الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85313
تحميل: 7375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85313 / تحميل: 7375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و الحكم الّذي فيه و هو العقل الفطريّ لا تزال تجري بحسب الاُصول على وتيرة واحدة و إن اختلفت الآراء و المقاصد بحسب الاستكمال التدريجيّ الّذي يتعلّق بالنوع و التنبّه بجهات حوائج الحياة.

فلا يزال الإنسان يشعر بحاجته في المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المنكح، و يشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، و يكره ما يؤلمه و يضرّ به، و يأمل سعادة الحياة و يخشى الشقاء و سوء العاقبة و إن اختلفت مظاهر حياته و صور أعماله عصراً بعد عصر و جيلاً بعد جيل.

قال تعال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (الروم: ٣٠) فالدين الحنيف الإلهيّ الّذي هو قيّم على المجتمع الإنسانيّ هو الّذي تهدي إليه الفطرة و تميل إليه الخلقة البشريّة بحسب ما تحسّ بحوائجها الوجوديّة، و تلهم بما يسعدها فيها من الاعتقاد و العمل، و بتعبير آخر من المعارف و الأخلاق و الأعمال.

و هذا أمر لا يتغيّر و لا يتبدّل لأنّه مبنيّ على الفطرة التكوينيّة الّتي لا سبيل للتغيّر و التبدّل إليها فلا يختلف بحسب الأحوال و الأزمان بأن يدعو إلى السعادة الإنسانيّة في حال دون حال أو في زمان دون زمان، و لا بحسب الأجزاء بأن يزاحم بعض أحكام الدين الحنيف بعضه الآخر بتناقض أو تضادّ أو أيّ شي‏ء آخر يؤدّي إلى إبطال بعضها بعضاً فإنّ الجميع ترتضع من ثدي التوحيد الّذي يعدّلها أحسن تعديل كما أنّ القوى البدنيّة إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإنّ هناك حاكماً مدبّراً يدبّر كلّاً على حسب ما له من الوزن و التأثير في تقويم الحياة الإنسانيّة.

و لا بحسب الأشخاص فإنّ المهتدين بهذه الهداية القيّمة الفطريّة لا يختلف مسيرهم، و لا يدعو آخرهم إلّا إلى ما دعا إليه أوّلهم و إن اختلفت دعوتهم بالإجمال و التفصيل بحسب اختلاف أعصار الإنسانيّة تكاملاً و رقيّاً كما قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ) (آل عمران: ١٩) و قال:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا

٢٦١

فِيهِ ) (الشورى: ١٣).

و لا بحسب المقصد و الغاية فإنّه التوحيد الّذي يؤل إليه شتات المعارف الدينيّة و الأخلاق الفاضلة و الأحكام الشرعيّة قال تعالى:( إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء: ٩٢) و قال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء: ٢٥).

و قد ظهر بما تقدّم معنى قوله تعالى:( وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) و قد نكّر الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في قوله:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) (الحمد: ٧) لتتوجّه عناية الذهن إلى اتّصافه بالاستقامة - و الاستقامة في الشي‏ء كونه على وتيرة واحدة في صفته و خاصّته - فالصراط الّذي هدوا إليه صراط لا اختلاف فيه في جهة من الجهات و لا حال من الأحوال لما أنّه صراط مبنيّ على الفطرة كما أنّ الفطرة الإنسانيّة و هي نوع خلقته و كونه لا تختلف من حيث إنّها خلقة إنسانيّة في الهداية و الاهتداء إلى مقاصد الإنسان التكوينيّة.

فهؤلاء المهديّون إلى مستقيم الصراط في أمن إلهيّ من خطرات السير و عثرات الطريق إذ كان الصراط الّذي يسلكونه و المسير الّذي يضربون فيه لا اختلاف فيه بالهداية و الإضلال و الحقّ و الباطل و السعادة و الشقاوة بل هو مؤتلف الأجزاء و متساوي الأحوال يقوم على الحقّ و يؤدّي إلى الحقّ لا يدع صاحبه في حيرة، و لا يورده إلى ظلم و شقاء و معصية قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) (الأنعام: ٨٢).

قوله تعالى: ( ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) إلى آخر الآية. يبيّن تعالى أنّ الّذي ذكره من صفة الهداية الّتي هدى بها المذكورين من أنبيائه هو المعرّف لهداه الخاصّ به الّذي يهدي به من يشاء من عباده.

فالهدى إنّما يكون هدى - حقّ الهدى - إذا كان من الله سبحانه، و الهدى إنّما يكون هدى الله إذا أورد المتلبّس به صراطاً مستقيماً اتّفق على الورود فيه أصحاب الهدى و هم الأنبياء المكرمونعليهم‌السلام ، و اتّفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى كلمة التوحيد و إقامة

٢٦٢

دعوة الحقّ و الاتّسام بسمة العبوديّة و التقوى.

أمّا الطريق الّذي يفرّق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض و يكفر ببعض أو يفرّق فيه بين أحكام الله و شرائعه فيؤخذ فيه ببعض و يترك بعض، و الطرق الّتي لا تضمن سعادة حياة المجتمع الإنسانيّ أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الإنسانيّة فتلك هي الطرق الّتي لا مرضاة فيها لله سبحانه و قد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال و مزالق الأهواء، و الاهتداء إليها ليس اهتداءً بهدى الله سبحانه.

قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) (النساء: ١٥١) و قال:( أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‏ أَشَدِّ الْعَذابِ ) (البقرة: ٨٥) و قال:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (القصص: ٥٠) يريد أنّ الطريق الّذي فيه اتّباع الهوى إنّما هو ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة و ليس بهدى الله لأنّ فيه ظلماً و الله سبحانه لم يجعل الظلم و لن يجعله ممّا يتوسّل به إلى سعادة و لا أنّ السعادة تنال بظلم.

و بالجملة هدى الله سبحانه من خاصّته أنّه لا يشتمل على ضلال و لا يجامع ضلالاً بالتأدية إليه، و إنّما هو الهدى محضاً تتلوه السعادة محضة عطاءً غير مجذوذ لكن لا على حدّ العطايا المعمولة فيما بيننا الّتي ينقطع معها ملك المعطي (بالكسر) عن عطيّته و ينتقل إلى المعطى (بالفتح) فيحوزه على أيّ حال سواء شكر أو كفر.

بل هذه العطيّة الإلهيّة إنّما تقوم على شريطة التوحيد و العبوديّة فلا كرامة لأحد عليه تعالى و لا أمن له منه إلّا بالعبوديّة محضاً و لذلك ذيل الكلام بقوله:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) و إنّما ذكر الإشراك لأنّ محطّ البيان إنّما هو التوحيد.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) الإشارة باللّفظ المفيد للبعد للدلالة على علوّ شأنهم و رفعة مقامهم، و المراد بإيتائهم الكتاب و غيره إيتاء

٢٦٣

جمعهم ذلك بوصف المجموع و إن كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما مرّ في تفسير قوله:( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ ) فإنّ الكتاب إنّما اُوتيه بعض الأنبياء كنوح و إبراهيم و موسى و عيسىعليهم‌السلام .

و الكتاب إذا نسب في كلامه تعالى إلى الأنبياءعليهم‌السلام نوعاً من النسبة يراد به الصحف الّتي تشتمل على الشرائع و يقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (البقرة: ٢١٣) و قوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ - إلى أن قال -وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ) (المائدة: ٤٨) إلى غير ذلك من الآيات.

و الحكم هو إلقاء النسبة التصديقيّة بين أجزاء الكلام كقولنا: فلان عالم، و إذا كان ذلك في الاُمور الاجتماعيّة و القضايا العمليّة الّتي تدور بين المجتمعين عدّ نوع النسبة حكماً كما تسمّى نفس القضيّة حكماً كما يقال: يجب على الإنسان أن يفعل كذا و يحرم عليه أن يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو اُحبّ أو أكره أن تفعل كذا فتسمّى الوجوب و الحرمة و الجواز و الاستحباب و الكراهة أحكاماً كما تسمّى القضايا المشتملة عليها أحكاماً، و لأهل الاجتماع أحكام اُخر ناشئة من نسب اُخرى كالملك و الرئاسة و النيابة و الكفاية و الولاية و غير ذلك.

و إذا قصد به المعنى المصدريّ اُريد به إيجاد الحكم و جعله إمّا بحسب التشريع و التقنين كما يجعل أهل التقنين أحكاماً صالحة ليجري عليها الناس و يعملوا بها في مسير حياتهم لحفظ نظام مجتمعهم، و إمّا بحسب التشخيص و النظر كتشخيص القضاة و الحكّام في المنازعات و الدعاوي أنّ المال لفلان و الحقّ مع فلان و كتشخيص أهل الفتيا في فتاواهم و قد يراد به إنفاذ الحكم كحكم الوالي و الملك على الناس بما يريدان في حوزة الولاية و الملك.

٢٦٤

و الظاهر من الحكم في الآية بقرينة ذكر الكتاب معه أن يكون المراد به معنى القضاء فيكون المراد من إيتاء الكتاب و الحكم إعطاء شرائع الدين و القضاء بحسبها بين الناس كما هو ظاهر عدّة من الآيات كقوله تعالى:( وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (البقرة: ٢١٣) و قوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ) (المائدة: ٤٤) و قوله:( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ) (النساء: ١٠٥) و قوله:( وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ) (الأنبياء: ٧٨) و قوله:( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ( ص: ٢٦) إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة، و إن كان مثل قوله تعالى حكاية عن إبراهيمعليه‌السلام :( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (الشعراء: ٨٣) لا يأبى بظاهره الحمل على المعنى الأعمّ.

و أمّا النبوّة فقد تقدّم في تفسير قوله:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ) الآية: (البقرة: ٢١٣) أنّ المراد بها التحقّق بأنباء الغيب بعناية خاصّة إلهيّة و هي الأنباء المتعلّقة بما وراء الحسّ و المحسوس كوحدانيّته تعالى و الملائكة و اليوم الآخر.

و عدّ هذه الكرامات الثلاث الّتي أكرم الله سبحانه بها سلسلة الأنبياءعليهم‌السلام أعني الكتاب و الحكم و النبوّة في سياق الآيات الواصفة لهداه تعالى يدلّ على أنّها من آثار هداية الله و بها يتمّ العلم بالله تعالى و آياته فكأنّه قيل: تلك الهداية الّتي جمعنا عليها الأنبياءعليهم‌السلام و فضّلناهم بها على العالمين هي الّتي توردهم صراطاً مستقيماً و تعلّمهم الكتاب المشتمل على شرائعه، و تسدّدهم و تنصبهم للحكم بين الناس، و تنبّئهم أنباء الغيب.

( كلام في معنى الكتاب في القرآن)

الكتاب بحسب ما يتبادر منه اليوم إلى أذهاننا هو الصحيفة أو الصحائف الّتي تضبط فيها طائفة من المعاني على طريق التخطيط بقلم أو طابع أو غيرهما(١) لكن لمّا كان الاعتبار

____________________

(١) و لعلّ إطلاق الكتاب على غير ما خطته اليد بالقلم من قبيل التوسّع.

٢٦٥

في استعمال الأسماء إنّما هو بالأغراض الّتي وقعت التسمية لأجلها أباح ذلك التوسّع في إطلاق الأسماء على غير مسمّياتها المعهودة في أوان الوضع، و الغرض من الكتاب هو ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الإنسان كلّما راجعه، و هذا المعنى لا يلازم ما خطّته اليد بالقلم على القرطاس كما أنّ الكتاب في ذكر الإنسان إذا حفظه كتاب و إذا أملاه عن حفظه كتاب و إن لم يكن هناك صحائف أو ألواح مخطوطة بالقلم المعهود.

و على هذا التوسّع جرى كلامه تعالى في إطلاق الكتاب على طائفة من الوحي الملقى إلى النبيّ و خاصّة إذا كان مشتملاً على عزيمة و شريعة و كذا إطلاقه على ما يضبط الحوادث و الوقائع نوعاً من الضبط عندالله سبحانه، قال تعالى:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ ) ( ص: ٢٩) و قال تعالى:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) (الحديد: ٢٢) و قال تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كِتابَكَ ) (الإسراء: ١٤).

و في هذه الأقسام الثلاثة ينحصر ما ذكره الله سبحانه في كلامه من كتاب منسوب إلى نفسه غير ما في ظاهر قوله في أمر التوراة:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الأعراف: ١٤٥) و قوله:( وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ ) (الأعراف: ١٥٠) و قوله:( وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) (الأعراف: ١٥٤)(١) .

القسم الأوّل: الكتب المنزلة على الأنبياءعليهم‌السلام و هي المشتملة على شرائع الدين - كما تقدّم آنفاً - و قد ذكر الله سبحانه منها كتاب نوحعليه‌السلام في قوله:( وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ) (البقرة: ٢١٣) و كتاب إبراهيم و موسىعليهما‌السلام قال:( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى) (الأعلى: ١٩) و كتاب عيسى و هو الإنجيل قال:( وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ ) (المائدة: ٤٦) و كتاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ) (الحجر: ١) و قال:( رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ) (البينة: ٣) و قال:( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ ) (عبس: ١٦) و قال:( نَزَلَ بِهِ

____________________

(١) فإن ظاهر الآيات أنّها كانت على طريق التخطيط

٢٦٦

الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) (الشعراء: ١٩٥).

القسم الثاني: الكتب الّتي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيّئات فمنها: ما يختصّ بكلّ نفس إنسانيّة كالّذي يشير إليه قوله تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ) (الإسراء: ١٣) و قوله:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) (آل عمران: ٣٠) إلى غير ذلك من الآيات، و منها: ما يضبط أعمال الاُمّة كالّذي يدلّ عليه قوله:( وَ تَرى‏ كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) (الجاثية: ٢٨) و منها: ما يشترك فيه الناس جميعاً كما في قوله:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (الجاثية: ٢٩) لو كان الخطاب فيه لجميع الناس.

لعلّ لهذا القسم من الكتاب تقسيماً آخر بحسب انقسام الناس إلى طائفتي الأبرار و الفجّار و هو الّذي يذكره في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ، كِتابٌ مَرْقُومٌ - إلى أن قال -كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ، كِتابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (المطفّفين: ٢١).

القسم الثالث: الكتب الّتي تضبط تفاصيل نظام الوجود و الحوادث الكائنة فيه فمنها الكتاب المصون عن التغيّر المكتوب فيه كلّ شي‏ء كالّذي يشير إليه قوله تعالى:( وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (يونس: ٦١) و قوله:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) (يس: ١٢) و قوله:( وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ ) (ق: ٤) و قوله:( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ) (الرعد: ٣٨) و من الآجال الأجل المسمّى الّذي لا سبيل للتغيّر إليه و قوله:( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا ) (آل عمران: ١٤٥).

و لعلّ هذا النوع من الكتاب ينقسم إلى كتاب واحد عامّ حفيظ لجميع الحوادث و الموجودات، و كتاب خاصّ بكلّ موجود موجود يحفظ به حاله في الوجود كما يشعر به الآيتان الأخيرتان و سائر الآيات الكريمة الّتي تشاكلهما.

و منها: الكتب الّتي يتطرّق إليها التغيير و يداخلها المحو و الإثبات كما يدلّ عليه

٢٦٧

قوله تعالى:( يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (الرعد: ٣٩) و استيفاء البحث عن كلّ قسم من أقسام هذه الكتب موكول إلى المحلّ الّذي يناسبه من الكتاب و الله المستعان.

( كلام في معنى الحكم في القرآن)

الأصل في مادّة الحكم بحسب ما يتحصّل من موارد استعمالاتها هو المنع، و بذلك سمّي الحكم المولويّ حكماً لما أنّ الأمر يمنع به المأمور عن الإطلاق في الإرادة و العمل و يلجمه أن يقع على كلّ ما تهواه نفسه، و كذا الحكم بمعنى القضاء يمنع مورد النزاع من أن يتزلزل بالمنازعة و المشاجرة أو يفسد بالتعدّي و الجور، و كذا الحكم بمعنى التصديق يمنع القضيّة من تطرّق الشكّ إليه، و الإحكام و الاستحكام يشعران عن حال في الشي‏ء يمنعه من دخول ما يفسده بين أجزائه أو استيلاء الأمر الأجنبيّ في داخله، و الإحكام يقابل بوجه التفصيل الّذي هو جعل الشي‏ء فصلاً فصلاً يبطل بذلك التئام أجزائه و توحّدها قال تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود: ١) و إلى ذلك يعود معنى المحكم الّذي يقابل المتشابه.

قال الراغب في المفردات: حكم أصله منع منعاً لإصلاح، و منه سمّيت اللجام حكمة الدابّة (بفتحتين) فقيل: حكمته، و حكمت الدابّة منعتها بالحكمة، و أحكمتها جعلت لها حكمة، و كذلك حكمت السفينة و أحكمتها قال الشاعر:( أ بني حنيفة أحكموا سفهاءكم) . انتهى.

و الحكم إذا نسب إلى الله سبحانه فإن كان في تكوين أفاد معنى القضاء الوجوديّ و هو الإيجاد الّذي يساوق الوجود الحقيقيّ و الواقعيّة الخارجيّة بمراتبها قال تعالى:( وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) (الرعد: ٤١).

و قال:( وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (البقرة: ١١٧) و منه بوجه قوله:( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ ) (المؤمن: ٤٨).

٢٦٨

و إن كان في تشريع أفاد معنى التقنين و الحكم المولويّ قال تعالى:( وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ) (المائدة: ٤٣) و قال:( وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً ) المائدة: ٥٠.

و إذا نسب إلى الأنبياءعليهم‌السلام أفاد معنى القضاء و هو من المناصب الإلهيّة الّتي أكرمهم بها قال تعالى:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) (المائدة: ٤٨) و قال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ ) (الأنعام: ٨٩).

و لعلّ في بعض الآيات إشعاراً أو دلالة على إيتائهم الحكم بمعنى التشريع كما في قوله حكاية عن إبراهيمعليه‌السلام في دعائه:( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (الشعراء: ٨٣).

و أمّا غير الأنبياء من الناس فنسب إليهم الحكم بمعنى القضاء كما في قوله:( وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ) (المائدة: ٤٧) و الحكم بمعنى التشريع و قد ذمّهم الله عليه كما في قوله:( وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا - إلى أن قال -ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) (الأنعام: ١٣٦) و قوله:( وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ) (هود: ٤٥) و الآية بحسب موردها يشمل الحكم بمعنى إنجاز الوعد و إنفاذ الحكم.

قوله تعالى: ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) الضميران في قوله:( يَكْفُرْ بِها ) و قوله:( وَكَّلْنا بِها ) راجعان إلى الهدى و يجوز فيه التذكير و التأنيث من جهة أنّه هداية، أو راجعان إلى الكتاب و الحكم و النبوّة الّتي هي من آثار الهداية الإلهيّة، و لا يخلو أوّل الوجهين عن بعد، و المشار إليه بقوله:( هؤُلاءِ ) الكافرون بالدعوة من قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المتيقّن منهم بحسب مورد الآية كفّار مكّة الّذين أشار الله سبحانه إليهم بقوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (البقرة: ٦).

و المعنى على الوجه الأوّل: فإن يكفر مشركو قومك بهدايتنا و هي طريقتنا فقد وكّلنا بها من عبادنا من ليس يكفر بها، و الكفر و الإيمان يتعلّقان بالهداية و خاصّة إذا

٢٦٩

كانت بمعنى الطريقة كما ينسبان إلى الله سبحانه و آياته قال تعالى:( وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى‏ آمَنَّا بِهِ ) (الجنّ: ١٣) و قال:( فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (البقرة: ٣٨).

و على الوجه الثاني: فإن يكفر بالكتاب و الحكم و النبوّة - و هي الّتي تشتمل على الطريقة الإلهيّة و الدعوة الدينيّة - مشركو مكّة فقد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين.

و أمّا أنّ هؤلاء القوم من هم؟- و في تنكير اللفظ دلالة على أنّ لهم خطراً عظيماً - فقد اختلف فيهم أقوال المفسّرين:

فمن قائل: إنّ المراد بهم الأنبياء المذكورون في الآيات السابقة و هم ثمانية عشر نبيّاً أو مطلق الأنبياء المذكورين بأسمائهم أو بنعوتهم في قوله:( وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ ) ، و فيه أنّ سياق اللفظ لا يلائمه إذ ظاهر قوله:( لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) نفي الحال أو الاستمرار في النفي و المذكورون من الأنبياءعليهم‌السلام لم يكونوا موجودين حال الخطاب و لو كان المراد ذلك لكان المتعيّن أن يقال: لم يكونوا بها بكافرين، و ليس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معدوداً منهم بحسب هذه العناية و إن كان هو منهم و أفضلهم فإنّ الله سبحانه يذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك بقوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) .

و من قائل إنّ المراد بهم الملائكة و فيه - كما قيل - إنّ القوم و خاصّة إذا اُطلق من غير تقييد لا يطلق على الملائكة و لا يسبق إلى الذهن على أنّ في الآية بحسب السياق نوع تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا معنى لتسليته في كفر قومه بإيمان الملائكة.

و من قائل: إنّ المراد بهم المؤمنون بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول السورة في مكّة أو مطلق المهاجرين. و فيه: أنّ بعض هؤلاء قد ارتدّوا بعد إيمانهم كالّذي قال: ساُنزل مثل ما أنزل الله، و قد تعرّض سبحانه لأمره في هذه السورة بعد آيات، و قد كان فيهم المنافق فلا ينطبق عليهم قوله:( لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) .

و من قائل: إنّ المراد بهم الأنصار أو المهاجرون و الأنصار جميعاً أو أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المهاجرين و الأنصار و هم الّذين أقاموا هذه الدعوة على ساقها و نصروا النبيّ

٢٧٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم العسرة، و قد مدحهم الله في كتابه أبلغ المدح. و فيه: أنّ كرامة جماعتهم و رفعة منزلتهم بما هم جماعة ممّا لا يدانيه ريب لكن كان بينهم من ارتدّ بعد إيمانه و المنافق الّذي لم يظهر حاله بعد، و لا ينطبق على من هذا نعته مثل قوله تعالى:( فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ‏ ) و ظاهره أنّه لا سبيل للكفر إليهم و لم يقل: فقد وكّلنا بها قوماً يؤمنون بها أو آمنوا بها.

و ربّما يستفاد من كلمات بعضهم: أنّ المراد به قيام الإيمان بجماعتهم و إن أمكن أن يتخلّف عن إقامته آحاد منهم و بعبارة اُخرى قوله:( لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) وصف للمجتمع و لا ينافي خروج بعض الأبعاض اتّصاف المجتمع بوصفه القائم بالمجموع من حيث هو مجموع، و المؤمنون بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأنصار أو منهم و من المهاجرين أو الصحابة ثبت الإيمان فيهم ثبوتاً من غير زوال و إن زال عن بعض أفرادهم.

و هذا الوجه لو تمّ لدلّ على أنّ المراد بالقوم جميع الاُمّة المسلمة أو المؤمنون من جميع الاُمم، و لا دليل من تخصيصه بقوم دون قوم، و اختصاص بعضهم بمزايا و كرامات دينيّة كتقدّم المهاجرين في الإيمان بالله و الصبر على الأذى في جنب الله، أو تبوّء الأنصار الدار و الإيمان و إعلاؤهم كلمة التوحيد لا يوجب إلّا فضل اتّصافهم بهذا النعت لا اختصاصه بهم و حرمان غيرهم منه مع مشاركته إيّاهم في معناه.

إلّا أنّه يرد على هذا الوجه: أنّ المألوف من كلامه في الأوصاف الاجتماعيّة الّتي لا تستوعب جميع أفراد المجتمع أن يستثني المتخلّفين عنها لو كان هناك متخلّف أو يأتي بما في معنى الاستثناء كقوله:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) (التين: ٦).

و قوله:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ - إلى أن قال -وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً ) (الفتح: ٢٩) و قوله:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ - إلى أن قال -إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ) (النساء: ١٤٦) و قوله:( كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ - إلى أن قال -إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا ) (آل عمران: ٨٩)

٢٧١

و هذا المعنى كثير دائر في القرآن الكريم فما بال قوله:( قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) لم يستثن منه المتخلّف عن الوصف من القوم مع وجوده فيهم.

و أغرب منه قول بعضهم: إنّ المراد بوصف القوم بأنّهم ليسوا بها بكافرين - و القوم على قوله هم الأنصار - الإشارة إلى أنّهم و إن لم يؤمنوا بها بعد لكنّهم لم يكفروا بها كما كفر بها مشركو مكّة. و فيه مضافاً إلى أنّه لا يسلم ممّا تقدّم من الإشكال على الوجوه السابقة أنّ أهل المدينة من الأنصار كانوا حين نزول الآيات مشركين يعبدون الأصنام و لا معنى لنفي الكفر عنهم اللّهمّ إلّا بمعنى الردّ بعد الدعوة و هو الاستكبار و الاستنكاف و لا دليل على كون الكفر في الآية بهذا المعنى مع كون الآيات مسوقة لوصف الهداية الإلهيّة المقابلة للإشراك كما جرى على هذا المجرى في قوله:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) . و فيه: أنّ التوكيل المذكور في الآية يفيد معنى الحفظ، و لا معنى لقولنا: إن يكفر بها هؤلاء فقد حفظناها بقوم لم يؤمنوا بها و لم يردّوها بعد.

و من قائل: إنّ المراد بهم العجم و لم يكونوا يؤمنوا بها يومئذ و كأنّه مأخوذ من قوله تعالى:( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ ) (النساء: ١٣٣) فقد ورد أنّ المراد بالآخرين هم العجم لكن يرد عليه ما يرد على سابقه.

و من قائل: إنّ المراد بالقوم هم المؤمنون من اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المؤمنون من جميع الاُمم. و فيه: أنّه يرد عليه ما اُورد على ما قبله من الوجوه. نعم يمكن أن يوجّه بأنّ المراد بهم نفوس من هذه الاُمّة أو من جميع الاُمم يؤمن بالله إيماناً لا يعقّبه كفر ما دامت تعيش في الدنيا فهؤلاء قوم مؤمنون و ليسوا بها بكافرين و إن لم يمتنع الكفر عليهم لكن دوامهم على الإيمان بدعوة التوحيد من غير كفر أو نفاق يستدعي صدق قوله:( قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) عليهم و يتمّ به معنى الآية في أنّها مسوقة لتسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب قلبه الشريف إذ كان يحزنه كفر المشركين من قومه و استكبارهم عن إجابة دعوة الحقّ و الإيمان بالله و آياته، و في أنّها دالّة على اعتزازه تعالى بحفظ هدايته و طريقته الّتي أكرم بها عباده المكرمين و أنبياءه المقرّبين.

لكن يتوجّه إليه أنّ بناء هذا الوجه على قضيّة اتّفاقيّة و هي إيمان المؤمنين بها

٢٧٢

إيماناً يتّفق أن يبقى سليماً من الزوال من غير ضامن يضمن بقاءه، و لا يلائمه قوله تعالى:( وَكَّلْنا بِها ) فإنّ التوكيل يفيد معنى الاعتماد و يتضمّن معنى الحفظ و الكلاءة، و لا وجه للاعتزاز و المباهاة بأمر لا ضامن لثباته و لا حافظ لاستقراره و بقائه.

على أنّ الله سبحانه يذمّ كثيراً من الإيمان إذ يقول:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) (يوسف: ١٠٦) و هذه الآيات إنّما تصف التوحيد الفطريّ المحض و الهداية الإلهيّة الطاهرة النقيّة الخالية عن شوب الشرك و الظلم الّتي أكرم الله بها خليله إبراهيم و من قبله و بعده من الأنبياء المكرمينعليهم‌السلام كما يذكره إبراهيمعليه‌السلام في قوله على ما يحكيه الله سبحانه عنه:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) (الأنعام: ٨٢) و الهداية الّتي هذا شأنها لا يعدّ كلّ متلبّس بالإيمان حافظاً لها موكّلاً بها من الله يحفظها الله به من الضيعة و الفساد البتّة و فيهم الطغاة و البغاة و الفراعنة و المستكبرون و الجفاة الظلمة و أهل البدع و المتوغّلون في الفجور و أنواع الفحشاء و الفسق.

و الّذي ينبغي أن يقال في معنى الآية أعني قوله:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) إنّ الآيات لما كانت تصف التوحيد الفطريّ و الهداية الإلهيّة الطاهرة من شوب الشرك بالله سبحانه، و تذكر أنّ الله سبحانه أكرم بهذه الهداية سلسلة متّصلة متّحدة من أنبيائه و اصطفاهم بها ذرّيّة بعضها من بعض و اجتباهم و هداهم إلى صراط مستقيم لا ضلال فيه و آتاهم الكتاب و الحكم و النبوّة.

ثمّ فرّع على ذلك قوله:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) و سياقه سياق اعتزاز منه تعالى و تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه لئلّا يوهنه الحزن و يفسخ عزيمته في الدعوة الدينيّة ما يشاهده من كفر قومه و استكبارهم و عمههم في طغيانهم فمعناه أن لا تحزن بما تراه من كفرهم بهذه الهداية الإلهيّة و الطريقة الّتي تشتمل عليها الكتاب و الحكم و النبوّة الّتي آتيناها سلسلة المهديّين من الأنبياء الكرام فإنّا قد وكّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين فلا سبيل للضيعة و الزوال إلى هذه الهداية الإلهيّة لأنّا وكّلناهم بها و اعتمدنا عليهم فيها و اُولئك غير كافرين بها البتّة.

٢٧٣

فهؤلاء قوم لا يتصوّر في حقّهم كفر و لا يدخل في قلوبهم شرك لأنّ الله وكّلهم بها و اعتمد عليهم فيها و حفظها بهم و لو جاز عليهم الشرك و أمكن فيهم التخلّف كان الاعتماد عليهم فيها خطاءً و ضلالاً و الله سبحانه لا يضلّ و لا ينسى.

فالآية تدلّ - و الله أعلم - على أنّ لله سبحانه في كلّ زمان عبداً أو عباداً موكّلين بالهداية الإلهيّة و الطريقة المستقيمة الّتي يتضمّنها ما آتاه أنبياءه من الكتاب و الحكم و النبوّة يحفظ الله بهم دينه عن الزوال و هدايته عن الانقراض، و لا سبيل للشرك و الظلم إليهم لاعتصامهم بعصمة إلهيّة و هم أهل العصمة من الأنبياء الكرام و أوصيائهمعليهم‌السلام .

فالآية خاصّة بأهل العصمة و قصارى ما يمكن أن يتوسّع به أن يلحق بهم الصالحون من المؤمنين ممّن اعتصم بعصمة التقوى و الصلاح و محض الإيمان عن الشرك و الظلم، و خرج بذلك عن ولاية الشيطان قال تعالى:( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (النحل: ٩٩) إن صدق عليهم أنّ الله وكّلهم بها و اعتمد عليهم فيها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) إلى آخر الآية. عاد ثانياً إلى تعريفهم بما فيه تعريف الهدى الإلهيّ فالهدى الإلهيّ لا يتخلّف عن شأنه و أثره و هو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى:( فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) (النحل: ٣٧).

و قد أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) بالاقتداء - و هو الاتّباع - بهداهم لا بهم لأنّ شريعته ناسخة لشرائعهم و كتابه مهيمن على كتبهم، و لأنّ هذا الهدى المذكور في الآيات لا واسطة فيه بينه تعالى و بين من يهديه، و أمّا نسبة الهدى إليهم في قوله:( فَبِهُداهُمُ ) فمجرّد نسبة تشريفيّة، و الدليل عليه قوله:( ذلِكَ هُدَى اللَّهِ ) إلخ.

و قد استدلّ بعضهم بالآية على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اُمّته كانوا متعبّدين بشرائع من قبلهم إلّا ما قام الدليل على نسخه، و فيه: أنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان قيل: فبهم اقتده، و أمّا قوله:( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) فهو بمعزل عن الدلالة على ذلك، كما هو ظاهر.

و ختم سبحانه كلامه في وصف التوحيد الفطريّ و الهداية الإلهيّة إليه بقوله خطاباً لنبيّه:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْعالَمِينَ ) كأنّه قيل: اهتد بالهدى الإلهيّ الّذي اهتدى به الأنبياء قبلك، و ذكّر به العالمين من غير أن تسألهم أجراً على

٢٧٤

ذلك، و قل لهم ذلك لتطيب به نفوسهم، و يكون أنجح للدعوة و أبعد من التهمة، و قد حكى الله سبحانه هذه الكلمة عن نوح و من بعده من الأنبياءعليهم‌السلام في دعواتهم.

و الذكرى أبلغ من الذكر كما ذكره الراغب، و في الآية دليل على عموم نبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجميع العالمين.

( بحث روائي)

( في أنّ الإسلام يعدّ أولاد البنات أولاداً و ذرّيّة)

في قصص الأنبياء، للثعلبيّ: إنّ إلياس أتى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يسمّى اليسع بن خطوب، و كان به ضرّ فآوته و أخفت أمره فدعا له فعوفي من الضرّ الّذي كان به، و اتّبع اليسع إلياس فآمن به و صدّقه و لزمه فكان يذهب حيثما يذهب، ثمّ ذكر قصّة رفع إلياس، و أنّ اليسع ناداه عند ذلك: يا إلياس ما تأمرني به؟ فقذف إليه كساءه من الجوّ الأعلى فكان ذلك علامة على استخلافه إيّاه على بني إسرائيل.

قال: و نبّأ الله تعالى بفضله اليسععليه‌السلام و بعثه نبيّاً و رسولاً إلى بني إسرائيل، و أوحى الله تعالى إليه و أيّده بمثل ما أيّد به عبده إلياس فآمنت به بنوإسرائيل و كانوا يعظّمونه و ينتهون إلى رأيه و أمره، و حكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.

و في البحار، عن الاحتجاج و التوحيد و العيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمّد النوفليّ عن الرضاعليه‌السلام : فيما احتجّ به على جاثليق النصارى إلى أن قالعليه‌السلام : إنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسىعليه‌السلام مشى على الماء و أحيا الموتى و أبرأ الأكمه و الأبرص فلم يتّخذه اُمّته ربّاً. الخبر.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضيل عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا ) لنجعلها في أهل بيته،( وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ) لنجعلها في أهل بيته فأمر العقب من ذرّيّة الأنبياء من كان قبل إبراهيم و لإبراهيم.

أقول: و فيه تأييد ما قدّمناه أنّ الآيات لبيان اتّصال سلسلة الهداية.

و في الكافي، مسنداً و في تفسير العيّاشيّ، مرسلاً عن بشير الدهّان عن أبي عبدالله

٢٧٥

عليه‌السلام قال: و الله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء ثمّ تلا:( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ ) إلى آخر الآية و ذكر عيسى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي حرب عن أبي الأسود قال: أرسل الحجّاج إلى يحيى بن معمّر قال: بلغني أنّك تزعم أنّ الحسن و الحسين من ذرّيّة النبيّ تجدونه في كتاب الله، و قد قرأت كتاب الله من أوّله إلى آخره فلم أجده. قال: أ ليس تقرء سورة الأنعام؟( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ ) حتّى بلغ يحيى و عيسى قال: أ ليس عيسى من ذرّيّة إبراهيم؟ قال: نعم قرأت.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن أبي الحرب بن أبي الأسود: مثله.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوالشيخ و الحاكم و البيهقيّ عن عبدالملك بن عمير قال: دخل يحيى بن معمّر على الحجّاج فذكر الحسين فقال الحجّاج: لم يكن من ذرّيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فقال يحيى: كذبت فقال لتأتينّي على ما قلت ببيّنة فتلا:( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ - إلى قوله -وَ عِيسى‏ وَ إِلْياسَ ) فأخبر تعالى أنّ عيسى من ذرّيّة إبراهيم باُمّه. قال: صدقت.

أقول: ذكر الآلوسيّ في روح المعاني، في قوله تعالى:( و عِيسى) ، و في ذكرهعليه‌السلام دليل على أنّ الذرّيّة تتناول أولاد البنات لأنّ انتسابه ليس إلّا من جهة اُمّه. و اُورد عليه: أنّه ليس له أب يصرف إضافته إلى الاُمّ إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرّيّة لجده من الاُمّ و تعقّب بأنّ مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيّز الذرّيّة. و فيه منع ظاهر و المسألة خلافيّة، و الذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرّيّة يستدلّون بهذه الآية، و بها احتجّ موسى الكاظم رضي الله عنه على ما رواه البعض عند الرشيد.

و في التفسير الكبير: أنّ أباجعفر رضي الله تعالى عنه استدلّ بها عند الحجّاج بن يوسف و بآية المباهلة حيث دعاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسن و الحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل( تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ ) . و ادّعى بعضهم: أنّ هذا من خصائصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد اختلف أفتاء أصحابنا في هذه المسألة، و الّذي أميل إليه القول بالدخول. انتهى.

٢٧٦

و قال في المنار: و أقول: في الباب‏ حديث أبي بكرة عند البخاريّ مرفوعاً:( إنّ ابني هذا سيّد) يعني الحسن‏، و لفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات، و حديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعاً:( و كلّ ولد آدم فإنّ عصبتهم لأبيهم خلا ولد فاطمة فإنّي أبوهم و عصبتهم) و قد جرى الناس على هذا فيقولون في أولاد فاطمةعليها‌السلام : أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أبناؤه و عترته و أهل بيته. انتهى.

أقول: و في المسألة خلط، و قد اشتبه الأمر فيها على عدّة من الأعلام فحسبوا أنّ المسألة لفظيّة يتّبع فيها اللغة حتّى احتجّ فيها بعضهم بمثل قول الشاعر:

بنونا بنو أبنائنا و بناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

و قوله:

و إنّما اُمّهات الناس أوعية

مستودعات و للأنساب آباء

و قد أخطأوا في ذلك، و إنّما هي مسألة حقوقيّة اجتماعيّة من شعب مسألة القرابة، و الاُمم و الأقوام مختلفة في تحديدها و تشخيصها و أنّ المرأة هل هي داخلة في القرابة؟ و أنّ أولاد بنت الرجل هل هي أولاده؟ و أنّ القرابة هل تختصّ بما يحصل بالولادة أو تعمّه و ما حصل بالادعاء؟ و قد كانت عرب الجاهليّة لا ترى للمرأة إلّا القرابة الطبيعيّة الّتي تؤثّر أثرها في الازدواج و الإنفاق و نحو ذلك، و لا ترى لها قرابة قانونيّة تسمح لها بالوراثة و نحوها، و أمّا أولاد البنات فلم تكن ترى لها قرابة، و كانت ترى قرابة الأدعياء و تسمّى الدعيّ ابناً لا لأنّ اللغة كانت تجوّز ذلك بل لأنّهم اتّبعوا في ذلك ما تجاورهم من الاُمم الراقية ترى ذلك بحسب قوانينها المدنيّة أو سننها القوميّة كالروم و إيران.

و أمّا الإسلام فقد ألغى قرابة الأدعياء من رأس قال تعالى:( وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ) (الأحزاب: ٤) و أدخل المرأة في القرابة و رتّب على ذلك آثارها و أدخل أولاد البنات في الأولاد قال تعالى في آية الإرث:( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) الآية: (النساء: ١١) و قال:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) (النساء: ٧) و قال في آية محرّمات النكاح:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ - إلى أن قال -وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (النساء: ٢٤)

٢٧٧

فسمّى بنت البنت بنتاً و أولاد البنات أولاداً من غير شكّ في ذلك، و قال تعالى:( و يَحْيى‏ وَ عِيسى‏ وَ إِلْياسَ ) الآية فعدّ عيسى من ذرّيّة إبراهيم أو نوحعليه‌السلام و هو غير متّصل بهما إلّا من جهة الاُمّ.

و قد استدلّ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بهذه الآية و آية التحريم و آية المباهلة على كون ابن بنت الرجل ابناً له و الدليل عامّ و إن كان الاحتجاج على أمر خاصّ و لأبي جعفر الباقرعليه‌السلام احتجاج آخر أصرح من الجميع‏ رواه في الكافي، بإسناده عن عبدالصمد بن بشير عن أبي الجارود قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن و الحسين؟ قلت: ينكرون علينا أنّهما ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: فأيّ شي‏ء احتججتم عليهم؟ قلت: احتججنا عليهم بقول الله عزّوجلّ في عيسى بن مريم:( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى‏ وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى‏ وَ عِيسى) فجعل عيسى بن مريم من ذرّيّة نوح.

قال: فأيّ شي‏ء قالوا لكم؟ قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الولد و لا يكون من الصلب. قال: فأيّ شي‏ء احتججتم عليهم؟ قلت: احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ) ثمّ قال: أيّ شي‏ء قالوا: قلت قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء رجل و آخر يقول: أبناؤنا.

قال: فقال أبوجعفرعليه‌السلام : لاُعطينّكما(١) من كتاب الله عزّوجلّ أنّهما من صلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يردّه إلّا كافر. قلت: و أين ذلك جعلت فداك؟ قال: من حيث قال الله:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ ) الآية إلى أن انتهى إلى قوله تبارك و تعالى:( وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) يا أبا الجارود هل كان يحلّ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا و فجروا، و إن قالوا: لا، فإنّهما ابناه لصلبه. و روى قريباً منه القمّيّ في تفسيره.

____________________

(١) لاُعطينّك ظ.

٢٧٨

و بالجملة فالمسألة غير لفظيّة، و قد اعتبر الإسلام في المرأة القرابة الطبيعيّة(١) و التشريعيّة جميعاً، و كذا في أولاد البنات أنّهم من الأولاد و أنّ عمود النسب يجري من جهة المرأة كما يجري من جهة الرجل كما ألغى الاتّصال النسبيّ من جهة الدعاء أو من غير نكاح شرعيّ، و قد روى الفريقان عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال:( الولد للفراش و للعاهر الحجر) غير أنّ مساهلة الناس في الحقائق الدينيّة أنستهم هذه الحقيقة و لم يبق منها إلّا بعض آثارها كالوراثة و الحرمة و لم تخل السلطات الدوليّة في صدر الإسلام من تأثير في ذلك، و قد تقدّم البحث في ذيل آية التحريم من الجزء الثالث من الكتاب.

و في تفسير النعمانيّ، بإسناده عن سليمان بن هارون العجليّ قال سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ صاحب هذا الأمر محفوظة له لو ذهب الناس جميعاً أتى الله بأصحابه، و هم الّذين قال الله عزّوجلّ:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) و هم الّذين قال الله فيهم:( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

أقول: و هو من الجري.

و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام : قال الله عزّوجلّ في كتابه:( وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ - إلى قوله -بِكافِرِينَ ) فإنّه وكّل بالفضل من أهل بيته و الإخوان و الذرّيّة، و هو قول الله تبارك و تعالى:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها ) اُمّتك فقد وكّلنا أهل بيتك بالإيمان الّذي أرسلناك به فلا يكفرون به أبداً، و لا اُضيع الإيمان الّذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء اُمّتك و ولاة أمري بعدك، و أهل استنباط العلم الّذي ليس فيه كذب و لا إثم و لا وزر و لا بطر و لا رياء.

أقول: و رواه العيّاشيّ مرسلاً و كذا الّذي قبله و الحديث كسابقه من الجري.

و في المحاسن، بإسناده علي بن عيينة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال: أبوعبداللهعليه‌السلام :

____________________

(١) المراد بالقرابة الطبيعيّة ليست هي الولادة و ما يتّبعها بحسب الوراثة التكوينيّة الجارية في الحيوان بل القرابة من حيث تستتبع أحكاماً تشريعيّة لا كثير مؤنة في جعلها كاختصاص الإنسان بما ولده و حقّ حضانته مثلاً تجاه ما في جعله مؤنة زائدة، و هو نظير الحكم الطبيعيّ في اصطلاحهم.

٢٧٩

و لقد دخلت على أبي العبّاس و قد أخذ القوم مجلسهم فمدّ يده إليّ و السفرة بين يديه موضوعة فذهبت لأخطو إليه فوقعت رجلي على طرف السفرة فدخلني بذلك ما شاء الله أن يدخلني إنّ الله يقول:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) قوماً و الله يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و يذكرون الله كثيراً.

أقول: محصّله استحياؤهعليه‌السلام من الله سبحانه بوقوع قدمه على طرف السفرة اضطراراً كأنّ في وطء السفرة كفراناً لنعمة الله ففيه تعميم للكفر في قوله:( لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) لكفر النعمة.

و في النهج،: اقتدوا بهدى نبيّكم فإنّه أفضل الهدى.

أقول: و استفادته من الآيات ظاهرة.

و في تفسير القمّيّ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: و أحسن الهدى هدى الأنبياء.

٢٨٠