الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88530 / تحميل: 8144
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

حَرَّمَ أَمِ الْأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ  أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا  فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ  إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( ١٤٤) قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ  فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ  وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ  ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ  وَإِنَّا لَصَادِقُونَ( ١٤٦) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( ١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ  كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا  قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا  إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ( ١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ  فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ( ١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا  فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ( ١٥٠)

٣٨١

( بيان)

الآيات تحاجّ المشركين في عدّة من الأحكام في الأطعمة و غيرها دائرة بين المشركين و تذكر حكم الله فيها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً ) إلى آخر الآية، الذرء الإيجاد على وجه الاختراع و كأنّ الأصل في معناه الظهور، و الحرث الزرع، و قوله:( بِزَعْمِهِمْ ) في قوله:( فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ) نوع من التنزيه كقوله:( وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ ) (الأنبياء: ٢٦). و الزعم الاعتقاد و يستعمل غالباً فيما لا يطابق الواقع منه.

و قوله:( وَ هذا لِشُرَكائِنا ) أضاف الشركاء إليهم لأنّهم هم الّذين أثبتوها و اعتقدوا بها نظير أئمّة الكفر و أئمّتهم و أولياؤهم، و قيل: اُضيفت الشركاء إليهم لأنّهم كانوا يجعلون بعض أموالهم لهم فيتّخذونهم شركاء لأنفسهم.

و كيف كان فمجموع الجملتين أعني قوله:( فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا ) من تفريع التفصيل على الإجمال يفسّر به جعلهم لله نصيباً من خلقه، و فيه توطئة و تمهيد لتفريع حكم آخر عليه، و هو الّذي يذكره في قوله:( فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى‏ شُرَكائِهِمْ ) .

و إذ كان هذا الحكم على بطلانه من أصله و كونه افتراءً على الله لا يخلو عن إزراء بساحته تعالى بتغليب جانب الأصنام على جانبه قبّحه بقوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ) إلى آخر الآية. قرأ غير ابن عامر( زَيَّنَ ) بفتح الزاي فعل معلوم، و( قَتْلَ ) بنصب اللّام مفعول( زَيَّنَ ) و هو مضاف إلى( أَوْلادِهِمْ ) بالجرّ و هو مفعول( قَتْلَ ) اُضيف إليه، و( شُرَكاؤُهُمْ ) فاعل( زَيَّنَ ) .

و المعنى أنّ الأصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين و الحبّ الوهميّ في نفوسهم زيّنت لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم و يجعلوهم قرابين يتقرّبون بذلك

٣٨٢

إلى الآلهة كما يضبطه تاريخ قدماء الوثنيّين و الصابئين، و هذا غير مسألة الوأد الّتي كانت بنو تميم من العرب يعملون به فإنّ المأخوذ في سياق الآية الأولاد دون البنات خاصّة.

و قيل: المراد بالشركاء الشياطين، و قيل: خدمة الأصنام، و قيل: الغواة من الناس.

و قرأ ابن عامر:( زَيَّنَ ) بضمّ الزاي مبنيّاً للمفعول( قَتْلَ ) بضمّ اللّام نائب عن فاعل زيّن( أَوْلادِهِمْ ) بالنصب مفعول المصدر أعني( قَتْلَ ) تخلّل بين المضاف و المضاف إليه( شُرَكاؤُهُمْ ) بالجرّ مضاف إليه و فاعل للمصدر.

و قوله تعالى:( لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ) الإرداء: الإهلاك، و المراد به إهلاك المشركين بالكفر بنعمة الله و البغي على خلقه، و خلط دينهم عليهم بإظهار الباطل في صورة الحقّ، فضمير( أَوْلادِهِمْ ) في المواضع الثلاث جميعاً راجع إلى كثير من المشركين.

و قيل: المراد به الإهلاك بظاهر معنى القتل، و لازمه رجوع أوّل الضمائر إلى الأولاد و الثاني و الثالث إلى الكثير، أو الجميع إلى المشركين بنوع من العناية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ ) إلى آخر الآية. الحجر بكسر الحاء المنع و يفسّره قوله بعده:( لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ ) أي هذه الأنعام و الحرث حرام إلّا على من نشاء أن نأذن لهم،

و روي: أنّهم كانوا يقدّمونها لآلهتهم و لا يحلّون أكلها إلّا لمن كان يخدم آلهتهم من الرجال دون النساء بزعمهم.

و قوله:( وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ) أي و قالوا: هذه أنعام حرّمت ظهورها أو و لهم أنعام حرّمت ظهورها، و هي السائبة و البحيرة و الحامي الّتي نفاها الله تعالى في قوله:( ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (المائدة: ١٠٣) و قيل: هي بعض هؤلاء على الخلاف السابق في معناها في تفسير آية المائدة.

و قوله:( وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ) أي و لهم أنعام إلخ و هي الأنعام الّتي كانوا يهلّون عليها بأصنام لا باسم الله، و قيل: هي الّتي كانوا لا يركبونها في الحجّ، و قيل:

٣٨٣

أنعام كانوا لا يذكرون اسم الله عليها و لا في شأن من شؤنها، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا ) إلى آخر الآية، المراد بما في البطون أجنّة البحائر و السيب، فقد كانوا يحلّونها إذا ولدت حيّة للرجال دون النساء و إن ولدت ميتة أكله الرجال و النساء جميعاً، و قيل: المراد بها الألبان، و قيل: الأجنّة و الألبان جميعاً.

و المراد بقوله:( سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ) سيجزيهم نفس وصفهم فإنّه يعود وبالاً و عذاباً عليهم ففيه نوع من العناية، و قيل: التقدير: سيجزيهم بوصفهم، و قيل: التقدير: سيجزيهم جزاء وصفهم، فحذف المضاف و اُقيم المضاف إليه مقامه، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) إلخ، ردّ لما حكي عنهم في الآيات السابقة من الأحكام المفتراة و هي قتل الأولاد و تحريم أصناف من الأنعام و الحرث و ذكر أنّ ذلك منهم خسران و ضلال من غير اهتداء.

و قد وصف قتل الأولاد بأنّه سفه بغير علم، و كذلك بدّل الأنعام و الحرث من قوله ما رزقهم الله و وصف تحريمها بأنّه افتراء على الله ليكون في ذلك تنبيه كالتعليل على خسرانهم في ذلك كأنّه قيل: خسروا في قتلهم أولادهم لأنّهم سفهوا به سفهاً بغير علم، و خسروا في تحريمهم أصنافاً من الأنعام و الحرث افتراءً على الله لأنّها من رزق الله و حاشاه تعالى أن يرزقهم شيئاً ثم يحرّمه عليهم.

ثمّ بيّن تعالى ضلالهم في تحريم الحرث و الأنعام مع كونها من رزق الله بياناً تفصيليّاً بالاحتجاج من ناحية العقل و مصلحة معاش العباد بقوله:( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ) إلى تمام أربع آيات، ثمّ من ناحية السمع و نزول الوحي بقوله:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) إلى تمام الآية.

فيكون محصّل الآيات الخمس أنّ تحريمهم أصنافاً من الحرث و الأنعام ضلال منهم لا يساعدهم على ذلك حجّة فلا العقل و رعاية مصلحة العباد يدلّهم على ذلك، و لا الوحي النازل من الله سبحانه يهديهم إليه فهم في خسران منه.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ - إلى قوله -

٣٨٤

وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ ) الشجرة المعروشة هي الّتي ترفع أغصانها بعضاً على بعض بدعائم كالكرم و أصل العرش الرفع فالجنّات المعروشات هي بساتين الكرم و نحوها، و الجنّات غير المعروشات ما كانت أشجارها قائمة على اُصولها من غير دعائم.

و قوله:( وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ) أي ما يؤكل منه من الحبّات كالحنطة و الشعير و العدس و الحمّص.

و قوله:( وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ ) أي متشابهاً كلّ منها و غير متشابه على ما يفيده السياق، و التشابه بين الثمرتين باتّحادهما في الطعم أو الشكل أو اللون أو غير ذلك.

قوله تعالى: ( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ) إلى آخر الآية، الأمر للإباحة لوروده في رفع الحظر الّذي يدلّ عليه إنشاء الجنّات و النخل و الزرع و غيرها، و السياق يدلّ على أنّ تقدير الكلام: و هو الّذي أنشأ جنّات و النخل و الزرع إلخ، و أمركم بأكل ثمر ما ذكر و أمركم بإيتاء حقّه يوم حصاده، و نهاكم عن الإسراف. فأيّ دليل أدلّ من ذلك على إباحتها؟

و قوله:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) أي الحقّ الثابت فيه المتعلّق به فالضمير راجع إلى الثمر و اُضيف إليه الحقّ لتعلّقه به كما يضاف الحقّ أيضاً إلى الفقراء لارتباطه بهم و ربّما احتمل رجوع الضمير إلى الله كالضمير الّذي بعده في قوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) و إضافته إليه تعالى لانتسابه إليه بجعله.

و هذا إشارة إلى جعل حقّ مّا للفقراء في الثمر من الحبوب و الفواكه يؤدّي إليهم يوم الحصاد يدلّ عليه العقل و يمضيه الشرع و ليس هو الزكاة المشرّعة في الإسلام إذ ليست في بعض ما ذكر في الآية زكاة. على أنّ الآية مكّيّة و حكم الزكاة مدنيّ.

نعم لا يبعد أن يكون أصلاً لتشريعها فإنّ اُصول الشرائع النازلة في السور المدنيّة نازلة على وجه الإجمال و الإبهام في السور المكّيّة كقوله تعالى بعد عدّة آيات عند تعداد كلّيّات المحرّمات:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ - إلى أن قال -وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) (الأنعام: ١٥١).

٣٨٥

و قوله:( وَ لا تُسْرِفُوا ) إلخ، أي لا تتجاوزوا الحدّ الّذي يصلح به معاشكم بالتصرّف فيه فلا يتصرّف صاحب المال منكم بالإسراف في أكله أو التبذير في بذله أو وضعه في غير موضعه من معاصي الله و هكذا، و لا يسرف الفقير الأخذ بتضييعه و نحو ذلك، ففي الكلام إطلاق، و الخطاب فيه لجميع الناس.

و أمّا قول بعضهم: إنّ الخطاب في( لا تُسْرِفُوا ) مختصّ بأرباب الأموال، و قول بعض آخر: إنّه متوجّه إلى الإمام الآخذ للصدقة، و كذا قول بعضهم: إنّ معناه لا تسرفوا بأكله قبل الحصاد كيلا يؤدّي إلى بخس حقّ الفقراء، و قول بعض آخر: إنّ المعنى: لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب، و قول ثالث: إنّ المعنى لا تنفقوه في المعصية، كلّ ذلك مدفوع بالإطلاق و السياق.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً ) إلى آخر الآية، الحمولة أكابر الأنعام لإطاقتها الحمل، و الفرش أصاغرها لأنّها كأنّها تفترش على الأرض أو لأنّها توطأ كما يوطأ الفرش، و قوله:( كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) إباحة للأكل و إمضاء لما يدلّ عليه العقل نظير قوله في الآية السابقة:( كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ) ، و قوله:( لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي لا تسيروا في هذا الأمر المشروع إباحته باتّباع الشيطان بوضع قدمكم موضع قدمه بأن تحرّموا ما أحله، و قد تقدّم أنّ المراد باتّباع خطوات الشيطان تحريم ما أحلّه الله بغير علم.

قوله تعالى: ( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) إلى آخر الآية، تفصيل للأنعام بعد الإجمال و المراد به تشديد اللوم و التوبيخ عليهم ببسطه على كلّ صورة من الصور و الوجوه، فقوله:( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) عطف بيان من( حَمُولَةً وَ فَرْشاً ) في الآية السابقة.

و الأزواج جمع زوج، و يطلق الزوج على الواحد الّذي يكون معه آخر و على الاثنين، و أنواع الأنعام المعدودة أربعة: الضأن و المعز و البقر و الإبل، و إذا لوحظت ذكراً و اُنثى كانت ثمانية أزواج.

و المعنى: أنشأ ثمانية أزواج من الضأن زوجين اثنين هما الذكر و الاُنثى و من المعز

٣٨٦

زوجين اثنين كالضأن قل آلذكرين من الضأن و المعز حرّم الله أم الاُنثيين منهما أم حرّم ما اشتملت عليه أرحام الاُنثيين من الضأن و المعز نبّئوني ذلك بعلم إن كنتم صادقين.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ - إلى قوله -الْأُنْثَيَيْنِ ) معناه ظاهر ممّا مرّ، و قيل: المراد بالاثنين في المواضع الأربعة من الآيتين الأهليّ و الوحشيّ.

قوله تعالى: ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا ) إلى آخر الآية. هذا شقّ من ترديد حذف شقّه الآخر على ما يدلّ عليه الكلام، و تقديره: أ علمتم ذلك من طريق الفكر كعقل أو سمع أم شاهدتم تحريم الله ذلك و شافهتموه فادّعيتم ذلك.

و قوله:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) إلخ، تفريع على ما قبله باعتبار دلالته على انقطاعهم عن الجواب و على ذلك فمعناه: فمن أظلم منكم، و يكون قوله:( مِمَّنِ افْتَرى) إلخ، كناية عن المشركين المخاطبين وضع موضع ضمير الخطاب الراجع إليهم ليدلّ به على سبب الحكم المفهوم من الاستفهام الإنكاريّ و التقدير: لا أظلم منكم لأنّكم افتريتم على الله كذباً لتضلّوا الناس بغير علم، و إذ ظلمتم فإنّكم لا تهتدون إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين.

قوله تعالى: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) إلخ، معنى الآية ظاهر، و قد تقدّم في نظيره الآية من سورة المائدة آية ٣، و في سورة البقرة آية ١٧٣ ما ينفع في المقام.

قوله تعالى: ( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) إلخ، الظفر واحد الأظفار و هو العظم النابت على رءوس الأصابع، و الحوايا المباعر قال في المجمع: موضع الحوايا يحتمل أن يكون رفعاً عطفاً على الظهور و تقديره: أو ما حملت الحوايا، و يحتمل أن يكون نصباً عطفاً على ما في قوله:( إِلَّا ما حَمَلَتْ ) فأمّا قوله:( أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) فإنّ ما هذه معطوفة على ما الاُولى (انتهى) و الوجه الأوّل أقرب.

ثمّ قال: ذلك في قوله( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ ) يجوز أن يكون منصوب الموضع بأنّه مفعول ثان لجزيناهم التقدير: جزيناهم ذلك ببغيهم، و لا يجوز أن يرفع بالابتداء لأنّه

٣٨٧

يصير التقدير: ذلك جزيناهموه فيكون كقولهم: زيد ضربت أي ضربته، و هذا إنّما يجوز في ضرورة الشعر. انتهى.

و الآية كأنّها في مقام الاستدراك و دفع الدخل ببيان أنّ ما حرّم الله على بني إسرائيل من طيّبات ما رزقهم إنّما حرّمه جزاءً لبغيهم فلا ينافي ذلك كونه حلّاً بحسب طبعه الأوّلىّ كما يشير إلى ذلك قوله:( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ ) (آل عمران: ٩٣) و قوله:( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ) (النساء: ١٦٠).

قوله تعالى: ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ) إلى آخر الآية، معنى الآية ظاهر، و فيها أمر بإنذارهم و تهديدهم إن كذّبوا بالبأس الإلهيّ الّذي لا مردّ له لكن لا ببيان يسلّط عليهم اليأس و القنوط بل بما يشوبه بعض الرجاء، و لذلك قدّم عليه قوله:( رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ) .

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الآية تذكر احتجاجهم بهذه الحجّة ثمّ تردّ عليهم بأنّهم جاهلون بها و إنّما يركنون فيها إلى الظنّ و التخمين، و الكلمة كلمة حقّ وردت في كثير من الآيات القرآنيّة لكنّها لا تنتج ما قصدوه منها.

فإنّهم إنّما احتجّوا بها لإثبات أنّ شركهم و تحريمهم ما رزقهم الله بإمضاء من الله سبحانه لا بأس عليهم في ذلك فحجّتهم أنّ الله لو شاء منّا خلاف ما نحن عليه من الشرك و التحريم لكنّا مضطرّين على ترك الشرك و التحريم فإذ لم يشأ كان ذلك إذناً في الشرك و التحريم فلا بأس بهذا الشرك و التحريم.

و هذه الحجّة لا تنتج هذه النتيجة و إنّما تنتج أنّ الله سبحانه إذ لم يشأ منهم ذلك لم يوقعهم موقع الاضطرار و الإجبار فهم مختارون في الشرك و الكفّ عنه و في التحريم و تركه فله تعالى أن يدعوهم إلى الإيمان به و رفض الافتراض فللّه الحجّة البالغة و لا حجّة لهم في ذلك إلّا اتّباع الظنّ و التخمين.

٣٨٨

قوله تعالى: ( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) كأنّ الفاء الاُولى لتفريع مضمون الجملة على ما تقدّم من قولهم:( لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا ) إلخ، و الفاء الثانية للتعليل فيكون الكلام من قبيل قلب الحجّة على الخصم بعد بيان مقتضاها.

و المعنى أنّ نتيجة الحجّة قد التبست عليكم بجهلكم و اتّباعكم الظنّ و خرصكم في المعارف الإلهيّة فحجّتكم تدلّ على أن لا حجّة لكم في دعوته إيّاكم إلى رفض الشرك و ترك الافتراء عليه، و إنّ الحجّة إنّما هي لله عليكم فإنّه لو شاء لهداكم أجمعين و أجبركم على الإيمان و ترك الشرك و التحريم، و إذ لم يجبركم على ذلك و أبقاكم على الاختيار فله أن يدعوكم إلى ترك الشرك و التحريم.

و بعبارة اُخرى: يتفرّع على حجّتكم أنّ الحجّة لله عليكم لأنّه لو شاء لأجبر على الإيمان فهداكم أجمعين، و لم يفعل بل جعلكم مختارين يجوز بذلك دعوتكم إلى ما دعاكم إليه.

و قد بيّن تعالى في طائفة من الآيات السابقة أنّه تعالى لم يضطرّ عباده على الإيمان و لم يشأ منهم ذلك بالمشيّة التكوينيّة حتّى يكونوا مجبرين عليه بل أذن لهم في خلافه و هذا الإذن الّذي هو رفع المانع التكوينيّ هو اختيار العباد و قدرتهم على جانبي الفعل و الترك، و هذا الإذن لا ينافي الأمر التشريعيّ بترك الشرك مثلاً بل هو الأساس الّذي يبتني عليه الأمر و النهي.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ ) إلى آخر الآية. هلمّ شهداءكم أي هاتوا شهداءكم و هو اسم فعل يستوي فيه المفرد و المثنّى و المجموع، و المراد بالشهادة شهادة الأداء و الإشارة بقوله:( هذا ) إلى ما ذكر من المحرّمات عندهم، و الخطاب خطاب تعجيزيّ أمر به الله سبحانه ليكشف به أنّهم مفترون في دعواهم أنّ الله حرّم ذلك فهو كناية عن عدم التحريم.

و قوله:( فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ) في معنى الترقّي، و المعنى: لا شاهد فيهم يشهد بذلك فلا تحريم حتّى أنّهم لو شهدوا بالتحريم فلا تشهد معهم إذ لا تحريم و لا يعبأ بشهادتهم فإنّهم قوم يتّبعون أهواءهم.

٣٨٩

فقوله:( وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ) إلخ، عطف تفسير لقوله:( فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ) أي إنّ شهادتك اتّباع لأهوائهم كما أنّ شهادتهم من اتّباع الأهواء، و كيف لا؟ و هم قوم كذّبوا بآيات الله الباهرة، و لا يؤمنون بالآخرة و يعدلون بربّهم غيره من خلقه كالأوثان، و لا يجترئ على ذلك مع كمال البيان و سطوع البرهان إلّا الّذين يتّبعون الأهواء.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ) الآية قال: إنّه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردّوه، و إذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه و قالوا: الله أغنى، و إذا تخرّق الماء من الّذي لله في الّذي للأصنام لم يسدّوه، و إذا تخرّق من الّذي للأصنام في الّذي لله سدّوه و قالوا: الله أغنى: عن ابن عبّاس و قتادة، و هو المرويّ عن أئمّتناعليهم‌السلام .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) الآية قال: قال: يعني أنّ أسلافهم زيّنوا لهم قتل أولادهم.

و فيه في قوله تعالى:( وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ ) قال: قال: الحجر المحرّم.

و فيه في قوله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ ) الآيات قال: قال: البساتين.

و فيه، في قوله تعالى:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) الآية، أخبرنا أحمد بن إدريس قال: حدّثنا أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن أبان بن عثمان عن شعيب العقرقوفيّ قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال: الضغث من السنبل و الكفّ من التمر إذا خرص. قال: و سألته هل يستقيم إعطاؤه إذا أدخله بيته؟ قال: لا هو أسخى لنفسه قبل أن يدخل بيته.

و فيه، عن أحمد بن إدريس عن البرقيّ عن سعد بن سعد عن الرضاعليه‌السلام : أنّه سئل: إن لم يحضر المساكين و هو يحصد كيف يصنع؟ قال: ليس عليه شي‏ء.

٣٩٠

و في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن معاوية بن الحجّاج قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: في الزرع حقّان: حقّ تؤخذ به، و حقّ تعطيه. قلت: و ما الّذي اُوخذ به؟ و ما الّذي اُعطيه؟ قال: أمّا الّذي تؤخذ به فالعشر و نصف العشر، و أمّا الّذي تعطيه فقول الله عزّوجلّ:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) يعني من حصدك الشي‏ء بعد الشي‏ء و لا أعلمه إلّا قال: الضغث تعطيه ثمّ الضغث حتّى تفرغ.

و فيه، بإسناده عن أبي نصر عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: سألته عن قوله الله عزّوجلّ:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا ) قال: كان أبي يقول: من الإسراف في الحصاد و الجذاذ أن يتصدّق الرجل بكفيّه جميعاً، و كان أبي إذا حضر شيئاً من هذا فرأى أحداً من غلمانه يتصدّق بكفيّه صاح به: أعط بيد واحدة القبضة بعد القبضة و الضغث بعد الضغث من السنبل.

و فيه، بإسناده عن مصادف قال: كنت مع أبي عبداللهعليه‌السلام في أرض له و هم يصرمون فجاء سائل يسأل فقلت: الله يرزقك فقال: مه ليس ذلك لكم حتّى تعطوا ثلاثة فإذا أعطيتم فلكم و إن أمسكتم فلكم.

و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن المثنّى قال: سأل رجل أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) فقال: كان فلان بن فلان الأنصاريّ و سمّاه و كان له حرث، و كان إذا أجذّ يتصدّق به و يبقى هو و عياله بغير شي‏ء فجعل الله عزّوجلّ ذلك إسرافاً.

أقول: المراد انطباق الآية على عمله دون نزولها فيه فإنّ الآية مكّيّة، و لعلّ المراد بالأنصاريّ المذكور ثابت بن قيس بن شماس‏ و قد روى الطبريّ و غيره عن ابن جريح قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلاً فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلّا أطعمته فأطعم حتّى أمسى و ليست له تمره فأنزل الله:( وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏ ) ، و الآية كما تقدّم مكّيّة غير مدنيّة فلا يشمل عمل ثابت بن قيس إلّا بالجري و الانطباق.

و تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : في الآية قال: أعط من حضرك من المسلمين فإن لم يحضرك إلّا مشرك فأعط.

٣٩١

أقول: و الروايات في هذه المعاني عن أبي جعفر و أبي عبدالله و أبي الحسن الرضاعليهم‌السلام كثيرة جدّاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و النحّاس و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال: ما سقط من السنبل.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحّاس و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) قال: نسخها العشر و نصف العشر.

أقول: ليست النسبة بين الآية و آية الزكاة نسبة النسخ إذ لا تنافي يؤدّي إلى النسخ سواء قلنا بوجوب الصدقة أو باستحبابها.

و فيه، أخرج أبوعبيد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر عن الضحّاك قال: نسخت الزكاة كلّ صدقة في القرآن.

أقول: الكلام فيه كسابقه.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن المنذر و أبوالشيخ عن ميمون بن مهران و يزيد بن الأصمّ قال: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجي‏ء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه فهو قوله:( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ) .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) الآية: فهذه الّتي أحلّها الله في كتابه في قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) ثمّ فسّرها في هذه الآية فقال:( مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ) فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ) عنى الأهليّ و الجبليّ( وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ) عنى الأهليّ و الوحشيّ الجبليّ( وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ) عنى الأهليّ و الوحشيّ الجبليّ( وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ) يعني البخاتي و العراب، فهذه أحلّها الله.

أقول: و روي ما يؤيّد ذلك في الكافي و الاختصاص و تفسير العيّاشيّ عن داود الرقّيّ و صفوان الجمّال عن الصادقعليه‌السلام . و يبقى البحث في أنّ معنى الزوج في قوله:

٣٩٢

( ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ) الآية هو الّذي في قوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) أو غيره؟ و سيوافيك إن شاء الله تعالى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حريز عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سئل عن سباع الطير و الوحش حتّى ذكر له القنافذ و الوطواط و الحمير و البغال و الخيل فقال: ليس الحرام إلّا ما حرّم الله في كتابه، و قد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، و إنّما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه ليس الحمير بحرام، و قال: قرأ هذه الآيات:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏ ) .

أقول: و في معناه أخبار اُخر مرويّة عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام و في عدّة منها: إنّما الحرام ما حرّمه الله في كتابه و لكنّهم كانوا يعافون أشياء فنحن نعافها، و هنا روايات كثيرة تنهى عن أكل كثير من الحيوان كذوات الأنياب من الوحش و ذوات المخالب من الطير و غير ذلك، و الأمر في روايات أهل السنّة على هذا النحو و المسألة فقهيّة مرجعها الفقه، و إذا تمّت حرمة ما عدا المذكورات في الآية فإنّما هي ممّا حرّمها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخباثاً له و قد وصفه الله تعالى بما يمضيه في حقّه، قال تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) الآية: (الأعراف: ١٥٧).

و في المجمع،: في قوله تعالى:( وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ) الآية: إنّ ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير و الشحوم فحرّم الله ذلك ببغيهم على فقرائهم. ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمّدعليه‌السلام و قد سئل عن قوله تعالى:( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) فقال: إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي كنت عالماً؟ فإن قال: نعم قال له: أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال: كنت جاهلاً قال: أ فلا تعلّمت حتّى تعمل؟ فيخصمه فتلك الحجّة البالغة.

أقول: و هو من بيان المصداق.

٣٩٣

( سورة الأنعام الآيات ١٥١ - ١٥٧)

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ  أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا  وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا  وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ  نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ  وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ  وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ  ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ١٥١ ) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ  وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ  لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا  وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ  وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا  ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( ١٥٢ ) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ  وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ  ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ١٥٣ ) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( ١٥٤ ) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ١٥٥ ) أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( ١٥٦ ) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ  فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ  فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا  سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ( ١٥٧ )

( بيان)

تبيّن الآيات المحرّمات العامّة الّتي لا تختصّ بشريعة من الشرائع الإلهيّة، و هي الشرك بالله، و ترك الإحسان بالوالدين، و اقتراف الفواحش، و قتل النفس المحترمة

٣٩٤

بغير حقّ و يدخل فيه قتل الأولاد خشية إملاق و اقتراب مال اليتيم إلّا بالّتي هي أحسن و عدم إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و الظلم في القول، و عدم الوفاء بعهد الله، و اتّباع غير سبيل الله المؤدّي إلى الاختلاف في الدين.

و من شواهد أنّها شرائع عامّة أنّا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء اُممهم في تبليغاتهم الدينيّة كالّذي نقل من نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى و عيسى و غيرهمعليهم‌السلام ، و قد قال تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (الشورى: ١٣) و من ألطف الإشارة التعبير عمّا اُوتي نوح و إبراهيم و موسى و عيسىعليهم‌السلام بالتوصية ثمّ التعبير في هذه الآيات الثلاث الّتي تقصّ اُصول المحرّمات الإلهيّة أيضاً بالتوصية حيث قال:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) ( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

على أنّ التأمّل فيها يعطي أنّ الدين الإلهيّ لا يتمّ أمره و لا يستقيم حاله بدون شي‏ء منها و إن بلغ من الإجمال و البساطة ما بلغ و بلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ.

قوله تعالى: ( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) قيل: تعال مشتقّ من العلوّ و هو أمر بتقدير أنّ الأمر في مكان عال و إن لم يكن الأمر على ذلك بحسب الحقيقة، و التلاوة قريب المعنى من القراءة، و قوله:( عَلَيْكُمْ ) متعلّق بقوله:( أَتْلُ ) أو قوله:( حَرَّمَ ) على طريق التنازع في المتعلّق، و ربّما قيل: إنّ( عَلَيْكُمْ ) اسم فعل بمعنى خذوا و قوله:( أَلَّا تُشْرِكُوا ) معموله و النظم: عليكم أن لا تشركوا به شيئاً و بالوالدين إحساناً إلخ، و هو خلاف ما يسبق إلى الذهن من السياق.

و لمّا كان قوله:( تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ) إلخ، دعوة إلى التلاوة وضع في الكلام عين ما جاء به الوحي في مورد المحرّمات من النهي في بعضها و الأمر بالخلاف في بعضها الآخر فقال:( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) كما قال:( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ) ( وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ) إلخ، و قال:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) كما قال:( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ‏ )

٣٩٥

( وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ) إلخ.

و قد قدّم الشرك على سائر المحرّمات لأنّه الظلم العظيم الّذي لا مطمع في المغفرة الإلهيّة معه قال:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (النساء: ٤٨) و إليه ينتهي كلّ معصية كما ينتهي إلى التوحيد بوجه كلّ حسنة.

قوله تعالى: ( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) أي أحسنوا بالوالدين إحساناً، و في المجمع: أي و أوصى بالوالدين إحساناً، و يدلّ على ذلك أنّ في( حرّم كذا) معنى أوصى بتحريمه و أمر بتجنّبه. انتهى.

و قد عدّ في مواضع من القرآن الكريم إحسان الوالدين تالياً للتوحيد و نفي الشرك فأمر به بعد الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك به كقوله:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) (الإسراء: ٢٣) و قوله:( وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) (لقمان: ١٤) و غير ذلك من الآيات.

و يدلّ ذلك على أنّ عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك بالله العظيم، و الاعتبار يهدي إلى ذلك فإنّ المجتمع الإنسانيّ الّذي لا يتمّ للإنسان دونه حياة و لا دين هو أمر وضعيّ اعتباريّ لا يحفظه في حدوثه و بقائه إلّا حبّ النسل الّذي يتّكئ على رابطة الرحمة المتكوّنة في البيت القائمة بالوالدين من جانب و بالأولاد من جانب آخر، و الأولاد إنّما يحتاجون إلى رحمتهما و إحسانهما في زمان تتوق أنفسهما إلى نحو الأولاد بحسب الطبع، و كفى به داعياً و محرّضاً لهما إلى الإحسان إليهم بخلاف حاجتهم إلى رأفة الأولاد و رحمتهم فإنّها بالطبع يصادف كبرهما و يوم عجزهما عن الاستقلال بالقيام بواجب حياتهما و شباب الأولاد و قوّتهم على ما يعنيهم.

و جفاء الأولاد للوالدين و عقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم و رجائهما منهم و انتشار ذلك بين النوع يؤدّي بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد و التربية، و يدعو ذلك من جهة إلى ترك التناسل و انقطاع النسل، و من جهة إلى كراهية تأسيس البيت و التكاهل في تشكيل المجتمع الصغير، و الاستنكاف عن حفظ سمة الاُبوّة و الاُمومة، و ينجرّ إلى

٣٩٦

تكوّن طبقة من الذرّيّة الإنسانيّة لا قرابة بينهم و لا أثر من رابطة الرحم فيهم، و يتلاشى عندئذ أجزاء المجتمع، و يتشتّت شملهم، و يتفرّق جمعهم، و يفسد أمرهم فساداً لا يصلحه قانون جار و لا سنّة دائرة، و يرتحل عنهم سعادة الدنيا و الآخرة، و سنقدّم إليك بحثاً ضافياً في هذه الحقيقة الدينيّة إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ ) الإملاق الإفلاس من المال و الزاد و منه التملّق، و قد كان هذا كالسنّة الجارية بين العرب في الجاهليّة لتسرّع الجدب و القحط إلى بلادهم فكان الرجل إذا هدّده الإفلاس بادر إلى قتل أولاده تأنّفاً من أن يراهم على ذلّة العدم و الجوع.

و قد علّل النهي بقوله:( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ ) أي إنّما تقتلونهم مخافة أن لا تقدروا على القيام بأمر رزقهم و لستم برازقين لهم بل الله يرزقكم و إيّاهم جميعاً فلا تقتلوهم.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) الفواحش جمع فاحشة و هي الأمر الشنيع المستقبح، و قد عدّ الله منها في كلامه الزنا و اللواط و قذف المحصنات، و الظاهر أنّ المراد ممّا ظهر و ممّا بطن العلانية و السرّ كالزنا العلنيّ و اتّخاذ الأخدان و الأخلّاء سرّاً.

و في استباحة الفاحشة إبطال فحشها و شناعتها، و في ذلك شيوعها لأنّها من أعظم ما تتوق إليه النفس الكارهة لأن يضرب عليها بالحرمان من ألذّ لذائذها و تحجب عن أعجب ما تتعلّق به و تعزم به شهوتها، و في شيوعها انقطاع النسل و بطلان المجتمع البيتيّ و في بطلانه بطلان المجتمع الكبير الإنسانيّ، و سوف نستوفي هذا البحث إن شاء الله فيما يناسبه من المحلّ.

و كذلك استباحة القتل و ما في تلوه من الفحشاء إبطال للأمن العامّ و في بطلانه انهدام بنية المجتمع الإنسانيّ و تبدّد أركانه.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) أي حرّم الله قتلها أو حرّمها بالحرمة المشرّعة لها الّتي تقيها و تحميها من الضيعة في دم أو حقّ، قيل: إنّه تعالى أعاد ذكر القتل و إن كان داخلاً في الفواحش تفخيماً لشأنه و تعظيماً لأمره، و نظيره

٣٩٧

الكلام في قتل الأولاد خشية الإملاق اختصّ بالذكر عناية به، و قد كانت العرب يفعل ذلك بزعمهم أنّ خشية الإملاق تبيح للوالد أن يقتل أولاده، و يصان به ماء وجهه من الابتذال، و الاُبوّة عندهم من أسباب الملك.

و قد استثنى الله تعالى من جهة قتل النفس المحترمة الّتي هي نفس المسلم و المعاهد قتلها بالحقّ و هو القتل بالقود و الحدّ الشرعيّ.

ثمّ أكّد تحريم المذكورات في الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) سيجي‏ء الوجه في تعليل هذه المناهي الخمس بقوله:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏ ) النهي عن القرب للدلالة على التعميم فلا يحلّ أكل ماله و لا استعماله و لا أيّ تصرّف فيه إلّا بالطريقة الّتي هي أحسن الطرق المتصوّرة لحفظه، و يمتدّ هذا النهي و تدوم الحرمة إلى أن يبلغ أشدّه فإذا بلغ أشدّه لم يكن يتيماً قاصراً عن إدارة ماله و كان هو المتصرّف في مال نفسه من غير حاجة بالطبع إلى تدبير الوليّ لماله.

و من هنا يظهر أنّ المراد ببلوغه أشدّه هو البلوغ و الرشد كما يدلّ عليه أيضاً قوله:( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) (النساء: ٦).

و يظهر أيضاً أنّه ليس المراد بتحديد حرمة التصرّف في مال اليتيم بقوله:( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏ ) رفع الحرمة بعد بلوغ الأشدّ و إباحة التصرّف حينئذ بل المراد بيان الوقت الّذي يصلح للاقتراب من ماله، و ارتفاع الموضوع بعده فإنّ الكلام في معنى: و أصلحوا مال اليتيم الّذي لا يقدر على إصلاح ماله و إنمائه حتّى يكبر و يقدر.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) الإيفاء بالقسط هو العمل بالعدل فيهما من غير بخس، و قوله:( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) بمنزلة دفع الدخل كأنّه قيل: إنّ الإيفاء بالقسط و الوقوع في العدل الحقيقيّ الواقعيّ لا يمكن للنفس الإنسانيّة الّتي لا مناص لها عن أن تلتجئ في أمثال هذه الاُمور إلى التقريب فاُجيب بأنّا لا نكلّف نفساً إلّا وسعها، و من الجائز أن يتعلّق قوله:( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا

٣٩٨

وُسْعَها ) بالحكمين جميعاً أعني قوله:( وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ‏ ) إلخ، و قوله:( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ‏ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى) ذكر ذي القربى و هو الّذي تدعو عاطفة القرابة و الرحم إلى حفظ جانبه و صيانته من وقوع الشرّ و الضرر في نفسه و ماله يدلّ على أنّ المراد بالقول هو القول الّذي يمكن أن يترتّب عليه انتفاع الغير أو تضرّره كما أنّ ذكر العدل في القول يؤيّد ذلك، و يدلّ على أنّ هناك ظلماً، و أنّ القول متعلّق ببعض الحقوق كالشهادة و القضاء و الفتوى و نحو ذلك.

فالمعنى: و راقبوا أقوالكم الّتي فيها نفع أو ضرر للناس و اعدلوا فيها، و لا يحملنّكم رحمة أو رأفة أو أيّ عاطفة على أن تراعوا جانب أحد فتحرّفوا الكلام و تجاوزوا الحقّ فتشهدوا أو تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبّونه و إبطال حقّ من تكرهونه.

قال في المجمع: و هذا من الأوامر البليغة الّتي يدخل فيها مع قلّة حروفها الأقارير و الشهادات، و الوصايا و الفتاوى، و القضايا، و الأحكام، و المذاهب، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر.

قوله تعالى: ( وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ) قال الراغب في المفردات: العهد حفظ الشي‏ء و مراعاته حالاً بعد حال. انتهى. و لذا يطلق على الفرامين و التكاليف المشرّعة و الوظائف المحوّلة و على العهد الّذي هو الموثق و على النذر و اليمين.

و كثرة استعماله في القرآن الكريم في الفرامين الإلهيّة، و إضافته في الآية إلى الله سبحانه، و مناسبة المورد و فيه بيان الأحكام و الوصايا الإلهيّة العامّة كلّ ذلك يؤيّد أن يكون المراد بقوله:( وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ) التكاليف الدينيّة الإلهيّة، و إن كان من الممكن أن يكون المراد بالعهد هو الميثاق المعقود بمثل قولنا: عاهدت الله على كذا و كذا، قال تعالى:( وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ) (الإسراء: ٣٤) فيكون إضافته إلى الله نظير إضافة الشهادة إليه في قوله:( وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ ) (المائدة: ١٠٦) للإشارة إلى أنّ المعاملة فيه معه سبحانه. ثمّ أكّد التكاليف المذكورة في الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) .

٣٩٩

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) إلى آخر الآية، قرئ:( وَ أَنَّ ) بفتح الهمزة و تشديد النون و تخفيفها و كأنّه بالعطف على موضع قوله:( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) و قرئ بكسر الهمزة على الاستئناف.

و الّذي يعطيه سياق الآيات أن يكون مضمون هذه الآية أحد الوصايا الّتي أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتلوها عليهم و يخبرهم بها حيث قيل:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) ، و لازم ذلك أن يكون قوله:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ) مسوقاً لا لتعلّق الغرض به بنفسه لأنّ كلّيّات الدين قد تمّت في الآيتين السابقتين عليه بل ليكون توطئة و تمهيداً لقوله بعده:( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ) كما أنّ هذه الجملة بعينها كالتوطئة لقوله:( فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) فالمراد بالآية أن لا تتفرّقوا عن سبيله و لا تختلفوا فيه، فتكون الآية مسوقة سوق قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (الشورى: ١٣) فالأمر في الآية بإقامة الدين هو ما وصّى من الدين المشروع كأنّه اُعيد ليكون تمهيداً للنهي عن التفرّق بالدين.

فالمعنى: و ممّا حرّم ربّكم عليكم و وصّاكم به أن لا تتّبعوا السبل الّتي دون هذا الصراط المستقيم الّذي لا يقبل التخلّف و الاختلاف و هي غير سبيل الله فإنّ اتّباع السبل دونه يفرّقكم عن سبيله فتختلفون فيه فتخرجون من الصراط المستقيم إذ الصراط المستقيم لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه.

و مقتضى ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله:( صِراطِي ) صراط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه هو الّذي يخاطب الناس بهذه التكاليف عن أمر من ربّه إذ يقول:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ) إلخ، فهو المتكلّم معهم المخاطب لهم، و لله سبحانه في الآيات مقام الغيبة حتّى في ذيل هذه الآية إذ يقول:( فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ) و لا ضير في نسبة الصراط المستقيم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد نسب الصراط المستقيم إلى جمع من عباده الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين في قوله:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) (الحمد: ٧).

٤٠٠

لكنّ المفسّرين كأنّهم تسلّموا أنّ ضمير التكلّم في قوله:( صِراطِي ) لله سبحانه ففي الآية نوع من الالتفات لكن لا في قوله:( صِراطِي ) بل في قوله:( عَنْ سَبِيلِهِ ) فإنّ معنى الآية: تعالوا أتل عليكم ما وصّاكم به ربّكم و هو أنّه يقول لكم:( إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه) أو وصيّته( أنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه و لا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيلي) فالالتفات - كما مرّ - إنّما هو في قوله:( عَنْ سَبِيلِهِ ) .

و كيف كان فهو تعالى في الآية يسمّي ما ذكره من كلّيّات الدين بأنّه صراطه المستقيم الّذي لا تخلّف في هداية سالكيه و إيصالهم إلى المقصد و لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه ما داموا عليه فلا يتفرّقون البتّة ثمّ ينهاهم عن اتّباع سائر السبل فإنّ من شأنها إلقاء الخلاف و التفرقة لأنّها طرق الأهواء الشيطانيّة الّتي لا ضابط يضبطها بخلاف سبيل الله المبنيّ على الفطرة و الخلقة و لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم. ثمّ أكّد سبحانه حكمه في الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و قد اختلفت الخواتيم في الآيات الثلاث فختمت الآية الاُولى بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) و الثانية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) و الثالثة بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الاُمور المذكورة في الآية الاُولى و هي الشرك بالله العظيم و عقوق الوالدين و قتل الأولاد من إملاق و قربان الفواحش الشنيعة و قتل النفس المحترمة من غير حقّ ممّا تدرك الفطرة الإنسانيّة حرمتها في بادئ نظرها و لا يجترئ عليها الإنسان الّذي يتميّز من سائر الحيوان بالعقل إلّا إذا اتّبع الأهواء و أحاطت به العواطف المظلمة الّتي تضرب بحجاب ثخين دون العقل. فمجرّد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة و الخروج عن خالصة الأهواء يكشف للإنسان عن حرمتها و شامتها على الإنسان بما هو إنسان، و لذلك ختمت بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

و ما ذكر منها في الآية الثانية و هي الاجتناب عن مال اليتيم، و إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و العدل في القول، و الوفاء بعهد الله اُمور ليست بمثابة ما تليت في الآية الاُولى من الظهور بل يحتاج الإنسان مع تعبّيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكّر و هو الرجوع

٤٠١

إلى المصالح و المفاسد العامّة المعلومة عند العقل الفطريّ حتّى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعة المشرفة به و بسائر بني نوعه إلى التهلكة فما ذا يبقى من الخير في مجتمع إنسانيّ لا يرحم فيه الصغير و الضعيف، و يطفّف فيه الكيل و الوزن، و لا يعدل فيه في الحكم و القضاء، و لا يصغي فيه إلى كلمة الحقّ، و لهذه النكتة ختمت الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) .

و الغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهي عن التفرّق و الاختلاف في الدين باتّباع سبل غير سبيل الله، و اتّباع هاتيك السبل من شأنه أنّ التقوى الدينيّ لا يتمّ إلّا بالاجتناب عنه.

و ذلك أنّ التقوى الدينيّ إنّما يحصل بالتبصّر في المناهي الإلهيّة و الورع عن محارمه بالتعقّل و التذكّر، و بعبارة اُخرى بالتزام الفطرة الإنسانيّة الّتي بني عليها الدين، و قد قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) (الشمس: ٨) و قد وعد الله المتّقين إن اتّقوا يمددهم بما يتّضح به سبيلهم و يفرّق به بين الحقّ و الباطل عندهم فقال:( وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) (الطلاق: ٢) و قال:( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) (الأنفال: ٢٩).

فهو على صراط التقوى ما دام ملازماً لطريق التعقّل و التذكّر جارياً على مجرى الفطرة، و إذا انحرف إلى الخارج من هذا الصراط و ليس إلّا اتّباع الأهواء و الإخلاد إلى الأرض و الاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الأهواء و العواطف إلى الاسترسال و العكوف على مخالفة العقل السليم و ترك التقوى الدينيّ من غير مبالاة بما يهدّده من شؤم العاقبة كالسكران لا يدري ما يفعل و لا ما يفعل به.

و الأهواء النفسانيّة مختلفة لا ضابط يضبطها و لا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها و لذلك لا تكاد ترى اثنين من أهل الأهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية، و قد عدّ الله سبحانه لهم في كلامه سبلاً شتّى كقوله:( وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) (الأنعام: ٥٥) و قوله:( وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (الأعراف: ١٤٢) و قوله:( وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (يونس: ٨٩) و قوله في المشركين:( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ

٤٠٢

لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (النجم: ٢٣) و أنت إن تتّبعت آيات الهدى و الضلال و الاتّباع و الإطاعة وجدت في هذا المعنى شيئاً كثيراً.

و بالجملة التقوى الدينيّ لا يحصل بالتفرّق و الاختلاف، و الورود في أيّ مشرعة شرعت، و السلوك من أيّ واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الّذي لا تخلّف فيه و لا اختلاف فذلك هو الّذي يرجى معه التلبّس بلباس التقوى، و لذلك عقّب الله سبحانه قوله:( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و قال في روح المعاني: و ختمت الآية الاُولى بقوله سبحانه:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) و هذه - يعني الثانية - بقوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) لأنّ القوم كانوا مستمرّين على الشرك و قتل الأولاد و قربان الزنا و قتل النفس المحرّمة بغير حقّ غير مستنكفين و لا عاقلين قبحها فنهاهم لعلّهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها و يتركوها، و أمّا حفظ أموال اليتامى عليهم و إيفاء الكيل و العدل في القول و الوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه و يفتخرون بالاتّصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلّهم يذكّرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازيّ. انتهى.

و أنت خبير بأنّ الّذي ذكره من اتّصافهم بحفظ أموال اليتامى و إيفاء الكيل و العدل في القول لا يوافق ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهليّة، على أنّ الّذي فسّر به التذكّر إنّما هو معنى الذكر دون التذكّر في عرف القرآن.

ثمّ قال: و قال الإمام - يعني الرازيّ - في التفسير الكبير: السبب في ختم كلّ آية بما ختمت أنّ التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الاُولى ظاهرة جليّة فوجب تعقّلها و تفهّمها و التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية - يعني الثانية - اُمور خفيّة غامضة لا بدّ فيها من الاجتهاد و الفكر الكثير حتّى يقف على موضوع الاعتدال و هو التذكّر. انتهى.

و ما ذكره من الوجه قريب المأخذ ممّا قدّمناه غير أنّ الاُمور الأربعة المذكورة في الآية الثانية ممّا يناله الإنسان بأدنى تأمّل، و ليست بذلك الخفاء و الغموض الّذي وصفه، و لذا التجأ إلى إرجاع التذكّر إلى الوقوف على حدّ الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك

٤٠٣

معنى الآية فإنّ مقتضى السياق رجوع رجاء التذكّر إلى أصل ما وصّى به فيها، و الّذي يحتاج منها بحسب الطبع إلى الوقوف حدّ اعتداله هما الأمران الأوّلان أعني قربان مال اليتيم و إيفاء الكيل و الوزن، و قد تدورك أمرهما بقوله:( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) فافهم ذلك.

ثمّ قال في الآية الثالثة: قال أبو حيّان: و لمّا كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف و أمر سبحانه باتّباعه و نهى عن اتّباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى الّتي هي اتّقاء النار إذ من اتّبع صراطه نجا النجاة الأبديّة، و حصل على السعادة السرمديّة انتهى.

و هو مبنيّ على جعل الأمر باتّباع الصراط المستقيم في الآية ممّا تعلّق به القصد بالأصالة و قد تقدّم أنّ مقتضى السياق كونه مقدّمة للنهي عن التفرّق باتّباع السبل الاُخرى. و توطئة لقوله:( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) .

قوله تعالى: ( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) إلى آخر الآية، لمّا كان ما ذكره و وصّى به من كلّيّات الشرائع تكاليف مشرّعة عامّة لجميع ما اُوتي الأنبياء من الدين، و هي اُمور كلّيّة مجملة صحّح ذلك الالتفات إلى بيان أنّه تعالى بعد ما شرعها للجميع إجمالاً فصّلها حيث اقتضت تفصيلها لموسىعليه‌السلام أوّلاً فيما أنزل عليه من الكتاب، و للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ.

فمعنى الآية: أنّا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينيّة آتينا موسى الكتاب تماماً تتمّ به نقيصة من أحسن منهم من حيث الشرع الإجماليّ و تفصيلاً يفصّل به كلّ شي‏ء من فروع هذه الشرائع الإجماليّة ممّا يحتاج إليه بنو إسرائيل و هدى و رحمة لعلّهم بلقاء ربّهم يؤمنون. هذا هو الّذي يعطيه سياق الآية المتّصل بسياق الآيات الثلاث السابقة.

فقوله:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) رجوع إلى السياق السابق الّذي قبل قوله:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) الآيات، و هو خطاب الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيغة

٤٠٤

المتكلّم مع الغير، و قد اُفيد بالتأخير المستفاد من لفظة( ثُمَّ ) أنّ هذا الكتاب إنّما اُنزل ليكون تماماً و تفصيلاً للإجمال الّذي في تلك الشرائع العامّة الكلّيّة.

و قد وجه المفسّرون قوله:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) بوجوه غريبة:

منها: أنّ في الكلام حذفاً و التقدير: ثمّ قل يا محمّد آتينا موسى الكتاب.

و منها: أنّ التقدير: ثمّ اُخبركم أنّ موسى اُعطي الكتاب.

و منها: أنّ التقدير: ثمّ أتل عليكم: آتينا موسى الكتاب.

و منها: أنّه متّصل بقوله في قصّة إبراهيم:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) و النظم:( و وهبنا له إسحاق و يعقوب ثمّ آتينا موسى الكتاب) .

و الّذي دعاهم إلى هذه التكلّفات أنّ التوراة قبل القرآن و لفظة( ثُمَّ ) تقتضي التراخي و لازمه نزول التوراة بعد القرآن و قد قيل قبل ذلك:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) . و ما تقدّم من البيان يكفيك مؤنة هذه الوجوه.

و قوله:( تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) يبيّن أنّ إنزال الكتاب لتتمّ به نقيصة الّذين أحسنوا من بني إسرائيل في العمل بهذه الشرائع الكلّيّة العامّة، و قد قال تعالى في قصّة موسى بعد نزول الكتاب:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) (الأعراف: ١٤٥) و قال:( وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة: ٥٨) و على هذا فالموصول في قوله:( عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يفيد الجنس.

و قد ذكروا في معنى الجملة وجوهاً اُخرى فقيل: المعنى: تماماً على إحسان موسى بالنبوّة و الكرامة، و قيل: المعنى: إتماماً للنعمة على الّذين أحسنوا من المؤمنين، و قيل: المعنى: إتماماً للنعمة على الأنبياء الّذين أحسنوا، و قيل: المعنى: تماماً لكرامته في الجنّة على إحسانه في الدنيا، و قيل: المعنى تماماً على الّذي أحسن الله إلى موسى من الكرامة بالنبوّة و غيرها، و قيل: إنّه متّصل بقصّة إبراهيم و المعنى: تماماً للنعمة على إبراهيم.

و ضعف الجميع ظاهر.

و قوله:( وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) أي ممّا يحتاج إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم

٤٠٥

ممّن بعدهم، و هدىً يهتدي به و رحمة ينعمون بها. و قوله:( لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) فيه إشارة إلى أنّ بني إسرائيل كانوا يتثاقلون أو يستنكفون عن الإيمان بلقاء الله و اليوم الآخر، و ممّا يؤيّده أنّ التوراة الحاضرة الّتي يذكر القرآن أنّها محرّفة لا يوجد فيها ذكر من البعث يوم القيامة، و قد ذكر بعض المورّخين منهم أنّ شعب إسرائيل ما كانت تعتقد المعاد.

قوله تعالى: ( وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ) إلى آخر الآية، أي و هذا كتاب مبارك يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة فاتّبعوه إلخ.

قوله تعالى: ( أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى‏ طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) إلخ،( أَنْ تَقُولُوا ) معناه كراهة أن تقولوا، أو لئلّا تقولوا، و هو شائع في الكلام، و هو متعلّق بقوله في الآية السابقة:( أَنْزَلْناهُ ) .

و قوله:( طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) يراد به اليهود و النصارى اُنزل عليهما التوراة و الإنجيل، و أمّا كتب الأنبياء النازلة قبلهما ممّا يذكره القرآن مثل كتاب نوح و كتاب إبراهيمعليهما‌السلام فلم يكن فيها تفصيل الشرائع و إن اشتملت على أصلها، و أمّا سائر ما ينسب إلى الأنبياءعليهم‌السلام من الكتب كزبور داودعليه‌السلام و غيره فلم تكن فيها شرائع و لا لهم بها عهد.

و المعنى أّا أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا: إنّ الكتاب الإلهيّ المفصّل لشرائعه إنّما اُنزل على طائفتين من قبلنا هم اليهود و النصارى و إنّا كنّا غافلين عن دراستهم و تلاوتهم، و لا بأس علينا مع الغفلة.

قوله تعالى: ( أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى‏ مِنْهُمْ ) إلى آخر الآية أي من الّذين اُنزل إليهم الكتاب قبلنا، و قوله:( فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) تفريع لقوليه:( أَنْ تَقُولُوا ) ( أَوْ تَقُولُوا ) جميعاً، و قد بدّل الكتاب من البيّنة ليدلّ به على ظهور حجّته و وضوح دلالته بحيث لا يبقى عذر لمعتذر و لا علّة لمتعلّل، و الصدف الإعراض و معنى الآية ظاهر.

٤٠٦

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير قال: كنت جالساً عند أبي جعفرعليه‌السلام و هو متّكٍ على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات الّتي لم ينسخهنّ شي‏ء من الأنعام قال: شيّعها سبعون ألف ملك:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثمّ تلاه:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) إلى ثلاث آيات.

ثمّ قال: فمن وفى بهنّ فأجره على الله، و من انتقص منهنّ شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، و من أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء عفي عنه.

أقول: و الرواية لا تخلو عن شي‏ء فإنّ فيما ذكر في الآيات الشرك بالله و لا تكفي فيه عقوبة الدنيا و لا تناله مغفرة في الآخرة بنصّ القرآن، قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) (النساء: ٤٨) و قال:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) (البقرة: ١٦٢).

على أنّ ظاهر الرواية كون هذه الأحكام ممّا يختصّ بهذه الشريعة كما يشعر به ما نقل عن بعض الصحابة و التابعين‏ كالّذي رواه في الدرّ المنثور، عن جمع عن ابن مسعود قال: من سرّه أن ينظر إلى وصيّة محمّد الّتي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ - إلى قوله -لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، و نظيره ما روي عن منذر الثوريّ عن الربيع بن خيثم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام :( الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) قال: ما ظهر من نكاح امرأة الأب و ما بطن منها الزنا.

٤٠٧

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائيّ و البزّاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن ابن مسعود قال: خطّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطّاً بيده ثمّ قال: هذا سبيل الله مستقيماً، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمين ذلك الخطّ و عن شماله ثمّ قال: و هذه السبل ليس منها سبيل إلّا عليه شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) .

و فيه، أخرج أحمد و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: كنّا جلوساً عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخطّ خطّاً هكذا أمامه فقال: هذا سبيل الله، و خطّين عن يمينه و خطّين عن شماله فقال: هذا سبيل الشيطان ثمّ وضع يده في الخطّ الأوسط و قرأ:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ) الآية.

و في تفسير القمّيّ: أخبرنا الحسن بن عليّ عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمّد بن سنان عن أبي خالد القمّاط عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) قال: نحن السبيل فمن أبى فهذه السبل فقد كفر.

أقول: و هو من الجري، و الّذي ذكرهعليه‌السلام مستفاد من قوله تعالى:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: ٢٣). إذا انضمّ إلى قوله:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) (الفرقان: ٥٧).

و قد وردت عدّة روايات من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ عليّاً هو الصراط المستقيم، و قد تقدّمت الإشارة إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٤٠٨

( سورة الأنعام الآيات ١٥٨ - ١٦٠)

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ  يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا  قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( ١٥٨ ) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ  إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( ١٥٩ ) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا  وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١٦٠ )

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها و هي تتضمّن تهديد من استنكف من المشركين عن الصراط المستقيم و تفرّق شيعاً، و تبرئة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المفرّقين دينهم، و وعداً حسناً لمن جاء بالحسنة و إنجازاً للجزاء.

قوله تعالى: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) استفهام إنكاريّ في مقام لا تنفع فيه عظة و لا تنجح فيه دعوة فالاُمور المذكورة في الآية لا محالة اُمور لا تصحب إلّا القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل بإذهابهم و تطهير الأرض من رجسهم.

و لازم هذا السياق أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم بآية العذاب كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) (الحجر: ٨).

٤٠٩

و يكون المراد بإتيان الربّ هو يوم اللقاء و هو الانكشاف التّامّ لآية التوحيد بحيث لا يبقى عليه ستر كما هو شأن يوم القيامة المختصّ بانكشاف الغطاء، و المصحّح لإطلاق الإتيان على ذلك هو الظهور بعد الخفاء و الحضور بعد الغيبة جلّ شأنه عن الاتّصاف بصفات الأجسام.

و ربّما يقال: إنّ المراد إتيان أمر الربّ و قد مرّ نظيره في قوله تعالى:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ) (البقرة: ٢١٠) في الجزء الثاني من الكتاب.

و يكون المراد بإتيان بعض آيات الربّ إتيان آية تلازم تبدّل نشأة الحياة عليهم بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار كآية الموت الّتي تبدّل نشأة العمل نشأة الجزاء البرزخيّ أو تلازم استقرار ملكة الكفر و الجحود في نفوسهم استقراراً لا يمكنهم معه الإذعان بالتوحيد و الإقبال بقلوبهم إلى الحقّ إلّا ما كان بلسانهم خوفاً من شمول السخط و العذاب كما ربّما دلّ عليه قوله تعالى:( وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) (النمل: ٨٢).

و كذا قوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) (السجدة: ٢٩) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالفتح هو الفتح للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء بينه و بين اُمّته بالقسط كما حكاه الله تعالى عن شعيبعليه‌السلام في قوله:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) (الأعراف: ٨٩) و حكاه عن رسله في قوله:( وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (إبراهيم: ١٥).

أو تلازم بأساً من الله تعالى لا مردّ له و لا محيص عنه فيضطرّهم الله الإيمان ليتّقوا به أليم العذاب لكن لا ينفعهم ذلك فلا ينفع من الإيمان إلّا ما كان عن اختيار كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) (المؤمن: ٨٥).

فهذه أعني إتيان الملائكة أو إتيان الربّ أو إتيان بعض آياته اُمور تصاحب القضاء بينهم بالقسط و هم لكونهم لا تؤثّر فيهم حجّة و لا تنفعهم موعظة لا ينظرون إلّا ذلك و إن

٤١٠

ذهلوا عنه فإنّ الواقع أمامهم علموا أو جهلوا.

و ربّما قيل: إنّ الاستفهام للتهكّم، فإنّهم كانوا يقترحون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّل عليهم الملائكة أو يروا ربّهم أو يأتيهم بآية كما اُرسل الأوّلون فكأنّه قيل: هؤلاء لا يريدون حجّة و إنّما ينتظرون ما اقترحوه من الاُمور.

و هذا الوجه غير بعيد بالنسبة إلى صدر الآية لكنّ ذيلها أعني قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) إلخ، لا يلائمه تلك الملاءمة فإنّ التهكّم لا يتعدّى فيه إلى بيان الحقائق و تفصيل الآثار.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، يشرح خاصّة يوم ظهور هذه الآيات، و هي في الحقيقة خاصّة نفس الآيات و هي أنّ الإيمان لا ينفع نفساً لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع و اختيار أو آمنت قبله و لم تكن كسبت في إيمانها خيراً و لم تعمل صالحاً بل انهمكت في السيّئات و المعاصي إذ لا توبة لمثل هذا الإنسان، قال تعالى:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) (النساء: ١٨) فالنفس الّتي لم تؤمن من قبل إيمان طوع و رضىً أو آمنت بالله و كذّبت بآيات الله و لم تعتن بشي‏ء من شرائع الله و استرسلت في المعاصي الموبقة و لم تكتسب شيئاً من صالح العمل فيما كان عليها ذلك ثمّ شاهدت البأس الإلهيّ فحملها الاضطرار إلى الإيمان لتردّ به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك، و لم يردّ عنها بأساً و لا يردّ بأسه عن القوم المجرمين.

و في الآية من بديع النظم و لطيف السياق أنّه كرّر فيها لفظ( رَبُّكَ ) ثلاث مرّات و ليس إلّا لتأييد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه خصمه و هم المشركون حيث كانوا يفتخرون بأربابهم و يباهون بأوثانهم ليعتزّ بربّه و يثبت به قلبه و يربط جأشه في دعوته إن نجحت و إلّا فبالقضاء الفصل الّذي يقضي به ربّه بينه و بين خصمه ثمّ أكّد ذلك و زاد في طمأنة نفسه بقوله في ختام الآية:( قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) أي فانتظر أنت ما هم منتظرون، و أخبرهم أنّك في انتظاره، و مرهم أن ينتظروه فهو الفصل و ليس بالهزل.

و من هنا يظهر أنّ الآية تتضمّن تهديداً جديّاً لا تخويفاً صوريّاً و به يظهر فساد

٤١١

ما ذكره بعضهم في دفع قول القائل: إنّ الاستفهام في الآية للتهكّم فقال: إنّ هذه الآيات الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الأمر فلا يصحّ أن يراد بهذا البعض شي‏ء ممّا اقترحوه لأنّ إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضي في سنّة الله هلاك الاُمّة بعذاب الاستئصال إذا لم تؤمن به، و الله لا يهلك اُمّة نبيّ الرحمة. انتهى.

و فيه: أنّ دلالة الآيات القرآنيّة على أنّ هذه الاُمّة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل ممّا لا سترة عليها كقوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ - إلى أن قال -وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) إلى آخر الآية: (يونس: ٤٧ - ٥٣).

و قد استدلّ بالآية على أنّ الإيمان لا أثر له إذا لم يقترن بالعمل و هو حقّ في الجملة لا مطلقاً فإنّ الآية في مقام بيان أنّ من كان في وسعه أن يؤمن بالله فلم يؤمن أو في وسعه أن يؤمن و يعمل صالحاً فآمن و لم يعمل صالحاً حتّى لحقه البأس الإلهيّ الشديد الّذي يضطرّه إلى ذلك فإنّه لا ينتفع بإيمانه، و أمّا من آمن طوعاً فأدركه الموت و لم يمهله الأجل حتّى يعمل صالحاً و يكسب في إيمانه خيراً فإنّ الآية غير متعرّضة لبيان حاله بل الآية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على أنّ النافع إنّما هو الإيمان إذا كان عن طوع و لم يحط به الخطيئة و لم تفسده السيّئة.

و في قوله:( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ ) الفصل بين الموصوف و الوصف بفاعل الفعل و هو إيمانها و كأنّه للاحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل و فاعله، و اجتماع( فِي إِيمانِها ) و( إِيمانُها ) في اللفظ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) إلخ، وجه الكلام السابق و إن كان مع المشركين و قد ابتلوا بتفريق الدين الحنيف، و كان أيضاً لأهل الكتاب نصيب من الكلام و ربّما لوّح إليهم بعض التلويح و لازم ذلك أن ينطبق قوله:( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) على المشركين بل عليهم و على اليهود و النصارى لاشتراك الجميع في التفرّق و الاختلاف في الدين الإلهيّ.

٤١٢

لكن اتّصال الكلام بالآيات المبيّنة للشرائع العامّة الإلهيّة الّتي تبتدئ بالنهي عن الشرك و تنتهي إلى النهي عن التفرّق عن سبيل الله يستدعي أن يكون قوله:( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) موضوعاً لبيان حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع من كان هذا وصفه فالإتيان بصيغة الماضي في قوله:( فَرَّقُوا دِينَهُمْ ) لبيان أصل التحقّق سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل لا تحقّق الفعل في الزمان الماضي فحسب.

و من المعلوم أنّ تمييز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إخراجه من اُولئك المختلفين في الدين المتفرّقين شيعة شيعة كلّ شيعة يتبع إماماً يقودهم ليس إلّا لأنّه رسول يدعو إلى كلمة الحقّ و دين التوحيد، و مثال كامل يمثّل بوجوده الإسلام و يدعو بعمله إليه فيعود معنى قوله:( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) إلى أنّهم ليسوا على دينك الّذي تدعو إليه، و لا على مستوى طريقك الّذي تسلكه.

فمعنى الآية أنّ الّذين فرّقوا دينهم بالاختلافات الّتي هي لا محالة ناشئة عن العلم - و ما اختلف الّذين اُوتوه إلّا بغياً بينهم - و الانشعابات المذهبيّة ليسوا على طريقتك الّتي بنيت على وحدة الكلمة و نفي الفرقة إنّما أمرهم في هذا التفريق إلى ربّهم لا يماسّك منهم شي‏ء فينبّئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون و يكشف لهم حقيقة أعمالهم الّتي هم رهناؤها.

و قد تبيّن بما مرّ أن لا وجه لتخصيص الآية بتبرئتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المشركين أو منهم و من اليهود و النصارى، أو من المختلفين بالمذاهب و البدع من هذه الاُمّة فالآية عامّة تعمّ الجميع.

قوله تعالى: ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الآية تامّة في نفسها تكشف عن منّة إلهيّة يمتنّ بها على عباده أنّه يجازي الحسنة بعشر أمثالها، و لا يجازي السيّئة إلّا بمثلها أي يحسب الحسنة عشرة و السيّئة واحدة و لا يظلم في الإيفاء فلا ينقص من تلك و لا يزيد في هذه، إن أمكن أن يزيد في جزاء الحسنة فيزيد على العشر كما يدلّ عليه قوله:( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ

٤١٣

لِمَنْ يَشاءُ ) (البقرة: ٢٦١) و أمكن أن يعفو عن السيّئة فلا يحسب حقّ المثل الواحد.

لكنّها أعني الآية باتّصالها بما تقدّمها و انتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر كأنّه قيل بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتّفاق و الاجتماع على الحقّ و التفرّق فيه: فهاتان خصلتان حسنة و سيّئة يجزى فيهما ما يماثلهما و لا ظلم فإنّ الجزاء يماثل العمل فمن جاء بالحسنة فله مثلها و يضاعف له و من جاء بالسيّئة و هي الاختلاف المنهيّ عنه فلا يجزى إلّا سيّئة مثلها و لا يطمعنّ في الجزاء الحسن، و عاد المعنى إلى نظير ما استفيد من قوله:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (الشورى: ٤٠) أنّ المراد به بيان مماثلة جزاء السيّئة لها في كونها سيّئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة و نفي المضاعفة.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ) قال: طلوع الشمس من المغرب و خروج الدابّة و الدخان، و الرجل يكون مصرّاً و لم يعمل عمل الإيمان ثمّ تجي‏ء الآيات فلا ينفعه إيمانه.

أقول: و قوله: الرجل يكون مصرّاً إلخ تفسير لقوله:( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) على ما قدّمناه و يدلّ عليه الرواية الآتية.

و فيه، عن أبي بصير عن أحدهماعليهما‌السلام : في قوله:( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) قال: المؤمن العاصي حالت بينه و بين إيمانه كثرة ذنوبه و قلّة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيراً.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) الآية قال: إذا طلعت الشمس من مغربها فكلّ من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد في مسنده و الترمذيّ و أبويعلى و ابن

٤١٤

أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) قال: طلوع الشمس من مغربها.

أقول: و الظاهر أنّ الرواية من قبيل الجري و كذا ما تقدّم من الروايات و يمكن أن يكون من التفسير، و كيف كان فهو يوم تظهر فيه البطشة الإلهيّة الّتي تلجئ الناس إلى الإيمان و لا ينفعهم. و قد ورد طلوع الشمس من مغربها في أحاديث كثيرة جدّاً من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و من طرق أهل السنّة عن جمع من الصحابة كأبي سعيد الخدريّ و ابن مسعود و أبي هريرة و عبدالله بن عمر و حذيفة و أبي ذرّ و عبدالله بن عبّاس و عبدالله بن أبي أوفى و صفوان بن عسّال و أنس و عبدالرحمن بن عوف و معاوية و أبي أمامة و عائشة و غيرهم و إن اختلفت في مضامينها اختلافاً فاحشاً.

و الأنظار العلميّة اليوم لا تمنع تبدّل الحركة الأرضيّة على خلاف ما هي عليه اليوم من الحركة الشرقيّة أو تبدّل القطبين بصيرورة الشماليّ جنوبيّاً و بالعكس إمّا تدريجاً كما يبيّنه الأرصاد الفلكيّة أو دفعة لحادثة جوّيّة كلّيّة هذا كلّه إن لم يكن الكلمة رمزاً اُشير بها إلى سرّ من أسرار الحقائق.

و قد عدّت في الروايات من تلك الآيات خروج دابّة الأرض و الدخان و خروج يأجوج و مأجوج و هذه اُمور ينطق بها القرآن الكريم، و عدّ منها غير ذلك كخروج المهديّعليه‌السلام و نزول عيسى بن مريم و خروج الدجّال و غيرها، و هي و إن كانت من حوادث آخر الزمان لكن كونها ممّا يغلق بها باب التوبة غير واضح.

و في البرهان، عن البرقيّ بإسناده عن عبدالله بن سليمان العامريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما زالت الأرض إلّا و لله فيها حجّة يعرف فيها الحلال و الحرام، و يدعو إلى سبيل الله، و لا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً قبل يوم القيامة فإذا رفعت الحجّة و اُغلق باب التوبة لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة، و اُولئك من شرار خلق الله، و هم الّذين تقوم عليهم القيامة.

أقول: و رواه أبوجعفر محمّد بن جرير الطبريّ في كتاب مناقب فاطمة بسند آخر عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

٤١٥

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن النضر عن الحلبيّ عن معلّى بن خنيس عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) قال: فارق القوم و الله دينهم.

أقول: أي باختلاف المذاهب، و قد مرّ حديث اختلاف الاُمّة ثلاثاً و سبعين فرقة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية قال: كان عليّعليه‌السلام يقرؤها: فارقوا دينهم.

أقول: و القراءة مرويّة عنهعليه‌السلام من بعض طرق أهل السنّة أيضاً على ما في الدرّ المنثور، و غيره.

و في البرهان، عن البرقيّ عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبيّ عن ابن مسكان عن زرارة قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام و أنا جالس عن قول الله تبارك و تعالى:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) يجري لهؤلاء ممّن لا يعرف منهم هذا الأمر؟ فقال: إنّما هي للمؤمنين خاصّة. قلت له: أصلحك الله أ رأيت من صام و صلّى و اجتنب المحارم و حسن ورعه ممّن لا يعرف و لا ينصب؟ فقال: إنّ الله يدخل اُولئك الجنّة برحمته.

أقول: و الرواية تدلّ على أنّ الأجر بقدر المعرفة، و في هذا المعنى روايات واردة من طرق الفريقين.

و هناك روايات كثيرة في معنى قوله:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) الآية رواها الفريقان و أوردوها في تفسير الآية غير أنّها واردة في تشخيص المصاديق من الصوم و الصلاة و غيرها، تركنا إيرادها لذلك.

٤١٦

( سورة الأنعام الآيات ١٦١ - ١٦٥)

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا  وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٦١ ) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦٢ ) لَا شَرِيكَ لَهُ  وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( ١٦٣ ) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ  وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا  وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ١٦٤ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ  إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٦٥ )

( بيان)

الآيات ختام السورة و هي تحتوي على خلاصة الغرض من دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السورة و أنّه متلبّس بالعمل بما يدعو إليه، و فيها خلاصة الحجج الّتي اُقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إلى آخر الآيتين. القيم بالكسر فالفتح مخفّف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد، و قيل: وصف بمعنى القيّم على الأمر.

يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأنّ ربّه الّذي يدعو إليه هداه بهداية إلهيّة إلى صراط مستقيم و سبيل واضح قيّم على سالكيه لا تخلّف فيه و لا اختلاف ديناً قائماً على مصالح الدنيا و الآخرة أحسن القيام - لكونه مبنيّاً على الفطرة - ملّة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن التطرّف بالشرك إلى اعتدال التوحيد و ما كان من المشركين، و قد تقدّم توضيح هذه المعاني في تفسير الآيات السابقة من السورة.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ - إلى قوله -أَوَّلُ

٤١٧

الْمُسْلِمِينَ ) النسك مطلق العبادة، و كثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقرّباً إلى الله سبحانه.

أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً أن يخبرهم بأنّه عامل بما هداه الله إليه متلبّس به كما أنّه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم و أقرب إلى تلقّيهم بالقبول فإنّ من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه، و يطابق فعله قوله.

فقال: قل: إنّي جعلت صلاتي و مطلق عبادتي - و اختصّت الصلاة بالذكر استقلالاً لمزيد العناية بها منه تعالى - و محياي بجميع ما له من الشؤن الراجعة إليّ من أعمال و أوصاف و أفعال و تروك، و مماتي بجميع ما يعود إليّ من اُموره و هي الجهات الّتي ترجع منه إلى الحياة - كما قال: كما تعيشون تموتون - جعلتها كلّها لله ربّ العالمين من غير أن اُشرك به فيها أحداً فأنا عبد في جميع شؤني في حياتي و مماتي لله وحده وجّهت وجهي إليه لا أقصد شيئاً و لا أتركه إلّا له و لا أسير في مسير حياتي و لا أرد مماتي إلّا له فإنّه ربّ العالمين، يملك الكلّ و يدبّر أمرهم.

و قد اُمرت بهذا النحو من العبوديّة، و أنا أوّل المسلمين لله فيما أراده من العبوديّة التامّة في كلّ باب و جهة.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ ) إظهار الإخلاص العبوديّ أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شؤن العبادة و الحياة و الموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة و الاعتقاد بأنّ مالك الموت و الحياة هو الله تعالى، و الدليل على ما ذكرنا قوله:( وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ ) فظاهر أنّه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا بجعل الأوّلين له إخلاصاً و تسليماً و الاعتقاد بأنّ الأخيرين له إلّا بتكلّف.

و في قوله:( وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) دلالة على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل الناس من حيث درجة الإسلام و منزله فإنّ قبله زماناً غيره من المسلمين، و قد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قال:( وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (يونس: ٧٢) و عن إبراهيم في قوله:( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (البقرة: ١٣١) و عنه و عن ابنه إسماعيل في قولهما:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) (البقرة: ١٢٨) و عن لوط في قوله:( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (الذاريات: ٣٦) و عن ملكة سبأ في قوله:( وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ )

٤١٨

(النمل: ٤٢) إن كان مرادها الإسلام لله. و قولها:( وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (النمل: ٤٤) و لم ينعت بأوّل المسلمين أحد في القرآن إلّا ما يوجد في هذه الآية من أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبر قومه بذلك، و ما في سورة الزمر من قوله:( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعبدالله مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) (الزمر: ١٢).

و ربّما قيل: إنّ المراد أوّل المسلمين من هذه الاُمّة فإنّ إبراهيم كان أوّل المسلمين و من بعده تابع له في الإسلام، و فيه أنّ التقييد لا دليل عليه، و أمّا كون إبراهيم أوّل المسلمين فيدفعه ما تقدّم من الآيات المنقولة.

و أمّا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم و إسماعيل في دعائهما:( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) (البقرة: ١٢٨) و قوله:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) (الحجّ: ٧٨) فلا دلالة فيهما على شي‏ء.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، هذه الآية و الّتي بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد، و هي الحجّة من طريق بدء الخلقة، و الحجّة من طريق عودها، و الحجّة من حال الإنسان و هو بينهما و بعبارة اُخرى الحجّة من نشأة الحياة الدنيا و النشأة الّتي قبلها و الّتي بعدها.

فالحجّة من طريق البدء ما في قوله:( أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) و من المعلوم أنّه إذا كان ربّ كلّ شي‏ء كان كلّ شي‏ء مربوباً له فلا ربّ غيره على الإطلاق يصلح أن يعبد.

و الحجّة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله:( وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ) إلى آخر الآية، أي إنّ كلّ نفس لا تعمل عملاً و لا تكسب شيئاً إلّا حمل عليها و لا تزر وازرة وزر اُخرى حتّى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثمّ المرجع إلى الله و إليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد، و إذا كان لا محيص عن الجزاء و هو المالك ليوم الدين فهو الّذي تتعيّن عبادته لا غيره ممّن لا يملك شيئاً.

و الحجّة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ ) إلخ، و محصّله أنّ هذا النظام العجيب الّذي يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا و هو مبنيّ على خلافتكم في الأرض و اختلاف شؤنكم بالكبر و الصغر و القوّة و الضعف و الذكوريّة و الاُنوثيّة و الغنى

٤١٩

و الفقر و الرئاسة و المرؤسيّة و العلم و الجهل و غيرها و إن كان نظاماً اعتباريّاً لكنّه ناشٍ من عمل التكوين منتهٍ إليه فالله سبحانه هو ناظمه، و إنّما فعل ذلك لامتحانكم و ابتلائكم فهو الربّ الّذي يدبّر أمر سعادتكم، و يوصل من أطاعه إلى سعادته المقدّرة له و يذر الظالمين فيها جثيّاً، فهو الّذي يحقّ عبادته.

و قد تبيّن بما مرّ أنّ مجموع الجملتين:( وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) سيق لإفادة معنى واحد و هو أنّ ما كسبته نفس يلزمها و لا يتعدّاها، و هو مفاد قوله:( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (المدّثّر: ٣٨).

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ) الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضاً أو استخلفكم لنفسه في الأرض و قد مرّ كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (البقرة: ٣٠) في الجزء الأوّل من الكتاب، و معنى الآية ظاهر بما مرّ من البيان، و قد ختمت السورة بالمغفرة و الرحمة.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( حَنِيفاً مُسْلِماً ) قال: خالصاً مخلصاً ليس فيه شي‏ء من عبادة الأوثان.

أقول: و رواه في البرهان، البرقيّ بإسناده عن ابن مسكان عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و فيه:( خالصاً مخلصاً لا يشوبه شي‏ء) و هو بيان المراد لا تفسير بالمعنى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لا يقول: درجة واحدة إنّ الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنّما تفاضل القوم بالأعمال.

أقول: و هو من نقل الآية بالمعنى فإنّ الآية هكذا:( وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ‏ ) و في موضع آخر( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) (الزخرف: ٣٢) و الظاهر أنّ قوله:( بعضها فوق بعض) من كلامهعليه‌السلام و الحديث إنّما ورد في تفسير مثل قوله تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ) لا في تفسير الآية الّتي نحن فيها فإيراده في ذيل هذه الآية من سهو الراوي، و ذلك أنّ قولهعليه‌السلام في ذيله:( إنّما تفاضل القوم بالأعمال) لا ينطبق على الآية كما لا يخفى.

تمّ و الحمد لله‏

٤٢٠

421

422

423