الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88507 / تحميل: 8139
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مجرى واحداً يدلّ الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلّا ما تكلّفه بعض الناس من التأويل تحذّراً من لزوم خرق العادة و تعطّل قانون العلّيّة العامّ، و قد مرّ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.

و بعد ذلك كلّه فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياتهعليه‌السلام و عدم توفيه بعد.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) .( إِنْ ) نافية و المبتدأ محذوف يدلّ عليه الكلام في سياق النفي، و التقدير: و إن أحد من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ، و الضمير في قوله:( بِهِ ) و قوله:( يَكُونُ ) راجع إلى عيسى، و أمّا الضمير في قوله( قَبْلَ مَوْتِهِ ) ففيه خلاف.

فقد قال بعضهم: إنّ الضمير راجع إلى المقدّر من المبتدأ و هو أحد، و المعنى: و كلّ واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أنّ عيسى كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عبده حقّاً و إن كان هذا الإيمان منه إيماناً لا ينتفع به، و يكون عيسى شهيداً عليهم جميعاً يوم القيامة سواء آمنوا به إيماناً ينتفع به أو إيماناً لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.

و يؤيّده أنّ إرجاع ضمير:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أنّ عيسى حيّ لم يمت، و أنّه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود و النصارى، و هذا يوجب تخصيص عموم قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) من غير مخصّص، فإنّ مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممّن وقع بين رفع عيسى و نزوله فمات و لم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصّص ظاهر.

و قد قال آخرون: إنّ الضمير راجع إلى عيسىعليه‌السلام و المراد به إيمانهم به عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استناداً إلى الرواية كما سمعت.

هذا ما ذكروه، و الّذي ينبغي التدبّر و الإمعان فيه هو أنّ وقوع قوله:( وَ يَوْمَ

١٤١

الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) في سياق قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) ظاهر في أنّ عيسى شهيد على جميعهم يوم القيامة كما أنّ جميعهم يؤمنون به قبل الموت، و قد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص هذه الشهادة على وجه خاصّ، فقال عنه:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) (المائدة: ١١٧).

فقصّرعليه‌السلام شهادته في أيّام حياته فيهم قبل توفّيه، و هذه الآية أعني قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلخ تدلّ على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفّى إلّا بعد الجميع، و هذا ينتج المعنى الثاني، و هو كونهعليه‌السلام حيّاً بعد، و يعود إليهم ثانياً حتّى يؤمنوا به. نهاية الأمر أن يقال: إنّ من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانياً يؤمن به عند موته، و من أدرك ذلك آمن به إيماناً اضطراراً أو اختياراً.

على أنّ الأنسب بوقوع هذه الآية:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) فيما وقع فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى:( وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ - إلى أن قال -بَلْ رَفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) أن تكون الآية في مقام بيان أنّه لم يمت و أنّه حيّ بعد إذ لا يتعلّق ببيان إيمانهم الاضطراريّ و شهادته عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.

فهذا الّذي ذكرناه يؤيّد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعاً به قبل موتهعليه‌السلام .

لكنّ ههنا آيات اُخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى:( إِذْ قالَ الله يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) (آل عمران: ٥٥) حيث يدلّ على أنّ من الكافرين بعيسى من هو باق إلى يوم القيامة، و كقوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) حيث إنّ ظاهره أنّه نقمة مكتوبة عليهم، فلا يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.

بل ظاهر ذيل قوله:( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ

١٤٢

الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) حيث إنّ ذيله يدلّ على أنّهم باقون بعد توفّي عيسىعليه‌السلام .

لكنّ الإنصاف أنّ الآيات لا تنافي ما مرّ فإنّ قوله:( وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) لا يدلّ على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنّهم أهل الكتاب.

و كذا قوله تعالى:( بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ) (الآية) إنّما يدلّ على أنّ الإيمان لا يستوعبهم جميعاً، و لو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلاً من كثير. على أنّ قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) لو دلّ على إيمانهم به قبل موته فإنّما يدلّ على أصل الإيمان، و أمّا كونه إيماناً مقبولاً غير اضطراريّ فلا دلالة له على ذلك.

و كذا قوله:( فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) (الآية) مرجع الضمير فيه إنّما هو الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام:( وَ إِذْ قالَ الله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) الآية: (المائدة: ١١٦)، و يدلّ على ذلك أيضاً أنّهعليه‌السلام من اُولي العزم من الرسل مبعوث إلى الناس كافّة، و شهادته على أعمالهم تعمّ بني إسرائيل و المؤمنين به و غيرهم.

و بالجملة، الّذي يفيده التدبّر في سياق الآيات و ما ينضمّ إليها من الآيات المربوطة بها هو أنّ عيسىعليه‌السلام لم يتوفّ بقتل أو صلب و لا بالموت حتف الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدّمت الإشارة إليه - و قد تكلّمنا بما تيسّر لنا من الكلام في قوله تعالى:( يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ) (آل عمران: ٥٥) في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

و من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف: أنّه يجوز أن يراد أنّه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به على أنّ الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان، و يعلمهم نزوله، و ما اُنزل له، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم، و هذا قول بالرجعة.

و في معنى الآية بعض وجوه رديئة اُخرى:

١٤٣

منها: ما يظهر من الزجّاج أنّ ضمير قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) يرجع إلى الكتابيّ و أنّ معنى قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) أنّ جميعهم يقولون: إنّ عيسى الّذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.

و هذا معنى سخيف فإنّ الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسىعليه‌السلام و صلبه و الردّ عليهم دون كفرهم به و لا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان يحيي أمر شعب إسرائيل حتّى يذيّل به الكلام.

على أنّه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله:( قَبْلَ مَوْتِهِ ) لارتفاع الحاجة بدونه، و كذا قوله( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) لأنّه على هذا التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.

و منها: ما ذكره بعضهم أنّ المراد بالآية: و إن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ بمحمّد قبل موت ذلك الكتابيّ.

و هذا في السخافة كسابقه فإنّه لم يجر لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر في سابق الكلام حتّى يعود إليه الضمير. و لا أنّ المقام يدلّ على ذلك، فهو قول من غير دليل. نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات ممّا سيمرّ بك في البحث الروائيّ التالي لكن ذلك من باب الجري كما سنشير إليه و هذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا يخفى على من تتبّع فيها.

قوله تعالى: ( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الفاء للتفريع، و قد نكّر لفظ الظلم و كأنّه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلّق على تشخيصه غرض مهمّ و هو بدل ممّا تقدّم ذكره من فجائعهم غير أنّه ليس بدل الكلّ من الكلّ كما ربّما قيل، بل بدل البعض من الكلّ، فإنّه تعالى جعل هذا الظلم منهم سبباً لتحريم الطيّبات عليهم، و لم تحرّم عليهم إلّا في شريعة موسى المنزلة في التوراة، و بها تختتم شريعة موسى، و قد ذكر فيما ذكر من فجائعهم و مظالمهم اُمور جرت و وقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم و غير ذلك.

فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرّم

١٤٤

عليهم من الطيّبات بعد إحلالها.

ثمّ ضمّ إلى ذلك قوله:( وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الله كَثِيراً ) و هو إعراضهم المتكرّر عن سبيل الله:( وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) معطوف على قوله:( حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ ) فقد استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيويّ عامّ و هو تحريم الطيّبات، و جزاء أخرويّ خاصّ بالكافرين منهم و هو العذاب الأليم.

قوله تعالى: ( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) استثناء و استدراك من أهل الكتاب، و( الرَّاسِخُونَ ) و ما عطف عليه مبتدء و( يُؤْمِنُونَ ) خبره، و قوله:( مِنْهُمْ ) متعلّق بالراسخون و( مِنْ ) فيه تبعيضيّة.

و الظاهر أنّ( الْمُؤْمِنُونَ ) يشارك( الرَّاسِخُونَ ) في تعلّق قوله:( مِنْهُمْ ) به معنىّ و المعنى: لكن الراسخون في العلم و المؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك و بما اُنزل من قبلك، و يؤيّده التعليل الآتي في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) إلخ، فإنّ ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنّهم آمنوا بك لمّا وجدوا أنّ نبوّتك و الوحي الّذي أكرمناك به يماثل الوحي الّذي جاءهم به الماضون السابقون من أنبياء الله: نوح و النبيّون من بعده، و الأنبياء من آل إبراهيم، و آل يعقوب، و آخرون ممّن لم نقصصهم عليك من غير فرق.

و هذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون المؤمنين من العرب الّذين وصفهم الله سبحانه بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) (يس: ٦).

و قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) معطوف على( الرَّاسِخُونَ ) و منصوب على المدح، و مثله في العطف قوله:( وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) و قوله:( وَ الْمُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) مبتدء خبره قوله:( أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ) و لو كان قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) مرفوعاً كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو و ما عطف عليه مبتدءً خبره قوله:( أُولئِكَ ) .

١٤٥

قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه و البصريّون إلى أنّه نصب على المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم و أنت تريد أن تعرّف زيداً الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ، و إذا أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت و قلت: مررت بزيد الكريم كأنّك قلت: أذكر الكريم، و إن شئت رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.

و قال الكسائيّ، موضع المقيمين جرّ، و هو معطوف( على ) ما من قوله:( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) أي و بالمقيمين الصلاة.

و قال قوم: إنّه معطوف على الهاء و الميم من قوله( مِنْهُمْ ) على معنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة، و قال آخرون: إنّه معطوف على الكاف من( قَبْلِكَ ) أي ممّا أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصلاة.

و قيل: إنّه معطوف على الكاف في( إِلَيْكَ ) أو الكاف في قبلك. و هذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريّين لأنّه لا يعطف بالظاهر على الضمير المجرور من غير إعادة الجارّ.

قال: و أمّا ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله:( وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ) و عن قوله:( وَ الصَّابِئِينَ ) و عن قوله:( إِنْ هذانِ ) فقالت: يا ابن اُختي هذا عمل الكتاب أخطؤا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أنّ في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود:( و المقيمون الصلاة) فممّا لا يلتفت إليه لأنّه لو كان كذلك لم يكن ليعلّمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الّذين أخذوه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (انتهى).

و بالجملة قوله:( لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم سؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء كما تقدّم أنّ لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتاب و الحكمة المصدّقين لما اُنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه و رسله، في دعوتهم إلى الحقّ و إثباته، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأتهم إلّا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، و لم يعش فيهم و لم يعاشرهم إلّا بما عاشوا به و عاشروا به كما قال

١٤٦

تعالى:( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) (الأحقاف: ٩) و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ - إلى أن قال -لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) (الأنبياء: ١٠).

فذكر الله سبحانه في فصل من القول: إنّ هؤلاء السائلين و هم أهل الكتاب ليست عندهم سجيّة اتّباع الحقّ و لا ثبات و لا عزم و لا رأي، و كم من آية بيّنة ظلموها، و دعوة حقّ صدّوا عنها، إلّا أنّ الراسخين في العلم منهم لمّا كان عندهم ثبات على علمهم و ما وضح من الحقّ لديهم، و كذا المؤمنون حقيقة منهم لمّا كان عندهم سجيّة اتّباع الحقّ يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك لمّا وجدوا أنّ الّذي نزّل إليك من الوحي يماثل ما نزّل من قبلك على سائر النبيّين: نوح و من بعده.

و من هنا يظهر (أوّلاً) وجه توصيف من اتّبع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب بالراسخين في العلم و المؤمنين، فإنّ الآيات السابقة تقصّ عنهم أنّهم غير راسخين فيما علموا غير مستقرّين على شي‏ء من الحقّ و إن استوثق منهم بأغلظ المواثيق، و أنّهم غير مؤمنين بآيات الله صادّون عنها و إن جاءتهم البيّنات، فهؤلاء الّذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.

و (ثانياً) وجه ذكر ما اُنزل قبلاً مع القرآن في قوله:( يؤمنون بما اُنزل إليك و ما اُنزل من قبلك ) لأنّ المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.

و (ثالثاً) أنّ قوله في الآية التالية:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا ) إلخ في مقام التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) في مقام التعليل لقوله:( يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) كما عرفت آنفاً. و محصّل المعنى - و الله أعلم - أنّهم آمنوا بما اُنزل إليك لأنّا لم نؤتك أمراً مبتدعاً يختصّ من الدعاوي و الجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين، بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيّين من بعده، و نوح أوّل نبيّ

١٤٧

جاء بكتاب و شريعة، و كما أوحينا إلى إبراهيم و من بعده من آله، و هم يعرفونهم و يعرفون كيفيّة بعثتهم و دعوتهم، فمنهم من اُوتي بكتاب كداود اُوتي زبوراً و هو وحي نبويّ، و موسى اُوتي التكليم و هو وحي نبويّ، و غيرهما كإسماعيل و إسحاق و يعقوب اُرسلوا بغير كتاب، و ذلك أيضاً عن وحي نبويّ.

و يجمع الجميع أنّهم رسل مبشّرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام الحجّة على الناس ببيان ما ينفعهم و ما يضرّهم في اُخراهم و دنياهم لئلّا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل.

قوله تعالى: ( وَ الْأَسْباطِ) تقدّم في قوله تعالى:( وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ ) (آل عمران: ٨٤) أنّهم أنبياء من ذرّيّة يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) قيل إنّه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي كتبه فالزبور بمعنى المزبور.

قوله تعالى: ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) أحوال ثلاثة أو الأوّل حال و الأخيران وصفان له. و قد تقدّم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل و تمام الحجّة من الله على الناس، و أنّ العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهيّة في الكلام على قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) (سورة البقرة: ٢١٣) في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ كانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً ) و إذا كانت له العزّة المطلقة و الحكمة المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجّة بل له الحجّة البالغة، قال تعالى:( قُلْ فَلله الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (الأنعام: ١٤٩).

قوله تعالى: ( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ ) ، استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الردّ المتعلّق بسؤالهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإنّ الّذي ذكر الله تعالى في ردّ سؤالهم بقوله:( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ ) (إلى آخر الآيات) لازم معناه أنّ سؤالهم مردود إليهم، لأنّ ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوحي من ربّه لا يغاير نوعاً ما جاء به سائر النبيّين من

١٤٨

الوحي، فمن ادّعى أنّه مؤمن بما جاؤا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.

ثمّ استدرك عنه بأنّ الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيّه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

و متن شهادته قوله:( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) فإنّ مجرّد النزول لا يكفي في المدّعى، لأنّ من أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهيّة فيضع سبيلاً باطلاً مكان سبيل الله الحقّ، أو يخلط فيدخل شيئاً من الباطل في الوحي الإلهيّ الحقّ فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ) (الجنّ: ٢٨) و قال تعالى:( وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) (الأنعام. ١٢١).

و بالجملة فالشهادة على مجرّد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام لكن تقييده بقوله:( بِعِلْمِهِ ) يوضح المراد كلّ الوضوح، و يفيد أنّ الله سبحانه أنزله إلى رسوله و هو يعلم ما ذا ينزل، و يحيط به و يحفظه من كيد الشياطين.

و إذا كانت الشهادة على الإنزال و الإنزال إنّما هو بواسطة الملائكة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) (البقرة: ٩٧) و قال تعالى في وصف هذا الملك المكرّم:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (التكوير: ٢١) فدلّ على أنّ تحت أمره ملائكة اُخرى و هم الّذين ذكرهم إذ قال:( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) (عبس: ١٦).

و بالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضاً شهداء كما أنّه تعالى شهيد و كفى بالله شهيداً.

و الدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدّي كقوله تعالى:( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (إسراء: ٨٨) و قوله:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ

١٤٩

عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (النساء: ٨٢)، و قوله:( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله ) (يونس. ٣٨).

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً ) لمّا ذكر تعالى الحجّة البالغة في رسالة نبيّه و نزول كتابه من عندالله، و أنّه من سنخ الوحي الّذي اُوحي إلى النبيّين من قبله و أنّه مقرون بشهادته و شهادة ملائكته و كفى به شهيداً حقّق ضلال من كفر به و أعرض عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.

و في الآية تبديل الكتاب الّذي كان الكلام في نزوله من عندالله بسبيل الله حيث قال:( وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله ) و فيه إيجاز لطيف كأنّه قيل: إنّ الّذين كفروا و صدّوا عن هذا الكتاب و الوحي الّذي يتضمّنه فقد كفروا و صدّوا عن سبيل الله و الّذين كفروا و صدّوا عن سبيل الله إلخ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) إلخ تحقيق و تثبيت آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، و على هذا يكون المراد بالظلم هو الصدّ عن سبيل الله كما هو ظاهر.

و يمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبيّن فيها وجه ضلالهم البعيد و المعنى ظاهر.

( بحث روائي)

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) عن ابن بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: أ لم ينسبوا مريم بنت عمران إلى أنّها حملت بصبيّ من رجل نجّار اسمه يوسف؟

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) (الآية): قال: حدّثني أبي، عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقريّ، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجّاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيّها الأمير أيّة آية هي؟ فقال: قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و الله

١٥٠

إنّي لأمر باليهوديّ و النصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أوّلت قال: كيف هو: قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ و لا غيره إلّا آمن به قبل موته، و يصلّي خلف المهديّ قال: ويحك أنّى لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام فقال: و الله جئت بها من عين صافية.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجّاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها إلّا اعترض في نفسي منها شي‏ء قال الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) و إنّي اُوتي بالاُسارى فأضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئاً، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إنّ النصرانيّ إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله و من دبره و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبدالله و روحه و كلمته فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و إنّ اليهوديّ إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته، عبدالله و روحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمّد بن عليّ قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و أيم الله ما حدّثنيه إلّا اُمّ سلمة، و لكنّي اُحببت أن اُغيظه.

أقول: و رواه أيضاً ملخّصاً عن عبد بن حميد و ابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمّد بن عليّ بن أبي طالب و هو ابن الحنفيّة، و الظاهر أنّه روى عن محمّد بن عليّ، ثمّ اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفيّة أو الباقرعليه‌السلام ، و الرواية - كما ترى - تؤيّد ما قدّمناه في بيان معنى الآية.

و فيه، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و البيهقيّ في الأسماء و الصفات قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم؟.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يوشك أن

١٥١

ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يقتل الدجّال، و يقتل الخنزير، و يكسر الصليب، و يضع الجزية، و يقبض المال، و تكون السجدة واحدة لله ربّ العالمين، و اقرؤا إن شئتم:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) موت عيسى بن مريم. ثمّ يعيدها أبو هريرة ثلاث مرّات.

أقول: و الروايات في نزول عيسىعليه‌السلام عند ظهور المهديّعليه‌السلام مستفيضة من طرق أهل السنّة، و كذا من طرق الشيعة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته عليهم الصلاة و السلام.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الحارث بن مغيرة: عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: ظاهره و إن كان مخالفاً لظاهر سياق الآيات المتعرّضة لأمر عيسىعليه‌السلام لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنّه بعد ما بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جاء بكتاب و شريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كلّ كتابيّ أن يؤمن به و يؤمن بعيسى و من قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابيّ عند الاحتضار مثلاً حقّيّة رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّما ينكشف في ضمن انكشاف حقّيّة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإيمان كلّ كتابيّ لعيسىعليه‌السلام إنّما يعدّ إيماناً إذا آمن بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصالة و بعيسىعليه‌السلام تبعاً، فالّذي يؤمن به كلّ كتابيّ حقيقة و يكون عليهم يوم القيامة شهيداً هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد بعثته، و إن كان عيسىعليه‌السلام كذلك أيضاً فلا منافاة، و الخبر التالي لا يخلو من ظهور مّا في هذا المعنى.

و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله في عيسى:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) فقال: إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) قال: ليس من أحد من جميع الأديان

١٥٢

يموت إلّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنينعليه‌السلام حقّاً من الأوّلين و الآخرين.

أقول: و كون الرواية من الجري أظهر. على أنّ الرواية غير صريحة في كون ما ذكرهعليه‌السلام ناظراً إلى تفسير الآية و تطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاماً اُورد في ذيل الكلام على الآية و لذلك نظائر في الروايات.

و فيه، عن المفضّل بن عمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) ، فقال: هذه نزلت فينا خاصّة، إنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام و بإمامته، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا:( تَالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنا ) .

أقول: الرواية من الآحاد، و هي مرسلة، و في معناها روايات مرويّة في ذيل قوله تعالى:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ الله ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر: ٣٢) سنستوفي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

و فيه، في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآية): عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّي أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح و النبيّين من بعده فجمع له كلّ وحي.

أقول: الظاهر أنّ المراد أنّه لم يشذّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سنخ الوحي ما يوجب تفرّق السبيل و تفاوت الدعوة، لا أنّ كلّ ما اُوحي به إلى نبيّ على خصوصيّاته فقد اُوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا ممّا لا معنى له، و لا أنّ ما اُوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإنّ الكلام في الآية غير موضوع لإفادة هذا المعنى، و يؤيّد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.

و في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام : قال الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) ، و أمر كلّ نبيّ بالسبيل و السنّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و كان بين آدم و بين نوح

١٥٣

من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ الله مُوسى‏ تَكْلِيماً ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء.

أقول: و رواه في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة عنهعليه‌السلام ، و فيه: من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عزّوجلّ:( رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) يعني لم اُسمّ المستخفين كما سمّيت المستعلنين من الأنبياء (الحديث).

و المراد بالرواية على أيّ حال أنّ الله تعالى لم يذكر قصّة المستخفين أصلاً و لا سمّاهم، كما قصّ بعض قصص المستعلنين و سمّى من سمّى منهم. و من الجائز أن يكون قوله:( يعني لم أسمّ) إلخ من كلام الراوي.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في عليّ أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيداً.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره مسنداً عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام و هو من قبيل الجري و التطبيق فإنّ من القرآن ما نزل في ولايتهعليه‌السلام ، و ليس المراد به تحريف الكتاب و لا هو قراءة منهعليه‌السلام .

و نظيره ما رواه في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و القمّيّ في تفسيره، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا آل محمّد حقهم لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ (الآية

و ما رواه في المجمع، عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله( قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ ) أي بولاية من أمر الله بولايته.

١٥٤

( سورة النساء الآيات ١٧٠ - ١٧٥)

يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرّسُولُ بِالحَقّ مِن رَبّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ١٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى‏ اللّهِ إِلّا الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى‏ ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى‏ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنّمَا اللّهُ إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَكِيلاً( ١٧١) لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ‏ِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً( ١٧٢) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِن فَضْلِهِ وَأَمّا الّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( ١٧٣) يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً( ١٧٤) فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً( ١٧٥)

( بيان)

بعد ما أجاب عمّا اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنزيل كتاب من السماء ببيان أنّ رسوله إنّما جاء بالحقّ من عند ربّه، و أنّ الكتاب الّذي جاء به من عند ربّه حجّة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحّة دعوة الناس كافة إلى نبيّه و كتابه.

١٥٥

و قد كان بيّن فيما بيّن أنّ جميع رسله و أنبيائه - و قد ذكر فيهم عيسى - على سنّة واحدة متشابهة الأجزاء و الأطراف، و هي سنّة الوحي من الله فاستنتج منه صحّة دعوة النصارى و هم أهل كتاب و وحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، و أن يلحقوا بسائر الموحّدين من المؤمنين، و يقرّوا في عيسى بما أقرّوا به هم و غيرهم في سائر الأنبياء أنّهم عباد الله و رسله إلى خلقه.

فأخذ تعالى يدعو الناس كافّة إلى الإيمان برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ المبيّن أوّلاً هو صدق نبوّته في قوله:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (الآيات).

ثمّ دعا إلى عدم الغلوّ في حقّ عيسىعليه‌السلام لأنّه المتبيّن ثانياً في ضمن الآيات المذكورة.

ثمّ دعا إلى اتّباع كتابه و هو القرآن الكريم لأنّه المبيّن أخيراً في قوله تعالى:( لكِنِ الله يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) (الآية).

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ) ، خطاب عامّ لأهل الكتاب و غيرهم من الناس كافّة، متفرّع على ما مرّ من البيان لأهل الكتاب، و إنّما عمّم الخطاب لصلاحيّة المدعوّ إليه و هو الإيمان بالرسول كذلك لعموم الرسالة.

و قوله:( خَيْراً لَكُمْ ) حال من الإيمان و هي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته اللّازمة أنّه خير لكم.

و قوله:( وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لله ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) ، أي إن تكفروا لم يزد كفركم عليكم شيئاً، و لا ينقص من الله سبحانه شيئاً، فإنّ كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شي‏ء من ملكه فإنّ في طباع كلّ شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض أنّه لله لا شريك له فكونه موجوداً و كونه مملوكاً شي‏ء واحد بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شي‏ء و هو شي‏ء؟.

و الآية من الكلمات الجامعة الّتي كلّما أمعنت في تدبّرها أفادت زيادة لطف

١٥٦

في معناها و سعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها تعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبّر فيها.

قوله تعالى: ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ ) ، ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيحعليه‌السلام أنّه خطاب للنصارى، و إنّما خوطبوا بأهل الكتاب - و هو وصف مشترك - إشعاراً بأنّ تسمّيهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله و بيّنه في كتبه، و ممّا بيّنه أن لا يقولوا عليه إلّا الحقّ.

و ربّما أمكن أن يكون خطاباً لليهود و النصارى جميعاً، فإنّ اليهود أيضاً كالنصارى في غلوّهم في الدّين، و قولهم على الله غير الحقّ، كما قال تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله ) التوبة: ٣٠، و قال تعالى:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (التوبة: ٣١)، و قال تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ - إلى أن قال -وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله ) (آل عمران: ٦٤).

و على هذا فقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) إلخ تخصيص في الخطاب بعد التعميم أخذاً بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخصّ بهم.

هذا، لكن يبعّده أنّ ظاهر السياق كون قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله ) ، تعليلاً لقوله:( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) ، و لازمه اختصاص الخطاب بالنصارى و قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) أي المبارك( عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) تصريح بالاسم و اسم الاُمّ ليكون أبعد من التفسير و التأويل بأيّ معنى مغاير، و ليكون دليلاً على كونه إنساناً مخلوقاً كأي إنسان ذي اُمّ:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ ) تفسير لمعنى الكلمة، فإنّه كلمة( كن ) الّتي اُلقيت إلى مريم البتول، لم يعمل في تكوّنه الأسباب العاديّة كالنكاح و الأب، قال تعالى:( إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (آل عمران: ٤٧) فكلّ شي‏ء كلمة له تعالى غير أنّ سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العاديّة، و الّذي اختصّ لأجله عيسىعليه‌السلام بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العاديّة في تولّده( وَ رُوحٌ مِنْهُ ) و الروح من الأمر، قال تعالى:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) (إسراء: ٨٥) و لمّا

١٥٧

كان عيسىعليه‌السلام كلمة( كن ) التكوينيّة و هي أمر فهو روح.

و قد تقدّم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( فَآمِنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا الله إِلهٌ واحِدٌ ) تفريع على صدر الكلام بما أنّه معلّل بقوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ ) إلخ أي فإذا كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، و هو أن يكون إيماناً بالله بالربوبيّة و لرسله - و منهم عيسى - بالرسالة، و لا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله و رسله و نفي الثلاثة خيراً لكم.

و الثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و روح القدس، و قد تقدّم البحث عن ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيحعليه‌السلام من سورة آل عمران.

قوله تعالى: ( سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، السبحان مفعول مطلق مقدّر الفعل، يتعلّق به قوله:( أَنْ يَكُونَ ) ، و هو منصوب بنزع الخافض، و التقدير: اُسبّحه تسبيحاً و اُنزّهه تنزيهاً من أن يكون له ولد، و الجملة اعتراض مأتّي به للتعظيم.

و قوله:( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) حال أو جملة استيناف، و هو على أيّ حال احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإنّ الولد كيفما فرض هو الّذي يماثل المولّد في سنخ ذاته متكوّناً منه، و إذا كان كلّ ما في السماوات و الأرض مملوكاً في أصل ذاته و آثاره لله تعالى و هو القيّوم لكلّ شي‏ء وحده فلا يماثله شي‏ء من هذه الأشياء فلا ولد له.

و المقام مقام التعميم لكلّ ما في الوجود غير الله عزّ اسمه و لازم هذا أن يكون قوله:( ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) تعبيراً كنائيّاً عن جميع ما سوى الله سبحانه إذ نفس السماوات و الأرض مشمولة لهذه الحجّة، و ليست ممّا في السماوات و الأرض بل هي نفسها.

ثمّ لمّا كان ما في الآية من أمر و نهي هداية عامّة لهم إلى ما هو خير لهم في

١٥٨

دنياهم و اُخراهم ذيل الكلام بقوله:( وَ كَفى‏ بِالله وَكِيلًا ) أي وليّاً لشؤنكم، مدبّراً لاُموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم و يدعوكم إلى صراط مستقيم.

قوله تعالى: ( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) احتجاج آخر على نفي اُلوهيّة المسيحعليه‌السلام مطلقاً سواء فرض كونه ولداً أو أنّه ثالث ثلاثة، فإنّ المسيح عبد لله لن يستنكف أبداً عن عبادته، و هذا ممّا لا ينكره النصارى، و الأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنّه كان يعبدالله تعالى، و لا معنى لعبادة الولد الّذي هو سنخ إله و لا لعبادة الشي‏ء لنفسه و لا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الّذي ينطبق وجوده على كلّ منها، و قد تقدّم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيحعليه‌السلام .

و قوله:( لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجّة بعينها فيهم و قد قال جماعة من المشركين - كمشركي العرب -: بكونهم بنات الله فالجملة استطراديّة.

و التعبير في الآية أعني قوله:( يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ) عن عيسىعليه‌السلام بالمسيح، و كذا توصيف الملائكة بالمقرّبين مشعر بالعلّيّة لما فيهما من معنى الوصف، أي إنّ عيسى لن يستنكف عن عبادته و كيف يستنكف و هو مسيح مبارك؟ و لا الملائكة و هم مقرّبون؟ و لو رجي فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا و لا قرّب هؤلاء، و قد وصف الله المسيح أيضاً بأنّه مقرّب في قوله:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (آل عمران: ٤٥).

قوله تعالى: ( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً ) حال من المسيح و الملائكة و هو في موضع التعليل أي و كيف يستنكف المسيح و الملائكة المقرّبون عن عبادته و الحال أنّ الّذين يستنكفون عن عبادته و يستكبرون من عباده من الإنس و الجنّ و الملائكة يحشرون إليه جميعاً، فيجزون حسب أعمالهم، و المسيح و الملائكة يعلمون ذلك و يؤمنون به و يتّقونه.

و من الدليل على أنّ قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) إلخ في معنى أنّ المسيح و الملائكة المقرّبين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله:( يَسْتَكْبِرْ )

١٥٩

إنّما قيّد به قوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ ) لأنّ مجرّد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهيّ إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أمّا المسيح و الملائكة فإنّ استنكافهم لا يكون إلّا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربّهم، و لذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله:( مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ ) ، أنّهم عالمون بأنّ من يستنكف عن عبادته إلخ.

و قوله:( جمِيعاً ) أي صالحاً و طالحاً و هذا هو المصحّح للتفضيل الّذي يتلوه من قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) التعرّض لنفي الوليّ و النصير مقابلة لما قيل به من اُلوهيّة المسيح و الملائكة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) قال الراغب: البرهان بيان للحجّة، و هو فعلان مثل الرجحان و الثنيان. و قال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيضّ. انتهى، فهو على أيّ حال مصدر. و ربّما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا اُطلق على نفس الدليل و الحجّة.

و المراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ ) و يمكن أن يراد بالبرهان أيضاً ذلك، و الجملتان إذا تؤكّد إحداهما الاُخرى.

و يمكن أن يراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يؤيّده وقوع الآية في ذيل الآيات المبيّنة لصدق النبيّ في رسالته، و نزول القرآن من عندالله تعالى، و كون الآية تفريعاً لذلك و يؤيّده أيضاً قوله تعالى في الآية التالية:( وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) لما تقدّم في الكلام على قوله:( وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِالله فَقَدْ هُدِيَ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (آل عمران. ١٠١) أنّ المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله و الاتّباع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَ اعْتَصَمُوا بِهِ ) ، بيان لثواب من اتّبع برهان ربّه و النور النازل من عنده.

و الآية كأنّها منتزعة من الآية السابقة المبيّنة لثواب الّذين آمنوا و عملوا الصالحات أعني قوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

لكنّ المفسّرين كأنّهم تسلّموا أنّ ضمير التكلّم في قوله:( صِراطِي ) لله سبحانه ففي الآية نوع من الالتفات لكن لا في قوله:( صِراطِي ) بل في قوله:( عَنْ سَبِيلِهِ ) فإنّ معنى الآية: تعالوا أتل عليكم ما وصّاكم به ربّكم و هو أنّه يقول لكم:( إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه) أو وصيّته( أنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه و لا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيلي) فالالتفات - كما مرّ - إنّما هو في قوله:( عَنْ سَبِيلِهِ ) .

و كيف كان فهو تعالى في الآية يسمّي ما ذكره من كلّيّات الدين بأنّه صراطه المستقيم الّذي لا تخلّف في هداية سالكيه و إيصالهم إلى المقصد و لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه ما داموا عليه فلا يتفرّقون البتّة ثمّ ينهاهم عن اتّباع سائر السبل فإنّ من شأنها إلقاء الخلاف و التفرقة لأنّها طرق الأهواء الشيطانيّة الّتي لا ضابط يضبطها بخلاف سبيل الله المبنيّ على الفطرة و الخلقة و لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم. ثمّ أكّد سبحانه حكمه في الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و قد اختلفت الخواتيم في الآيات الثلاث فختمت الآية الاُولى بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) و الثانية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) و الثالثة بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الاُمور المذكورة في الآية الاُولى و هي الشرك بالله العظيم و عقوق الوالدين و قتل الأولاد من إملاق و قربان الفواحش الشنيعة و قتل النفس المحترمة من غير حقّ ممّا تدرك الفطرة الإنسانيّة حرمتها في بادئ نظرها و لا يجترئ عليها الإنسان الّذي يتميّز من سائر الحيوان بالعقل إلّا إذا اتّبع الأهواء و أحاطت به العواطف المظلمة الّتي تضرب بحجاب ثخين دون العقل. فمجرّد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة و الخروج عن خالصة الأهواء يكشف للإنسان عن حرمتها و شامتها على الإنسان بما هو إنسان، و لذلك ختمت بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

و ما ذكر منها في الآية الثانية و هي الاجتناب عن مال اليتيم، و إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و العدل في القول، و الوفاء بعهد الله اُمور ليست بمثابة ما تليت في الآية الاُولى من الظهور بل يحتاج الإنسان مع تعبّيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكّر و هو الرجوع

٤٠١

إلى المصالح و المفاسد العامّة المعلومة عند العقل الفطريّ حتّى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعة المشرفة به و بسائر بني نوعه إلى التهلكة فما ذا يبقى من الخير في مجتمع إنسانيّ لا يرحم فيه الصغير و الضعيف، و يطفّف فيه الكيل و الوزن، و لا يعدل فيه في الحكم و القضاء، و لا يصغي فيه إلى كلمة الحقّ، و لهذه النكتة ختمت الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) .

و الغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهي عن التفرّق و الاختلاف في الدين باتّباع سبل غير سبيل الله، و اتّباع هاتيك السبل من شأنه أنّ التقوى الدينيّ لا يتمّ إلّا بالاجتناب عنه.

و ذلك أنّ التقوى الدينيّ إنّما يحصل بالتبصّر في المناهي الإلهيّة و الورع عن محارمه بالتعقّل و التذكّر، و بعبارة اُخرى بالتزام الفطرة الإنسانيّة الّتي بني عليها الدين، و قد قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) (الشمس: ٨) و قد وعد الله المتّقين إن اتّقوا يمددهم بما يتّضح به سبيلهم و يفرّق به بين الحقّ و الباطل عندهم فقال:( وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) (الطلاق: ٢) و قال:( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) (الأنفال: ٢٩).

فهو على صراط التقوى ما دام ملازماً لطريق التعقّل و التذكّر جارياً على مجرى الفطرة، و إذا انحرف إلى الخارج من هذا الصراط و ليس إلّا اتّباع الأهواء و الإخلاد إلى الأرض و الاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الأهواء و العواطف إلى الاسترسال و العكوف على مخالفة العقل السليم و ترك التقوى الدينيّ من غير مبالاة بما يهدّده من شؤم العاقبة كالسكران لا يدري ما يفعل و لا ما يفعل به.

و الأهواء النفسانيّة مختلفة لا ضابط يضبطها و لا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها و لذلك لا تكاد ترى اثنين من أهل الأهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية، و قد عدّ الله سبحانه لهم في كلامه سبلاً شتّى كقوله:( وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) (الأنعام: ٥٥) و قوله:( وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (الأعراف: ١٤٢) و قوله:( وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (يونس: ٨٩) و قوله في المشركين:( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ

٤٠٢

لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (النجم: ٢٣) و أنت إن تتّبعت آيات الهدى و الضلال و الاتّباع و الإطاعة وجدت في هذا المعنى شيئاً كثيراً.

و بالجملة التقوى الدينيّ لا يحصل بالتفرّق و الاختلاف، و الورود في أيّ مشرعة شرعت، و السلوك من أيّ واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الّذي لا تخلّف فيه و لا اختلاف فذلك هو الّذي يرجى معه التلبّس بلباس التقوى، و لذلك عقّب الله سبحانه قوله:( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و قال في روح المعاني: و ختمت الآية الاُولى بقوله سبحانه:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) و هذه - يعني الثانية - بقوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) لأنّ القوم كانوا مستمرّين على الشرك و قتل الأولاد و قربان الزنا و قتل النفس المحرّمة بغير حقّ غير مستنكفين و لا عاقلين قبحها فنهاهم لعلّهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها و يتركوها، و أمّا حفظ أموال اليتامى عليهم و إيفاء الكيل و العدل في القول و الوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه و يفتخرون بالاتّصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلّهم يذكّرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازيّ. انتهى.

و أنت خبير بأنّ الّذي ذكره من اتّصافهم بحفظ أموال اليتامى و إيفاء الكيل و العدل في القول لا يوافق ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهليّة، على أنّ الّذي فسّر به التذكّر إنّما هو معنى الذكر دون التذكّر في عرف القرآن.

ثمّ قال: و قال الإمام - يعني الرازيّ - في التفسير الكبير: السبب في ختم كلّ آية بما ختمت أنّ التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الاُولى ظاهرة جليّة فوجب تعقّلها و تفهّمها و التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية - يعني الثانية - اُمور خفيّة غامضة لا بدّ فيها من الاجتهاد و الفكر الكثير حتّى يقف على موضوع الاعتدال و هو التذكّر. انتهى.

و ما ذكره من الوجه قريب المأخذ ممّا قدّمناه غير أنّ الاُمور الأربعة المذكورة في الآية الثانية ممّا يناله الإنسان بأدنى تأمّل، و ليست بذلك الخفاء و الغموض الّذي وصفه، و لذا التجأ إلى إرجاع التذكّر إلى الوقوف على حدّ الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك

٤٠٣

معنى الآية فإنّ مقتضى السياق رجوع رجاء التذكّر إلى أصل ما وصّى به فيها، و الّذي يحتاج منها بحسب الطبع إلى الوقوف حدّ اعتداله هما الأمران الأوّلان أعني قربان مال اليتيم و إيفاء الكيل و الوزن، و قد تدورك أمرهما بقوله:( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) فافهم ذلك.

ثمّ قال في الآية الثالثة: قال أبو حيّان: و لمّا كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف و أمر سبحانه باتّباعه و نهى عن اتّباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى الّتي هي اتّقاء النار إذ من اتّبع صراطه نجا النجاة الأبديّة، و حصل على السعادة السرمديّة انتهى.

و هو مبنيّ على جعل الأمر باتّباع الصراط المستقيم في الآية ممّا تعلّق به القصد بالأصالة و قد تقدّم أنّ مقتضى السياق كونه مقدّمة للنهي عن التفرّق باتّباع السبل الاُخرى. و توطئة لقوله:( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) .

قوله تعالى: ( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) إلى آخر الآية، لمّا كان ما ذكره و وصّى به من كلّيّات الشرائع تكاليف مشرّعة عامّة لجميع ما اُوتي الأنبياء من الدين، و هي اُمور كلّيّة مجملة صحّح ذلك الالتفات إلى بيان أنّه تعالى بعد ما شرعها للجميع إجمالاً فصّلها حيث اقتضت تفصيلها لموسىعليه‌السلام أوّلاً فيما أنزل عليه من الكتاب، و للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ.

فمعنى الآية: أنّا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينيّة آتينا موسى الكتاب تماماً تتمّ به نقيصة من أحسن منهم من حيث الشرع الإجماليّ و تفصيلاً يفصّل به كلّ شي‏ء من فروع هذه الشرائع الإجماليّة ممّا يحتاج إليه بنو إسرائيل و هدى و رحمة لعلّهم بلقاء ربّهم يؤمنون. هذا هو الّذي يعطيه سياق الآية المتّصل بسياق الآيات الثلاث السابقة.

فقوله:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) رجوع إلى السياق السابق الّذي قبل قوله:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) الآيات، و هو خطاب الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيغة

٤٠٤

المتكلّم مع الغير، و قد اُفيد بالتأخير المستفاد من لفظة( ثُمَّ ) أنّ هذا الكتاب إنّما اُنزل ليكون تماماً و تفصيلاً للإجمال الّذي في تلك الشرائع العامّة الكلّيّة.

و قد وجه المفسّرون قوله:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) بوجوه غريبة:

منها: أنّ في الكلام حذفاً و التقدير: ثمّ قل يا محمّد آتينا موسى الكتاب.

و منها: أنّ التقدير: ثمّ اُخبركم أنّ موسى اُعطي الكتاب.

و منها: أنّ التقدير: ثمّ أتل عليكم: آتينا موسى الكتاب.

و منها: أنّه متّصل بقوله في قصّة إبراهيم:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) و النظم:( و وهبنا له إسحاق و يعقوب ثمّ آتينا موسى الكتاب) .

و الّذي دعاهم إلى هذه التكلّفات أنّ التوراة قبل القرآن و لفظة( ثُمَّ ) تقتضي التراخي و لازمه نزول التوراة بعد القرآن و قد قيل قبل ذلك:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) . و ما تقدّم من البيان يكفيك مؤنة هذه الوجوه.

و قوله:( تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) يبيّن أنّ إنزال الكتاب لتتمّ به نقيصة الّذين أحسنوا من بني إسرائيل في العمل بهذه الشرائع الكلّيّة العامّة، و قد قال تعالى في قصّة موسى بعد نزول الكتاب:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) (الأعراف: ١٤٥) و قال:( وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة: ٥٨) و على هذا فالموصول في قوله:( عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يفيد الجنس.

و قد ذكروا في معنى الجملة وجوهاً اُخرى فقيل: المعنى: تماماً على إحسان موسى بالنبوّة و الكرامة، و قيل: المعنى: إتماماً للنعمة على الّذين أحسنوا من المؤمنين، و قيل: المعنى: إتماماً للنعمة على الأنبياء الّذين أحسنوا، و قيل: المعنى: تماماً لكرامته في الجنّة على إحسانه في الدنيا، و قيل: المعنى تماماً على الّذي أحسن الله إلى موسى من الكرامة بالنبوّة و غيرها، و قيل: إنّه متّصل بقصّة إبراهيم و المعنى: تماماً للنعمة على إبراهيم.

و ضعف الجميع ظاهر.

و قوله:( وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) أي ممّا يحتاج إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم

٤٠٥

ممّن بعدهم، و هدىً يهتدي به و رحمة ينعمون بها. و قوله:( لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) فيه إشارة إلى أنّ بني إسرائيل كانوا يتثاقلون أو يستنكفون عن الإيمان بلقاء الله و اليوم الآخر، و ممّا يؤيّده أنّ التوراة الحاضرة الّتي يذكر القرآن أنّها محرّفة لا يوجد فيها ذكر من البعث يوم القيامة، و قد ذكر بعض المورّخين منهم أنّ شعب إسرائيل ما كانت تعتقد المعاد.

قوله تعالى: ( وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ) إلى آخر الآية، أي و هذا كتاب مبارك يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة فاتّبعوه إلخ.

قوله تعالى: ( أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى‏ طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) إلخ،( أَنْ تَقُولُوا ) معناه كراهة أن تقولوا، أو لئلّا تقولوا، و هو شائع في الكلام، و هو متعلّق بقوله في الآية السابقة:( أَنْزَلْناهُ ) .

و قوله:( طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) يراد به اليهود و النصارى اُنزل عليهما التوراة و الإنجيل، و أمّا كتب الأنبياء النازلة قبلهما ممّا يذكره القرآن مثل كتاب نوح و كتاب إبراهيمعليهما‌السلام فلم يكن فيها تفصيل الشرائع و إن اشتملت على أصلها، و أمّا سائر ما ينسب إلى الأنبياءعليهم‌السلام من الكتب كزبور داودعليه‌السلام و غيره فلم تكن فيها شرائع و لا لهم بها عهد.

و المعنى أّا أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا: إنّ الكتاب الإلهيّ المفصّل لشرائعه إنّما اُنزل على طائفتين من قبلنا هم اليهود و النصارى و إنّا كنّا غافلين عن دراستهم و تلاوتهم، و لا بأس علينا مع الغفلة.

قوله تعالى: ( أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى‏ مِنْهُمْ ) إلى آخر الآية أي من الّذين اُنزل إليهم الكتاب قبلنا، و قوله:( فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) تفريع لقوليه:( أَنْ تَقُولُوا ) ( أَوْ تَقُولُوا ) جميعاً، و قد بدّل الكتاب من البيّنة ليدلّ به على ظهور حجّته و وضوح دلالته بحيث لا يبقى عذر لمعتذر و لا علّة لمتعلّل، و الصدف الإعراض و معنى الآية ظاهر.

٤٠٦

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير قال: كنت جالساً عند أبي جعفرعليه‌السلام و هو متّكٍ على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات الّتي لم ينسخهنّ شي‏ء من الأنعام قال: شيّعها سبعون ألف ملك:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثمّ تلاه:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) إلى ثلاث آيات.

ثمّ قال: فمن وفى بهنّ فأجره على الله، و من انتقص منهنّ شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، و من أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء عفي عنه.

أقول: و الرواية لا تخلو عن شي‏ء فإنّ فيما ذكر في الآيات الشرك بالله و لا تكفي فيه عقوبة الدنيا و لا تناله مغفرة في الآخرة بنصّ القرآن، قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) (النساء: ٤٨) و قال:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) (البقرة: ١٦٢).

على أنّ ظاهر الرواية كون هذه الأحكام ممّا يختصّ بهذه الشريعة كما يشعر به ما نقل عن بعض الصحابة و التابعين‏ كالّذي رواه في الدرّ المنثور، عن جمع عن ابن مسعود قال: من سرّه أن ينظر إلى وصيّة محمّد الّتي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ - إلى قوله -لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، و نظيره ما روي عن منذر الثوريّ عن الربيع بن خيثم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام :( الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) قال: ما ظهر من نكاح امرأة الأب و ما بطن منها الزنا.

٤٠٧

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائيّ و البزّاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن ابن مسعود قال: خطّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطّاً بيده ثمّ قال: هذا سبيل الله مستقيماً، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمين ذلك الخطّ و عن شماله ثمّ قال: و هذه السبل ليس منها سبيل إلّا عليه شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) .

و فيه، أخرج أحمد و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: كنّا جلوساً عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخطّ خطّاً هكذا أمامه فقال: هذا سبيل الله، و خطّين عن يمينه و خطّين عن شماله فقال: هذا سبيل الشيطان ثمّ وضع يده في الخطّ الأوسط و قرأ:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ) الآية.

و في تفسير القمّيّ: أخبرنا الحسن بن عليّ عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمّد بن سنان عن أبي خالد القمّاط عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) قال: نحن السبيل فمن أبى فهذه السبل فقد كفر.

أقول: و هو من الجري، و الّذي ذكرهعليه‌السلام مستفاد من قوله تعالى:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: ٢٣). إذا انضمّ إلى قوله:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) (الفرقان: ٥٧).

و قد وردت عدّة روايات من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ عليّاً هو الصراط المستقيم، و قد تقدّمت الإشارة إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٤٠٨

( سورة الأنعام الآيات ١٥٨ - ١٦٠)

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ  يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا  قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( ١٥٨ ) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ  إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( ١٥٩ ) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا  وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١٦٠ )

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها و هي تتضمّن تهديد من استنكف من المشركين عن الصراط المستقيم و تفرّق شيعاً، و تبرئة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المفرّقين دينهم، و وعداً حسناً لمن جاء بالحسنة و إنجازاً للجزاء.

قوله تعالى: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) استفهام إنكاريّ في مقام لا تنفع فيه عظة و لا تنجح فيه دعوة فالاُمور المذكورة في الآية لا محالة اُمور لا تصحب إلّا القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل بإذهابهم و تطهير الأرض من رجسهم.

و لازم هذا السياق أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم بآية العذاب كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) (الحجر: ٨).

٤٠٩

و يكون المراد بإتيان الربّ هو يوم اللقاء و هو الانكشاف التّامّ لآية التوحيد بحيث لا يبقى عليه ستر كما هو شأن يوم القيامة المختصّ بانكشاف الغطاء، و المصحّح لإطلاق الإتيان على ذلك هو الظهور بعد الخفاء و الحضور بعد الغيبة جلّ شأنه عن الاتّصاف بصفات الأجسام.

و ربّما يقال: إنّ المراد إتيان أمر الربّ و قد مرّ نظيره في قوله تعالى:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ) (البقرة: ٢١٠) في الجزء الثاني من الكتاب.

و يكون المراد بإتيان بعض آيات الربّ إتيان آية تلازم تبدّل نشأة الحياة عليهم بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار كآية الموت الّتي تبدّل نشأة العمل نشأة الجزاء البرزخيّ أو تلازم استقرار ملكة الكفر و الجحود في نفوسهم استقراراً لا يمكنهم معه الإذعان بالتوحيد و الإقبال بقلوبهم إلى الحقّ إلّا ما كان بلسانهم خوفاً من شمول السخط و العذاب كما ربّما دلّ عليه قوله تعالى:( وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) (النمل: ٨٢).

و كذا قوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) (السجدة: ٢٩) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالفتح هو الفتح للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء بينه و بين اُمّته بالقسط كما حكاه الله تعالى عن شعيبعليه‌السلام في قوله:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) (الأعراف: ٨٩) و حكاه عن رسله في قوله:( وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (إبراهيم: ١٥).

أو تلازم بأساً من الله تعالى لا مردّ له و لا محيص عنه فيضطرّهم الله الإيمان ليتّقوا به أليم العذاب لكن لا ينفعهم ذلك فلا ينفع من الإيمان إلّا ما كان عن اختيار كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) (المؤمن: ٨٥).

فهذه أعني إتيان الملائكة أو إتيان الربّ أو إتيان بعض آياته اُمور تصاحب القضاء بينهم بالقسط و هم لكونهم لا تؤثّر فيهم حجّة و لا تنفعهم موعظة لا ينظرون إلّا ذلك و إن

٤١٠

ذهلوا عنه فإنّ الواقع أمامهم علموا أو جهلوا.

و ربّما قيل: إنّ الاستفهام للتهكّم، فإنّهم كانوا يقترحون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّل عليهم الملائكة أو يروا ربّهم أو يأتيهم بآية كما اُرسل الأوّلون فكأنّه قيل: هؤلاء لا يريدون حجّة و إنّما ينتظرون ما اقترحوه من الاُمور.

و هذا الوجه غير بعيد بالنسبة إلى صدر الآية لكنّ ذيلها أعني قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) إلخ، لا يلائمه تلك الملاءمة فإنّ التهكّم لا يتعدّى فيه إلى بيان الحقائق و تفصيل الآثار.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، يشرح خاصّة يوم ظهور هذه الآيات، و هي في الحقيقة خاصّة نفس الآيات و هي أنّ الإيمان لا ينفع نفساً لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع و اختيار أو آمنت قبله و لم تكن كسبت في إيمانها خيراً و لم تعمل صالحاً بل انهمكت في السيّئات و المعاصي إذ لا توبة لمثل هذا الإنسان، قال تعالى:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) (النساء: ١٨) فالنفس الّتي لم تؤمن من قبل إيمان طوع و رضىً أو آمنت بالله و كذّبت بآيات الله و لم تعتن بشي‏ء من شرائع الله و استرسلت في المعاصي الموبقة و لم تكتسب شيئاً من صالح العمل فيما كان عليها ذلك ثمّ شاهدت البأس الإلهيّ فحملها الاضطرار إلى الإيمان لتردّ به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك، و لم يردّ عنها بأساً و لا يردّ بأسه عن القوم المجرمين.

و في الآية من بديع النظم و لطيف السياق أنّه كرّر فيها لفظ( رَبُّكَ ) ثلاث مرّات و ليس إلّا لتأييد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه خصمه و هم المشركون حيث كانوا يفتخرون بأربابهم و يباهون بأوثانهم ليعتزّ بربّه و يثبت به قلبه و يربط جأشه في دعوته إن نجحت و إلّا فبالقضاء الفصل الّذي يقضي به ربّه بينه و بين خصمه ثمّ أكّد ذلك و زاد في طمأنة نفسه بقوله في ختام الآية:( قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) أي فانتظر أنت ما هم منتظرون، و أخبرهم أنّك في انتظاره، و مرهم أن ينتظروه فهو الفصل و ليس بالهزل.

و من هنا يظهر أنّ الآية تتضمّن تهديداً جديّاً لا تخويفاً صوريّاً و به يظهر فساد

٤١١

ما ذكره بعضهم في دفع قول القائل: إنّ الاستفهام في الآية للتهكّم فقال: إنّ هذه الآيات الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الأمر فلا يصحّ أن يراد بهذا البعض شي‏ء ممّا اقترحوه لأنّ إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضي في سنّة الله هلاك الاُمّة بعذاب الاستئصال إذا لم تؤمن به، و الله لا يهلك اُمّة نبيّ الرحمة. انتهى.

و فيه: أنّ دلالة الآيات القرآنيّة على أنّ هذه الاُمّة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل ممّا لا سترة عليها كقوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ - إلى أن قال -وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) إلى آخر الآية: (يونس: ٤٧ - ٥٣).

و قد استدلّ بالآية على أنّ الإيمان لا أثر له إذا لم يقترن بالعمل و هو حقّ في الجملة لا مطلقاً فإنّ الآية في مقام بيان أنّ من كان في وسعه أن يؤمن بالله فلم يؤمن أو في وسعه أن يؤمن و يعمل صالحاً فآمن و لم يعمل صالحاً حتّى لحقه البأس الإلهيّ الشديد الّذي يضطرّه إلى ذلك فإنّه لا ينتفع بإيمانه، و أمّا من آمن طوعاً فأدركه الموت و لم يمهله الأجل حتّى يعمل صالحاً و يكسب في إيمانه خيراً فإنّ الآية غير متعرّضة لبيان حاله بل الآية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على أنّ النافع إنّما هو الإيمان إذا كان عن طوع و لم يحط به الخطيئة و لم تفسده السيّئة.

و في قوله:( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ ) الفصل بين الموصوف و الوصف بفاعل الفعل و هو إيمانها و كأنّه للاحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل و فاعله، و اجتماع( فِي إِيمانِها ) و( إِيمانُها ) في اللفظ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) إلخ، وجه الكلام السابق و إن كان مع المشركين و قد ابتلوا بتفريق الدين الحنيف، و كان أيضاً لأهل الكتاب نصيب من الكلام و ربّما لوّح إليهم بعض التلويح و لازم ذلك أن ينطبق قوله:( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) على المشركين بل عليهم و على اليهود و النصارى لاشتراك الجميع في التفرّق و الاختلاف في الدين الإلهيّ.

٤١٢

لكن اتّصال الكلام بالآيات المبيّنة للشرائع العامّة الإلهيّة الّتي تبتدئ بالنهي عن الشرك و تنتهي إلى النهي عن التفرّق عن سبيل الله يستدعي أن يكون قوله:( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) موضوعاً لبيان حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع من كان هذا وصفه فالإتيان بصيغة الماضي في قوله:( فَرَّقُوا دِينَهُمْ ) لبيان أصل التحقّق سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل لا تحقّق الفعل في الزمان الماضي فحسب.

و من المعلوم أنّ تمييز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إخراجه من اُولئك المختلفين في الدين المتفرّقين شيعة شيعة كلّ شيعة يتبع إماماً يقودهم ليس إلّا لأنّه رسول يدعو إلى كلمة الحقّ و دين التوحيد، و مثال كامل يمثّل بوجوده الإسلام و يدعو بعمله إليه فيعود معنى قوله:( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) إلى أنّهم ليسوا على دينك الّذي تدعو إليه، و لا على مستوى طريقك الّذي تسلكه.

فمعنى الآية أنّ الّذين فرّقوا دينهم بالاختلافات الّتي هي لا محالة ناشئة عن العلم - و ما اختلف الّذين اُوتوه إلّا بغياً بينهم - و الانشعابات المذهبيّة ليسوا على طريقتك الّتي بنيت على وحدة الكلمة و نفي الفرقة إنّما أمرهم في هذا التفريق إلى ربّهم لا يماسّك منهم شي‏ء فينبّئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون و يكشف لهم حقيقة أعمالهم الّتي هم رهناؤها.

و قد تبيّن بما مرّ أن لا وجه لتخصيص الآية بتبرئتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المشركين أو منهم و من اليهود و النصارى، أو من المختلفين بالمذاهب و البدع من هذه الاُمّة فالآية عامّة تعمّ الجميع.

قوله تعالى: ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الآية تامّة في نفسها تكشف عن منّة إلهيّة يمتنّ بها على عباده أنّه يجازي الحسنة بعشر أمثالها، و لا يجازي السيّئة إلّا بمثلها أي يحسب الحسنة عشرة و السيّئة واحدة و لا يظلم في الإيفاء فلا ينقص من تلك و لا يزيد في هذه، إن أمكن أن يزيد في جزاء الحسنة فيزيد على العشر كما يدلّ عليه قوله:( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ

٤١٣

لِمَنْ يَشاءُ ) (البقرة: ٢٦١) و أمكن أن يعفو عن السيّئة فلا يحسب حقّ المثل الواحد.

لكنّها أعني الآية باتّصالها بما تقدّمها و انتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر كأنّه قيل بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتّفاق و الاجتماع على الحقّ و التفرّق فيه: فهاتان خصلتان حسنة و سيّئة يجزى فيهما ما يماثلهما و لا ظلم فإنّ الجزاء يماثل العمل فمن جاء بالحسنة فله مثلها و يضاعف له و من جاء بالسيّئة و هي الاختلاف المنهيّ عنه فلا يجزى إلّا سيّئة مثلها و لا يطمعنّ في الجزاء الحسن، و عاد المعنى إلى نظير ما استفيد من قوله:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (الشورى: ٤٠) أنّ المراد به بيان مماثلة جزاء السيّئة لها في كونها سيّئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة و نفي المضاعفة.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ) قال: طلوع الشمس من المغرب و خروج الدابّة و الدخان، و الرجل يكون مصرّاً و لم يعمل عمل الإيمان ثمّ تجي‏ء الآيات فلا ينفعه إيمانه.

أقول: و قوله: الرجل يكون مصرّاً إلخ تفسير لقوله:( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) على ما قدّمناه و يدلّ عليه الرواية الآتية.

و فيه، عن أبي بصير عن أحدهماعليهما‌السلام : في قوله:( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) قال: المؤمن العاصي حالت بينه و بين إيمانه كثرة ذنوبه و قلّة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيراً.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) الآية قال: إذا طلعت الشمس من مغربها فكلّ من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد في مسنده و الترمذيّ و أبويعلى و ابن

٤١٤

أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) قال: طلوع الشمس من مغربها.

أقول: و الظاهر أنّ الرواية من قبيل الجري و كذا ما تقدّم من الروايات و يمكن أن يكون من التفسير، و كيف كان فهو يوم تظهر فيه البطشة الإلهيّة الّتي تلجئ الناس إلى الإيمان و لا ينفعهم. و قد ورد طلوع الشمس من مغربها في أحاديث كثيرة جدّاً من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و من طرق أهل السنّة عن جمع من الصحابة كأبي سعيد الخدريّ و ابن مسعود و أبي هريرة و عبدالله بن عمر و حذيفة و أبي ذرّ و عبدالله بن عبّاس و عبدالله بن أبي أوفى و صفوان بن عسّال و أنس و عبدالرحمن بن عوف و معاوية و أبي أمامة و عائشة و غيرهم و إن اختلفت في مضامينها اختلافاً فاحشاً.

و الأنظار العلميّة اليوم لا تمنع تبدّل الحركة الأرضيّة على خلاف ما هي عليه اليوم من الحركة الشرقيّة أو تبدّل القطبين بصيرورة الشماليّ جنوبيّاً و بالعكس إمّا تدريجاً كما يبيّنه الأرصاد الفلكيّة أو دفعة لحادثة جوّيّة كلّيّة هذا كلّه إن لم يكن الكلمة رمزاً اُشير بها إلى سرّ من أسرار الحقائق.

و قد عدّت في الروايات من تلك الآيات خروج دابّة الأرض و الدخان و خروج يأجوج و مأجوج و هذه اُمور ينطق بها القرآن الكريم، و عدّ منها غير ذلك كخروج المهديّعليه‌السلام و نزول عيسى بن مريم و خروج الدجّال و غيرها، و هي و إن كانت من حوادث آخر الزمان لكن كونها ممّا يغلق بها باب التوبة غير واضح.

و في البرهان، عن البرقيّ بإسناده عن عبدالله بن سليمان العامريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما زالت الأرض إلّا و لله فيها حجّة يعرف فيها الحلال و الحرام، و يدعو إلى سبيل الله، و لا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً قبل يوم القيامة فإذا رفعت الحجّة و اُغلق باب التوبة لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة، و اُولئك من شرار خلق الله، و هم الّذين تقوم عليهم القيامة.

أقول: و رواه أبوجعفر محمّد بن جرير الطبريّ في كتاب مناقب فاطمة بسند آخر عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

٤١٥

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن النضر عن الحلبيّ عن معلّى بن خنيس عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) قال: فارق القوم و الله دينهم.

أقول: أي باختلاف المذاهب، و قد مرّ حديث اختلاف الاُمّة ثلاثاً و سبعين فرقة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية قال: كان عليّعليه‌السلام يقرؤها: فارقوا دينهم.

أقول: و القراءة مرويّة عنهعليه‌السلام من بعض طرق أهل السنّة أيضاً على ما في الدرّ المنثور، و غيره.

و في البرهان، عن البرقيّ عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبيّ عن ابن مسكان عن زرارة قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام و أنا جالس عن قول الله تبارك و تعالى:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) يجري لهؤلاء ممّن لا يعرف منهم هذا الأمر؟ فقال: إنّما هي للمؤمنين خاصّة. قلت له: أصلحك الله أ رأيت من صام و صلّى و اجتنب المحارم و حسن ورعه ممّن لا يعرف و لا ينصب؟ فقال: إنّ الله يدخل اُولئك الجنّة برحمته.

أقول: و الرواية تدلّ على أنّ الأجر بقدر المعرفة، و في هذا المعنى روايات واردة من طرق الفريقين.

و هناك روايات كثيرة في معنى قوله:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) الآية رواها الفريقان و أوردوها في تفسير الآية غير أنّها واردة في تشخيص المصاديق من الصوم و الصلاة و غيرها، تركنا إيرادها لذلك.

٤١٦

( سورة الأنعام الآيات ١٦١ - ١٦٥)

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا  وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٦١ ) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦٢ ) لَا شَرِيكَ لَهُ  وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( ١٦٣ ) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ  وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا  وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ١٦٤ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ  إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٦٥ )

( بيان)

الآيات ختام السورة و هي تحتوي على خلاصة الغرض من دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السورة و أنّه متلبّس بالعمل بما يدعو إليه، و فيها خلاصة الحجج الّتي اُقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إلى آخر الآيتين. القيم بالكسر فالفتح مخفّف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد، و قيل: وصف بمعنى القيّم على الأمر.

يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأنّ ربّه الّذي يدعو إليه هداه بهداية إلهيّة إلى صراط مستقيم و سبيل واضح قيّم على سالكيه لا تخلّف فيه و لا اختلاف ديناً قائماً على مصالح الدنيا و الآخرة أحسن القيام - لكونه مبنيّاً على الفطرة - ملّة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن التطرّف بالشرك إلى اعتدال التوحيد و ما كان من المشركين، و قد تقدّم توضيح هذه المعاني في تفسير الآيات السابقة من السورة.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ - إلى قوله -أَوَّلُ

٤١٧

الْمُسْلِمِينَ ) النسك مطلق العبادة، و كثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقرّباً إلى الله سبحانه.

أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً أن يخبرهم بأنّه عامل بما هداه الله إليه متلبّس به كما أنّه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم و أقرب إلى تلقّيهم بالقبول فإنّ من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه، و يطابق فعله قوله.

فقال: قل: إنّي جعلت صلاتي و مطلق عبادتي - و اختصّت الصلاة بالذكر استقلالاً لمزيد العناية بها منه تعالى - و محياي بجميع ما له من الشؤن الراجعة إليّ من أعمال و أوصاف و أفعال و تروك، و مماتي بجميع ما يعود إليّ من اُموره و هي الجهات الّتي ترجع منه إلى الحياة - كما قال: كما تعيشون تموتون - جعلتها كلّها لله ربّ العالمين من غير أن اُشرك به فيها أحداً فأنا عبد في جميع شؤني في حياتي و مماتي لله وحده وجّهت وجهي إليه لا أقصد شيئاً و لا أتركه إلّا له و لا أسير في مسير حياتي و لا أرد مماتي إلّا له فإنّه ربّ العالمين، يملك الكلّ و يدبّر أمرهم.

و قد اُمرت بهذا النحو من العبوديّة، و أنا أوّل المسلمين لله فيما أراده من العبوديّة التامّة في كلّ باب و جهة.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ ) إظهار الإخلاص العبوديّ أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شؤن العبادة و الحياة و الموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة و الاعتقاد بأنّ مالك الموت و الحياة هو الله تعالى، و الدليل على ما ذكرنا قوله:( وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ ) فظاهر أنّه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا بجعل الأوّلين له إخلاصاً و تسليماً و الاعتقاد بأنّ الأخيرين له إلّا بتكلّف.

و في قوله:( وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) دلالة على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل الناس من حيث درجة الإسلام و منزله فإنّ قبله زماناً غيره من المسلمين، و قد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قال:( وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (يونس: ٧٢) و عن إبراهيم في قوله:( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (البقرة: ١٣١) و عنه و عن ابنه إسماعيل في قولهما:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) (البقرة: ١٢٨) و عن لوط في قوله:( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (الذاريات: ٣٦) و عن ملكة سبأ في قوله:( وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ )

٤١٨

(النمل: ٤٢) إن كان مرادها الإسلام لله. و قولها:( وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (النمل: ٤٤) و لم ينعت بأوّل المسلمين أحد في القرآن إلّا ما يوجد في هذه الآية من أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبر قومه بذلك، و ما في سورة الزمر من قوله:( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعبدالله مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) (الزمر: ١٢).

و ربّما قيل: إنّ المراد أوّل المسلمين من هذه الاُمّة فإنّ إبراهيم كان أوّل المسلمين و من بعده تابع له في الإسلام، و فيه أنّ التقييد لا دليل عليه، و أمّا كون إبراهيم أوّل المسلمين فيدفعه ما تقدّم من الآيات المنقولة.

و أمّا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم و إسماعيل في دعائهما:( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) (البقرة: ١٢٨) و قوله:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) (الحجّ: ٧٨) فلا دلالة فيهما على شي‏ء.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، هذه الآية و الّتي بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد، و هي الحجّة من طريق بدء الخلقة، و الحجّة من طريق عودها، و الحجّة من حال الإنسان و هو بينهما و بعبارة اُخرى الحجّة من نشأة الحياة الدنيا و النشأة الّتي قبلها و الّتي بعدها.

فالحجّة من طريق البدء ما في قوله:( أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) و من المعلوم أنّه إذا كان ربّ كلّ شي‏ء كان كلّ شي‏ء مربوباً له فلا ربّ غيره على الإطلاق يصلح أن يعبد.

و الحجّة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله:( وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ) إلى آخر الآية، أي إنّ كلّ نفس لا تعمل عملاً و لا تكسب شيئاً إلّا حمل عليها و لا تزر وازرة وزر اُخرى حتّى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثمّ المرجع إلى الله و إليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد، و إذا كان لا محيص عن الجزاء و هو المالك ليوم الدين فهو الّذي تتعيّن عبادته لا غيره ممّن لا يملك شيئاً.

و الحجّة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ ) إلخ، و محصّله أنّ هذا النظام العجيب الّذي يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا و هو مبنيّ على خلافتكم في الأرض و اختلاف شؤنكم بالكبر و الصغر و القوّة و الضعف و الذكوريّة و الاُنوثيّة و الغنى

٤١٩

و الفقر و الرئاسة و المرؤسيّة و العلم و الجهل و غيرها و إن كان نظاماً اعتباريّاً لكنّه ناشٍ من عمل التكوين منتهٍ إليه فالله سبحانه هو ناظمه، و إنّما فعل ذلك لامتحانكم و ابتلائكم فهو الربّ الّذي يدبّر أمر سعادتكم، و يوصل من أطاعه إلى سعادته المقدّرة له و يذر الظالمين فيها جثيّاً، فهو الّذي يحقّ عبادته.

و قد تبيّن بما مرّ أنّ مجموع الجملتين:( وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) سيق لإفادة معنى واحد و هو أنّ ما كسبته نفس يلزمها و لا يتعدّاها، و هو مفاد قوله:( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (المدّثّر: ٣٨).

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ) الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضاً أو استخلفكم لنفسه في الأرض و قد مرّ كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (البقرة: ٣٠) في الجزء الأوّل من الكتاب، و معنى الآية ظاهر بما مرّ من البيان، و قد ختمت السورة بالمغفرة و الرحمة.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( حَنِيفاً مُسْلِماً ) قال: خالصاً مخلصاً ليس فيه شي‏ء من عبادة الأوثان.

أقول: و رواه في البرهان، البرقيّ بإسناده عن ابن مسكان عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و فيه:( خالصاً مخلصاً لا يشوبه شي‏ء) و هو بيان المراد لا تفسير بالمعنى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لا يقول: درجة واحدة إنّ الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنّما تفاضل القوم بالأعمال.

أقول: و هو من نقل الآية بالمعنى فإنّ الآية هكذا:( وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ‏ ) و في موضع آخر( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) (الزخرف: ٣٢) و الظاهر أنّ قوله:( بعضها فوق بعض) من كلامهعليه‌السلام و الحديث إنّما ورد في تفسير مثل قوله تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ) لا في تفسير الآية الّتي نحن فيها فإيراده في ذيل هذه الآية من سهو الراوي، و ذلك أنّ قولهعليه‌السلام في ذيله:( إنّما تفاضل القوم بالأعمال) لا ينطبق على الآية كما لا يخفى.

تمّ و الحمد لله‏

٤٢٠

421

422

423