الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85294
تحميل: 7375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85294 / تحميل: 7375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من كلّ سوء و قبح تعطي أنّ الخيرات و الحسنات جميعاً مستندة إلى مشيّته منسوبة إليه بلا واسطة أو معها، و الشرور و السيّئات مستندة إلى غيره تعالى كالشيطان و النفس بلا واسطة، و إنّما تنتسب إليه تعالى بالإذن فهي مملوكة له تعالى واقعة بإذنه ليستقيم أمر الامتحان الإلهيّ و يتمّ بذلك أمر الدعوة الإلهيّة بالأمر و النهي و الثواب و العقاب و لو لا ذلك لبطلت و لغت السنّة الإلهيّة في تسيير الإنسان كسائر الأنواع نحو سعادته في هذا العالم الكونيّ الّذي لا سبيل فيه إلى الكمال و السعادة إلا بالسلوك التدريجيّ.

قوله تعالى: ( وَ لِتَصْغى‏ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) إلى آخر الآية. الاقتراف هو الاكتساب، و ضمير المفرد للوحي المذكور في الآية السابقة و اللازم في قوله:( لِتَصْغى) للغاية و الجملة معطوفة على مقدّر، و التقدير: فعلنا ما فعلنا و شئنا ما شئنا و لم نمنع عن وحي بعضهم لبعض زخرف القول غروراً لغايات مستورة و لتصغى و تجيب إليه أفئدة الّذين لا يؤمنون بالآخرة و ليرضوه و ليكتسبوا ما هم مكتسبون لينالوا بذلك جميعاً ما يسألونه بلسان استعدادهم من شقاء الآخرة، فإنّ الله سبحانه يمدّ كلّاً من أهل السعادة و أهل الشقاء بما يتمّ به سيرهم إلى منازلهم و يرزقهم ما يقترحونه بلسان استعدادهم قال تعالى:( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (الإسراء: ٢٠).

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: لمّا حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنّا ابن أخيه فإنّا نستحيي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلمّا مات قتلوه.

فانطلق أبوسفيان و أبوجهل و النضر بن الحارث و اُميّة و اُبيّ ابنا خلف و عقبة بن أبي معيط و عمرو بن العاصي و الأسود بن البختريّ، و بعثوا رجلاً منهم يقال له المطّلب فقالوا: استأذن لنا على أبي طالب فأتى أباطالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول

٣٤١

عليك فأذن لهم عليه فدخلوا فقالوا: يا أباطالب أنت كبيرنا و سيّدنا، و إنّ محمّداً قد آذانا و آذى آلهتنا فنحبّ أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا و لندعه و إلهه، فدعاه فجاءه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له أبوطالب: هؤلاء قومك و بنو عمّك، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا و آلهتنا و لندعك و إلهك. قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة أن تكلّمتم بها ملكتم بها العرب و دانت لكم بها العجم الخراج؟ قال أبوجهل: و أبيك لنعطينّكها و عشرة أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلّا الله، فأبوا و اشمأزّوا.

قال أبوطالب: قل غيرها فإنّ قومك قد فزعوا منها، قال: يا عمّ ما أنا بالّذي أقول غيرها حتّى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي و لو آتوني بالشمس فيضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فغضبوا و قالوا: لتكفّنّ عن شتم آلهتنا أو لنشتمنّك و نشتم من يأمرك، فأنزل الله:( وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

أقول: و الرواية - كما ترى - لا يلائم ذيلها صدرها فإنّ مقتضى صدرها أنّهم كانوا يسألونه الكفّ عن آلهتهم أي لا يدعو الناس إلى رفضها و ترك التقرّب إليها حتّى إذا يئسوا من إجابته هدّدوه بشتم ربّه إن شتم آلهتهم و كان مقتضى جرّ الكلام أن يهدّدوه على دعوة إلى رفضها لا أن يهملوا ذلك و يذكروا شتمه و يهدّدوه على ذلك و ليس في الآية إشارة إلى صدر القصّة و هو أصلها.

على أنّ وقار النبوّة و عظيم الخلق الّذي كان في عشرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمنعه من التفوّه بالشتم الّذي هو من لغو القول، و الّذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: اللّهمّ العن فلاناً و فلاناً، و كذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله:( لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ) (النساء: ٤٦) و قوله:( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) (المدّثّر: ١٩) و قوله:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) (عبس: ١٧) و قوله:( أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (الأنبياء: ٦٧) و نظائر ذلك فإنّما هي من الدعاء دون الشتم الّذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلاً، و الّذي ورد من قبيل قوله تعالى:( مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) (القلم: ١٣)

٣٤٢

فإنّما هو من قبيل بيان الحقيقة. فالظاهر أنّ العامّة من المؤمنين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّما أدّاهم المشاجرة و الجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيراً بين عامّة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك كما يشير إليه الحديث الآتي.

و في تفسير القمّيّ، قال: حدّثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سئل عن قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء) فقال: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سبّ آلهتهم لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون فقال:( وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمرو الطيالسيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ لا تَسُبُّوا ) الآية. قال: فقال يا عمرو هل رأيت أحداً يسبّ الله؟ قال: فقلت: جعلني الله فداك فكيف؟ قال: من سبّ وليّ الله فقد سبّ الله.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن محمّد بن كعب القرظيّ قال: كلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً فقالوا: يا محمّد تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، و أنّ عيسى كان يحيي الموتى و أنّ ثمود كان لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتّى نصدّقك فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ شي‏ء تحبّون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً قال: فإن فعلت تصدّقوني؟ قالوا: نعم و الله لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعون فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو فجاء جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح ذهباً فإن لم يصدّقوا عند ذلك لنعذّبنّهم، و إن شئت فاتركهم حتّى يتوب تائبهم فقال: بل يتوب تائبهم فأنزل الله:( وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ - إلى قوله -يَجْهَلُونَ ) .

أقول: القصّة المذكورة سبباً للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات فقد تقدّم أنّ ظاهرها الإخبار عن أنّهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات، و أنّهم ليسوا بمفارقي الشرك و إن أتتهم كلّ آية ممكنة حتّى يشاء الله منهم الإيمان و لم يشأ ذلك، و إذا كان هذا هو الظاهر من الآيات فكيف ينطبق على ما في الرواية من قول جبرئيل:

٣٤٣

إن شئت صار ذهباً فإن لم يؤمنوا عذّبوا، و إن شئت فاتركهم حتّى يتوب تائبهم، إلخ.

فالظاهر أنّ الآيات في معنى قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) (البقرة: ٦) فكأنّ طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات سوى القرآن و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم ليؤمننّ بها فكذّبهم الله بهذه الآيات و أخبر أنّهم لن يؤمنوا لأنّه تعالى لم يشأ ذلك نكالاً عليهم.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ ) الآية في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في الآية، يقول: و ننكّس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، و نعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى: و قال عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : إنّ ما تغلّبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثمّ الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه معروفاً و لم ينكر منكراً نكّس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيراً أبداً.

أقول: المراد بذلك تقلّب النفس في إدراكها و انعكاس أحكامها من جهة اتّباع الهوى و الإعراض عن سليم العقل المعدّل لمقترحات القوى الحيوانيّة الطاغية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن قول الله:( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ ) إلى آخر الآية أمّا قوله:( كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) فإنّه حين اُخذ عليهم الميثاق.

أقول: سيأتي الكلام الفصل في الميثاق في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الآية (الأعراف: ١٧٢) لكن تقدّم أنّ ظاهر السياق أنّ المراد بعدم إيمانهم به أوّل مرّة عدم إيمانهم بالقرآن في أوّل الدعوة.

٣٤٤

( سورة الأنعام الآيات ١١٤ - ١٢١)

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا  وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ  فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( ١١٤ ) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا  لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١١٥ ) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ  إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ( ١١٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ  وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ١١٧ ) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( ١١٨ ) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ  وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ  إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( ١١٩ ) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ  إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ( ١٢٠ ) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ  وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ  وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( ١٢١ )

( بيان)

الآيات على ما لها من الاتّصال بما قبلها كما يدلّ عليه التفريع بالفاء في قوله:( أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ) إلخ. لها فيما بينها أنفسها - و هي ثمان آيات - اتّصال يرتبط به بعضها ببعض و يرجع بعضها إلى بعض فإنّ فيها إنكار أن يتّخذ حكم إلّا الله و قد فصّل أحكامه في كتابه، و نهياً من اتّباع الناس و إطاعتهم و أنّ إطاعة أكثر الناس من المضلّات لاتّباعهم

٣٤٥

الظنّ و بنائهم على الخرص و التخمين، و في آخرها أنّ المشركين و هم أولياء الشياطين يجادلون المؤمنين في أمر أكل الميتة، و فيها الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه و النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، و أنّ ذلك هو الّذي فصّله في كتابه و ارتضاه لعباده.

و هذا كلّه يؤيّد ما نقل عن ابن عبّاس: أنّ المشركين خاصموا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين في أمر الميتة قائلين: أ تأكلون ممّا قتلتم أنتم و لا تأكلون ممّا قتله الله؟ فنزلت‏، فالغرض من هذه الآيات بيان الفرق و تثبيت الحكم.

قوله تعالى: ( أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا ) قال في المجمع: الحكم و الحاكم بمعنى واحد إلّا أنّ الحكم أمدح لأنّ معناه من يستحقّ أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلّا بالحقّ و قد يحكم الحاكم بغير حقّ. قال: و معنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى، و ينفي أيضاً التداخل الّذي يوجب نقصان البيان عن المراد، انتهى.

و في قوله:( أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً ) تفريع على ما تقدّم من البصائر الّتي جاءت من قبله تعالى، و قد ذكر قبل ذلك في القرآن أنّه كتاب أنزله مبارك مصدّق الّذي بين يديه من التوراة و الإنجيل، و المعنى: أ فغير الله من سائر من تدعون من الآلهة أو من ينتمي إليهم أطلب حكماً يتّبع حكمه و هو الّذي أنزل عليكم هذا الكتاب و هو القرآن مفصّلاً متميّزاً بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض، و لا يستحقّ الحكم إلّا من هو على هذه الصفة فالآية كقوله تعالى:( وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ‏ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (المؤمن: ٢٠).

و قوله:( أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (يونس: ٣٥).

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ ) إلى آخر الآية، رجوع إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يتأكّد به يقينه و يزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر بأنّ الكتاب النازل إليه منزل من ربّه بالحقّ ففي الكلام التفات، و هو

٣٤٦

بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه و اطمئنان قلبه و ليعلم المشركون أنّه على بصيرة من أمره.

و قوله:( بِالْحَقِّ ) متعلّق بقوله:( مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ ) و كون التنزيل بالحقّ هو أن لا يكون بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى:( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى‏ مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى‏ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ) (الشعراء: ٢٢٢) أو بتخليط الشياطين بعض الباطل بالوحي الإلهيّ، و قد أمّن الله رسول من ذلك بمثل قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) (الجنّ: ٢٨).

قوله تعالى: ( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) الكلمة - و هي ما دلّ على معنى تامّ أو غيره - ربّما استعملت في القرآن في القول الحقّ الّذي قاله الله عزّ من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) (يونس: ١٩) يشير إلى قوله لآدم عند الهبوط:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) (البقرة: ٣٦) و قوله تعالى:( حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ) (يونس: ٩٦) يشير إلى قوله تعالى لإبليس:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( ص: ٨٥) و قد فسّرها في موضع آخر بقوله:( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (هود: ١١٩) و كقوله تعالى:( وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) (الأعراف: ١٣٧) يشير إلى ما وعدهم أنّه سينجّيهم من فرعون و يورثهم الأرض كما يشير إليه قوله:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) (القصص: ٥).

و ربّما استعملت الكلمة في العين الخارجيّ كالإنسان مثلاً كقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (آل عمران: ٤٥) و العناية فيه أنّهعليه‌السلام خرق عادة التدريج و خلق بكلمة إلهيّة موجدة قال تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (آل عمران: ٥٩).

فظاهر سياق الآيات فيما نحن فيه يعطي أن يكون المراد بقوله:( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ

٣٤٧

رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا ) كلمة الدعوة الإسلاميّة و ما يلازمها من نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزول القرآن المهيمن على ما تقدّم عليه من الكتب السماويّة المشتمل على جوامع المعارف الإلهيّة و كلّيّات الشرائع الدينيّة كما أشار إليه فيما حكى من دعاء إبراهيمعليه‌السلام عند بناء الكعبة:( رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ ) (البقرة: ١٢٩).

و أشار إلى تقدّم ذكره في الكتب السماويّة في قوله:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ ) (الأعراف: ١٥٧) و بذلك يشعر قوله في الآية السابقة:( وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) و قوله:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) (البقرة: ١٤٦) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

فالمراد بتمام الكلمة - و الله أعلم - بلوغ هذه الكلمة أعني ظهور الدعوة الإسلاميّة بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، مرتبة الثبوت و استقرارها في مستقرّ التحقّق بعد ما كانت تسير دهراً طويلاً في مدارج التدريج بنبوّة بعد نبوّة و شريعة بعد شريعة فإنّ الآيات الكريمة دالّة على أنّ الشريعة الإسلاميّة تتضمّن جمل ما تقدّمت عليه من الشرائع و تزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) (الشورى: ١٣).

و بذلك يظهر معنى تمام الكلمة و أنّ المراد به انتهاء تدرّج الشرائع من مراحل النقص إلى مرحلة الكمال، و مصداقه الدين المحمّديّ قال تعالى:( وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (الصفّ: ٩).

و تمام هذه الكلمة الإلهيّة صدقاً هو أن يصدق القول بتحقّقها في الخارج بالصفة الّتي بيّن بها، و عدلاً أن تتّصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلّف بعض أجزائه عن بعض و تزن الأشياء على النحو الّذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف و ظلم، و لذلك بيّن هذين القيدين أعني( صِدْقاً وَ عَدْلًا ) بقوله( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) فإنّ الكلمة

٣٤٨

الإلهيّة إذا لم تقبل تبديلاً من مبدّل سواء كان المبدّل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدّل إرادة أو يخلف ميعاده، أو كان المبدّل غيره تعالى كأن يعجزه غيره و يقهره على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقاً تقع كما قال، و عدلاً لا تنحرف عن حالها الّتي كانت عليها وصفها الّذي وصفت به فالجملة أعني قوله:( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) بمنزلة التعليل يعلّل بها قوله:( صِدْقاً وَ عَدْلًا ) .

و من أقوال المفسّرين في الآية أنّ المراد بالكلمة و الكلمات القرآن، و قيل: إنّ المراد بالكلمة القرآن، و بالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنّها تقبل التبديل بالنسخ و الله سبحانه يقول:( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) و قيل: المراد بالكلمة الدين، و قيل: المراد الحجّة، و قيل: الصدق ما كان في القرآن من الأخبار و العدل ما فيه من الأحكام، هذا.

و قوله تعالى:( وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان حاجتكم، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة الملائكة الرسل، و العليم بذلك من غير واسطة، أو السميع لأقوالكم، العليم بأفعالكم.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) إلى آخر الآية. الخرص الكذب و التخمين، و المعنى الثاني هو الأنسب بسياق الآية فإنّ الجملة أعني قوله:( وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) و الّتي قبلها أعني قوله:( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ) واقعتان موقع التعليل لقوله:( وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ) إلخ، و اتّباع الظنّ و القول بالخرص و التخمين سببان بالطبع للضلال في الاُمور الّتي لا يسوغ الاعتماد فيها إلّا على العلم و اليقين كالمعارف الراجعة إليه تعالى و الشرائع المأخوذة من قبله.

و سير الإنسان و سلوكه الحيويّ في الدنيا و إن كان لا يتمّ دون الركون إلى الظنّ و الاستمداد من التخمين حتّى أنّ الباحث عن علوم الإنسان الاعتباريّة و العلل و الأسباب الّتي تدعوه إلى صوغه لها و تقليبها في قالب الاعتبار، و ارتباطها بشؤنه الحيويّة و أعماله و أحواله لا يكاد يجد مصداقاً يركن الإنسان فيه إلى العلم الخالص و اليقين المحض

٣٤٩

اللّهمّ إلّا بعض الكلّيّات النظريّة الّتي ينتهي إليها ممّا يضطرّ إلى الإذعان بها و الاعتماد عليها.

إلّا أنّ ذلك كلّه فيما يقبل التقريب و التخمين من جزئيّات الاُمور في الحياة، و أمّا السعادة الإنسانيّة الّتي فيه فوز هذا النوع و فلاحه، و الشقاء الّذي يرتبط به الهلاك الأبديّ و الخسران الدائم، و ما يتوقّف عليه التبصّر فيهما من النظر في العالم و صانعه و الغرض من إيجاده و ما ينتهي إليه الأمر من البعث و النشور و ما يتعلّق به من النبوّة و الكتاب و الحكم فإنّ ذلك كلّه ممّا لا يقبل الركون إلى الظنّ و التخمين و الله سبحانه لا يرتضي من عباده في ذلك إلّا العلم و اليقين، و الآيات في ذلك كثيرة جدّاً كقوله تعالى:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (الإسراء: ٣٦).

و من أوضحها دلالة هذه الآية الّتي نحن فيها يبيّن فيها أنّ أكثر أهل الأرض لركونهم العامّ إلى الظنّ و التخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه و يأمرون به في سبيل الله و طريق عبوديّته لأنّ الظنّ ليس ممّا يكشف به الحقّ الّذي يستراح إليه في أمر الربوبيّة و العبوديّة لملازمته الجهل بالواقع و عدم الاطمئنان إليه، و لا عبوديّة مع الجهل بالربّ و ما يريده من عبده.

فهذا هو الّذي يقضي به العقل الصريح، و قد أمضاه الله سبحانه كما في قوله في الآية التالية في معنى تعليل النهي عن الطاعة:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث علّل الحكم بعلم الله دون حكم العقل، و قد جمع سبحانه بين الطريقين جميعاً في قوله:( وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً - و هذا أخذ بحكم العقل -فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (النجم: ٣٠) و في ذيل الآية استناد إلى علم الله سبحانه و حكمه.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ذكروا أنّ( أَعْلَمُ ) إذا لم يتمّ بمن ربّما أفاد معنى التفضيل و ربّما استعمل بمعنى الصفة خالية عن التفضيل، و الآية تحتمل المعنيين جميعاً فإن اُريد حقيقة العلم بالضالّين

٣٥٠

و المهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتّى يفضّل عليه، و إن اُريد مطلق العلم أعمّ ممّا كان المتّصف به متّصفاً بذاته أو كان اتّصافه به بعطيّة منه تعالى كان المتعيّن هو معنى التفضيل فإنّ لغيره تعالى علماً بالضالّ و المهتدي قدر ما أفاضه الله عليه من العلم.

و تعدّي أعلم بالباء في قوله:( أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) يدلّ على أنّ قوله:( مَنْ يَضِلُّ ) منصوب بنزع الخافض و التقدير:( أعلم بمن يضلّ) و يؤيّده ما نقلناه آنفاً من آية سورة النجم.

قوله تعالى: ( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ) لمّا تمهّد ما قدّمه من البيان الّذي هو حجّة على أنّ الله سبحانه هو أحقّ بأن يطاع من غيره استنتج منه وجوب الأخذ بالحكم الّذي شرّعه و هو الّذي يدلّ عليه هذه الآية، و وجوب رفض ما يبيحه غيره بهواه من غير علم و يجادل المؤمنين فيه بوحي الشياطين إليه، و هو الّذي يدلّ عليه قوله:( وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) إلى آخر الآية.

و من هنا يظهر أنّ العناية الأصليّة متعلّقة بجملتين من بين الجمل المتّسقة في الآية إلى تمام أربع آيات، و سائر الجمل مقصودة بتبعها يبيّن بها ما يتوقّف عليه المطلوب بجهاته فأصل الكلام: فكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه و لا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه أي فرّقوا بين المذكّى و الميتة فكلوا من هذه و لا تأكلوا من ذاك، و إن كان المشركون يجادلونكم في أمر التفريق.

فقوله:( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ ) تفريع للحكم على البيان السابق، و لذا أردفه بقوله:( إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ) و المراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة المذكّاة.

قوله تعالى: ( وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) إلى آخر الآية، بيان تفصيليّ لإجمال التفريع الّذي في الآية السابقة، و المعنى: أنّ الله فصّل لكم ما حرّم عليكم و استثنى صورة الاضطرار و ليس فيما فصّل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا بأس بأكله و إنّ كثيراً ليضلّون بأهوائهم بغير علم إنّ ربّك هو أعلم بالمعتدين المتجاوزين عن حدوده و هؤلاء هم المشركون القائلون: لا فرق بين ما قتلتموه أنتم و ما قتله الله فكلوا الجميع أو دعوا الجميع.

٣٥١

و يظهر بما مرّ أنّ معنى قوله:( وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا ) ما لكم من نفع في أن لا تأكلوا، و ما للاستفهام التعجيبيّ، و قيل: المعنى ليس لكم أن لا تأكلوا، و ما للنفي.

و يظهر من الآية أنّ محرّمات الأكل نزلت قبل سورة الأنعام و قد وقعت في سورة النحل من السور المكّيّة فهي نازلة قبل الأنعام.

قوله تعالى: ( وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ ) إلى آخر الآية، و إن كانت مطلقة بحسب المضمون تنهى عن عامّة الإثم ظاهره و باطنه غير أنّ ارتباطها بالسياق المتّصل الّذي لسابقتها و لاحقتها يقضي بكونها تمهيداً للنهي الآتي في قوله:( وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ‏ ) و لازم ذلك أن يكون الأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه من مصاديق الإثم حتّى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الإثم الظاهر أو الباطن لكنّ التأكيد البليغ الّذي في قوله:( وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ ) يفيد أنّه من الإثم الباطن و إلّا لم تكن حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد الأكيد.

و بهذا البيان يظهر أنّ المراد بظاهر الإثم المعصية الّتي لا ستر على شؤم عاقبته و لا خفاء في شناعة نتيجته كالشرك و الفساد في الأرض و الظلم، و بباطن الإثم ما لا يعرف منه ذلك في بادئ النظر كأكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و إنّما يتميّز هذا النوع بتعريف إلهيّ و ربّما أدركه العقل، هذا هو الّذي يعطيه السياق من معنى ظاهر الإثم و باطنه.

و للمفسّرين في تفسيرهما أقوال اُخر، من ذلك: أنّ ظاهر الإثم و باطنه هما المعصية في السرّ و العلانية، و قيل: اُريد بالظاهر أفعال الجوارح، و بالباطن أفعال القلوب، و قيل: الظاهر من الإثم هو الزنا، و الباطن اتّخاذ الأخدان، و قيل: ظاهر الإثم نكاح امرأة الأب، و باطنه الزنا، و قيل: ظاهر الإثم الزنا الّذي اُظهر به، و باطنه الزنا إذا استسرّ به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهليّة من العرب أنّ الزنا لا بأس به إذا لم يتجاهر به، و إنّما الفحشاء هو الّذي أظهره صاحبه، و هذه الأقوال - كما ترى - على أنّ جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الآية عن حكم السياق.

٣٥٢

و قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ ) تعليل للنهي و إنذار بالجزاء السيّئ.

قوله تعالى: ( وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) نهي هو زميل قوله:( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) كما تقدّم.

و قوله:( وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ ) إلى آخر الآية، بيان لوجه النهي و تثبيت له أمّا قوله:( وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ ) فهو تعليل و التقدير: إنّه لفسق و كلّ فسق يجب اجتنابه فالأكل ممّا لم يذكر اسم الله عليه واجب الاجتناب.

و أمّا قوله:( وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ) ففيه ردّ ما كان المشركون يلقونه إلى المؤمنين من الشبهة، و المراد بأولياء الشياطين هم المشركون، و معناه أنّ ما يجادلكم به المشركون و هو قولهم: إنّكم تأكلون ممّا قتلتم و لا تأكلون ممّا قتله الله يعنون الميتة، هو ممّا أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول، و الفارق أنّ أكل الميتة فسق دون أكل المذكّى، و أنّ الله حرّم أكل الميتة و لم يحرّم أكل المذكّى فليس فيما حرّمه الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه.

و أمّا قوله:( وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ) فهو تهديد و تخويف بالخروج من الإيمان، و المعنى: إن أطعتم المشركين في أكل الميتة الّذي يدعونكم إليه صرتم مشركين مثلهم إمّا لأنّكم استننتم بسنّة المشركين، أو لأنّكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم فتكونون منهم قال تعالى:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (المائدة: ٥١).

و وقوع هذه الجملة أعني قوله:( وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ ) إلخ، في ذيل النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه دون الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه يدلّ على أنّ المشركين كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكّى.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: أخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبدالله قال: دخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكّة و معه مخصرة، و لكلّ قوم صنم يعبدونه فجعل

٣٥٣

يأتيها صنماً صنماً و يطعن في صدر الصنم بعصاً ثمّ يعقره كلّما صرع صنماً أتبعه الناس ضرباً بالفؤوس حتّى يكسرونه و يطرحونه خارجاً من المسجد و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: و تمّت كلمات ربّك صدقاً و عدلاً لا مبدّل لكلماته و هو السميع العليم.

و فيه،: أخرج ابن مردويه و ابن النجّار عن أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا ) قال: لا إله إلّا الله.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن مروان قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ الإمام ليسمع في بطن اُمّه فإذا ولد خطّ بين كتفيه:( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عموداً من نور يبصر به ما يعمل أهل كلّ بلدة.

أقول: و روي هذا المعنى بطرق اُخرى عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام و رواه أيضاً القمّيّ و العيّاشيّ في تفسيريهما عنهعليه‌السلام ، و في بعضها: أنّ الآية تكتب بين عينيه، و في بعضها: على عضده الأيمن.

و اختلاف مورد الكتابة في الروايات تكشف عن أنّ المراد بها القضاء بظهور الحكم الإلهيّ بهعليه‌السلام و اختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأنّ المراد بكتابتها فيما بين عينيه جعلها وجهة له يتوجّه إليها، و بكتابتها بين كتفيه حملها عليه و إظهاره و تأييده بها و بكتابتها على عضده الأيمن جعلها طابعاً على عمله و تقويته و تأييده بها.

و هذه الرواية و الروايتان السابقتان عليها تؤيّد ما قدّمناه أنّ ظاهر الآية كون المراد بتمام الكلمة ظهور الدعوة الإسلاميّة بما يلازمها من نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزول القرآن و الإمامة من ذلك.

و في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ) الآية عن محمّد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلّل أو يسبّح أو يحمد و يكبّر قال: هذا كلّه من أسماء الله.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن ذبيحة المرأة و الغلام هل تؤكل؟ قال: نعم إذا كانت المرأة مسلمة و ذكرت اسم الله حلّت ذبيحتها، و إذا كان الغلام

٣٥٤

قويّاً على الذبح و ذكر اسم الله حلّت ذبيحته، و إن كان الرجل مسلماً فنسي أن يسمّي فلا بأس بأكله إذا لم تتّهمه.

أقول: و في هذه المعاني أخبار من طرق أهل السنّة.

و فيه، عن حمران قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: في ذبيحة الناصب و اليهوديّ قال: لا تأكل ذبيحته حتّى تسمعه يذكر اسم الله، أ ما سمعت قول الله:( وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ )

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود و البيهقيّ في سننه و ابن مردويه عن ابن عبّاس:( وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ ) فنسخ و استثنى من ذلك فقال:( وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) .

أقول: و روي النسخ عن أبي حاتم عن مكحول و قد تقدّم في أوّل المائدة: أن الآية إن نسخت فإنّما تنسخ اشتراط الإسلام في المذكّي - اسم فاعل - دون وجوب التسمية إذ لا نظر لها إليه و لا تنافي بين الآيتين في ذلك و للمسألة ارتباط بالفقه‏.

٣٥٥

( سورة الأنعام الآيات ١٢٢ - ١٢٧)

أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا  كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٢٢ ) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا  وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ١٢٣ ) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ  اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ  سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ( ١٢٤ ) فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ  وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ  كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ( ١٢٥ ) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا  قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ  وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٢٧ )

( بيان)

قوله تعالى: ( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الآية واضحة المعنى و هي بحسب ما يسبق إلى الفهم البسيط الساذج مثل مضروب لكلّ من المؤمن و الكافر يظهر بالتدبّر فيه حقيقة حاله في الهدى و الضلال.

فالإنسان قبل أن يمسّه الهدى الإلهيّ كالميّت المحروم من نعمة الحياة الّذي لا حسّ له و لا حركة فإن آمن بربّه إيماناً يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، و جعل

٣٥٦

له نوراً يدور معه حيث دار يبصر في شعاعه خيره من شرّه و نفعه من ضرّه فيأخذ ما ينفعه و يدع ما يضرّه و هكذا يسير في مسير الحياة.

و أمّا الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها و لا مناص له عنها ظلمة الموت و ما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشرّ و النافع من الضارّ، و نظير هذه الآية في معناها بوجه قوله تعالى:( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ) (الأنعام: ٣٦) و قال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) (النحل: ٩٧).

ففي الكلام استعارة الموت للضلال و استعارة الحياة للإيمان أو الاهتداء و الإحياء للهداية إلى الإيمان و النور للتبصّر بالأعمال الصالحة، و الظلمة للجهل كلّ ذلك في مستوى التفهيم و التفهّم العموميّين لما أنّ أهل هذا الظرف لا يرون للإنسان بما هو إنسان حياة وراء الحياة الحيوانيّة الّتي هي المنشأ للشعور باللذائذ المادّيّة و الحركة الإراديّة نحوها.

فهؤلاء يرون أنّ المؤمن و الكافر لا يختلفان في هذه الموهبة و هي فيهما شرع سواء فلا محالة عدّ المؤمن حيّاً بحياة الإيمان ذا نور يمشي به في الناس، و عدّ الكافر ميتاً بميتة الضلال في ظلمات لا مخرج منها ليس إلّا مبتنياً على عناية تخييليّة و استعارة تمثيليّة يمثّل بها حقيقة المعنى المقصود.

لكنّ التدبّر في أطراف الكلام و التأمّل فيما يعرّفه القرآن الكريم يعطي للآية معنى وراء هذا الّذي يناله الفهم العامّيّ فإنّ الله سبحانه ينسب للإنسان الإلهيّ في كلامه حياة خالدة أبديّة لا تنقطع بالموت الدنيويّ هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته مصون بصيانته لا يمسّه نصب و لا لغوب، و لا يذلّه شقاء و لا تعب، مستغرب في حبّ ربّه مبتهج ببهجة القرب لا يرى إلّا خيراً، و لا يواجه إلّا سعادة و هو في أمن و سلام لا خوف معه و لا خطر، و سعادة و بهجة و لذّة لا نفاذ لها و لا نهاية لأمدها.

و من كان هذا شأنه فإنّه يرى ما لا يراه الناس، و يسمع ما لا يسمعونه، و يعقل ما لا يعقلونه، و يريد ما لا يريدونه و إن كانت ظواهر أعماله و صور حركاته و سكناته تحاكي

٣٥٧

أعمال غيره و حركاتهم و سكناتهم و تشابهها فله شعور و إرادة فوق ما لغيره من الشعور و الإرادة فعنده من الحياة الّتي هي منشأ الشعور و الإرادة ما ليس عند غيره من الناس فللمؤمن مرتبة من الحياة ليست عند غيره.

فكما أنّ العامّة من الإنسان في عين أنّها تشارك سائر الحيوان في الشعور بواجبات الحياة و الحركة الإراديّة نحوها، و يشاركها الحيوان لكنّا مع ذلك لا نشكّ أنّ الإنسان نوع أرقى من سائر الأنواع الحيوانيّة و له حياة فوق الحياة الّتي فيها لما نرى في الإنسان آثاره العجيبة المترشّحة من أفكار الكلّيّة و تعقّلاته المختصّة به، و لذلك نحكم في الحيوان إذا قسناه إلى النبات و في النبات إذا قسناه إلى ما قبله من مراتب الكون أنّ لكلّ منهما كعباً أعلى و حياة هي أرقى من حياة ما قبله.

فلنقض في الإنسان الّذي اُوتي العلم و الإيمان و استقرّ في دار الإيقان و اشتغل بربّه و فرغ و استراح من غيره و هو يشعر بما ليس في وسع غيره و يريد ما لا يناله سواه أنّ له حياة فوق حياة غيره، و نوراً يستمدّ به في شعوره، و إرادة لا توجد إلّا معه و في ظرف حياته.

يقول الله سبحانه:( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) (النحل: ٩٧) فلهم الحياة لكنّها بطبعها طيّبة وراء مطلق الحياة، و يقول:( لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) (الأعراف: ١٧٩) فيثبت لهم أمثال القلوب و الأعين و الآذان الّتي في المؤمنين لكنّه ينفي كمال آثارها الّتي في المؤمنين، و لم يكتف بذلك حتّى أثبت لهم روحاً خاصّاً بهم فقال:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) (المجادلة: ٢٢).

فتبيّن بذلك أنّ للحياة و كذا للنور حقيقة في المؤمن واقعيّة و ليس الكلام جارياً على ذاك التجوّز الّذي لا يتعدّى مقام العناية اللفظيّة فما في خاصّة الله من المؤمنين من الصفة الخاصّة بهم أحقّ باسم الحياة ممّا عند عامّة الناس من معنى الحياة كما أنّ حياة الإنسان كذلك بالنسبة إلى حياة الحيوان، و حياة الحيوان كذلك بالنسبة إلى حياة النبات.

٣٥٨

فقوله:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) أي ضالّاً من حيث نفسه أو ضالّاً كافراً قبل أن يؤمن بربّه و هو نوع من الموت فأحييناه بحياة الإيمان أو الهداية - و المال واحد - و جعلنا له نوراً أي علماً متولّداً من إيمانه‏ كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الفريقان:( من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم أو علّمه الله ما لم يعلم) . فإنّ روح الإيمان إذا تمكّنت من نفس الإنسان و استقرّت فيها حوّلت الآراء و الأعمال إلى صور تناسبها و لا تخالفها و كذلك سائر الملكات أعمّ من الفضائل و الرذائل إذا استقرّت في باطن الإنسان لم تلبث دون أن تحوّل آراءه و أعماله إلى أشكال تحاكيها.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالنور هو الإيمان أو القرآن و هو بعيد من السياق.

و هذا النور أثره في المؤمن أنّه( يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) أي يتبصّر به في مسير حياته الاجتماعيّة المظلمة ليأخذ من الأعمال ما ينفعه في سعادة حياته، و يترك ما يضرّه.

فهذا هو حال المؤمن في حياته و نوره فهل هو( كَمَنْ مَثَلُهُ ) و وصفه أنّه( فِي الظُّلُماتِ ) ظلمات الضلال و فقدان نور الإيمان( لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) لأنّ الموت لا يستتبع آثار الحياة البتّة فلا مطمع في أن يهتدي الكافر إلى أعمال تنفعه في اُخراه و تسعده في عقباه.

و قد ظهر ممّا تقدّم أنّ قوله:( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ ) إلخ، في تقدير: هو في الظلمات ليس بخارج منها، ففي الكلام مبتدأ محذوف هو الضمير العائد إلى الموصول، و قيل: التقدير: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، و لا بأس به لو لا كثرة التقدير.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ظاهر سياق صدر الآية أن يكون التشبيه في قوله:( كَذلِكَ ) من قبيل تشبيه الفرع بالأصل بعناية إعطاء القاعدة الكلّيّة كقوله تعالى:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ ) و قوله:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ ) (الرعد: ١٧) أي اتّخذ ما ذكرناه من المثل أصلاً و قس عليه كلّ ما عثرت به من مثل مضروب فمعنى قوله:( كَذلِكَ زُيِّنَ ) إلخ، على هذا المثال المذكور أنّ الكافر لا مخرج له من الظلمات، زيّن للكافرين أعمالهم فقد زيّنت لهم أعمالهم زينة تجذبهم إليها و تحبسهم و لا تدعهم يخرجوا منها إلى فضاء السعادة و فسحة النور أبداً و الله لا يهدي

٣٥٩

القوم الظالمين.

و قيل: إنّ وجه التشبيه في قوله:( كَذلِكَ زُيِّنَ ) إلخ، أنّه زيّن لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زيّن لاُولئك الإيمان فعملوه. فشبّه حال هؤلاء في التزيين بحال اُولئك فيه (انتهى) و هو بعيد من سياق الصدر.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها ) إلى آخر الآية، كأنّ المراد بالآية أنّا أحيينا جمعاً و جعلنا لهم نوراً يمشون به في الناس، و آخرين لم نحيهم فمكثوا في الظلمات فهم غير خارجين منها و لا أنّ أعمالهم المزيّنة تنفعهم و تخلّصهم منها كذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها بالدعوة الدينيّة و النبيّ و المؤمنين لكنّه لا ينفعهم فإنّهم في ظلمات لا يبصرون بل إنّما يمكرون بأنفسهم و لا يشعرون.

و على هذا فقوله:( كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) مسوق لبيان أنّ أعمالهم المزيّنة لهم لا تنفعهم في استخلاصهم من الظلمات الّتي هم فيها، و قوله:( وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ ) إلخ، مسوق لبيان أنّ أعمالهم و مكرهم لا يضرّ غيرهم إنّما وقع مكرهم على أنفسهم و ما يشعرون لمكان ما غمرهم من الظلمة.

و قيل: معنى التشبيه في الآية أنّ مثل ذلك الّذي قصصنا عليك زيّن للكافرين عملهم، و مثل ذلك جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها، و جعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من المؤمنين فكلّ ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بهم إلّا أنّ اُولئك اهتدوا بحسن اختيارهم و هؤلاء ضلّوا بسوء اختيارهم لأنّ في كلّ واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلّا أنّ الأوّل باللّطف و الثاني بالتمكين من المكر (انتهى). و لا يخلو من بعد من السياق.

و الجعل في قوله:( جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها ) كالجعل في قوله:( وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً ) فالأنسب أنّه بمعنى الخلق، و المعنى: خلقنا في كلّ قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها و كون مكرهم غاية للخلقة و غرضاً للجعل نظير كون دخول النار غرضاً إلهيّاً في قوله:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) (الأعراف: ١٧٩) و قد

٣٦٠