على قول الإمام مالك ، وهو ميّت منذ أكثر من اثني عشر قرناً ، وكذلك يقول السنّي الحنفي والشافعي والحنبلي؛ لأنّ الأئمة عاشوا في عصر واحد وتتلمذ بعضهم على بعض.

كما لا يعتقد السنّي في عِصمة هؤلاء الأئمة الذين لم يدّعوها لأنفسهم ، بل جوّزوا عليهم الخطأ والصواب ، ويقولون بأنّهم مأجورون في كلّ اجتهاداتهم ، فلهم أجران إن أصابوا ولهم أجرٌ واحد إذا أخطاؤا.

والشيعي الإمامي مثلاً عنده مرحلتان في التقليد.

المرحلة الأولى : وهي زمن الأئمة الاثني عشر ، وقد امتدّت هذه المرحلة ثلاثة قرون ونصف تقريباً ، وفيها كان الشيعي يقلّد الإمام المعصوم الذي لا يقول برأيه واجتهاده ، وإنّما بعلم وروايات توارثها عن جدّه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول في المسألة : روى أبي ، عن جدّي ، عن جبرئيل ، عن اللّه عَزَّ وَجلّ.

٢٧١

المرحلة الثانية : وهي زمن الغيبة التي امتدّت حتى اليوم ، فالشيعي يقول : هذا حلال وهذا حرام على رأي السيّد الخوئي أو السيّد الخميني مثلاً ، وكلاهما حىّ ، ورأيهما لا يتعدّى الاجتهاد في استنباط الأحكام من نصوص القرآن والسنّة على روايات أئمة أهل البيت أولاً ، ثمّ الصحابة العدول ثانياً.

وهم عندما يبحثون في روايات أئمة أهل البيت بالدرجة الأُولى ، ذلك لأنّ هؤلاء الأئمة يرفضون استعمال الرأي في الشريعة ويقولون : ما من شيء إلاّ وللّه فيه حكم ، فإذا ما فقدنا حكماً في مسألة ما فليس ذلك يعني أنّ اللّه سبحانه أهمله ، ولكن قُصُورِنا وجَهْلِنا لم يصلا بنا إلى معرفة الحكم ، فالجهل بالشيء وعدم معرفته ليس دليلاً على عدمه ، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى :( مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْء ) (1) .

__________________

1 ـ الأنعام : 38.

٢٧٢

العقائد التي يُشنّع بها أهل السنّة على الشيعة

ومن العقائد التي يُشّنع بها أهل السنّة على الشيعة ما هو من محض الشغب المقيت الذي أولده الأمويّون والعبّاسيون في صدر الإسلام ، بما كانوا يحقدون على الإمام عليّ ويبغضونه ، حتّى لعنوه على المنابر أربعين عاماً.

فلا غرابة أنْ يشتموا كلّ من تَشيّعَ له ويرموه بكلّ عار وشنار ، حتى وصل الأمر بهم أن يقال لأحدهم يهودي أحبّ إليه من أن يقال له شيعي. ودأَب أتباعهم على ذلك في كلّ عصر ومصر ، وأصبح الشيعي مسبّة عند أهل السنّة والجماعة؛ لأنّه يخالفهم في معتقداتهم وخارج عن جماعتهم ، فهم يقذفونه بما شاؤوا ، ويرمونه بكلّ التّهم ، وينبزونه بشتّى الألقاب ، ويخالفونه في كلّ أقواله وأفعاله.

ألا ترى بأنّ بعض علماء أهل السنّة المشهورين يقولون : « بأنّ لبس الخاتم في اليد اليمنى هو سنّة نبوية ، ولكن يجبُ تركُهَا لأنّ الشيعة اتخذوا ذلك شعاراً لهم ».

وهذا حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي يقول : إنّ تسطيح القبور هو

٢٧٣

المشروع في الدين ، لكن لّما جعلته الرافضة شعاراً لهم عدلنا عنه إلى التسنيم(1) .

وهذا ابن تيمية الموصوف بالمصلح المجدّد عند بعضهم يقول : ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات إذ صارت شعاراً لهم ـ أى للشيعة ـ فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك ، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلا يتميّز السنّي من الرافضي ، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحبّ(2) .

وقال الحافظ العراقي عندما تساءل عن كيفيّة إسدال العمامة : لم أرَ مايدلّ على تعيين الأيمن إلاّ في حديث ضعيف عند الطبراني ، وبتقدير ثبوته فلعلّه كان يرخيها من الجانب الأيمن ثمّ يردّها إلى الجانب الأيسر كما يفعله بعضهم ، إلاّ أنّه صارَ شعاراً للإماميّة فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم(3) .

سبحان اللّه! ولا حول ولا قوّة إلا باللّه! انظر أخي القارئ إلى هذا

__________________

1 ـ راجع كتاب الصراط المستقيم للبياضي 3 : 206 ، وكتاب الغدير للأميني 10 : 210.

2 ـ منهاج السنّة لابن تيمية 4 : 154 في الردّ على الوجه الخامس للعلاّمة الحلّي في بيان وجوب اتّباع مذهب الحقّ.

3 ـ شرح المواهب للزرقاني 5 : 13.

٢٧٤

التعصّب الأعمى كيف يُجيز لهؤلاء « العلماء » أن يخالفوا سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الشيعة تمسّكتْ بتلك السنن حتّى صارت شعاراً لهم ، ثمّ هم لا يتحرّجون من الاعتراف بذلك صراحة.

وأنا أقول : الحمد للّه الذي أظهر الحقّ لذي عينين ولكلّ مخلص يبحث عن الحقيقة ، الحمد للّه الذي أظهر لنا بأنّ الشيعة هُمُ الذين يتبعون سنّة رسول اللّه وذلك بشهادتكم أنْتُم! كما شهدتم على أنفسكم بأنّكم تركتُم سنّة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمداً لتخالفوا بذلك أئمة أهل البيت وشيعتهم المخلصين ، واتبعتم سنّة معاوية بن أبي سفيان ، كما شهد بذلك الإمام الزمخشري عندما أثبت إن أوّل من تختّم باليسار خلاف السنّة النبوية هو معاوية بن أبي سفيان(1) .

واتبعتُم سنّة عمر في بدعته للتراويح خِلافاً للسنّةِ النبوية التي أمرت المسلمين بصلاة النافلة في بيوتهم فُرادى لا جماعة ، كما أثبت ذلك البخارىُ في صحيحه(2) وكما اعترف عمر نفسه بأنّها بدعة ابتدعها مع أنّه لم يصلها لأنّه لا يؤمن بها.

فقد جاء في البخاري عن عبدالرحمن بن عبدالقارىّ أنّه قال :

__________________

1 ـ الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار 4 : 24.

2 ـ صحيح البخاري 7 : 98 ، كتاب الأدب ، باب 75 ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر اللّه عزّ وجلّ.

٢٧٥

خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناسُ أوزاع متفرّقون يصلّي الرجلُ لنفسه ، ويصلّي الرجلُ فيُصَلَّي بصلاته الرهطُ ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عَزمَ فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثمّ خرجتُ معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمرُ : نعم البدعةُ هذه ...(1) .

ومن المستغرب عدّها نعمة بعد نهي الرسول عنها!! وذلك عندما رفعوا أصواتهم وَحَصّبوا بابَهُ ليصلّي بهم نافلة رمضان ، فخرج إليهم مغضباً فقال لهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« مازال بكم صنيعكم حتّى ظننتُ أنّه سيكتَبُ عليكم ، فعليكم في الصلاة في بيوتكم فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة »(2) .

كما اتّبعتم سنّة عثمان بن عفّان ، وهي إتمام صلاة السفر خلافاً لسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي صلاّها قصراً(3) .

__________________

1 ـ صحيح البخاري 2 : 252 ، كتاب صلاة التراويح ، باب فضل ليلة القدر.

2 ـ صحيح البخاري 7 : 98 ، كتاب الأدب ، باب 75 ما يجوز من الغصب والشدة لأمر اللّه عزّ وجل.

3 ـ صحيح البخاري 2 : 34 ، كتاب تقصير الصلاة ، باب الصلاة بمنى ، وفي الباب الخامس أيضاً من نفس الكتاب : « أنّ عائشة أتمت الصلاة في السفر كما أتمّها عثمان ، وقد خالفا بذلك سنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

٢٧٦

ولو أردت أن أُحصي ما خالفتُم به سنّة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستوجب ذلك كتاباً خاصّاً ، ولكن تكفي شهادتكم في ما أقررتم به على أنفسكم ، وتكفي شهادتكم أيضاً بإقراركم بأنّ الشيعة الروافض هم الذين اتّخذوا سنّة النبي شعاراً لهم.

أفبعد هذا يبقى دليل على قول الجهلة الذين يدّعون بأنّ الشيعة اتّبعوا علي بن أبي طالب ، أمّا أهل السنّة فإنّهم اتّبعوا رسول اللّه؟ أيريد هؤلاء أن يثبتوا بأنّ عليّاً خالفَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابتدع ديناً جديداً؟ كبُرت كلمة تخرجُ من أفواههم ، فعليّ هو محض السنّة النبوية ، وهو مفسّرُها والقائم عليها ، وقد قال فيه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« عليّ منّي بمنزلتي من ربّي »(1) .

أي كما أنّ محمّداً هو الوحيد الذي يُبلّغُ عن ربّه ، فعلىٌ هو الوحيد الذي يبلّغ عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّ ذنب عليّ هو إنّه لم يعترف بخلافة من قبله ، وذنبُ شيعته أنّهم اتّبعوه في ذلك ، فرفضوا أن

__________________

1 ـ المناقب للخوارزمي : 297 ح 292 ، ذخائر العقبى : 64 ، وورد بلفظ : « عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني » ، وفي تاريخ بغداد 7 : 13 ، والجامع الصغير 2 : 177 ، وكنز العمال 11 : 603 ح 32914 ، والصواعق المحرقة 2 : 366 ( في فضائل عليعليه‌السلام ).

٢٧٧

ينْضَوُوا تحت خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولذلك سمّوهم « الروافض ».

فإذا أنكر هؤلاء السنّة على معتقدات الشيعة وأقوالهم فهو لسببين :

أوّلهما : العداء الذي أجج ناره حُكّام بني أُميّة بالأكاذيب والدعايات واختلاق الروايات المزوّرة.

وثانيهما : لأنّ معتقدات الشيعة تتنافى وما ذهبوا إليه من تأييد الخلفاء ، وتصحيح أخطائهم واجتهاداتهم مقابل النصوص ، خصوصاً حكّام بني أُميّة وعلى رأسهم معاوية ابن أبي سفيان.

ومن هنا يجد الباحث المتتبع أنّ الخلاف بين الشيعة وأهل السنّة نشأ يوم السقيفة وتفاقم ، وكلّ خلاف جاء بعده فهو عيالٌ عليه ، وأكبر دليل على ذلك أنّ العقائد التي يُشنّع أهل السنّة على إخوانهم من الشيعة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع الخلافة وتتفرّع منه ، كعدد الأئمة ، والنص على الإمام ، والعصمة ، وعلم الأئمة ، والبداء ، والتقية ، والمهدي المنتظر ، وغير ذلك.

ونحن إذا بحثنا في أقوال الطرفين مجرّدين من العاطفة ، فسوف لا نجد بُعداً شاسعاً بين معتقداتهم ، ولا نجدُ مُبرّراً لهذا التهويل وهذا التشنيع؛ لأنّك عندما تقرأ كتب السنّة الذين يشتمون الشيعة ، يخيّل

٢٧٨

إليك بأنّ الشيعة ناقضوا الإسلام ، وخالفوه في مبادئه وتشريعه ، وابتدعوا ديناً آخر! بينما يجد الباحث المنصف في كلّ عقائد الشيعة أصْلاً ثابتاً في القرآن والسنّة ، وحتّى في كتب من يُخالفهم في تلك العقائد ويُشنّع بِها عليهم.

ثمّ ليس هناك في تلك العقائد مايخالف العقل أو النقل أو الأخلاق ، وليتبَينّ لك أيها القارئ اللبيب صحّة ما أدّعيه سأستعرض معك تلك العقائد.

٢٧٩
٢٨٠