الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88512 / تحميل: 8139
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ثمّ إنّ بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى و وقع الرجل على هامته فمات فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا من الّذين عملوا قليلاً و اُجروا كثيراً، هذا من الّذين قال الله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) إنّي رأيت الحور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنّة فعلمت أنّ الرجل مات جائعاً.

أقول: و رواه أيضاً عن الحكيم الترمذيّ و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس نحوه، و رواه العيّاشيّ في تفسيره عن جابر الجعفيّ عمّن حدّثه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيميّ أنّ رجلاً سأل عنها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسكت حتّى جاء رجل فأسلم فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى قاتل فاستشهد فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا منهم من الّذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم.

و فيه، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال: نزلت هذه الآية في إبراهيم و أصحابه خاصّة ليس في هذه الاُمّة.

أقول: و الرواية لا توافق بظاهرها الاُصول الكلّيّة المستخرجة من الكتاب و السنّة فإنّ الآية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاصّ تختصّ به اُمّة دون اُمّة كالأحكام الفرعيّة التشريعيّة الّتي ربّما تختصّ بزمان دون زمان، و أمّا الإيمان بما له من الأثر على مراتبه، و كذا الظلم على مراتبه بما لها من سوء الأثر في الإيمان فإنّما ذلك أمر مودع في الفطرة الإنسانيّة لا يختلف باختلاف الأزمنة و الاُمم.

و قال بعض المفسّرين في توجيه الحديث: لعلّ مراده أنّ الله خصّ إبراهيم و قومه بأمن موحّدهم من عذاب الآخرة مطلقاً لا أمن الخلود فيه فقط، و لعلّ سبب هذا - إن صح - أنّ الله تعالى لم يكلّف قوم إبراهيم شيئاً غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنيّة الشديدة لهم في الأحوال الشخصيّة و الأدبيّة و غيرها.

و قد عثر الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الّذي كان في عهد إبراهيم و باركه و أخذ منه العشور - كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها و أمّا فرض الله الحجّ على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيّين

٢٢١

و أمّا هذه الاُمّة فإنّ من موحّديها من يعذّبون بالمعاصي على قدرها لأنّهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها، انتهى.

و في كلامه من التحكّم ما لا يخفى فقد تقدّم أنّ الملك حمورابي هذا كان يعيش على رأس سنة ألف و سبعمائة قبل المسيح، و إبراهيم كان يعيش على رأس الألفين قبل المسيح تقريباً كما ذكره.

و حمورابي هذا و إن كان ملكاً صالحاً في دينه عادلاً في رعيّته ملتزماً العمل بقوانين وضعها و عمل بإجرائها في مملكته أحسن إجراء و إنفاذ، و هي أقدم القوانين المدنيّة الموضوعة على ما قيل إلّا أنّه كان وثنيّاً، و قد استمدّ بعدّة من آلهة الوثنيّين في ما كتبه بعد الفراغ عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الآثار المكشوفة في خرائب بابل، و الآلهة الّتي ذكرها في بيانه الموضوع في ختام القانون، و شكرها في أن آتته الملك العظيم و وفقته لبسط العدل و وضع الشريعة، و استعان بها و استمدّ منها في حفظ شريعته عن الزوال و التحريف هي( ميروداخ) إله الآلهة، و( أي) إله القانون و العدل و الإله( زاماما) و الإله( إشتار) إلها الحرب و( شاماش) الإله القاضي في السماء و الأرض و( سين) إله السماوات، و( حاداد) إله الخصب و( نيرغال) إله النصر و( بل) إله القدر و الآلهة( بيلتيس) و الآلهة( نينو) و الإله( ساجيلا) و غيرها.

و الّذي ذكره من أنّ الله لم يكلّف قوم إبراهيم شيئاً غير التوحيد اكتفاءً بتربية شرائعهم المدنيّة إلخ يكذّبه أنّ القرآن يحكي عن لسان إبراهيمعليه‌السلام الصلاة كما في أدعيته في سورة إبراهيم و يذكر أنّ الله أوحى إليه فعل الخيرات و إيتاء الزكاة كما في سورة الأنبياء، و أنّه شرع الحجّ و أباح لحوم الأنعام كما في سورة الحجّ، و كان من شريعته الاعتزال عن المشركين كما في سورة الممتحنة، و كان ينهى عن كلّ ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الأنعام و غيرها، و من شرعه التطهّر كما تشير إليه سورة الحجّ و وردت الأخبار أنّهعليه‌السلام شرع الحنيفيّة و هي عشر خصال: خمس في الرأس و خمس في البدن و منها الختنة، و كان يحيّي بالسلام كما في سورة هود و مريم.

و قد قال الله تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (الحجّ: ٧٨) و قال:( قُلْ بَلْ مِلَّةَ

٢٢٢

إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) (البقرة: ١٣٥) فوصف هذا الدين على ما له من الاُصول و الفروع بأنّه ملّة إبراهيمعليه‌السلام ، و هذا و إن لم يدلّ على أنّ هذا الدين على ما فيه من تفاصيل الأحكام كان مشرّعاً في زمن إبراهيمعليه‌السلام بل الأمر بالعكس كما يدلّ عليه قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) (الشورى: ١٣) إلّا أنّه يدلّ على أنّ شرائعه راجعة إلى أصل أو اُصول كلّيّة تهدي إليها الفطرة ممّا ترتضيه و تأمر به أو لا ترتضيه و تنهى عنه قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما ذكر حججاً على الشرك و جملاً من الأوامر و النواهي الكلّيّة مخاطباً نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام: ١٦١).

و لو كان الأمر على ما ذكره أنّ الله لم يشرّع لإبراهيمعليه‌السلام شريعة بل اكتفى بما بين يديه من القانون المدنيّ الدائر و هو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة مصوّبة من عند الله، و كانت من أجزاء دين إبراهيمعليه‌السلام بل الدين الإسلاميّ الّذي شرع في القرآن لأنّه هو ملّة إبراهيم حنيفاً فكانت إحدى الشرائع الإلهيّة و نوعاً من الكتب السماويّة.

و الحقّ الّذي لا مرية فيه أنّ الوحي الإلهيّ كان يعلّم الأنبياء السالفين و اُممهم اُصولاً كلّيّة في المعاش و المعاد كأنواع من العبادة و سنناً كلّيّة في الخيرات و الشرور يهتدي إلى تشخيصها الإنسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة و التجنّب عن الظلم و الإسراف و إعانة المستكبرين و نحوها، ثمّ يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا التجهيز الّذي جهّزوا به، و الدعوة إلى أخذ الخير و الصلاح و رفض الشرّ و الفحشاء و الفساد سواء كانت المجتمعات الّتي دخلوا فيها يدبّرها استبداد الظلمة و الطغاة أو رأفة العدول من السلاطين و سياستهم المنظّمة.

و لم يشرّع تفاصيل الأحكام قبل ظهور الدين الإسلاميّ إلّا في التوراة و فيها أحكام يشابه بعضها بعض ما في شريعة حمورابي غير أنّ التوراة نزّلها الله على موسىعليه‌السلام و كانت محفوظة في بني إسرائيل فقدوها في فتنة بخت نصّر الّتي أفنت جمعهم و خرّبت هيكلهم و لم

٢٢٣

يبق منهم إلّا شرذمة ساقتهم الإسارة إلى بابل فاستعبدوا و اُسكنوا فيه إلى أن فتح الملك كورش بابل و أعتقهم من الأسر و أجاز لهم الرجوع إلى بيت المقدس، و أن يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما اُعدمت نسخها و نسيت متون معارفها، و قد اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيّين.

و مع هذا الحال كيف يحكم بأنّ الله أمضى في الشريعة الكليميّة كثيراً من شرائع حمورابي، و القرآن إنّما يصدّق من هذه التوراة بعض ما فيها، و بعد ذلك كلّه لا مانع من كون بعض القوانين غير السماويّة مشتملاً على بعض المواد الصالحة و الأحكام الحقّة.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال: هو الشرك.

و فيه، بطريق آخر عن أبي بصير عنهعليه‌السلام : في الآية قال: بشكّ.

أقول: و رواه العيّاشيّ أيضاً في تفسيره، عن أبي بصير عنهعليه‌السلام .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألت عن قول الله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال: نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممّن لبس إيمانه بظلم، ثمّ قال: اُولئك الخوارج و أصحابهم.

و فيه، عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال: الضلال و ما فوقه.

أقول: كأنّ المراد بالضلال في الرواية الشرك الّذي هو أصل كلّ بما ظلم فوقه و ما يزيد عليه من المعاصي و المظالم، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقّق به الظلم من المعاصي، و بما فوقه الشرك الّذي هو المرتبة الشديدة من الضلال فإنّ كلّ معصية ضلال.

و الروايات - كما ترى - تتفنّن في تفسير الظلم في الآية فتارة تفسّرها بالشرك و تارة بالشكّ و تارة بما عليه الخوارج، و في بعضها: أنّ منه ولاية أعدائهم، و كلّ ذلك من شواهد ما قدّمنا أنّ الظلم في الآية مطلق و هو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الأفهام.

٢٢٤

( كلام في قصّة إبراهيمعليه‌السلام و شخصيّته)

و فيه أبحاث مختلفة قرآنيّة و اُخرى علميّة و تاريخيّة و غير ذلك.

١- قصّة إبراهيم عليه‌السلام في القرآن: كان إبراهيمعليه‌السلام في طفوليّته إلى أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثمّ خرج إليهم و لحق بأبيه فوجده و قومه يعبدون الأصنام فلم يرتض منه و منهم ذلك و قد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيّدة من الله سبحانه بالشهود الحقّ و إراءة ملكوت كلّ شي‏ء و بالجملة و بالقول الحقّ و العمل الصالح.

فأخذ يحاجّ أباه في عبادته الأصنام و يدعوه إلى رفضها و توحيد الله سبحانه و اتّباعه حتّى يهديه إلى مستقيم الصراط و يبعّده من ولاية الشيطان، و لم يزل يحاجّه و يلحّ عليه حتّى زبره و طرده عن نفسه و أوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء و الرغبة عنها.

فتلطّف إبراهيمعليه‌السلام إرفاقاً به و حناناً عليه و قد كان ذا خلق كريم و قول مرضيّ فسلّم عليه و وعده أن يستغفر له و يعتزله و قومه و ما يعبدون من دون الله (مريم: ٤١ - ٤٨).

و قد كان من جانب آخر يحاجّ القوم في أمر الأصنام (الأنبياء: ٥١ - ٥٦، الشعراء: ٦٩ - ٧٧، الصافّات: ٨٣ - ٨٧) و يحاجّ أقواماً آخرين منهم يعبدون الشمس و القمر و الكوكب في أمرها حتّى ألزمهم الحقّ و شاع خبره في الانحراف عن الأصنام و الآلهة (الأنعام: ٧٤ - ٨٢) حتّى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد و اعتلّ هو بالسقم فلم يخرج معهم و تخلّف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضرباً باليمين فجعلهم جذاذاً إلّا كبيراً لهم لعلّهم إليه يرجعون فلمّا تراجعوا و علموا بما حدث بآلهتهم و فتّشوا عمّن ارتكب ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.

فأحضروه إلى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلّهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، و قد

٢٢٥

كان أبقى كبير الأصنام و لم يجذّه و وضع الفاس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنّه هو الّذي كسر سائر الأصنام.

و إنّما قالعليه‌السلام ذلك و هو يعلم أنّهم لا يصدّقونه على ذلك و هم يعلمون أنّه جماد لا يقدر على ذلك لكنّه قال ما قال ليعقّبه بقوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون حتّى يعترفوا بصريح القول بأنّهم جمادات لا حياة لهم و لا شعور، و لذلك لمّا سمعوا قوله رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنّكم أنتم الظالمون ثمّ نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال: أ فتعبدون من دون الله ما لا يضرّكم و لا ينفعكم اُفّ لكم و لما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون أ تعبدون ما تنحتون و الله خلقكم و ما تعملون.

قالوا حرّقوه و انصروا آلهتكم فبنوا له بنياناً و أسعروا فيه جحيماً من النار و قد تشارك في أمره الناس جميعاً و ألقوه في الجحيم فجعله الله برداً عليه و سلاماً و أبطل كيدهم (الأنبياء: ٥٧ - ٧٠، الصافّات: ٨٨ - ٩٨) و قد اُدخل في خلال هذه الأحوال على الملك، و كان يعبده القوم و يتّخذونه ربّاً فحاجّ إبراهيم في ربّه فقال إبراهيم ربّي الّذي يحيي و يميت فغالطه الملك و قال: أنا اُحيي و اُميت كقتل الأسير و إطلاقه فحاجّه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر (البقرة: ٢٥٨).

ثمّ لمّا أنجاه الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة قليلة و قد سمّى الله تعالى منهم لوطاً و منهم زوجته الّتي هاجر بها و قد كان تزوّج بها قبل الخروج من الأرض إلى الأرض المقدّسة(١) .

ثمّ تبرّأ هوعليه‌السلام و من معه من المؤمنين من قومهم و تبرّأ هو من آزر الّذي كان‏ يدعوه أباً و لم يكن بوالده الحقيقيّ(٢) و هاجر و معه زوجته و لوط إلى الأرض المقدّسة

____________________

(١) الدليل على إيمان جمع من قومه به قوله تعالى:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآءُ مِنكُمْ ) (الممتحنة: ٤) و الدليل على تزوّجه قبل الخروج إلى الأرض المقدّسة سؤاله الولد الصالح من ربّه في قوله:( وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى‏ رَبّي سَيَهْدِينِ رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ ) (الصافّات: ١٠٠).

(٢) و قد تقدّم استفادة ذلك من دعائه المنقول في سورة إبراهيم.

٢٢٦

ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين (الممتحنة: ٤ الأنبياء:٧١) و بشّره الله سبحانه هناك بإسماعيل و بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب و قد شاخ و بلغه كبر السنّ فولد له إسماعيل ثمّ ولد له إسحاق و بارك الله سبحانه فيه و في ولديه و أولادهما.

ثمّ إنّهعليه‌السلام بأمر من ربّه ذهب إلى أرض مكّة و هي واد غير ذي زرع فأسكن فيه ولده إسماعيل و هو صبيّ و رجع إلى الأرض المقدّسة فنشأ إسماعيل هناك و اجتمع عليه قوم من العرب القاطنين هناك و بنيت بذلك بلدة مكّة.

و كانعليه‌السلام ربّما يزور إسماعيل في أرض مكّة قبل بناء مكّة و البيت و بعد ذلك (البقرة: ١٢٦، إبراهيم: ٣٥ - ٤١) ثمّ بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من إسماعيل و هي أوّل بيت وضع للناس من جانب الله مباركاً و هدى للعالمين فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم و من دخله كان آمناً (البقرة: ١٢٧ - ١٢٩، آل عمران: ٩٦ - ٩٧) و أذّن في الناس بالحجّ و شرّع نسك الحجّ (الحجّ: ٢٦ - ٣٠).

ثمّ أمره الله بذبح ولده إسماعيلعليه‌السلام فخرج معه للنسك فلمّا بلغ معه السعي قال يا بنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلمّا أسلما و تلّه للجبين نودي أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا و فداه الله سبحانه بذبح عظيم (الصافّات: ١٠١ - ١٠٧).

و آخر ما قصّ القرآن الكريم من قصصهعليه‌السلام أدعيته في بعض أيّام حضوره بمكّة المنقولة في سورة إبراهيم (آية: ٣٥ - ٤١) و آخر ما ذكر فيها قولهعليه‌السلام :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) .

٢- منزلة إبراهيم عندالله سبحانه و موقفه العبودي: أثنى الله تعالى على إبراهيمعليه‌السلام في كلامه أجمل الثناء و حمد محنته في جنبه أبلغ الحمد، و كرّر ذكره باسمه في نيّف و ستّين موضعاً من كتابه و ذكر من مواهبه و نعمه عليه شيئاً كثيراً. و هاك جملاً من ذلك: آتاه الله رشده من قبل (الأنبياء: ٥١) و اصطفاه في الدنيا و إنّه في الآخرة

٢٢٧

لمن الصالحين إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين (البقرة: ١٣٠ - ١٣١) و هو الّذي وجّه وجهه إلى ربّه‏ حنيفاً و ما كان من المشركين (الأنعام: ٧٩) و هو الّذي اطمأنّ قلبه بالله و أيقن به بما أراه الله من ملكوت السماوات و الأرض (البقرة: ٢٦٠، الأنعام: ٧٥).

و اتّخذه الله خليلاً (النساء: ١٢٥) و جعل رحمته و بركاته عليه و على أهل بيته و وصفه بالتوفية (النجم: ٣٧) و مدحه بأنّه حليم أوّاه منيب (هود: ٧٣ - ٧٥) و مدحه أنّه كان اُمّة قانتاً لله حنيفاً و لم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه و هداه إلى صراط مستقيم و آتاه في الدنيا حسنة و إنّه في الآخرة لمن الصالحين (النحل: ١٢٠ - ١٢٢).

و كان صدّيقاً نبيّاً (مريم: ٤١) و عدّه الله من عباده المؤمنين و من المحسنين و سلّم عليه (الصافّات: ٨٣ - ١١١) و هو من الّذين وصفهم بأنّهم اُولو الأيدي و الأبصار و أنّه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار (ص: ٤٥ - ٤٦).

و قد جعله الله للناس إماماً (البقرة: ١٢٤) و جعله أحد الخمسة اُولي العزم الّذين آتاهم الكتاب و الشريعة (الأحزاب: ٧، الشورى: ١٣، الأعلى: ١٨ - ١٩) و آتاه الله العلم و الحكمة و الكتاب و الملك و الهداية و جعلها كلمة باقية في عقبه (النساء: ٥٤، الأنعام: ٧٤ - ٩٠، الزخرف: ٢٨) و جعل في ذرّيّته النبوّة و الكتاب (الحديد: ٢٦) و جعل له لسان صدق في الآخرين (الشعراء: ٨٤، مريم: ٥٠) فهذه جمل ما منحه الله سبحانه من المناصب الإلهيّة و مقامات العبوديّة و لم يفصّل القرآن الكريم في نعوت أحد من الأنبياء و الرسل المكرمين و كراماتهم ما فصّل من نعوته و كراماتهعليه‌السلام .

و ليراجع في تفسير كلّ من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختصّ به فيما تقدّم أو سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به ههنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه الأبحاث.

و قد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة و شخصيّته الدينيّة بما سمّى هذا الدين القويم بالإسلام كما سمّاهعليه‌السلام و نسبه إليه قال تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ

٢٢٨

مِنْ قَبْلُ ) (الحجّ: ٧٨) و قال:( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام: ١٦١).

و جعل الكعبة البيت الحرام الّذي بناها قبلة للعالمين و شرّع مناسك الحجّ و هي في الحقيقة أعمال ممثّلة لقصّة إسكانه ابنه و اُمّ ولده و تضحية ابنه إسماعيل و ما سعى به إلى ربّه و التوجّه له و تحمّل الأذى و المحنة في ذاته كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ ) الآية (البقرة: ١٢٥) في الجزء الأوّل من الكتاب.

٣- أثره المبارك في المجتمع البشري: و من مننهعليه‌السلام السابغة أنّ دين التوحيد ينتهي إليه أينما كان و عند من كان فإنّ الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود، و ينتهي إلى الكليم موسى بن عمرانعليه‌السلام و ينتهي نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام ، و دين النصرانيّة و ينتهي إلى المسيح عيسى بن مريمعليهما‌السلام و هو من ذرّيّة إبراهيمعليه‌السلام ، و دين الإسلام و الصادع به هو محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليلعليهما‌السلام ، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيّب المبارك، و يشاهد في الإسلام من شرائعه الصلاة و الزكاة و الحجّ و إباحة لحوم الأنعام و التبرّي من أعداء الله، و السلام، و الطهارات العشر الحنيفيّة البيضاء خمس(١) منها في الرأس و خمس منها في البدن: أمّا الّتي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طمّ الشعر و السواك و الخلال و أمّا الّتي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء.

و البحث المستوفى يؤيّد أنّ السنن الصالحة من الاعتقاد و العمل في المجتمع البشريّ كائنة ما كانت من آثار النبوّة الحسنة كما تكرّرت الإشارة إليه في المباحث المتقدّمة، فلإبراهيمعليه‌السلام الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو جهلوا.

٤- ما تقصّه التوراة الموجودة في إبراهيم: قالت التوراة: و عاش تارح (أبو إبراهيم) سبعين سنة و ولد أبرام و ناحور و هاران، و هذه مواليد تارح: ولد تارح أبرام و ناحور

____________________

(١) رواها في مجمع البيان نقلاً عن تفسير القمّيّ.

٢٢٩

و هاران، و ولد هاران لوطاً، و مات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده في( اُور) الكلدانيّين و اتّخذ أبرام و ناحور لأنفسهما امرأتين اسم امرأة أبرام( ساراي) و اسم امرأة ناحور ملكة بنت هاران أبي ملكة و أبي بسكة، و كانت ساراي عاقراً ليس لها ولد و أخذ تارح أبرام ابنه و لوطاً بن هاران ابن ابنه، و ساراي كنته امرأة أبرام ابنه فخرجوا معاً من اُور الكلدانيّين ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى حاران و أقاموا هناك، و كانت أيّام تارح مائتين و خمس سنين، و مات تارح في حاران.

قالت التوراة: و قال الربّ لأبرام: اذهب من أرضك و من عشيرتك و من بيت‏ أبيك إلى الأرض الّتي اُريك فأجعلك اُمّة عظيمة و اُباركك و اُعظّم اسمك و تكون بركة و اُبارك مباركيك، و لاعنك ألعنه، و يتبارك فيك جميع قبائل الأرض، فذهب أبرام كما قال له الربّ، و ذهب معه لوط، و كان أبرام ابن خمس و سبعين سنة لمّا خرج من حاران فأخذ أبرام ساراي امرأته و لوطاً ابن أخيه و كلّ مقتنياتهما الّتي اقتنيا و النفوس الّتي امتلكا في حاران، و خرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى أرض كنعان.

و اجتاز أبرام في أرض إلى مكان( شكيم) إلى( بلّوطه مورة) و كان الكنعانيّون حينئذ في الأرض، و ظهر الربّ لأبرام و قال: لنسلك اُعطى هذه الأرض فبنى هناك مذبحاً للربّ الّذي ظهر له، ثمّ نقل من هناك إلى الجبل شرقيّ( بيت إيل) و نصبت خيمته و له( بيت إيل) من المغرب و( عاي) من المشرق فبنى هناك مذبحاً للربّ و دعا باسم الربّ، ثمّ ارتحل أبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب.

و حدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليغرّب هناك لأنّ الجوع في الأرض كان شديداً، و حدث لمّا قرب أن يدخل مصر أنّه قال لساراي امرأته: إنّي قد علمت أنّك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريّون أنّهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني و يستبقونك، قولي: إنّك اُختي ليكون لي خير بسببك و تحيا نفسي من أجلك، فحدث لمّا دخل أبرام إلى مصر أنّ المصريّين رأوا المرأة أنّها حسنة جدّاً و رآها رؤساء فرعون و مدحوها لدى فرعون فاُخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى أبرام خيراً بسببها و صار

٢٣٠

له غنم و بقر و حمير و عبيد و إماء و اُتن و جمال.

فضرب الربّ فرعون و بيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام فدعا فرعون أبرام و قال: ما هذا الّذي صنعت لي؟ لما ذا لم تخبرني أنّها امرأتك؟ لما ذا قلت: هي اُختي حتّي أخذتها لتكون زوجتي؟ و الآن هو ذا امرأتك خذها و اذهب، فأوصى عليه رجالاً فشيعوه و امرأته و كلّ ما كان له.

ثمّ ذكرت التوراة: أنّ أبرام خرج من مصر و معه ساراي و لوط و معهم الأغنام و الخدم و الأموال العظيمة و وردوا( بيت إيل) المحلّ الّذي كانت فيه خيمته مضروبة بين( بيت إيل) و( عاي) ثمّ بعد حين تفرّق هو و لوط لأنّ الأرض ما كانت تسعهما فسكن أبرام كنعان، و كان الكنعانيّون و الفرزيّون ساكنون هناك، و نزل لوط أرض سدوم.

ثمّ ذكرت: أنّه في تلك الأيّام نشبت حرب في أرض سدوم بين( أمرافل) ملك شنعار و معه ثلاثة من الملوك، و بين بارع ملك سدوم و معه أربعة من الملوك المتعاهدين فانهزم ملك سدوم و من معه انهزاماً فاحشاً و هربوا من الأرض بعد ما قتل من قتل منهم و نهبت أموالهم و سبيت نساؤهم و ذراريّهم، و كان فيمن أسر لوط و جميع أهله و نهبت أمواله.

قالت التوراة: فأتى من نجا و أخبر أبرام العبرانيّ و كان ساكناً عند( بلّوطات ممري) الآموريّ أخي( أشكول) و أخي( عانر) و كانوا أصحاب عهد مع أبرام، فلمّا سمع أبرام أنّ أخاه سبي جرّ غلمانه المتمرّنين ولدان بيته ثلاثمائة و ثمانية عشر و تبعهم إلى( دان) و انقسم عليهم هو و عبيده فكسّرهم و تبعهم إلى( حوبة) الّتي عن شمال دمشق و استرجع كلّ الأموال و استرجع لوطاً أخاه أيضاً و أملاكه و النساء أيضاً و الشعب.

فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من( كسرة كدر لعومر) و الملوك الّذين معه إلى عمق( شوى) الّذي هو عمق الملك، و ملكي(١) صادق ملك( شاليم) أخرج خبزاً

____________________

(١) اسم لأحد الملوك المعاصر لهعليه‌السلام .

٢٣١

و خمراً و كان كاهناً لله العليّ و باركه و قال: مبارك أبرام من الله العليّ مالك السماوات و الأرض و مبارك الله العليّ الّذي أسلم أعداءك في يدك فأعطاه عشراً من كلّ شي‏ء.

و قال ملك سدوم لأبرام: أعطني النفوس، و أمّا الأملاك فخذها لنفسك فقال أبرام لملك سدوم: رفعت يدي إلى الربّ الإله العليّ ملك السماء و الأرض لا آخذنّ لا خيطاً و لا شراك نعل و لا من كلّ ما هو لك فلا تقول: أنا أغنيت أبرام ليس لي غير الّذي أكله الغلمان و أمّا نصيب الرجال الّذين ذهبوا معي( عابر) و( أسلول) و( ممرا) فهم يأخذون نصيبهم.

إلى أن قالت: و أمّا ساراي فلم تلد له و كانت لها جارية مصريّة اسمها هاجر فقالت ساراي لأبرام: هو ذا الربّ قد أمسكني عن الولادة أدخل على جاريتي لعلّي اُرزق منها بنين فسمع أبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصريّة جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان و أعطتها لأبرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت.

ثمّ ذكرت: أنّ هاجر لمّا حبلت حقّرت ساراي و استكبرت عليها فشكت ساراي‏ ذلك إلى أبرام ففوّض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها فلقيها ملك فأمرها بالرجوع إلى سيّدتها و أخبرها أنّها ستلد ولداً ذكراً و تدعو اسمه إسماعيل لأنّ الربّ قد سمع لمذلّتها، و أنّه يكون إنساناً وحشيّاً يضادّ الناس و يضادّونه، و ولدت هاجر لأبرام ولداً و سمّاه أبرام إسماعيل و كان أبرام ابن ستّ و سبعين سنة لمّا ولدت هاجر إسماعيل لأبرام.

قالت التوراة: و لمّا كان أبرام ابن تسع و تسعين سنة ظهر الربّ لأبرام و قال له: أنا الله القدير سر أمامي و كن كاملاً فأجعل عهدي بيني و بينك و اُكثرك كثيراً جدّاً فسقط أبرام على وجهه و تكلّم الله معه قائلاً: أمّا أنا فهو ذا عهدي معك و تكون أباً لجمهور من الاُمم، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأنّي أجعلك أباً لجمهور من الاُمم و اُثمرك كثيراً جدّاً و أجعلك اُمماً، و ملوك منك يخرجون، و اُقيم عهدي بيني و بينك و بين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبديّاً لأكون إلهاً لك و لنسلك من بعدك

٢٣٢

و اُعطي لك و لنسلك من بعد أرض غربتك كلّ أرض كنعان ملكاً أبديّاً و أكون إلههم.

ثمّ ذكرت: أنّ الربّ جعل في ذلك عهداً بينه و بين إبراهيم و نسله أن يختتن هو و كلّ من معه و يختنوا أولادهم اليوم الثامن من الولادة فختن إبراهيم و هو ابن تسع و تسعين سنة و ختن ابنه إسماعيل و هو ابن ثلاث عشرة سنة و سائر الذكور من بنيه و عبيده.

قالت التوراة: و قال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة و اُباركها و أعطيت أيضاً منها ابناً، و اُباركها فتكون اُمماً و ملوك شعوب منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجهه و ضحك و قال في قلبه: و هل يولد لابن مائة سنة؟ هل تلد سارة و هي بنت تسعين سنة؟.

و قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً و تدعو اسمه إسحاق، و اُقيم عهدي معه عهداً أبديّاً لنسله من بعده و أمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا اُباركه و اُثمره و اُكثّره كثيراً جدّاً، إثنا عشر رئيساً يلد و أجعله اُمّة كبيرة، و لكن عهدي اُقيمه مع إسحاق الّذي تلده سارة في هذا الوقت في السنة الآتية، فلمّا فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم.

ثمّ ذكرت قصّة نزول الربّ مع الملكين لإهلاك أهل سدوم قوم لوط و أنّهم وردوا على إبراهيم فضافهم و أكلوا من الطعام الّذي عمله لهم من عجل قتله و الزبد و اللّبن اللّذين قدّمهما إليهم ثمّ بشّروه و بشّروا سارة بإسحاق و ذكروا أمر قوم لوط فجادلهم إبراهيم في هلاكهم فأقنعوه و كان بعده هلاك قوم لوط.

ثمّ ذكرت أنّ إبراهيم انتقل إلى أرض( حرار) و تغرّب فيها و أظهر لملكه( أبي مالك) أنّ سارة اُخته فأخذها الملك منه فعاتبها الربّ في المنام فأحضر إبراهيم و عاتبه على قوله: إنّها اُختي فاعتذر أنّه إنّما قال ذلك خوفاً من القتل و اعترف أنّه في الحقيقة اُخته من أبيه دون اُمّه تزوّج بها فردّ إليه سارة و أعطاهما مالاً جزيلاً (نظير ما قصّ في فرعون).

٢٣٣

قالت التوراة: و افتقد الربّ سارة كما قال و فعل الربّ لسارة كما تكلّم فحبلت سارة و ولدت لإبراهيم ابناً في شيخوخته في الوقت الّذي تكلّم الله عنه و دعا إبراهيم اسم ابنه الّذي ولدته له سارة إسحاق، و ختن إبراهيم إسحاق ابنه و هو ابن ثمانية أيّام كما أمره الله، و كان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، و قالت سارة: فقد صنع إليّ الله، ضحكاً كلّ من يسمع يضحك لي، و قالت من قال لإبراهيم: سارة ترضع بنين حتّى ولدت ابناً في شيخوخته فكبر الولد و فطم و صنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق.

و رأت سارة ابن هاجر المصريّة الّذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية و ابنها لأنّ ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق فقبح الكلام جدّاً في عيني إبراهيم لسبب ابنه فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام و من أجل جاريتك في كلّ ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنّه بإسحاق يدعى لك نسل و ابن الجارية أيضاً سأجعله اُمّة لأنّه نسلك.

فبكّر إبراهيم صباحاً و أخذ خبزاً و قربة ماء و أعطاهما لهاجر واضعاً إيّاهما على كتفها و الولد و صرفها فمضت و تاهت في برّيّة بئر سبع و لمّا فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار و مضت و جلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس لأنّها قالت: لا أنظر موت الولد فجلست مقابله و رفعت صوتها و بكت فسمع الله صوت الغلام و نادى ملاك الله هاجر من السماء، و قال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأنّ الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي و احملي الغلام و شدّي يدك به لأنّي سأجعله اُمّة عظيمة، و فتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت و ملأت القربة ماءً و سقت الغلام، و كان الله مع الغلام فكبر و سكن في البرّيّة، و كان ينمو رامي قوس، و سكن في برّيّة فاران، و أخذت له اُمّه زوجة من أرض مصر(١) .

قالت التوراة: و حدث بعد هذه الاُمور أنّ الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: ها أنا ذا فقال: خذ ابنك وحيدك الّذي تحبّه إسحاق و اذهب إلى أرض المريّا

____________________

(١) و الواقع في روايات المسلمين أنّه تزوّج من الجرهم و هم من عشائر العرب اليمنيّين.

٢٣٤

و أصعده هناك محرقة على أحد الجبال الّذي أقول لك، فبكّر إبراهيم صباحاً و شدّ على حماره و أخذ اثنين من غلمانه معه و إسحاق معه و شقّق حطباً لمحرقة و قام و ذهب إلى الموضع الّذي قال له الله، و في اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه و أبصر الموضع من بعيد فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، أمّا أنا و الغلام فنذهب إلى هناك و نسجد و نرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة و وضعه على إسحاق ابنه و أخذ بيده النار و السكّين فذهبا كلاهما معاً، و كلّم إسحاق أباه إبراهيم و قال له: يا أبي فقال: ها أنا ذا يا ابني فقال: هو ذا النار و الحطب و لكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معاً.

فلمّا أتيا إلى الموضع الّذي قال له الله بنى هنالك إبراهيم المذبح و رتّب الحطب و ربط إسحاق ابنه و وضعه على المذبح فوق الحطب ثمّ مدّ إبراهيم يده و أخذ السكّين لذبح ابنه فناداه ملاك الربّ من السماء و قال: إبراهيم إبراهيم! فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تمدّ يدك إلى الغلام و لا تفعل به شيئاً لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنّي فرفع إبراهيم عينيه و نظر و إذا كبش وراءه ممسكاً في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم و أخذ الكبش و أصعده محرقة عوضاً عن ابنه فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع( يهوه برأه) حتّى أنّه يقال اليوم في جبل الربّ( بُرىً) ، و نادى ملاك الربّ إبراهيم ثانية من السماء و قال: بذاتي أقسمت يقول الربّ: إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر و لم تمسك ابنك وحيدك اُباركك مباركة و أكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء و كالرمل الّذي على شاطئ البحر و يرث نسلك باب أعدائه و يتبارك في نسلك جميع اُمم الأرض من أجل أنّك سمعت لقولي ثمّ رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا و ذهبوا معاً إلى بئر سبع و سكن إبراهيم في بئر سبع.

ثمّ ذكرت تزويجه إسحاق من عشيرته بكلدان، ثمّ موت سارة و هي بنت مائة و سبع و عشرين في حبرون، ثمّ ازدواج إبراهيم بعدها بقطورة و إيلادها عدّة من البنين، ثمّ موت إبراهيم و هو ابن مائة و خمس و سبعين سنة، و دفن ابنيه إسحاق و إسماعيل إيّاه في غار( مكفيلة) و هو مشهد الخليل اليوم.

٢٣٥

٥- تطبيق ما في التوراة من قصّته من ما في القرآن: فهذه خلاصة قصص إبراهيمعليه‌السلام و تاريخ حياته المورد في التوراة (سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر - الإصحاح الخامس و العشرون) و على الباحث الناقد أن يطبّق ما ورد منه فيها على ما قصّه القرآن الكريم ثمّ يرى رأيه.

الّذي تشتمل عليه من القصّة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها و التناقض بين أطرافها ممّا يصدّق القرآن الكريم فيما ادّعاه أنّ هذا الكتاب المقدّس لعبت به أيدي التحريف.

فمن عمدة ما فيها من المغمض أنّها أهملت ذكر مجاهداته في أوّل أمره و حجاجاته قومه و ما قاساه منهم من المحن و الأذايا، و هي طلائع بارقة لمّاعة من تاريخهعليه‌السلام .

و من ذلك إهمالها ذكر بنائه الكعبة المشرّفة و جعله حرماً آمناً و تشريعه الحجّ، و لا يرتاب أيّ باحث دينيّ و لا ناقد اجتماعيّ أنّ هذا البيت العتيق الّذي لا يزال قائماً على قواعده منذ أربعة آلاف سنة من أعظم الآيات الإلهيّة الّتي تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه و آياته، و تستحفظ كلمة الحقّ دهراً طويلاً، و هو أوّل بيت لله تعالى وضع للناس مباركاً و هدىً للعالمين.

و ليس إهمال ذكره إلّا لنزعة إسرائيليّة من كتّاب التوراة و مؤلّفيها دعتهم إلى الصفح عن ذكر الكعبة، و إحصاء ما بناه من المذابح و مذبح بناه بأرض شكيم، و آخر بشرقيّ بيت إيل، و آخر بجبل الربّ.

ثمّ الّذي وصفوا به النبيّ الكريم إسماعيل: أنّه كان غلاماً وحشيّاً يضادّ الناس و يضادّونه، و لم يكن له من الكرامة إلّا أنّه كان مطروداً من حضرة أبيه نما رامي قوس! يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متمّ نوره.

و من ذلك: ما نسبته إليه ممّا لا يلائم مقام النبوّة و لا روح التقوى و الفتوّة كقولها: إنّ ملكي صادق ملك( شاليم) أخرج إليه خبزاً و خمراً و كان كاهناً لله العليّ و باركه.(١)

____________________

(١) ربّما وجّهوا أنّ ملكي صادق هذا كاهن الربّ هو( أمرافل) ملك شنعار المذكور في أوّل القصّة و هو( حمورابي) الملك صاحب الشريعة الّذي هو أحد السلالة الاُولى من ملوك بابل، و قد اختلف في تاريخ ملكه اختلافاً شديداً لا ينطبق أكثر ما قيل فيه زمان حياة إبراهيم و هو (٢٠٠٠) ق م فقد ذكر في كتاب العرب قبل الإسلام أنّه تملك بابل سنة ٢٢٨٧ - ٢٢٣٢ ق م و في شريعة حمورابي نقلاً عن كتاب أقدم شرائع العالم للأستاذ ف. إدوارد أن سني ملكه ٢٢٠٥ - ٢١٦٧ ق. م، و في قاموس أعلام الشرق و الغرب أنّه تولّى سلطنة بابل سنة ١٧٢٨ - ١٦٨٦ ق م و في قاموس الكتاب المقدّس أنّه تولاها سنة ١٩٧٥ - ١٩٢٠ ق م. و أوضح ما ينافي هذا الحدث أنّ الّذي اكتشفوه من النصب في خرائب بابل و عليها شريعة حمورابي تشتمل على ذكر عدّة من آلهة البابليّين، و يدلّ على كون حمورابي من الوثنيّين، و لا يستقيم عليه أن يكون كاهناً للربّ.

٢٣٦

و من ذلك قولها: إنّ إبراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر: أنّ سارة اُخته و وصّى سارة أن تصدّقه في ذلك إذ قال لها: قولي: إنّك اُختي ليكون لي خير بسببك، و تحيا نفسي من أجلك، و أظهر تارة اُخرى لأبي مالك ملك حرار أنّها اُخته، فأخذها للزوجيّة فرعون تارة، و أبو مالك اُخرى، ثمّ ذكرت التوراة تأوّل إبراهيم في قوله:( إنّها اُختي) مرّة بأنّها اُختي في الدين، و اُخرى أنّها ابنة أبي من غير اُمّي فصارت لي زوجة.

و أيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم (و حاشا مقام الخليل) يعرض زوجته سارة لأمثال فرعون و أبي مالك مستغلّاً بها حتّى يأخذاها زوجة و هي ذات بعل و ينال هو بذلك جزيل العطاء و يستدرّهما بما عندهما من الخير!.

على أنّ كلام التوراة صريح في أنّ سارة كانت عندئذ و خاصّة حينما أخذها أبي مالك عجوزاً قد عمّرت سبعين أو أكثر، و العادة تقضي أنّ المرأة تفتقد في سنّ العجائز نضارة شبابها و وضاءة جمالها، و الملوك و الجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالاً الطريّة حسناً.

و ربّما وجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات‏ ففي صحيحي البخاريّ و مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لم يكذب إبراهيم النبيّعليه‌السلام قطّ إلّا ثلاث كذبات‏ اثنتين في ذات الله: قوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) و قوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) و واحدة في شأن سارة فإنّه قدم أرض جبّار و معه سارة و كانت أحسن الناس فقال لها: إنّ هذا الجبّار

٢٣٧

إن يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنّك اُختي فإنّك اُختي في الإسلام فإنّي لا أعلم في الأرض مسلماً غيرك و غيري، فلمّا دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلّا لك فأرسل إليها فاُتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلمّا دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي و لا أضرّك ففعلت فعاد فقبضت أشدّ من القبضتين(١) . الاُوليين فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا اُضرّك ففعلت فاُطلقت يده و دعا الّذي جاء بها فقال له: إنّك إنّما أتيتني بشيطان و لم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي و أعطها هاجر.

قال: فأقبلت تمشي فلمّا رآها إبراهيمعليه‌السلام انصرف و قال لها: مهيم فقالت: خيراً كفّ الله يد الفاجر و أخدم خادماً. قال أبوهريرة: فتلك اُمّكم يا بني ماء السماء.

و في صحيح البخاريّ، بطرق كثيرة عن أنس و أبي هريرة، و في صحيح مسلم، عن أبي هريرة و حذيفة، و في مسند أحمد، عن أنس و ابن عبّاس و أخرجه الحاكم عن ابن مسعود و الطبرانيّ عن عبادة بن الصامت و ابن أبي شيبة عن سلمان، و الترمذيّ عن أبي هريرة، و أبوعوانة عن حذيفة عن أبي بكر حديث شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة، و هو حديث طويل فيه: أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يسألونهم الشفاعة عندالله، و كلّما أتوا نبيّاً و سألوه الشفاعة ردّهم إلى من بعده و اعتذر بشي‏ء من عثراته حتّى ينتهوا إلى خاتم النبيّين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجيبهم إلى مسألتهم و في الحديث: أنّهم يأتون إبراهيمعليه‌السلام يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله فيقول لهم: لست هنأكم إنّي كذبت ثلاث كذبات: قوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) و قوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) و قوله لامرأته:( أخبريه أنّي أخوك) .

و الاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما أنّ الأقاويل الثلاث الّتي وصفت فيهما أنّها كذبات ليست كذبات حقيقة بل من قبيل التوريات و المعاريض البديعيّة كما ربّما يلوح من بعض ألفاظ الحديث‏ كالّذي ورد في‏ بعض طرقه من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات كلّها في ذات الله)

____________________

(١) كذا في الأصل المنقول عنه و كأن فيه سقطا.

٢٣٨

و كذا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما منها كذبة إلّا ماحل(١) بها عن دين الله) فما بال إبراهيم في حديث القيامة يعدّها ذنوباً لنفسه و مانعة عن القيام بأمر الشفاعة و يعتذر بها عنها؟ فإنّها على هذا التقدير كانت من محنة في ذات الله و حسناته في الدين لو جاز لنبيّ من الأنبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنّك قد عرفت في ما تقدّم من مباحث النبوّة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أنّ ذلك ممّا لا يجوز على الأنبياءعليهم‌السلام قطعاً لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم و أحاديثهم من أصلها.

على أنّ هذا النوع من الإخبار لو جاز عدّه كذباً و منعه عن الشفاعة عندالله سبحانه كان قولهعليه‌السلام لمّا رأى كوكباً و القمر و الشمس: هذا ربّي و هذا ربّي أولى بأن يعدّ كذباً مانعاً عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى.

على أنّ قولهعليه‌السلام على ما حكاه الله تعالى بقوله:( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) لا يظهر بشي‏ء من قرائن الكلام كونه كذباً غير مطابق للواقع فلعلّهعليه‌السلام كان سقيماً بنوع من السقم لا يحجزه عمّا همّ به من كسر الأصنام.

و كذا قولهعليه‌السلام للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم:( أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ) فأجابهم و هم يعلمون أنّ أصنامهم من الجماد الّذي لا شعور فيه و لا إرادة له:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) ثمّ أردفه بقوله:( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) لا سبيل إلى عدّه كذباً فإنّه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لإلزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه، و لذا لم يجد القوم بدّاً دون أن اعترفوا بذلك فقالوا:( لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (الأنبياء: ٦٧).

و لو كان المراد أنّ الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى، و نحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدّم في الفصل ٢ من الكلام في منزلة إبراهيمعليه‌السلام عند الله تعالى و موقفه العبوديّ ممّا أثنى الله عليه بأجمل الثناء و حمد مقامه أبلغ الحمد.

____________________

(١) أي جادل‏

٢٣٩

و ليت شعري كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوّز أن ينطبق مثل قوله تعالى:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) (مريم: ٤١) على رجل كذّاب يستريح إلى كذب القول كلّما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلاً لا يراقب الله سبحانه في حقّ أو صدق (حاشا ساحة خليل الله عن ذلك).

و أمّا الأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فإنّها تصدّق التوراة في أصل القصّة غير أنّها تجلّ إبراهيمعليه‌السلام عمّا نسب إليه من الكذب و سائر ما لا يلائم قدس ساحته، و من أجمع ما يتضمّن قصّة الخليلعليه‌السلام ‏ ما في الكافي، عن عليّ عن أبيه و عدّة من أصحابنا عن سهل جميعاً عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخيّ قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ إبراهيمعليه‌السلام كان مولده بكوثاريا(١) و كان أبوه من أهلها، و كانت اُمّ إبراهيم و اُمّ لوطعليهما‌السلام و سارة و ورقة - و في نسخة رقبة - اُختين و هما ابنتان للاحج، و كان لاحج نبيّاً منذراً و لم يكن رسولاً.

و كان إبراهيمعليه‌السلام في شبيبته على الفطرة الّتي فطر الله عزّوجلّ الخلق عليها حتّى هداه الله تبارك و تعالى إلى دينه و اجتباه، و أنّه تزوّج سارة ابنة لاحج و هي ابنة خالته و كانت سارة صاحبة ماشية كثيرة و أرض واسعة و حال حسنة، و كانت قد ملّكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه و أصلحه و كثرت الماشية و الزرع حتّى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالاً منه.

و إنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا كسر أصنام نمرود و أمر به نمرود فاُوثق و عمل له حيراً(٢) و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثمّ قذف إبراهيمعليه‌السلام في النار لتحرقه ثمّ اعتزلوها حتّى خمدت النار ثمّ أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيمعليه‌السلام سليماً مطلقاً من وثاقه فاُخبر نمرود خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيمعليه‌السلام من بلاده، و أن يمنعوه من الخروج

____________________

(١) كانت قرية من أعمال الكوفة و ضبطه الجزري كوثي.

(٢) الحير مخفف الحائر و هو الحائط.

٢٤٠

بماشيته و ماله فحاجّهم إبراهيمعليه‌السلام عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي و مالي فإنّ حقّي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم، و اختصموا إلى قاضي نمروذ فقضى على إبراهيمعليه‌السلام أن يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، و قضى على أصحاب نمروذ أن يردّوا على إبراهيمعليه‌السلام ما ذهب من عمره في بلادهم، و اُخبر بذلك نمروذ فأمرهم أن يخلّوا سبيله و سبيل ماشيته و ماله و أن يخرجوه، و قال: إنّه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم و أضرّ بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم و لوطاًعليهما‌السلام معه من بلادهم إلى الشام.

فخرج إبراهيم و معه لوط لا يفارقه و سارة، و قال لهم:( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يعني إلى بيت المقدس فتحمّل إبراهيم بماشيته و ماله و عمل تابوتاً و جعل فيه سارة و شدّ عليها الأغلاق غيرة منه عليها و مضى حتّى خرج من سلطان نمروذ، و سار إلى سلطان رجل من القبط يقال له( عزارة) فمرّ بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه فلمّا انتهى إلى العاشر و معه التابوت قال العاشر لإبراهيمعليه‌السلام : افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه فقال له إبراهيمعليه‌السلام : قل ما شئت فيه من ذهب أو فضّة حتّى نعطي عشره و لا نفتحه. قال: فأبى العاشر إلّا فتحه قال: و غصب(١) إبراهيمعليه‌السلام على فتحه فلمّا بدت له سارة و كانت موصوفة بالحسن و الجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيمعليه‌السلام : هي حرمتي و ابنة خالتي، فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيمعليه‌السلام : الغيرة عليها أن يراها أحد فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتّى اُعلم الملك حالها و حالك.

قال: فبعث رسولاً إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولاً من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيمعليه‌السلام : إنّي لست اُفارق التابوت حتّى يفارق روحي جسدي فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه و التابوت معه فحملوا إبراهيمعليه‌السلام و التابوت و جميع ما كان معه حتّى اُدخل على الملك فقال له الملك: افتح التابوت فقال له إبراهيمعليه‌السلام : أيّها الملك إنّ فيه حرمتي و ابنة خالتي و أنا مفتد فتحه بجميع ما معي.

____________________

(١) بالمعجمة فالمهملة يقال: غصبه على كذا أي قهره.

٢٤١

قال: فغصب الملك إبراهيم على فتحه فلمّا رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مدّ يده إليها فأعرض إبراهيمعليه‌السلام وجهه عنها و عنه غيرة منه و قال: اللّهمّ احبس يده عن حرمتي و ابنة خالتي فلم تصل يده إليها و لم ترجع إليه فقال له الملك: إنّ إلهك هو الّذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم إنّ إلهي غيور يكره الحرام، و هو الّذي حال بينك و بين ما أردته من الحرام فقال له الملك: فادع إلهك يردّ عليّ يدي فإن أجابك فلم أعرض لها فقال إبراهيمعليه‌السلام : إلهي ردّ إليه يده ليكفّ عن حرمتي. قال: فردّ الله عزّوجلّ إليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثمّ عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة منه، و قال: اللّهمّ احبس يده عنها. قال: فيبست يده و لم تصل إليها.

فقال الملك لإبراهيمعليه‌السلام : إنّ إلهك لغيور و إنّك لغيور فادع إلهك يردّ إليّ يدي فإنّه إن فعل لم أعد فقال إبراهيمعليه‌السلام : أسأله ذلك على أنّك إن عدت لم تسألني أن أسأله فقال له الملك: نعم فقال إبراهيمعليه‌السلام : اللّهمّ إن كان صادقاً فردّ يده عليه فرجعت إليه يده.

فلمّا رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى و رأى الآية في يده عظّم إبراهيمعليه‌السلام و هابه و أكرمه و اتّقاه، و قال له: قد أمنت من أن اُعرّض لها أو لشي‏ء ممّا معك فانطلق حيث شئت و لكن لي إليك حاجة فقال إبراهيمعليه‌السلام : ما هي؟ فقال له: اُحبّ أن تأذن لي أن اُخدمها قبطيّة عندي جميلة عاقلة تكون لها خادماً قال: فأذن إبراهيمعليه‌السلام فدعا بها فوهبها لسارة و هي هاجر اُمّ إسماعيلعليه‌السلام .

فسار إبراهيمعليه‌السلام بجميع ما معه، و خرج الملك معه يمشي خلف إبراهيمعليه‌السلام إعظاماً لإبراهيم و هيبة له فأوحى الله تبارك و تعالى إلى إبراهيمعليه‌السلام أن قف و لا تمش قدّام الجبّار المتسلّط و يمشي و هو خلفك، و لكن اجعله أمامك و امش خلفه و عظّمه و هبه فإنّه مسلّط و لا بدّ من إمرة في الأرض برّة أو فاجرة فوقف إبراهيمعليه‌السلام و قال للملك: امض فإنّ إلهي أوحى إليّ الساعة أن اُعظمك و أهابك، و أن اُقدّمك أمامي و أمشي خلفك إجلالاً لك فقال له الملك: أوحي إليك بهذا؟ فقال إبراهيمعليه‌السلام : نعم فقال له الملك: أشهد أنّ إلهك لرفيق حليم كريم و أنّك ترغّبني في دينك.

٢٤٢

قال: و ودّعه الملك فسار إبراهيمعليه‌السلام حتّى نزل بأعلى الشامات، و خلّف لوطاًعليه‌السلام في أدنى الشامات. ثمّ إنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا أبطأ عليه الولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعلّ الله أن يرزقنا منها ولداً فيكون لنا خلفاً، فابتاع إبراهيمعليه‌السلام هاجر من سارة فوقع عليها فولدت إسماعيلعليه‌السلام .

و من ذلك ما ذكرته أعني التوراة في قصّة الذبح أنّ الذبيح هو إسحاق دون إسماعيلعليه‌السلام مع أنّ قصّة إسكانه بأرض تهامة و بنائه الكعبة المشرّفة و تشريع عمل الحجّ الحاكي لما جرى عليه و على اُمّه من المحنة و المشقّة في ذات الله، و قد اشتمل على الطواف و السعي و التضحية كلّ ذلك تؤيّد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاقعليهما‌السلام .

و قد وقع في إنجيل برنابا أنّ المسيح لام اليهود و وبّخهم على قولهم بأنّ الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل ٤٤: فكلّم الله إبراهيم قائلاً: خذ ابنك بكرك إسماعيل و اصعد الجبل لتقدّمه ذبيحة فكيف يكون إسحاق البكر و هو لمّا ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين الفصل ٤٤ آية: ١١ - ١٢.

و أمّا القرآن فإنّ آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيلعليه‌السلام قال تعالى بعد ما ذكر قصّة كسر الأصنام و إلقائه في النار و جعلها برداً و سلاماً:( فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى‏ إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى‏ إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (الصافّات: ١١٣).

و المتدبّر في الآيات الكريمة لا يجد مناصاً دون أن يعترف أنّ الذبيح هو الّذي ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله:( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) و أنّ البشارة الاُخرى الّتي

٢٤٣

ذكرها أخيراً بقوله:( وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) غير البشارة الاُولى، و الّذي بشّر به في الثانية و هو إسحاقعليه‌السلام غير الّذي بشّر به في الاُولى و أردفها بذكر قصّة التضحية به.

و أمّا الروايات فالّتي وردت منها من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تذكر أنّ الذبيح هو إسماعيلعليه‌السلام ، و الّتي رويت من طرق أهل السنّة و الجماعة مختلفة: فصنف يذكر إسماعيل و صنف يذكر إسحاقعليهما‌السلام غير أنّك عرفت أنّ الصنف الأوّل هو الّذي يوافق الكتاب.

قال الطبريّ في تاريخه: اختلف السلف من علماء اُمّة نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الّذي اُمر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، و قال بعضهم: هو إسماعيل بن إبراهيم. و قد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أنّ الدليل من القرآن على صحّة الرواية الّتي رويت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: هو إسحاق أوضح و أبين منه على صحّة الاُخرى.

إلى أن قال: و أمّا الدلالة من القرآن الّتي قلنا: إنّها على أنّ ذلك إسحاق أصحّ فقوله تعالى مخبراً عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجراً إلى ربّه إلى الشام مع زوجته سارة قال:( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) و ذلك قبل أن يعرف هاجر، و قبل أن تصير له اُمّ إسماعيل ثمّ أتبع ذلك ربّنا عزّوجلّ الخبر عن إجابة دعائه و تبشيره إيّاه بغلام حليم ثمّ عن رؤيا إبراهيم أنّه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي.

و لا نعلم في كتاب الله عزّوجلّ تبشيراً لإبراهيم بولد ذكر إلّا بإسحاق و ذلك قوله:( وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ) و قوله:( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) .

ثمّ ذلك كذلك في كلّ موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام فإنّما ذكر تبشير الله إيّاه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله:( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) نظير

٢٤٤

ما في سائر سور القرآن من تبشيره إيّاه من زوجته سارة.

و أمّا اعتلال من اعتلّ بأنّ الله لم يأمر بذبح إسحاق و قد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته و ولادة يعقوب منه من بعده فإنّها علّة غير موجبة صحّة ما قال، و ذلك أنّ الله تعالى إنّما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي و جائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه.

و كذلك لا وجه لاعتلال من اعتلّ في ذلك بقرن الكبش أنّه رآه معلّقاً بالكعبة و ذلك أنّه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلّق هنالك، انتهى كلامه.

و ليت شعري كيف خفي عليه أنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا سأل ربّه الولد عند مهاجرته إلى الشام و عنده سارة و لا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله:( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) فسأل ربّه الولد، و لم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتّى تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنّما قال:( رَبِّ هَبْ لِي ) و لم يقل: ربّ هب لي من سارة.

و أمّا ما ذكره أنّ المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضاً. فمع ما سيجي‏ء من الكلام عليه في سائر الموارد الّتي أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإنّ الله سبحانه في هذه الآيات لمّا ذكر البشارة بغلام حليم ثمّ ذكر قصّة الذبح استأنف ثانياً ذكر البشارة بإسحاق و لا يرتاب المتدبّر في هذا السياق أنّ المبشّر به ثانياً غير المبشّر به أوّلاً فقد بشّر إبراهيمعليه‌السلام قبل إسحاق بولد له آخر و ليس إلّا إسماعيل، و قد اتّفق الرواة و النقلة و أهل التاريخ أنّ إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاقعليهم‌السلام جميعاً.

و من ذلك التدافع البيّن فيما تذكره التوراة من أمر إسماعيل فإنّها تصرّح أنّ إسماعيل ولد لإبراهيمعليهما‌السلام قبل أن يولد له إسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاماً و أنّ إبراهيمعليه‌السلام طرده و اُمّه هاجر بعد تولّد إسحاق لمّا استهزأ بسارة ثمّ تسرد قصّة إسكانهما الوادي و نفاد الماء الّذي حملته هاجر و عطش إسماعيل ثمّ إراءة الملك إيّاها الماء،

٢٤٥

و لا يرتاب الناظر المتدبّر في القصّة أنّ إسماعيل كان عندئذ صبيّاً مرضعاً فعليك بالرجوع إليها و التأمّل فيها، و هذا هو الّذي يوافق المأثور من أخبارنا.

٦- الجواب عمّا استشكل على القرآن على أمره: القرآن الكريم يعتني أبلغ الاعتناء بقصّة إبراهيمعليه‌السلام من جهة نفسه و من جهة ابنيه الكريمين إسماعيل و إسحاق و ذرّيّتهما معاً بخلاف ما يتعرّض له في التوراة فإنّها تقصر الخبر عنه بما يتعلّق بإسحاق و شعب إسرائيل، و لا يلتفت إلى إسماعيل إلّا ببعض ما يهوّن أمره و يحقّر شأنه، و مع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لإبراهيمعليه‌السلام أنّ نسلك الباقي إنّما هو من إسحاق، و تارة اُخرى خطابه أنّ الله بارك لنسلك من عقب إسماعيل و سيجعله اُمّة كبيرة، و تارة تعرفه إنساناً وحشيّاً يضادّ الناس و يضادّه الناس قد نشأ رامي قوس مطروداً عن بيت أبيه، و تارة تذكر أنّ الله معه.

و بالتأمّل فيما تقدّم من قصّتهعليه‌السلام في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين اُشكل بهما على الكتاب العزيز:

الإشكال الأوّل ما ذكره بعض المستشرقين(١) أنّ القرآن في سوره المكّيّة لا يتعرّض لشأن إبراهيم و إسماعيلعليهما‌السلام إلّا كما يتعرّض لشأن سائر الرسل من أنّهم كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس و يدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة و صلته بإسماعيل و كونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة و الملّة الحنيفيّة. لكنّ السور المدينة كالبقرة و الحجّ و غيرهما تذكر إبراهيم و إسماعيل متّصلين اتّصال الاُبوّة و البنوّة و أبوين للعرب مشرّعين لها دين الإسلام بانيين للكعبة البيت الحرام.

و سرّ هذا الاختلاف أنّ محمّداً كان قد اعتمد على اليهود في مكّة فما لبثوا أن اتّخذوا حياله خطّة عداء فلم يكن له بدّ أن التمس غيرهم ناصراً. هناك هداه ذكاء مسدّد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم و بذلك استطاع أن يخلص من يهوديّة عصره ليصل حبلة بيهوديّة إبراهيم فعدّه أباً للعرب مشيّداً لدينهم الإسلام بانياً لبيتهم المقدّس الّذي في

____________________

(١) نقله النجّار في قصص الأنبياء عن المستشرق هجرونييه و المستشرق فنسنك. في دائرة المعارف الإسلاميّة.

٢٤٦

مكّة لما أنّ هذه المدينة كانت تشغل جلّ تفكيره. انتهى ملخّصاً.

و قد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية الّتي نسبها إلى الكتاب العزيز الّذي له شهرته العالميّة الّتي لا يتحجّب معها على شرقيّ و لا غربيّ فكلّ باحث متدبّر يشاهد أنّ القرآن الكريم لم يداهن مشركاً و لا يهوديّاً و لا نصرانيّاً و لا غيرهم في سورة مكّيّة و لا مدنيّة و لم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود و لا غيرهم بحسب مكّيّة السور و مدنيّتها.

غير أنّ الآيات القرآنيّة لمّا نزلت نجوماً بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينيّة، و كان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرّض لشؤنهم و الإبانة عن التشديد في حقّهم لا محالة في الآيات النازلة في تضاعيف السور المدنيّة كتفاصيل الأحكام المشرّعة الّتي اُنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث.

و أمّا ما ذكراه من اختصاص حديث اتّصال إسماعيل بإبراهيمعليهما‌السلام و بناء الكعبة و تأسيس الدين الحنيف بالسور المدنيّة فيكذّبه قوله تعالى في سورة إبراهيم و هي مكّيّة فيما حكاه من دعاء إبراهيمعليه‌السلام :( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ - إلى أن قال -رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ - إلى أن قال -الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ) (إبراهيم: ٣٩) و قد مرّ نظيره في الآيات المنقولة من سورة الصافّات آنفاً المنبئة عن قصّة الذبيح.

و أمّا ما ذكراه من يهوديّة إبراهيمعليه‌السلام فإنّ القرآن يردّه بقوله تعالى:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ - إلى أن قال -ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (آل عمران: ٦٧).

الإشكال الثاني: أنّ الصابئين و هم عبدة الكواكب الّذين يذكر القرآن تعرّض إبراهيمعليه‌السلام لآلهتهم بقوله:( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى‏ كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ) إلى

٢٤٧

آخر الآيات إنّما كانوا بمدينة حرّان الّتي هاجر إليها إبراهيمعليه‌السلام من بابل أو من( اُور) و لازمه أن يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدّة من حجاجه عبدة الأصنام و كسره الأصنام و دخوله النار، و لا يلائم ذلك ما هو ظاهر الآيات أنّ قصّة الحجاج مع عبدة الأصنام و الكواكب وقعت جميعاً في يومين عند أوّل شخوصه إلى أبيه و قومه كما تقدّم بيانه.

أقول: و هذا في الحقيقة إشكال على التفسير الّذي تقدّم إيراده في بيان الآيات لا على أصل الكتاب.

و مع ذلك ففيه غفلة عمّا يثبته التاريخ و يعطيه الاعتبار الصحيح أمّا الاعتبار فإنّ المملكة الّتي ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الأديان الشائعة المعروفة كالصابئيّة الّتي كانت يومئذ من الأديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها و وجود جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها.

و أمّا التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنيّة ببابل و وجود معابد كثيرة فيها بنيت على أسماء الكواكب و أصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ أرض بابل و ما والاها ذكر بناء معبد إله الشمس و إله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف و مائتين قبل المسيح، و في نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس و إله القمر و هو ممّا يقرب زمن الخليل إبراهيمعليه‌السلام .

و قد تقدّم فيما نقلناه من كتاب الآثار الباقية لأبي ريحان البيرونيّ(١) : أنّ يوذاسف ظهر عند مضيّ سنة من ملك طهمورث بأرض الهند، و أتى بالكتابة الفارسيّة، و دعا إلى‏ ملّة الصابئين فاتبعه خلق كثير، و كانت الملوك البيشداديّة و بعض الكيانيّة ممّن كان يستوطن بلخ يعظّمون النيّرين و الكواكب و كلّيّات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسف.

و ساق الكلام إلى أن قال: و ينسبون التدبير إلى الفلك و أجرامه و يقولون بحياتها و نطقها و سمعها و بصرها، و يعظّمون الأنوار، و من آثارهم القبّة الّتي فوق المحراب عند

____________________

(١) في بحث تاريخي في ذيل الآية ٦٢ من سورة البقرة.

٢٤٨

المقصورة من جامع دمشق كان مصلّاهم، و كان اليونانيّون و الروم على دينهم، ثمّ صارت في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم، ثمّ تغلّب عليها النصارى فصيّروها بيعة إلى أن جاء الإسلام و أهله فاتّخذوها مسجداً.

و كانت لهم هياكل و أصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبومعشر البلخيّ في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبكّ كان لصنم الشمس، و قران فإنّها منسوبة إلى القمر و بناؤها على صورته كالطيلسان، و بقربها قرية تسمّى سلمسين و اسمها القديم: صنم سين أي صنم القمر: و قرية اُخرى تسمّى ترع عوز أي باب الزهرة.

و يذكرون أنّ الكعبة و أصنامها كانت لهم، و عبدتها كانوا من جملتهم و أنّ اللات كان باسم زحل، و العزّى باسم الزهرة، انتهى.

و ذكر المسعوديّ أنّ مذهب الصابئة كان نوعاً من التحوّل و التكامل في دين الوثنيّة و أنّ الصبوة ربّما كانت تتحوّل إلى الوثنيّة لتقارب مأخذيهما، و أنّ الوثنيّة ربّما كانوا يعبدون أصنام الشمس و القمر و الزهرة و سائر الكواكب تقرّباً بها إلى آلهتها ثمّ إلى إله الآلهة.

قال في مروج الذهب: كان كثير من أهل الهند و الصين و غيرهم من الطوائف يعتقدون أنّ الله عزّوجلّ جسم، و أنّ الملائكة أجسام لها أقدار و أنّ الله تعالى و ملائكته احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أن اتّخذوا تماثيل و أصناماً على صورة الباري عزّوجلّ و بعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود و الأشكال، و منها على صورة الإنسان و على خلافها من الصور يعبدونها، و قرّبوا لها القرابين، و نذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى و قربها منه.

فأقاموا على ذلك برهة من الزمان و جملة من الأعصار حتّى نبّههم بعض حكمائهم على أنّ الأفلاك و الكواكب أقرب الأجسام المرئيّة إلى الله تعالى و أنّها حيّة ناطقة، و أنّ الملائكة تختلف فيهما بينها و بين الله، و أنّ كلّ ما يحدث في هذا العالم فإنّما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر الله فعظّموها و قرّبوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهراً.

٢٤٩

فلمّا رأوا الكواكب تخفى بالنهار و في بعض أوقات الليل لما يعرض في الجوّ من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناماً و تماثيل على صورها و أشكالها فجعلوا لها أصناماً و تماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، و كلّ صنف منهم يعظّم كوكباً منها، و يقرّب لها نوعاً من القربان خلاف ما للآخر على أنّهم إذا عظّموا ما صوّروا من الأصنام تحرّكت لهم الأجسام العلويّة من السبعة بكلّ ما يريدون، و بنوا لكلّ صنم بيتاً و هيكلاً مفرداً، و سمّوا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب.

و قد ذهب قوم إلى أنّ البيت الحرام هو بيت زحل، و إنّما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظّماً في سائر الأعصار لأنّه بيت زحل، و أنّ زحل تولّاه لأنّ زحل من شأنه البقاء و الثبوت، فما كان له فغير زائل و لا داثر، و عن التعظيم غير حائل و ذكروا اُموراً أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها.

و لمّا طال عليهم العهد عبدوا الأصنام على أنّها تقرّبهم إلى الله و ألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا على ذلك حتّى ظهر يوذاسف بأرض الهند و كان هنديّاً، و كان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى السند ثمّ سار إلى بلاد سجستان و بلاد زابلستان و هي بلاد فيروز بن كبك ثمّ دخل السند ثمّ إلى كرمان.

فتنبّأ و زعم أنّه رسول الله، و أنّه واسطة بين الله و بين خلقه، و أتى أرض فارس، و ذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، و قيل: ذلك في ملك جمّ، و هو أوّل من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدّمنا آنفاً فيما سلف من هذا الكتاب.

و قد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم، و الاشتغال بما علا من العوالم، إذ كان من هناك بدء النفوس و إليها يقع الصدر من هذا العالم، و جدّد يوذاسف عند الناس عبادة الأصنام و السجود لها لشبه ذكرها، و قرّب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل و الخدع.

و ذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم و أخبار ملوكهم: أنّ جمّ الملك أوّل من عظّم

٢٥٠

النار و دعا الناس إلى تعظيمها، و قال: إنّها تشبه ضوء الشمس و الكواكب لأنّ النور عنده أفضل من الظلمة، و جعل للنور مراتب. ثمّ تنازع هؤلاء بعده فعظّم كلّ فريق منهم ما يرون تعظيمه من الأشياء تقرّباً إلى الله بذلك.

ثمّ ذكر المسعوديّ البيوت المعظّمة عندهم و هي سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل، و بيت على جبل مارس بإصبهان، و بيت مندوسان ببلاد الهند، و بيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم القمر، و بيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة، و بيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس، و بيت بأعالي بلاد الصين على اسم العلّة الاُولى.

و اليونان و الروم القديم و الصقالبة بيوت معظّمة بعضهما مبنيّة على اسم الكواكب كالبيت الّذي بتونس للروم الّذي على اسم الزهرة.

ثمّ ذكر المسعوديّ أنّ للصابئين من الحرّانيّين(١) هياكل على أسماء الجواهر العقليّة و الكواكب فمن ذلك هيكل العلّة الاُولى، و هيكل العقل. قال: و من هياكل الصابئة هيكل السلسلة، و هيكل الصورة و هيكل النفس و هذه مدوّرات الشكل، و هيكل زحل مسدّس، و هيكل المشتري مثلّث، و هيكل المرّيخ مربّع مستطيل، و هيكل الشمس مربّع، و هيكل عطارد مثلّث الشكل، و هيكل الزهرة مثلّث في جوف مربّع مستطيل، و هيكل القمر مثمّن الشكل، و للصابئة فيما ذكرنا رموز و أسرار يخفونها، انتهى. و قريب منه ما في الملل و النحل، للشهرستانيّ.

و قد تبيّن ممّا نقلناهأوّلاً: أنّ الوثنيّة كما كانت تعبد أصناماً للآلهة و أرباب الأنواع كذلك كانت تعبد أصنام الكواكب و الشمس و القمر، و كانت عندهم هياكل على أسمائها، و من الممكن أن يكون حجاج إبراهيمعليه‌السلام في أمر الكواكب و القمر و الشمس، مع الوثنيّة العابدين لها المتقرّبين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة بابل أو بلدة اُور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفاً.

____________________

(١) يطلق الحرانيون على الصابئين مطلقاً لاشتهار حران بهذا الدين.

٢٥١

على أنّ ظاهر ما يقصّه القرآن الكريم: أنّ إبراهيمعليه‌السلام حاجّ أباه و قومه و تحمّل أذاهم في الله حتّى اعتزلهم و هجرهم بالمهاجرة من أرضهم إلى الأرض المقدّسة من غير أن يتغرّب من أرضهم إلى حرّان أوّلاً ثمّ من حرّان إلى الأرض المقدّسة، و الّذي ضبطه كتب‏ التاريخ من مهاجرته إلى حرّان أوّلاً ثمّ من حرّان إلى الأرض المقدّسة لا مأخذ له غير التوراة أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيليّة كما هو ظاهر لمن تدبّر تاريخ الطبريّ، و غيره.

على أنّ بعضهم ذكروا أنّ حرّان المذكور في التوراة كان بلداً قرب بابل بين الفرات و خابور، و هو غير حرّان الواقع قرب دمشق الموجود اليوم.(١)

نعم ذكر المسعوديّ أنّ الّذي بقي من هياكلهم - الصابئة - المعظّمة في هذا الوقت - و هو سنة اثنتين و ثلاثين و ثلاثمائة - بيت لهم بمدينة حرّان في باب الرقّة يعرف( بمغليتيا) و هو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليلعليه‌السلام عندهم، و للقوم في آزر و ابنه إبراهيم كلام كثير، انتهى. و لا حجّة في قولهم على شي‏ء.

و ثانياً: أنّه كما أنّ الوثنيّة ربّما كانت تعبد الشمس و القمر و الكواكب كذلك الصابئة كانت تبني بيوتاً و هياكل لعبادة غير الكواكب و القمر و الشمس كالعلّة الاُولى و العقل و النفس و غيرها كالوثنيّة و تتقرّب إليها مثلهم و قد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في ما يصف معبد بابل أنّه كان مشتملاً على ثمانية أبراج بعضها مبنيّة على بعض و أنّ آخر الأبراج و هو أعلاها كان مشتملاً على قبّة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من ذهب، و ليس في القبّة شي‏ء من التماثيل و الأصنام، و لا يبيت فيها أحد إلّا امرأة يزعم الناس أنّ الله هو اختارها للخدمة و وظّفها للملازمة. انتهى. (٢)

و لعلّه كان للعلّة الاُولى المنزّهة عن الهيئات و الأشكال و إن كانوا ربّما يصوّرونه بما يتوهّمونه من الصور كما ذكره المسعوديّ. و قد ثبت أنّ فلاسفتهم

____________________

(١) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس في( حران) .

(٢) تاريخ هيرودوتوس اليوناني المؤلّف في حدود ٥٠٠ ق. م.

٢٥٢

كانوا ينزّهون الله تعالى عن الهيئات الجسمانيّة و الأشكال و الأوضاع المادّيّة و يصفونه بما يليق به من الصفات غير أنّهم كانوا يتّقون العامّة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إمّا لعدم استعداد أفهامهم لتلقّي ذلك، أو لمقاصد و أغراض سياسيّة توجب كتمان الحقّ.

٢٥٣

( سورة الأنعام الآيات ٨٤ - ٩٠)

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ  كُلًّا هَدَيْنَا  وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ  وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ  كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا  وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ  وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ  وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ  فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ  فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ  قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا  إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ )

( بيان)

اتّصال الآيات بما قبلها واضح لا يحتاج إلى بيان فهي من تتمّة حديث إبراهيمعليه‌السلام ، و الآيات و إن اشتملت على بعض الامتنان عليه و على من عدّ معه من الأنبياء كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) و قوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) و قوله:( وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) إلى غير ذلك لكنّها ليست مسوقة لذلك فحسب كما يظهر من بعض المفسّرين بل لبيان النعم الجسيمة و الأيادي الجميلة الإلهيّة الّتي يتعقّبها التوحيد الفطريّ و الاهتداء بالهداية الإلهيّة.

فإنّ ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة الّتي تبيّن فيها مسألة التوحيد على ما

٢٥٤

تهدي إليه الفطرة الّتي فطر الناس عليها، و قد تقدّم أنّ قصّة إبراهيمعليه‌السلام بالنسبة إلى الآيات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عامّ.

و في سياق الآيات مضافاً إلى بيان التوحيد بيان أنّ عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة متّصلة ركّبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهيّة و عناية خاصّة ربّانيّة حفظ الله بها الفطرة الإلهيّة من أن تضيع بالأهواء الشيطانيّة، و تسقط رأساً من الفعليّة فيبطل بذلك غرض الخلقة و يذهب سدىً كما يشعر بذلك قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُ ) إلخ، و قوله:( وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) إلخ، و قوله:( وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ ) و قوله:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ) إلخ.

و في طيّ الآيات بيان ما تمتاز به الهداية الإلهيّة من غيرها من الخصائص و هي الاجتباء و استقامة الصراط و إيتاء الكتاب و الحكم و النبوّة على ما سيجي‏ء من البيان إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ) إسحاق هو ابن إبراهيم و يعقوب هو ابن إسحاقعليهم‌السلام ، و قوله:( كُلًّا هَدَيْنا ) قدم فيه كلّاً للدلالة على أنّ الهداية الإلهيّة تعلّقت بكلّ واحد من المعدودين استقلالاً لا أنّها تعلّقت ببعضهم استقلالاً كإبراهيم و بغيره بتبعه، فهو بمنزلة أن يقال: هدينا إبراهيم و هدينا إسحاق و هدينا يعقوب. كما قيل.

قوله تعالى: ( وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ) فيه إشعار بأنّ سلسلة الهداية غير منقطعة و لا مبتدئة من إبراهيمعليه‌السلام بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوحعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ - إلى قوله -وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) الضمير في( ذُرِّيَّتِهِ ) راجع إلى نوح ظاهراً لأنّه المرجع القريب لفظاً، و لأنّ في المعدودين من ليس هو من ذرّيّة إبراهيم مثل لوط و إلياس على ما قيل.

و ربّما قيل: إنّ الضمير يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام و قد ذكر لوط و إلياسعليهما‌السلام من الذرّيّة تغليباً قال:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ ) (العنكبوت: ٢٧) أو أنّ المراد بالذرّيّة هم الستّة المذكورون في هذه الآية دون الباقين،

٢٥٥

و أمّا قوله:( وَ زَكَرِيَّا ) إلخ، و قوله:( وَ إِسْماعِيلَ ) إلخ، فمعطوفان على قوله: و من( ذُرِّيَّتِهِ ) لا على قوله:( داوُدَ ) إلخ، و هو بعيد من السياق.

و أمّا قوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فالظاهر أنّ المراد بهذا الجزاء هو الهداية الإلهيّة المذكورة، و إليها الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) و الإتيان بلفظ الإشارة البعيد لتفخيم أمر هذه الهداية فهو نظير قوله:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) (الرعد: ١٧) و المعنى نجزي المحسنين على هذا المثال.

قوله تعالى: ( وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‏ وَ عِيسى‏ وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) تقدّم الكلام في معنى الإحسان و الصلاح فيما سلف من المباحث و في ذكر عيسى بين المذكورين من ذرّيّة نوحعليهما‌السلام و هو إنّما يتّصل به من جهة اُمّه مريم دلالة واضحة على أنّ القرآن الكريم يعتبر أولاد البنات و ذرّيّتهن أولاداً و ذرّيّة حقيقة، و قد تقدّم استفادة نظير ذلك من آية الإرث و آية محرّمات النكاح، و للكلام تتمّة ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) الظاهر أنّ المراد بإسماعيل هو ابن إبراهيم أخو إسحاقعليهم‌السلام و قوله:( الْيَسَعَ ) بفتحتين كأسد و قرئ( الليسع) كالضيغم أحد أنبياء بني إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيلعليهما‌السلام كما في قوله:( وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) ( ص: ٤٨) و لم يذكر شيئاً من قصّته في كلامه.

و أمّا قوله:( وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) فالعالم هو الجماعة من الناس كعالم العرب و عالم العجم و عالم الروم، و معنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم لما أنّ الهداية الخاصّة الإلهيّة أخذتهم بلا واسطة، و أمّا غيرهم فإنّما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم، و يمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنّهم طائفة مهديّة بالهداية الفطريّة الإلهيّة من غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإنّ الهداية الإلهيّة من غير واسطة نعمة يتقدّم بها من تلبّس بها على من لم يتلبّس، و قد شملت المذكورين من الأنبياء و من لحق بهم من آبائهم و ذرّيّاتهم و إخوانهم

٢٥٦

فالمجتمع الحاصل منهم مفضّل على غيرهم جميعاً بتفضيل إلهيّ.

و بالجملة الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبّس بتلك الهداية الإلهيّة الّتي لا واسطة فيها، و الأنبياء فضّلوا على غيرهم بسبب التلبّس بها فلو فرض تلبّس من غيرهم بهذه الهداية كالملائكة كما ربّما يظهر من كلامه تعالى و كالأئمّة على ما تقدّم في البحث عن قوله تعالى:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) (البقرة: ١٢٤) في الجزء الأوّل من الكتاب فلا يفضّل عليهم الأنبياءعليهم‌السلام من هذه الحيثيّة و إن أمكن أن يفضّلوا عليهم من جهة اُخرى غير جهة الهداية.

و من هنا يظهر: أنّ استدلال بعضهم بالآية على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة ليس في محلّه.

و يظهر أيضاً أنّ المراد بالتفضيل إنّما هو التفضيل من حيث الهداية الإلهيّة الخاصّة الّتي أخذتهم من غير توسّط أحد، و أمّا كونهم أهل الاجتباء و أهل الصراط المستقيم و أهل الكتاب و الحكم و النبوّة فأمر خارج عن مصبّ التفضيل المذكور في هذه الآية.

و اعلم أنّ الّذي وقع في الآيات الثلاث من ذكر من عدّده الله تعالى من الأنبياء بأسمائهم - و هم سبعة عشر نبيّاً - لم يراع فيه الترتيب الّذي بينهم لا بحسب الزمان و هو ظاهر، و لا بحسب الرتبة و الفضيلة فإنّ فيهم نوحاً و موسى و عيسىعليهم‌السلام ، و هم أفضل من باقي المذكورين بنصّ الكتاب كما تقدّم في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب و قد قدّم عليهم غيرهم في الذكر.

و قد ذكر صاحب المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الآيات الثلاث بين الأنبياء المسمّين فيها - و هم أربعة عشر نبيّاً - ما ملخّصه: أنّه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كلّ قسم منهم.

فالقسم الأوّل: داود و سليمان و أيّوب و يوسف و موسى و هارون، و المعنى الجامع بينهم أنّ الله تعالى آتاهم الملك و الإمارة و الحكم و السيادة مع النبوّة و الرسالة، و قد قدّم ذكر داود و سليمان و كانا ملكين غنيّين منعّمين، و ذكر بعدهما أيّوب و يوسف، و كان

٢٥٧

أيّوب أميراً غنيّاً عظيماً محسناً، و كان يوسف وزيراً عظيماً و حاكماً متصرّفاً، و قد ابتليا بالضرّاء فصبرا و بالسرّاء فشكرا، و بعد ذلك موسى و هارون و كانا حاكمين في قومهما و لم يكونا ملكين.

فكلّ زوجين من هذه الأزواج الثلاثة ممتاز بمزيّة و الترتيب مع ذلك من حيث نعم الدنيا فداود و سليمان كانا أكثر تمتّعاً من نعمها من أيّوب و يوسف، و هما من موسى و هارون، أو الترتيب من حيث الفضل الدينيّ فالظاهر أنّ موسى و هارون أفضل من أيّوب و يوسف، و هما أفضل من داود و سليمان لجمعهما بين الصبر في الضرّاء و الشكر في السراء.

و القسم الثاني: زكريّا و يحيى و عيسى و إلياس، و هؤلاء قد امتازوا بشدّة الزهد في الدنيا، و الإعراض عن لذائذها، و الرغبة عن زينتها، و لذلك خصّهم هنا بوصف الصالحين لأنّ هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم و إن كان كلّ نبيّ صالحاً و محسناً على الإطلاق.

و القسم الثالث: إسماعيل و اليسع و يونس و لوط، و أخّر ذكرهم لعدم الخصوصيّة إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا و سلطانها ما كان للقسم الأوّل، و لا من المبالغة من الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخّصاً.

و في تفسير الرازيّ، ما يقرب منه و إن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره الرازيّ، و يرد على ما ذكراه جميعاً أنّهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصيّة له يمتاز به و هو غير مستقيم فإنّ إسماعيلعليه‌السلام قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله تعالى به قال تعالى:( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ - إلى أن قال -إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) (الصافّات: ١٠٨) و هذا من الخصائص الفاخرة الّتي اختصّ الله بها إسماعيلعليه‌السلام ، و بلاء مبين امتاز به حتّى جعل الله تعالى التضحية في الحجّ طاعة عامّة مذكّرة لمحنته في جنب الله و ترك عليه في الآخرين على أنّه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة

٢٥٨

و كفى به ميزاً.

و كذلك يونس النبيّعليه‌السلام امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحداً من أنبيائه و هو ما التقمه الحوت فنادى في الظّلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين.

و أمّا لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أوّل أمره مع إبراهيمعليهما‌السلام حتّى هاجر قومه و أرضه في صحابته، ثمّ أرسله الله إلى أهل سدوم و ما والاه مهد الفحشاء الّتي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتّى إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين و هو من بيت لوط خلا امرأته.

و أمّا اليسع فلم يذكر له في القرآن قصّة، و إنّما ورد في بعض الروايات أنّه كان وصيّ إلياس و قد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريمعليه‌السلام من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و قد ابتلى الله قومه بالسنة و القحط العظيم.

فالأحسن أن يتمّم الوجه المذكور لترتيب الأسماء المعدودة في الآية بأن يقال: إنّ الطائفة الاُولى المذكورين - و هم ستّة - اختصّوا بالملك و الرئاسة مع الرسالة، و الطائفة الثانية - و هم أربعة - امتازوا بالزهد في الدنيا و الإعراض عن زخارفها، و الطائفة الثالثة - و هم أربعة - اُولو خصائص مختلفة و محن إلهيّة عظيمة يختصّ كلّ بشي‏ء من المميّزات و الله أعلم.

ثمّ إنّ الّذي ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى و هارون على أيّوب و يوسف، و تفضيلهما على داود و سليمان بما ذكره من الوجه، و كذا جعله الصلاح بمعنى الزهد و الإحسان كلّ ذلك ممنوع لا دليل عليه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ ) هذا التعبير يؤيّد ما قدّمناه أنّ المراد بيان اتّصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنّهم متّصلون بهم باُبوّة أو بنوّة أو اُخوّة.

قوله تعالى: ( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال الراغب في المفردات: يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته و الحوض الجامع له جابية و جمعها( جواب) قال الله

٢٥٩

تعالى:( وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ ) ، و منه أستعير جبيت الخراج جباية و منه قوله تعالى:( يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) ، و الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عزّوجلّ:( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ) .

قال: و اجتباء الله العبد تخصيصه إيّاه بفيض إلهيّ يتحصّل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد، و ذلك للأنبياء و بعض من يقارنهم من الصدّيقين و الشهداء كما قال تعالى:( وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) و قوله تعالى:( ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏ ) ، و قال عزّوجلّ:( يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) ، انتهى.

و الّذي ذكره من معنى الاجتباء و إن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنّه لازم المعنى الأصليّ بحسب انطباقه على صنعه فيهم و الّذي يعطيه سياق الآيات أنّ العناية تعلّقت بمعنى الكلمة الأصليّ و هو الجمع من مواضع و أمكنة مختلفة متشتّتة فيكون تمهيداً لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنّه يقول: و جمعناهم على تفرّقهم حتّى إذا اجتمعوا و انضمّ بعضهم إلى بعض هديناهم جميعاً إلى صراط كذا و كذا.

و ذلك لما عرفت أنّ المقصود بالسياق بيان اتّصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطريّة الإلهيّة، و المناسب لذلك أن يتصوّر لهم اجتماع و توحّد حتّى تشمل جمعهم الرحمة الإلهيّة، و يهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطاً واحداً مستقيماً لا اختلاف فيه أصلاً فلا يختلف بحسب الأحوال، و لا بحسب الأزمان، و لا بحسب الأجزاء، و لا بحسب الأشخاص السائرين فيه، و لا بحسب المقصد.

و ذلك أنّ صراطهم الّذي هداهم الله إليه و إن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة و ضيقاً إلّا أنّ ذلك إنّما هو بحسب الإجمال و التفصيل و قلّة استعداد الاُمم و كثرته، و الجميع متّفق في حقيقة واحدة و هو التوحيد الفطريّ و العبوديّة الّتي تهدي إليه البنية الإنسانيّة بحسب نوع الخلقة الّتي أظهرها الله سبحانه على ذلك و من المعلوم أنّ الخلقة الإنسانيّة بما أنّها خلقة إنسانيّة لا تتغيّر و لا تتبدّل تبدّلاً يقضي بتبدّل اُصول الشعور و الإرادة الإنسانيّين فحواسّ الإنسان الظاهرة و إحساساته و عواطفه الباطنة و مبدأ القضاء

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423