الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85310
تحميل: 7375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85310 / تحميل: 7375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بماشيته و ماله فحاجّهم إبراهيمعليه‌السلام عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي و مالي فإنّ حقّي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم، و اختصموا إلى قاضي نمروذ فقضى على إبراهيمعليه‌السلام أن يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، و قضى على أصحاب نمروذ أن يردّوا على إبراهيمعليه‌السلام ما ذهب من عمره في بلادهم، و اُخبر بذلك نمروذ فأمرهم أن يخلّوا سبيله و سبيل ماشيته و ماله و أن يخرجوه، و قال: إنّه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم و أضرّ بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم و لوطاًعليهما‌السلام معه من بلادهم إلى الشام.

فخرج إبراهيم و معه لوط لا يفارقه و سارة، و قال لهم:( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) يعني إلى بيت المقدس فتحمّل إبراهيم بماشيته و ماله و عمل تابوتاً و جعل فيه سارة و شدّ عليها الأغلاق غيرة منه عليها و مضى حتّى خرج من سلطان نمروذ، و سار إلى سلطان رجل من القبط يقال له( عزارة) فمرّ بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه فلمّا انتهى إلى العاشر و معه التابوت قال العاشر لإبراهيمعليه‌السلام : افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه فقال له إبراهيمعليه‌السلام : قل ما شئت فيه من ذهب أو فضّة حتّى نعطي عشره و لا نفتحه. قال: فأبى العاشر إلّا فتحه قال: و غصب(١) إبراهيمعليه‌السلام على فتحه فلمّا بدت له سارة و كانت موصوفة بالحسن و الجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيمعليه‌السلام : هي حرمتي و ابنة خالتي، فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيمعليه‌السلام : الغيرة عليها أن يراها أحد فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتّى اُعلم الملك حالها و حالك.

قال: فبعث رسولاً إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولاً من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيمعليه‌السلام : إنّي لست اُفارق التابوت حتّى يفارق روحي جسدي فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه و التابوت معه فحملوا إبراهيمعليه‌السلام و التابوت و جميع ما كان معه حتّى اُدخل على الملك فقال له الملك: افتح التابوت فقال له إبراهيمعليه‌السلام : أيّها الملك إنّ فيه حرمتي و ابنة خالتي و أنا مفتد فتحه بجميع ما معي.

____________________

(١) بالمعجمة فالمهملة يقال: غصبه على كذا أي قهره.

٢٤١

قال: فغصب الملك إبراهيم على فتحه فلمّا رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مدّ يده إليها فأعرض إبراهيمعليه‌السلام وجهه عنها و عنه غيرة منه و قال: اللّهمّ احبس يده عن حرمتي و ابنة خالتي فلم تصل يده إليها و لم ترجع إليه فقال له الملك: إنّ إلهك هو الّذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم إنّ إلهي غيور يكره الحرام، و هو الّذي حال بينك و بين ما أردته من الحرام فقال له الملك: فادع إلهك يردّ عليّ يدي فإن أجابك فلم أعرض لها فقال إبراهيمعليه‌السلام : إلهي ردّ إليه يده ليكفّ عن حرمتي. قال: فردّ الله عزّوجلّ إليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثمّ عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة منه، و قال: اللّهمّ احبس يده عنها. قال: فيبست يده و لم تصل إليها.

فقال الملك لإبراهيمعليه‌السلام : إنّ إلهك لغيور و إنّك لغيور فادع إلهك يردّ إليّ يدي فإنّه إن فعل لم أعد فقال إبراهيمعليه‌السلام : أسأله ذلك على أنّك إن عدت لم تسألني أن أسأله فقال له الملك: نعم فقال إبراهيمعليه‌السلام : اللّهمّ إن كان صادقاً فردّ يده عليه فرجعت إليه يده.

فلمّا رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى و رأى الآية في يده عظّم إبراهيمعليه‌السلام و هابه و أكرمه و اتّقاه، و قال له: قد أمنت من أن اُعرّض لها أو لشي‏ء ممّا معك فانطلق حيث شئت و لكن لي إليك حاجة فقال إبراهيمعليه‌السلام : ما هي؟ فقال له: اُحبّ أن تأذن لي أن اُخدمها قبطيّة عندي جميلة عاقلة تكون لها خادماً قال: فأذن إبراهيمعليه‌السلام فدعا بها فوهبها لسارة و هي هاجر اُمّ إسماعيلعليه‌السلام .

فسار إبراهيمعليه‌السلام بجميع ما معه، و خرج الملك معه يمشي خلف إبراهيمعليه‌السلام إعظاماً لإبراهيم و هيبة له فأوحى الله تبارك و تعالى إلى إبراهيمعليه‌السلام أن قف و لا تمش قدّام الجبّار المتسلّط و يمشي و هو خلفك، و لكن اجعله أمامك و امش خلفه و عظّمه و هبه فإنّه مسلّط و لا بدّ من إمرة في الأرض برّة أو فاجرة فوقف إبراهيمعليه‌السلام و قال للملك: امض فإنّ إلهي أوحى إليّ الساعة أن اُعظمك و أهابك، و أن اُقدّمك أمامي و أمشي خلفك إجلالاً لك فقال له الملك: أوحي إليك بهذا؟ فقال إبراهيمعليه‌السلام : نعم فقال له الملك: أشهد أنّ إلهك لرفيق حليم كريم و أنّك ترغّبني في دينك.

٢٤٢

قال: و ودّعه الملك فسار إبراهيمعليه‌السلام حتّى نزل بأعلى الشامات، و خلّف لوطاًعليه‌السلام في أدنى الشامات. ثمّ إنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا أبطأ عليه الولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعلّ الله أن يرزقنا منها ولداً فيكون لنا خلفاً، فابتاع إبراهيمعليه‌السلام هاجر من سارة فوقع عليها فولدت إسماعيلعليه‌السلام .

و من ذلك ما ذكرته أعني التوراة في قصّة الذبح أنّ الذبيح هو إسحاق دون إسماعيلعليه‌السلام مع أنّ قصّة إسكانه بأرض تهامة و بنائه الكعبة المشرّفة و تشريع عمل الحجّ الحاكي لما جرى عليه و على اُمّه من المحنة و المشقّة في ذات الله، و قد اشتمل على الطواف و السعي و التضحية كلّ ذلك تؤيّد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاقعليهما‌السلام .

و قد وقع في إنجيل برنابا أنّ المسيح لام اليهود و وبّخهم على قولهم بأنّ الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل ٤٤: فكلّم الله إبراهيم قائلاً: خذ ابنك بكرك إسماعيل و اصعد الجبل لتقدّمه ذبيحة فكيف يكون إسحاق البكر و هو لمّا ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين الفصل ٤٤ آية: ١١ - ١٢.

و أمّا القرآن فإنّ آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيلعليه‌السلام قال تعالى بعد ما ذكر قصّة كسر الأصنام و إلقائه في النار و جعلها برداً و سلاماً:( فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى‏ إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى‏ إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) (الصافّات: ١١٣).

و المتدبّر في الآيات الكريمة لا يجد مناصاً دون أن يعترف أنّ الذبيح هو الّذي ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله:( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) و أنّ البشارة الاُخرى الّتي

٢٤٣

ذكرها أخيراً بقوله:( وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) غير البشارة الاُولى، و الّذي بشّر به في الثانية و هو إسحاقعليه‌السلام غير الّذي بشّر به في الاُولى و أردفها بذكر قصّة التضحية به.

و أمّا الروايات فالّتي وردت منها من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تذكر أنّ الذبيح هو إسماعيلعليه‌السلام ، و الّتي رويت من طرق أهل السنّة و الجماعة مختلفة: فصنف يذكر إسماعيل و صنف يذكر إسحاقعليهما‌السلام غير أنّك عرفت أنّ الصنف الأوّل هو الّذي يوافق الكتاب.

قال الطبريّ في تاريخه: اختلف السلف من علماء اُمّة نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الّذي اُمر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، و قال بعضهم: هو إسماعيل بن إبراهيم. و قد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أنّ الدليل من القرآن على صحّة الرواية الّتي رويت عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: هو إسحاق أوضح و أبين منه على صحّة الاُخرى.

إلى أن قال: و أمّا الدلالة من القرآن الّتي قلنا: إنّها على أنّ ذلك إسحاق أصحّ فقوله تعالى مخبراً عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجراً إلى ربّه إلى الشام مع زوجته سارة قال:( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) و ذلك قبل أن يعرف هاجر، و قبل أن تصير له اُمّ إسماعيل ثمّ أتبع ذلك ربّنا عزّوجلّ الخبر عن إجابة دعائه و تبشيره إيّاه بغلام حليم ثمّ عن رؤيا إبراهيم أنّه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي.

و لا نعلم في كتاب الله عزّوجلّ تبشيراً لإبراهيم بولد ذكر إلّا بإسحاق و ذلك قوله:( وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ) و قوله:( فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ) .

ثمّ ذلك كذلك في كلّ موضع ذكر فيه تبشير إبراهيم بغلام فإنّما ذكر تبشير الله إيّاه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله:( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) نظير

٢٤٤

ما في سائر سور القرآن من تبشيره إيّاه من زوجته سارة.

و أمّا اعتلال من اعتلّ بأنّ الله لم يأمر بذبح إسحاق و قد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته و ولادة يعقوب منه من بعده فإنّها علّة غير موجبة صحّة ما قال، و ذلك أنّ الله تعالى إنّما أمر إبراهيم بذبح إسحاق بعد إدراك إسحاق السعي و جائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمر أبوه بذبحه.

و كذلك لا وجه لاعتلال من اعتلّ في ذلك بقرن الكبش أنّه رآه معلّقاً بالكعبة و ذلك أنّه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلّق هنالك، انتهى كلامه.

و ليت شعري كيف خفي عليه أنّ إبراهيمعليه‌السلام لمّا سأل ربّه الولد عند مهاجرته إلى الشام و عنده سارة و لا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله:( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) فسأل ربّه الولد، و لم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتّى تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنّما قال:( رَبِّ هَبْ لِي ) و لم يقل: ربّ هب لي من سارة.

و أمّا ما ذكره أنّ المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضاً. فمع ما سيجي‏ء من الكلام عليه في سائر الموارد الّتي أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإنّ الله سبحانه في هذه الآيات لمّا ذكر البشارة بغلام حليم ثمّ ذكر قصّة الذبح استأنف ثانياً ذكر البشارة بإسحاق و لا يرتاب المتدبّر في هذا السياق أنّ المبشّر به ثانياً غير المبشّر به أوّلاً فقد بشّر إبراهيمعليه‌السلام قبل إسحاق بولد له آخر و ليس إلّا إسماعيل، و قد اتّفق الرواة و النقلة و أهل التاريخ أنّ إسماعيل ولد لإبراهيم قبل إسحاقعليهم‌السلام جميعاً.

و من ذلك التدافع البيّن فيما تذكره التوراة من أمر إسماعيل فإنّها تصرّح أنّ إسماعيل ولد لإبراهيمعليهما‌السلام قبل أن يولد له إسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاماً و أنّ إبراهيمعليه‌السلام طرده و اُمّه هاجر بعد تولّد إسحاق لمّا استهزأ بسارة ثمّ تسرد قصّة إسكانهما الوادي و نفاد الماء الّذي حملته هاجر و عطش إسماعيل ثمّ إراءة الملك إيّاها الماء،

٢٤٥

و لا يرتاب الناظر المتدبّر في القصّة أنّ إسماعيل كان عندئذ صبيّاً مرضعاً فعليك بالرجوع إليها و التأمّل فيها، و هذا هو الّذي يوافق المأثور من أخبارنا.

٦- الجواب عمّا استشكل على القرآن على أمره: القرآن الكريم يعتني أبلغ الاعتناء بقصّة إبراهيمعليه‌السلام من جهة نفسه و من جهة ابنيه الكريمين إسماعيل و إسحاق و ذرّيّتهما معاً بخلاف ما يتعرّض له في التوراة فإنّها تقصر الخبر عنه بما يتعلّق بإسحاق و شعب إسرائيل، و لا يلتفت إلى إسماعيل إلّا ببعض ما يهوّن أمره و يحقّر شأنه، و مع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لإبراهيمعليه‌السلام أنّ نسلك الباقي إنّما هو من إسحاق، و تارة اُخرى خطابه أنّ الله بارك لنسلك من عقب إسماعيل و سيجعله اُمّة كبيرة، و تارة تعرفه إنساناً وحشيّاً يضادّ الناس و يضادّه الناس قد نشأ رامي قوس مطروداً عن بيت أبيه، و تارة تذكر أنّ الله معه.

و بالتأمّل فيما تقدّم من قصّتهعليه‌السلام في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين اُشكل بهما على الكتاب العزيز:

الإشكال الأوّل ما ذكره بعض المستشرقين(١) أنّ القرآن في سوره المكّيّة لا يتعرّض لشأن إبراهيم و إسماعيلعليهما‌السلام إلّا كما يتعرّض لشأن سائر الرسل من أنّهم كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس و يدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة و صلته بإسماعيل و كونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة و الملّة الحنيفيّة. لكنّ السور المدينة كالبقرة و الحجّ و غيرهما تذكر إبراهيم و إسماعيل متّصلين اتّصال الاُبوّة و البنوّة و أبوين للعرب مشرّعين لها دين الإسلام بانيين للكعبة البيت الحرام.

و سرّ هذا الاختلاف أنّ محمّداً كان قد اعتمد على اليهود في مكّة فما لبثوا أن اتّخذوا حياله خطّة عداء فلم يكن له بدّ أن التمس غيرهم ناصراً. هناك هداه ذكاء مسدّد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم و بذلك استطاع أن يخلص من يهوديّة عصره ليصل حبلة بيهوديّة إبراهيم فعدّه أباً للعرب مشيّداً لدينهم الإسلام بانياً لبيتهم المقدّس الّذي في

____________________

(١) نقله النجّار في قصص الأنبياء عن المستشرق هجرونييه و المستشرق فنسنك. في دائرة المعارف الإسلاميّة.

٢٤٦

مكّة لما أنّ هذه المدينة كانت تشغل جلّ تفكيره. انتهى ملخّصاً.

و قد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية الّتي نسبها إلى الكتاب العزيز الّذي له شهرته العالميّة الّتي لا يتحجّب معها على شرقيّ و لا غربيّ فكلّ باحث متدبّر يشاهد أنّ القرآن الكريم لم يداهن مشركاً و لا يهوديّاً و لا نصرانيّاً و لا غيرهم في سورة مكّيّة و لا مدنيّة و لم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود و لا غيرهم بحسب مكّيّة السور و مدنيّتها.

غير أنّ الآيات القرآنيّة لمّا نزلت نجوماً بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينيّة، و كان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرّض لشؤنهم و الإبانة عن التشديد في حقّهم لا محالة في الآيات النازلة في تضاعيف السور المدنيّة كتفاصيل الأحكام المشرّعة الّتي اُنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث.

و أمّا ما ذكراه من اختصاص حديث اتّصال إسماعيل بإبراهيمعليهما‌السلام و بناء الكعبة و تأسيس الدين الحنيف بالسور المدنيّة فيكذّبه قوله تعالى في سورة إبراهيم و هي مكّيّة فيما حكاه من دعاء إبراهيمعليه‌السلام :( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ - إلى أن قال -رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ - إلى أن قال -الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ) (إبراهيم: ٣٩) و قد مرّ نظيره في الآيات المنقولة من سورة الصافّات آنفاً المنبئة عن قصّة الذبيح.

و أمّا ما ذكراه من يهوديّة إبراهيمعليه‌السلام فإنّ القرآن يردّه بقوله تعالى:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ - إلى أن قال -ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (آل عمران: ٦٧).

الإشكال الثاني: أنّ الصابئين و هم عبدة الكواكب الّذين يذكر القرآن تعرّض إبراهيمعليه‌السلام لآلهتهم بقوله:( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى‏ كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ) إلى

٢٤٧

آخر الآيات إنّما كانوا بمدينة حرّان الّتي هاجر إليها إبراهيمعليه‌السلام من بابل أو من( اُور) و لازمه أن يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدّة من حجاجه عبدة الأصنام و كسره الأصنام و دخوله النار، و لا يلائم ذلك ما هو ظاهر الآيات أنّ قصّة الحجاج مع عبدة الأصنام و الكواكب وقعت جميعاً في يومين عند أوّل شخوصه إلى أبيه و قومه كما تقدّم بيانه.

أقول: و هذا في الحقيقة إشكال على التفسير الّذي تقدّم إيراده في بيان الآيات لا على أصل الكتاب.

و مع ذلك ففيه غفلة عمّا يثبته التاريخ و يعطيه الاعتبار الصحيح أمّا الاعتبار فإنّ المملكة الّتي ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الأديان الشائعة المعروفة كالصابئيّة الّتي كانت يومئذ من الأديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها و وجود جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها.

و أمّا التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنيّة ببابل و وجود معابد كثيرة فيها بنيت على أسماء الكواكب و أصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ أرض بابل و ما والاها ذكر بناء معبد إله الشمس و إله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف و مائتين قبل المسيح، و في نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس و إله القمر و هو ممّا يقرب زمن الخليل إبراهيمعليه‌السلام .

و قد تقدّم فيما نقلناه من كتاب الآثار الباقية لأبي ريحان البيرونيّ(١) : أنّ يوذاسف ظهر عند مضيّ سنة من ملك طهمورث بأرض الهند، و أتى بالكتابة الفارسيّة، و دعا إلى‏ ملّة الصابئين فاتبعه خلق كثير، و كانت الملوك البيشداديّة و بعض الكيانيّة ممّن كان يستوطن بلخ يعظّمون النيّرين و الكواكب و كلّيّات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسف.

و ساق الكلام إلى أن قال: و ينسبون التدبير إلى الفلك و أجرامه و يقولون بحياتها و نطقها و سمعها و بصرها، و يعظّمون الأنوار، و من آثارهم القبّة الّتي فوق المحراب عند

____________________

(١) في بحث تاريخي في ذيل الآية ٦٢ من سورة البقرة.

٢٤٨

المقصورة من جامع دمشق كان مصلّاهم، و كان اليونانيّون و الروم على دينهم، ثمّ صارت في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم، ثمّ تغلّب عليها النصارى فصيّروها بيعة إلى أن جاء الإسلام و أهله فاتّخذوها مسجداً.

و كانت لهم هياكل و أصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبومعشر البلخيّ في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبكّ كان لصنم الشمس، و قران فإنّها منسوبة إلى القمر و بناؤها على صورته كالطيلسان، و بقربها قرية تسمّى سلمسين و اسمها القديم: صنم سين أي صنم القمر: و قرية اُخرى تسمّى ترع عوز أي باب الزهرة.

و يذكرون أنّ الكعبة و أصنامها كانت لهم، و عبدتها كانوا من جملتهم و أنّ اللات كان باسم زحل، و العزّى باسم الزهرة، انتهى.

و ذكر المسعوديّ أنّ مذهب الصابئة كان نوعاً من التحوّل و التكامل في دين الوثنيّة و أنّ الصبوة ربّما كانت تتحوّل إلى الوثنيّة لتقارب مأخذيهما، و أنّ الوثنيّة ربّما كانوا يعبدون أصنام الشمس و القمر و الزهرة و سائر الكواكب تقرّباً بها إلى آلهتها ثمّ إلى إله الآلهة.

قال في مروج الذهب: كان كثير من أهل الهند و الصين و غيرهم من الطوائف يعتقدون أنّ الله عزّوجلّ جسم، و أنّ الملائكة أجسام لها أقدار و أنّ الله تعالى و ملائكته احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى أن اتّخذوا تماثيل و أصناماً على صورة الباري عزّوجلّ و بعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود و الأشكال، و منها على صورة الإنسان و على خلافها من الصور يعبدونها، و قرّبوا لها القرابين، و نذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى و قربها منه.

فأقاموا على ذلك برهة من الزمان و جملة من الأعصار حتّى نبّههم بعض حكمائهم على أنّ الأفلاك و الكواكب أقرب الأجسام المرئيّة إلى الله تعالى و أنّها حيّة ناطقة، و أنّ الملائكة تختلف فيهما بينها و بين الله، و أنّ كلّ ما يحدث في هذا العالم فإنّما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر الله فعظّموها و قرّبوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهراً.

٢٤٩

فلمّا رأوا الكواكب تخفى بالنهار و في بعض أوقات الليل لما يعرض في الجوّ من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناماً و تماثيل على صورها و أشكالها فجعلوا لها أصناماً و تماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، و كلّ صنف منهم يعظّم كوكباً منها، و يقرّب لها نوعاً من القربان خلاف ما للآخر على أنّهم إذا عظّموا ما صوّروا من الأصنام تحرّكت لهم الأجسام العلويّة من السبعة بكلّ ما يريدون، و بنوا لكلّ صنم بيتاً و هيكلاً مفرداً، و سمّوا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب.

و قد ذهب قوم إلى أنّ البيت الحرام هو بيت زحل، و إنّما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظّماً في سائر الأعصار لأنّه بيت زحل، و أنّ زحل تولّاه لأنّ زحل من شأنه البقاء و الثبوت، فما كان له فغير زائل و لا داثر، و عن التعظيم غير حائل و ذكروا اُموراً أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها.

و لمّا طال عليهم العهد عبدوا الأصنام على أنّها تقرّبهم إلى الله و ألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا على ذلك حتّى ظهر يوذاسف بأرض الهند و كان هنديّاً، و كان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى السند ثمّ سار إلى بلاد سجستان و بلاد زابلستان و هي بلاد فيروز بن كبك ثمّ دخل السند ثمّ إلى كرمان.

فتنبّأ و زعم أنّه رسول الله، و أنّه واسطة بين الله و بين خلقه، و أتى أرض فارس، و ذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، و قيل: ذلك في ملك جمّ، و هو أوّل من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدّمنا آنفاً فيما سلف من هذا الكتاب.

و قد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم، و الاشتغال بما علا من العوالم، إذ كان من هناك بدء النفوس و إليها يقع الصدر من هذا العالم، و جدّد يوذاسف عند الناس عبادة الأصنام و السجود لها لشبه ذكرها، و قرّب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل و الخدع.

و ذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم و أخبار ملوكهم: أنّ جمّ الملك أوّل من عظّم

٢٥٠

النار و دعا الناس إلى تعظيمها، و قال: إنّها تشبه ضوء الشمس و الكواكب لأنّ النور عنده أفضل من الظلمة، و جعل للنور مراتب. ثمّ تنازع هؤلاء بعده فعظّم كلّ فريق منهم ما يرون تعظيمه من الأشياء تقرّباً إلى الله بذلك.

ثمّ ذكر المسعوديّ البيوت المعظّمة عندهم و هي سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل، و بيت على جبل مارس بإصبهان، و بيت مندوسان ببلاد الهند، و بيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم القمر، و بيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة، و بيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس، و بيت بأعالي بلاد الصين على اسم العلّة الاُولى.

و اليونان و الروم القديم و الصقالبة بيوت معظّمة بعضهما مبنيّة على اسم الكواكب كالبيت الّذي بتونس للروم الّذي على اسم الزهرة.

ثمّ ذكر المسعوديّ أنّ للصابئين من الحرّانيّين(١) هياكل على أسماء الجواهر العقليّة و الكواكب فمن ذلك هيكل العلّة الاُولى، و هيكل العقل. قال: و من هياكل الصابئة هيكل السلسلة، و هيكل الصورة و هيكل النفس و هذه مدوّرات الشكل، و هيكل زحل مسدّس، و هيكل المشتري مثلّث، و هيكل المرّيخ مربّع مستطيل، و هيكل الشمس مربّع، و هيكل عطارد مثلّث الشكل، و هيكل الزهرة مثلّث في جوف مربّع مستطيل، و هيكل القمر مثمّن الشكل، و للصابئة فيما ذكرنا رموز و أسرار يخفونها، انتهى. و قريب منه ما في الملل و النحل، للشهرستانيّ.

و قد تبيّن ممّا نقلناهأوّلاً: أنّ الوثنيّة كما كانت تعبد أصناماً للآلهة و أرباب الأنواع كذلك كانت تعبد أصنام الكواكب و الشمس و القمر، و كانت عندهم هياكل على أسمائها، و من الممكن أن يكون حجاج إبراهيمعليه‌السلام في أمر الكواكب و القمر و الشمس، مع الوثنيّة العابدين لها المتقرّبين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة بابل أو بلدة اُور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفاً.

____________________

(١) يطلق الحرانيون على الصابئين مطلقاً لاشتهار حران بهذا الدين.

٢٥١

على أنّ ظاهر ما يقصّه القرآن الكريم: أنّ إبراهيمعليه‌السلام حاجّ أباه و قومه و تحمّل أذاهم في الله حتّى اعتزلهم و هجرهم بالمهاجرة من أرضهم إلى الأرض المقدّسة من غير أن يتغرّب من أرضهم إلى حرّان أوّلاً ثمّ من حرّان إلى الأرض المقدّسة، و الّذي ضبطه كتب‏ التاريخ من مهاجرته إلى حرّان أوّلاً ثمّ من حرّان إلى الأرض المقدّسة لا مأخذ له غير التوراة أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيليّة كما هو ظاهر لمن تدبّر تاريخ الطبريّ، و غيره.

على أنّ بعضهم ذكروا أنّ حرّان المذكور في التوراة كان بلداً قرب بابل بين الفرات و خابور، و هو غير حرّان الواقع قرب دمشق الموجود اليوم.(١)

نعم ذكر المسعوديّ أنّ الّذي بقي من هياكلهم - الصابئة - المعظّمة في هذا الوقت - و هو سنة اثنتين و ثلاثين و ثلاثمائة - بيت لهم بمدينة حرّان في باب الرقّة يعرف( بمغليتيا) و هو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليلعليه‌السلام عندهم، و للقوم في آزر و ابنه إبراهيم كلام كثير، انتهى. و لا حجّة في قولهم على شي‏ء.

و ثانياً: أنّه كما أنّ الوثنيّة ربّما كانت تعبد الشمس و القمر و الكواكب كذلك الصابئة كانت تبني بيوتاً و هياكل لعبادة غير الكواكب و القمر و الشمس كالعلّة الاُولى و العقل و النفس و غيرها كالوثنيّة و تتقرّب إليها مثلهم و قد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في ما يصف معبد بابل أنّه كان مشتملاً على ثمانية أبراج بعضها مبنيّة على بعض و أنّ آخر الأبراج و هو أعلاها كان مشتملاً على قبّة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من ذهب، و ليس في القبّة شي‏ء من التماثيل و الأصنام، و لا يبيت فيها أحد إلّا امرأة يزعم الناس أنّ الله هو اختارها للخدمة و وظّفها للملازمة. انتهى. (٢)

و لعلّه كان للعلّة الاُولى المنزّهة عن الهيئات و الأشكال و إن كانوا ربّما يصوّرونه بما يتوهّمونه من الصور كما ذكره المسعوديّ. و قد ثبت أنّ فلاسفتهم

____________________

(١) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس في( حران) .

(٢) تاريخ هيرودوتوس اليوناني المؤلّف في حدود ٥٠٠ ق. م.

٢٥٢

كانوا ينزّهون الله تعالى عن الهيئات الجسمانيّة و الأشكال و الأوضاع المادّيّة و يصفونه بما يليق به من الصفات غير أنّهم كانوا يتّقون العامّة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إمّا لعدم استعداد أفهامهم لتلقّي ذلك، أو لمقاصد و أغراض سياسيّة توجب كتمان الحقّ.

٢٥٣

( سورة الأنعام الآيات ٨٤ - ٩٠)

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ  كُلًّا هَدَيْنَا  وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ  وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ  كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا  وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ  وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ  وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ  فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ  فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ  قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا  إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ )

( بيان)

اتّصال الآيات بما قبلها واضح لا يحتاج إلى بيان فهي من تتمّة حديث إبراهيمعليه‌السلام ، و الآيات و إن اشتملت على بعض الامتنان عليه و على من عدّ معه من الأنبياء كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) و قوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) و قوله:( وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) إلى غير ذلك لكنّها ليست مسوقة لذلك فحسب كما يظهر من بعض المفسّرين بل لبيان النعم الجسيمة و الأيادي الجميلة الإلهيّة الّتي يتعقّبها التوحيد الفطريّ و الاهتداء بالهداية الإلهيّة.

فإنّ ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة الّتي تبيّن فيها مسألة التوحيد على ما

٢٥٤

تهدي إليه الفطرة الّتي فطر الناس عليها، و قد تقدّم أنّ قصّة إبراهيمعليه‌السلام بالنسبة إلى الآيات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عامّ.

و في سياق الآيات مضافاً إلى بيان التوحيد بيان أنّ عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة متّصلة ركّبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهيّة و عناية خاصّة ربّانيّة حفظ الله بها الفطرة الإلهيّة من أن تضيع بالأهواء الشيطانيّة، و تسقط رأساً من الفعليّة فيبطل بذلك غرض الخلقة و يذهب سدىً كما يشعر بذلك قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُ ) إلخ، و قوله:( وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) إلخ، و قوله:( وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ ) و قوله:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ ) إلخ.

و في طيّ الآيات بيان ما تمتاز به الهداية الإلهيّة من غيرها من الخصائص و هي الاجتباء و استقامة الصراط و إيتاء الكتاب و الحكم و النبوّة على ما سيجي‏ء من البيان إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ) إسحاق هو ابن إبراهيم و يعقوب هو ابن إسحاقعليهم‌السلام ، و قوله:( كُلًّا هَدَيْنا ) قدم فيه كلّاً للدلالة على أنّ الهداية الإلهيّة تعلّقت بكلّ واحد من المعدودين استقلالاً لا أنّها تعلّقت ببعضهم استقلالاً كإبراهيم و بغيره بتبعه، فهو بمنزلة أن يقال: هدينا إبراهيم و هدينا إسحاق و هدينا يعقوب. كما قيل.

قوله تعالى: ( وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ) فيه إشعار بأنّ سلسلة الهداية غير منقطعة و لا مبتدئة من إبراهيمعليه‌السلام بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوحعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ - إلى قوله -وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) الضمير في( ذُرِّيَّتِهِ ) راجع إلى نوح ظاهراً لأنّه المرجع القريب لفظاً، و لأنّ في المعدودين من ليس هو من ذرّيّة إبراهيم مثل لوط و إلياس على ما قيل.

و ربّما قيل: إنّ الضمير يعود إلى إبراهيمعليه‌السلام و قد ذكر لوط و إلياسعليهما‌السلام من الذرّيّة تغليباً قال:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ ) (العنكبوت: ٢٧) أو أنّ المراد بالذرّيّة هم الستّة المذكورون في هذه الآية دون الباقين،

٢٥٥

و أمّا قوله:( وَ زَكَرِيَّا ) إلخ، و قوله:( وَ إِسْماعِيلَ ) إلخ، فمعطوفان على قوله: و من( ذُرِّيَّتِهِ ) لا على قوله:( داوُدَ ) إلخ، و هو بعيد من السياق.

و أمّا قوله:( وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فالظاهر أنّ المراد بهذا الجزاء هو الهداية الإلهيّة المذكورة، و إليها الإشارة بقوله:( كَذلِكَ ) و الإتيان بلفظ الإشارة البعيد لتفخيم أمر هذه الهداية فهو نظير قوله:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) (الرعد: ١٧) و المعنى نجزي المحسنين على هذا المثال.

قوله تعالى: ( وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‏ وَ عِيسى‏ وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) تقدّم الكلام في معنى الإحسان و الصلاح فيما سلف من المباحث و في ذكر عيسى بين المذكورين من ذرّيّة نوحعليهما‌السلام و هو إنّما يتّصل به من جهة اُمّه مريم دلالة واضحة على أنّ القرآن الكريم يعتبر أولاد البنات و ذرّيّتهن أولاداً و ذرّيّة حقيقة، و قد تقدّم استفادة نظير ذلك من آية الإرث و آية محرّمات النكاح، و للكلام تتمّة ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) الظاهر أنّ المراد بإسماعيل هو ابن إبراهيم أخو إسحاقعليهم‌السلام و قوله:( الْيَسَعَ ) بفتحتين كأسد و قرئ( الليسع) كالضيغم أحد أنبياء بني إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيلعليهما‌السلام كما في قوله:( وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) ( ص: ٤٨) و لم يذكر شيئاً من قصّته في كلامه.

و أمّا قوله:( وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) فالعالم هو الجماعة من الناس كعالم العرب و عالم العجم و عالم الروم، و معنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمي زمانهم لما أنّ الهداية الخاصّة الإلهيّة أخذتهم بلا واسطة، و أمّا غيرهم فإنّما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم، و يمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنّهم طائفة مهديّة بالهداية الفطريّة الإلهيّة من غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإنّ الهداية الإلهيّة من غير واسطة نعمة يتقدّم بها من تلبّس بها على من لم يتلبّس، و قد شملت المذكورين من الأنبياء و من لحق بهم من آبائهم و ذرّيّاتهم و إخوانهم

٢٥٦

فالمجتمع الحاصل منهم مفضّل على غيرهم جميعاً بتفضيل إلهيّ.

و بالجملة الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبّس بتلك الهداية الإلهيّة الّتي لا واسطة فيها، و الأنبياء فضّلوا على غيرهم بسبب التلبّس بها فلو فرض تلبّس من غيرهم بهذه الهداية كالملائكة كما ربّما يظهر من كلامه تعالى و كالأئمّة على ما تقدّم في البحث عن قوله تعالى:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) (البقرة: ١٢٤) في الجزء الأوّل من الكتاب فلا يفضّل عليهم الأنبياءعليهم‌السلام من هذه الحيثيّة و إن أمكن أن يفضّلوا عليهم من جهة اُخرى غير جهة الهداية.

و من هنا يظهر: أنّ استدلال بعضهم بالآية على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة ليس في محلّه.

و يظهر أيضاً أنّ المراد بالتفضيل إنّما هو التفضيل من حيث الهداية الإلهيّة الخاصّة الّتي أخذتهم من غير توسّط أحد، و أمّا كونهم أهل الاجتباء و أهل الصراط المستقيم و أهل الكتاب و الحكم و النبوّة فأمر خارج عن مصبّ التفضيل المذكور في هذه الآية.

و اعلم أنّ الّذي وقع في الآيات الثلاث من ذكر من عدّده الله تعالى من الأنبياء بأسمائهم - و هم سبعة عشر نبيّاً - لم يراع فيه الترتيب الّذي بينهم لا بحسب الزمان و هو ظاهر، و لا بحسب الرتبة و الفضيلة فإنّ فيهم نوحاً و موسى و عيسىعليهم‌السلام ، و هم أفضل من باقي المذكورين بنصّ الكتاب كما تقدّم في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب و قد قدّم عليهم غيرهم في الذكر.

و قد ذكر صاحب المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الآيات الثلاث بين الأنبياء المسمّين فيها - و هم أربعة عشر نبيّاً - ما ملخّصه: أنّه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كلّ قسم منهم.

فالقسم الأوّل: داود و سليمان و أيّوب و يوسف و موسى و هارون، و المعنى الجامع بينهم أنّ الله تعالى آتاهم الملك و الإمارة و الحكم و السيادة مع النبوّة و الرسالة، و قد قدّم ذكر داود و سليمان و كانا ملكين غنيّين منعّمين، و ذكر بعدهما أيّوب و يوسف، و كان

٢٥٧

أيّوب أميراً غنيّاً عظيماً محسناً، و كان يوسف وزيراً عظيماً و حاكماً متصرّفاً، و قد ابتليا بالضرّاء فصبرا و بالسرّاء فشكرا، و بعد ذلك موسى و هارون و كانا حاكمين في قومهما و لم يكونا ملكين.

فكلّ زوجين من هذه الأزواج الثلاثة ممتاز بمزيّة و الترتيب مع ذلك من حيث نعم الدنيا فداود و سليمان كانا أكثر تمتّعاً من نعمها من أيّوب و يوسف، و هما من موسى و هارون، أو الترتيب من حيث الفضل الدينيّ فالظاهر أنّ موسى و هارون أفضل من أيّوب و يوسف، و هما أفضل من داود و سليمان لجمعهما بين الصبر في الضرّاء و الشكر في السراء.

و القسم الثاني: زكريّا و يحيى و عيسى و إلياس، و هؤلاء قد امتازوا بشدّة الزهد في الدنيا، و الإعراض عن لذائذها، و الرغبة عن زينتها، و لذلك خصّهم هنا بوصف الصالحين لأنّ هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم و إن كان كلّ نبيّ صالحاً و محسناً على الإطلاق.

و القسم الثالث: إسماعيل و اليسع و يونس و لوط، و أخّر ذكرهم لعدم الخصوصيّة إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا و سلطانها ما كان للقسم الأوّل، و لا من المبالغة من الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخّصاً.

و في تفسير الرازيّ، ما يقرب منه و إن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره الرازيّ، و يرد على ما ذكراه جميعاً أنّهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصيّة له يمتاز به و هو غير مستقيم فإنّ إسماعيلعليه‌السلام قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله تعالى به قال تعالى:( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ - إلى أن قال -إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) (الصافّات: ١٠٨) و هذا من الخصائص الفاخرة الّتي اختصّ الله بها إسماعيلعليه‌السلام ، و بلاء مبين امتاز به حتّى جعل الله تعالى التضحية في الحجّ طاعة عامّة مذكّرة لمحنته في جنب الله و ترك عليه في الآخرين على أنّه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة

٢٥٨

و كفى به ميزاً.

و كذلك يونس النبيّعليه‌السلام امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحداً من أنبيائه و هو ما التقمه الحوت فنادى في الظّلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين.

و أمّا لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أوّل أمره مع إبراهيمعليهما‌السلام حتّى هاجر قومه و أرضه في صحابته، ثمّ أرسله الله إلى أهل سدوم و ما والاه مهد الفحشاء الّتي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتّى إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين و هو من بيت لوط خلا امرأته.

و أمّا اليسع فلم يذكر له في القرآن قصّة، و إنّما ورد في بعض الروايات أنّه كان وصيّ إلياس و قد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريمعليه‌السلام من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و قد ابتلى الله قومه بالسنة و القحط العظيم.

فالأحسن أن يتمّم الوجه المذكور لترتيب الأسماء المعدودة في الآية بأن يقال: إنّ الطائفة الاُولى المذكورين - و هم ستّة - اختصّوا بالملك و الرئاسة مع الرسالة، و الطائفة الثانية - و هم أربعة - امتازوا بالزهد في الدنيا و الإعراض عن زخارفها، و الطائفة الثالثة - و هم أربعة - اُولو خصائص مختلفة و محن إلهيّة عظيمة يختصّ كلّ بشي‏ء من المميّزات و الله أعلم.

ثمّ إنّ الّذي ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى و هارون على أيّوب و يوسف، و تفضيلهما على داود و سليمان بما ذكره من الوجه، و كذا جعله الصلاح بمعنى الزهد و الإحسان كلّ ذلك ممنوع لا دليل عليه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ ) هذا التعبير يؤيّد ما قدّمناه أنّ المراد بيان اتّصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنّهم متّصلون بهم باُبوّة أو بنوّة أو اُخوّة.

قوله تعالى: ( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال الراغب في المفردات: يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته و الحوض الجامع له جابية و جمعها( جواب) قال الله

٢٥٩

تعالى:( وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ ) ، و منه أستعير جبيت الخراج جباية و منه قوله تعالى:( يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) ، و الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عزّوجلّ:( فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ) .

قال: و اجتباء الله العبد تخصيصه إيّاه بفيض إلهيّ يتحصّل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد، و ذلك للأنبياء و بعض من يقارنهم من الصدّيقين و الشهداء كما قال تعالى:( وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) و قوله تعالى:( ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏ ) ، و قال عزّوجلّ:( يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) ، انتهى.

و الّذي ذكره من معنى الاجتباء و إن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنّه لازم المعنى الأصليّ بحسب انطباقه على صنعه فيهم و الّذي يعطيه سياق الآيات أنّ العناية تعلّقت بمعنى الكلمة الأصليّ و هو الجمع من مواضع و أمكنة مختلفة متشتّتة فيكون تمهيداً لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنّه يقول: و جمعناهم على تفرّقهم حتّى إذا اجتمعوا و انضمّ بعضهم إلى بعض هديناهم جميعاً إلى صراط كذا و كذا.

و ذلك لما عرفت أنّ المقصود بالسياق بيان اتّصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطريّة الإلهيّة، و المناسب لذلك أن يتصوّر لهم اجتماع و توحّد حتّى تشمل جمعهم الرحمة الإلهيّة، و يهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطاً واحداً مستقيماً لا اختلاف فيه أصلاً فلا يختلف بحسب الأحوال، و لا بحسب الأزمان، و لا بحسب الأجزاء، و لا بحسب الأشخاص السائرين فيه، و لا بحسب المقصد.

و ذلك أنّ صراطهم الّذي هداهم الله إليه و إن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة و ضيقاً إلّا أنّ ذلك إنّما هو بحسب الإجمال و التفصيل و قلّة استعداد الاُمم و كثرته، و الجميع متّفق في حقيقة واحدة و هو التوحيد الفطريّ و العبوديّة الّتي تهدي إليه البنية الإنسانيّة بحسب نوع الخلقة الّتي أظهرها الله سبحانه على ذلك و من المعلوم أنّ الخلقة الإنسانيّة بما أنّها خلقة إنسانيّة لا تتغيّر و لا تتبدّل تبدّلاً يقضي بتبدّل اُصول الشعور و الإرادة الإنسانيّين فحواسّ الإنسان الظاهرة و إحساساته و عواطفه الباطنة و مبدأ القضاء

٢٦٠