لأكون مع الصادقين

لأكون مع الصادقين0%

لأكون مع الصادقين مؤلف:
الناشر: ستارة
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 449

لأكون مع الصادقين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور محمد التيجاني السماوي
الناشر: ستارة
تصنيف: الصفحات: 449
المشاهدات: 54662
تحميل: 7093

توضيحات:

لأكون مع الصادقين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 449 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54662 / تحميل: 7093
الحجم الحجم الحجم
لأكون مع الصادقين

لأكون مع الصادقين

مؤلف:
الناشر: ستارة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخطاب أنّه قال وهو يطوف بالبيت : اللّهم إن كنتَ كتبت علىَّ شقاوةً أو ذنباً فامحه ، فإنّك تمحو ماتشاء وتثبت ، وعندك أُمّ الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة(1) .

وأخرج البخاري في صحيحه قصّة عجيبة وغريبة تحكي معراج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقاءه مع ربّه ، وفيها يقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« ثُمَ فُرضتْ علىَّ خمسون صلاة فأقبلتُ حتّى جئتُ موسى ، فقال : ماصنعتَ؟ قُلتُ : فُرضتْ علىَّ خمسون صلاة. قال : أنا أعلم بالناس منك عَالجتُ بني إسرائيل أشدّ المعالجة وإنّ أمّتك لا تطيق ، فارجع إلى ربّك فسلْهُ ، فرجعتُ فسألتُه فجعلها أربعين ، ثمّ مثله ، ثم ثلاثين ، ثمّ مثله فجعل عشرين ، ثمّ مثله فجعل عشراً ، فأتيتُ موسى فقال مثله ، فجعلها خمساً ، فأتيت موسى فقال : ماصنعتَ؟ قلتُ : جعلها خمساً ، فقال مثله ، قلتُ : فَسلّمتُ فنودىَ أنّي قد أمضيتُ فريضتي وخَففّتُ عن عبادي وأجزي الحسنة عشراً »(2) .

وفي رواية أُخرى نقلها البخاري أيضاً ، وبعد مراجعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

1 ـ المصدر نفسه.

2 ـ صحيح البخاري 4 : 78 ، كتاب بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة ، وكتاب مناقب الأنصار ، باب المعراج.

صحيح مسلم 1 : 104 ، كتاب الايمان ، باب الإسراء برسول اللّه وفرض الصلوات.

٣٠١

ربّه عديد المرّات ، وبعد فرض الخمس صلوات ، طلب موسىعليه‌السلام من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُراجع ربّه للتخفيف؛ لأنّ أُمّته لا تطيق حَتّى خمس صلوات ، ولكن محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجابه : « قد استحييت من رَبّي »(1) .

نعم ، اقرأ واعجب من هذه العقائد التي يقول بها رواة أهل السنّة والجماعة! ومع ذلك فهم يشنّعون على الشيعة أتباع أئمة أهل البيت في القول بالبداء.

وهم في هذه القصّة يعتقدون بأنّ اللّه سبحانه فرض على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسين صلاة ، ثمّ بدا له بعد مراجعة محمّد إيّاه أن جعلها أربعين ، ثمّ بدا له بعد مراجعة ثانية أن جعلها ثلاثين ، ثمّ بدا له بعد مراجعة ثالثة أن جعلها عشرين ، ثمّ بدا له بعد مراجعة رابعة أن جعلها عشراً ، ثمّ بدا له بعد مراجعة خامسة أن جعلها خمساً.

وبغضّ النظر عن قبولنا بهذه الرواية وعدمه ، فإنّ القول بالبداء عقيدة سليمة تتماشى ومفاهيم الدين الإسلامي وروح القرآن :( إنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ ) (2) .

ولولا اعتقادنا ـ سنّة وشيعة ـ بأنّ اللّه سبحانه يبدّلُ ويُغيّر ، لما كان لصلاتنا ودعائنا من فائدة ولا تعليل ولا تفسير ، كما أنّنا نؤمن

__________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ الرعد : 11.

٣٠٢

جميعاً بأنّ اللّه سبحانه يبدّل الأحكام ، وينسخ الشرائع من نبي لآخر ، بل وحتى في شريعة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك ناسخ ومنسوخ ، فالقول بالبداء ليس كفراً ولا خروجاً على الدين ، وليس لأهل السنّة أن يشنّعوا على الشيعة من أجل هذا الاعتقاد ، كما أنّه ليس للشيعة أن يشنّعوا على أهل السنّة أيضاً.

والحقيقة أنّي أرى رواية المعراج هذه مستوجبة لنسبة الجهل إلى اللّه عزّ وجلّ ، وموجبة لانتقاص شخصية أعظم إنسان عرفه تاريخ البشرية ، وهو نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ تقول الرواية بأنّ موسى قال لمحمّد : أنا أعلم بالناس منك ، وتجعل هذه الرواية الفضل والمزيّة لموسى الذي لولاه لما خفّف اللّه عن أُمّة محمّد.

ولستُ أدري كيف يعلمُ موسى بأنّ أُمّة محمّد لا تطيق حتى خمس صلوات ، في حين أنّ اللّه لا يعلمُ ذلك ويكلّف عباده بما لا يطيقون ، فيفرض عليهم خمسين صلاة؟!

وهل تتصوّر معي أخي القارئ كيف تكون خمسين صلاة في اليوم الواحد ، فلا شغل ولا عمل ، ولا دراسة ولا طلب رزق ولا سعي ولا مسؤولية ، فيصبح الإنسان كالملائكة مكلّف بالصلاة والعبادة ، وما عليك إلاّ بعملية حسابية بسيطة لتعرف كذب الرواية ، فإذا ضربت عشر دقائق ـ وهو الوقت المعقول لأداء فريضة واحدة

٣٠٣

للصلاة جماعة ـ في الخمسين فسيكون الوقت المفروض بمقدار عشر ساعات ، وما عليك إلاّ بالصبر ، أو أنّك ترفض هذا الدين الذي يكلّف أتباعه فوق ما يتحمّلون ، ويفرض عليهم ما لا يطيقون.

فإذا كان أهل السنّة والجماعة يشنّعون على الشيعة قولهم بالبداء ، وأنّ اللّه سبحانه وتعالى يبدو له فيغيّر ويبدّل كيف شاء ، فلماذا لا يشنّعون على أنفسهم في قولهم بأنّ اللّه سبحانه يبدوا له ، فيغيّر ويبدّل الحكم خمس مرّات في فريضة واحدة وفي ليلة واحدة وهي ليلة المعراج؟

لعن اللّه التعصّب الأعمى والعناد المقيت الذي يغطّي الحقائق ويقلبها ظهراً على عقب ، فيتحامل المتعصّب على مَن يخالفه في الرأي ، وينكر عليه الأُمور الواضحة ، ويقوم بالتشنيع عليه وبثّ الإشاعات ضدّه ، والتهويل في أبسط القضايا ، التي يقول هو بأكثر منها.

وهذا يذكّرني بما قاله سيّدنا عيسىعليه‌السلام لليهود عندما قال لهم :

« أنتم تنظرون إلى التبنةِ في أعين الناس. ولا تنظرون إلى الخشبة في أعينكم ».

وبالمثل القائل : « رمتني بدائها وانسلّت ».

ولعلّ البعض يعترض بأنّه لم يرد لفظ البداء عند أهل السنّة ، وبأنّ

٣٠٤

هذه القصّة وإن كان معناها التغيير والتبديل في الحكم ولكن لا تقطع بأنّه بدا للّه فيها.

وأقول هذا لأنّه كثيراً ما كنتُ أستعرض قصّة المعراج للاستدلال بها على القول بالبداء عند أهل السنّة ، فأعترض علىّ بعضُهم بهذا الرأي ، ولكنّهم سلّموا بعدها عندما أوقفتهم على رواية أُخرى من صحيح البخاري تذكر البداء بلفظة صراحة لا لبس فيها.

فقد روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّ ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع بدا للّه أن يبتليهم ، فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص ، فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ فقال : لون حسن وجلد حسن ، قد قذرني الناس ، فمسحه فذهب عنه ، فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً ، ثمّ قال له : أيّ المال أحبّ إليك؟ فقال : الإبل ، فأُعطي ناقة عشراء.

وأتى الأقرع فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال : شعر حسن ويذهبُ عني هذا ، قد قذرني الناس ، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعراً حسناً ، ثمّ قال له : أيّ المال أحبّ إليك؟ فقال : البقر ، فأعطاه بقرة حاملاً.

وأتى الأعمى فقال : أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال : يرد اللّه بصري ، فمسحه فردّ اللّه إليه بصره ، قال : فأيّ المال أحب إليك؟ قال : الغنم ،

٣٠٥

فأعطاه شاة ولوداً ...

ثمّ رجع الملك بعدَ أن تكاثرت عند هؤلاء الإبل والبقر والغنم حتّى أصبح يملك كلّ منهم قطيعاً ، فأتى الأبرص والأقرع والأعمى كلّ على صورته ، وطلب من كلّ واحد منهم أن يعطيه ممّا عنده ، فردّه الأقرع والأبرص ، فأرجعهما اللّه إلى ماكانا عليه ، وأعطاه الأعمى فزاده اللّه وأبقاه مبصراً »(1) .

ولهذا أقول لأخواني قول اللّه تعالى :

( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْم عَسَى أنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاء عَسَى أنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أنفُسَكُمْ وَلا تَـنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الفُسُوقُ بَـعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَـتُبْ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (2) .

كما أتمنّى من كلّ قلبي أن يثوب المسلمون إلى رشدهم وينبذُوا التعصّب ويتركوا العاطفة؛ ليحلّ العقلُ محلّها في كلّ بحث حتى مع أعدائهم ، وليتعلّموا من القرآن الكريم أُسلوب البحث والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن ، فقد أوحى إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنْ يقول

__________________

1 ـ صحيح البخاري 4 : 146 ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع صحيح مسلم 8 : 213 ، كتاب الزهد والرقائق.

2 ـ الحجرات : 11.

٣٠٦

للمعاندين( وَإنَّا أوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أوْ فِي ضَلال مُبِين ) (1) ، فرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفع من قيمة هؤلاء المشركين ، ويتنازل هو ليعطيهم النصف حتّى يُدلوا ببرهانهم وأدلّتهم إن كانوا صادقين ، فأين نحن من هذا الخلق العظيم.

__________________

1 ـ سبأ : 24.

٣٠٧
٣٠٨

التقية

وكما قدّمنا بالنسبة إلى القول بالبداء ، فإنّ التقيّة هي أيضاً من الأُمور المستنكرة عند أهل السنّة والجماعة ، وهم ينبزون بها إخوانهم الشيعة ، ويعتبرونهم منافقين إذ يظهرون ما لا يبطنون!!

وكثيراً ماحاورْتُ البعض منهم وحاولتُ إقناعهم بأنّ التقّية ليست نفاقاً ، ولكنّهم لم يقتنعوا بل إنك تجد السامع لهذا يشمئزّ أحياناً ، ويتعجّب أحياناً أُخرى ، وهو يظنّ أنّ هذه العقائد مبتدعة في الإسلام ، وكأنّها من مختلقات الشيعة وبدعهم.

ولكن إذا بحث الباحث وأنصف المنصف سيجد أنّ هذه العقائد كلَّها من صلب الإسلام ، وهي وليدة القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة ، بل لا تستقيم المفاهيم الإسلامية السمحاء ، والشريعة القويمة إلاّ بها.

والأمر العجيب في أهل السنّة والجماعة ، أنّهم يستنكرون عقائد يقولون بها ، وكتبهم وصحاحهم ومسانيدهم مليئة بذلك وتشهد عليهم.

فاقرأ معي مايقوله أهل السنّة والجماعة في مسألة التقيّة :

٣٠٩

أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى :( إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (1) قال : التقيّة باللسان ، من حمل على أمر يتكلّم به وهو معصية للّه فيتكلّم به مخاف الناس وقلبه مطمئن بالإيمان فإنّ ذلك لا يضرّه ، إنما التقيّة باللسان(2) .

وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عبّاس في قوله تعالى :( إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) قال : التقاة هي التكلّم باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان(3) .

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : التقيّة جائزة إلى يوم القيامة(4) .

وأخرج عبد بن أبي رجاء إنّه كان يقرأ : ( إلا أنْ تتّقوا منهم تقيّةً )(5) .

__________________

1 ـ آل عمران : 28.

2 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي 2 : 16 ، وتفسير الطبري 3 : 310.

3 ـ السنن الكبرى للبيهقي 8 : 209 ، المستدرك للحاكم 2 : 291 ، تفسير الطبري 3 : 310 ، الدر المنثور 2 : 16.

4 ـ الدر المنثور لجلال الدين السيوطي 2 : 16.

5 ـ المصدر السابق.

٣١٠

وأخرج عبدالرزاق ، وابن سعد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وصحّحه الحاكم في المستدرك ، والبيهقي في الدلائل ، قال : أخذ المشركون عمّار بن ياسر فلم يتركوه حتّى سبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر آلهتم بخير ثمّ تركوه ، فلمّا أتى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ماوراءك شيء؟ قال : شرّ ، ما تركتُ حتّى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخير ، قال : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئنّ بالإيمان ، قال : إن عادوا فعد ، فنزلتْ( إلاّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) (1) .

وأخرج ابن سعد عن محمّد بن سيرين : إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقي عمّاراً وهو يبكي ، فجعل يمسحُ عن عينيه ويقول : « أخذك الكفّار فغطّوك في الماء فقلتَ كذا وكذا ، فإن عادوا فقل لهم ذلك »(2) .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه من طريق علي ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى :( من كفر باللّه ) الآية ، قال : أخبر اللّه سبحانه : أنّ من كفر باللّه من بعد إيمانه فعليه غضَبٌ من اللّه وله عذاب عظيم ، فأمّا من أكره فتكلّم بلسانه وخالفه قلبهُ بالإيمان لينجُوا بذلك من عدوّه فلا حرج عليه؛ لأنّ اللّه

__________________

1 ـ سورة النحل : 106 ، والنصّ في الدر المنثور 4 : 132 ، المستدرك للحاكم 2 : 357 ، وسنن البيهقي 8 : 208.

2 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3 : 249 ، الدر المنثور 4 : 132 ، سير أعلام النبلاء 1 : 411.

٣١١

سبحانه إنمّا يؤاخذ العباد بما عقدتْ عليه قُلوبهم(1) .

وأخرج أبن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزلتْ هذه الآيه في أُناس من أهل مكّة آمنوا ، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة : أن هاجروا فإنّا لا نرى أنكم منّا حتّى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم ، فكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية :( إلاّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) (2) .

وأخرج البخاري في صحيحه في باب المداراة مع الناس ، ويذكر عن أبي الدرداء قال : « إنّا لنُكشّر في وجوه أقوام وأن قلوبنا لتلعَنُهم »(3) .

وأخرج الحلبي في سيرته قال : لمّا فتح رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينة خيبر ، قال له حجاج بن علاط : يارسول اللّه إن لي بمكّة مالاً ، وإن لي بها أهلاً ، وأنا أُريد أن آتيهم فأنا في حلّ إن أنا نلتُ منكَ ، وقلتُ شيئا؟ فأذن له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول مايشاء(4) .

__________________

1 ـ الدر المنثور 4 : 132 ، تفسير الطبري 14 : 238 ، سنن البيهقي 8 : 209.

2 ـ الدرّ المنثور 4 : 132 ، تفسير القرطبي 10 : 181.

3 ـ صحيح البخاري 7 : 102 ، كتاب الأدب ، باب 83 المداراة مع الناس.

4 ـ السيرة الحلبية 3 : 76 ، مسند أحمد 3 : 138 ، المصنّف لابن أبي شيبة 5 : 466 ح 9771 ، السنن للنسائي 5 : 194 ح 8646.

٣١٢

وجاء في كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي قوله : « إن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب »(1) .

وأخرج جلال الدين السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر ، قال : « ويجوز أكل الميتة في المخمصة ، وإساغة اللقمة في الخمر ، والتلفّظ بكلمة الكفر ، ولو عمّ الحرامُ قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً ، فإنّه يجوز استعمال مايحتاج إليه »(2) .

وأخرج أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى :( إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) قال : يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء ، فتتّقوهم بإظهار المولاة من غير اعتقاده لها ، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ ، وعليه الجمهور من أهل العلم ، كما جاء عن قتادة في قوله تعالى :( لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ ) (3) قال : لا يحلّ لمؤمن أن يتّخذ كافراً ولياً في دينه ، وقوله تعالى :( إلاّ أنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) يقتضي جواز

__________________

1 ـ إحياء علوم الدين 3 : 202 كتاب آفات اللسان ، بيان ما رخص فيه من الكذب.

2 ـ الأشباه والنظائر : 207 ـ 208.

3 ـ آل عمران : 28.

٣١٣

إظهار الكفر عند التقيّة »(1) .

وأخرج البخاري في صحيحه عن قتيبة بن سعيد ، عن سفيان ، عن ابن المكندر ، حدّثه عن عروة بن الزبير ، أنّ عائشة أخبرته أنّه استأذن على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل ، فقال : إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة ، فلمّا دخل ألاَنَ له الكلام ، فقلت : يارسول اللّه قلت ماقلت ثمّ أَلْنتَ له في القول؟ فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أي عائشة ، إن شرّ الناسُ منزلة عند اللّه من تركه أو ودعه الناس اتّقاء فُحِشِه »(2) .

وهذا يكفينا دلالة بعد استعراض ماسبق على أنّ أهل السنّة والجماعة يؤمنون بجواز التقيّة إلى أبعد حدودها من أنّها جائزة إلى يوم القيامة كما مرّ عليك ، ومن وجوب الكذب كما قال الغزّالي ، ومن إظهار الكفر وهو مذهب الجمهور من أهل العلم كما اعترف بذلك الرازي ، ومن جواز الابتسام في الظاهر واللعن في الباطن كما اعترف بذلك البخاري ، ومن جواز أن يقول الإنسان مايشاء وينال من رسول اللّه خوفاً على ماله كما صرّح بذلك صاحب السيرة

__________________

1 ـ أحكام القرآن للرازي الجصاص 2 : 12.

2 ـ صحيح البخاري 7 : 86 ، كتاب الأدب ، باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب.

٣١٤

الحلبية ، وأن يتكلّم بما فيه معصية اللّه مخافة الناس كما اعترف به السيوطي.

فلا مبرّر لأهل السنّة والجماعة في التشنيع والإنكار على الشيعة من أجل عقيدة يقولون بها هم أنفسهم ، ويروونها في صحاحهم ومسانيدهم بأنّها جائزة بل واجبة ، ولم يزد الشيعة على ماقاله أهل السنّة شيئاً ، سوى أنّهم اشتهروا بالعمل بها أكثر من غيرهم ، لما لاقوه من الأمويين والعباسيين من ظلم واضطهاد ، فكان يكفي في تلك العصور أن يقال : هذا رجل يتشيّع لأهل البيت ليلاقي حتفه ، ويُقتلُ شرّ قتلة على يد أعداء أهل البيت النبوي.

فكان لابدّ له من العمل بالتقيّة اقتداء بما أشار عليهم أئمة أهل البيتعليهم‌السلام ، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق إنّه قال « التقيّة ديني ودين آبائي »(1) وقال : « من لا تقيّة له لا دين له »(2) .

وقد كانت التقيّة شعاراً للأئمة أهل البيت أنفسهم دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم ومحبّيهم ، وحقناً لدمائهم واستصلاحاً لحال المسلمين الذين فُتنُوا في دينهم ، كما فُتنَ عمّار بن ياسر ( رضي الله عنه ) وحتى أكثر.

__________________

1 ـ الكافي 2 : 219 ح 12 ، ولفظه : « التقية من ديني ودين آبائي ».

2 ـ الكافي 2 : 217 ح 2 ، ولفظه : « لا دين لمن لا تقية له ».

٣١٥

أمّا أهل السنّة والجماعة فقد كانوا بعيدين عن ذلك البلاء؛ لأنّهم كانوا في معظم عهودهم على وفاق تام مع الحكّام ، فلم يتعرّضوا لا لقتل ولا لنهب ولا لظلم ، فكان من الطبيعي جدّاً أن ينكروا التقيّة ويشنّعون على العاملين بها ، وقد لعب الحكّام من بني أميّة وبني العباس دوراً كبيراً في التشهير بالشيعة من أجل التقيّة.

وبما أنّ اللّه سبحانه أنزل فيها قرآناً يُتلى وأحكاماً تُقضى ، وبما أنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمل هو نفسه بها ، كما مرّ عليك في صحيح البخاري ، وأنّه أجاز لعمّار بن ياسر أن يسبّه ويكفر إذا عاوده الكفّار بالتعذيب ، وبما أنّ علماء المسلمين أجازوا ذلك اقتداء بكتاب اللّه وسنّة رسوله؛ فأيّ تشنيع وأيّ استنكار بعد هذا يصحّ أنْ يوجّه إلى الشيعة؟!

وقد عمل بالتقية الصحابة الكرام في عهد الحكّام الظالمين(1)

__________________

1 ـ روى ابن حزم في المحلّى 8 : 336 مسألة 1409 عن ابن مسعود أنه قال : « ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عنّي سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به » ، ثم قال ابن حزم : « ولا يعرف له من الصحابة مخالف ».

وقال السرخسي في المبسوط 24 : 46 و 47 : « وقد كان حذيفة ممّن يستعمل التقية على ما روى أنه يداري رجلا وعن جابر بن عبداللّه قال : لا جناح عليّ في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها ».

وكذلك استخدم التقيّة التابعين ومتشرعة الاُمّة الإسلاميّة :

٣١٦

أمثال معاوية الذي كان يقتل كلّ من امتنع عن لعن عليّ بن أبي طالب ، وقُصة حجـر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة(1) وأمثال

__________________

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 4 : 227 : « لما استخلف الوليد قدم المدينة فدخل المسجد ، فرأى شيخاً قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا؟ قالوا : سعيد بن المسيّب. فلمّا جلس أرسل إليه ، فأتاه الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين! فقال : لعلّك أخطأت باسمي أو لعلّه أرسلك إلى غيري ، فردّ الرسول ، فأخبره ، فغضب وهمّ به. قال : وفي الناس يومئذ تقية ».

وقال أيضاً في السير 10 : 481 ـ في ترجمة سعدويه بن سليمان ، وبعد أن وصفه بالحافظ الثبت الإمام ـ : « وأما أحمد بن حنبل فكان يغض منه ، ولا يرى الكتابة عنه ، لكون أجاب في المحنة تقية ».

وقال في ترجمة أبو نصر التمار 10 : 571 : « وقال أبو الحسن الميموني : صحّ عندي أنه ـ يعني أحمد ـ لم يحضر أبا نصر التمار حين مات ، فحسبت أنّ ذلك لما كان أجاب في المحنة.

قلت : أجاب تقية وخوفاً من النكال. وهو ثقة بحاله والحمد للّه ».

وقال في السير 11 : 87 : « قال سعيد بن عمرو البرذعي : سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي يقول : كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار ، ولا عن يحيى بن معين ، ولا عن أحد ممن أجاب في المحنة. قلت : هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة ، بل ولا على من أجبر على صريح الكفر عملا بالآية. وكان يحيى ( رحمه الله ) من أئمة السنّة ، فخاف من سطوة الدولة ، وأجاب تقية ».

1 ـ ذكر في كشف الجاني : 161 أن المؤلّف ادّعى على معاوية ثلاث دعاوى :

٣١٧

__________________

أ ـ إنّ الصحابة كانوا يستخدمون التقية مع معاوية.

وقال : « هذا كذب ».

ب ـ إنّ معاوية كان ظالماً.

وقال : « هذا كذب ، بل هو إمام عادل ».

جـ ـ إنّ معاوية كان يقتل شيعة عليّ والممتنعين عن لعنه.

وقال : « هذا كذب ».

وهذه التكذيبات الثلاثة ليست صحيحة ، بل الحقّ مع المؤلّف من كون معاوية ظالماً ، وكان الصحابة يتوقون بطشه وكيده.

ومن يقرأ كلام عثمان الخميس في كشف الجاني يرى العجب العجاب ، ويخيل إليه أنه لم يطلع على الكتب التاريخية والروائية التي ذكرت جرائم معاوية وما ارتكبه بحقّ أهل البيت وشيعتهم ، وما اقترفه من ظلم وتعدّي بحقّ الشريعة الإسلامية والسنّة النبوية.

وأمّا ما ذكره التيجاني ، فهو الصواب الذي نطقت به الأخبار وطفحت به الآثار :

أما النقطة الأُولى :

فإنّ الصحابة كانوا يستخدمون التقية مع معاوية ، لاتقاء شرّه وأذاه والابتعاد عن الوقوع في فلك ظلمه وبطشه :

فقد أخرج ابن عساكر بسنده قال : « لمّا قدم بسر بن أرطأة المدينة أخذ الناس بالبيعة ، فجاءت بنو سلمة ، وتغيب جابر ، قال : لا أبايعكم حتى يجيء جابر ، قال : فانطلق جابر الى أُم سلمة فسألها ، فقالت : هذه بيعة لا أرضاها ، إذهب فبايع تحقن دمك » تاريخ دمشق : 11 : 235 ، الاستيعاب لابن عبد البر 1 :

٣١٨

__________________

241 ـ 246.

وكذلك استخدم التقيّة التابعين ومتشرعة الأُمّة الإسلاميّة : قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 4 : 227 : « ..لما استخلف الوليد قدم المدينة فدخل المسجد ، فرأى شيخاً قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا؟ قالوا : سعيد بن المسيّب : فلمّا جلس أرسل إليه ، فأتاه الرسول فقال : أجب أمير المؤمنين! فقال : لعلّك أخطأت باسمي أو لعلّه أرسلك إلى غيري ، فردّ الرسول ، فأخبره ، فغضب وهم به. قال : وفي الناس يومئذ تقيّة ».

وقال أيضاً في السير 10 : 481 ـ في ترجمة سعدويه بن سليمان ، وبعد أن وصفه بالحافظ الثبت الإمام ـ : « وأمّا أحمد بن حنبل فكان يغض منه ، ولا يرى الكتابة عنه ، لكونه أجاب في المحنة تقيّة ».

وقال في ترجمة أبو نصر التمار 10 : 571 : « وقال أبو الحسن الميموني : صحّ عندي أنّه ـ يعني أحمد ـ لم يحضر أبا نصر التمار حين مات ، فحسبت أنّ ذلك لما كان أجاب في المحنة.

قلت : أجاب تقيّة وخوفاً من النكال. وهو ثقة بحاله والحمدللّه ».

وقال في السير 11 : 87 : « قال سعيد بن عمرو البرذعي : سمعت الحافظ أبا زرعة الرازي يقول : كان أحمد بن حنبل لا يرى الكتابة عن أبي نصر التمار ، ولا عن يحيى بن معين ، ولا عن أحد ممن أجاب في المحنة. قلت : هذا أمر ضيق ولا حرج على من أجاب في المحنة ، بل ولا على من أجبر على صريح الكفر عملاً بالآية. وكان يحيى ( رحمهم الله ) من أئمة السنّة ، فخاف من سطوة الدولة ، وأجاب تقيّة ».

وفي كتاب الثقات لابن حبان 2 : 299 : « فدخل جابر على أُم سلمة وقال :

٣١٩

__________________

يا أُماه إنّي خشيت على دمي ، وهذه بيعة ضلال! فقالت : أرى أن تبايع ، فخرج جابر فبايع بسر بن أرطأة لمعاوية كارهاً ».

فهذا جابر تأمره أم سلمة أن يحقن دمه ويبايع ، أي يتقي بسر بن أرطأة الذي أرسله معاوية للمدينة لأخذ البيعة له ، بل ويصرّح في رواية ابن حبان أنها بيعة ضلال مع أنه بايع!! وحينئذ لا معنى لبيعته إلاّ أنها تقية من بني أمية وبطش معاوية.

وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار : « قوله : إن زياد بن أبي سفيان ، وقع التحديث بهذا في زمن بني أمية ، وأمّا بعدهم فما كان يقال له إلاّ زياد بن أبيه ، وقبل استلحاق معاوية له كان يقال له زياد بن عبيد فلمّا كان في أيام معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأنّ زياداً ولده فاستلحقه معاوية بذلك وخالف الحديث الصحيح : إنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وذلك لغرض دنيوي وقد أجمع أهل العلم على تحريم نسبته إلى أبي سفيان ، وما وقع من أهل العلم في زمان بني أمية فإنّما هو تقية ». نيل الأوطار : 5 : 194.

فهذه رواية وشهادة من علم من أعلام أهل السنّة على سطوة معاوية وظلمه التي حدث بالصحابة وغيرهم لاستخدام التقية معه.

وأمّا النقطة الثانية :

فإنّ معاوية كان ظالماً معتدياً على حقّ اللّه وحقّ عباده ، بل ارتكب معاوية ما هو أشدّ من الظلم والبغي والخروج على الإمام الذي تجب طاعته ، وهذه الروايات والأقوال تبين ظلم معاوية وبغيه :

1 ـ روي البيهقي وابن أبي شيبة وابن عساكر بسند متصل عن عمّار بن ياسر أنه : « لا تقولوا كفر أهل الشام ، ولكن قولوا فسقوا أو ظلموا » السنن الكبرى

٣٢٠