الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85287
تحميل: 7375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85287 / تحميل: 7375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كذا و وجه النهار، و ربّما عبّر عن الذات بالوجه في قول الله:( وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) ، قيل: ذاته و قيل أراد بالوجه ههنا التوجّه إلى الله بالأعمال الصالحة.

و قال:( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ) ،( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ) ،( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ) ، قيل: إنّ الوجه في كلّ هذا ذاته و يعني بذلك كلّ شي‏ء هالك إلّا هو و كذا في أخواته، و روي أنّه قيل ذلك لأبي عبدالله بن الرضا فقال: سبحان الله لقد قالوا قولاً عظيماً إنّما عنى الوجه الّذي يؤتى منه و معناه: كلّ شي‏ء من أعمال العباد هالك و باطل إلّا ما اُريد به الله، و على هذا الآيات الاُخر، و على هذا قوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، انتهى.

أقول: أمّا الانتقال الاستعماليّ من الوجه بمعنى الجارحة إلى مطلق ما يستقبل به الشي‏ء غيره توسّعاً فلا ريب فيه على ما هو المعهود من تطوّر الألفاظ في معانيها لكنّ النظر الدقيق لا يسوّغ إرادة الذات من الوجه فإنّ الشي‏ء أيّاً مّا كان إنّما يستقبل غيره بشي‏ء من ظواهر نفسه من صفاته و أسمائه، و هي الّتي تتعلّق بها المعرفة فإنّا إنّما نعرف ما نعرف بوصف من أوصافه أو اسم من أسمائه ثمّ نستدلّ بذلك على ذاته من غير أن نماسّ ذاته مساساً على الاستقامة.

فإنّا إنّما ننال معرفة الأشياء أوّلاً بأدوات الحسّ الّتي لا تنال إلّا الصفات من أشكال و تخاطيط و كيفيّات و غير ذلك من دون أن ننال ذاتاً جوهريّة ثمّ نستدلّ بذلك على أنّ لها ذوات جوهريّة هي القيّمة لأعراضها و أوصافها التابعة لما أنّها تحتاج إلى ما يقيم أودها و يحفظها ففي الحقيقة قولنا: ذات زيد مثلاً معناه الشي‏ء الّذي نسبته إلى أوصاف زيد و خواصّه كنسبتنا إلى أوصافنا و خواصّنا فإدراك الذوات إدراكاً فكريّاً يكون دائماً بضرب من القياس و النسبة.

و إذا لم يمكن إدراك الذوات الماهويّة بإدراك تامّ فكريّ إلّا من طريق أوصافها و آثارها بضرب من القياس و النسبة فالأمر في الله سبحانه و لا حدّ لذاته و لا نهاية لوجوده أوضح و أبين، و لا يقع العلم على شي‏ء إلّا مع تحديد مّا له فلا مطمع في الإحاطة العلميّة به تعالى قال:( وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (طه: ١١١) و قال:( وَ لا يُحِيطُونَ

١٠١

بِهِ عِلْماً ) (طه: ١١٠).

لكنّ وجه الشي‏ء لمّا كان ما يستقبل به غيره كانت الجهة بمعنى الناحية أعني ما ينتهي إليه الإشارة وجهاً فإنّها بالنسبة إلى الشي‏ء الّذي يحدّ الإشارة كالوجه بالنسبة إلى الإنسان يستقبل غيره به، و بهذه العناية تصير الأعمال الصالحة وجهاً لله تعالى كما أنّ الأعمال الطالحة وجه للشيطان و هذا بعض ما يمكن أن ينطبق عليه أمثال قوله:( يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ) و قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ) و غير ذلك، و كذا الصفات الّتي يستقبل بها الله سبحانه خلقه كالرحمة و الخلق و الرزق و الهداية و نحوها من الصفات الفعليّة بل الصفات الذاتيّة الّتي نعرفه تعالى بها نوعاً من المعرفة كالحياة و العلم و القدرة كلّ ذلك وجهه تعالى يستقبل خلقه بها و يتوجّه إليه من جهتها كما يشعر به بعض الأشعار أو الدلالة قوله تعالى:( وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) (الرحمن: ٢٧) فإنّ ظاهر الآية أنّ قوله:( ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ ) نعت للوجه دون الربّ فافهم ذلك.

و إذا صحّ أنّ ناحيته تعالى جهته و وجهه صحّ بالجملة أنّ كلّ ما ينسب إليه تعالى نوعاً من نسبة القرب كأسمائه و صفاته و كدينه، و كالأعمال الصالحة و كذا كلّ من يحلّ في ساحة قربه كالأنبياء و الملائكة و الشهداء و كلّ مغفور له من المؤمنين وجه له تعالى.

و بذلك يتبيّن أوّلاً: معنى قوله سبحانه:( وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ) (النحل: ٩٦) و قوله:( وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ) (الأنبياء: ١٩) و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ ) (الأعراف: ٢٠٦)، و قوله فيمن يقتل في سبيل الله:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (آل عمران: ١٦٩) و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ) (الحجر: ٢١) فالآيات تدلّ بانضمام الآية الاُولى إليهنّ أنّ هذه الاُمور كلّها باقية ببقائه تعالى لا سبيل للهلاك و البوار إليها، ثمّ قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (القصص: ٨٨) فدلّ الحصر الّذي في الآية على أنّ ذلك كلّه وجه لله سبحانه و بعبارة اُخرى كلّها واقعة في جهته تعالى مستقرّة مطمئنّة في جانبه و ناحيته.

و ثانياً: أنّ ما تتعلّق به إرادة العبد من ربّه هو وجهه كما في قوله:( يَبْتَغُونَ فَضْلًا

١٠٢

مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً ) (المائدة: ٢) و قوله:( ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) (الإسراء: ٢٨) و قوله:( وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (المائدة: ٣٥) فكلّ ذلك وجهه تعالى لأنّ صفات فعله تعالى كالرحمة و المرضاة و الفضل و نحو ذلك من وجهه، و كذلك سبيله تعالى من وجهه على ما تقدّم، و قال تعالى:( إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ ) (البقرة: ٢٧٢).

و قوله:( ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الحساب هو استعمال العدد بالجمع و الطرح و نحو ذلك، و لمّا كان تمحيص الأعمال و تقديرها لتوفية الأجر أو أخذ النتيجة و نحوهما لا يخلو بحسب العادة من استعمال العدد بجمع أو طرح سمّي ذلك حساباً للأعمال.

و إذ كان حساب الأعمال لتوفية الجزاء، و الجزاء إنّما هو من الله سبحانه فالحساب على الله تعالى أي في عهدته و كفايته كما قال:( إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى‏ رَبِّي ) (الشعراء: ١١٣)، و قال:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) (الغاشية: ٢٦) و عكس في قوله:( إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَسِيباً ) (النساء: ٨٦) للدلالة على سلطانه تعالى و هيمنته على كلّ شي‏ء.

و على هذا فالمراد من نفي كون حسابهم عليه أو حسابه عليهم نفي أن يكون هو الّذي يحاسب أعمالهم ليجازيهم حتّى إذا لم يرتض أمرهم و كره مجاورتهم طردهم عن نفسه أو يكونوا هم الّذين يحاسبون أعماله حتّى إذا خاف مناقشتهم أو سوء مجازاتهم أو كرههم استكباراً و استعلاءً عليهم طردهم، و على هذا فكلّ من الجملتين:( ما عَلَيْكَ ) إلخ،( و ما عليهم) إلخ، مقصودة في الكلام مستقلّة.

و ربّما أمكن أن يستفاد من قوله:( ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) نفي أن يحمل عليه حسابهم أي أعمالهم المحاسبة حتّى يستثقله و ذلك بإيهام أنّ للعمل ثقلاً على عامله أو من يحمل عليه فالمعنى ليس شي‏ء من ثقل أعمالهم عليك، و على هذا فاستتباعه بقوله:( وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) - و لا حاجة إليه لتمام الكلام بدونه - إنّما هو لتتميم أطراف الاحتمال و تأكيد مطابقة الكلام، و من الممكن أيضاً أن يقال: إنّ مجموع الجملتين أعني قوله:( ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) كناية عن نفي الارتباط بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بينهم من حيث الحساب.

١٠٣

و ربّما قيل: إنّ المراد بالحساب حساب الرزق دون حساب الأعمال و المراد: ليس عليك حساب رزقهم، و إنّما الله يرزقهم و عليه حساب رزقهم، و قوله:( وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ ) إلخ، جي‏ء به تأكيداً لمطابقة الكلام على ما تقدّم في الوجه السابق، و الوجهان و إن أمكن توجيههما بوجه لكنّ الوجه هو الأوّل.

و قوله:( فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الدخول في جماعة الظالمين متفرّع على طردهم أي طرد الّذين يدعون ربّهم فنظم الكلام بحسب طبعه يقتضي أن يفرّع قوله:( فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، على قوله في أوّل الآية:( وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ ) إلخ، إلّا أنّ الكلام لمّا طال بتخلّل جمل بين المتفرّع و المتفرّع عليه اُعيد لفظ الطرد ثانياً في صورة الفرع ليتفرّع عليه قوله:( فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) بنحو الاتّصال و يرتفع اللبس.

فلا يرد عليه أنّ الكلام مشتمل على تفريع الشي‏ء على نفسه فإنّ ملخّصه: و لا تطرد الّذين يدعون ربّهم فتطردهم، و ذلك أنّ إعادة الطرد ثانياً لإيصال الفرع أعني قوله:( فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ، إلى أصله كما عرفت.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا ) إلى آخر الآية، الفتنة هي الامتحان، و السياق يدلّ على أنّ الاستفهام في قوله:( أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ) للتهكّم و الاستهزاء، و معلوم أنّهم لا يسخرون إلّا ممّن يستحقرون أمره و يستهينون موقعه من المجتمع، و لم يكن ذلك إلّا لفقرهم و مسكنتهم و انحطاط قدرهم عند الأقوياء و الكبرياء منهم.

فالله سبحانه يخبر نبيّه أنّ هذا التفاوت و الاختلاف إنّما هو محنة إلهيّة يمتحن بها الناس ليميز به الكافرين من الشاكرين، فيقول أهل الكفران و الاستكبار في الفقراء المؤمنين:( أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ) فإنّ السنن الاجتماعيّة عند الناس توصف بما عند المستنّ بها من الشرافة و الخسّة، و كذا العمل يوزن بما لعامله من الوزن الاجتماعيّ فالطريقة المسلوكة عند الفقراء و الأذلّاء و العبيد يستذلّه الأغنياء و الأعزّة، و العمل الّذي أتى به مسكين أو الكلام الّذي تكلّم به عبد أو أسير مستذلّ لا يعتني به اُولو الطول و القوّة.

١٠٤

فانتحال الفقراء و الاُجراء و العبيد بالدين، و اعتناء النبيّ بهم و تقريبه إيّاهم من نفسه كالدليل عند الطغاة المستكبرين من أهل الاجتماع على هوان أمر الدين و أنّه دون أن يلتفت إليه من يعتني بأمره من الشرفاء و الأعزّة.

و قوله تعالى:( أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) جواب عن استهزائهم المبنيّ على الاستبعاد، بقولهم:( أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا ) و محصّله أنّ هؤلاء شاكرون لله دونهم و لذلك قدّم هؤلاء لمنّه و أخّرهم فكنّى سبحانه عن ذلك بأنّ الله أعلم بالشاكرين لنعمته أي إنّهم شاكرون، و من المسلّم أنّ المنعم إنّما يمنّ و ينعم على من يشكر نعمته و قد سمّى الله تعالى توحيده و نفي الشريك عنه شكراً في قوله حكاية عن قول يوسفعليه‌السلام :( ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) (يوسف: ٣٨).

فالآية تبيّن أنّهم بجهالتهم يبنون الكرامة و العزّة على التقدّم في زخارف الدنيا من مال و بنين و جاه، و لا قدر لها عند الله و لا كرامة، و إنّما الأمر يدور مدار صفة الشكر و النعمة بالحقيقة هي الولاية الإلهيّة.

قوله تعالى: ( وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) إلى آخر الآية، قد تقدّم معنى السلام، و المراد بكتابته الرحمة على نفسه إيجابها على نفسه أي استحالة انفكاك فعله عن كونه معنوناً بعنوان الرحمة، و الإصلاح هو التلبّس بالصلاح فهو لازم و إن كان بحسب الحقيقة متعديّاً و أصله إصلاح النفس أو إصلاح العمل.

و الآية ظاهرة الاتّصال بالآية الّتي قبلها يأمر الله سبحانه فيها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بعد ما نهاه عن طرد المؤمنين عن نفسه - أن يتلطّف بهم و يسلّم عليهم و يبشّر من تاب منهم عن سيّئة توبة نصوحاً بمغفرة الله و رحمته فتطيب بذلك نفوسهم و يسكن طيش قلوبهم.

و يتبيّن بذلك أوّلاً: أنّ الآية - و هي من آيات التوبة - إنّما تتعرّض للتوبة عن المعاصي و السيّئات دون الكفر و الشرك بدليل قوله:( مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ ) أي من المؤمنين بآيات الله.

و ثانياً: أنّ المراد بالجهالة ما يقابل الجحود و العناد اللّذين هما من التعمّد المقابل

١٠٥

للجهالة فإنّ من يدعو ربّه بالغداة و العشيّ يريد وجهه و هو مؤمن بآيات الله لا يعصيه تعالى استكباراً و استعلاءً عليه بل لجهالة غشيته باتّباع هوى في شهوة أو غضب.

و ثالثاً: أنّ تقييد قوله:( تابَ ) بقوله:( وَ أَصْلَحَ ) للدلالة على تحقّق التوبة بحقيقتها فإنّ الرجوع حقيقة إلى الله سبحانه و اللواذ بجنابه لا يجامع لطهارة موقفه التقذّر بقذارة الذنب الّذي تطهّر منه التائب الراجع، و ليست التوبة قول:( أتوب إلى الله ) قولاً لا يتعدّى من اللّسان إلى الجنان، و قد قال تعالى:( وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) : (البقرة: ٢٨٤).

و رابعاً: أنّ صفاته الفعليّة كالغفور و الرحيم يصحّ تقييدها بالزمان حقيقة فإنّ الله سبحانه و إن كتب على نفسه الرحمة لكنّها لا تظهر و لا تؤثّر أثرها إلّا إذا عمل بعض عباده سوءً بجهالة ثمّ تاب من بعده و أصلح.

و قد تقدّم في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ) إلى آخر الآيتين (النساء: ١٧) في الجزء الرابع من الكتاب ما له تعلّق بالمقام.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) تفصيل الآيات بقرينة المقام شرح المعارف الإلهيّة و تخليصها من الإبهام و الاندماج، و قوله:( وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ‏ ) اللّام فيه للغاية، و هو معطوف على مقدّر طوي عن ذكره تعظيماً و تفخيماً لأمره و هو شائع في كلامه تعالى، كقوله:( وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) (آل عمران: ١٤٠) و قوله:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (انعام: ٧٥).

فالمعنى: و كذلك نشرح و نميّز المعارف الإلهيّة بعضها من بعض و نزيل ما يطرء عليها من الإبهام لأغراض هامّة منها أن تستبين سبيل المجرمين فيتجنّبها الّذين يؤمنون بآياتنا، و على هذا فالمراد بسبيل المجرمين السبيل الّتي يسلكها المجرمون قبال الآيات النّاطقة بتوحيد الله سبحانه و المعارف الحقّة الّتي تتعلّق به و هي سبيل الجحود و العناد و الإعراض عن الآيات و كفران النعمة.

و ربّما قيل: إنّ المراد بسبيل المجرمين السبيل الّتي تسلك في المجرمين، و هي سنّة

١٠٦

الله فيهم من لعنهم في الدنيا و إنزال العذاب إليه بالآخرة، و سوء الحساب و أليم العقاب في الآخرة، و المعنى الأوّل أوفق بسياق الآيات المسرودة في السورة.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده فيه رفع عن الرضاعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ لم يقبض نبيّنا حتّى أكمل له الدين، و أنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شي‏ء بين فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام، و جميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، و قال عزّوجلّ:( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) .

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أحمد بن محمّد قال حدّثني جعفر بن محمّد قال حدّثنا كثير ابن عيّاش عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ ) يقول: صمّ عن الهدى بكم لا يتكلّمون بخير( فِي الظُّلُماتِ ) يعني ظلمات الكفر( مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) و هو ردّ على قدريّة هذه الاُمّة يحشرهم الله يوم القيامة من(١) الصابئين و النصارى و المجوس فيقولون( رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ‏ ) ، يقول الله:( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا إنّ لكلّ اُمّة مجوساً و مجوس هذه الاُمّة الّذين يقولون: لا قدر و يزعمون أنّ المشيّة و القدرة إليهم و لهم.

قال في البرهان، عند نقل الحديث: و في نسخة اُخرى من تفسير عليّ بن إبراهيم في الحديث هكذا: قال: فقال: ألا إنّ لكلّ اُمّة مجوساً، و مجوس هذه الاُمّة الّذين يقولون: لا قدر و يزعمون أنّ المشيّة و القدرة ليست لهم و لا عليهم، و في نسخة ثالثة، يقولون: لا قدر و يزعمون أنّ المشيّة و القدرة ليست إليهم و لا لهم‏، انتهى.

أقول: مسألة القدر من المسائل الّتي وقع الكلام فيها في الصدر الأوّل فأنكر القدر - و هو أنّ لإرادة الله سبحانه تعلّقاً مّا بأعمال العباد - قوم و أثبتوا المشيّة و القدرة

____________________

(١) مع ظ.

١٠٧

المستقلّتين للإنسان في فعله و أنّه هو الخالق له المستقلّ به، و سمّوا بالقدريّة أي المتكلّمين في القدر، و قد روى الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال:( القدريّة مجوس هذه الاُمّة) ، و انطباقه عليهم واضح فإنّهم يثبتون للأعمال خالقاً هو الإنسان و لغيرها خالقاً هو الله سبحانه و هو قول الثنويّة و هم المجوس بإلهين اثنين: خالق للخير، و خالق للشرّ.

و هناك روايات اُخر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن أئمّة أهل بيتهعليهم‌السلام تفسّر الرواية بالمعنى الّذي تقدّم، و تثبت أنّ هناك قدراً و أنّ لله مشيّة في أفعال عباده كما يثبته القرآن.

و قد أوّل المعتزلة و هم النافون للقدر الرواية بأنّ المراد بالقدريّة المثبتون للقدر، و هم كالمجوس في إسنادهم الخير و الشرّ كلّه إلى خالق غير الإنسان، و قد تقدّم بعض الكلام في ذلك، و سيجي‏ء استيفاؤه إن شاء الله تعالى.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ الجمع بين القول بأنّه لا قدر، و القول بأنّه ليست المشيّة و القدرة للإنسان و لا إليه جمع بين المتنافيين فإنّ القول بنفي القدر يلازم القول باستقلال الإنسان بالمشيّة و الاستطاعة، و القول بالقدر يلازم القول بنفي استقلاله بالمشيّة و القدرة.

و على هذا فما وقع في النسختين من الجمع بين قولهم: لا قدر، و قولهم: إنّ المشيّة و القدرة ليست لهم و لا إليهم ليس إلّا من تحريف بعض النسّاخ، و قد اختلط عليه المعنى حيث حفظ قوله( لا قدر ) و غيّر الباقي.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و الطبرانيّ في الكبير و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الشعب عن عقبة بن عامر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا و هو مقيم على معاصيه ما يحبّ فإنّما هو استدراج ثمّ تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) . الآية و الآية الّتي بعدها.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن عبادة بن الصامت: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله تبارك و تعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد و العفاف

١٠٨

و إذا أراد بقوم اقتطاعاً فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة حتّى إذا فرحوا بما اُوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الّذين ظلموا و الحمد لله ربّ العالمين.

و فيه، أخرج ابن المنذر عن جعفر قال: أوحى الله إلى داود: خفني على كلّ حال، و أخوف ما تكون عند تظاهر النعم عليك لا أصرعك عندها ثمّ لا أنظر إليك.

أقول: قوله: لا أصرعك نهي يفيد التحذير، و قوله: ثمّ لا أنظر إلخ منصوب للتفريع على النهي.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً ) الآية، قال: إنّها نزلت لمّا هاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة، و أصاب أصحابه الجهد و العلل و المرض فشكوا ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله: قُلْ لهم يا محمّد( أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ) أي لا يصيبكم إلّا الجهد و الضرّ في الدنيا فأمّا العذاب الأليم الّذي فيه الهلاك فلا يصيب إلّا القوم الظالمين.

أقول: الرواية على ضعفها تنافي ما استفاض أنّ سورة الأنعام نزلت بمكّة دفعة. على أنّ الآية بمضمونها لا تنطبق على القصّة و الّذي تمحّل به في تفسيرها بعيد عن نظم القرآن.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ ) الآية قال قال الصادقعليه‌السلام : أنذر بالقرآن من يخافون الوصول إلى ربّهم ترغّبهم فيما عنده فإنّ القرآن شافع مشفّع لهم.

أقول: و ظاهر الحديث رجوع الضمير في قوله:( من دونه ) إلى القرآن، و هو معنى صحيح و إن لم يعهد في القرآن أن يسمّى وليّاً كما سمّي إماماً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و أبوالشيخ و ابن مردويه و أبونعيم في الحلية عن عبدالله بن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عنده صهيب و عمّار و بلال و خبّاب و نحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمّد أ رضيت بهؤلاء من قومك؟ أ هؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ أ نحن نكون تبعاً لهؤلاء: اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم أن نتّبعك، فاُنزل فيهم القرآن:( وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ

١٠٩

أَنْ يُحْشَرُوا إِلى‏ رَبِّهِمْ ) إلخ.

أقول: و رواه في المجمع، عن الثعلبيّ بإسناده عن عبدالله بن مسعود مختصراً.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة قال: مشى عتبة بن ربيعة و شيبة ابن ربيعة و قرظة بن عبد عمرو بن نوفل و الحارث بن عامر بن نوفل و مطعم بن عديّ بن خيار بن نوفل في أشراف الكفّار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أنّ ابن أخيك طرد عنّا هؤلاء الأعبد فإنّهم عبيدنا و عسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا و أطوع له عندنا و أدنى لاتّباعنا إيّاه و تصديقه.

فذكر ذلك أبوطالب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عمر: لو فعلت يا رسول الله حتّى ننظر ما يريدون بقولهم؟ و ما تصيرون إليه من أمرهم؟ فأنزل الله:( وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى‏ رَبِّهِمْ - إلى قوله -أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) .

قال: و كانوا بلالاً و عمّار بن ياسر و سالماً مولى أبي حذيفة و صبحاً مولى اُسيد، و من الحلفاء ابن مسعود و المقداد بن عمرو و واقد بن عبدالله الحنظليّ و عمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين و مرثد بن أبي مرثد و أشباههم.

و نزلت في أئمّة الكفر من قريش و الموالي و الحلفاء:( وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا ) الآية فلمّا نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله:( وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ) الآية.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و ابن ماجة و أبويعلى و أبونعيم في الحلية و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن خبّاب قال: جاء الأقرع بن حابس التميميّ و عيينة بن حصين الفزاريّ فوجداً النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاعداً مع بلال و صهيب و عمّار و خبّاب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حوله حقّروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: إنّا نحبّ أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنّا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت قال: نعم، قالوا فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة و دعا عليّاً ليكتب، و نحن قعود في ناحية.

١١٠

إذ نزل جبرئيل بهذه الآية:( وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ - إلى قوله -فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصحيفة من يده ثمّ دعانا فأتيناه و هو يقول: سلام عليكم كتب ربّكم على نفسه الرحمة، فكنّا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام و تركنا فأنزل الله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) الآية. قال: فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة الّتي يقوم فيها قمنا و تركناه حتّى يقوم.

أقول: و رواه في المجمع، عن سلمان و خبّاب‏ و في معنى هذه الروايات الثلاث المتقدّمة بعض روايات اُخر، و الرجوع إلى ما تقدّم في أوّل السورة من استفاضة الروايات على نزول سورة الأنعام دفعة ثمّ التأمّل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الانطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية إنّما نزلت وحدها و دفعة لحدوث تلك الواقعة و رفع الشبهة الطارئة من قبلها بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرأ من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترتفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة و نظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله:( وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية فإنّ الغرض فيها واحد لكنّ القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنّهم جاؤا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة و عنده في كلّ مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين و في مضمون الآية انعطاف إلى هذه الاقتراحات أو بعضها.

و على هذه الوتيرة كانوا يذكرون أسباب نزول الآيات بمعنى القصص و الحوادث الواقعة في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا لها مناسبة مّا مع مضامين الآيات الكريمة من غير أن تكون للآية مثلاً نظر إلى خصوص القصّة و الواقعة المذكورة، ثمّ شيوع النقل بالمعنى في الأحاديث و التوسّع البالغ في كيفيّة النقل أوهم أنّ الآيات نزلت في خصوص الوقائع الخاصّة على أن تكون أسباباً منحصرة، فلا اعتماد في أمثال هذه الروايات الناقلة لأسباب النزول و خاصّة في أمثال هذه السورة من السور الّتي نزلت دفعة على أزيد من

١١١

أنّها تكشف عن نوع ارتباط للآيات بالوقائع الّتي كانت في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و لا سيّما بالنظر إلى شيوع الوضع و الدسّ في هذه الروايات و الضعف الّتي فيها و ما سامح به القدماء في أخذها و نقلها.

و قد روى في الدرّ المنثور، عن الزبير بن بكّار في أخبار المدينة عن عمر بن عبدالله ابن المهاجر: أنّ الآية نزلت في اقتراح بعض الناس أن يطرد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الضعفاء من أصحاب الصفّة عن نفسه في نظير من القصّة، و يضعّفه ما تقدّم في نظيره أنّ السورة إنّما نزلت دفعة و في مكّة قبل الهجرة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: رحم الله عبداً تاب إلى الله قبل الموت فإنّ التوبة مطهّرة من دنس الخطيئة و منقذة من شقاء الهلكة فرض الله بها على نفسه لعباده الصالحين فقال:( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ) .

و في تفسير البرهان، روي عن ابن عبّاس: في قوله تعالى:( وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ) الآية نزلت في عليّ و حمزة و زيد.

أقول: و في عدّة من الروايات أنّ الآيات السابقة نزلت في أعداء آل البيتعليهم‌السلام و الظاهر أنّها جميعاً من قبيل الجري و التطبيق أو الأخذ بباطن المعنى فإنّ نزول السورة بمكّة دفعة يأبى أن يجعل أمثال هذه الروايات من أسباب النزول و لذلك طوينا عن إيرادها، و الله أعلم.

١١٢

( سورة الأنعام الآيات ٥٦ - ٧٣)

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ  قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ  قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ( ٥٦) قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ  مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ  إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ  يَقُصُّ الْحَقَّ  وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ( ٥٧) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ  وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ( ٥٨) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ  وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ  وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ( ٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى  ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( ٦٠) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ  وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ( ٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ  أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ( ٦٢) قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ( ٦٣) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ( ٦٤) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ  انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ( ٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ  قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ٦٦) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ  وَسَوْفَ

١١٣

تَعْلَمُونَ( ٦٧) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ  وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( ٦٨) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( ٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا  أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا  لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ( ٧٠) قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا  قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ  وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( ٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ  وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ( ٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ  قَوْلُهُ الْحَقُّ  وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ  عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ  وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ( ٧٣)

( بيان)

الآيات من تتمّة الاحتجاجات على المشركين في التوحيد و ما يرتبط به من المعارف في النبوّة و المعاد، و هي ذات سياق متّصل متّسق.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) إلى آخر الآية. أمر بأن خبرهم بورود النهي عليه عن عبادة شركائهم هو نهي عن عبادتهم بنوع من الكناية

١١٤

ثمّ أشار إلى ملاك النهي عنها بقوله:( قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ ) و هو أنّ عبادتهم اتّباع للهوى و قد نهي عنه ثمّ أشار بقوله:( قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) إلى سبب الاستنكاف عن اتّباع الهوى و هو الضلال و الخروج عن جماعة المهتدين و هم الّذين اتّصفوا بصفة قبول هداية الله سبحانه، و عرفوا بذلك، فاتّباع الهوى ينافي استقرار صفة الاهتداء في نفس الإنسان، و يمانع إشراق نور التوحيد على قلبه إشراقاً ثابتاً ينتفع به.

و قد تلخّص بذلك كلّه بيان تامّ معلّل للنهي أو الانتهاء عن عبادة أصنامهم، و هو أنّ في عبادتها اتّباعاً للهوى، و في اتّباع الهوى الضلال و الخروج عن صفّ المهتدين بالهداية الإلهيّة.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنِّي عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ) إلى آخر الآية. البيّنة هو الدلالة الواضحة من البيان و هو الوضوح، و الأصل في معنى هذه المادّة هو انعزال شي‏ء عن شي‏ء و انفصاله عنه بحيث لا يتّصلان و لا يختلطان، و منه البين و البون و البينونة و غير ذلك، قد سمّيت البيّنة بيّنة لأنّ الحقّ يبين بها عن الباطل فيتّضح و يسهل الوقوف عليه من غير تعب و مؤنة.

و المراد بمرجع الضمير في قوله:( وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ) هو القرآن و ظاهر السياق أن يكون التكذيب إنّما تعلّق بالبيّنة الّتي هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها على ما هو ظاهر اتّصال المعنى، و يؤيّده قوله بعده:( ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) إلخ، فإنّ المحصّل من الكلام مع انضمام هذا الذيل: أنّ الّذي أيّد الله به رسالتي من البيّنات و هو القرآن تكذّبون به، و الّذي تقترحونه عليّ و تستعجلون به من الآيات ليس في اختياري و لا مفوّضاً أمره إليّ فليس بيننا ما نتوافق فيه لما أنّي اُوتيت ما لا تريدون و أنتم تريدون ما لم اُوت.

فمن هنا يظهر أنّ الضمير المجرور في قوله:( وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ) راجع إلى البيّنة لكون المراد به القرآن، و أنّ قوله:( ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) اُريد به نفي التسّلط على ما يستعجلون به بالتكنية فإنّ الغالب فيما يقدر الإنسان عليه و خاصّة في باب الإعطاء و الإنفاق أن يكون ما يعطيه و ينفقه حاضراً عنده أو مذخوراً لديه و تحت تسلّطه

١١٥

ثمّ ينفق منه ما ينفق فقد اُريد بقوله:( ما عِنْدِي ) نفي التسلّط و القدرة من باب نفي الملزوم بنفي اللازم.

و قوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) إلخ، بيان لسبب النفي، و لذلك جي‏ء فيه بالنفي و الاستثناء المفيد للحصر ليدلّ بوقوع النفي على الجنس على أن ليس لغيره تعالى من سنخ الحكم شي‏ء قطّ و أنّه إلى الله سبحانه فحسب.

( كلام في معنى الحكم و أنّه لله وحده)

مادّة الحكم تدلّ على نوع من الإتقان يتلاءم به أجزاء الشئ و ينسدّ به خلله و فرجه فلا يتجزّى إلى الأجزاء و لا يتلاشى إلى الأبعاض حتّى يضعف أثره و ينكسر سورته، و إلى ذلك يرجع المعنى الجامع بين تفاريق مشتقّاته كالإحكام و التحكيم و الحكمة و الحكومة و غير ذلك.

و قد تنبّه الإنسان على نوع تحقّق من هذا المعنى في الوظائف المولويّة و الحقوق الدائرة بين الناس فإنّ الموالي و الرؤساء إذا أمروا بشي‏ء فكأنّما يعقدون التكليف على المأمورين و يقيّدونهم به عقداً لا يقبل الحلّ و تقييداً لا يسعهم معه الانطلاق، و كذلك مالك سلعة كذا أو ذو حقّ في أمر كذا كأنّ بينه و بين سلعته أو الأمر الّذي فيه نوعاً من الالتيام و الاتّصال الّذي يمنع أن يتخلّل غيره بينه و بين سلعته بالتصرّف أو بينه و بين مورد حقّه فيقصر عنه يده، فإذا نازع أحد مالك سلعة في ملكها كأن ادّعاه لنفسه أو ذا الحقّ في حقّه فأراد إبطال حقّه فقد استوهن هذا الإحكام و ضعف هذا الإتقان ثمّ إذا عقد الحكم أو القاضي الّذي رفعت إليه القضيّة الملك أو الحقّ لأحد المتنازعين فقد أوجد هناك حكماً أي إتقاناً بعد فتور، و قوّة إحكاماً بعد ضعف و وهن، و قوله: ملك السلعة لفلان أو الحقّ في كذا لفلان حكم يرتفع به غائلة النزاع و المشاجرة، و لا يتخلّل غير المالك و ذي الحقّ بين الملك و الحقّ و بين ذيهما، و بالجملة الآمر في أمره و القاضي في قضائه كأنّهما يوجدان نسبة في مورد الأمر و القضاء يحكمانه بها و يرفعان به وهناً و فتوراً، و هو الّذي يسمّى الحكم.

١١٦

فهذه سبيل تنبّه الناس لمعنى الحكم في الاُمور الوضعيّة الاعتباريّة ثمّ رأوا أنّ معناه يقبل الانطباق على الاُمور التكوينيّة الحقيقيّة إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه و قدره فكون النواة مثلاً تنمو في التراب ثمّ تنبسط ساقاً و أغصاناً و تورق و تثمر و كون النطفة تتبدّل جسماً ذا حياة و حسّ و هكذا كلّ ذلك حكم من الله سبحانه و قضاء، فهذا ما نعلقه من معنى الحكم و هو إثبات شي‏ء لشي‏ء أو إثبات شي‏ء عند شي‏ء.

و نظريّة التوحيد الّتي يبني عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لمّا كانت تثبت حقيقة التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له، و إن كان الانتساب مختلفاً باختلاف الأشياء غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنّه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثمّ ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة بنسب مختلفة، و كذلك العلم و القدرة و الحياة و المشيّة و الرزق و الحسن إلى غير ذلك، و بالجملة لمّا كان التأثير له تعالى كان الحكم الّذي هو نوع من التأثير و الجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينيّة أو في الشرائع الوضعيّة الاعتباريّة، و قد أيّد كلامه تعالى هذا المعنى كقوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) (الأنعام: ٥٧ يوسف: ٦٧) و قوله تعالى:( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) (الأنعام: ٦٢) و قوله:( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ ) (القصص: ٧٠) و قوله تعالى:( وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) (الرعد: ٤١) و لو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقّب حكمه و يعارض مشيّته، و قوله:( فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) (المؤمن: ١٢) إلى غير ذلك، فهذه آيات خاصّة أو عامّة تدلّ على اختصاص الحكم التكوينيّ به تعالى.

و يدلّ على اختصاص خصوص الحكم التشريعيّ به تعالى قوله:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (يوسف: ٤٠) فالحكم لله سبحانه لا يشاركه فيه غيره على ظاهر ما يدلّ عليه ما مرّ من الآيات غير أنّه تعالى ربّما ينسب الحكم و خاصّة التشريعيّ منه في كلامه إلى غيره كقوله تعالى:( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (المائدة: ٩٥) و قوله لداودعليه‌السلام :( إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) ( ص: ٢٦) و قوله للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ) (المائدة: ٤٩) و قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ) (المائدة: ٤٨) و قوله:( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) (المائدة: ٤٤)

١١٧

إلى غير ذلك من الآيات و ضمّها إلى القبيل الأوّل يفيد أنّ الحكم الحقّ لله سبحانه بالأصالة و أوّلاً لا يستقلّ به أحد غيره، و يوجد لغيره بإذنه و ثانياً، و لذلك عدّ تعالى نفسه أحكم الحاكمين و خيرهم لما أنّه لازم الأصالة و الاستقلال و الأوّليّة فقال:( أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ ) (التين: ٨) و قال( وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) (الأعراف: ٨٧).

و الآيات المشتملة على نسبة الحكم إلى غيره تعالى بإذن و نحوه - كما ترى - تختصّ بالحكم الوضعيّ الاعتباريّ، و أمّا الحكم التكوينيّ فلا يوجد فيها - على ما أذكر - ما يدلّ على نسبته إلى غيره و إن كانت معاني عامّة الصفات و الأفعال المنسوبة إليه تعالى لا تأبى عن الانتساب إلى غيره نوعاً من الانتساب بإذنه و نحوه كالعلم و القدرة و الحياة و الخلق و الرزق و الإحياء و المشيّة و غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها.

و لعلّ ذلك مراعاة لحرمة جانبه تعالى لإشعار الصفة بنوع من الاستقلال الّذي لا مسوّغ لنسبته إلى هذه الأسباب المتوسّطة كما أنّ القضاء و الأمر التكوينيّين كذلك، و نظيرتها في ذلك ألفاظ البديع و البارئ و الفاطر و ألفاظ اُخر يجري مجراها في الإشعار بمعاني تنبئ عن نوع من الاختصاص، و إنّما كفّ عن استعمالها في غير مورده تعالى رعاية لحرمة ساحة الربوبيّة.

و لنرجع إلى ما كنّا فيه من تفسير الآية فقوله تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) اُريد بالحكم فيه القضاء التكوينيّ، و الجملة تعليل للنفي في قوله:( ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) و المعنى - على ما يعطيه السياق - أنّ الحكم لله وحده و ليس إليّ أن أقضي بيني و بينكم، و هو الّذي تستعجلون به باستعجالكم بما تقترحون عليّ من الآية.

و على هذا فقوله:( ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) مستعمل استعمال الكناية كأنّهم باقتراحهم إتيان آية اُخرى غير القرآن كانوا يقترحون عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقضي بينه و بينهم و لعلّ هذا هو السرّ في تكرار لفظ الموصول و الصلة في الآية التالية حيث يقول تعالى:( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) و كان مقتضى ظاهر السياق أن يقال: لو أنّ عندي

١١٨

ذلك، و ذلك أنّه اُريد بقوله:( ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) في الآية الاُولى لازم الآية و هو القضاء بينه و بينهم على ما جرت به السنّة الإلهيّة، و في الآية الثانية نفس الآية، و من المحتمل أيضاً أن يكون أمر الكناية بالعكس من ذلك فيكون المراد بما تستعجلون به هو القضاء بالصراحة في الآية الاُولى، و الآية بالتكنية في الآية الثانية.

و قوله:( يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ) قرأ عاصم و نافع و ابن كثير من السبعة بالقاف و الصاد المهملة من القصّ و هو قطع شي‏ء و فصله من شي‏ء و منه قوله تعالى:( وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) (القصص: ١١) و قرأ الباقون بالقاف و الضاد المعجمة من القضاء، و قد حذف الياء من الرسم على حدّ قوله تعالى:( فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) (القمر: ٥) و لكلّ من القراءتين وجه، و مآلهما من حيث المعنى واحد فإنّ قصّ الحقّ و فصله من الباطل لازم القضاء و الحكم بالحقّ و إن كان قوله:( وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ ) أنسب مع القصّ بمعنى الفصل.

و أمّا أخذ قوله:( يَقُصُّ الْحَقَّ ) من القصّ بمعنى الإخبار عن الشي‏ء أو بمعنى تتّبع الأثر على ما احتمله بعض المفسّرين فممّا لا يلائم المورد:

أمّا الأوّل فلأنّ الله سبحانه و إن قصّ في كلامه كثيراً قصص الأنبياء و اُممهم غير أنّ المقام خال عن ذلك فلا موجب لذكر هذا النعت له و توصيفه تعالى به.

و أمّا الثاني فلأنّ محصّل معناه أنّ سنّته تعالى أن يتّبع الحقّ و يقتفي أثره في تدبير مملكته و تنظيم اُمور خليقته، و الله سبحانه و إن كان لا يحكم إلّا الحقّ و لا يقضي إلّا الحقّ إلّا أنّ أدب القرآن الحكيم يأبى عن نسبة الاتّباع و الاقتفاء إليه تعالى، و قد قال تعالى فيما قال:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) (آل عمران: ٦٠) و لم يقل: الحقّ مع ربّك، لما في التعبير بالمعيّة من شائبة الاعتضاد و التأيّد و الإيهام إلى الضعف.

١١٩

( كلام في معنى حقيقة فعله و حكمه تعالى)

فعله و حكمه تعالى نفس الحقّ لا مطابق للحقّ موافق له، بيان ذلك أنّ الشي‏ء إنّما يكون حقّاً إذا كان ثابتاً في الخارج واقعاً في الأعيان من غير أن يختلقه وهم أو يصنعه ذهن كالإنسان الّذي هو أحد الموجودات الخارجيّة و الأرض الّتي يعيش عليها و النبات و الحيوانات الّتي يغتذي بها، و الخبر إنّما يكون حقّاً إذا طابق الواقع الثابت في نفسه مستقلّاً عن إدراكنا و الحكم و القضاء إنّما يكون حقّاً إذا وافق السنّة الجارية في الكون فإذا أمر الآمر بشي‏ء أو قضى القاضي بشي‏ء فإنّما يكون حكم هذا و قضاء ذاك حقّاً مطلقاً إذا وافق المصلحة المطلقة المأخوذة من السنّة الجارية في الكون، و يكون حقّاً نسبيّاً إذا وافق المصلحة النسبيّة المأخوذة من سنّة الكون بالنسبة إلى بعض أجزائه من غير نظر إلى النظام العامّ العالميّ.

فإذا أمرنا آمر بالتزام العدل أو اجتناب الظلم فإنّما يعدّ ذلك حقّاً لأنّ نظام الكون يهدي الأشياء إلى سعادتها و خيرها، و قد قضى على الإنسان أن يعيش اجتماعيّاً، و قضى على كلّ مجتمع مركّب من أجزاء أن يتلاءم أجزاؤه و لا يزاحم بعضها بعضاً، و لا يفسد طرف منه طرفاً، حتّى ينال ما قسم له من سعادة الوجود، و يتوزّع ذلك بين أجزائه المجتمعين، فمصلحة هذا النوع المطلقة هي سعادته في الحياة، و يطابقها الأمر بالعدل و النهي عن الظلم فكلّ منهما حكم حقّ، و لا يطابقها الأمر بالظلم و النهي عن العدل فهما من الباطل، و التوحيد حقّ لأنّه يهدي إلى سعادة الإنسان في حياته الحقيقيّة، و الشرك باطل لأنّه يجرّ الإنسان إلى شقاء مهلك و عذاب خالد.

و كذلك القضاء بين متخاصمين إنّما يكون حقّاً إذا وافق الحكم المشروع المراعى فيه المصلحة الإنسانيّة المطلقة أو مصلحة قوم خاصّ أو اُمّة خاصّة، و المصلحة الحقيقيّة - كما عرفت - مأخوذة من السنّة الجارية في الكون مطلقاً أو نسبيّاً.

فقد تبيّن أنّ الحقّ أيّاً مّا كان إنّما هو مأخوذ من الكون الخارجيّ و النظام

١٢٠