الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85301
تحميل: 7375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85301 / تحميل: 7375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة الأنعام مكّيّة و هي مائة و خمس و ستّون آية)

( سورة الأنعام الآيات ١ - ٣)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ  ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ( ١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا  وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ  ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ( ٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ  يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ( ٣)

( بيان)

غرض السورة هو توحيده تعالى بمعناه الأعمّ أعني أنّ للإنسان ربّاً هو ربّ العالمين جميعاً منه يبدأ كلّ شي‏ء و إليه ينتهي و يعود كلّ شي‏ء، أرسل رسلاً مبشّرين و منذرين يهدي بهم عباده المربوبين إلى دينه الحقّ، و لذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في التوحيد و المعاد و النبوّة، و اشتملت على إجمال الوظائف الشرعيّة و المحرّمات الدينيّة.

و سياقها - على ما يعطيه التدبّر - سياق واحد متّصل لا دليل فيه على فصل يؤدّي إلى نزولها نجوماً.

و هذا يدلّ على نزولها جملة واحدة، و أنّها مكّيّة فإنّ ذلك ظاهر سياقها الّذي وجه الكلام في جلّها أو كلّها إلى المشركين.

٢

و قد اتّفق المفسّرون و الرواة على كونها مكّيّة إلّا في ستّ آيات روي عن بعضهم أنّها مدنيّة. و هي قوله تعالى:( وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (آية ٩١) إلى تمام ثلاث آيات، و قوله تعالى:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) (آية ١٥١) إلى تمام ثلاث آيات.

و قيل: إنّها كلّها مكّيّة إلّا آيتان منها نزلتا بالمدينة، و هما قوله تعالى:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ) و الّتي بعدها.

و قيل: نزلت سورة الأنعام كلّها بمكّة إلّا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود، و هو الذي قال:( ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ بَشَرٍ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الآية.

و قيل: إنّها كلّها مكّيّة إلا آية واحدة نزلت بالمدينة، و هو قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ) الآية.

و هذه الأقوال لا دليل على شي‏ء منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدّم من وحدة السياق و اتّصال آيات السورة، و سنبيّنها بما نستطيعه، و قد ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا عن اُبيّ و عكرمة و قتادة: أنّها نزلت جملة واحدة بمكّة.

قوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ) افتتح بالثناء على الله و هو كالمقدّمة لما يراد بيانه من معنى التوحيد، و ذلك بتضمين الثناء ما هو محصّل غرض السورة ليتوسّل بذلك إلى الاحتجاج عليه تفصيلاً، و تضمينه العجب منهم و لومهم على أن عدلوا به غيره و الامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ و الإنذار و التخويف.

و قد أشار في هذا الثناء الموضوع في الآيات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينيّة في المعارف الحقيقيّة الّتي هي بمنزلة المادّة للشريعة، و تنحلّ إلى نظامات ثلاث:

نظام الكون العامّ و هو الّذي تشير إليه الآية الاُولى، و نظام الإنسان بحسب وجوده، و هو الّذي تشتمل عليه الآية الثانية، و نظام العمل الإنسانيّ و هو الّذي تومئ إليه الآية الثالثة.

فالمتحصّل من مجموع الآيات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير

٣

الّذي يعيش فيه الإنسان، و بما خلق عالماً صغيراً هو وجود الإنسان المحدود من حيث ابتدائه بالطين و من حيث انتهائه بالأجل المقضيّ، و بما علم سرّ الإنسان و جهره و ما يكسبه.

و ما في الآية الثالثة:( وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ ) ، بمنزلة الإيضاح لمضمون الآيتين، السابقتين و التمهيد لبيان علمه بسرّ الإنسان و جهره و ما تكسبه نفسه.

فقوله:( خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ) إشارة إلى نظام الكون العامّ الّذي عليه تدبّر الأشياء على كثرتها و تفرّقها في عالمنا في نظامه الجاري المحكم إلّا عالم الأرض الّذي يحيط به عالم السماوات على سعتها ثمّ يتصرّف بها بالنور و الظلمات اللّذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوّله و تكامله فلا يزال يتولّد شي‏ء من شي‏ء، و يتقلّب شي‏ء إلى شي‏ء، و يظهر واحد و يخفى آخر، و يتكوّن جديد و يفسد قديم، و ينتظم من تلاقي هذه الحركات المتنوّعة على شتاتها الحركة العالميّة الكبرى الّتي تحمل أثقال الأشياء، و تسير بها إلى مستقرّها.

و الجعل في قوله:( وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ ) إلخ بمعنى الخلق غير أنّ الخلق لمّا كان مأخوذاً في الأصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتّى مأخوذاً في معناه بخلاف الجعل، و لعلّ هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات و الأرض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة و النور، و لذا خصّاً باستعمال الجعل. و الله أعلم.

و قد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور، و لعلّه لكون الظلمة متحقّقة بالقياس إلى النور فإنّها عدم النور فيما من شأنه أن يتنوّر فتتكثّر بحسب مراتب قربه من النور و بعده بخلاف النور فإنّه أمر وجوديّ لا يتحقّق بمقايسته إلى الظلمة الّتي هي عدميّة، و تكثيره تصوّراً بحسب قياسه التصوّريّ إلى الظلمة لا يوجب تعدّده و تكثّره حقيقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) مسوق للتعجّب المشوب بلوم أي إنّ الله سبحانه بخلقه السماوات و الأرض و جعله الظلمات و النور متوحّد بالاُلوهيّة متفرّد بالربوبيّة لا يماثله شي‏ء و لا يشاركه، و من العجب أنّ الّذين كفروا مع اعترافهم بأنّ الخلق و التدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الأصنام الّتي اتّخذوها آلهة يعدلون

٤

بالله غيره من أصنامهم و يسوّون به أوثانهم فيجعلون له أنداداً تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك.

و بذلك يظهر وجه الإتيان بثمّ الدالّ على التأخير و التراخي فكأنّ المتكلّم لمّا وصف تفرّده بالصنع و الإيجاد و توحّده بالاُلوهيّة و الربوبيّة ذكر مزعمة المشركين و أصحاب الأوثان أنّ هذه الحجارة و الأخشاب المعمولة أصناماً يعدلون بها ربّ العالمين فشغله التعجّب زماناً و كفّه عن التكلّم ثمّ جرى في كلامه و أشار إلى وجه سكوته، و أنّ حيرة التعجّب كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال:( الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) .

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا ) يشير إلى خلقه العالم الإنسانيّ الصغير بعد الإشارة إلى خلق العالم الكبير فيبيّن أنّ الله سبحانه هو الّذي خلق الإنسان و دبّر أمره بضرب الأجل لبقائه الدنيويّ ظاهراً فهو محدود الوجود بين الطين الّذي بدأ منه خلق نوعه و إن كان بقاء نسله جارياً على سنّة الازدواج و الوقاع كما قال تعالى:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) (السجدة: ٨).

و بين الأجل المقضيّ الّذي يقارن الموت كما قال تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) (العنكبوت: ٥٧) و من الممكن أن يراد بالأجل ما يقارن الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث فإنّ القرآن الكريم كأنّه يعدّ الحياة البرزخيّة من الدنيا كما يفيده ظاهر قوله تعالى:( قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ، قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (المؤمنون ١١٤)، و قال أيضا:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ، ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ، و قال الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (الروم: ٥٦).

و قد أبهم أمر الأجل بإتيانه منكّراً في قوله:( ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا ) للدلالة على كونه مجهولاً للإنسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسّل إلى العلوم العاديّة.

قوله تعالى: ( وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) تسمية الأجل تعيينه فإنّ العادة جرت

٥

في العهود و الديون و نحو ذلك بذكر الأجل و هو المدّة المضروبة أو آخر المدّة باسمه، و هو الأجل المسمّى، قال تعالى:( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) (البقرة: ٢٨٢) و هو الأجل بمعنى آخر المدة المضروبة، و كذا قوله تعالى:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) (العنكبوت: ٥) و قال تعالى في قصّة موسى و شعيب:( قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى‏ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ - إلى أن قال -قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ ) (القصص ٢٨) و هو الأجل بمعنى تمام المدّة المضروبة.

و الظاهر أنّ الأجل بمعنى آخر المدّة فرع الأجل بمعنى تمام المدّة استعمالاً أي إنّه استعمل كثيراً( الأجل المقضيّ) ثمّ حذف الوصف و اكتفي بالموصوف فأفاد الأجل معنى الأجل المقضيّ، قال الراغب في مفرداته: يقال للمدّة المضروبة لحياة الإنسان( أجل) فيقال: دنا أجله عبارة عن دنوّ الموت، و أصله استيفاء الأجل، انتهى.

و كيف كان فظاهر كلامه تعالى أنّ المراد بالأجل و الأجل المسمّى هو آخر مدّة الحياة لإتمام المدّة كما يفيده قوله:( فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ) الآية.

فتبيّن بذلك أنّ الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، و الأجل المسمّى عندالله تعالى. و هذا هو الّذي لا يقع فيه تغيّر لمكان تقييده بقوله:( عِنْدَهُ ) و قد قال تعالى:( وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ) (النحل: ٩٦) و هو الأجل المحتوم الّذي لا يتغيّر و لا يتبدّل قال تعالى:( إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ ) (يونس: ٤٩).

فنسبة الأجل المسمّى إلى الأجل غير المسمّى نسبة المطلق المنجّز إلى المشروط المعلّق فمن الممكن أن يتخلّف المشروط المعلّق عن التحقّق لعدم تحقّق شرطه الّذي علّق عليه بخلاف المطلق المنجّز فإنّه لا سبيل إلى عدم تحقّقه البتّة.

و التدبّر في الآيات السابقة منضمّة إلى قوله تعالى:( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ، يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (الرعد: ٣٩) يفيد أنّ الأجل المسمّى هو الّذي وضع في اُمّ الكتاب، و غير المسمّى من الأجل هو المكتوب فيما نسمّيه بلوح المحو و الإثبات، و سيأتي إن شاء الله تعالى أنّ اُمّ الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي

٦

الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامّة الّتي لا تتخلّف عن تأثيرها، و لوح المحو و الإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة الّتي ربّما نسمّيها بالمقتضيات الّتي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها.

و اعتبر ما ذكر من أمر السبب التامّ و الناقص بمثال إضاءة الشمس فإنّا نعلم أنّ هذه الليلة ستنقضي بعد ساعات و تطلع علينا الشمس فتضي‏ء وجه الأرض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمر أو أيّ مانع آخر فتمنع من الإضاءة، و أمّا إذا كانت الشمس فوق الاُفق و لم يتحقّق أيّ مانع مفروض بين الأرض و بينها فإنّها تضي‏ء وجه الأرض لا محالة.

فطلوع الشمس وحده بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة لوح المحو و الإثبات، و طلوعها مع حلول وقته و عدم أيّ حائل مفروض بينها و بين الأرض بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة اُمّ الكتاب المسمّى باللوح المحفوظ.

فالتركيب الخاصّ الّذي لبنية هذا الشخص الإنسانيّ مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضي أن يعمّر العمر الطبيعيّ الّذي ربّما حدّدوه بمائة أو بمائة و عشرين سنة و هذا هو المكتوب في لوح المحو و الإثبات مثلاً غير أنّ لجميع أجزاء الكون ارتباطاً و تأثيراً في الوجود الإنسانيّ فربّما تفاعلت الأسباب و الموانع الّتي لا نحصيها تفاعلاً لا نحيط به فأدّى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأمد الطبيعيّ، و هو المسمّى بالموت الاختراميّ.

و بهذا يسهل تصوّر وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الأجل المسمّى و غير المسمّى جميعاً، و أنّ الإبهام الّذي بحسب الأجل غير المسمّى لا ينافي التعيّن بحسب الأجل المسمّى، و أنّ الأجل غير المسمّى و المسمّى ربّما توافقاً و ربّما تخالفاً و الواقع حينئذ هو الأجل المسمّى البتّة.

هذا ما يعطيه التدبّر في قوله:( ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) و للمفسّرين تفسيرات غريبة للأجلين الواقعين في الآية:

منها: أنّ المراد بالأجل الأوّل ما بين الخلق و الموت و الثاني ما بين الموت و البعث،، ذكره عدّة من الأقدمين و ربّما روي عن ابن عبّاس.

٧

و منها: أنّ الأجل الأوّل أجل أهل الدنيا حتّى يموتوا، و الثاني أجل الآخرة الّذي لا آخر له، و نسب إلى المجاهد و الجبّائيّ و غيرهما.

و منها: أنّ الأجل الأوّل أجل من مضى، و الثاني أجل من بقي من سيأتي، و نسب إلى أبي مسلم.

و منها: أنّ الأجل الأوّل النوم، و الثاني الموت.

و منها: أنّ المراد بالأجلين واحد، و تقدير الآية الشريفة: ثمّ قضى أجلاً و هذا أجل مسمّى عنده.

و لا أرى الاشتغال بالبحث عن صحّة هذه الوجوه و أشباهها و سقمها يسوّغه الوقت على ضيقه، و لا يسمح بإباحته العمر على قصره.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ) من المرية بمعنى الشكّ و الريب، و قد وقع في الآية التفات من الغيبة إلى الحضور، و كأنّ الوجه فيه أنّ الآية الاُولى تذكر خلقاً و تدبيراً عامّاً ينتج من ذلك أنّ الكفّار ما كان ينبغي لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره، و كان يكفي في ذلك ذكرهم بنحو الغيبة لكنّ الآية الثانية تذكر الخلق و التدبير الواقعين في الإنسان خاصّة فكان من الحريّ الّذي يهيّج المتكلّم المتعجّب اللائم أن يواجههم بالخطاب و يلومهم بالتجبيه كأنّه يقول: هذا خلق السماوات و الأرض و جعل الظلمات و النور عذرناكم في الغفلة عن حكمه لكون ذلك أمراً عامّاً ربّما أمكن الذهول عمّا يقتضيه فما عذركم أنتم في امترائكم فيه و هو الّذي خلقكم و قضى فيكم أجلاً و أجل مسمّى عنده؟.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ ) الآيتان السابقتان تذكران الخلق و التدبير في العوالم عامّة و في الإنسان خاصّة، و يكفي ذلك في التنبّه على أنّ الله سبحانه هو الإله الواحد الّذي لا شريك له في خلقه و تدبيره.

لكنّهم مع ذلك أثبتوا آلهة اُخرى و شفعاء مختلفة لوجوه التدبير المختلفة كإله الحياة و إله الرزق و إله البرّ و إله البحر و غير ذلك، و كذا للأنواع و الأقوام و الاُمم المتشتّتة كإله السماء و إله هذه الطائفة و إله تلك الطائفة فنفى ذلك بقوله:

٨

( وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ ) .

فالآية نظيرة قوله:( وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) (الزخرف: ٨٤) مفادها انبساط حكم اُلوهيّته تعالى في السماوات و في الأرض من غير تفاوت أو تحديد، و هي إيضاح لما تقدّم و تمهيد لما يتلوها من الكلام.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) السرّ و الجهر متقابلان و هما وصفان للأعمال، فسرّهم ما عملوه سرّاً و جهرهم ما عملوه جهراً من غير ستر.

و أمّا ما يكسبون فهو الحال النفسانيّ الّذي يكسبه الإنسان بعمله السرّيّ و الجهريّ من حسنة أو سيّئة فالسرّ و الجهر المذكوران - كما عرفت - وصفان صوريّان لمتون الأعمال الخارجيّة، و ما يكسبونه حال روحيّ معنويّ قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصوريّة و المعنويّة، و لعلّ اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكر العلم في قوله:( يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ ) .

و الآية كالتمهيد لما ستتعرّض له من أمر الرسالة و المعاد فإنّ الله سبحانه لمّا كان عالماً بما يأتي به الإنسان من عمل سرّاً أو جهراً، و كان عالماً بما يكسبه لنفسه بعمله من خير أو شرّ، و كان إليه زمام التربية و التدبير كان له أن يرسل رسولاً بدين يشرّعه لهداية الناس على الرغم ممّا يصرّ عليه الوثنيّون من الاستغناء عن النبوّة كما قال تعالى:( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ ) (الليل: ١٢).

و كذا هو تعالى لمّا كان عالماً بالأعمال و بتبعاتها في نفس الإنسان كان عليه أن يحاسبهم في يوم لا يغادر منهم أحداً كما قال تعالى:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: ٢٨.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة قال قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ سورة الأنعام نزلت جملة، شيّعها سبعون ألف ملك حتّى اُنزلت على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعظّموها

٩

و بجّلوها فإنّ اسم الله عزّوجلّ فيها في سبعين موضعاً، و لو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها.

أقول: و رواه العيّاشيّ عنهعليه‌السلام مرسلاً.

و في تفسير القمّيّ، قال حدّثني أبي عن الحسين بن خالد عن الرضاعليه‌السلام قال: نزلت الأنعام جملة واحدة، يشيّعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التهليل و التكبير فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة.

أقول: و رواه في المجمع، أيضاً عن الحسين بن خالد عنهعليه‌السلام : إلّا أنّه قال سبّحوا له إلى يوم القيامة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ سورة الأنعام نزلت جملة واحدة و شيّعها سبعون ألف ملك حين اُنزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعظّموها و بجّلوها فإنّ اسم الله عزّوجلّ فيها سبعين موضعاً، و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها، الحديث.

و في جوامع الجامع، للطبرسيّ قال: في حديث اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اُنزلت علي الأنعام جملة واحدة يشيّعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح و التحميد فمن قرأها صلّى عليه اُولئك السبعون ألف ملك بعدد كلّ آية من الأنعام يوماً و ليلة.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عنه بعدّة طرق.

و في الكافي، بإسناده عن ابن محبوب عن أبي جعفر الأحول عن سلام بن المستنير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ الله خلق الجنّة قبل أن يخلق النار، و خلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، و خلق الرحمة قبل الغضب، و خلق الخير قبل الشرّ و خلق الأرض قبل السماء، و خلق الحياة قبل الموت، و خلق الشمس قبل القمر، و خلق النور قبل الظلمة.

أقول: خلق النور قبل الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميّاً مضافاً إلى النور ظاهر المعنى، و أمّا نسبة الخلق إلى الطاعة و المعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإنّ بطلانه يستلزم بطلان نفس الطاعة و المعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحّة بل المراد كونه تعالى يملكهما كما يملك كلّ ما وقع في ملكه، و كيف يمكن أن يقع في ملكه

١٠

ما هو خارج عن إحاطته و سلطانه و منعزل عن مشيّته و إذنه.؟

و لا دليل على انحصار الخلق في الإيجاد و الصنع الّذي لا واسطة فيه حتّى يكون تعالى مستقلّاً بإيجاد كلّ ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل: إنّ الله خلق العدل أو القتل مثلاً أنّه أبطل إرادة الإنسان العادل أو القاتل، و استقلّ هو بالعدل و القتل بإذهاب الواسطة من البين فافهم ذلك، و قد تقدّم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الأوّل من الكتاب.

و بنظير البيان يتبيّن معنى نسبة الخلق إلى الخير و الشرّ أيضاً، سواء كانا خيراً و شرّاً في الاُمور التكوينيّة أو في الأفعال.

و أمّا كون الطاعة مخلوق قبل المعصية، و كذا الخير قبل الشرّ فيجري أيضاً في بيانه نظير ما تقدّم من بيان كون النور قبل الظلمة من أنّ النسبة بينهما نسبة العدم و الملكة، و العدم يتوقّف في تحقّقه على الملكة و يظهر به أنّ خلق الحياة قبل الموت.

و بذلك يتبيّن أنّ خلق الرحمة قبل الغضب فإنّ الرحمة متعلّقة بالطاعة و الخير و الغضب متعلّق بالمعصية و الشرّ، و الطاعة و الخير قبل المعصية و الشرّ.

و أمّا خلق الأرض قبل السماء فيدلّ عليه قوله تعالى:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ - إلى أن قال -ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) (حم السجدة: ١٢).

و أمّا كون خلق الشمس قبل القمر فليس كلّ البعيد أن يستفاد من قوله تعالى:( وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها، وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها ) (الشمس: ٢) و قد رجّحت الأبحاث الطبيعيّة اليوم أنّ الأرض مشتقّة من الشمس و القمر مشتقّ من الأرض.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جعفر بن أحمد عن العمركيّ بن عليّ عن العبيديّ عن يونس بن عبدالرحمن عن عليّ بن جعفر عن أبي إبراهيمعليه‌السلام قال: لكلّ صلاة وقتان، و وقت يوم الجمعة زوال الشمس ثمّ تلا هذه الآية:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) قال: يعدلون بين الظلمات و النور و بين الجور و العدل.

١١

أقول: و هذا معنى آخر للآية، و بناؤه على جعل قوله:( بِرَبِّهِمْ ) متعلّقاً بقوله( كَفَرُوا ) دون( يَعْدِلُونَ ) .

و في الكافي، عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن ابن فضّال عن ابن بكير عن زرارة عن حمران عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألت عن قول الله عزّوجلّ:( قَضى‏ أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) قال: هما أجلان أجل محتوم و أجل موقوف.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حمران قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( قَضى‏ أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ) قال: فقال هما أجلان أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، و أجل محتوم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( ثُمَّ قَضى‏ أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) قال: الأجل الّذي غير مسمّى موقوف يقدّم منه ما شاء، و أمّا الأجل المسمّى فهو الّذي ينزل ممّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها قال: فذلك قول الله:( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ ) .

و فيه، عن حمران عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) قال: المسمّى ما سمّي لملك الموت في تلك اللّيلة، و هو الّذي قال الله:( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ ) و هو الّذي سمّي لملك الموت في ليلة القدر، و الآخر له فيه المشيّة إن شاء قدّمه، و إن شاء أخّره.

أقول: و في هذا المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، و الّذي يدلّ عليه من معنى الأجل المسمّى و غيره هو الّذي تقدّمت استفادته من الآيات الكريمة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم، قال: حدّثني أبي عن النضر بن سويد عن الحلبيّ عن عبدالله بن مسكان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: الأجل المقضيّ هو المحتوم الّذي قضاه الله و حتمه، و المسمّى هو الّذي فيه البداء يقدّم ما يشاء و يؤخّر ما شاء، و المحتوم ليس فيه تقديم و لا تأخير.

أقول: و قد غلط بعض من في طريق الرواية فعكس المعنى و فسّر كلّاً من المسمّى و غيره بمعنى الآخر. على أنّ الرواية لا تتعرّض لتفسير الآية فلا كثير ضير في قبولها.

١٢

و في تفسير العيّاشيّ، عن الحصين عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( قَضى‏ أَجَلًا وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ) قال: ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : الأجل الأوّل هو ما نبذه إلى الملائكة و الرسل و الأنبياء، و الأجل المسمّى عنده هو الّذي ستره الله عن الخلائق.

أقول: و مضمون الرواية ينافي ما تقدّمت من الروايات ظاهراً، و لكن من الممكن أن يستفاد من قوله:( نبذه) أنّ المراد أنّه تعالى أعطاهم الأصل الّذي تستنبط منه الآجال غير المسمّاة و أمّا الأجل المسمّى فلم يسلّط أحداً على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نوراً يكشف به كلّ أجل مسمّى إذا اُريد ذلك، و إن كان تعالى يسمّيه لملك الموت أو لأنبيائه و رسله إذا شاء، و ذلك كالغيب يختصّ علمه به تعالى، و هو مع ذلك يكشف عن شي‏ء منه لمن ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن مثنّى الحنّاط عن أبي جعفر - أظنّه محمّد بن النعمان - قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ ) قال: كذلك هو في كلّ مكان، قلت: بذاته؟ قال: ويحك إنّ الأماكن أقدار فإذا قلت: في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار و غير ذلك.

و لكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علماً و قدرة و إحاطة و سلطاناً و ليس علمه بما في الأرض بأقلّ ممّا في السماء، و لا يبعد منه شي‏ء، و الأشياء له سواء علماً و قدرة و سلطاناً و ملكاً و إرادة.

١٣

( سورة الأنعام الآيات ٤ - ١١)

وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( ٤ ) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ  فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٥ ) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( ٦ ) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ٧ ) وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ  وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ ( ٨ ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ( ٩ ) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ١٠ ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( ١١ )

( بيان)

الآيات إشارة إلى تكذيبهم الحقّ الّذي اُرسل به الرسول و تماديهم في تكذيب الحقّ و الاستهزاء بآيات الله سبحانه ثمّ موعظة لهم و تخويف و إنذار، و جواب عن بعض ما لغواً به في إنكار الحقّ الصريح.

قوله تعالى: ( وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) إشارة إلى أنّ سجيّة الاستكبار رسخت في نفوسهم فأنتجت فيهم الإعراض عن الآيات الدالّة على الحقّ فلا يلتفتون إلى آية من الآيات من غير تفاوت بين آية و آية لأنّهم كذّبوا بالأصل المقصود الّذي هو الحقّ، و هو قوله تعالى:( فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) .

١٤

قوله تعالى: ( فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) تخويف و إنذار فإنّ الّذي يستهزءون به حقّ، و الحقّ يأبى إلّا أن يظهر يوماً و يخرج من حدّ النبأ إلى حدّ العيان قال تعالى:( وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ ) (الشورى: ٢٤)، و قال:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (الصفّ: ٩) و قال في مثل ضربه:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) (الرعد: ١٧).

و من المعلوم أنّ الحقّ إذا ظهر لم يستو في مساسه المؤمن و الكافر، و الخاضع و المستهزئ، قال تعالى:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ) (الصافّات: ١٧٧).

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ) إلى آخر الآية، قال الراغب: القرن القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون انتهى.

و قال أيضاً: قال تعالى:( وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً ) ( يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ) و أصله من الدرّ - بالفتح - و الدرّة - بالكسر - أي اللبن، و يستعار ذلك للمطر استعارة أسماء البعير و أوصافه فقيل: لله درّه و درّ درّك، و منه أستعير قولهم للسوق درّة أي نفاق - بالفتح - انتهى.

و في قوله تعالى:( مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ) التفات من الغيبة إلى الحضور، و الوجه فيه ظاهراً رفع اللبس من جهة مرجع الضمير فلو لا الالتفات إلى الحضور في قوله:( ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ) أوهم السياق رجوعه إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله:( مَكَّنَّاهُمْ ) و إلّا فأصل السياق في مفتتح السورة للغيبة، و قد تقدّم الكلام في الالتفات الواقع في قوله:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) .

و في قوله:( فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ) دلالة على أنّ للسيّئات و الذنوب دخلاً في البلايا و المحن العامّة، و في هذا المعنى و كذا في معنى دخل الحسنات و الطاعات في

١٥

إفاضات النعم و نزول البركات آيات كثيرة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ) إلى آخر الآية، إشارة إلى أنّ استكبارهم قد بلغ مبلغاً لا ينفع معه حتّى لو أنزلنا كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم فناله حسّهم بالبصر و السمع، و تأيّد بعض حسّهم ببعض فإنّهم قائلون حينئذ لا محالة: هذا سحر مبين، فلا ينبغي أن يعبأ باللغو من قولهم:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) (الإسراء: ٩٣).

و قد نكّر الكتاب في قوله:( كِتاباً فِي قِرْطاسٍ ) لأنّ هذا الكتاب نزّل نوع تنزيل لا يقبل إلّا التنزيل نجوماً و تدريجاً، و قيّده بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى ما اقترحوه، و أبعد ممّا يختلج في صدورهم أنّ الآيات النازلة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من منشآت نفسه من غير أن ينزل به الروح الأمين على ما يذكره الله سبحانه:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) (الشعراء: ١٩٥).

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) تحضيض للتعجيز، و قد أخبرهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أنّ الّذي جاء به إليه ملك كريم نازل من عندالله كقوله تعالى:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (كوّرت: ٢١) إلى غيرها من الآيات.

فسؤالهم إنزال الملك إنّما كان لأحد أمرين على ما يحكيه الله عنهم في كلامه:

أحدهما: أن يأتيهم بما يعدهم النبيّ من العذاب كما قال تعالى:( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) (حم السجدة: ١٣) و قال:( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ - إلى أن قال -إِنْ يُوحى‏ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) ( ص: ٧٠).

و لمّا كان نزول الملك انقلاباً للغيب إلى الشهادة، و لا مرمى بعده استعقب إن لم يؤمنوا - و لن يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار - القضاء بينهم بالقسط، و لا محيص حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى:( وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) .

على أنّ نفوس الناس المتوغّلين في عالم المادّة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق

١٦

مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم و اختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلّا انتقالاً منهم من حضيض المادّة إلى ذروة ما وراها و هو الموت كما قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى‏ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (الفرقان: ٢٢) و هذا هو يوم الموت أو ما هو بعده بدليل قوله بعده( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا ) (الفرقان: ٢٤).

و قال تعالى بعده - و ظاهر السياق أنّه يوم آخر -:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ، تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) (الفرقان: ٢٦) و لعلّهم إيّاه كانوا يعنون بقولهم:( أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا ) (الإسراء: ٩٢).

و بالجملة فقوله تعالى:( وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ) إلخ، جواب عن اقتراحهم نزول الملك ليعذّبهم، و على هذا ينبغي أن يضمّ إليه ما وعده الله هذه الاُمّة أن يؤخّر عنهم العذاب كما تشير إليه الآيات من سورة يونس:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ - إلى أن قال -وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) (يونس: ٥٣) و في هذا المعنى آيات اُخرى كثيرة سنستوفي البحث عنها في سورة أخرى إن شاء الله.

و قال تعالى:( وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (الأنفال: ٣٣).

فالمتحصّل من الآية أنّهم يسألون نزول الملك، و لا نجيبهم إلى ما سألوه لأنّه لو نزل الملك لقضي بينهم و لم ينظروا و قد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون حتّى يلاقوا يومهم، و سيوافيهم ما سألوه فيقضي الله بينهم.

و يمكن أن يقرّر معنى الآية على نحو آخر و هو أن يكون مرادهم أن ينزل الملك ليكون آية لا ليأتيهم بالعذاب، و يكون المراد من الجواب أنّه لو نزل عليهم لم يؤمنوا

١٧

به لما تمكّن فيهم من رذيلة العناد و الاستكبار و حينئذ قضي بينهم و هم لا ينظرون، و هم لا يريدون ذلك.

و ثانيهما: أن ينزل عليهم الملك ليكون حاملاً لأعباء الرسالة داعياً إلى الله مكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يكون معه رسولاً مثله مصدّقاً لدعوته شاهداً على صدقه كما في قولهم فيما حكى الله:( وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) (الفرقان: ٧) فإنهم يريدون أنّ الّذي هو رسول من جانب الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في عاديّاتهم من أكل الطعام و اكتساب الرزق بالمشي في الأسواق بل يجب أن يختصّ بحياة سماويّة و عيشة ملكوتيّة لا يخالطه تعب السعي و شقاء الحياة المادّيّة فيكون على أمر بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماويّ فيكون معه نذيراً فلا يشكّ في حقّيّة دعوته و واقعيّة رسالته.

و هذا هو الّذي تجيب عنه الآية التالية:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) اللبس بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى ذلك و اللبس بالضمّ التغطية على الحقّ، و كأنّ المعنى استعاريّ و الأصل واحد.

قال الراغب في المفردات: لبس الثوب استتر به و ألبسه غيره - إلى أن قال - و أصل اللبس (بضمّ اللام) ستر الشي‏ء و يقال ذلك في المعاني يقال: لبست عليه أمره قال:( وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) و قال:( وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ، الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) و، يقال: في الأمر لبسه أي التباس، انتهى.

و معمول يلبسون محذوف، و ربّما استفيد من ذلك العموم و التقدير يلبس الكفّار على أنفسهم أعمّ من لبس البعض على نفسه، و لبس البعض على البعض الآخر.

أمّا لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحقّ بالباطل لجهلة مقلّديهم و كما يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحقّ بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه:( يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ،

١٨

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ ) (الزخرف: ٥٤) و قوله:( ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى‏ وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) (المؤمن: ٢٩).

و أمّا لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم أنّ الحقّ باطل و أنّ الباطل حقّ ثمّ تماديهم على الباطل فإنّ الإنسان و إن كان يميّز الحقّ من الباطل فطرة الله الّتي فطر الناس عليها، و كان تلهم نفسه فجورها و تقواها غير أنّ تقويته جانب الهوى و تأييده روح الشهوة و الغضب من نفسه تولّد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحقّ، و الاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه إليه، و تغترّ بعمله، و لا تدعه يلتفت إلى الحقّ و يسمع دعوته، و عند ذاك يزيّن له عمله، و يلبس الحقّ بالباطل و هو يعلم كما قال تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً ) (الجاثية: ٢٣) و قال:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (الكهف: ١٠٤).

و هذا هو المصحّح لتصوير ضلال الإنسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أنّ لبس الإنسان على نفسه الحقّ بالباطل إقدام منه على الضرر المقطوع و هو غير معقول.

على أنا لو تعمّقنا في أحوال أنفسنا ثمّ أخذنا بالنصفة عثرنا على عادات سوء نقضي بمساءتها لكنّا لسنا نتركها لرسوخ العادة و ليس ذلك إلّا من الضلال على علم، و لبس الحقّ بالباطل على النفس و التلهّي باللّذّة الخياليّة و التولّه إليها عن التثبّت على الحقّ و العمل به، أعاننا الله تعالى على مرضاته.

و على أيّ حال فقوله تعالى:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ) إلخ، الجواب عن مسألتهم نزول الملك ليكون نذيراً فيؤمنوا به.

و محصّله أنّ الدار دار اختيار لا تتمّ فيها للإنسان سعادته الحقيقيّة إلّا بسلوكه مسلك الاختيار، و اكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضرّه، و سلوك أيّ الطريقين رضي لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك.

قال تعالى:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) (الدهر: ٣) فإنّما هي هداية و إراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرّق و التمرّد من غير أن يضطرّ إلى

١٩

شي‏ء من الطريقين و يلجأ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثمّ يحصد ما حرث، قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (النجم: ٤١) فليس للإنسان إلّا مقتضى سعيه فإن كان خيراً أراه الله ذلك و إن كان شرّاً أمضاه له، قال تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (الشورى: ٢٠).

و بالجملة هذه الدعوة الإلهيّة لا يستقيم أمرها إلّا أن توضع على الاختيار الإنسانيّ من غير اضطرار و إلجاء، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحداً من الناس يكلّمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة أو الشقاء بالمخالفة و المعصية من غير أن يضطرّهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماويّة يلجئهم إليه و إن قدر على ذلك كما قال:( لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) (الشعراء: ٤).

فلو أنزل الله إليهم ملكاً رسولاً لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلاً مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم و يخسر الخاسرون فيلبسوا الحقّ بالباطل على أنفسهم و على أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشريّ فيمضي الله ذلك و يلبس عليهم كما لبسوا، قال تعالى:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (الصفّ: ٥).

فإنزال الملك رسولاً لا يترتّب عليه من النفع و الأثر أكثر ممّا يترتّب على إرسال الرسول البشريّ، و يكون حينئذ لغواً فقول الّذين كفروا:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ) ليس إلّا سؤالاً لأمر لغو لا يترتّب عليه بخصوصه أثر خاصّ جديد كما رجوا، فهذا معنى قوله:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) .

فظهر ممّا تقدّم من التوجيه أوّلاً أنّ الملازمة بين جعل الرسول ملكاً و جعله رجلاً إنّما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الإنسانيّ في الدعوة الدينيّة الإلهيّة إذ لو أنزل الملك على صورته السماويّة و بدّل الغيب شهادة كان من الإلجاء الّذي لا تستقيم معه الدعوة الاختياريّة.ريّة.

و ثانياً: أنّ الّذي تدلّ عليه الآية هو صيرورة الملك رجلاً مع السكوت عن كون

٢٠