الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88528 / تحميل: 8144
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ثمّ إنّ بعيره دخلت يده في شبكة جردان فهوى و وقع الرجل على هامته فمات فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا من الّذين عملوا قليلاً و اُجروا كثيراً، هذا من الّذين قال الله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) إنّي رأيت الحور العين يدخلن في فيه من ثمار الجنّة فعلمت أنّ الرجل مات جائعاً.

أقول: و رواه أيضاً عن الحكيم الترمذيّ و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس نحوه، و رواه العيّاشيّ في تفسيره عن جابر الجعفيّ عمّن حدّثه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيميّ أنّ رجلاً سأل عنها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسكت حتّى جاء رجل فأسلم فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى قاتل فاستشهد فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا منهم من الّذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم.

و فيه، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال: نزلت هذه الآية في إبراهيم و أصحابه خاصّة ليس في هذه الاُمّة.

أقول: و الرواية لا توافق بظاهرها الاُصول الكلّيّة المستخرجة من الكتاب و السنّة فإنّ الآية لا تشتمل بمضمونها على حكم خاصّ تختصّ به اُمّة دون اُمّة كالأحكام الفرعيّة التشريعيّة الّتي ربّما تختصّ بزمان دون زمان، و أمّا الإيمان بما له من الأثر على مراتبه، و كذا الظلم على مراتبه بما لها من سوء الأثر في الإيمان فإنّما ذلك أمر مودع في الفطرة الإنسانيّة لا يختلف باختلاف الأزمنة و الاُمم.

و قال بعض المفسّرين في توجيه الحديث: لعلّ مراده أنّ الله خصّ إبراهيم و قومه بأمن موحّدهم من عذاب الآخرة مطلقاً لا أمن الخلود فيه فقط، و لعلّ سبب هذا - إن صح - أنّ الله تعالى لم يكلّف قوم إبراهيم شيئاً غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنيّة الشديدة لهم في الأحوال الشخصيّة و الأدبيّة و غيرها.

و قد عثر الباحثون على شرائع حمورابي الملك الصالح الّذي كان في عهد إبراهيم و باركه و أخذ منه العشور - كما في سفر التكوين - فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها و أمّا فرض الله الحجّ على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيّين

٢٢١

و أمّا هذه الاُمّة فإنّ من موحّديها من يعذّبون بالمعاصي على قدرها لأنّهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها، انتهى.

و في كلامه من التحكّم ما لا يخفى فقد تقدّم أنّ الملك حمورابي هذا كان يعيش على رأس سنة ألف و سبعمائة قبل المسيح، و إبراهيم كان يعيش على رأس الألفين قبل المسيح تقريباً كما ذكره.

و حمورابي هذا و إن كان ملكاً صالحاً في دينه عادلاً في رعيّته ملتزماً العمل بقوانين وضعها و عمل بإجرائها في مملكته أحسن إجراء و إنفاذ، و هي أقدم القوانين المدنيّة الموضوعة على ما قيل إلّا أنّه كان وثنيّاً، و قد استمدّ بعدّة من آلهة الوثنيّين في ما كتبه بعد الفراغ عن كتابة شريعته على ما عثروا عليه في الآثار المكشوفة في خرائب بابل، و الآلهة الّتي ذكرها في بيانه الموضوع في ختام القانون، و شكرها في أن آتته الملك العظيم و وفقته لبسط العدل و وضع الشريعة، و استعان بها و استمدّ منها في حفظ شريعته عن الزوال و التحريف هي( ميروداخ) إله الآلهة، و( أي) إله القانون و العدل و الإله( زاماما) و الإله( إشتار) إلها الحرب و( شاماش) الإله القاضي في السماء و الأرض و( سين) إله السماوات، و( حاداد) إله الخصب و( نيرغال) إله النصر و( بل) إله القدر و الآلهة( بيلتيس) و الآلهة( نينو) و الإله( ساجيلا) و غيرها.

و الّذي ذكره من أنّ الله لم يكلّف قوم إبراهيم شيئاً غير التوحيد اكتفاءً بتربية شرائعهم المدنيّة إلخ يكذّبه أنّ القرآن يحكي عن لسان إبراهيمعليه‌السلام الصلاة كما في أدعيته في سورة إبراهيم و يذكر أنّ الله أوحى إليه فعل الخيرات و إيتاء الزكاة كما في سورة الأنبياء، و أنّه شرع الحجّ و أباح لحوم الأنعام كما في سورة الحجّ، و كان من شريعته الاعتزال عن المشركين كما في سورة الممتحنة، و كان ينهى عن كلّ ظلم لا ترتضيه الفطرة كما في سورة الأنعام و غيرها، و من شرعه التطهّر كما تشير إليه سورة الحجّ و وردت الأخبار أنّهعليه‌السلام شرع الحنيفيّة و هي عشر خصال: خمس في الرأس و خمس في البدن و منها الختنة، و كان يحيّي بالسلام كما في سورة هود و مريم.

و قد قال الله تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (الحجّ: ٧٨) و قال:( قُلْ بَلْ مِلَّةَ

٢٢٢

إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) (البقرة: ١٣٥) فوصف هذا الدين على ما له من الاُصول و الفروع بأنّه ملّة إبراهيمعليه‌السلام ، و هذا و إن لم يدلّ على أنّ هذا الدين على ما فيه من تفاصيل الأحكام كان مشرّعاً في زمن إبراهيمعليه‌السلام بل الأمر بالعكس كما يدلّ عليه قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) (الشورى: ١٣) إلّا أنّه يدلّ على أنّ شرائعه راجعة إلى أصل أو اُصول كلّيّة تهدي إليها الفطرة ممّا ترتضيه و تأمر به أو لا ترتضيه و تنهى عنه قال تعالى في آخر هذه السورة بعد ما ذكر حججاً على الشرك و جملاً من الأوامر و النواهي الكلّيّة مخاطباً نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام: ١٦١).

و لو كان الأمر على ما ذكره أنّ الله لم يشرّع لإبراهيمعليه‌السلام شريعة بل اكتفى بما بين يديه من القانون المدنيّ الدائر و هو شريعة حمورابي لكانت الشريعة المذكورة ممضاة مصوّبة من عند الله، و كانت من أجزاء دين إبراهيمعليه‌السلام بل الدين الإسلاميّ الّذي شرع في القرآن لأنّه هو ملّة إبراهيم حنيفاً فكانت إحدى الشرائع الإلهيّة و نوعاً من الكتب السماويّة.

و الحقّ الّذي لا مرية فيه أنّ الوحي الإلهيّ كان يعلّم الأنبياء السالفين و اُممهم اُصولاً كلّيّة في المعاش و المعاد كأنواع من العبادة و سنناً كلّيّة في الخيرات و الشرور يهتدي إلى تشخيصها الإنسان السليم العقل من المعاشرة الصالحة و التجنّب عن الظلم و الإسراف و إعانة المستكبرين و نحوها، ثمّ يؤمرون بالدخول في المجتمعات بهذا التجهيز الّذي جهّزوا به، و الدعوة إلى أخذ الخير و الصلاح و رفض الشرّ و الفحشاء و الفساد سواء كانت المجتمعات الّتي دخلوا فيها يدبّرها استبداد الظلمة و الطغاة أو رأفة العدول من السلاطين و سياستهم المنظّمة.

و لم يشرّع تفاصيل الأحكام قبل ظهور الدين الإسلاميّ إلّا في التوراة و فيها أحكام يشابه بعضها بعض ما في شريعة حمورابي غير أنّ التوراة نزّلها الله على موسىعليه‌السلام و كانت محفوظة في بني إسرائيل فقدوها في فتنة بخت نصّر الّتي أفنت جمعهم و خرّبت هيكلهم و لم

٢٢٣

يبق منهم إلّا شرذمة ساقتهم الإسارة إلى بابل فاستعبدوا و اُسكنوا فيه إلى أن فتح الملك كورش بابل و أعتقهم من الأسر و أجاز لهم الرجوع إلى بيت المقدس، و أن يكتب لهم عزراء الكاهن التوراة بعد ما اُعدمت نسخها و نسيت متون معارفها، و قد اعتادوا بقوانين بابل الجارية بين الكلدانيّين.

و مع هذا الحال كيف يحكم بأنّ الله أمضى في الشريعة الكليميّة كثيراً من شرائع حمورابي، و القرآن إنّما يصدّق من هذه التوراة بعض ما فيها، و بعد ذلك كلّه لا مانع من كون بعض القوانين غير السماويّة مشتملاً على بعض المواد الصالحة و الأحكام الحقّة.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) قال: هو الشرك.

و فيه، بطريق آخر عن أبي بصير عنهعليه‌السلام : في الآية قال: بشكّ.

أقول: و رواه العيّاشيّ أيضاً في تفسيره، عن أبي بصير عنهعليه‌السلام .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألت عن قول الله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال: نعوذ بالله يا با بصير أن نكون ممّن لبس إيمانه بظلم، ثمّ قال: اُولئك الخوارج و أصحابهم.

و فيه، عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ) ، قال: الضلال و ما فوقه.

أقول: كأنّ المراد بالضلال في الرواية الشرك الّذي هو أصل كلّ بما ظلم فوقه و ما يزيد عليه من المعاصي و المظالم، أو المراد بالضلال أدنى ما يتحقّق به الظلم من المعاصي، و بما فوقه الشرك الّذي هو المرتبة الشديدة من الضلال فإنّ كلّ معصية ضلال.

و الروايات - كما ترى - تتفنّن في تفسير الظلم في الآية فتارة تفسّرها بالشرك و تارة بالشكّ و تارة بما عليه الخوارج، و في بعضها: أنّ منه ولاية أعدائهم، و كلّ ذلك من شواهد ما قدّمنا أنّ الظلم في الآية مطلق و هو في إطلاقه ذو مراتب بحسب درجات الأفهام.

٢٢٤

( كلام في قصّة إبراهيمعليه‌السلام و شخصيّته)

و فيه أبحاث مختلفة قرآنيّة و اُخرى علميّة و تاريخيّة و غير ذلك.

١- قصّة إبراهيم عليه‌السلام في القرآن: كان إبراهيمعليه‌السلام في طفوليّته إلى أوائل تمييزه يعيش في معزل من مجتمع قومه ثمّ خرج إليهم و لحق بأبيه فوجده و قومه يعبدون الأصنام فلم يرتض منه و منهم ذلك و قد كانت فطرته طاهرة زاكية مؤيّدة من الله سبحانه بالشهود الحقّ و إراءة ملكوت كلّ شي‏ء و بالجملة و بالقول الحقّ و العمل الصالح.

فأخذ يحاجّ أباه في عبادته الأصنام و يدعوه إلى رفضها و توحيد الله سبحانه و اتّباعه حتّى يهديه إلى مستقيم الصراط و يبعّده من ولاية الشيطان، و لم يزل يحاجّه و يلحّ عليه حتّى زبره و طرده عن نفسه و أوعده أن يرجمه إن لم ينته عن ذكر آلهته بسوء و الرغبة عنها.

فتلطّف إبراهيمعليه‌السلام إرفاقاً به و حناناً عليه و قد كان ذا خلق كريم و قول مرضيّ فسلّم عليه و وعده أن يستغفر له و يعتزله و قومه و ما يعبدون من دون الله (مريم: ٤١ - ٤٨).

و قد كان من جانب آخر يحاجّ القوم في أمر الأصنام (الأنبياء: ٥١ - ٥٦، الشعراء: ٦٩ - ٧٧، الصافّات: ٨٣ - ٨٧) و يحاجّ أقواماً آخرين منهم يعبدون الشمس و القمر و الكوكب في أمرها حتّى ألزمهم الحقّ و شاع خبره في الانحراف عن الأصنام و الآلهة (الأنعام: ٧٤ - ٨٢) حتّى خرج القوم ذات يوم إلى عبادة جامعة خارج البلد و اعتلّ هو بالسقم فلم يخرج معهم و تخلّف عنهم فدخل بيت الأصنام فراغ على آلهتهم ضرباً باليمين فجعلهم جذاذاً إلّا كبيراً لهم لعلّهم إليه يرجعون فلمّا تراجعوا و علموا بما حدث بآلهتهم و فتّشوا عمّن ارتكب ذلك قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.

فأحضروه إلى مجمعهم فأتوا به على أعين الناس لعلّهم يشهدون فاستنطقوه فقالوا أ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، و قد

٢٢٥

كان أبقى كبير الأصنام و لم يجذّه و وضع الفاس على عاتقه أو ما يقرب من ذلك ليشهد الحال على أنّه هو الّذي كسر سائر الأصنام.

و إنّما قالعليه‌السلام ذلك و هو يعلم أنّهم لا يصدّقونه على ذلك و هم يعلمون أنّه جماد لا يقدر على ذلك لكنّه قال ما قال ليعقّبه بقوله: فاسألوهم إن كانوا ينطقون حتّى يعترفوا بصريح القول بأنّهم جمادات لا حياة لهم و لا شعور، و لذلك لمّا سمعوا قوله رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنّكم أنتم الظالمون ثمّ نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال: أ فتعبدون من دون الله ما لا يضرّكم و لا ينفعكم اُفّ لكم و لما تعبدون من دون الله أ فلا تعقلون أ تعبدون ما تنحتون و الله خلقكم و ما تعملون.

قالوا حرّقوه و انصروا آلهتكم فبنوا له بنياناً و أسعروا فيه جحيماً من النار و قد تشارك في أمره الناس جميعاً و ألقوه في الجحيم فجعله الله برداً عليه و سلاماً و أبطل كيدهم (الأنبياء: ٥٧ - ٧٠، الصافّات: ٨٨ - ٩٨) و قد اُدخل في خلال هذه الأحوال على الملك، و كان يعبده القوم و يتّخذونه ربّاً فحاجّ إبراهيم في ربّه فقال إبراهيم ربّي الّذي يحيي و يميت فغالطه الملك و قال: أنا اُحيي و اُميت كقتل الأسير و إطلاقه فحاجّه إبراهيم بأصرح ما يقطع مغالطته فقال: إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر (البقرة: ٢٥٨).

ثمّ لمّا أنجاه الله من النار أخذ يدعو إلى الدين الحنيف دين التوحيد فآمن له شرذمة قليلة و قد سمّى الله تعالى منهم لوطاً و منهم زوجته الّتي هاجر بها و قد كان تزوّج بها قبل الخروج من الأرض إلى الأرض المقدّسة(١) .

ثمّ تبرّأ هوعليه‌السلام و من معه من المؤمنين من قومهم و تبرّأ هو من آزر الّذي كان‏ يدعوه أباً و لم يكن بوالده الحقيقيّ(٢) و هاجر و معه زوجته و لوط إلى الأرض المقدّسة

____________________

(١) الدليل على إيمان جمع من قومه به قوله تعالى:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآءُ مِنكُمْ ) (الممتحنة: ٤) و الدليل على تزوّجه قبل الخروج إلى الأرض المقدّسة سؤاله الولد الصالح من ربّه في قوله:( وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَى‏ رَبّي سَيَهْدِينِ رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ ) (الصافّات: ١٠٠).

(٢) و قد تقدّم استفادة ذلك من دعائه المنقول في سورة إبراهيم.

٢٢٦

ليدعو الله سبحانه من غير معارض يعارضه من قومه الجفاة الظالمين (الممتحنة: ٤ الأنبياء:٧١) و بشّره الله سبحانه هناك بإسماعيل و بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب و قد شاخ و بلغه كبر السنّ فولد له إسماعيل ثمّ ولد له إسحاق و بارك الله سبحانه فيه و في ولديه و أولادهما.

ثمّ إنّهعليه‌السلام بأمر من ربّه ذهب إلى أرض مكّة و هي واد غير ذي زرع فأسكن فيه ولده إسماعيل و هو صبيّ و رجع إلى الأرض المقدّسة فنشأ إسماعيل هناك و اجتمع عليه قوم من العرب القاطنين هناك و بنيت بذلك بلدة مكّة.

و كانعليه‌السلام ربّما يزور إسماعيل في أرض مكّة قبل بناء مكّة و البيت و بعد ذلك (البقرة: ١٢٦، إبراهيم: ٣٥ - ٤١) ثمّ بنى بها الكعبة البيت الحرام بمشاركة من إسماعيل و هي أوّل بيت وضع للناس من جانب الله مباركاً و هدى للعالمين فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم و من دخله كان آمناً (البقرة: ١٢٧ - ١٢٩، آل عمران: ٩٦ - ٩٧) و أذّن في الناس بالحجّ و شرّع نسك الحجّ (الحجّ: ٢٦ - ٣٠).

ثمّ أمره الله بذبح ولده إسماعيلعليه‌السلام فخرج معه للنسك فلمّا بلغ معه السعي قال يا بنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلمّا أسلما و تلّه للجبين نودي أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا و فداه الله سبحانه بذبح عظيم (الصافّات: ١٠١ - ١٠٧).

و آخر ما قصّ القرآن الكريم من قصصهعليه‌السلام أدعيته في بعض أيّام حضوره بمكّة المنقولة في سورة إبراهيم (آية: ٣٥ - ٤١) و آخر ما ذكر فيها قولهعليه‌السلام :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) .

٢- منزلة إبراهيم عندالله سبحانه و موقفه العبودي: أثنى الله تعالى على إبراهيمعليه‌السلام في كلامه أجمل الثناء و حمد محنته في جنبه أبلغ الحمد، و كرّر ذكره باسمه في نيّف و ستّين موضعاً من كتابه و ذكر من مواهبه و نعمه عليه شيئاً كثيراً. و هاك جملاً من ذلك: آتاه الله رشده من قبل (الأنبياء: ٥١) و اصطفاه في الدنيا و إنّه في الآخرة

٢٢٧

لمن الصالحين إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين (البقرة: ١٣٠ - ١٣١) و هو الّذي وجّه وجهه إلى ربّه‏ حنيفاً و ما كان من المشركين (الأنعام: ٧٩) و هو الّذي اطمأنّ قلبه بالله و أيقن به بما أراه الله من ملكوت السماوات و الأرض (البقرة: ٢٦٠، الأنعام: ٧٥).

و اتّخذه الله خليلاً (النساء: ١٢٥) و جعل رحمته و بركاته عليه و على أهل بيته و وصفه بالتوفية (النجم: ٣٧) و مدحه بأنّه حليم أوّاه منيب (هود: ٧٣ - ٧٥) و مدحه أنّه كان اُمّة قانتاً لله حنيفاً و لم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه و هداه إلى صراط مستقيم و آتاه في الدنيا حسنة و إنّه في الآخرة لمن الصالحين (النحل: ١٢٠ - ١٢٢).

و كان صدّيقاً نبيّاً (مريم: ٤١) و عدّه الله من عباده المؤمنين و من المحسنين و سلّم عليه (الصافّات: ٨٣ - ١١١) و هو من الّذين وصفهم بأنّهم اُولو الأيدي و الأبصار و أنّه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار (ص: ٤٥ - ٤٦).

و قد جعله الله للناس إماماً (البقرة: ١٢٤) و جعله أحد الخمسة اُولي العزم الّذين آتاهم الكتاب و الشريعة (الأحزاب: ٧، الشورى: ١٣، الأعلى: ١٨ - ١٩) و آتاه الله العلم و الحكمة و الكتاب و الملك و الهداية و جعلها كلمة باقية في عقبه (النساء: ٥٤، الأنعام: ٧٤ - ٩٠، الزخرف: ٢٨) و جعل في ذرّيّته النبوّة و الكتاب (الحديد: ٢٦) و جعل له لسان صدق في الآخرين (الشعراء: ٨٤، مريم: ٥٠) فهذه جمل ما منحه الله سبحانه من المناصب الإلهيّة و مقامات العبوديّة و لم يفصّل القرآن الكريم في نعوت أحد من الأنبياء و الرسل المكرمين و كراماتهم ما فصّل من نعوته و كراماتهعليه‌السلام .

و ليراجع في تفسير كلّ من مقاماته المذكورة إلى ما شرحناه في الموضع المختصّ به فيما تقدّم أو سنشرحه إن شاء الله تعالى فالاشتغال به ههنا يخرجنا عن الغرض المعقود له هذه الأبحاث.

و قد حفظ الله سبحانه حياته الكريمة و شخصيّته الدينيّة بما سمّى هذا الدين القويم بالإسلام كما سمّاهعليه‌السلام و نسبه إليه قال تعالى:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ

٢٢٨

مِنْ قَبْلُ ) (الحجّ: ٧٨) و قال:( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام: ١٦١).

و جعل الكعبة البيت الحرام الّذي بناها قبلة للعالمين و شرّع مناسك الحجّ و هي في الحقيقة أعمال ممثّلة لقصّة إسكانه ابنه و اُمّ ولده و تضحية ابنه إسماعيل و ما سعى به إلى ربّه و التوجّه له و تحمّل الأذى و المحنة في ذاته كما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ ) الآية (البقرة: ١٢٥) في الجزء الأوّل من الكتاب.

٣- أثره المبارك في المجتمع البشري: و من مننهعليه‌السلام السابغة أنّ دين التوحيد ينتهي إليه أينما كان و عند من كان فإنّ الدين المنعوت بالتوحيد اليوم هو دين اليهود، و ينتهي إلى الكليم موسى بن عمرانعليه‌السلام و ينتهي نسبه إلى إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيمعليهم‌السلام ، و دين النصرانيّة و ينتهي إلى المسيح عيسى بن مريمعليهما‌السلام و هو من ذرّيّة إبراهيمعليه‌السلام ، و دين الإسلام و الصادع به هو محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ينتهي نسبه إلى إسماعيل الذبيح بن إبراهيم الخليلعليهما‌السلام ، فدين التوحيد في الدنيا أثره الطيّب المبارك، و يشاهد في الإسلام من شرائعه الصلاة و الزكاة و الحجّ و إباحة لحوم الأنعام و التبرّي من أعداء الله، و السلام، و الطهارات العشر الحنيفيّة البيضاء خمس(١) منها في الرأس و خمس منها في البدن: أمّا الّتي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طمّ الشعر و السواك و الخلال و أمّا الّتي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء.

و البحث المستوفى يؤيّد أنّ السنن الصالحة من الاعتقاد و العمل في المجتمع البشريّ كائنة ما كانت من آثار النبوّة الحسنة كما تكرّرت الإشارة إليه في المباحث المتقدّمة، فلإبراهيمعليه‌السلام الأيادي الجميلة على جميع البشر اليوم علموا بذلك أو جهلوا.

٤- ما تقصّه التوراة الموجودة في إبراهيم: قالت التوراة: و عاش تارح (أبو إبراهيم) سبعين سنة و ولد أبرام و ناحور و هاران، و هذه مواليد تارح: ولد تارح أبرام و ناحور

____________________

(١) رواها في مجمع البيان نقلاً عن تفسير القمّيّ.

٢٢٩

و هاران، و ولد هاران لوطاً، و مات هاران قبل أبيه في أرض ميلاده في( اُور) الكلدانيّين و اتّخذ أبرام و ناحور لأنفسهما امرأتين اسم امرأة أبرام( ساراي) و اسم امرأة ناحور ملكة بنت هاران أبي ملكة و أبي بسكة، و كانت ساراي عاقراً ليس لها ولد و أخذ تارح أبرام ابنه و لوطاً بن هاران ابن ابنه، و ساراي كنته امرأة أبرام ابنه فخرجوا معاً من اُور الكلدانيّين ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى حاران و أقاموا هناك، و كانت أيّام تارح مائتين و خمس سنين، و مات تارح في حاران.

قالت التوراة: و قال الربّ لأبرام: اذهب من أرضك و من عشيرتك و من بيت‏ أبيك إلى الأرض الّتي اُريك فأجعلك اُمّة عظيمة و اُباركك و اُعظّم اسمك و تكون بركة و اُبارك مباركيك، و لاعنك ألعنه، و يتبارك فيك جميع قبائل الأرض، فذهب أبرام كما قال له الربّ، و ذهب معه لوط، و كان أبرام ابن خمس و سبعين سنة لمّا خرج من حاران فأخذ أبرام ساراي امرأته و لوطاً ابن أخيه و كلّ مقتنياتهما الّتي اقتنيا و النفوس الّتي امتلكا في حاران، و خرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان فأتوا إلى أرض كنعان.

و اجتاز أبرام في أرض إلى مكان( شكيم) إلى( بلّوطه مورة) و كان الكنعانيّون حينئذ في الأرض، و ظهر الربّ لأبرام و قال: لنسلك اُعطى هذه الأرض فبنى هناك مذبحاً للربّ الّذي ظهر له، ثمّ نقل من هناك إلى الجبل شرقيّ( بيت إيل) و نصبت خيمته و له( بيت إيل) من المغرب و( عاي) من المشرق فبنى هناك مذبحاً للربّ و دعا باسم الربّ، ثمّ ارتحل أبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب.

و حدث جوع في الأرض فانحدر أبرام إلى مصر ليغرّب هناك لأنّ الجوع في الأرض كان شديداً، و حدث لمّا قرب أن يدخل مصر أنّه قال لساراي امرأته: إنّي قد علمت أنّك امرأة حسنة المنظر فيكون إذا رآك المصريّون أنّهم يقولون: هذه امرأته فيقتلونني و يستبقونك، قولي: إنّك اُختي ليكون لي خير بسببك و تحيا نفسي من أجلك، فحدث لمّا دخل أبرام إلى مصر أنّ المصريّين رأوا المرأة أنّها حسنة جدّاً و رآها رؤساء فرعون و مدحوها لدى فرعون فاُخذت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى أبرام خيراً بسببها و صار

٢٣٠

له غنم و بقر و حمير و عبيد و إماء و اُتن و جمال.

فضرب الربّ فرعون و بيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام فدعا فرعون أبرام و قال: ما هذا الّذي صنعت لي؟ لما ذا لم تخبرني أنّها امرأتك؟ لما ذا قلت: هي اُختي حتّي أخذتها لتكون زوجتي؟ و الآن هو ذا امرأتك خذها و اذهب، فأوصى عليه رجالاً فشيعوه و امرأته و كلّ ما كان له.

ثمّ ذكرت التوراة: أنّ أبرام خرج من مصر و معه ساراي و لوط و معهم الأغنام و الخدم و الأموال العظيمة و وردوا( بيت إيل) المحلّ الّذي كانت فيه خيمته مضروبة بين( بيت إيل) و( عاي) ثمّ بعد حين تفرّق هو و لوط لأنّ الأرض ما كانت تسعهما فسكن أبرام كنعان، و كان الكنعانيّون و الفرزيّون ساكنون هناك، و نزل لوط أرض سدوم.

ثمّ ذكرت: أنّه في تلك الأيّام نشبت حرب في أرض سدوم بين( أمرافل) ملك شنعار و معه ثلاثة من الملوك، و بين بارع ملك سدوم و معه أربعة من الملوك المتعاهدين فانهزم ملك سدوم و من معه انهزاماً فاحشاً و هربوا من الأرض بعد ما قتل من قتل منهم و نهبت أموالهم و سبيت نساؤهم و ذراريّهم، و كان فيمن أسر لوط و جميع أهله و نهبت أمواله.

قالت التوراة: فأتى من نجا و أخبر أبرام العبرانيّ و كان ساكناً عند( بلّوطات ممري) الآموريّ أخي( أشكول) و أخي( عانر) و كانوا أصحاب عهد مع أبرام، فلمّا سمع أبرام أنّ أخاه سبي جرّ غلمانه المتمرّنين ولدان بيته ثلاثمائة و ثمانية عشر و تبعهم إلى( دان) و انقسم عليهم هو و عبيده فكسّرهم و تبعهم إلى( حوبة) الّتي عن شمال دمشق و استرجع كلّ الأموال و استرجع لوطاً أخاه أيضاً و أملاكه و النساء أيضاً و الشعب.

فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من( كسرة كدر لعومر) و الملوك الّذين معه إلى عمق( شوى) الّذي هو عمق الملك، و ملكي(١) صادق ملك( شاليم) أخرج خبزاً

____________________

(١) اسم لأحد الملوك المعاصر لهعليه‌السلام .

٢٣١

و خمراً و كان كاهناً لله العليّ و باركه و قال: مبارك أبرام من الله العليّ مالك السماوات و الأرض و مبارك الله العليّ الّذي أسلم أعداءك في يدك فأعطاه عشراً من كلّ شي‏ء.

و قال ملك سدوم لأبرام: أعطني النفوس، و أمّا الأملاك فخذها لنفسك فقال أبرام لملك سدوم: رفعت يدي إلى الربّ الإله العليّ ملك السماء و الأرض لا آخذنّ لا خيطاً و لا شراك نعل و لا من كلّ ما هو لك فلا تقول: أنا أغنيت أبرام ليس لي غير الّذي أكله الغلمان و أمّا نصيب الرجال الّذين ذهبوا معي( عابر) و( أسلول) و( ممرا) فهم يأخذون نصيبهم.

إلى أن قالت: و أمّا ساراي فلم تلد له و كانت لها جارية مصريّة اسمها هاجر فقالت ساراي لأبرام: هو ذا الربّ قد أمسكني عن الولادة أدخل على جاريتي لعلّي اُرزق منها بنين فسمع أبرام لقول ساراي فأخذت ساراي امرأة أبرام هاجر المصريّة جاريتها من بعد عشر سنين لإقامة أبرام في أرض كنعان و أعطتها لأبرام رجلها زوجة له فدخل على هاجر فحبلت.

ثمّ ذكرت: أنّ هاجر لمّا حبلت حقّرت ساراي و استكبرت عليها فشكت ساراي‏ ذلك إلى أبرام ففوّض أبرام أمرها إليها فهربت هاجر منها فلقيها ملك فأمرها بالرجوع إلى سيّدتها و أخبرها أنّها ستلد ولداً ذكراً و تدعو اسمه إسماعيل لأنّ الربّ قد سمع لمذلّتها، و أنّه يكون إنساناً وحشيّاً يضادّ الناس و يضادّونه، و ولدت هاجر لأبرام ولداً و سمّاه أبرام إسماعيل و كان أبرام ابن ستّ و سبعين سنة لمّا ولدت هاجر إسماعيل لأبرام.

قالت التوراة: و لمّا كان أبرام ابن تسع و تسعين سنة ظهر الربّ لأبرام و قال له: أنا الله القدير سر أمامي و كن كاملاً فأجعل عهدي بيني و بينك و اُكثرك كثيراً جدّاً فسقط أبرام على وجهه و تكلّم الله معه قائلاً: أمّا أنا فهو ذا عهدي معك و تكون أباً لجمهور من الاُمم، فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم لأنّي أجعلك أباً لجمهور من الاُمم و اُثمرك كثيراً جدّاً و أجعلك اُمماً، و ملوك منك يخرجون، و اُقيم عهدي بيني و بينك و بين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبديّاً لأكون إلهاً لك و لنسلك من بعدك

٢٣٢

و اُعطي لك و لنسلك من بعد أرض غربتك كلّ أرض كنعان ملكاً أبديّاً و أكون إلههم.

ثمّ ذكرت: أنّ الربّ جعل في ذلك عهداً بينه و بين إبراهيم و نسله أن يختتن هو و كلّ من معه و يختنوا أولادهم اليوم الثامن من الولادة فختن إبراهيم و هو ابن تسع و تسعين سنة و ختن ابنه إسماعيل و هو ابن ثلاث عشرة سنة و سائر الذكور من بنيه و عبيده.

قالت التوراة: و قال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة و اُباركها و أعطيت أيضاً منها ابناً، و اُباركها فتكون اُمماً و ملوك شعوب منها يكونون، فسقط إبراهيم على وجهه و ضحك و قال في قلبه: و هل يولد لابن مائة سنة؟ هل تلد سارة و هي بنت تسعين سنة؟.

و قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً و تدعو اسمه إسحاق، و اُقيم عهدي معه عهداً أبديّاً لنسله من بعده و أمّا إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا اُباركه و اُثمره و اُكثّره كثيراً جدّاً، إثنا عشر رئيساً يلد و أجعله اُمّة كبيرة، و لكن عهدي اُقيمه مع إسحاق الّذي تلده سارة في هذا الوقت في السنة الآتية، فلمّا فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم.

ثمّ ذكرت قصّة نزول الربّ مع الملكين لإهلاك أهل سدوم قوم لوط و أنّهم وردوا على إبراهيم فضافهم و أكلوا من الطعام الّذي عمله لهم من عجل قتله و الزبد و اللّبن اللّذين قدّمهما إليهم ثمّ بشّروه و بشّروا سارة بإسحاق و ذكروا أمر قوم لوط فجادلهم إبراهيم في هلاكهم فأقنعوه و كان بعده هلاك قوم لوط.

ثمّ ذكرت أنّ إبراهيم انتقل إلى أرض( حرار) و تغرّب فيها و أظهر لملكه( أبي مالك) أنّ سارة اُخته فأخذها الملك منه فعاتبها الربّ في المنام فأحضر إبراهيم و عاتبه على قوله: إنّها اُختي فاعتذر أنّه إنّما قال ذلك خوفاً من القتل و اعترف أنّه في الحقيقة اُخته من أبيه دون اُمّه تزوّج بها فردّ إليه سارة و أعطاهما مالاً جزيلاً (نظير ما قصّ في فرعون).

٢٣٣

قالت التوراة: و افتقد الربّ سارة كما قال و فعل الربّ لسارة كما تكلّم فحبلت سارة و ولدت لإبراهيم ابناً في شيخوخته في الوقت الّذي تكلّم الله عنه و دعا إبراهيم اسم ابنه الّذي ولدته له سارة إسحاق، و ختن إبراهيم إسحاق ابنه و هو ابن ثمانية أيّام كما أمره الله، و كان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق ابنه، و قالت سارة: فقد صنع إليّ الله، ضحكاً كلّ من يسمع يضحك لي، و قالت من قال لإبراهيم: سارة ترضع بنين حتّى ولدت ابناً في شيخوخته فكبر الولد و فطم و صنع إبراهيم وليمة عظيمة يوم فطام إسحاق.

و رأت سارة ابن هاجر المصريّة الّذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم: اطرد هذه الجارية و ابنها لأنّ ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق فقبح الكلام جدّاً في عيني إبراهيم لسبب ابنه فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام و من أجل جاريتك في كلّ ما تقول لك سارة اسمع لقولها لأنّه بإسحاق يدعى لك نسل و ابن الجارية أيضاً سأجعله اُمّة لأنّه نسلك.

فبكّر إبراهيم صباحاً و أخذ خبزاً و قربة ماء و أعطاهما لهاجر واضعاً إيّاهما على كتفها و الولد و صرفها فمضت و تاهت في برّيّة بئر سبع و لمّا فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت إحدى الأشجار و مضت و جلست مقابله بعيداً نحو رمية قوس لأنّها قالت: لا أنظر موت الولد فجلست مقابله و رفعت صوتها و بكت فسمع الله صوت الغلام و نادى ملاك الله هاجر من السماء، و قال لها: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأنّ الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي و احملي الغلام و شدّي يدك به لأنّي سأجعله اُمّة عظيمة، و فتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت و ملأت القربة ماءً و سقت الغلام، و كان الله مع الغلام فكبر و سكن في البرّيّة، و كان ينمو رامي قوس، و سكن في برّيّة فاران، و أخذت له اُمّه زوجة من أرض مصر(١) .

قالت التوراة: و حدث بعد هذه الاُمور أنّ الله امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: ها أنا ذا فقال: خذ ابنك وحيدك الّذي تحبّه إسحاق و اذهب إلى أرض المريّا

____________________

(١) و الواقع في روايات المسلمين أنّه تزوّج من الجرهم و هم من عشائر العرب اليمنيّين.

٢٣٤

و أصعده هناك محرقة على أحد الجبال الّذي أقول لك، فبكّر إبراهيم صباحاً و شدّ على حماره و أخذ اثنين من غلمانه معه و إسحاق معه و شقّق حطباً لمحرقة و قام و ذهب إلى الموضع الّذي قال له الله، و في اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه و أبصر الموضع من بعيد فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، أمّا أنا و الغلام فنذهب إلى هناك و نسجد و نرجع إليكما، فأخذ إبراهيم حطب المحرقة و وضعه على إسحاق ابنه و أخذ بيده النار و السكّين فذهبا كلاهما معاً، و كلّم إسحاق أباه إبراهيم و قال له: يا أبي فقال: ها أنا ذا يا ابني فقال: هو ذا النار و الحطب و لكن أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني فذهبا كلاهما معاً.

فلمّا أتيا إلى الموضع الّذي قال له الله بنى هنالك إبراهيم المذبح و رتّب الحطب و ربط إسحاق ابنه و وضعه على المذبح فوق الحطب ثمّ مدّ إبراهيم يده و أخذ السكّين لذبح ابنه فناداه ملاك الربّ من السماء و قال: إبراهيم إبراهيم! فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تمدّ يدك إلى الغلام و لا تفعل به شيئاً لأنّي الآن علمت أنّك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنّي فرفع إبراهيم عينيه و نظر و إذا كبش وراءه ممسكاً في الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم و أخذ الكبش و أصعده محرقة عوضاً عن ابنه فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع( يهوه برأه) حتّى أنّه يقال اليوم في جبل الربّ( بُرىً) ، و نادى ملاك الربّ إبراهيم ثانية من السماء و قال: بذاتي أقسمت يقول الربّ: إنّي من أجل أنّك فعلت هذا الأمر و لم تمسك ابنك وحيدك اُباركك مباركة و أكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء و كالرمل الّذي على شاطئ البحر و يرث نسلك باب أعدائه و يتبارك في نسلك جميع اُمم الأرض من أجل أنّك سمعت لقولي ثمّ رجع إبراهيم إلى غلاميه فقاموا و ذهبوا معاً إلى بئر سبع و سكن إبراهيم في بئر سبع.

ثمّ ذكرت تزويجه إسحاق من عشيرته بكلدان، ثمّ موت سارة و هي بنت مائة و سبع و عشرين في حبرون، ثمّ ازدواج إبراهيم بعدها بقطورة و إيلادها عدّة من البنين، ثمّ موت إبراهيم و هو ابن مائة و خمس و سبعين سنة، و دفن ابنيه إسحاق و إسماعيل إيّاه في غار( مكفيلة) و هو مشهد الخليل اليوم.

٢٣٥

٥- تطبيق ما في التوراة من قصّته من ما في القرآن: فهذه خلاصة قصص إبراهيمعليه‌السلام و تاريخ حياته المورد في التوراة (سفر التكوين الإصحاح الحادي عشر - الإصحاح الخامس و العشرون) و على الباحث الناقد أن يطبّق ما ورد منه فيها على ما قصّه القرآن الكريم ثمّ يرى رأيه.

الّذي تشتمل عليه من القصّة المسرودة على ما فيها من التدافع بين جملها و التناقض بين أطرافها ممّا يصدّق القرآن الكريم فيما ادّعاه أنّ هذا الكتاب المقدّس لعبت به أيدي التحريف.

فمن عمدة ما فيها من المغمض أنّها أهملت ذكر مجاهداته في أوّل أمره و حجاجاته قومه و ما قاساه منهم من المحن و الأذايا، و هي طلائع بارقة لمّاعة من تاريخهعليه‌السلام .

و من ذلك إهمالها ذكر بنائه الكعبة المشرّفة و جعله حرماً آمناً و تشريعه الحجّ، و لا يرتاب أيّ باحث دينيّ و لا ناقد اجتماعيّ أنّ هذا البيت العتيق الّذي لا يزال قائماً على قواعده منذ أربعة آلاف سنة من أعظم الآيات الإلهيّة الّتي تذكر أهل الدنيا بالله سبحانه و آياته، و تستحفظ كلمة الحقّ دهراً طويلاً، و هو أوّل بيت لله تعالى وضع للناس مباركاً و هدىً للعالمين.

و ليس إهمال ذكره إلّا لنزعة إسرائيليّة من كتّاب التوراة و مؤلّفيها دعتهم إلى الصفح عن ذكر الكعبة، و إحصاء ما بناه من المذابح و مذبح بناه بأرض شكيم، و آخر بشرقيّ بيت إيل، و آخر بجبل الربّ.

ثمّ الّذي وصفوا به النبيّ الكريم إسماعيل: أنّه كان غلاماً وحشيّاً يضادّ الناس و يضادّونه، و لم يكن له من الكرامة إلّا أنّه كان مطروداً من حضرة أبيه نما رامي قوس! يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متمّ نوره.

و من ذلك: ما نسبته إليه ممّا لا يلائم مقام النبوّة و لا روح التقوى و الفتوّة كقولها: إنّ ملكي صادق ملك( شاليم) أخرج إليه خبزاً و خمراً و كان كاهناً لله العليّ و باركه.(١)

____________________

(١) ربّما وجّهوا أنّ ملكي صادق هذا كاهن الربّ هو( أمرافل) ملك شنعار المذكور في أوّل القصّة و هو( حمورابي) الملك صاحب الشريعة الّذي هو أحد السلالة الاُولى من ملوك بابل، و قد اختلف في تاريخ ملكه اختلافاً شديداً لا ينطبق أكثر ما قيل فيه زمان حياة إبراهيم و هو (٢٠٠٠) ق م فقد ذكر في كتاب العرب قبل الإسلام أنّه تملك بابل سنة ٢٢٨٧ - ٢٢٣٢ ق م و في شريعة حمورابي نقلاً عن كتاب أقدم شرائع العالم للأستاذ ف. إدوارد أن سني ملكه ٢٢٠٥ - ٢١٦٧ ق. م، و في قاموس أعلام الشرق و الغرب أنّه تولّى سلطنة بابل سنة ١٧٢٨ - ١٦٨٦ ق م و في قاموس الكتاب المقدّس أنّه تولاها سنة ١٩٧٥ - ١٩٢٠ ق م. و أوضح ما ينافي هذا الحدث أنّ الّذي اكتشفوه من النصب في خرائب بابل و عليها شريعة حمورابي تشتمل على ذكر عدّة من آلهة البابليّين، و يدلّ على كون حمورابي من الوثنيّين، و لا يستقيم عليه أن يكون كاهناً للربّ.

٢٣٦

و من ذلك قولها: إنّ إبراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر: أنّ سارة اُخته و وصّى سارة أن تصدّقه في ذلك إذ قال لها: قولي: إنّك اُختي ليكون لي خير بسببك، و تحيا نفسي من أجلك، و أظهر تارة اُخرى لأبي مالك ملك حرار أنّها اُخته، فأخذها للزوجيّة فرعون تارة، و أبو مالك اُخرى، ثمّ ذكرت التوراة تأوّل إبراهيم في قوله:( إنّها اُختي) مرّة بأنّها اُختي في الدين، و اُخرى أنّها ابنة أبي من غير اُمّي فصارت لي زوجة.

و أيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم (و حاشا مقام الخليل) يعرض زوجته سارة لأمثال فرعون و أبي مالك مستغلّاً بها حتّى يأخذاها زوجة و هي ذات بعل و ينال هو بذلك جزيل العطاء و يستدرّهما بما عندهما من الخير!.

على أنّ كلام التوراة صريح في أنّ سارة كانت عندئذ و خاصّة حينما أخذها أبي مالك عجوزاً قد عمّرت سبعين أو أكثر، و العادة تقضي أنّ المرأة تفتقد في سنّ العجائز نضارة شبابها و وضاءة جمالها، و الملوك و الجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالاً الطريّة حسناً.

و ربّما وجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات‏ ففي صحيحي البخاريّ و مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لم يكذب إبراهيم النبيّعليه‌السلام قطّ إلّا ثلاث كذبات‏ اثنتين في ذات الله: قوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) و قوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) و واحدة في شأن سارة فإنّه قدم أرض جبّار و معه سارة و كانت أحسن الناس فقال لها: إنّ هذا الجبّار

٢٣٧

إن يعلم أنّك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنّك اُختي فإنّك اُختي في الإسلام فإنّي لا أعلم في الأرض مسلماً غيرك و غيري، فلمّا دخل أرضه رآها بعض أهل الجبّار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلّا لك فأرسل إليها فاُتي بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلمّا دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي و لا أضرّك ففعلت فعاد فقبضت أشدّ من القبضتين(١) . الاُوليين فقال: ادعي الله أن يطلق يدي فلك الله أن لا اُضرّك ففعلت فاُطلقت يده و دعا الّذي جاء بها فقال له: إنّك إنّما أتيتني بشيطان و لم تأتني بإنسان فأخرجها من أرضي و أعطها هاجر.

قال: فأقبلت تمشي فلمّا رآها إبراهيمعليه‌السلام انصرف و قال لها: مهيم فقالت: خيراً كفّ الله يد الفاجر و أخدم خادماً. قال أبوهريرة: فتلك اُمّكم يا بني ماء السماء.

و في صحيح البخاريّ، بطرق كثيرة عن أنس و أبي هريرة، و في صحيح مسلم، عن أبي هريرة و حذيفة، و في مسند أحمد، عن أنس و ابن عبّاس و أخرجه الحاكم عن ابن مسعود و الطبرانيّ عن عبادة بن الصامت و ابن أبي شيبة عن سلمان، و الترمذيّ عن أبي هريرة، و أبوعوانة عن حذيفة عن أبي بكر حديث شفاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة، و هو حديث طويل فيه: أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يسألونهم الشفاعة عندالله، و كلّما أتوا نبيّاً و سألوه الشفاعة ردّهم إلى من بعده و اعتذر بشي‏ء من عثراته حتّى ينتهوا إلى خاتم النبيّين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجيبهم إلى مسألتهم و في الحديث: أنّهم يأتون إبراهيمعليه‌السلام يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله فيقول لهم: لست هنأكم إنّي كذبت ثلاث كذبات: قوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) و قوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) و قوله لامرأته:( أخبريه أنّي أخوك) .

و الاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما أنّ الأقاويل الثلاث الّتي وصفت فيهما أنّها كذبات ليست كذبات حقيقة بل من قبيل التوريات و المعاريض البديعيّة كما ربّما يلوح من بعض ألفاظ الحديث‏ كالّذي ورد في‏ بعض طرقه من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات كلّها في ذات الله)

____________________

(١) كذا في الأصل المنقول عنه و كأن فيه سقطا.

٢٣٨

و كذا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما منها كذبة إلّا ماحل(١) بها عن دين الله) فما بال إبراهيم في حديث القيامة يعدّها ذنوباً لنفسه و مانعة عن القيام بأمر الشفاعة و يعتذر بها عنها؟ فإنّها على هذا التقدير كانت من محنة في ذات الله و حسناته في الدين لو جاز لنبيّ من الأنبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنّك قد عرفت في ما تقدّم من مباحث النبوّة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أنّ ذلك ممّا لا يجوز على الأنبياءعليهم‌السلام قطعاً لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم و أحاديثهم من أصلها.

على أنّ هذا النوع من الإخبار لو جاز عدّه كذباً و منعه عن الشفاعة عندالله سبحانه كان قولهعليه‌السلام لمّا رأى كوكباً و القمر و الشمس: هذا ربّي و هذا ربّي أولى بأن يعدّ كذباً مانعاً عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى.

على أنّ قولهعليه‌السلام على ما حكاه الله تعالى بقوله:( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) لا يظهر بشي‏ء من قرائن الكلام كونه كذباً غير مطابق للواقع فلعلّهعليه‌السلام كان سقيماً بنوع من السقم لا يحجزه عمّا همّ به من كسر الأصنام.

و كذا قولهعليه‌السلام للقوم إذ سألوه عن أمر الأصنام المكسورة بقولهم:( أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ) فأجابهم و هم يعلمون أنّ أصنامهم من الجماد الّذي لا شعور فيه و لا إرادة له:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) ثمّ أردفه بقوله:( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) لا سبيل إلى عدّه كذباً فإنّه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لإلزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه، و لذا لم يجد القوم بدّاً دون أن اعترفوا بذلك فقالوا:( لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (الأنبياء: ٦٧).

و لو كان المراد أنّ الأقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى، و نحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدّم في الفصل ٢ من الكلام في منزلة إبراهيمعليه‌السلام عند الله تعالى و موقفه العبوديّ ممّا أثنى الله عليه بأجمل الثناء و حمد مقامه أبلغ الحمد.

____________________

(١) أي جادل‏

٢٣٩

و ليت شعري كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوّز أن ينطبق مثل قوله تعالى:( وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) (مريم: ٤١) على رجل كذّاب يستريح إلى كذب القول كلّما ضاقت عليه المذاهب؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلاً لا يراقب الله سبحانه في حقّ أو صدق (حاشا ساحة خليل الله عن ذلك).

و أمّا الأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فإنّها تصدّق التوراة في أصل القصّة غير أنّها تجلّ إبراهيمعليه‌السلام عمّا نسب إليه من الكذب و سائر ما لا يلائم قدس ساحته، و من أجمع ما يتضمّن قصّة الخليلعليه‌السلام ‏ ما في الكافي، عن عليّ عن أبيه و عدّة من أصحابنا عن سهل جميعاً عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخيّ قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ إبراهيمعليه‌السلام كان مولده بكوثاريا(١) و كان أبوه من أهلها، و كانت اُمّ إبراهيم و اُمّ لوطعليهما‌السلام و سارة و ورقة - و في نسخة رقبة - اُختين و هما ابنتان للاحج، و كان لاحج نبيّاً منذراً و لم يكن رسولاً.

و كان إبراهيمعليه‌السلام في شبيبته على الفطرة الّتي فطر الله عزّوجلّ الخلق عليها حتّى هداه الله تبارك و تعالى إلى دينه و اجتباه، و أنّه تزوّج سارة ابنة لاحج و هي ابنة خالته و كانت سارة صاحبة ماشية كثيرة و أرض واسعة و حال حسنة، و كانت قد ملّكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه و أصلحه و كثرت الماشية و الزرع حتّى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالاً منه.

و إنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا كسر أصنام نمرود و أمر به نمرود فاُوثق و عمل له حيراً(٢) و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثمّ قذف إبراهيمعليه‌السلام في النار لتحرقه ثمّ اعتزلوها حتّى خمدت النار ثمّ أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيمعليه‌السلام سليماً مطلقاً من وثاقه فاُخبر نمرود خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيمعليه‌السلام من بلاده، و أن يمنعوه من الخروج

____________________

(١) كانت قرية من أعمال الكوفة و ضبطه الجزري كوثي.

(٢) الحير مخفف الحائر و هو الحائط.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423