الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85291
تحميل: 7375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85291 / تحميل: 7375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ  أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا  فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ  إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( ١٤٤) قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ  فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ  وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ  ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ  وَإِنَّا لَصَادِقُونَ( ١٤٦) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( ١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ  كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا  قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا  إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ( ١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ  فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ( ١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا  فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ( ١٥٠)

٣٨١

( بيان)

الآيات تحاجّ المشركين في عدّة من الأحكام في الأطعمة و غيرها دائرة بين المشركين و تذكر حكم الله فيها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً ) إلى آخر الآية، الذرء الإيجاد على وجه الاختراع و كأنّ الأصل في معناه الظهور، و الحرث الزرع، و قوله:( بِزَعْمِهِمْ ) في قوله:( فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ) نوع من التنزيه كقوله:( وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ ) (الأنبياء: ٢٦). و الزعم الاعتقاد و يستعمل غالباً فيما لا يطابق الواقع منه.

و قوله:( وَ هذا لِشُرَكائِنا ) أضاف الشركاء إليهم لأنّهم هم الّذين أثبتوها و اعتقدوا بها نظير أئمّة الكفر و أئمّتهم و أولياؤهم، و قيل: اُضيفت الشركاء إليهم لأنّهم كانوا يجعلون بعض أموالهم لهم فيتّخذونهم شركاء لأنفسهم.

و كيف كان فمجموع الجملتين أعني قوله:( فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا ) من تفريع التفصيل على الإجمال يفسّر به جعلهم لله نصيباً من خلقه، و فيه توطئة و تمهيد لتفريع حكم آخر عليه، و هو الّذي يذكره في قوله:( فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى‏ شُرَكائِهِمْ ) .

و إذ كان هذا الحكم على بطلانه من أصله و كونه افتراءً على الله لا يخلو عن إزراء بساحته تعالى بتغليب جانب الأصنام على جانبه قبّحه بقوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ) إلى آخر الآية. قرأ غير ابن عامر( زَيَّنَ ) بفتح الزاي فعل معلوم، و( قَتْلَ ) بنصب اللّام مفعول( زَيَّنَ ) و هو مضاف إلى( أَوْلادِهِمْ ) بالجرّ و هو مفعول( قَتْلَ ) اُضيف إليه، و( شُرَكاؤُهُمْ ) فاعل( زَيَّنَ ) .

و المعنى أنّ الأصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين و الحبّ الوهميّ في نفوسهم زيّنت لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم و يجعلوهم قرابين يتقرّبون بذلك

٣٨٢

إلى الآلهة كما يضبطه تاريخ قدماء الوثنيّين و الصابئين، و هذا غير مسألة الوأد الّتي كانت بنو تميم من العرب يعملون به فإنّ المأخوذ في سياق الآية الأولاد دون البنات خاصّة.

و قيل: المراد بالشركاء الشياطين، و قيل: خدمة الأصنام، و قيل: الغواة من الناس.

و قرأ ابن عامر:( زَيَّنَ ) بضمّ الزاي مبنيّاً للمفعول( قَتْلَ ) بضمّ اللّام نائب عن فاعل زيّن( أَوْلادِهِمْ ) بالنصب مفعول المصدر أعني( قَتْلَ ) تخلّل بين المضاف و المضاف إليه( شُرَكاؤُهُمْ ) بالجرّ مضاف إليه و فاعل للمصدر.

و قوله تعالى:( لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) الإرداء: الإهلاك، و المراد به إهلاك المشركين بالكفر بنعمة الله و البغي على خلقه، و خلط دينهم عليهم بإظهار الباطل في صورة الحقّ، فضمير( أَوْلادِهِمْ ) في المواضع الثلاث جميعاً راجع إلى كثير من المشركين.

و قيل: المراد به الإهلاك بظاهر معنى القتل، و لازمه رجوع أوّل الضمائر إلى الأولاد و الثاني و الثالث إلى الكثير، أو الجميع إلى المشركين بنوع من العناية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ ) إلى آخر الآية. الحجر بكسر الحاء المنع و يفسّره قوله بعده:( لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ ) أي هذه الأنعام و الحرث حرام إلّا على من نشاء أن نأذن لهم،

و روي: أنّهم كانوا يقدّمونها لآلهتهم و لا يحلّون أكلها إلّا لمن كان يخدم آلهتهم من الرجال دون النساء بزعمهم.

و قوله:( وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ) أي و قالوا: هذه أنعام حرّمت ظهورها أو و لهم أنعام حرّمت ظهورها، و هي السائبة و البحيرة و الحامي الّتي نفاها الله تعالى في قوله:( ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (المائدة: ١٠٣) و قيل: هي بعض هؤلاء على الخلاف السابق في معناها في تفسير آية المائدة.

و قوله:( وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ) أي و لهم أنعام إلخ و هي الأنعام الّتي كانوا يهلّون عليها بأصنام لا باسم الله، و قيل: هي الّتي كانوا لا يركبونها في الحجّ، و قيل:

٣٨٣

أنعام كانوا لا يذكرون اسم الله عليها و لا في شأن من شؤنها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ) إلى آخر الآية، المراد بما في البطون أجنّة البحائر و السيب، فقد كانوا يحلّونها إذا ولدت حيّة للرجال دون النساء و إن ولدت ميتة أكله الرجال و النساء جميعاً، و قيل: المراد بها الألبان، و قيل: الأجنّة و الألبان جميعاً.

و المراد بقوله:( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) سيجزيهم نفس وصفهم فإنّه يعود وبالاً و عذاباً عليهم ففيه نوع من العناية، و قيل: التقدير: سيجزيهم بوصفهم، و قيل: التقدير: سيجزيهم جزاء وصفهم، فحذف المضاف و اُقيم المضاف إليه مقامه، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) إلخ، ردّ لما حكي عنهم في الآيات السابقة من الأحكام المفتراة و هي قتل الأولاد و تحريم أصناف من الأنعام و الحرث و ذكر أنّ ذلك منهم خسران و ضلال من غير اهتداء.

و قد وصف قتل الأولاد بأنّه سفه بغير علم، و كذلك بدّل الأنعام و الحرث من قوله ما رزقهم الله و وصف تحريمها بأنّه افتراء على الله ليكون في ذلك تنبيه كالتعليل على خسرانهم في ذلك كأنّه قيل: خسروا في قتلهم أولادهم لأنّهم سفهوا به سفهاً بغير علم، و خسروا في تحريمهم أصنافاً من الأنعام و الحرث افتراءً على الله لأنّها من رزق الله و حاشاه تعالى أن يرزقهم شيئاً ثم يحرّمه عليهم.

ثمّ بيّن تعالى ضلالهم في تحريم الحرث و الأنعام مع كونها من رزق الله بياناً تفصيليّاً بالاحتجاج من ناحية العقل و مصلحة معاش العباد بقوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ) إلى تمام أربع آيات، ثمّ من ناحية السمع و نزول الوحي بقوله:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) إلى تمام الآية.

فيكون محصّل الآيات الخمس أنّ تحريمهم أصنافاً من الحرث و الأنعام ضلال منهم لا يساعدهم على ذلك حجّة فلا العقل و رعاية مصلحة العباد يدلّهم على ذلك، و لا الوحي النازل من الله سبحانه يهديهم إليه فهم في خسران منه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ - إلى قوله -

٣٨٤

وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ ) الشجرة المعروشة هي الّتي ترفع أغصانها بعضاً على بعض بدعائم كالكرم و أصل العرش الرفع فالجنّات المعروشات هي بساتين الكرم و نحوها، و الجنّات غير المعروشات ما كانت أشجارها قائمة على اُصولها من غير دعائم.

و قوله:( وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ) أي ما يؤكل منه من الحبّات كالحنطة و الشعير و العدس و الحمّص.

و قوله:( وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ ) أي متشابهاً كلّ منها و غير متشابه على ما يفيده السياق، و التشابه بين الثمرتين باتّحادهما في الطعم أو الشكل أو اللون أو غير ذلك.

قوله تعالى: ( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ) إلى آخر الآية، الأمر للإباحة لوروده في رفع الحظر الّذي يدلّ عليه إنشاء الجنّات و النخل و الزرع و غيرها، و السياق يدلّ على أنّ تقدير الكلام: و هو الّذي أنشأ جنّات و النخل و الزرع إلخ، و أمركم بأكل ثمر ما ذكر و أمركم بإيتاء حقّه يوم حصاده، و نهاكم عن الإسراف. فأيّ دليل أدلّ من ذلك على إباحتها؟

و قوله:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) أي الحقّ الثابت فيه المتعلّق به فالضمير راجع إلى الثمر و اُضيف إليه الحقّ لتعلّقه به كما يضاف الحقّ أيضاً إلى الفقراء لارتباطه بهم و ربّما احتمل رجوع الضمير إلى الله كالضمير الّذي بعده في قوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) و إضافته إليه تعالى لانتسابه إليه بجعله.

و هذا إشارة إلى جعل حقّ مّا للفقراء في الثمر من الحبوب و الفواكه يؤدّي إليهم يوم الحصاد يدلّ عليه العقل و يمضيه الشرع و ليس هو الزكاة المشرّعة في الإسلام إذ ليست في بعض ما ذكر في الآية زكاة. على أنّ الآية مكّيّة و حكم الزكاة مدنيّ.

نعم لا يبعد أن يكون أصلاً لتشريعها فإنّ اُصول الشرائع النازلة في السور المدنيّة نازلة على وجه الإجمال و الإبهام في السور المكّيّة كقوله تعالى بعد عدّة آيات عند تعداد كلّيّات المحرّمات:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ - إلى أن قال -وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) (الأنعام: ١٥١).

٣٨٥

و قوله:( وَ لا تُسْرِفُوا ) إلخ، أي لا تتجاوزوا الحدّ الّذي يصلح به معاشكم بالتصرّف فيه فلا يتصرّف صاحب المال منكم بالإسراف في أكله أو التبذير في بذله أو وضعه في غير موضعه من معاصي الله و هكذا، و لا يسرف الفقير الأخذ بتضييعه و نحو ذلك، ففي الكلام إطلاق، و الخطاب فيه لجميع الناس.

و أمّا قول بعضهم: إنّ الخطاب في( لا تُسْرِفُوا ) مختصّ بأرباب الأموال، و قول بعض آخر: إنّه متوجّه إلى الإمام الآخذ للصدقة، و كذا قول بعضهم: إنّ معناه لا تسرفوا بأكله قبل الحصاد كيلا يؤدّي إلى بخس حقّ الفقراء، و قول بعض آخر: إنّ المعنى: لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب، و قول ثالث: إنّ المعنى لا تنفقوه في المعصية، كلّ ذلك مدفوع بالإطلاق و السياق.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً ) إلى آخر الآية، الحمولة أكابر الأنعام لإطاقتها الحمل، و الفرش أصاغرها لأنّها كأنّها تفترش على الأرض أو لأنّها توطأ كما يوطأ الفرش، و قوله:( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) إباحة للأكل و إمضاء لما يدلّ عليه العقل نظير قوله في الآية السابقة:( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ) ، و قوله:( لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي لا تسيروا في هذا الأمر المشروع إباحته باتّباع الشيطان بوضع قدمكم موضع قدمه بأن تحرّموا ما أحله، و قد تقدّم أنّ المراد باتّباع خطوات الشيطان تحريم ما أحلّه الله بغير علم.

قوله تعالى: ( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) إلى آخر الآية، تفصيل للأنعام بعد الإجمال و المراد به تشديد اللوم و التوبيخ عليهم ببسطه على كلّ صورة من الصور و الوجوه، فقوله:( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) عطف بيان من( حَمُولَةً وَ فَرْشاً ) في الآية السابقة.

و الأزواج جمع زوج، و يطلق الزوج على الواحد الّذي يكون معه آخر و على الاثنين، و أنواع الأنعام المعدودة أربعة: الضأن و المعز و البقر و الإبل، و إذا لوحظت ذكراً و اُنثى كانت ثمانية أزواج.

و المعنى: أنشأ ثمانية أزواج من الضأن زوجين اثنين هما الذكر و الاُنثى و من المعز

٣٨٦

زوجين اثنين كالضأن قل آلذكرين من الضأن و المعز حرّم الله أم الاُنثيين منهما أم حرّم ما اشتملت عليه أرحام الاُنثيين من الضأن و المعز نبّئوني ذلك بعلم إن كنتم صادقين.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ - إلى قوله -الْأُنْثَيَيْنِ ) معناه ظاهر ممّا مرّ، و قيل: المراد بالاثنين في المواضع الأربعة من الآيتين الأهليّ و الوحشيّ.

قوله تعالى: ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا ) إلى آخر الآية. هذا شقّ من ترديد حذف شقّه الآخر على ما يدلّ عليه الكلام، و تقديره: أ علمتم ذلك من طريق الفكر كعقل أو سمع أم شاهدتم تحريم الله ذلك و شافهتموه فادّعيتم ذلك.

و قوله:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) إلخ، تفريع على ما قبله باعتبار دلالته على انقطاعهم عن الجواب و على ذلك فمعناه: فمن أظلم منكم، و يكون قوله:( مِمَّنِ افْتَرى) إلخ، كناية عن المشركين المخاطبين وضع موضع ضمير الخطاب الراجع إليهم ليدلّ به على سبب الحكم المفهوم من الاستفهام الإنكاريّ و التقدير: لا أظلم منكم لأنّكم افتريتم على الله كذباً لتضلّوا الناس بغير علم، و إذ ظلمتم فإنّكم لا تهتدون إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) إلخ، معنى الآية ظاهر، و قد تقدّم في نظيره الآية من سورة المائدة آية ٣، و في سورة البقرة آية ١٧٣ ما ينفع في المقام.

قوله تعالى: ( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) إلخ، الظفر واحد الأظفار و هو العظم النابت على رءوس الأصابع، و الحوايا المباعر قال في المجمع: موضع الحوايا يحتمل أن يكون رفعاً عطفاً على الظهور و تقديره: أو ما حملت الحوايا، و يحتمل أن يكون نصباً عطفاً على ما في قوله:( إِلَّا ما حَمَلَتْ ) فأمّا قوله:( أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) فإنّ ما هذه معطوفة على ما الاُولى (انتهى) و الوجه الأوّل أقرب.

ثمّ قال: ذلك في قوله( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ ) يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنّه مفعول ثان لجزيناهم التقدير: جزيناهم ذلك ببغيهم، و لا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنّه

٣٨٧

يصير التقدير: ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم: زيد ضربت أي ضربته، و هذا إنّما يجوز في ضرورة الشعر. انتهى.

و الآية كأنّها في مقام الاستدراك و دفع الدخل ببيان أنّ ما حرّم الله على بني إسرائيل من طيّبات ما رزقهم إنّما حرّمه جزاءً لبغيهم فلا ينافي ذلك كونه حلّاً بحسب طبعه الأوّلىّ كما يشير إلى ذلك قوله:( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ ) (آل عمران: ٩٣) و قوله:( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ) (النساء: ١٦٠).

قوله تعالى: ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ) إلى آخر الآية، معنى الآية ظاهر، و فيها أمر بإنذارهم و تهديدهم إن كذّبوا بالبأس الإلهيّ الّذي لا مردّ له لكن لا ببيان يسلّط عليهم اليأس و القنوط بل بما يشوبه بعض الرجاء، و لذلك قدّم عليه قوله:( رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ) .

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجّة ثمّ تردّ عليهم بأنّهم جاهلون بها و إنّما يركنون فيها إلى الظنّ و التخمين، و الكلمة كلمة حقّ وردت في كثير من الآيات القرآنيّة لكنّها لا تنتج ما قصدوه منها.

فإنّهم إنّما احتجّوا بها لإثبات أنّ شركهم و تحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء من الله سبحانه لا بأس عليهم في ذلك فحجّتهم أنّ الله لو شاء منّا خلاف ما نحن عليه من الشرك و التحريم لكنّا مضطرّين على ترك الشرك و التحريم فإذ لم يشأ كان ذلك إذناً في الشرك و التحريم فلا بأس بهذا الشرك و التحريم.

و هذه الحجّة لا تنتج هذه النتيجة و إنّما تنتج أنّ الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك لم يوقعهم موقع الاضطرار و الإجبار فهم مختارون في الشرك و الكفّ عنه و في التحريم و تركه فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به و رفض الافتراض فللّه الحجّة البالغة و لا حجّة لهم في ذلك إلّا اتّباع الظنّ و التخمين.

٣٨٨

قوله تعالى: ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) كأنّ الفاء الاُولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدّم من قولهم:( لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا ) إلخ، و الفاء الثانية للتعليل فيكون الكلام من قبيل قلب الحجّة على الخصم بعد بيان مقتضاها.

و المعنى أنّ نتيجة الحجّة قد التبست عليكم بجهلكم و اتّباعكم الظنّ و خرصكم في المعارف الإلهيّة فحجّتكم تدلّ على أن لا حجّة لكم في دعوته إيّاكم إلى رفض الشرك و ترك الافتراء عليه، و إنّ الحجّة إنّما هي لله عليكم فإنّه لو شاء لهداكم أجمعين و أجبركم على الإيمان و ترك الشرك و التحريم، و إذ لم يجبركم على ذلك و أبقاكم على الاختيار فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك و التحريم.

و بعبارة اُخرى: يتفرّع على حجّتكم أنّ الحجّة لله عليكم لأنّه لو شاء لأجبر على الإيمان فهداكم أجمعين، و لم يفعل بل جعلكم مختارين يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه.

و قد بيّن تعالى في طائفة من الآيات السابقة أنّه تعالى لم يضطرّ عباده على الإيمان و لم يشأ منهم ذلك بالمشيّة التكوينيّة حتّى يكونوا مجبرين عليه بل أذن لهم في خلافه و هذا الإذن الّذي هو رفع المانع التكوينيّ هو اختيار العباد و قدرتهم على جانبي الفعل و الترك، و هذا الإذن لا ينافي الأمر التشريعيّ بترك الشرك مثلاً بل هو الأساس الّذي يبتني عليه الأمر و النهي.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ ) إلى آخر الآية. هلمّ شهداءكم أي هاتوا شهداءكم و هو اسم فعل يستوي فيه المفرد و المثنّى و المجموع، و المراد بالشهادة شهادة الأداء و الإشارة بقوله:( هذا ) إلى ما ذكر من المحرّمات عندهم، و الخطاب خطاب تعجيزيّ أمر به الله سبحانه ليكشف به أنّهم مفترون في دعواهم أنّ الله حرّم ذلك فهو كناية عن عدم التحريم.

و قوله:( فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ) في معنى الترقّي، و المعنى: لا شاهد فيهم يشهد بذلك فلا تحريم حتّى أنّهم لو شهدوا بالتحريم فلا تشهد معهم إذ لا تحريم و لا يعبأ بشهادتهم فإنّهم قوم يتّبعون أهواءهم.

٣٨٩

فقوله:( وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) إلخ، عطف تفسير لقوله:( فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ) أي إنّ شهادتك اتّباع لأهوائهم كما أنّ شهادتهم من اتّباع الأهواء، و كيف لا؟ و هم قوم كذّبوا بآيات الله الباهرة، و لا يؤمنون بالآخرة و يعدلون بربّهم غيره من خلقه كالأوثان، و لا يجترئ على ذلك مع كمال البيان و سطوع البرهان إلّا الّذين يتّبعون الأهواء.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ) الآية قال: إنّه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردّوه، و إذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه و قالوا: الله أغنى، و إذا تخرّق الماء من الّذي لله في الّذي للأصنام لم يسدّوه، و إذا تخرّق من الّذي للأصنام في الّذي لله سدّوه و قالوا: الله أغنى: عن ابن عبّاس و قتادة، و هو المرويّ عن أئمّتناعليهم‌السلام .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الآية قال: قال: يعني أنّ أسلافهم زيّنوا لهم قتل أولادهم.

و فيه في قوله تعالى:( وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ ) قال: قال: الحجر المحرّم.

و فيه في قوله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ) الآيات قال: قال: البساتين.

و فيه، في قوله تعالى:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الآية، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدّثنا أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن أبان بن عثمان عن شعيب العقرقوفيّ قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال: الضغث من السنبل و الكفّ من التمر إذا خرص. قال: و سألته هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله بيته؟ قال: لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل بيته.

و فيه، عن أحمد بن إدريس عن البرقيّ عن سعد بن سعد عن الرضاعليه‌السلام : أنّه سئل: إن لم يحضر المساكين و هو يحصد كيف يصنع؟ قال: ليس عليه شي‏ء.

٣٩٠

و في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن معاوية بن الحجّاج قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: في الزرع حقّان: حقّ تؤخذ به، و حقّ تعطيه. قلت: و ما الّذي اُوخذ به؟ و ما الّذي اُعطيه؟ قال: أمّا الّذي تؤخذ به فالعشر و نصف العشر، و أمّا الّذي تعطيه فقول الله عزّوجلّ:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) يعني من حصدك الشي‏ء بعد الشي‏ء و لا أعلمه إلّا قال: الضغث تعطيه ثمّ الضغث حتّى تفرغ.

و فيه، بإسناده عن أبي نصر عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: سألته عن قوله الله عزّوجلّ:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا ) قال: كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد و الجذاذ أن يتصدّق الرجل بكفيّه جميعاً، و كان أبي إذا حضر شيئاً من هذا فرأى أحداً من غلمانه يتصدّق بكفيّه صاح به: أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة و الضغث بعد الضغث من السنبل.

و فيه، بإسناده عن مصادف قال: كنت مع أبي عبداللهعليه‌السلام في أرض له و هم يصرمون فجاء سائل يسأل فقلت: الله يرزقك فقال: مه ليس ذلك لكم حتّى تعطوا ثلاثة فإذا أعطيتم فلكم و إن أمسكتم فلكم.

و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنّى قال: سأل رجل أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) فقال: كان فلان بن فلان الأنصاريّ و سمّاه و كان له حرث، و كان إذا أجذّ يتصدّق به و يبقى هو و عياله بغير شي‏ء فجعل الله عزّوجلّ ذلك إسرافاً.

أقول: المراد انطباق الآية على عمله دون نزولها فيه فإنّ الآية مكّيّة، و لعلّ المراد بالأنصاريّ المذكور ثابت بن قيس بن شماس‏ و قد روى الطبريّ و غيره عن ابن جريح قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلاً فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلّا أطعمته فأطعم حتّى أمسى و ليست له تمره فأنزل الله:( وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏ ) ، و الآية كما تقدّم مكّيّة غير مدنيّة فلا يشمل عمل ثابت بن قيس إلّا بالجري و الانطباق.

و تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : في الآية قال: أعط من حضرك من المسلمين فإن لم يحضرك إلّا مشرك فأعط.

٣٩١

أقول: و الروايات في هذه المعاني عن أبي جعفر و أبي عبدالله و أبي الحسن الرضاعليهم‌السلام كثيرة جدّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و النحّاس و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال: ما سقط من السنبل.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحّاس و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال: نسخها العشر و نصف العشر.

أقول: ليست النسبة بين الآية و آية الزكاة نسبة النسخ إذ لا تنافي يؤدّي إلى النسخ سواء قلنا بوجوب الصدقة أو باستحبابها.

و فيه، أخرج أبوعبيد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن الضحّاك قال: نسخت الزكاة كلّ صدقة في القرآن.

أقول: الكلام فيه كسابقه.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و أبوالشيخ عن ميمون بن مهران و يزيد بن الأصمّ قال: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجي‏ء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه فهو قوله:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) الآية: فهذه الّتي أحلّها الله في كتابه في قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) ثمّ فسّرها في هذه الآية فقال:( مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ) فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ) عنى الأهليّ و الجبليّ( وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) عنى الأهليّ و الوحشيّ الجبليّ( وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ) عنى الأهليّ و الوحشيّ الجبليّ( وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ) يعني البخاتي و العراب، فهذه أحلّها الله.

أقول: و روي ما يؤيّد ذلك في الكافي و الاختصاص و تفسير العيّاشيّ عن داود الرقّيّ و صفوان الجمّال عن الصادقعليه‌السلام . و يبقى البحث في أنّ معنى الزوج في قوله:

٣٩٢

( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ) الآية هو الّذي في قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) أو غيره؟ و سيوافيك إن شاء الله تعالى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حريز عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سئل عن سباع الطير و الوحش حتّى ذكر له القنافذ و الوطواط و الحمير و البغال و الخيل فقال: ليس الحرام إلّا ما حرّم الله في كتابه، و قد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، و إنّما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام، و قال: قرأ هذه الآيات:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏ ) .

أقول: و في معناه أخبار اُخر مرويّة عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام و في عدّة منها: إنّما الحرام ما حرّمه الله في كتابه و لكنّهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها، و هنا روايات كثيرة تنهى عن أكل كثير من الحيوان كذوات الأنياب من الوحش و ذوات المخالب من الطير و غير ذلك، و الأمر في روايات أهل السنّة على هذا النحو و المسألة فقهيّة مرجعها الفقه، و إذا تمّت حرمة ما عدا المذكورات في الآية فإنّما هي ممّا حرّمها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخباثاً له و قد وصفه الله تعالى بما يمضيه في حقّه، قال تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) الآية: (الأعراف: ١٥٧).

و في المجمع،: في قوله تعالى:( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) الآية: إنّ ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير و الشحوم فحرّم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم. ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمّدعليه‌السلام و قد سئل عن قوله تعالى:( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) فقال: إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي كنت عالماً؟ فإن قال: نعم قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال: كنت جاهلاً قال: أ فلا تعلّمت حتّى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجّة البالغة.

أقول: و هو من بيان المصداق.

٣٩٣

( سورة الأنعام الآيات ١٥١ - ١٥٧)

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ  أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا  وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا  وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ  نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ  وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ  وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ  ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ١٥١ ) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ  وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ  لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا  وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ  وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا  ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ١٥٢ ) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ  وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ  ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٥٣ ) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( ١٥٤ ) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ١٥٥ ) أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( ١٥٦ ) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ  فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ  فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا  سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ( ١٥٧ )

( بيان)

تبيّن الآيات المحرّمات العامّة الّتي لا تختصّ بشريعة من الشرائع الإلهيّة، و هي الشرك بالله، و ترك الإحسان بالوالدين، و اقتراف الفواحش، و قتل النفس المحترمة

٣٩٤

بغير حقّ و يدخل فيه قتل الأولاد خشية إملاق و اقتراب مال اليتيم إلّا بالّتي هي أحسن و عدم إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و الظلم في القول، و عدم الوفاء بعهد الله، و اتّباع غير سبيل الله المؤدّي إلى الاختلاف في الدين.

و من شواهد أنّها شرائع عامّة أنّا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء اُممهم في تبليغاتهم الدينيّة كالّذي نقل من نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى و عيسى و غيرهمعليهم‌السلام ، و قد قال تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (الشورى: ١٣) و من ألطف الإشارة التعبير عمّا اُوتي نوح و إبراهيم و موسى و عيسىعليهم‌السلام بالتوصية ثمّ التعبير في هذه الآيات الثلاث الّتي تقصّ اُصول المحرّمات الإلهيّة أيضاً بالتوصية حيث قال:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) ( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

على أنّ التأمّل فيها يعطي أنّ الدين الإلهيّ لا يتمّ أمره و لا يستقيم حاله بدون شي‏ء منها و إن بلغ من الإجمال و البساطة ما بلغ و بلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ.

قوله تعالى: ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) قيل: تعال مشتقّ من العلوّ و هو أمر بتقدير أنّ الأمر في مكان عال و إن لم يكن الأمر على ذلك بحسب الحقيقة، و التلاوة قريب المعنى من القراءة، و قوله:( عَلَيْكُمْ ) متعلّق بقوله:( أَتْلُ ) أو قوله:( حَرَّمَ ) على طريق التنازع في المتعلّق، و ربّما قيل: إنّ( عَلَيْكُمْ ) اسم فعل بمعنى خذوا و قوله:( أَلَّا تُشْرِكُوا ) معموله و النظم: عليكم أن لا تشركوا به شيئاً و بالوالدين إحساناً إلخ، و هو خلاف ما يسبق إلى الذهن من السياق.

و لمّا كان قوله:( تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ) إلخ، دعوة إلى التلاوة وضع في الكلام عين ما جاء به الوحي في مورد المحرّمات من النهي في بعضها و الأمر بالخلاف في بعضها الآخر فقال:( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) كما قال:( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ) ( وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ) إلخ، و قال:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) كما قال:( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ‏ )

٣٩٥

( وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ) إلخ.

و قد قدّم الشرك على سائر المحرّمات لأنّه الظلم العظيم الّذي لا مطمع في المغفرة الإلهيّة معه قال:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (النساء: ٤٨) و إليه ينتهي كلّ معصية كما ينتهي إلى التوحيد بوجه كلّ حسنة.

قوله تعالى: ( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) أي أحسنوا بالوالدين إحساناً، و في المجمع: أي و أوصى بالوالدين إحساناً، و يدلّ على ذلك أنّ في( حرّم كذا) معنى أوصى بتحريمه و أمر بتجنّبه. انتهى.

و قد عدّ في مواضع من القرآن الكريم إحسان الوالدين تالياً للتوحيد و نفي الشرك فأمر به بعد الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك به كقوله:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) (الإسراء: ٢٣) و قوله:( وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) (لقمان: ١٤) و غير ذلك من الآيات.

و يدلّ ذلك على أنّ عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك بالله العظيم، و الاعتبار يهدي إلى ذلك فإنّ المجتمع الإنسانيّ الّذي لا يتمّ للإنسان دونه حياة و لا دين هو أمر وضعيّ اعتباريّ لا يحفظه في حدوثه و بقائه إلّا حبّ النسل الّذي يتّكئ على رابطة الرحمة المتكوّنة في البيت القائمة بالوالدين من جانب و بالأولاد من جانب آخر، و الأولاد إنّما يحتاجون إلى رحمتهما و إحسانهما في زمان تتوق أنفسهما إلى نحو الأولاد بحسب الطبع، و كفى به داعياً و محرّضاً لهما إلى الإحسان إليهم بخلاف حاجتهم إلى رأفة الأولاد و رحمتهم فإنّها بالطبع يصادف كبرهما و يوم عجزهما عن الاستقلال بالقيام بواجب حياتهما و شباب الأولاد و قوّتهم على ما يعنيهم.

و جفاء الأولاد للوالدين و عقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم و رجائهما منهم و انتشار ذلك بين النوع يؤدّي بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد و التربية، و يدعو ذلك من جهة إلى ترك التناسل و انقطاع النسل، و من جهة إلى كراهية تأسيس البيت و التكاهل في تشكيل المجتمع الصغير، و الاستنكاف عن حفظ سمة الاُبوّة و الاُمومة، و ينجرّ إلى

٣٩٦

تكوّن طبقة من الذرّيّة الإنسانيّة لا قرابة بينهم و لا أثر من رابطة الرحم فيهم، و يتلاشى عندئذ أجزاء المجتمع، و يتشتّت شملهم، و يتفرّق جمعهم، و يفسد أمرهم فساداً لا يصلحه قانون جار و لا سنّة دائرة، و يرتحل عنهم سعادة الدنيا و الآخرة، و سنقدّم إليك بحثاً ضافياً في هذه الحقيقة الدينيّة إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ ) الإملاق الإفلاس من المال و الزاد و منه التملّق، و قد كان هذا كالسنّة الجارية بين العرب في الجاهليّة لتسرّع الجدب و القحط إلى بلادهم فكان الرجل إذا هدّده الإفلاس بادر إلى قتل أولاده تأنّفاً من أن يراهم على ذلّة العدم و الجوع.

و قد علّل النهي بقوله:( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ ) أي إنّما تقتلونهم مخافة أن لا تقدروا على القيام بأمر رزقهم و لستم برازقين لهم بل الله يرزقكم و إيّاهم جميعاً فلا تقتلوهم.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) الفواحش جمع فاحشة و هي الأمر الشنيع المستقبح، و قد عدّ الله منها في كلامه الزنا و اللواط و قذف المحصنات، و الظاهر أنّ المراد ممّا ظهر و ممّا بطن العلانية و السرّ كالزنا العلنيّ و اتّخاذ الأخدان و الأخلّاء سرّاً.

و في استباحة الفاحشة إبطال فحشها و شناعتها، و في ذلك شيوعها لأنّها من أعظم ما تتوق إليه النفس الكارهة لأن يضرب عليها بالحرمان من ألذّ لذائذها و تحجب عن أعجب ما تتعلّق به و تعزم به شهوتها، و في شيوعها انقطاع النسل و بطلان المجتمع البيتيّ و في بطلانه بطلان المجتمع الكبير الإنسانيّ، و سوف نستوفي هذا البحث إن شاء الله فيما يناسبه من المحلّ.

و كذلك استباحة القتل و ما في تلوه من الفحشاء إبطال للأمن العامّ و في بطلانه انهدام بنية المجتمع الإنسانيّ و تبدّد أركانه.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) أي حرّم الله قتلها أو حرّمها بالحرمة المشرّعة لها الّتي تقيها و تحميها من الضيعة في دم أو حقّ، قيل: إنّه تعالى أعاد ذكر القتل و إن كان داخلاً في الفواحش تفخيماً لشأنه و تعظيماً لأمره، و نظيره

٣٩٧

الكلام في قتل الأولاد خشية الإملاق اختصّ بالذكر عناية به، و قد كانت العرب يفعل ذلك بزعمهم أنّ خشية الإملاق تبيح للوالد أن يقتل أولاده، و يصان به ماء وجهه من الابتذال، و الاُبوّة عندهم من أسباب الملك.

و قد استثنى الله تعالى من جهة قتل النفس المحترمة الّتي هي نفس المسلم و المعاهد قتلها بالحقّ و هو القتل بالقود و الحدّ الشرعيّ.

ثمّ أكّد تحريم المذكورات في الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) سيجي‏ء الوجه في تعليل هذه المناهي الخمس بقوله:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏ ) النهي عن القرب للدلالة على التعميم فلا يحلّ أكل ماله و لا استعماله و لا أيّ تصرّف فيه إلّا بالطريقة الّتي هي أحسن الطرق المتصوّرة لحفظه، و يمتدّ هذا النهي و تدوم الحرمة إلى أن يبلغ أشدّه فإذا بلغ أشدّه لم يكن يتيماً قاصراً عن إدارة ماله و كان هو المتصرّف في مال نفسه من غير حاجة بالطبع إلى تدبير الوليّ لماله.

و من هنا يظهر أنّ المراد ببلوغه أشدّه هو البلوغ و الرشد كما يدلّ عليه أيضاً قوله:( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) (النساء: ٦).

و يظهر أيضاً أنّه ليس المراد بتحديد حرمة التصرّف في مال اليتيم بقوله:( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏ ) رفع الحرمة بعد بلوغ الأشدّ و إباحة التصرّف حينئذ بل المراد بيان الوقت الّذي يصلح للاقتراب من ماله، و ارتفاع الموضوع بعده فإنّ الكلام في معنى: و أصلحوا مال اليتيم الّذي لا يقدر على إصلاح ماله و إنمائه حتّى يكبر و يقدر.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) الإيفاء بالقسط هو العمل بالعدل فيهما من غير بخس، و قوله:( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) بمنزلة دفع الدخل كأنّه قيل: إنّ الإيفاء بالقسط و الوقوع في العدل الحقيقيّ الواقعيّ لا يمكن للنفس الإنسانيّة الّتي لا مناص لها عن أن تلتجئ في أمثال هذه الاُمور إلى التقريب فاُجيب بأنّا لا نكلّف نفساً إلّا وسعها، و من الجائز أن يتعلّق قوله:( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا

٣٩٨

وُسْعَها ) بالحكمين جميعاً أعني قوله:( وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ‏ ) إلخ، و قوله:( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ‏ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى) ذكر ذي القربى و هو الّذي تدعو عاطفة القرابة و الرحم إلى حفظ جانبه و صيانته من وقوع الشرّ و الضرر في نفسه و ماله يدلّ على أنّ المراد بالقول هو القول الّذي يمكن أن يترتّب عليه انتفاع الغير أو تضرّره كما أنّ ذكر العدل في القول يؤيّد ذلك، و يدلّ على أنّ هناك ظلماً، و أنّ القول متعلّق ببعض الحقوق كالشهادة و القضاء و الفتوى و نحو ذلك.

فالمعنى: و راقبوا أقوالكم الّتي فيها نفع أو ضرر للناس و اعدلوا فيها، و لا يحملنّكم رحمة أو رأفة أو أيّ عاطفة على أن تراعوا جانب أحد فتحرّفوا الكلام و تجاوزوا الحقّ فتشهدوا أو تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبّونه و إبطال حقّ من تكرهونه.

قال في المجمع: و هذا من الأوامر البليغة الّتي يدخل فيها مع قلّة حروفها الأقارير و الشهادات، و الوصايا و الفتاوى، و القضايا، و الأحكام، و المذاهب، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر.

قوله تعالى: ( وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ) قال الراغب في المفردات: العهد حفظ الشي‏ء و مراعاته حالاً بعد حال. انتهى. و لذا يطلق على الفرامين و التكاليف المشرّعة و الوظائف المحوّلة و على العهد الّذي هو الموثق و على النذر و اليمين.

و كثرة استعماله في القرآن الكريم في الفرامين الإلهيّة، و إضافته في الآية إلى الله سبحانه، و مناسبة المورد و فيه بيان الأحكام و الوصايا الإلهيّة العامّة كلّ ذلك يؤيّد أن يكون المراد بقوله:( وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ) التكاليف الدينيّة الإلهيّة، و إن كان من الممكن أن يكون المراد بالعهد هو الميثاق المعقود بمثل قولنا: عاهدت الله على كذا و كذا، قال تعالى:( وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ) (الإسراء: ٣٤) فيكون إضافته إلى الله نظير إضافة الشهادة إليه في قوله:( وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ ) (المائدة: ١٠٦) للإشارة إلى أنّ المعاملة فيه معه سبحانه. ثمّ أكّد التكاليف المذكورة في الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) .

٣٩٩

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) إلى آخر الآية، قرئ:( وَ أَنَّ ) بفتح الهمزة و تشديد النون و تخفيفها و كأنّه بالعطف على موضع قوله:( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) و قرئ بكسر الهمزة على الاستئناف.

و الّذي يعطيه سياق الآيات أن يكون مضمون هذه الآية أحد الوصايا الّتي أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتلوها عليهم و يخبرهم بها حيث قيل:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) ، و لازم ذلك أن يكون قوله:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ) مسوقاً لا لتعلّق الغرض به بنفسه لأنّ كلّيّات الدين قد تمّت في الآيتين السابقتين عليه بل ليكون توطئة و تمهيداً لقوله بعده:( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) كما أنّ هذه الجملة بعينها كالتوطئة لقوله:( فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) فالمراد بالآية أن لا تتفرّقوا عن سبيله و لا تختلفوا فيه، فتكون الآية مسوقة سوق قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (الشورى: ١٣) فالأمر في الآية بإقامة الدين هو ما وصّى من الدين المشروع كأنّه اُعيد ليكون تمهيداً للنهي عن التفرّق بالدين.

فالمعنى: و ممّا حرّم ربّكم عليكم و وصّاكم به أن لا تتّبعوا السبل الّتي دون هذا الصراط المستقيم الّذي لا يقبل التخلّف و الاختلاف و هي غير سبيل الله فإنّ اتّباع السبل دونه يفرّقكم عن سبيله فتختلفون فيه فتخرجون من الصراط المستقيم إذ الصراط المستقيم لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه.

و مقتضى ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله:( صِراطِي ) صراط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه هو الّذي يخاطب الناس بهذه التكاليف عن أمر من ربّه إذ يقول:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ) إلخ، فهو المتكلّم معهم المخاطب لهم، و لله سبحانه في الآيات مقام الغيبة حتّى في ذيل هذه الآية إذ يقول:( فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ) و لا ضير في نسبة الصراط المستقيم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد نسب الصراط المستقيم إلى جمع من عباده الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين في قوله:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) (الحمد: ٧).

٤٠٠