الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88385 / تحميل: 8088
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الخلقة أو لم يجهّز بما يسلك به إليها فإنّما الدين عندالله الإسلام و هو الخضوع لله بحسب ما يهدي إليه و يدلّ عليه صنعه و إيجاده.

قوله تعالى: ( وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ ) . قسّم تعالى حججهعليه‌السلام إلى قسمين: أحدهما ما بدأ به هو فحاجّ الناس، و ثانيهما ما بدأ به الناس فكلّموه به بعد ما تبرّأ من آلهتهم، و هذا الّذي تعرّض له في الآية و ما بعده هو القسم الثّاني.

لم يذكر تعالى ما أوردوه عليه من الحجّة لكنّه لوّح إليه بقوله حكاية عن إبراهيمعليه‌السلام :( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ) فهو الاحتجاج لوجوب عبادة آلهتهم من جهة الخوف و قد تقدّم و سيجي‏ء أنّ الّذي بعثهم إلى اتّخاذ الآلهة و عبادتها أحد أمرين: الخوف من سخطها و قهرها بما لها من السلطة على حوادث العالم الأرضيّ، أو رجاء البركة و السعادة منها، و أشدّ الأمرين تأثيراً في نفوسهم هو الأمر الأوّل أعني الخوف و ذلك أنّ الناس بحسب الطباع يرون ما بأيديهم من النعمة و السعادة المادّيّة ملك أنفسهم إمّا مرهون جهدهم في سلوك سبيل المعاش في اقتناء الأموال و اكتساب المقام و الجاه أو ممّا ملّكهم إيّاه الجدّ الرفيع أو البخت السعيد كمن ورث مالاً من مورثه أو صادف كنزاً فتملّكه أو ساد قومه برئاسة أبيه.

فطريق الرجاء قليل التأثير في وجوب العبوديّة حتّى أنّ المسلمين مع ما بأيديهم من التعليم الكامل الإلهيّ يتأثّرون من الوعد و البشارة أقلّ ممّا يتأثّرون من الوعيد و الإنذار، و لذلك بعينه نرى أنّ القرآن يذكر الإنذار من وظائف الأنبياء أكثر من ذكر التبشير، و كلا الأمرين من وظائفهم و الطرق الّتي يستعملونها في الدعوة الدينيّة.

و بالجملة اختار قوم إبراهيمعليه‌السلام في محاجّتهم إيّاه عند ما كلّموه في أمر الآلهة سبيل الخوف فأرهبوه من قهر الآلهة و سخطها و وعظوه بسلوك سبيلهم و لزوم طريقهم في التقرّب بالآلهة و رفض القول بربوبيّة الله سبحانه، و إثباته في المقام الّذي أثبتوه فيه و هو أنّه الّذي ينتهي إليه الكلّ فحسب.

و لمّا وجدعليه‌السلام كلامهم ينحلّ إلى جزأين: الردع عن القول بربوبيّة الله سبحانه

٢٠١

و التحريض على القول بربوبيّة آلهتهم احتجّ عليهم من الجهتين جميعاً لكن لا غنى للجهة الاُولى عن الثانية كما سيجي‏ء.

و ما أورده في الاحتجاج على حجاجهم في الله سبحانه هو قوله:( أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ ) أي إنّي واقع في أمر مفروغ عنه و مهتد بهداية ربّي حيث آتاني العلم بما أراني من ملكوت السماوات و الأرض و ألهمني بذلك حجّة أنفي بها ربوبيّة غيره من الأصنام و الكواكب، و أنّي لا أستغني عن ربّ يدبّر أمري فأنتج لي أنّه هو الربّ وحده لا شريك له، و إذ هداني إليه فأنا في غنى عن الإصغاء إلى حجّتكم و البحث عن الربوبيّة ثانياً فإنّ البحث إنّما ينفع الطالب و لا طلب بعد الوصول إلى الغاية.

هذا ما يعطيه ظاهر الآية بالتبادر إلى الذهن لكنّ هناك معنى أدقّ من ذلك يظهر بالتدبّر و هو أنّ قوله:( وَ قَدْ هَدانِ ) استدلال بنفس الهداية لا استغناء بالهداية عن الاستدلال و تقريره أنّ الله هداني بما علّمني من الحجّة على نفي ربوبيّة، غيره و إثبات ربوبيّته و نفس هدايته دليل على أنّه ربّ و لا ربّ غيره فإنّ الهداية إلى الربّ من جملة التدبير فهي شأن من هو ربّ، و لو لم يكن الله سبحانه هو ربّي لم يكن ليهديني و لأقام بها إلى الّذي هو الربّ لكنّ الله هو هداني فهو ربّي.

و لم يكن لهم أن يقولوا: إنّ الّذي علّمك ما علمت و ألهمك الحجّة هو بعض آلهتنا لأنّ الشي‏ء لا يهدي إلى ما يضرّه و يميت ذكره و يفسد أمره فاهتداؤهعليه‌السلام إلى نفي ربوبيّتها لا يصحّ أن ينسب إليها، هذا.

و لكن كان لهم أن يقولوا أو أنّهم قالوا: إنّ ذلك من فعل بعض آلهتنا فعل بك ذلك قهراً و سخطاً أبعدك عن القول بربوبيّتها و لقّنك هذه الحجج لما وجد من فساد رأيك و علّة نفسك نظير ما شافهت به عاد هوداًعليه‌السلام لمّا دعاهم إلى توحيد الله سبحانه و احتجّ عليهم بأنّ الله هو الّذي يجب أن يرجى و يخاف، و أنّ آلهتهم لا تنفع و لا تضرّ فردّوا عليه بأنّ بعض آلهتنا اعتراك بسوء قال تعالى في قصّتهم حكاية عن هودعليه‌السلام :( وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى‏ قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ، قالُوا يا هُودُ - إلى أن قال -إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ

٢٠٢

إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ) (هود: ٥٥).

فقولهعليه‌السلام :( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ) إلخ، ينفي هذه الشبهة و كما أنّه ينفي هذه الشبهة فإنّه حجّة تامّة تنفي ربوبيّة شركائهم.

و محصّله: أنّكم تدعونني إلى القول بربوبيّة شركائكم و رفض القول بربوبيّة ربّي بما تخوّفونني من أن تمسّني شركاؤكم بسوء، و ترهبونني بإلقاء الشبهة فيما اهتديت به، و إنّي لا أخاف ما تشركون به لأنّها جميعاً مخلوقات مدبّرة لا تملك نفعاً و لا ضرّاً و إذ لم أخفها سقطت حجّتكم و ارتفعت شبهتكم.

و لو كنت خفتها لم يكن الخوف الحاصل في نفسي من صنع شركائكم لأنّها لا تقدر على شي‏ء بل كان من صنع ربّي و كان هو الّذي شاء أن أخاف شركاءكم فخفتها فكان هذا الخوف دليلاً آخر على ربوبيّته و آية اُخرى من آيات توحيده يوجب إخلاص العبادة له لا دليلاً على ربوبيّة شركائكم و حجّة توجب عبادتها.

و الدليل على أنّ ذلك من ربّي أنّه وسع كلّ شي‏ء علماً فهو يعلم كلّ ما يحدث و يجري من خير و شرّ في مملكته الّتي أوجدها لغايات صحيحة متقنة، و كيف يمكن أن يعلم في ملكه بشي‏ء ينفع أو يضرّ فيسكت و لا يستقبله بأحد أمرين: إمّا المنع أو الإذن.؟

فلو حصل في نفسي شي‏ء من الخوف لكان بمشيّة من الله و إذن على ما يليق بساحة قدسه، و كان ذلك من التدبير الدالّ على ربوبيّته و نفي ربوبيّة غيره أ فلا تتذكّرون و ترجعون إلى ما تدركونه بعقولكم و تهدي إليه فطرتكم.

فهذا وجه في تقرير الحجّة المودعة في قوله:( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ) و على ذلك فقوله:( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ) كالمتمّم للحجّة في قوله:( أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ ) و هو مع ذلك حجّة تامّة في نفسه لإبطال ربوبيّة شركائهم بعدم الخوف منها، و قوله:( إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ) كالكلام في الحجّة على تقدير التسليم أي تحتجّون على وجوب عبادتها بالخوف و لا خوف في نفسي، و لو فرض خوف لكان دليلاً على ربوبيّة ربّي لا على ربوبيّة شركائكم فإنّه عن مشيّة من

٢٠٣

ربّي، و قوله:( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) بيان و تعليل لكون الخوف المفروض مستنداً إلى مشيّة ربّه فإنّ فاطر السماوات و الأرض لا يجهل ما يقع في ملكه فلا يقع إلّا بإذن منه فهو الذي يدبّر أمره و يقوم بربوبيّته، و قوله:( أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ) استفهام توبيخيّ و إشارة إلى أنّ الحجّة فطريّة، هذا.

و للمفسّرين في الآية أقوال:

أمّا قوله تعالى:( قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ ) فقد أورد أكثرهم فيه الوجه الأوّل من الوجهين اللّذين قدّمناهما، و محصّله أنّه يردّ اعتراضهم على توحيده بأنّه غنيّ عن المحاجّة في ذلك فإنّ الله هداه و لا حاجة معها إلى المحاجّة لكن ظاهر السياق أنّه في مقام المحاجّة و لازمه أنّ كلامه احتجاج للتوحيد الاستغناء عن الاحتجاج.

و أمّا قوله تعالى:( لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ) فقد ذكروا في الصدر قريباً ممّا قدّمناه، و أمّا الاستثناء فقيل: معناه إلّا أن يغلب ربّي هذه الأصنام الّتي تخوّفونني بها فيحييها و يُقدرها فتضرّ و تنفع فيكون ضررها و نفعها إذ ذاك دليلاً على حدوثها و على توحيد الله سبحانه، و بعبارة اُخرى: المعنى أنّي لا أخافها في حال من الحالات إلّا أن يشاء ربّي أن تحيا هؤلاء الشركاء فتضرّ و تنفع فأخافها و إذ ذاك كانت الربوبيّة لله و تبيّن حدوث شركائكم.

و هذا الوجه و إن كان قريباً ممّا قدّمناه بوجه لكن نسبة النفع و الضرّ إلى الشركاء لو كانت أحياء - مع أنّ بعضها أحياء عندهم كالملائكة و أرباب الأنواع و بعضها يضرّ و ينفع بحسب ظاهر النسبة كالشمس - تخالف التعليم الإلهيّ في كتابه فإنّ القرآن يصرّح أن لا يملك نفعاً و لا ضرراً إلّا الله سبحانه.

و كذلك ما ذكر من دلالة ذلك على حدوث شركائهم أمر لا يضرّ أهل الأوثان فإنّهم كما عرفت لا ينكرون كون الأصنام و لا أربابها معلولة لله مخلوقة له، و القول بالقدم الزمانيّ في بعضها لا ينافي إمكانها و لا معلوليّتها عندهم.

و قيل: إنّ معنى الاستثناء أنّي لا اُخاف شركاءكم و أستثني من عموم الخوف في الأوقات أن يشاء ربّي أن يعذّبني ببعض ذنوبي أو يصيبني بمكروه ابتداءً، و بعبارة

٢٠٤

اُخرى الجملة استثناء من معنى أعمّ ممّا يدلّ عليه الجملة السابقة فقد دلّ قوله:( وَ لا أَخافُ ) إلخ، على نفي الخوف من شركائهم، و قوله:( إِلَّا أَنْ يَشاءَ ) إلخ، استثناء من كلّ خوف فالتقدير: لا أخاف ما تشركون به و لا شيئاً آخر إلّا من أن يشاء ربّي شيئاً أكرهه ابتداءً أو جزاءً فإنّي أخافه، و وجه التعسّف في هذا المعنى لا يحتاج إلى بيان.

و أمّا قوله:( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) فقد قيل. إنّه ثناء منهعليه‌السلام لربّه بعد إتمام الحجّة.

و قيل: إنّه تعريض بأصنامهم حيث إنّها لا تعلم شيئاً و لا تشعر، و يرد عليه أنّ التعريض بمثل القدرة أقرب إلى اقتضاء المقام من التعريض بالعلم فما وجه العدول عن القدرة إلى العلم؟ و الإشكال جار في الوجه السابق.

و قيل: إنّه لمّا استثنى ما يشاؤه ربّه ممّا يقع عليه من المكاره بيّن بقوله:( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) أنّه تعالى علّام الغيوب فلا يفعل إلّا الصلاح و الخير و الحكمة. و فيه أنّ الأنسب حينئذ أن يذكر الحكمة مكان العلم و لا أقلّ من أن يذكر الحكمة مع العلم كما في أغلب الموارد.

و قيل: إنّه كالتعليل للاستثناء بجواز أن يكون قد سبق في علمه تعالى أصابته بسوء تكون سببه الأصنام كأن يشاء أن يسقط صنم عليه فيشجّه أو تؤثّر فيه حرارة الشمس فتمرضه أو تقتله، و فيه أنّ التمسّك بالقدرة أو الحكمة أنسب للتعليل من العلم.

و قيل: معناه أنّ علم ربّي وسع كلّ شي‏ء و أحاط به و مشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم و قدرته منفذة لمشيئته فلا يمكن أن يكون لشي‏ء من المخلوقات الّتي تعبدونها و لا لغيرها تأثير مّا في صفاته، و لا في أفعاله الصادرة عنها لا بشفاعة و لا غيرها و إنّما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكلّ شي‏ء فيعلّمه الشفعاء و الوسطاء من وجوه مرجّحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم فيكون ذلك هو الحامل له على الضرّ أو النفع أو العطاء أو المنع.

قال هذا القائل: أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركيّة بمثل قوله:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما

٢٠٥

خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) . قال: و هذا أرجح الوجوه، و هو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، انتهى ملخّصاً.

و محصله أنّ قوله:( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ‏ءٍ عِلْماً ) بيان و تعليل لعموم نفي الخوف من الآلهة و غيرها كأنّه قال: لا أخاف ضرّ شي‏ء من آلهتكم و غيرها من المخلوقات فإنّ ربّي يعلم كلّ شي‏ء فيتمّه بمشيئته و ينفذه بقدرته فلا يحتاج إلى شفيع يعلّمه ما جهل حتّى يكون لها تأثير في أفعاله تعالى و شفاعة.

و أنت تعلم أنّ نفي هذا التأثير كما يحتاج إلى سعة علمه تعالى كذلك يحتاج إلى إطلاق القدرة و المشيئة - و المشيئة مع ذلك صفة فعل لا ذات كما يفرضه القائل - فما ذا تنفع سعة العلم لو لم يكن لقدرته و مشيئته إطلاق، و الشاهد عليه نفس كلامه الّذي قرّر فيه الوجه بالعلم و المشيئة و القدرة جميعاً.

و بالجملة هذا الوجه لا يتمّ بسعة العلم وحدها و إنّما يتمّ بها و بإطلاق القدرة و المشيئة، و قد ذكرت في الآية سعة العلم وحدها.

و أمّا ما ذكره من دلالة آيات الشفاعة على ذلك فالآيات المذكورة مسوقة لإثبات الشفاعة بمعنى التوسّط في السببيّة بإذن من الله سبحانه لا أنّها تنفيها كما خيّل إليه فزعم أنّه يفسّر القرآن، بالقرآن و كيف لا؟ و الطمع في ارتفاع الأسباب عن العالم المشهود طمع فيما لا مطمع فيه، و القرآن الكريم من أوّله إلى آخره يتكلّم عن السببيّة و يبني على أصل العلّيّة و المعلوليّة العامّ، و قد تقدّم الكلام في هذه المعاني كراراً في الأجزاء السابقة من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) إلخ، ثمّ كرّعليه‌السلام عليهم بحجّة اُخرى تثبت المناقضة بين قولهم و فعلهم و بعبارة اُخرى: حالهم يكذّب مقالهم و محصّله أنّكم تأمرونني أن أخاف ما لا يجب أن يخاف منه، و أنتم أنفسكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فأنا أولى بالأمن منكم إن عصيتكم و لم آتمر بأمركم.

أمّا كون ما تأمرونني بخوفه لا يجب أن يخاف منه فلأنّ الأصنام و أربابها لا دليل

٢٠٦

على كونها مستقلّة بالضرّ و النفع حتّى توجب الخوف منها، و أمّا كونكم لا تخافون من يجب أن يخاف منه فإنّكم أنفسكم أثبتّم لله سبحانه شركاء في الربوبيّة و لم ينزّل الله في ذلك عليكم برهاناً يمكن أن يعتمد عليه فإنّ الصنع و الإيجاد لله سبحانه فله الملك و له الحكم فلو كان اتّخذ بعض مخلوقاته شريكاً لنفسه يوجب لنا بذلك عبادة شريكه كان إليه لا إلى غيره أن يبيّن لنا ذلك و يكشف عن وجه الحقيقة فيه، و الطريق فيه أن يقارنه بعلائم و آيات تدلّ على أنّ له شركة في كذا و كذا، و ذلك إمّا وحي أو برهان يتّكئ على آثار خارجيّة، و شي‏ء من ذلك غير موجود.

و على هذا التقرير فقوله تعالى:( ما أَشْرَكْتُمْ ) مقيّد بحسب ما يستفاد من المقام بما قيّد به قوله:( أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) و إنّما ذكر هذا القيد عند ذكر عدم خوفهم من شركهم لأنّ الحجّة إلى ذكره هناك أحوج و هو ظاهر. و قوله:( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) من تتمّة الحجّة، و المجموع برهان على مناقضتهم أنفسهم في دعوتهعليه‌السلام إلى أن يخاف آلهتهم فإنّهم يأمرونه بالخوف فيما لا يجب و هم أنفسهم لا يخافون فيما يجب.

و بالبيان السابق يظهر أنّ وصف شركائهم بأنّ الله لم ينزّل بها عليهم سلطاناً افتراض استدعاه نوع الحجّة الّتي وضعت في الكلام لا مفهوم له يثبت إمكان أن يأمر الله باتّخاذ الشركاء آلهة يعبدون فهو بمنزلة قولنا: لا دليل لكم على ما ادّعيتم، في جواب من يخوفنا من موضوع خرافيّ يدّعي أنّه ربّما ينفع و يضرّ، و لنا أن نبدّل قولنا ذلك لو أردنا التكلّم بلسان التوحيد بقولنا: ما أنزل الله على ذلك دليلاً، و الكلام بحسب التحليل المنطقيّ يؤول إلى قياس استثنائيّ استثني فيها نقيض المقدّم في الشرطيّة لإنتاج نقيض التالي نحواً من قولنا: لو كان الله نزّل بها عليكم سلطاناً يدلّ على قدرتهم على الضرّ لكان اتّخاذكم الشركاء خوفاً منها في محلّه لكنّه لم ينزّل سلطاناً فليس اتّخاذكم الشركاء في محلّه، و من المعلوم أن لا مفهوم في هذا القياس فلا حاجة إلى القول بأنّ التقييد بقوله:( لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) للتهكّم، أو للإشارة إلى أنّ هذا وصف لازم لشركائهم على حدّ قوله تعالى:( وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ ) (المؤمنون: ١١٧) إلى غير

٢٠٧

ذلك من التحمّلات.

و الباء في قوله:( لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ ) للمعيّة أو السببيّة و قد كنّىعليه‌السلام عنهم و عن نفسه بالفريقين و لم يقل: أنا و أنتم أو ما يشابه ذلك ليكون أبعد من تحريك الحميّة و تهييج العصبيّة كما قيل، و ليدلّ على تفرّقهما و شقاق بينهما من جهة الاختلاف في أصل الاُصول و اُمّ المعارف الحقيقيّة بحيث لا يأتلفان بعد ذلك في شي‏ء.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) سألهم في الآية السابقة في ضمن ما أقامه من الحجّة عمّن هو أحقّ بالأمن حيث قال:( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ثمّ أجابهم عمّا سألهم لكون الجواب واضحاً لا يختلف فيه الفريقان المتخاصمان و الجواب الّذي هذا شأنه لا بأس بأن يبادر السائل إلى إيراده من غير أن ينتظر المسؤل فإنّ المسؤل لا يخالف السائل في ذلك حتّى يخاف منه الردّ، و قد حكى الله تعالى اعترافهم بذلك في قصّة كسر الأصنام:( قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلى‏ أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى‏ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) (الأنبياء: ٦٥).

هذا ما يقتضيه سياق الكلام أن تكون الآية من كلام إبراهيمعليه‌السلام و مقولة لقوله، و أمّا كونها من كلام قومه و جواباً محكيّاً عنهم، و كذا كونها من الله سبحانه من باب القضاء بين الطرفين المتخاصمين فممّا لا يساعد عليه السياق البتّة.

و كيف كان فالكلام متضمّن تأكيداً قويّاً من جهة إسنادات متعدّدة في جمل اسميّة و هي ما في قوله:( لَهُمُ الْأَمْنُ ) جملة اسميّة هي خبر لقوله:( أُولئِكَ ) و المجموع جملة اسميّة هي خبر لقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، و المجموع جملة اسميّة، و كذلك ما عطف على قوله:( لَهُمُ الْأَمْنُ ) من قوله:( وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) فينتج أنّه لا شكّ في اختصاص الّذين آمنوا و لم يستروا إيمانهم بظلم بالأمن و الاهتداء و لا ريب.

و لا ريب أنّ الآية تدلّ على أنّ خاصّة الأمن و الاهتداء من آثار الإيمان مشروطاً بأن لا يلبس بظلم، و اللّبس الستر كما ذكر الراغب في المفردات: و أصل اللبس - بفتح اللّام - الستر، فهو استعارة قصد فيها الإشارة إلى أنّ هذا الظلم لا يبطل أصل الإيمان

٢٠٨

فإنّه فطريّ لا يقبل البطلان من رأس، و إنّما يغطّي عليه و يفسد أثره و لا يدعه يؤثّر أثره الصحيح.

و الظلم و هو الخروج عن وسط العدل و إن كان في الآية نكرة واقعة في سياق النفي و لازمه العموم و عدم اقتران الإيمان بشي‏ء ممّا يصدق عليه الظلم على الإطلاق لكنّ السياق حيث دلّ على كون الظلم مانعاً من ظهور الإيمان و بروزه بآثاره الحسنة المطلوبة كان ذلك قرينة على أنّ المراد بالظلم هو نوع الظلم الّذي يؤثّر أثراً سيّئاً في الإيمان دون الظلم الّذي لا أثر له فيه.

و ذلك أنّ الظلم و إن كان المظنون أنّ أوّل ما انتقل إليه الناس من معناه هو الظلم الاجتماعيّ و هو التعدّي إلى حقّ اجتماعيّ بسلب الأمن من نفس أحد من أفراد المجتمع أو عرضه أو ماله من غير حقّ مسوّغ لكنّ الناس توسّعوا بعد ذلك فسمّوا كلّ مخالفة لقانون أو سنّة جارية ظلماً بل كلّ ذنب و معصية لخطاب مولويّ ظلماً من المذنب بالنسبة إلى نفسه بل المعصية لله سبحانه لما له من حقّ الطاعة المشروع بل مخالفة التكليف ظلماً و إن كان عن سهو أو نسيان أو جهل و إن لم يبنوا على مؤاخذة هذا المخالف و عقابه على ما أتى به بل يعدّون من خالف النصيحة و الأمر الإرشاديّ و لو اشتبه عليه الأمر و أخطأ في مخالفته من غير تعمّد ظالماً لنفسه حتّى أنّ من سامح في مراعاة الدساتير الصحّيّة الطبّيّة أو خالف شيئاً من العوامل المؤثّرة في صحّة مزاجه و لو من غير عمد عدّ ظالماً لنفسه و إن كان ظلماً من غير شعور، و الملاك في جميع ذلك التوسّع في معنى الظلم من جهة تحليله.

و بالجملة للظلم عرض عريض - كما عرفت - لكن ما كلّ فرد من أفراده بمؤثّر أثراً سيّئاً في الإيمان فإنّ أصنافه الّتي لا تتضمّن ذنباً و معصية و لا مخالفة مولويّة كما إذا كان صدوره عن سهو أو نسيان أو جهل أو لم يشعر بوقوعه مثلاً فتلك كلّها ممّا لا يؤثّر في الإيمان الّذي شأنه التقريب من السعادة و الفلاح الحقيقيّ و الفوز برضى الربّ سبحانه و هو ظاهر فتأثير الإيمان أثره لا يشترط بعدم شي‏ء من ذلك.

فقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ) معناه اشتراط الإيمان في إعطائه الأمن من كلّ ذنب و معصية يفسد أثره بعدم الظلم غير أنّ ههنا دقيقة

٢٠٩

و هي أنّ الذنب الاختياريّ - كما استوفينا البحث عنه في آخر الجزء السادس من الكتاب - أمر ذو مراتب مختلفة باختلاف الأفهام فمن الظلم ما هو معصية اختياريّة بالنسبة إلى قوم و ليس بها عند آخرين. فالواقف في منشعب طريقي الشرك و التوحيد مثلاً و هو الّذي يرى أنّ للعالم صانعاً هو الّذي فطر أجزاءها و شقّ أرجاءها و أمسك أرضها و سماءها، و يرى أنّه نفسه و غيره مخلوقون مربوبون مدبّرون، و أنّ الحياة الإنسانيّة الحقيقيّة إنّما تسعد بالإيمان به و الخضوع له فالظلم اللّائح لهذا الإنسان هو الشرك بالله و الإيمان بغيره بالربوبيّة كالأصنام و الكواكب و غيرها على ما يثبته إبراهيمعليه‌السلام بقوله:( وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ) فالإيمان الّذي يؤثّر أثره بالنسبة إلى هذا الإنسان إنّما يشترط في إعطائه الأمن من الشقاء بأن لا يلبسه ظلم الشرك و معصيته.

و من طوى هذه المرحلة فآمن بالله وحده فإنّه يواجه من الظلم الكبائر من المعاصي كعقوق الوالدين و أكل مال اليتيم و قتل النفس المحترمة و الزنا و شرب الخمر فإيمانه في تأثيره آثاره الحسنة يشترط باجتناب هذا النوع من الظلم، و قد وعده الله أن يكفّر عنه السيّئات و المعاصي الصغيرة إن اجتنب كبائر ما ينهى عنه، قال تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) (النساء: ٣١) و فساد أثر هذا الإيمان هو الشقاء بعذاب هذه المعاصي و إن لم يكن عذاباً خالداً غير منقطع الآخر كعذاب الشرك بل منقطعاً إمّا بحلول أجله و إمّا بشفاعة و نحوها.

و من تزوّد هذا الزاد من التقوى و حصّل شيئاً من المعرفة بمقام ربّه كان مسئولاً بأصناف من الظلم تبدو له بحسب درجة معرفته بربّه كإتيان المكروهات و ترك المستحبّات و التوغّل في المباحات، و فوق ذلك المعاصي في مستوى الأخلاق الكريمة و الملكات الربّانيّة و وراء ذلك الذنوب الّتي تعترض سبيل الحبّ، و تحفّ بساط القرب، فالإيمان في كلّ من هذه المراتب إنّما يؤمن المتلبّس به و يدفع عنه الشقاء إذا عري عن ملابسة الظلم المناسب لتلك المرتبة.

٢١٠

فلقوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) إطلاق من حيث الظلم لكنّه إطلاق يختلف باختلاف مراتب الإيمان و إذ كان المقام مقام محاجّة المشركين انطبق الظلم المنفيّ على ظلم الشرك فحسب و الأمن الّذي يعطيه هذا الإيمان هو الأمن ممّا يخاف منه من الشقاء المؤبّد و العذاب المخلّد، و الآية مع ذلك آية مستقلّة من حيث البيان مع قطع النظر عن خصوصيّة المورد تفيد أنّ الأمن و الاهتداء إنّما يترتّب على الإيمان بشرط انتفاء جميع أنحاء الظلم الّذي يلبسه و يستر أثره بالمعنى الّذي تقدّم بيانه.

و أمّا الإيمان المذكور في الآية ففيه إطلاق و المراد به الإيمان بالربوبيّة الصالح للتقيّد بما يصلحه أو يفسده ثمّ إذا قيّد بقوله:( وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) أفاد الإيمان بربوبيّة الله سبحانه و رفض غيره من شركائهم فإنّ إبراهيمعليه‌السلام ذكر فيما تحكي عنه الآية السابقة أنّ قولهم بربوبيّة شركائهم و إيمانهم بها مع كونها من خلق الله قول بما لا دليل لهم عليه من جانب الله و لا سلطان و أنّهم بإيمانهم بشركائهم يتوقّون شرّاً و يستأمنون شقاءً ليس لها أن تدفعها لأنّها لا تضرّ و لا تنفع، و أمّا هوعليه‌السلام فقد خاف و آمن بمن هو فاطره و هو المتصرّف بالهداية و المدبّر الّذي له في كلّ أمر إرادة و مشيّة لسعة علمه، ثمّ سألهم: أيّ الفريقين أحقّ بالأمن و الناجح بالإيمان بالربّ، و لكلّ من الفريقين إيمان بالربّ، و إن اختلفا من جهة الربّ، و الّذي آمنوا به بين مؤمن بربّ على ربوبيّته دليل، و مؤمن بربّ لا دليل على ربوبيّته بل الدليل على خلافه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالإيمان في قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا ) مطلق الإيمان بالربوبيّة ثمّ بتقيّده بقوله:( وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) يتعيّن في الإيمان بالله سبحانه الّذي هو حقّ الإيمان فافهم.

فقد اتّضح بما تقدّم أوّلاً: أنّ المراد بالإيمان هو الإيمان بالربوبيّة دون الإيمان بوجود صانع العالم خلافاً لمنكري وجوده.

و ثانياً: أنّ الظلم في الآية مطلق ما يضرّ الإيمان و يفسده من المعاصي، و كذا المراد بالأمن مطلق الأمن من شقاء المعاصي و الذنوب، و بالاهتداء مطلق التخلّص من ضلالها

٢١١

و إن انطبق بحسب المورد على معصية الشرك خاصّة.

و ثالثاً: أنّ إطلاق الظلم يختلف بحسب اختلاف مراتب الإيمان.

قال بعض المفسّرين في معنى عموم الظلم في الآية: إنّ الأمن في الآية مقصور على الّذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه و عدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى: الّذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم مّا لأنفسهم لا في إيمانهم و لا في أعمالهم البدنيّة و النفسيّة من دينيّة أو دنيويّة و لا لغيرهم من المخلوقات من العقلاء و العجماوات اُولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الدينيّ على ارتكاب المعاصي و المنكرات، و عقابه الدنيويّ على عدم مراعاة سببه في ربط الأسباب بالمسبّبات كالفقر و الأسقام و الأمراض دون غيرهم ممّن ظلموا أنفسهم أو غيرهم فإنّ الظالمين لا أمان لهم بل كلّ ظالم عرضة للعقاب و إن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كلّ ظالم على كلّ ظلم بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا، و يعذّب من يشاء و يغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به.

قال: و هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه، و يترتّب عليه أنّ الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الدينيّ و الدنيويّ أو الشرعيّ و القدريّ جميعاً لا يصحّ لأحد من المكلّفين دع خوف الهيبة و الإجلال الّذي يمتاز به أهل الكمال.

قال: و أمّا معنى الآية على فرض عدم الإطلاق فهو أنّ الّذين آمنوا و لم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم و هو الشرك بالله اُولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الدينيّ المتعلّق بأصل الدين و هو الخلود في دار العذاب و هم فيما دون ذلك بين الخوف و الرجاء.

قال: و ظاهر الآية هو العموم و استدلّ عليه بفهم الصحابة على‏ ما روي: أنّ الآية لمّا نزلت شقّ ذلك على الناس و قالوا: يا رسول الله أيّنا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ المراد به الشرك، و ربّما أشعر بذلك السياق و كون الموضوع هو الإيمان، انتهى ملخّصاً.

و فيه مواقع للإشكال فأوّلاً: أنّ ما استدلّ عليه من العموم بفهم الصحابة هو

٢١٢

غير ما قرّره من معنى العموم فإنّ الّذي فهموه من الظلم هو ما يساوي المعصية، و الّذي قرّره هو أعمّ من ذلك.

و ثانياً: أنّ ما قرّره من عموم الظلم حتّى بالنسبة إلى أفراد من الظلم ليست من المعصية في شي‏ء ثمّ حكم بصحّة تفسير الآية به أجنبيّ عن مدلول الآية فإنّ الآية في مقام بيان أنّ الأمن و الاهتداء من آثار الإيمان و لكن بشرط أن لا يقارن ظلماً يستره و يفسد أثره، و هذا الظلم إنّما هو المعصية بوجه، و أمّا ما لا يعدّ معصية كأكل الغذاء المضرّ بصحّة البدن خطاءً فمن المعلوم أنّه لا يفسد أثر الإيمان من الأمن و الاهتداء، و ليس المراد بالآية بيان آثار الظلم أيّاً مّا كانت و لو مع قطع النظر عن الإيمان فإنّه تعالى قال:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) فجعل الإيمان هو الموضوع و قيّده بعدم الظلم و جعل أثره الأمن و الاهتداء، و لم يجعل الظلم هو الموضوع حتّى تكون الآية مسرودة لبيان آثاره.

فالآية سيقت لبيان الآثار الّتي تترتّب على الإيمان الصحيح، و أمّا الظلم بما له من العرض العريض و ما له من الأثر المترتّب عليه فالآية غير متعرّضة لذلك البتّة، فقوله:( و هذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه) فاسد البتّة.

و ثالثاً: أنّ قوله:( و يترتّب عليه أنّ الأمن المطلق لا يصحّ لأحد من المكلّفين) صريح في أنّ الآية لا مصداق لها بالنظر إلى الإطلاق الّذي قرّره، و لازمه سقوط الكلام عن الفائدة، و أيّ فائدة في أن يوضع في الحجّة قول لا مصداق له أصلاً؟.

و رابعاً: أنّ الّذي اختاره في معنى الآية أنّ المراد به هو الظلم الخاصّ و هو الشرك ليس بمستقيم فإنّ الآية من جهة عموم لفظها و إن دلّت على وجوب كون الإيمان غير مقارن للشرك حتّى يؤثّر أثره لكنّ ذلك من باب انطباق اللفظ العامّ على مورده الخاصّ، و أمّا إرادة المعنى الخاصّ من اللفظ العامّ من غير قرينة حاليّة أو مقاليّة متّصلة أو منفصلة فممّا لا ترتضيه صناعة البلاغة و هو ظاهر.

و أمّا ما أشار إليه من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّما هو الشرك) فليس بصريح في أنّ الشرك مراد لفظيّ من الآية و إنّما هو الانطباق، و سيجي‏ء البحث عن الحديث في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

٢١٣

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) إلخ، في الإشارة بلفظ البعيد إلى الحجّة تفخيم و تعظيم لأمرها لكونها حجّة قاطعة جارية على صراط الفطرة مأخوذة بمقدّماتها منها.

و أمّا قوله:( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ ) فالدرجات - كما قيل - هي مراقي السلّم ثمّ توسّع فيها فاُطلق على مراتب الكمال من المعنويّات كالعلم و الإيمان و الكرامة و الجاه و غير ذلك فرفعه تعالى من يشاء من عباده درجات من الرفع هو تخصيصه بكمالات معنويّة و فضائل حقيقيّة في الخيرات الكسبيّة كالعلم و التقوى و غير الكسبيّة كالنبوّة و الرسالة و الرزق و غيرها.

و الدرجات لكونها نكرة في سياق الإيجاب مهملة غير مطلقة غير أنّ المتيقّن من معناها بالنظر إلى خصوص المورد هو درجات العلم و الهداية فقد رفع الله إبراهيمعليه‌السلام بهدايته و إراءته ملكوت السماوات و الأرض و إيتائه اليقين و الحجّة القاطعة، و الجميع من العلم، و قد قال تعالى في درجات العلم:( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (المجادلة: ١١).

ثمّ ختم الآية بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) لتثبيت أنّ ذلك كلّه كان بحكمة منه تعالى و علم كما أنّ الحجج الّتي آتاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المذكورة في السورة قبل هذه الحجّة من حكمته و علمه تعالى، و في الكلام التفات من التكلّم إلى الغيبة لتطييب قلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تثبيت المعارف المذكورة فيه.

( بحث روائي)

في العيون: حدّثنا نعيم بن عبدالله بن تميم القرشيّ رضي الله عنه قال: حدّثنا أبي عن حمدان بن سليمان النيشابوريّ عن عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضاعليه‌السلام فقال له المأمون: يا بن رسول الله أ ليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، قال: فسأله عن آيات من القرآن فيه فكان فيما سأله أن قال له:

٢١٤

فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ في إبراهيم:( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى‏ كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ) .

فقال الرضاعليه‌السلام : إنّ إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة، و صنف يعبد القمر، و صنف يعبد الشمس و ذلك حين خرج من السرب الّذي اُخفي فيه فلمّا جنّ عليه الليل رأى الزهرة قال: هذا رَبِّي على الإنكار و الاستخبار فلمّا أفل الكوكب قال:( لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) لأنّ الاُفول من صفات المحدث لا من صفات القديم فلمّا رأى القمر بازغاً قال: هذا رَبِّي على الإنكار و الاستخبار فلمّا أفل قال:( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ‏ ) ، فلمّا أصبح رأى الشمس بازغة قال:( هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) من الزهرة و القمر على الإنكار و الاستخبار لا على الإخبار و الإقرار فلمّا أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة و القمر و الشمس:( يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

و إنّما أراد إبراهيم بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم، و يثبت عندهم أنّ العبادة لا يحقّ لما كان بصفة الزهرة و القمر و الشمس، و إنّما يحقّ العبادة لخالقها و خالق السماوات و الأرض، و كان ما احتجّ به على قومه ممّا ألهمه الله عزّوجلّ و آتاه كما قال عزّوجلّ:( وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى‏ قَوْمِهِ ) . فقال المأمون: لله درّك يا بن رسول الله.

أقول: و تأييد الرواية بمضمونها عدّة من الاُمور الّتي استفدناها من سياق الآيات الكريمة ظاهر، و سيأتي أيضاً بعض ما يؤيّدها من الروايات، و أمّا ما في الرواية من كون قول إبراهيمعليه‌السلام :( هذا رَبِّي ) واقعاً على سبيل الإنكار و الاستخبار دون الإخبار و الإقرار فوجه من الوجوه الّتي تقدّمت في تفسير الآيات أوردهعليه‌السلام في قطع حجّة المأمون، و لا ينافي صحّة غيره من الوجوه لو كان هناك وجه كما سيأتي.

و كذا قوله:( لأنّ الاُفول من صفات المحدث) إلخ، ليس بظاهر في أنّ الحجّة مأخوذة من الاُفول الحادث كما ذكره بعضهم لجواز أن يكون الحجّة مأخوذة من عدم الحبّ و ملاكه كون الاُفول من صفات المحدث الّتي لا ينبغي أن يتعلّق بها حبّ فافهم.

٢١٥

و في كمال الدين: أبي و ابن الوليد معاً عن سعد عن ابن بريد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان أبو إبراهيم منجّماً لنمرود بن كنعان، و كان نمرود لا يصدر إلّا عن رأيه فنظر في النجوم ليلة من اللّيالي فأصبح فقال: لقد رأيت في ليلتي هذه عجباً فقال له نمرود: ما هو؟ فقال: رأيت مولوداً يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه، و لا يلبث إلّا قليلاً حتّى يحمل به فعجب من ذلك نمرود و قال: هل حمل به النساء؟ فقال: لا، و كان فيما اُوتي من العلم أنّه سيحرق بالنار، و لم يكن اُوتي أنّ الله سينجّيه.

قال: فحجب النساء عن الرجال فلم يترك امرأة إلّا جعلت بالمدينة حتّى لا يخلص إليهنّ الرجال، قال: و باشر أبو إبراهيم امرأته فحملت به فظنّ أنّه صاحبه فأرسل إلى نساء من القوابل لا يكون في البطن شي‏ء إلّا علمنا به فنظرنا إلى اُمّ إبراهيم فألزم الله تبارك و تعالى ذكره ما في الرحم الظهر فقلن: ما نرى شيئاً في بطنها.

فلمّا وضعت اُمّ إبراهيم أراد أبوه أن يذهب به إلى نمرود فقالت له امرأته: لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله دعني أذهب به إلى بعض الغيران أجعله فيه حتّى يأتي عليه أجله و لا تكون أنت تقتل ابنك فقال لها: فاذهبي فذهبت به إلى غار ثمّ أرضعته ثمّ جعلت على باب الغار صخرة ثمّ انصرفت عنه فجعل الله رزقه في إبهامه فجعل يمصّها فيشرب لبناً، و جعل يشبّ في اليوم كما يشبّ غيره في الجمعة، و يشبّ في الجمعة كما يشبّ غيره في الشهر، و يشبّ في الشهر كما يشبّ غيره في السنة فمكث ما شاء الله أن يمكث.

ثمّ إنّ اُمّه قالت لأبيه: لو أذنت لي أن أذهب إلى ذلك الصبيّ فأراه فعلت قال: ففعل(١) فأتت الغار فإذا هي بإبراهيم و إذا عيناه تزهران كأنّهما سراجان فأخذته و ضمّته إلى صدرها و أرضعته ثمّ انصرفت عنه فسألها أبوه عن الصبيّ فقالت: قد واريته في التراب.

فمكثت تعتلّ فتخرج في الحاجة، و تذهب إلى إبراهيم فتضمّه إليها و ترضعه

____________________

(١) أي فعل الإذن أي أذن لها.

٢١٦

ثمّ تنصرف فلمّا تحرّك أتته اُمّه كما كانت تأتيه، و صنعت كما كانت تصنع فلمّا أرادت الانصراف أخذ ثوبها فقالت له: ما لك؟ فقال: اذهبي بي معك فقالت له: حتّى استأمر أباك فلم يزل إبراهيم في الغيبة مخفيّاً بشخصه كاتماً لأمره حتّى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره، و أظهر الله قدرته فيه.

أقول: و روي في قصص الأنبياء، عن الصدوق عن أبيه و ابن الوليد ثمّ ساق السند إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان آزر عمّ إبراهيم منجّماً لنمرود و كان لا يصدر إلّا عن رأيه قال: لقد رأيت في ليلتي عجباً قال: ما هو؟ قال: إنّ مولوداً يولد في أرضنا هذه يكون هلاكنا على يديه فحجب الرجال عن النساء، و كان تارخ وقع على اُمّ إبراهيم فحملت ثمّ ساق الحديث إلى آخره.

و قد حمل وحدة السند في الحديثين، و وحدة المضمون إلّا في أبي إبراهيم صاحب‏ البحار أن قال: الظاهر أنّ ما رواه الراونديّ هو هذا الخبر بعينه، و إنّما غيّره ليستقيم على اُصول الإماميّة، انتهى. ثمّ حمل الرواية و ما في مضمونها من الروايات الدالّة على أنّ آزر الوثنيّ كان والداً لإبراهيم صلبيّاً على التقيّة.

و قد روى مثل المضمون السابق القميّ في تفسيره، و العيّاشيّ في تفسيره، و روي من طرق أهل السنّة عن مجاهد، و رواه الطبريّ في تاريخه و الثعلبيّ في قصص الأنبياء، عن عامّة السلف و أهل العلم.

و كيف كان فالّذي ينبغي أن يقال: أنّ علماء الحديث و الآثار كأنّهم مجمعون على أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان في بادي عمره قد اُخفي في سرب خوفاً من أن يقتله الملك نمرود، ثمّ خرج عنه بعد حين فحاجّ أباه و قومه في أمر الأصنام و الكوكب و القمر و الشمس و حاجّ الملك في دعواه الربوبيّة، و قد تقدّم أنّ سياق آيات القصّة يؤيّد هذا المعنى.

و أمّا أبو إبراهيم فقد ذكر أهل التاريخ أنّ اسمه تارخ - بالحاء المهملة أو المعجمة - و آزر إمّا لقبه أو اسم صنم أو وصف ذمّ أو مدح بحسب لغتهم بمعنى المعتضد أو الأعرج وصفه به إبراهيم.

٢١٧

و ذكروا أنّ هذا المشرك الّذي سمّاه القرآن أبا إبراهيم و ذكر محاجّته إيّاه كان هو تارخ أباه الصلبيّ و والده الحقيقيّ و وافقهم على ذلك عدّة من علماء الحديث و الكلام من أهل السنّة، و خالفهم جمع منهم، و الشيعة كالمجمع على ذلك أو هم مجمعون إلّا ما يتراءى من بعض المحدّثين حيث أودعوا تلك الأخبار كتبهم، و عمدة ما احتجّ به القائلون بأنّ آزر المشرك لم يكن والد إبراهيم، و إنّما كان عمّه أو جدّه لاُمّه الأخبار الواردة من طرق الفريقين في أنّ آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا موحّدين جميعاً لم يكن فيهم مشرك، و قد طالت المشاجرة بين الفريقين.

أقول: من البحث على هذا النمط كيفما تمّ خارج عن البحث التفسيريّ و إن كان الباحثون من الفريقين في حاجة إلى إيراده و استنتاج حقّ ما ينتجه لكنّا في غنى عن ذلك فقد تقدّم أنّ الآيات دالّة على أنّ آزر المشرك الّذي يذكره الله تعالى في هذه الآيات من سورة الأنعام لم يكن والداً حقيقيّاً لإبراهيمعليه‌السلام .

فالروايات الدالّة على كون آزر أباه الحقيقيّ على ما فيها من الاختلاف في سرد القصّة روايات مخالفة للكتاب لا يعبأ بها، و لا حاجة مع ذلك إلى حملها على التقيّة إن صحّ الحمل مع هذا الاختلاف بين القوم.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ) الآية قال: حدّثني أبي عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبدالرحمن عن هشام عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كشط له عن الأرض و من عليها، و عن السماء و من عليها، و الملك الّذي يحملها، و العرش و من عليه، و فعل ذلك برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

أقول: و روى مثله في بصائر الدرجات بطريقين عن عبدالله بن مسكان و أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام و بطريق عن عبدالرحيم عن الباقرعليه‌السلام و رواه العيّاشيّ عن زرارة و أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام و عن زرارة و عبدالرحيم القصير عن الباقرعليه‌السلام و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن عبّاس و مجاهد و السدّيّ من مفسّري السلف‏، و سيأتي في الكلام على العرش‏ حديث عليّعليه‌السلام المرويّ في الكافي في معنى العرش و فيه قال: و الّذين يحملون العرش و من حوله هم العلماء الّذين حمّلهم الله علمه قال: و هو الملكوت الّذي أراه الله أصفياءه، و

٢١٨

أراه خليلهعليه‌السلام فقال:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الحديث.

و في الحديث تفسير سائر الأخبار الواردة في تفسير إراءة الملكوت و تأييد لما قدّمناه في البيان السابق، و سيوافيك الشرح المستوفى لهذا الحديث في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا رأى ملكوت السماوات و الأرض التفت فرأى رجلاً يزني فدعا عليه فمات ثمّ رأى آخر فدعا عليه فمات حتّى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا فأوحى الله إليه أن يا إبراهيم: إنّ دعوتك مجابة فلا تدع على عبادي فإنّي لو شئت لم أخلقهم إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: عبد يعبدني و لا يشرك بي شيئاً، و عبد يعبد غيري فلن يفوتني، و عبد يعبد غيري فاُخرج من صلبه من يعبدني.

أقول: و الرواية مستفيضة و رواه في الكافي مسنداً عن أبي بصير عنهعليه‌السلام و رواه الصدوق في العلل عنهعليه‌السلام و الطبرسيّ في الاحتجاج عن العسكريّعليه‌السلام و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عليّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و عن أبي الشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في الشعب من طريق شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عدّة من المفسّرين موقوفاً.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أحدهماعليهما‌السلام قال: في إبراهيم إذ رأى كوكباً قال: إنّما كان طالباً لربّه و لم يبلغ كفراً، و أنّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته.

و في تفسير القمّيّ، قال: و سئل أبوعبداللهعليه‌السلام عن قول إبراهيم:( هذا رَبِّي ) هل أشرك في قوله: هذا رَبِّي؟ فقال: من قال هذا اليوم فهو مشرك، و لم يكن من إبراهيم شرك، و إنّما كان في طلب ربّه و هو من غيره شرك.

أقول: و يقابل الّذي هو طالب من تمّ له البيان و قامت له الحجّة الواضحة فهو غير طالب، و ليس لغير الطالب أن يفترض ما فيه شرك.

٢١٩

و في تفسير العيّاشيّ، عن حجر قال: أرسل العلاء بن سيّابة يسأل أباعبداللهعليه‌السلام عن قول إبراهيم:( هذا رَبِّي ) و أنّه من قال هذا اليوم فهو عندنا مشرك، قال: لم يكن من إبراهيم شرك إنّما كان في طلب ربّه، و هو من غيره شرك.

و فيه، عن محمّد بن حمران قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله فيما أخبر عن إبراهيم:( هذا رَبِّي ) قال: لم يبلغ به شيئاً، أراد غير الّذي قال.

أقول: المراد به ظاهراً أنّه أراد به أنّ قوله:( هذا رَبِّي ) لا يتعدّى مفهوم نفسه و ليس له وراء ذلك معنى يحكي عنه أي إنّه قاله على سبيل الافتراض أو تسليم المدّعى لبيان فساده بفساد لوازمه كما تقدّمت الإشارة إليه.

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) الآية، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الدارقطنيّ في الأفراد و أبوالشيخ و ابن مردويه عن عبدالله بن مسعود قال: لمّا نزلت هذه الآية:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) شقّ ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله و أيّنا لا يظلم نفسه؟ قال: إنّه ليس الّذي تعنون أ لم تسمعوا ما قال العبد الصالح:( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ؟ إنّما هو الشرك.

أقول: المراد بالعبد الصالح لقمان على ما حكاه الله تعالى من قوله في سورة لقمان. و في الحديث دلالة على أنّ سورة الأنعام نزلت بعد سورة لقمان، و قد تقدّم أنّ كون المراد هو الشرك إنّما هو الانطباق بحسب المورد و الشرك ذنب لا تتعلّق به مغفرة أصلاً بخلاف غيره كائناً ما كان، و الدليل على ما ذكرنا ما يأتي من الروايات.

و فيه، أخرج أحمد و الطبرانيّ و أبوالشيخ و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن جرير بن عبدالله قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا فانتهى إلينا فسلّم فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أين أقبلت؟ فقال: من أهلي و ولدي و عشيرتي اُريد رسول الله. قال: قد أصبته قال: علّمني ما الإيمان؟ قال: تشهد أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله، و تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة و تصوم رمضان و تحجّ البيت قال: قد أقررت.

٢٢٠

ثمّ إنّ بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى و وقع الرجل على هامته فمات فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا من الّذين عملوا قليلاً و اُجروا كثيراً، هذا من الّذين قال الله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) إنّي رأيت الحور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنّة فعلمت أنّ الرجل مات جائعاً.

أقول: و رواه أيضاً عن الحكيم الترمذيّ و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس نحوه، و رواه العيّاشيّ في تفسيره عن جابر الجعفيّ عمّن حدّثه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيميّ أنّ رجلاً سأل عنها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسكت حتّى جاء رجل فأسلم فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى قاتل فاستشهد فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا منهم من الّذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم.

و فيه، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال: نزلت هذه الآية في إبراهيم و أصحابه خاصّة ليس في هذه الاُمّة.

أقول: و الرواية لا توافق بظاهرها الاُصول الكلّيّة المستخرجة من الكتاب و السنّة فإنّ الآية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاصّ تختصّ به اُمّة دون اُمّة كالأحكام الفرعيّة التشريعيّة الّتي ربّما تختصّ بزمان دون زمان، و أمّا الإيمان بما له من الأثر على مراتبه، و كذا الظلم على مراتبه بما لها من سوء الأثر في الإيمان فإنّما ذلك أمر مودع في الفطرة الإنسانيّة لا يختلف باختلاف الأزمنة و الاُمم.

و قال بعض المفسّرين في توجيه الحديث: لعلّ مراده أنّ الله خصّ إبراهيم و قومه بأمن موحّدهم من عذاب الآخرة مطلقاً لا أمن الخلود فيه فقط، و لعلّ سبب هذا - إن صح - أنّ الله تعالى لم يكلّف قوم إبراهيم شيئاً غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنيّة الشديدة لهم في الأحوال الشخصيّة و الأدبيّة و غيرها.

و قد عثر الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الّذي كان في عهد إبراهيم و باركه و أخذ منه العشور - كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها و أمّا فرض الله الحجّ على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيّين

٢٢١

و أمّا هذه الاُمّة فإنّ من موحّديها من يعذّبون بالمعاصي على قدرها لأنّهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها، انتهى.

و في كلامه من التحكّم ما لا يخفى فقد تقدّم أنّ الملك حمورابي هذا كان يعيش على رأس سنة ألف و سبعمائة قبل المسيح، و إبراهيم كان يعيش على رأس الألفين قبل المسيح تقريباً كما ذكره.

و حمورابي هذا و إن كان ملكاً صالحاً في دينه عادلاً في رعيّته ملتزماً العمل بقوانين وضعها و عمل بإجرائها في مملكته أحسن إجراء و إنفاذ، و هي أقدم القوانين المدنيّة الموضوعة على ما قيل إلّا أنّه كان وثنيّاً، و قد استمدّ بعدّة من آلهة الوثنيّين في ما كتبه بعد الفراغ عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الآثار المكشوفة في خرائب بابل، و الآلهة الّتي ذكرها في بيانه الموضوع في ختام القانون، و شكرها في أن آتته الملك العظيم و وفقته لبسط العدل و وضع الشريعة، و استعان بها و استمدّ منها في حفظ شريعته عن الزوال و التحريف هي( ميروداخ) إله الآلهة، و( أي) إله القانون و العدل و الإله( زاماما) و الإله( إشتار) إلها الحرب و( شاماش) الإله القاضي في السماء و الأرض و( سين) إله السماوات، و( حاداد) إله الخصب و( نيرغال) إله النصر و( بل) إله القدر و الآلهة( بيلتيس) و الآلهة( نينو) و الإله( ساجيلا) و غيرها.

و الّذي ذكره من أنّ الله لم يكلّف قوم إبراهيم شيئاً غير التوحيد اكتفاءً بتربية شرائعهم المدنيّة إلخ يكذّبه أنّ القرآن يحكي عن لسان إبراهيمعليه‌السلام الصلاة كما في أدعيته في سورة إبراهيم و يذكر أنّ الله أوحى إليه فعل الخيرات و إيتاء الزكاة كما في سورة الأنبياء، و أنّه شرع الحجّ و أباح لحوم الأنعام كما في سورة الحجّ، و كان من شريعته الاعتزال عن المشركين كما في سورة الممتحنة، و كان ينهى عن كلّ ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الأنعام و غيرها، و من شرعه التطهّر كما تشير إليه سورة الحجّ و وردت الأخبار أنّهعليه‌السلام شرع الحنيفيّة و هي عشر خصال: خمس في الرأس و خمس في البدن و منها الختنة، و كان يحيّي بالسلام كما في سورة هود و مريم.

و قد قال الله تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (الحجّ: ٧٨) و قال:( قُلْ بَلْ مِلَّةَ

٢٢٢

إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) (البقرة: ١٣٥) فوصف هذا الدين على ما له من الاُصول و الفروع بأنّه ملّة إبراهيمعليه‌السلام ، و هذا و إن لم يدلّ على أنّ هذا الدين على ما فيه من تفاصيل الأحكام كان مشرّعاً في زمن إبراهيمعليه‌السلام بل الأمر بالعكس كما يدلّ عليه قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) (الشورى: ١٣) إلّا أنّه يدلّ على أنّ شرائعه راجعة إلى أصل أو اُصول كلّيّة تهدي إليها الفطرة ممّا ترتضيه و تأمر به أو لا ترتضيه و تنهى عنه قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما ذكر حججاً على الشرك و جملاً من الأوامر و النواهي الكلّيّة مخاطباً نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام: ١٦١).

و لو كان الأمر على ما ذكره أنّ الله لم يشرّع لإبراهيمعليه‌السلام شريعة بل اكتفى بما بين يديه من القانون المدنيّ الدائر و هو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة مصوّبة من عند الله، و كانت من أجزاء دين إبراهيمعليه‌السلام بل الدين الإسلاميّ الّذي شرع في القرآن لأنّه هو ملّة إبراهيم حنيفاً فكانت إحدى الشرائع الإلهيّة و نوعاً من الكتب السماويّة.

و الحقّ الّذي لا مرية فيه أنّ الوحي الإلهيّ كان يعلّم الأنبياء السالفين و اُممهم اُصولاً كلّيّة في المعاش و المعاد كأنواع من العبادة و سنناً كلّيّة في الخيرات و الشرور يهتدي إلى تشخيصها الإنسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة و التجنّب عن الظلم و الإسراف و إعانة المستكبرين و نحوها، ثمّ يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا التجهيز الّذي جهّزوا به، و الدعوة إلى أخذ الخير و الصلاح و رفض الشرّ و الفحشاء و الفساد سواء كانت المجتمعات الّتي دخلوا فيها يدبّرها استبداد الظلمة و الطغاة أو رأفة العدول من السلاطين و سياستهم المنظّمة.

و لم يشرّع تفاصيل الأحكام قبل ظهور الدين الإسلاميّ إلّا في التوراة و فيها أحكام يشابه بعضها بعض ما في شريعة حمورابي غير أنّ التوراة نزّلها الله على موسىعليه‌السلام و كانت محفوظة في بني إسرائيل فقدوها في فتنة بخت نصّر الّتي أفنت جمعهم و خرّبت هيكلهم و لم

٢٢٣

يبق منهم إلّا شرذمة ساقتهم الإسارة إلى بابل فاستعبدوا و اُسكنوا فيه إلى أن فتح الملك كورش بابل و أعتقهم من الأسر و أجاز لهم الرجوع إلى بيت المقدس، و أن يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما اُعدمت نسخها و نسيت متون معارفها، و قد اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيّين.

و مع هذا الحال كيف يحكم بأنّ الله أمضى في الشريعة الكليميّة كثيراً من شرائع حمورابي، و القرآن إنّما يصدّق من هذه التوراة بعض ما فيها، و بعد ذلك كلّه لا مانع من كون بعض القوانين غير السماويّة مشتملاً على بعض المواد الصالحة و الأحكام الحقّة.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال: هو الشرك.

و فيه، بطريق آخر عن أبي بصير عنهعليه‌السلام : في الآية قال: بشكّ.

أقول: و رواه العيّاشيّ أيضاً في تفسيره، عن أبي بصير عنهعليه‌السلام .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألت عن قول الله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال: نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممّن لبس إيمانه بظلم، ثمّ قال: اُولئك الخوارج و أصحابهم.

و فيه، عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال: الضلال و ما فوقه.

أقول: كأنّ المراد بالضلال في الرواية الشرك الّذي هو أصل كلّ بما ظلم فوقه و ما يزيد عليه من المعاصي و المظالم، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقّق به الظلم من المعاصي، و بما فوقه الشرك الّذي هو المرتبة الشديدة من الضلال فإنّ كلّ معصية ضلال.

و الروايات - كما ترى - تتفنّن في تفسير الظلم في الآية فتارة تفسّرها بالشرك و تارة بالشكّ و تارة بما عليه الخوارج، و في بعضها: أنّ منه ولاية أعدائهم، و كلّ ذلك من شواهد ما قدّمنا أنّ الظلم في الآية مطلق و هو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الأفهام.

٢٢٤

( كلام في قصّة إبراهيمعليه‌السلام و شخصيّته)

و فيه أبحاث مختلفة قرآنيّة و اُخرى علميّة و تاريخيّة و غير ذلك.

١- قصّة إبراهيم عليه‌السلام في القرآن: كان إبراهيمعليه‌السلام في طفوليّته إلى أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثمّ خرج إليهم و لحق بأبيه فوجده و قومه يعبدون الأصنام فلم يرتض منه و منهم ذلك و قد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيّدة من الله سبحانه بالشهود الحقّ و إراءة ملكوت كلّ شي‏ء و بالجملة و بالقول الحقّ و العمل الصالح.

فأخذ يحاجّ أباه في عبادته الأصنام و يدعوه إلى رفضها و توحيد الله سبحانه و اتّباعه حتّى يهديه إلى مستقيم الصراط و يبعّده من ولاية الشيطان، و لم يزل يحاجّه و يلحّ عليه حتّى زبره و طرده عن نفسه و أوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء و الرغبة عنها.

فتلطّف إبراهيمعليه‌السلام إرفاقاً به و حناناً عليه و قد كان ذا خلق كريم و قول مرضيّ فسلّم عليه و وعده أن يستغفر له و يعتزله و قومه و ما يعبدون من دون الله (مريم: ٤١ - ٤٨).

و قد كان من جانب آخر يحاجّ القوم في أمر الأصنام (الأنبياء: ٥١ - ٥٦، الشعراء: ٦٩ - ٧٧، الصافّات: ٨٣ - ٨٧) و يحاجّ أقواماً آخرين منهم يعبدون الشمس و القمر و الكوكب في أمرها حتّى ألزمهم الحقّ و شاع خبره في الانحراف عن الأصنام و الآلهة (الأنعام: ٧٤ - ٨٢) حتّى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد و اعتلّ هو بالسقم فلم يخرج معهم و تخلّف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضرباً باليمين فجعلهم جذاذاً إلّا كبيراً لهم لعلّهم إليه يرجعون فلمّا تراجعوا و علموا بما حدث بآلهتهم و فتّشوا عمّن ارتكب ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.

فأحضروه إلى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلّهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، و قد

٢٢٥

كان أبقى كبير الأصنام و لم يجذّه و وضع الفاس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنّه هو الّذي كسر سائر الأصنام.

و إنّما قالعليه‌السلام ذلك و هو يعلم أنّهم لا يصدّقونه على ذلك و هم يعلمون أنّه جماد لا يقدر على ذلك لكنّه قال ما قال ليعقّبه بقوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون حتّى يعترفوا بصريح القول بأنّهم جمادات لا حياة لهم و لا شعور، و لذلك لمّا سمعوا قوله رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنّكم أنتم الظالمون ثمّ نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال: أ فتعبدون من دون الله ما لا يضرّكم و لا ينفعكم اُفّ لكم و لما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون أ تعبدون ما تنحتون و الله خلقكم و ما تعملون.

قالوا حرّقوه و انصروا آلهتكم فبنوا له بنياناً و أسعروا فيه جحيماً من النار و قد تشارك في أمره الناس جميعاً و ألقوه في الجحيم فجعله الله برداً عليه و سلاماً و أبطل كيدهم (الأنبياء: ٥٧ - ٧٠، الصافّات: ٨٨ - ٩٨) و قد اُدخل في خلال هذه الأحوال على الملك، و كان يعبده القوم و يتّخذونه ربّاً فحاجّ إبراهيم في ربّه فقال إبراهيم ربّي الّذي يحيي و يميت فغالطه الملك و قال: أنا اُحيي و اُميت كقتل الأسير و إطلاقه فحاجّه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر (البقرة: ٢٥٨).

ثمّ لمّا أنجاه الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة قليلة و قد سمّى الله تعالى منهم لوطاً و منهم زوجته الّتي هاجر بها و قد كان تزوّج بها قبل الخروج من الأرض إلى الأرض المقدّسة(١) .

ثمّ تبرّأ هوعليه‌السلام و من معه من المؤمنين من قومهم و تبرّأ هو من آزر الّذي كان‏ يدعوه أباً و لم يكن بوالده الحقيقيّ(٢) و هاجر و معه زوجته و لوط إلى الأرض المقدّسة

____________________

(١) الدليل على إيمان جمع من قومه به قوله تعالى:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآءُ مِنكُمْ ) (الممتحنة: ٤) و الدليل على تزوّجه قبل الخروج إلى الأرض المقدّسة سؤاله الولد الصالح من ربّه في قوله:( وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى‏ رَبّي سَيَهْدِينِ رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ ) (الصافّات: ١٠٠).

(٢) و قد تقدّم استفادة ذلك من دعائه المنقول في سورة إبراهيم.

٢٢٦

ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين (الممتحنة: ٤ الأنبياء:٧١) و بشّره الله سبحانه هناك بإسماعيل و بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب و قد شاخ و بلغه كبر السنّ فولد له إسماعيل ثمّ ولد له إسحاق و بارك الله سبحانه فيه و في ولديه و أولادهما.

ثمّ إنّهعليه‌السلام بأمر من ربّه ذهب إلى أرض مكّة و هي واد غير ذي زرع فأسكن فيه ولده إسماعيل و هو صبيّ و رجع إلى الأرض المقدّسة فنشأ إسماعيل هناك و اجتمع عليه قوم من العرب القاطنين هناك و بنيت بذلك بلدة مكّة.

و كانعليه‌السلام ربّما يزور إسماعيل في أرض مكّة قبل بناء مكّة و البيت و بعد ذلك (البقرة: ١٢٦، إبراهيم: ٣٥ - ٤١) ثمّ بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من إسماعيل و هي أوّل بيت وضع للناس من جانب الله مباركاً و هدى للعالمين فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم و من دخله كان آمناً (البقرة: ١٢٧ - ١٢٩، آل عمران: ٩٦ - ٩٧) و أذّن في الناس بالحجّ و شرّع نسك الحجّ (الحجّ: ٢٦ - ٣٠).

ثمّ أمره الله بذبح ولده إسماعيلعليه‌السلام فخرج معه للنسك فلمّا بلغ معه السعي قال يا بنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلمّا أسلما و تلّه للجبين نودي أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا و فداه الله سبحانه بذبح عظيم (الصافّات: ١٠١ - ١٠٧).

و آخر ما قصّ القرآن الكريم من قصصهعليه‌السلام أدعيته في بعض أيّام حضوره بمكّة المنقولة في سورة إبراهيم (آية: ٣٥ - ٤١) و آخر ما ذكر فيها قولهعليه‌السلام :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) .

٢- منزلة إبراهيم عندالله سبحانه و موقفه العبودي: أثنى الله تعالى على إبراهيمعليه‌السلام في كلامه أجمل الثناء و حمد محنته في جنبه أبلغ الحمد، و كرّر ذكره باسمه في نيّف و ستّين موضعاً من كتابه و ذكر من مواهبه و نعمه عليه شيئاً كثيراً. و هاك جملاً من ذلك: آتاه الله رشده من قبل (الأنبياء: ٥١) و اصطفاه في الدنيا و إنّه في الآخرة

٢٢٧

لمن الصالحين إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين (البقرة: ١٣٠ - ١٣١) و هو الّذي وجّه وجهه إلى ربّه‏ حنيفاً و ما كان من المشركين (الأنعام: ٧٩) و هو الّذي اطمأنّ قلبه بالله و أيقن به بما أراه الله من ملكوت السماوات و الأرض (البقرة: ٢٦٠، الأنعام: ٧٥).

و اتّخذه الله خليلاً (النساء: ١٢٥) و جعل رحمته و بركاته عليه و على أهل بيته و وصفه بالتوفية (النجم: ٣٧) و مدحه بأنّه حليم أوّاه منيب (هود: ٧٣ - ٧٥) و مدحه أنّه كان اُمّة قانتاً لله حنيفاً و لم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه و هداه إلى صراط مستقيم و آتاه في الدنيا حسنة و إنّه في الآخرة لمن الصالحين (النحل: ١٢٠ - ١٢٢).

و كان صدّيقاً نبيّاً (مريم: ٤١) و عدّه الله من عباده المؤمنين و من المحسنين و سلّم عليه (الصافّات: ٨٣ - ١١١) و هو من الّذين وصفهم بأنّهم اُولو الأيدي و الأبصار و أنّه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار (ص: ٤٥ - ٤٦).

و قد جعله الله للناس إماماً (البقرة: ١٢٤) و جعله أحد الخمسة اُولي العزم الّذين آتاهم الكتاب و الشريعة (الأحزاب: ٧، الشورى: ١٣، الأعلى: ١٨ - ١٩) و آتاه الله العلم و الحكمة و الكتاب و الملك و الهداية و جعلها كلمة باقية في عقبه (النساء: ٥٤، الأنعام: ٧٤ - ٩٠، الزخرف: ٢٨) و جعل في ذرّيّته النبوّة و الكتاب (الحديد: ٢٦) و جعل له لسان صدق في الآخرين (الشعراء: ٨٤، مريم: ٥٠) فهذه جمل ما منحه الله سبحانه من المناصب الإلهيّة و مقامات العبوديّة و لم يفصّل القرآن الكريم في نعوت أحد من الأنبياء و الرسل المكرمين و كراماتهم ما فصّل من نعوته و كراماتهعليه‌السلام .

و ليراجع في تفسير كلّ من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختصّ به فيما تقدّم أو سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به ههنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه الأبحاث.

و قد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة و شخصيّته الدينيّة بما سمّى هذا الدين القويم بالإسلام كما سمّاهعليه‌السلام و نسبه إليه قال تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ

٢٢٨

مِنْ قَبْلُ ) (الحجّ: ٧٨) و قال:( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام: ١٦١).

و جعل الكعبة البيت الحرام الّذي بناها قبلة للعالمين و شرّع مناسك الحجّ و هي في الحقيقة أعمال ممثّلة لقصّة إسكانه ابنه و اُمّ ولده و تضحية ابنه إسماعيل و ما سعى به إلى ربّه و التوجّه له و تحمّل الأذى و المحنة في ذاته كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ ) الآية (البقرة: ١٢٥) في الجزء الأوّل من الكتاب.

٣- أثره المبارك في المجتمع البشري: و من مننهعليه‌السلام السابغة أنّ دين التوحيد ينتهي إليه أينما كان و عند من كان فإنّ الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود، و ينتهي إلى الكليم موسى بن عمرانعليه‌السلام و ينتهي نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام ، و دين النصرانيّة و ينتهي إلى المسيح عيسى بن مريمعليهما‌السلام و هو من ذرّيّة إبراهيمعليه‌السلام ، و دين الإسلام و الصادع به هو محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليلعليهما‌السلام ، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيّب المبارك، و يشاهد في الإسلام من شرائعه الصلاة و الزكاة و الحجّ و إباحة لحوم الأنعام و التبرّي من أعداء الله، و السلام، و الطهارات العشر الحنيفيّة البيضاء خمس(١) منها في الرأس و خمس منها في البدن: أمّا الّتي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طمّ الشعر و السواك و الخلال و أمّا الّتي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء.

و البحث المستوفى يؤيّد أنّ السنن الصالحة من الاعتقاد و العمل في المجتمع البشريّ كائنة ما كانت من آثار النبوّة الحسنة كما تكرّرت الإشارة إليه في المباحث المتقدّمة، فلإبراهيمعليه‌السلام الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو جهلوا.

٤- ما تقصّه التوراة الموجودة في إبراهيم: قالت التوراة: و عاش تارح (أبو إبراهيم) سبعين سنة و ولد أبرام و ناحور و هاران، و هذه مواليد تارح: ولد تارح أبرام و ناحور

____________________

(١) رواها في مجمع البيان نقلاً عن تفسير القمّيّ.

٢٢٩

و هاران، و ولد هاران لوطاً، و مات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده في( اُور) الكلدانيّين و اتّخذ أبرام و ناحور لأنفسهما امرأتين اسم امرأة أبرام( ساراي) و اسم امرأة ناحور ملكة بنت هاران أبي ملكة و أبي بسكة، و كانت ساراي عاقراً ليس لها ولد و أخذ تارح أبرام ابنه و لوطاً بن هاران ابن ابنه، و ساراي كنته امرأة أبرام ابنه فخرجوا معاً من اُور الكلدانيّين ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى حاران و أقاموا هناك، و كانت أيّام تارح مائتين و خمس سنين، و مات تارح في حاران.

قالت التوراة: و قال الربّ لأبرام: اذهب من أرضك و من عشيرتك و من بيت‏ أبيك إلى الأرض الّتي اُريك فأجعلك اُمّة عظيمة و اُباركك و اُعظّم اسمك و تكون بركة و اُبارك مباركيك، و لاعنك ألعنه، و يتبارك فيك جميع قبائل الأرض، فذهب أبرام كما قال له الربّ، و ذهب معه لوط، و كان أبرام ابن خمس و سبعين سنة لمّا خرج من حاران فأخذ أبرام ساراي امرأته و لوطاً ابن أخيه و كلّ مقتنياتهما الّتي اقتنيا و النفوس الّتي امتلكا في حاران، و خرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى أرض كنعان.

و اجتاز أبرام في أرض إلى مكان( شكيم) إلى( بلّوطه مورة) و كان الكنعانيّون حينئذ في الأرض، و ظهر الربّ لأبرام و قال: لنسلك اُعطى هذه الأرض فبنى هناك مذبحاً للربّ الّذي ظهر له، ثمّ نقل من هناك إلى الجبل شرقيّ( بيت إيل) و نصبت خيمته و له( بيت إيل) من المغرب و( عاي) من المشرق فبنى هناك مذبحاً للربّ و دعا باسم الربّ، ثمّ ارتحل أبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب.

و حدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليغرّب هناك لأنّ الجوع في الأرض كان شديداً، و حدث لمّا قرب أن يدخل مصر أنّه قال لساراي امرأته: إنّي قد علمت أنّك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريّون أنّهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني و يستبقونك، قولي: إنّك اُختي ليكون لي خير بسببك و تحيا نفسي من أجلك، فحدث لمّا دخل أبرام إلى مصر أنّ المصريّين رأوا المرأة أنّها حسنة جدّاً و رآها رؤساء فرعون و مدحوها لدى فرعون فاُخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى أبرام خيراً بسببها و صار

٢٣٠

له غنم و بقر و حمير و عبيد و إماء و اُتن و جمال.

فضرب الربّ فرعون و بيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام فدعا فرعون أبرام و قال: ما هذا الّذي صنعت لي؟ لما ذا لم تخبرني أنّها امرأتك؟ لما ذا قلت: هي اُختي حتّي أخذتها لتكون زوجتي؟ و الآن هو ذا امرأتك خذها و اذهب، فأوصى عليه رجالاً فشيعوه و امرأته و كلّ ما كان له.

ثمّ ذكرت التوراة: أنّ أبرام خرج من مصر و معه ساراي و لوط و معهم الأغنام و الخدم و الأموال العظيمة و وردوا( بيت إيل) المحلّ الّذي كانت فيه خيمته مضروبة بين( بيت إيل) و( عاي) ثمّ بعد حين تفرّق هو و لوط لأنّ الأرض ما كانت تسعهما فسكن أبرام كنعان، و كان الكنعانيّون و الفرزيّون ساكنون هناك، و نزل لوط أرض سدوم.

ثمّ ذكرت: أنّه في تلك الأيّام نشبت حرب في أرض سدوم بين( أمرافل) ملك شنعار و معه ثلاثة من الملوك، و بين بارع ملك سدوم و معه أربعة من الملوك المتعاهدين فانهزم ملك سدوم و من معه انهزاماً فاحشاً و هربوا من الأرض بعد ما قتل من قتل منهم و نهبت أموالهم و سبيت نساؤهم و ذراريّهم، و كان فيمن أسر لوط و جميع أهله و نهبت أمواله.

قالت التوراة: فأتى من نجا و أخبر أبرام العبرانيّ و كان ساكناً عند( بلّوطات ممري) الآموريّ أخي( أشكول) و أخي( عانر) و كانوا أصحاب عهد مع أبرام، فلمّا سمع أبرام أنّ أخاه سبي جرّ غلمانه المتمرّنين ولدان بيته ثلاثمائة و ثمانية عشر و تبعهم إلى( دان) و انقسم عليهم هو و عبيده فكسّرهم و تبعهم إلى( حوبة) الّتي عن شمال دمشق و استرجع كلّ الأموال و استرجع لوطاً أخاه أيضاً و أملاكه و النساء أيضاً و الشعب.

فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من( كسرة كدر لعومر) و الملوك الّذين معه إلى عمق( شوى) الّذي هو عمق الملك، و ملكي(١) صادق ملك( شاليم) أخرج خبزاً

____________________

(١) اسم لأحد الملوك المعاصر لهعليه‌السلام .

٢٣١

و خمراً و كان كاهناً لله العليّ و باركه و قال: مبارك أبرام من الله العليّ مالك السماوات و الأرض و مبارك الله العليّ الّذي أسلم أعداءك في يدك فأعطاه عشراً من كلّ شي‏ء.

و قال ملك سدوم لأبرام: أعطني النفوس، و أمّا الأملاك فخذها لنفسك فقال أبرام لملك سدوم: رفعت يدي إلى الربّ الإله العليّ ملك السماء و الأرض لا آخذنّ لا خيطاً و لا شراك نعل و لا من كلّ ما هو لك فلا تقول: أنا أغنيت أبرام ليس لي غير الّذي أكله الغلمان و أمّا نصيب الرجال الّذين ذهبوا معي( عابر) و( أسلول) و( ممرا) فهم يأخذون نصيبهم.

إلى أن قالت: و أمّا ساراي فلم تلد له و كانت لها جارية مصريّة اسمها هاجر فقالت ساراي لأبرام: هو ذا الربّ قد أمسكني عن الولادة أدخل على جاريتي لعلّي اُرزق منها بنين فسمع أبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصريّة جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان و أعطتها لأبرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت.

ثمّ ذكرت: أنّ هاجر لمّا حبلت حقّرت ساراي و استكبرت عليها فشكت ساراي‏ ذلك إلى أبرام ففوّض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها فلقيها ملك فأمرها بالرجوع إلى سيّدتها و أخبرها أنّها ستلد ولداً ذكراً و تدعو اسمه إسماعيل لأنّ الربّ قد سمع لمذلّتها، و أنّه يكون إنساناً وحشيّاً يضادّ الناس و يضادّونه، و ولدت هاجر لأبرام ولداً و سمّاه أبرام إسماعيل و كان أبرام ابن ستّ و سبعين سنة لمّا ولدت هاجر إسماعيل لأبرام.

قالت التوراة: و لمّا كان أبرام ابن تسع و تسعين سنة ظهر الربّ لأبرام و قال له: أنا الله القدير سر أمامي و كن كاملاً فأجعل عهدي بيني و بينك و اُكثرك كثيراً جدّاً فسقط أبرام على وجهه و تكلّم الله معه قائلاً: أمّا أنا فهو ذا عهدي معك و تكون أباً لجمهور من الاُمم، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأنّي أجعلك أباً لجمهور من الاُمم و اُثمرك كثيراً جدّاً و أجعلك اُمماً، و ملوك منك يخرجون، و اُقيم عهدي بيني و بينك و بين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبديّاً لأكون إلهاً لك و لنسلك من بعدك

٢٣٢

و اُعطي لك و لنسلك من بعد أرض غربتك كلّ أرض كنعان ملكاً أبديّاً و أكون إلههم.

ثمّ ذكرت: أنّ الربّ جعل في ذلك عهداً بينه و بين إبراهيم و نسله أن يختتن هو و كلّ من معه و يختنوا أولادهم اليوم الثامن من الولادة فختن إبراهيم و هو ابن تسع و تسعين سنة و ختن ابنه إسماعيل و هو ابن ثلاث عشرة سنة و سائر الذكور من بنيه و عبيده.

قالت التوراة: و قال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة و اُباركها و أعطيت أيضاً منها ابناً، و اُباركها فتكون اُمماً و ملوك شعوب منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجهه و ضحك و قال في قلبه: و هل يولد لابن مائة سنة؟ هل تلد سارة و هي بنت تسعين سنة؟.

و قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً و تدعو اسمه إسحاق، و اُقيم عهدي معه عهداً أبديّاً لنسله من بعده و أمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا اُباركه و اُثمره و اُكثّره كثيراً جدّاً، إثنا عشر رئيساً يلد و أجعله اُمّة كبيرة، و لكن عهدي اُقيمه مع إسحاق الّذي تلده سارة في هذا الوقت في السنة الآتية، فلمّا فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم.

ثمّ ذكرت قصّة نزول الربّ مع الملكين لإهلاك أهل سدوم قوم لوط و أنّهم وردوا على إبراهيم فضافهم و أكلوا من الطعام الّذي عمله لهم من عجل قتله و الزبد و اللّبن اللّذين قدّمهما إليهم ثمّ بشّروه و بشّروا سارة بإسحاق و ذكروا أمر قوم لوط فجادلهم إبراهيم في هلاكهم فأقنعوه و كان بعده هلاك قوم لوط.

ثمّ ذكرت أنّ إبراهيم انتقل إلى أرض( حرار) و تغرّب فيها و أظهر لملكه( أبي مالك) أنّ سارة اُخته فأخذها الملك منه فعاتبها الربّ في المنام فأحضر إبراهيم و عاتبه على قوله: إنّها اُختي فاعتذر أنّه إنّما قال ذلك خوفاً من القتل و اعترف أنّه في الحقيقة اُخته من أبيه دون اُمّه تزوّج بها فردّ إليه سارة و أعطاهما مالاً جزيلاً (نظير ما قصّ في فرعون).

٢٣٣

قالت التوراة: و افتقد الربّ سارة كما قال و فعل الربّ لسارة كما تكلّم فحبلت سارة و ولدت لإبراهيم ابناً في شيخوخته في الوقت الّذي تكلّم الله عنه و دعا إبراهيم اسم ابنه الّذي ولدته له سارة إسحاق، و ختن إبراهيم إسحاق ابنه و هو ابن ثمانية أيّام كما أمره الله، و كان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، و قالت سارة: فقد صنع إليّ الله، ضحكاً كلّ من يسمع يضحك لي، و قالت من قال لإبراهيم: سارة ترضع بنين حتّى ولدت ابناً في شيخوخته فكبر الولد و فطم و صنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق.

و رأت سارة ابن هاجر المصريّة الّذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية و ابنها لأنّ ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق فقبح الكلام جدّاً في عيني إبراهيم لسبب ابنه فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام و من أجل جاريتك في كلّ ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنّه بإسحاق يدعى لك نسل و ابن الجارية أيضاً سأجعله اُمّة لأنّه نسلك.

فبكّر إبراهيم صباحاً و أخذ خبزاً و قربة ماء و أعطاهما لهاجر واضعاً إيّاهما على كتفها و الولد و صرفها فمضت و تاهت في برّيّة بئر سبع و لمّا فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار و مضت و جلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس لأنّها قالت: لا أنظر موت الولد فجلست مقابله و رفعت صوتها و بكت فسمع الله صوت الغلام و نادى ملاك الله هاجر من السماء، و قال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأنّ الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي و احملي الغلام و شدّي يدك به لأنّي سأجعله اُمّة عظيمة، و فتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت و ملأت القربة ماءً و سقت الغلام، و كان الله مع الغلام فكبر و سكن في البرّيّة، و كان ينمو رامي قوس، و سكن في برّيّة فاران، و أخذت له اُمّه زوجة من أرض مصر(١) .

قالت التوراة: و حدث بعد هذه الاُمور أنّ الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: ها أنا ذا فقال: خذ ابنك وحيدك الّذي تحبّه إسحاق و اذهب إلى أرض المريّا

____________________

(١) و الواقع في روايات المسلمين أنّه تزوّج من الجرهم و هم من عشائر العرب اليمنيّين.

٢٣٤

و أصعده هناك محرقة على أحد الجبال الّذي أقول لك، فبكّر إبراهيم صباحاً و شدّ على حماره و أخذ اثنين من غلمانه معه و إسحاق معه و شقّق حطباً لمحرقة و قام و ذهب إلى الموضع الّذي قال له الله، و في اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه و أبصر الموضع من بعيد فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، أمّا أنا و الغلام فنذهب إلى هناك و نسجد و نرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة و وضعه على إسحاق ابنه و أخذ بيده النار و السكّين فذهبا كلاهما معاً، و كلّم إسحاق أباه إبراهيم و قال له: يا أبي فقال: ها أنا ذا يا ابني فقال: هو ذا النار و الحطب و لكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معاً.

فلمّا أتيا إلى الموضع الّذي قال له الله بنى هنالك إبراهيم المذبح و رتّب الحطب و ربط إسحاق ابنه و وضعه على المذبح فوق الحطب ثمّ مدّ إبراهيم يده و أخذ السكّين لذبح ابنه فناداه ملاك الربّ من السماء و قال: إبراهيم إبراهيم! فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تمدّ يدك إلى الغلام و لا تفعل به شيئاً لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنّي فرفع إبراهيم عينيه و نظر و إذا كبش وراءه ممسكاً في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم و أخذ الكبش و أصعده محرقة عوضاً عن ابنه فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع( يهوه برأه) حتّى أنّه يقال اليوم في جبل الربّ( بُرىً) ، و نادى ملاك الربّ إبراهيم ثانية من السماء و قال: بذاتي أقسمت يقول الربّ: إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر و لم تمسك ابنك وحيدك اُباركك مباركة و أكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء و كالرمل الّذي على شاطئ البحر و يرث نسلك باب أعدائه و يتبارك في نسلك جميع اُمم الأرض من أجل أنّك سمعت لقولي ثمّ رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا و ذهبوا معاً إلى بئر سبع و سكن إبراهيم في بئر سبع.

ثمّ ذكرت تزويجه إسحاق من عشيرته بكلدان، ثمّ موت سارة و هي بنت مائة و سبع و عشرين في حبرون، ثمّ ازدواج إبراهيم بعدها بقطورة و إيلادها عدّة من البنين، ثمّ موت إبراهيم و هو ابن مائة و خمس و سبعين سنة، و دفن ابنيه إسحاق و إسماعيل إيّاه في غار( مكفيلة) و هو مشهد الخليل اليوم.

٢٣٥

٥- تطبيق ما في التوراة من قصّته من ما في القرآن: فهذه خلاصة قصص إبراهيمعليه‌السلام و تاريخ حياته المورد في التوراة (سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر - الإصحاح الخامس و العشرون) و على الباحث الناقد أن يطبّق ما ورد منه فيها على ما قصّه القرآن الكريم ثمّ يرى رأيه.

الّذي تشتمل عليه من القصّة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها و التناقض بين أطرافها ممّا يصدّق القرآن الكريم فيما ادّعاه أنّ هذا الكتاب المقدّس لعبت به أيدي التحريف.

فمن عمدة ما فيها من المغمض أنّها أهملت ذكر مجاهداته في أوّل أمره و حجاجاته قومه و ما قاساه منهم من المحن و الأذايا، و هي طلائع بارقة لمّاعة من تاريخهعليه‌السلام .

و من ذلك إهمالها ذكر بنائه الكعبة المشرّفة و جعله حرماً آمناً و تشريعه الحجّ، و لا يرتاب أيّ باحث دينيّ و لا ناقد اجتماعيّ أنّ هذا البيت العتيق الّذي لا يزال قائماً على قواعده منذ أربعة آلاف سنة من أعظم الآيات الإلهيّة الّتي تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه و آياته، و تستحفظ كلمة الحقّ دهراً طويلاً، و هو أوّل بيت لله تعالى وضع للناس مباركاً و هدىً للعالمين.

و ليس إهمال ذكره إلّا لنزعة إسرائيليّة من كتّاب التوراة و مؤلّفيها دعتهم إلى الصفح عن ذكر الكعبة، و إحصاء ما بناه من المذابح و مذبح بناه بأرض شكيم، و آخر بشرقيّ بيت إيل، و آخر بجبل الربّ.

ثمّ الّذي وصفوا به النبيّ الكريم إسماعيل: أنّه كان غلاماً وحشيّاً يضادّ الناس و يضادّونه، و لم يكن له من الكرامة إلّا أنّه كان مطروداً من حضرة أبيه نما رامي قوس! يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متمّ نوره.

و من ذلك: ما نسبته إليه ممّا لا يلائم مقام النبوّة و لا روح التقوى و الفتوّة كقولها: إنّ ملكي صادق ملك( شاليم) أخرج إليه خبزاً و خمراً و كان كاهناً لله العليّ و باركه.(١)

____________________

(١) ربّما وجّهوا أنّ ملكي صادق هذا كاهن الربّ هو( أمرافل) ملك شنعار المذكور في أوّل القصّة و هو( حمورابي) الملك صاحب الشريعة الّذي هو أحد السلالة الاُولى من ملوك بابل، و قد اختلف في تاريخ ملكه اختلافاً شديداً لا ينطبق أكثر ما قيل فيه زمان حياة إبراهيم و هو (٢٠٠٠) ق م فقد ذكر في كتاب العرب قبل الإسلام أنّه تملك بابل سنة ٢٢٨٧ - ٢٢٣٢ ق م و في شريعة حمورابي نقلاً عن كتاب أقدم شرائع العالم للأستاذ ف. إدوارد أن سني ملكه ٢٢٠٥ - ٢١٦٧ ق. م، و في قاموس أعلام الشرق و الغرب أنّه تولّى سلطنة بابل سنة ١٧٢٨ - ١٦٨٦ ق م و في قاموس الكتاب المقدّس أنّه تولاها سنة ١٩٧٥ - ١٩٢٠ ق م. و أوضح ما ينافي هذا الحدث أنّ الّذي اكتشفوه من النصب في خرائب بابل و عليها شريعة حمورابي تشتمل على ذكر عدّة من آلهة البابليّين، و يدلّ على كون حمورابي من الوثنيّين، و لا يستقيم عليه أن يكون كاهناً للربّ.

٢٣٦

و من ذلك قولها: إنّ إبراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر: أنّ سارة اُخته و وصّى سارة أن تصدّقه في ذلك إذ قال لها: قولي: إنّك اُختي ليكون لي خير بسببك، و تحيا نفسي من أجلك، و أظهر تارة اُخرى لأبي مالك ملك حرار أنّها اُخته، فأخذها للزوجيّة فرعون تارة، و أبو مالك اُخرى، ثمّ ذكرت التوراة تأوّل إبراهيم في قوله:( إنّها اُختي) مرّة بأنّها اُختي في الدين، و اُخرى أنّها ابنة أبي من غير اُمّي فصارت لي زوجة.

و أيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم (و حاشا مقام الخليل) يعرض زوجته سارة لأمثال فرعون و أبي مالك مستغلّاً بها حتّى يأخذاها زوجة و هي ذات بعل و ينال هو بذلك جزيل العطاء و يستدرّهما بما عندهما من الخير!.

على أنّ كلام التوراة صريح في أنّ سارة كانت عندئذ و خاصّة حينما أخذها أبي مالك عجوزاً قد عمّرت سبعين أو أكثر، و العادة تقضي أنّ المرأة تفتقد في سنّ العجائز نضارة شبابها و وضاءة جمالها، و الملوك و الجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالاً الطريّة حسناً.

و ربّما وجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات‏ ففي صحيحي البخاريّ و مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لم يكذب إبراهيم النبيّعليه‌السلام قطّ إلّا ثلاث كذبات‏ اثنتين في ذات الله: قوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) و قوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) و واحدة في شأن سارة فإنّه قدم أرض جبّار و معه سارة و كانت أحسن الناس فقال لها: إنّ هذا الجبّار

٢٣٧

إن يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنّك اُختي فإنّك اُختي في الإسلام فإنّي لا أعلم في الأرض مسلماً غيرك و غيري، فلمّا دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلّا لك فأرسل إليها فاُتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلمّا دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي و لا أضرّك ففعلت فعاد فقبضت أشدّ من القبضتين(١) . الاُوليين فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا اُضرّك ففعلت فاُطلقت يده و دعا الّذي جاء بها فقال له: إنّك إنّما أتيتني بشيطان و لم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي و أعطها هاجر.

قال: فأقبلت تمشي فلمّا رآها إبراهيمعليه‌السلام انصرف و قال لها: مهيم فقالت: خيراً كفّ الله يد الفاجر و أخدم خادماً. قال أبوهريرة: فتلك اُمّكم يا بني ماء السماء.

و في صحيح البخاريّ، بطرق كثيرة عن أنس و أبي هريرة، و في صحيح مسلم، عن أبي هريرة و حذيفة، و في مسند أحمد، عن أنس و ابن عبّاس و أخرجه الحاكم عن ابن مسعود و الطبرانيّ عن عبادة بن الصامت و ابن أبي شيبة عن سلمان، و الترمذيّ عن أبي هريرة، و أبوعوانة عن حذيفة عن أبي بكر حديث شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة، و هو حديث طويل فيه: أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يسألونهم الشفاعة عندالله، و كلّما أتوا نبيّاً و سألوه الشفاعة ردّهم إلى من بعده و اعتذر بشي‏ء من عثراته حتّى ينتهوا إلى خاتم النبيّين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجيبهم إلى مسألتهم و في الحديث: أنّهم يأتون إبراهيمعليه‌السلام يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله فيقول لهم: لست هنأكم إنّي كذبت ثلاث كذبات: قوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) و قوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) و قوله لامرأته:( أخبريه أنّي أخوك) .

و الاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما أنّ الأقاويل الثلاث الّتي وصفت فيهما أنّها كذبات ليست كذبات حقيقة بل من قبيل التوريات و المعاريض البديعيّة كما ربّما يلوح من بعض ألفاظ الحديث‏ كالّذي ورد في‏ بعض طرقه من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات كلّها في ذات الله)

____________________

(١) كذا في الأصل المنقول عنه و كأن فيه سقطا.

٢٣٨

و كذا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما منها كذبة إلّا ماحل(١) بها عن دين الله) فما بال إبراهيم في حديث القيامة يعدّها ذنوباً لنفسه و مانعة عن القيام بأمر الشفاعة و يعتذر بها عنها؟ فإنّها على هذا التقدير كانت من محنة في ذات الله و حسناته في الدين لو جاز لنبيّ من الأنبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنّك قد عرفت في ما تقدّم من مباحث النبوّة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أنّ ذلك ممّا لا يجوز على الأنبياءعليهم‌السلام قطعاً لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم و أحاديثهم من أصلها.

على أنّ هذا النوع من الإخبار لو جاز عدّه كذباً و منعه عن الشفاعة عندالله سبحانه كان قولهعليه‌السلام لمّا رأى كوكباً و القمر و الشمس: هذا ربّي و هذا ربّي أولى بأن يعدّ كذباً مانعاً عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى.

على أنّ قولهعليه‌السلام على ما حكاه الله تعالى بقوله:( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) لا يظهر بشي‏ء من قرائن الكلام كونه كذباً غير مطابق للواقع فلعلّهعليه‌السلام كان سقيماً بنوع من السقم لا يحجزه عمّا همّ به من كسر الأصنام.

و كذا قولهعليه‌السلام للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم:( أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ) فأجابهم و هم يعلمون أنّ أصنامهم من الجماد الّذي لا شعور فيه و لا إرادة له:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) ثمّ أردفه بقوله:( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) لا سبيل إلى عدّه كذباً فإنّه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لإلزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه، و لذا لم يجد القوم بدّاً دون أن اعترفوا بذلك فقالوا:( لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (الأنبياء: ٦٧).

و لو كان المراد أنّ الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى، و نحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدّم في الفصل ٢ من الكلام في منزلة إبراهيمعليه‌السلام عند الله تعالى و موقفه العبوديّ ممّا أثنى الله عليه بأجمل الثناء و حمد مقامه أبلغ الحمد.

____________________

(١) أي جادل‏

٢٣٩

و ليت شعري كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوّز أن ينطبق مثل قوله تعالى:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) (مريم: ٤١) على رجل كذّاب يستريح إلى كذب القول كلّما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلاً لا يراقب الله سبحانه في حقّ أو صدق (حاشا ساحة خليل الله عن ذلك).

و أمّا الأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فإنّها تصدّق التوراة في أصل القصّة غير أنّها تجلّ إبراهيمعليه‌السلام عمّا نسب إليه من الكذب و سائر ما لا يلائم قدس ساحته، و من أجمع ما يتضمّن قصّة الخليلعليه‌السلام ‏ ما في الكافي، عن عليّ عن أبيه و عدّة من أصحابنا عن سهل جميعاً عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخيّ قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ إبراهيمعليه‌السلام كان مولده بكوثاريا(١) و كان أبوه من أهلها، و كانت اُمّ إبراهيم و اُمّ لوطعليهما‌السلام و سارة و ورقة - و في نسخة رقبة - اُختين و هما ابنتان للاحج، و كان لاحج نبيّاً منذراً و لم يكن رسولاً.

و كان إبراهيمعليه‌السلام في شبيبته على الفطرة الّتي فطر الله عزّوجلّ الخلق عليها حتّى هداه الله تبارك و تعالى إلى دينه و اجتباه، و أنّه تزوّج سارة ابنة لاحج و هي ابنة خالته و كانت سارة صاحبة ماشية كثيرة و أرض واسعة و حال حسنة، و كانت قد ملّكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه و أصلحه و كثرت الماشية و الزرع حتّى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالاً منه.

و إنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا كسر أصنام نمرود و أمر به نمرود فاُوثق و عمل له حيراً(٢) و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثمّ قذف إبراهيمعليه‌السلام في النار لتحرقه ثمّ اعتزلوها حتّى خمدت النار ثمّ أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيمعليه‌السلام سليماً مطلقاً من وثاقه فاُخبر نمرود خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيمعليه‌السلام من بلاده، و أن يمنعوه من الخروج

____________________

(١) كانت قرية من أعمال الكوفة و ضبطه الجزري كوثي.

(٢) الحير مخفف الحائر و هو الحائط.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423