الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85327
تحميل: 7375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85327 / تحميل: 7375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مرّ الكلام في معنى ذلك في مواضع من هذا الكتاب. و إنّما خصّ بالذكر أكابر مجرميها لأنّ المطلوب بيان رجوع المكر إلى ما كره، و المكر بالله و آياته إنّما يصدر منهم، و أمّا أصاغر المجرمين و هم العامّة من الناس فإنّما هم أتباع و أذناب.

و أمّا قوله:( وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ ) فذلك أنّ المكر هو العمل الّذي يستبطن شرّاً و ضرّاً يعود إلى الممكور به فيفسد به غرضه المطلوب و يضلّ به سعيه و يبطل نجاح عمله، و لا غرض لله سبحانه في دعوته الدينيّة، و لا نفع فيها إلّا ما يعود إلى نفس المدعوّين فلو مكر الإنسان مكراً بالله و آياته ليفسد بذلك الغرض من الدعوة و يمنع عن نجاح السعي فيها فإنّما مكر بنفسه من حيث لا يشعر: و استضرّ بذلك هو نفسه دون ربّه.

قوله تعالى: ( وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ - إلى قوله -رِسالَتَهُ ) قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) يريدون به أن يؤتوا نفس الرسالة بما لها من موادّ الدعوة الدينيّة دون مجرّد المعارف الدينيّة من اُصول و فروع و إلّا كان اللفظ المناسب له أن يقال:( مثل ما اُوتي أنبياء الله) أو ما يشاكل ذلك كقولهم:( لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ) (البقرة: ١١٨) و قولهم:( لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا ) (الفرقان: ٢١).

فمرادهم أنّا لن نؤمن حتّى نؤتى الرسالة كما اُوتيها الرسل، و فيه شي‏ء من الاستهزاء فإنّهم ما كانوا قائلين بالرسالة فهو بوجه نظير قولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (الزخرف: ٣١) كما أنّ جوابه نظير جوابه و هو قوله تعالى:( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ) (الزخرف: ٣٢) كقوله:( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و ممّا تقدّم يظهر أنّ الضمير في قوله:( وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا ) إلخ، عائد إلى( أَكابِرَ مُجْرِمِيها ) في الآية السابقة، إذ لو رجع إلى عامّة المشركين لغي قولهم:( حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ) إذ لا معنى لرسالة جميع الناس حيث لا أحد يرسلون إليه،

٣٦١

و لم يقع قوله:( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) موقعه بل كان حقّ الجواب أنّه لغو من القول كما عرفت.

و يؤيّده الوعيد الّذي في ذيل الآية:( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ ) حيث وصفهم بالإجرام و علّل الوعيد بمكرهم، و لم ينسب المكر في الآية السابقة إلّا إلى أكابر مجرميها، و الصغار الهوان و الذلّة.

قوله تعالى: ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) الشرح هو البسط و قد ذكر الراغب في مفرداته، أنّ أصله بسط اللحم و نحوه، و شرح الصدر الّذي يعدّ في الكلام وعاءً للعلم و العرفان هو التوسعة فيه بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقّة و لا يدفع كلمة الحقّ إذا اُلقيت إليه كما يدلّ عليه ما ذكر في وصف الإضلال بالمقابلة و هو قوله:( يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) إلخ. فمن شرح الله صدره للإسلام و هو التسليم لله سبحانه فقد بسط صدره و وسعه لتسليم ما يستقبله من قبله تعالى من اعتقاد حقّ أو عمل دينيّ صالح فلا يلقي إليه قول حقّ إلّا وعاه و لا عمل صالح إلّا أخذ به و ليس إلّا أنّ لعين بصيرته نوراً يقع على الاعتقاد الحقّ فينوّره أو العمل الصالح فيشرقه خلاف من عميت عين قلبه فلا يميّز حقّاً من باطل و لا صدقاً من كذب قال تعالى:( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (الحجّ: ٤٦).

و قد بيّن تعالى شرح الصدر بهذا البيان في قوله:( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) فوصفه فعرّفه بأنّ صاحبه راكب نور من الله يشرق قدّامه في مسيره ثمّ عرّفه بالمقابلة بلينة في القلب يقبل به ذكر الله و لا يدفعه لقسوة ثمّ قال:( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى‏ ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) (الزمر: ٢٣) فذكر لين القلب إلى ذكر الله و طوعه للحقّ و أفاد أنّ ذلك هو الهدى الإلهيّ الّذي يهدي به من يشاء، و عند ذلك يرجع الآيتان أعني آية الزمر و الآية الّتي نحن فيها إلى معنى واحد و هو أنّ الله سبحانه عند هدايته عبداً من عباده يبسط صدره فيسع كلّ اعتقاد حقّ و عمل صالح و يقبله بلين و لا يدفعه بقسوة

٣٦٢

و هو نوع من النور المعنويّ الّذي ينوّر القول الحقّ و العمل الصالح و ينصر صاحبه فيمسك بما نوّره فهذا معرّف يعرف به الهداية الإلهيّة.

و من هنا يظهر أنّ الآية أعني قوله:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) بمنزلة بيان آخر لقوله:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) و التفريع الّذي في قوله:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ ) إلخ. من قبيل تفريع أحد البيانين على الآخر بدعوى أنّه نتيجته كأنّ التصادق بين البيانين يجعل أحدهما نتيجة مترتّبة و فرعاً متفرّعاً على الآخر، و هو عناية لطيفة.

و المعنى: فإذا كان من أحياه الله بعد ما كان ميتاً على هذه الصفة و هي أنّه على نور من ربّه يستضي‏ء به له واجب الاعتقاد و العمل فيأخذ به فمن يرد الله أن يهديه يوسّع صدره لأن يسلم لربّه و لا يستنكف عن عبادته فالإسلام نور من الله، و المسلمون لربّهم على نور من ربّهم.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً ) إلى آخر الآية، الإضلال مقابل الهداية، و لذا كان أثره مقابلاً لأثرها و هو التضييق المقابل للشرح و التوسعة و أثره أن لا يسع ما يتوجّه إليه من الحقّ و الصدق، و يتحرّج عن دخولهما فيه، و لذا أردف كون الصدر ضيّقاً بكونه حرجاً.

و الحرج على ما في المجمع، أضيق الضيق، و قال في المفردات: أصل الحرج و الحراج مجتمع الشي‏ء و تصوّر منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج و للإثم حرج. انتهى.

فقوله:( حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) في محلّ التفسير لقوله:( ضَيِّقاً ) و إشارة إلى أنّ ذلك نوع من الضيق يناظر بوجه التضيّق و التحرّج الّذي يشاهد من الظروف و الأوعية إذا اُريد إدخال ما هو أعظم منها و وضعه فيها.

و قوله:( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) إعطاء ضابط كلّيّ في إضلال الّذين لا يؤمنون أنّهم يفقدون حال التسليم لله و الانقياد للحقّ، و قد اُطلق عدم الإيمان و إن كان مورد الآيات عدم الإيمان بالله سبحانه و هو الشرك به لكنّ الّذي سبق من البيان في الآية يشمل عدم الإيمان بالله و هو الشرك، و عدم الإيمان بآيات

٣٦٣

الله و هو ردّ بعض ما أنزله الله من المعارف و الأحكام فقد دلّ على ذلك كلّه بقوله:( يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) إلخ، و بقوله سابقاً:( وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ ) إلخ، و قوله:( يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) إلخ، و بقوله سابقاً:( فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) .

و قد سمّي في الآية الضلال الّذي يساوق عدم الإيمان رجساً و الرجس هو القذر غير أنّه اعتبر فيه نوعاً من الاستعلاء الدالّ عليه قوله:( عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) كأنّ الرجس يعلوهم و يحيط بهم فيحول بينهم و بين غيرهم فيتنفّر منهم الطباع كما يتنفّر من الغذاء الملطّخ بالقذر.

و قد استدلّ بالآية على أنّ الهدى و الضلال من الله لا صنع فيهما لغيره تعالى و هو خطأ فإنّ الآية - كما عرفت - في مقام بيان حقيقة الهدى و الضلال اللّذين من الله و نوع تعريف لهما و تحديد لا في مقام بيان انحصارهما فيه و انتفائهما عن غيره كما هو المدّعى و هو ظاهر.

و نظير ذلك ما ذكره بعضهم: أنّ الآية كما تدلّ بلفظها على قولنا: إنّ الهداية و الضلال من الله، كذلك تدلّ بلفظها على الدليل العقليّ القاطع في هذه المسألة.

بيانه: أنّ العبد قادر على الإيمان و الكفر معاً على حدّ سواء فيمتنع صدور أحدهما عنه بدلاً من الآخر إلّا إذا اقترن بمرجّح يستدعي صدور ما يرجّح به و هو الداعي القلبيّ الّذي ليس إلّا العلم أو الاعتقاد أو الظنّ بكون الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة و منفعة راجحة من غير ضرر زائد أو مفسدة راجحة، و قد بيّنّا بالدليل أنّ حصول هذه الدواعي في القلب إنّما يكون من الله تعالى، و أنّ مجموع القدرة و الداعي يوجب العمل.

إذا ثبت هذا فنقول: يستحيل صدور الإيمان من العبد إلّا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد رجحان الإيمان، و معه يحصل من القلب ميل إليه و من النفس رغبة فيه و هذا هو انشراح الصدر، و يمتنع الكفر إلّا بخلقه ما يقابل ذلك في القلب، و يحصل حينئذ النفرة عنه و الاشمئزاز منه و هو المراد بجعل القلب ضيّقاً حرجاً فصار تقدير الآية: أنّ من أراد الله منه الإيمان قوّي دواعيه إليه، و من أراد منه الكفر قوّي صوارفه عن الإيمان و قوّي دواعيه إلى الكفر، و لمّا ثبت بالدليل العقليّ أنّ الأمر كذلك ثبت أنّ لفظ القرآن

٣٦٤

مشتمل على هذه الدلائل العقليّة. انتهى ملخّصاً.

و فيه أوّلاً: أنّ انتساب الشي‏ء إليه تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده و مقدّماته لا يوجب انتفاء نسبته إلى غيره تعالى و إلّا أوجب ذلك بطلان قانون العلّيّة العامّ و ببطلانه يبطل القضاء العقليّ من رأس فمن الممكن أن تستند الهداية و الضلال إلى غيره تعالى استناداً حقيقيّاً في حين أنّهما يستندان إليه تعالى استناداً حقيقيّاً من غير تناقض.

و ثانياً: أنّ الّذي ذكرته الآية من صنعه تعالى في موردي هدايته و إضلاله هو سعة القلب و ضيقه، و هما غير رغبة النفس و نفرته البتّة فالآية أجنبيّة عمّا ذكره أصلاً، و مجرّد استلزام إرادة الفعل من العبد رغبته و كراهته نفرته منه لا يوجب أن يكون المراد من سعة القلب و ضيقه الإرادة و الكراهة بالنسبة إلى الأعمال، ففيه مغالطة من باب أخذ أحد المقارنين مكان الآخر و من عجيب الكلام قوله: إنّ انطباق الدليل العقليّ الّذي أقامه بزعمه على الآية يوجب دلالة لفظ الآية عليه.

و ثالثاً: أنّك عرفت أنّ الآية إنّما هي في مقام تعريف ما يصنع الله بعبده إذا أراد هدايته أو ضلالته، و أمّا أنّ كلّ هداية أو ضلالة فهي من الله تعالى دون غيره فذلك أمر أجنبيّ عن غرض الآية فالآية لا دلالة لها على أنّ الهداية و الضلال من الله سبحانه و إن كان ذلك هو الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ) إلى آخر الآية، الإشارة إلى ما تقدّم بيانه في الآية السابقة من صنعه عند الهداية و الإضلال و قد تقدّم معنى الصراط و استقامته، و قد بيّن تعالى في الآية أنّ ما ذكره من شرح الصدر للإسلام إذا أراد الهداية و من جعل الصدر ضيّقاً حرجاً عند إرادة الإضلال هو صراطه المستقيم و سنّته الجارية الّتي لا تختلف و لا تتخلّف فما من مؤمن إلّا و هو منشرح الصدر للإسلام بالله و غير المؤمن بالعكس من ذلك.

فقوله:( وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ) بيان ثان و تأكيد لكون المعرّف المذكور في الآية السابقة معرّفاً جامعاً مانعاً للهداية و الضلالة ثمّ أكّد سبحانه البيان بقوله:( قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) أي إنّ القول حقّ بيّن عند من تذكّر و رجع إلى ما

٣٦٥

أودعه الله في نفسه من المعارف الفطريّة و العقائد الأوّليّة الّتي بتذكّرها يهتدي الإنسان إلى معرفة كلّ حقّ و تمييزه من الباطل، و البيان مع ذلك لله سبحانه فإنّه هو الّذي يهدي الإنسان إلى النتيجة بعد هدايته إلى الحجّة.

قوله تعالى: ( لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) المراد بالسلام هو معناه اللغويّ - على ما يعطيه ظاهر السياق - و هو التعرّي من الآفات الظاهرة و الباطنة، و دار السلام هي المحلّ الّذي لا آفة تهدّد من حلّ فيه من موت و عاهة و مرض و فقر و أيّ عدم و فقد آخر و غمّ و حزن، و هذه هي الجنّة الموعودة و لا سيّما بالنظر إلى تقييده بقوله:( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) .

نعم أولياء الله تعالى يجدون في هذه النشأة ما وعدهم الله من إسكانهم دار السلام لأنّهم يرون الملك لله فلا يملكون شيئاً حتّى يخافوا فقده أو يحزنوا لفقده قال تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (يونس: ٦٢) و هم لا شغل لهم إلّا بربّهم خلوا به في حياتهم فلهم دار السلام عند ربّهم - و هم قاطنون في هذه الدنيا - و هو وليّهم بما كانوا يعملون و هو سيرهم في الحياة بنور الهداية الإلهيّة الّذي جعله في قلوبهم، و نوّر به أبصارهم و بصائرهم.

و ربّما قيل: المراد بالسلام هو الله، و داره الجنّة، و السياق يأباه و ضمائر الجمع في الآية راجعة إلى القوم في قوله:( لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) - على ما قيل - لأنّه أقرب المراجع لرجوعها إليها غير أنّ التدبّر في الآيات يؤيّد رجوعها إلى المهتدين بالهداية المذكورة بما أنّ الكلام فيهم و الآيات مسوقة لبيان حسن صنع الله بهم فالوعد الحسن المذكور يجب أن يعود إليهم، و أمّا القوم المتذكّرون فإنّما ذكروا و دخلوا في غرض الكلام بالتبع.

٣٦٦

( كلام في معنى الهداية الإلهيّة)

الهداية بالمعنى الّذي نعرفه كيفما اتّخذت هي من العناوين الّتي تعنون بها الأفعال و تتّصف بها، تقول: هديت فلاناً إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفيّة الوصول إليه أو أريته الطريق الّذي ينتهي إليه، و هذه هي الهداية بمعنى إراءة الطريق، أو أخذت بيده و صاحبته في الطريق حتّى توصله إلى الغاية المطلوبة، و هذه هي الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب.

فالواقع في الخارج في جميع هذه الموارد هو أقسام الأفعال الّتي تأتي بها من ذكر الطريق أو إراءته أو المشي مع المهديّ و أمّا الهداية فهي عنوان للفعل يدور مدار القصد كما أنّ ما يأتيه المهديّ من الفعل في إثره معنون بعنوان الاهتداء فما ينسب إليه تعالى من الهداية و يسمّى لأجله هادياً و هو أحد الأسماء الحسنى من صفات الفعل المنتزعة من فعله تعالى كالرحمة و الرزق و نحوهما.

و هدايته تعالى نوعان: أحدهما الهداية التكوينيّة و هي الّتي تتعلّق بالاُمور التكوينيّة كهدايته كلّ نوع من أنواع المصنوعات إلى كماله الّذي خلق لأجله و إلى أفعاله الّتي كتبت له، و هدايته كلّ شخص من أشخاص الخليقة إلى الأمر المقدّر له و الأجل المضروب لوجوده قال تعالى:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (طه: ٥٠) و قال:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) (الأعلى: ٣).

و النوع الثاني: الهداية التشريعيّة و هي الّتي تتعلّق بالاُمور التشريعيّة من الاعتقادات الحقّة و الأعمال الصالحة الّتي وضعها الله سبحانه للأمر و النهي و البعث و الزجر و وعد على الأخذ بها ثواباً و أوعد على تركها عقاباً.

و من هذه الهداية ما هي إراءة الطريق كما في قوله تعالى:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) (الدهر: ٣).

و منها ما هي بمعنى الإيصال إلى المطلوب كما في قوله تعالى:( وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ ) (الأعراف: ١٧٦) و قد عرّف الله سبحانه هذه

٣٦٧

الهداية تعريفاً بقوله:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) (الآية: ١٢٥) فهي انبساط خاصّ في القلب يعي به القول الحقّ و العمل الصالح من غير أن يتضيّق به، و تهيّؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لأمر الله و لا يتحرّج عن حكمه.

و إلى هذا المعنى يشير تعالى بقوله:( أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى‏ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ - إلى أن -قال ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ ) (الزمر: ٢٣) و قد وصفه في الآية بالنور لأنّه ينجلي به للقلب ما يجب عليه أن يعيه من التسليم لحقّ القول و صدق العمل عمّا يجب عليه أن لا يعيه و لا يقبله و هو باطل القول و فاسد العمل.

و قد رسم الله سبحانه لهذه الهداية رسماً آخر و هو ما في قوله عقيب ذكره هدايته أنبياءه الكرام و ما خصّهم به من النعم العظام:( وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) (الأنعام: ٨٨) فقد أوضحنا في تفسير الآية أن الآية تدلّ على أنّ من خاصّة الهداية الإلهيّة أنّها تورد المهتدين بها صراطاً مستقيماً و طريقاً سويّاً لا تخلّف فيه و لا اختلاف.

فلا بعض أجزاء صراطه الّذي هو دينه بما فيه من المعارف و الشرائع يناقض البعض الآخر لما أنّ الجميع يمثّل التوحيد الخالص الّذي ليس إلّا حقيقة ثابتة واحدة، و لما أنّ كلّها مبنيّة على الفطرة الإلهيّة الّتي لا تخطئ في حكمها و لا تتبدّل في نفسها و لا في مقتضياتها.

و لا بعض الراكبين عليه السائرين فيه يألفون بعضاً آخر فالّذي يدعو إليه نبيّ من أنبياء الله هو الّذي يدعو إليه جميعهم، و الّذي يندب إليه خاتمهم و آخرهم هو الّذي يندب إليه آدمهم و أوّلهم من غير أيّ فرق إلّا من حيث الإجمال و التفصيل.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن زيد قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: في قول الله تبارك و تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) فقال: ميّت لا يعرف

٣٦٨

شيئاً( نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) إماماً يأتمّ به( كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) قال: الّذي لا يعرف الإمام.

أقول: و هو من قبيل الجري و الانطباق فسياق الآية يأبى إلّا أن تكون الحياة هو الإيمان و النور هو الهداية الإلهيّة إلى القول الحقّ و العمل الصالح.

و قد روى السيوطيّ في الدرّ المنثور، عن زيد بن أسلم: أنّ الآية نزلت في عمّار بن ياسر، و روي أيضاً عن ابن عبّاس و زيد بن أسلم أنّها نزلت في عمر بن الخطّاب و أبي جهل بن هشام‏ و السياق يأبى كون الآية خاصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي الدنيا و ابن جرير و أبوالشيخ و ابن مردويه و الحاكم و البيهقيّ في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نزلت هذه الآية:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) قال: إذا أدخل الله النور القلب انشرح و انفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور و الاستعداد للموت قبل نزول الموت:.

أقول: و رواه أيضاً عدّة من المفسّرين عن جمع من التابعين كأبي جعفر المدائنيّ و الفضل و الحسن و عبدالله بن السور عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، بإسناده عن حمدان بن سليمان النيشابوريّ قال: سألت أباالحسن الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) قال: فمن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا و إلى جنّته و دار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله و الثقة به و السكون إلى ما وعد من ثوابه حتّى يطمئنّ إليه، و من يرد أن يضلّه عن جنّته و دار كرامته في الآخرة لكفره به و عصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيّقاً حرجاً حتّى يشكّ في كفره(١) و يضطرب عن اعتقاده حتّى يصير كأنّما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون.

أقول: و في الحديث نكات حسنة تشير إلى ما شرحناه في البيان المتقدّم.

و في الكافي، بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال: إنّ‏ الله

____________________

(١) إيمانه ظ.

٣٦٩

عزّوجلّ إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة من نور، و فتح مسامع قلبه، و وكّل به ملكاً يسدّده و إذا أراد بعبد سوءً نكت في قلبه نكتة سوداء و سدّ مسامع قلبه، و وكّل به شيطاناً يضلّه ثمّ تلا هذه الآية:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ ) .

أقول: و رواه العيّاشيّ في التفسير مرسلاً و الصدوق في التوحيد مسنداً عنهعليه‌السلام .

و في الكافي، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ القلب يتلجلج في الجوف يطلب الحقّ فإذا جاء به اطمأنّ و قرّ ثمّ تلا:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ - إلى قوله -فِي السَّماءِ ) .

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره عن أبي جميلة عن عبدالله بن جعفر عن أخيه موسىعليه‌السلام .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن خيثمة قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: إنّ القلب يتقلّب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحقّ فإذا أصاب الحقّ قرّ ثمّ ضمّ أصابعه ثمّ قرأ هذه الآية:( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) .

قال: و قال أبوعبداللهعليه‌السلام لموسى بن أشيم: أ تدري ما الحرج؟ قال: قلت: لا فقال(١) بيده و ضمّ أصابعه؟ كالشي‏ء المصمت لا يدخل فيه شي‏ء و لا يخرج منه شي‏ء.

أقول: و روى ما يقرب منه في تفسير البرهان، عن الصدوق و روى صدر الحديث البرقيّ في المحاسن، عن خيثمة عن أبي جعفرعليه‌السلام و ما فسّر به الحرج يناسب ما تقدّم نقله من الراغب.

و في الاختصاص، بإسناده عن آدم بن الحرّ قال: سأل موسى بن أشيم أباعبداللهعليه‌السلام و أنا حاضر عن آية في كتاب الله فخبّره بها فلم يبرح حتّى دخل رجل فسأله عن تلك الآية بعينها فخبّره بخلاف ما خبّر به موسى بن أشيم.

____________________

(١) كأنّ القول مضمن معنى الإيماء و المعني: أومأ بيده و ضمّ أصابعه قائلا: كالشي‏ء المصمت إلخ.

٣٧٠

ثمّ قال ابن أشيم: فدخلني من ذلك ما شاء الله حتّى كأنّ قلبي يشرح بالسكاكين‏ و قلت: تركنا أبا قتادة لا يخطئ في الحرف الواحد: الواو و شبهها، و جئت لمن يخطئ هذا الخطأ كلّه فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجل آخر فسأله عن تلك الآية بعينها فخبّر بخلاف ما خبّرني و خلاف الّذي خبّر به الّذي سأله بعدي فتجلّى عنّي و علمت أنّ ذلك بعمد فحدّثت نفسي بشي‏ء.

فالتفت إليّ أبوعبداللهعليه‌السلام فقال: يا بن أشيم لا تفعل كذا و كذا فبان حديثي عن الأمر الّذي حدّثت به نفسي ثمّ قال: يا بن أشيم إنّ الله فوّض إلى سليمان بن داود فقال:( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) و فوّض إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد فوّض إلينا يا بن أشيم( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) ، أ تدري ما الحرج؟ فقلت: لا، فقال بيده و ضمّ أصابعه: هو الشي‏ء المصمت الّذي لا يخرج منه شي‏ء و لا يدخل فيه شي‏ء.

أقول: مسألة التفويض إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّة من ولده و إن وردت في تفسيره عدّة أحاديث لكنّ الّذي يدلّ عليه هذا الحديث معناه إنباؤهم من العلم بكتاب الله ما لا ينحصر في وجه و وجهين و تسليطهم عليه بالإذن في بثّ ما شاءوا منها، يستفاد ذلك من تطبيق ما ذكرهعليه‌السلام في أمر سليمان بن داود من التفويض المستفاد من الآية الكريمة، و لا يبعد أن يكون المراد من تلاوة الآية الإشارة إلى ذلك، و إن كان الظاهر أنّ المراد به بيان حال القلوب بمناسبة ما ابتلي به موسى بن أشيم من اضطراب القلب و قلقه.

و في تفسير القمّيّ في الآية قال: قال: مثل شجرة حولها أشجار كثيرة فلا تقدر أن تلقي أغصانها يمنة و يسرة فتمرّ في السماء و يستمرّ حرجه.

أقول: و ذلك أيضاً يناسب ما فسّر به الراغب معنى الحرج.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) قال هو الشكّ.

أقول: و هو من قبيل التطبيق و بيان بعض المصاديق.

٣٧١

( سورة الأنعام الآيات ١٢٨ - ١٣٥)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الْإِنسِ  وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا  قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ  إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ١٢٨ ) وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ١٢٩ ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا  قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا  وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( ١٣٠ ) ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( ١٣١ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا  وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٣٢ ) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ  إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( ١٣٣ ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ  وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( ١٣٤ ) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ  فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ  إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ١٣٥ )

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها و هي تفسّر معنى ولاية بعض الظالمين بعضاً المجعولة من الله سبحانه كتولية الشياطين للكافرين، و أنّ ذلك ليس من الظلم في شي‏ء فإنّهم سيعترفون يوم القيامة أنّهم إنّما أشركوا و اقترفوا المعاصي بسوء اختيارهم و اغترارهم

٣٧٢

بالحياة الدنيا بعد البيان الإلهيّ و إنذارهم باليوم الآخر حتّى تلبّسوا بالظلم، و الظالمون لا يفلحون.

فالقضاء الإلهيّ لا يسلب عنهم الاختيار الّذي عليه مدار المؤاخذة و المجازاة، و لا الاختيار الإنسانيّ الّذي عليه مدار السعادة و الشقاوة يزاحم القضاء الإلهيّ فمتابعة الإنسان أولياء من الشياطين باختياره و إرادته هي المقضيّة لا أنّ القضاء يبطل اختيار الإنسان في فعله أوّلاً ثمّ يضطرّه إلى اتّباع الشياطين فيجبره الله أو يجبره الشياطين على سلوك طريق الشقاء و انتخاب الشرك و اقتراف الذنوب و الآثام بل الله سبحانه غنيّ عنهم لا حاجة له إلى شي‏ء ممّا بأيديهم حتّى يظلمهم لأجله، و إنّما خلقهم برحمته و حثّهم عليها لكنّهم ظلموا فلم يفلحوا.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ - إلى قوله -أَجَّلْتَ لَنا ) يقال: أكثر من الشي‏ء أو الفعل و استكثر منه إذا أتى بالكثير، و استكثار الجنّ من الإنس ليس من جهة أعيانهم فإنّ الآتي بأعيانهم في الدنيا و المحضر لهم يوم القيامة هو الله سبحانه، و إنّما للشياطين الاستكثار ممّا هم مسلّطون عليه و هو إغواء الإنس من طريق ولايتهم عليهم و ليست بولاية إجبار و اضطرار بل من قبيل التعامل من الطرفين يتبع التابع المتبوع ابتغاءً لما يرى في اتباعه من الفائدة، و يتولّى المتبوع أمر التابع ابتغاءً لما يستدرّ من النفع في ولايته عليه و إدارة شؤنه، فللجنّ نوع التذاذ من إغواء الإنس و الولاية عليهم، و للإنس نوع التذاذ من اتّباع الوساوس و التسويلات ليستدرّوا بذلك اللذائذ المادّيّة و التمتّعات النفسانيّة.

و هذا هو الّذي يعترف به أولياء الجنّ من الإنس بقولهم:( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ ) فتمتّعنا بوساوسهم و تسويلاتهم من متاع الدنيا و زخارفها، و تمتّعوا منّا بما كانت تشتهيه أنفسهم حتّى آل أمرنا ما آل إليه.

و من هنا يظهر - كما يعطيه السياق - أنّ المراد بالأجل في قولهم:( وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ) الحدّ الّذي قدّر لوجودهم و الدرجة الّتي حصلت لهم من أعمالهم دون الوقت الّذي ينتهي إليه أعمارهم و بعبارة اُخرى آخر درجة نالوها من فعليّة الوجود

٣٧٣

لا الساعة الّتي ينتهي إليها حياتهم فيرجع المعنى إلى أنّ بعضنا استمتع ببعض بسوء اختياره و سيّئ عمله فبلغنا بذلك السير الاختياريّ ما قدّرت لنا من الأجل، و هو أنّا ظالمون كافرون.

فمعنى الآية: و يوم يحشرهم جميعاً ليتمّ أمر الحجاج عليهم فيقول للجنّ: يا معشر الجنّ قد استكثرتم من ولاية الإنس و إغوائهم، و قال أولياؤهم من الإنس في الاعتراف بحقيقة الأمر:( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ ) فاستمتعنا معشر الإنس من الجنّ بأن تمتّعنا بزخارف الدنيا و ما تهواه أنفسنا بتسويلاتهم، و تمتّع الجنّ منّا باتّباع ما كانوا يلقون إلينا من الوساوس و كنّا على ذلك حتّى بلغنا آخر ما بلغنا من فعليّة الحياة الشقيّة و درجة العمل.

فهذا اعتراف منهم بأنّ الأجل و إن كان بتأجيل الله سبحانه لكنّهم إنّما بلغوه بطيّهم طريق تمتّع البعض من البعض، و هو طريق سلكوه باختيارهم. و لا يبعد أن يستظهر من هنا أنّ المراد بالجنّ الشياطين الّذين يوسوسون في صدور الناس من الجنّ.

قوله تعالى: ( قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ) إلخ، هذا جواب منه سبحانه و قضاء عليهم، و متن ما قضى به قوله:( النَّارُ مَثْواكُمْ ) إلخ.

و المثوى اسم مكان من قولهم: ثوى يثوي ثواءً أي أقام مع استقرار فقوله:( النَّارُ مَثْواكُمْ ) أي مقامكم الّذي تستقرّون فيه من غير خروج و لذا أكّده بقوله؟( خالِدِينَ فِيها ) و قوله:( إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ) استثناء يفيد أنّ القدرة الإلهيّة باقية مع ذلك على ما كانت فله مع ذلك أن يخرجكم منها و إن كان لا يفعل.

ثمّ تمّم الآية بقوله:( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) و هو يفيد تعليل البيان الواقع في الآية و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) فيه بيان أنّ جعله تعالى بعض الظالمين أولياء يجري على الحقيقة المبيّنة في الآية السابقة، و هو أنّ التابع يستمتع المتبوع من طريق تسويله و إغوائه فيكسب بذلك الذنوب و الآثام حتّى

٣٧٤

يجعل الله المتبوع وليّاً عليه و يدخل التابع في ولايته.

و قوله:( بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الباء للسببيّة أو المقابلة، و هو يفيد أنّ هذه التولية إنّما هي بنحو المجازاة يجازي بها الظالمين في قبال ما اكتسبوه من المظالم لا تولية ابتدائيّة من غير ذنب سابق نظير ما في قوله:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (البقرة: ٢٦) و قد التفت في الآية من الغيبة إلى التكلّم ليختصّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببيان هذه الحقيقة فإنّهم غير لائقين بتلقّيها و إنّما التفت إلى التكلّم لأنّ التكلّم هو المناسب للمسارّة هذا و في الآيات موارد اُخر من الالتفات لا يخفى وجهها على المتدبّر.

قوله تعالى: ( مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ‏ ) إلى آخر الآية في هذا الخطاب دفع دخل يمكن أن يتوجّه إلى الحجّة السابقة المأخوذة من اعترافهم بأنّهم إنّما وقعوا فيما وقعوا فيه من ولاية الشياطين بسوء اختيارهم.

و هو أنّهم و إن ابتلوا بذلك من طريق الاختيار لكنّهم لو يكونوا يعلمون أنّ هذه المعاصي و التمتّعات سوف توردهم مورد الهلكة و تسجّل عليهم ولاية الظالمين و الشياطين و يخسرهم بالشقاء الّذي لا سعادة بعده أبداً فهم كانوا على غفلة من ذلك و إن كانوا على علم في الجملة بمساءة أعمالهم و شناعة أفعالهم و مؤاخذة الغافل ظلم.

فدفعه الله سبحانه بهذا الخطاب الّذي يسألهم فيه عن إتيان الرسل و ذكرهم آيات الله و إنذارهم بيوم الجمع و الحساب فلمّا شهدوا على أنفسهم بالكفر بما جاء به الرسل تمّت الكلمة و لزمت الحجّة.

فمعنى الآية: أنّا نخاطبهم جميعاً فنقول لهم: يا معشر الجنّ و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم أرسلناهم إليكم يقصّون عليكم آياتي الّتي تدلّ على الدين الحقّ، و ينذرونكم لقاء يومكم هذا و هو يوم القيامة و أنّ الله سيوقفكم موقف المساءلة فيحاسبكم على أعمالكم ثمّ يجازيكم بما عملتم إن خيراً فخيراً و إنّ شرّاً فشرّاً فإذا سألناهم عن ذلك أجابونا و قالوا: شهدنا على أنفسنا أنّ الرسل أتونا و قصّوا علينا آياتك، و أنذرونا لقاء يومنا هذا، و شهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين بما جاء به الرسل رادّين عليهم عن علم و ما كانوا غافلين.

و بذلك تبيّن أوّلاً أنّ قوله:( كُمْ) لا يدلّ على أزيد من كون الرسل من جنس

٣٧٥

المخاطبين و هم مجموع الجنّ و الإنس لا من غيرهم كالملائكة حتّى يتوحّشوا منهم و لا يستأنسوا بهم و لا يفقهوا قولهم، و أمّا أنّ من كلّ من طائفتي الجنّ و الإنس رسلاً منهم فلا دلالة في الآية على ذلك.

و ثانياً: أنّ تكرار لفظ الشهادة إنّما هو لاختلاف متعلّقها فالمراد بالشهادة الاُولى الشهادة بإتيان الرسل و قصّهم آيات الله و إنذارهم بيوم القيامة، و بالشهادة الثانية الشهادة بكفرهم بما جاء به الرسل من غير غفلة.

و أمّا ما قيل: إنّ المراد بالشهادة الاُولى الشهادة بالكفر و المعصية حال التكليف، و بالثانية الشهادة في الآخرة على كونهم كافرين في الدنيا فهو غير مفيد لأنّ الشهادتين بالأخرة راجعتان إلى شهادة واحدة بالكفر في الدنيا فيبقى تكرار اللّفظ على حاجته إلى وجه يقتضيه.

و ثالثاً: أنّ قوله:( غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) معترضة وضعت ليندفع بها ما يمكن أن يختلج ببال السامع و هو أنّهم إذ كانوا يستمتع بعضهم من بعض، و كانوا غير غافلين عن إتيان الرسل و بيانهم الآيات و إنذارهم باليوم الآخر فما بالهم وردوا مورد التهلكة و أهلكوا أنفسهم عن علم و اختيار؟ فاُجيب بأنّ الحياة الدنيا غرّتهم كلّما لاح لقلوبهم شي‏ء من الحقّ و برقت فيها بارقة من الخير هجمت عليهم الأهواء و أسدلت عليهم ظلمات الرذائل حتّى ضربت حجاباً بينهم و بين الحقّ و أعمت أبصارهم عن رؤيته و مشاهدته.

قوله تعالى: ( ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ ) الإشارة بقوله:( ذلِكَ ) إلى مضمون ما تقدّم من البيان - على ما يعطيه السياق - و قوله:( أَنْ لَمْ يَكُنْ ) بتقدير لام التعليل فالمعنى أنّ الّذي بيّنّاه من إرسال الرسل و التذكير بالآيات و الإنذار بيوم القيامة إنّما هو لأنّ الله سبحانه ليس من سنّته أن يهلك أهل القرى و يوردهم مورد السخط و العذاب و هم غافلون عمّا يريده منهم من الطاعة و يفعله بهم على تقدير المخالفة، و ذلك ظلم منه تعالى.

فهم و إن نزلوا منزل الشقاء بتأجيل الله سبحانه و قضائه و جعله بعضهم أولياء بعض لكنّه تعالى لم يسلبهم القدرة على الطاعة و لم يبطل منهم الاختيار فاختاروا الشرك و المعصية

٣٧٦

ثمّ أرسل إليهم رسلاً منهم يقصّون عليهم آياته و ينذرونهم لقاء يوم الحساب فكفروا بهم و مكثوا على بغيهم و عتوّهم فجزاهم بولاية بعضهم بعضاً و قضى عليهم بأنّ النار مثواهم فهم أنفسهم استدعوا الهلاك عن علم و إرادة، و لم يهلكهم الله و هم غافلون حتّى يكون يظلمهم فهو الحكم العدل تبارك اسمه.

و قد بان بذلك أوّلاً: أنّ المراد بقوله:( لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ) نفي أن يكون ذلك من سنّته تعالى فإنّه تعالى لا يفعل شيئاً إلّا بسنّة جارية و صراط مستقيم، قال تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (هود: ٥٦) و في اللفظ دلالة على ذلك.

و ثانياً: أنّ المراد بإهلاك القرى القضاء بشقائهم في الدنيا و عذابهم في الآخرة على ما يفيده السياق دون الهلاك بإنزال العذاب في الدنيا.

و ثالثاً: أنّ المراد بالظلم في الآية هو الظلم منه تعالى لو أهلكهم و هم غافلون دون الظلم من أهل القرى.

قوله تعالى: ( وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) متعلّق الكلّ محذوف و هو الضمير الراجع إلى الطائفتين، و المعنى: و لكلّ طائفة من طائفتي الجنّ و الإنس درجات من أعمالهم فإنّ الأعمال مختلفة و باختلافها يختلف ما توجبه من الدرجات، و ما ربّك بغافل عن أعمالهم.

قوله تعالى: ( وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) إلى آخر الآية. بيان عامّ لنفي الظلم عنه تعالى في الخلقة.

و توضيحه: أنّ الظلم و هو وضع الشي‏ء في غير موضعه الّذي ينبغي أن يوضع عليه و بعبارة اُخرى إبطال حقّ إنّما يتحقّق من الظلم بأخذ شي‏ء أو تركه لأحد أمرين إمّا لحاجة منه إليه بوجه من الوجوه كأن يعود إليه أو إلى من يهواه منه نفع أو يندفع عنه أو عمّا يعود إليه بذلك ضرر، و إمّا لا لحاجة منه إليه بل لشقوة باطنيّة و قسوة نفسانيّة لا يعبأ بها بما يقاسيه المظلوم من المصيبة و يكابده من المحنة، و ليس ذلك منه لحاجة بل من آثار الملكة المشومة.

و الله سبحانه منزّه من هاتين الصفتين السيّئتين فهو الغنيّ الّذي لا تمسّه حاجة

٣٧٧

و لا يعرضه فقر، و ذو الرحمة المطلقة الّتي ينعم بها على كلّ شي‏ء بما يليق بحاله فلا يظلم سبحانه أحداً، و هذا هو الّذي يدلّ عليه قوله:( وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ) إلخ، و معنى الآية: و ربّك هو الّذي يوصف بالغني المطلق الّذي لا فقر معه و لا حاجة، و بالرحمة المطلقة الّتي وسعت كلّ شي‏ء و مقتضى ذلك أنّه قادر على أن يذهبكم بغناه و يستخلف من بعدكم ما يشاء من الخلق برحمته و الشاهد عليه أنّه أنشأكم برحمته من ذرّيّة قوم آخرين أذهبهم بغناه عنهم.

و في قوله:( ما يَشاءُ ) دون أن يقال: من يشاء، إبهام للدلالة على سعة القدرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) أي الأمر الإلهيّ من البعث و الجزاء و هو الّذي توعدون من طريق الوحي لآت البتّة و ما أنتم بمعجزين لله حتّى تمنعوا شيئاً من ذلك أن يتحقّق ففي الكلام تأكيد للوعد و الوعيد السابقين.

قوله تعالى: ( قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى‏ مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ ) إلى آخر الآية. المكانة هي المنزلة و الحالة الّتي يستقرّ عليها الشي‏ء، و عاقبة الشي‏ء ما ينتهي إليه، و هي في الأصل مصدر كالعقبى على ما قيل، و قولهم: كانت له عاقبة الدار كناية عن نجاحه في سعيه و تمكّنه ممّا قصده، و في الآية انعطاف إلى ما بدئ به الكلام، و هو قوله تعالى قبل عدّة آيات:( اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) .

و المعنى: قل للمشركين: يا قوم اعملوا على منزلتكم و حالتكم الّتي أنتم عليها من الشرك و الكفر - و فيه تهديد بالأمر - و دوموا على ما أنتم عليه من الظلم إنّي عامل و مقيم على ما أنعم عليه من الإيمان و الدعوة إلى التوحيد فسوف تعلمون من يسعد و ينجح في عمله، و أنا الناجح دونكم فإنّكم ظالمون بشرككم و الظالمون لا يفلحون في ظلمهم.

و ربّما قيل: إنّ قوله:( إِنِّي عامِلٌ ) إخبار عن الله سبحانه أنّه يعمل بما وعد به من البعث و الجزاء، و هو فاسد يدفعه سياق قوله:( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ) .

٣٧٨

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً ) الآية. قال: قال: نولّي كلّ من تولّى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما انتصر الله من ظالم إلّا بظالم و ذلك قول الله عزّوجلّ؟( وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً ) .

أقول: دلالة الآية على ما في الرواية من الحصر غير واضحة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأمل و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في الشعب عن أبي سعيد الخدريّ قال: اشترى اُسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر فسمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: أ لا تعجبون من اُسامة المشتري إلى شهر؟ إنّ اُسامة لطويل الأمل، و الّذي نفسي بيده ما طرفت عيناي و ظننت أنّ شفريّ يلتقيان حتّى اُقبض، و لا رفعت طرفي و ظننت أنّي واضعه حتّى اُقبض، و لا لقمت لقمة فظننت أنّي أسيغها حتّى أغصّ بالموت يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدّوا أنفسكم في الموتى، و الّذي نفسي بيده إنّ ما توعدون لآت و ما أنتم بمعجزين.

٣٧٩

( سورة الأنعام الآيات ١٣٦ - ١٥٠)

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا  فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ  وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ  سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ( ١٣٦) وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ  وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ  فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ( ١٣٧) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَّا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ  سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ( ١٣٨) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا  وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ  سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ  إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ( ١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ  قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ( ١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ  كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ  وَلَا تُسْرِفُوا  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ( ١٤١) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا  كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ  إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ( ١٤٢) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ  مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ  قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ  نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ  قُلْ آلذَّكَرَيْنِ

٣٨٠