الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85290
تحميل: 7375


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85290 / تحميل: 7375
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لكنّ المفسّرين كأنّهم تسلّموا أنّ ضمير التكلّم في قوله:( صِراطِي ) لله سبحانه ففي الآية نوع من الالتفات لكن لا في قوله:( صِراطِي ) بل في قوله:( عَنْ سَبِيلِهِ ) فإنّ معنى الآية: تعالوا أتل عليكم ما وصّاكم به ربّكم و هو أنّه يقول لكم:( إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه) أو وصيّته( أنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه و لا تتّبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيلي) فالالتفات - كما مرّ - إنّما هو في قوله:( عَنْ سَبِيلِهِ ) .

و كيف كان فهو تعالى في الآية يسمّي ما ذكره من كلّيّات الدين بأنّه صراطه المستقيم الّذي لا تخلّف في هداية سالكيه و إيصالهم إلى المقصد و لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه ما داموا عليه فلا يتفرّقون البتّة ثمّ ينهاهم عن اتّباع سائر السبل فإنّ من شأنها إلقاء الخلاف و التفرقة لأنّها طرق الأهواء الشيطانيّة الّتي لا ضابط يضبطها بخلاف سبيل الله المبنيّ على الفطرة و الخلقة و لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم. ثمّ أكّد سبحانه حكمه في الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و قد اختلفت الخواتيم في الآيات الثلاث فختمت الآية الاُولى بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) و الثانية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) و الثالثة بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الاُمور المذكورة في الآية الاُولى و هي الشرك بالله العظيم و عقوق الوالدين و قتل الأولاد من إملاق و قربان الفواحش الشنيعة و قتل النفس المحترمة من غير حقّ ممّا تدرك الفطرة الإنسانيّة حرمتها في بادئ نظرها و لا يجترئ عليها الإنسان الّذي يتميّز من سائر الحيوان بالعقل إلّا إذا اتّبع الأهواء و أحاطت به العواطف المظلمة الّتي تضرب بحجاب ثخين دون العقل. فمجرّد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة و الخروج عن خالصة الأهواء يكشف للإنسان عن حرمتها و شامتها على الإنسان بما هو إنسان، و لذلك ختمت بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

و ما ذكر منها في الآية الثانية و هي الاجتناب عن مال اليتيم، و إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و العدل في القول، و الوفاء بعهد الله اُمور ليست بمثابة ما تليت في الآية الاُولى من الظهور بل يحتاج الإنسان مع تعبّيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكّر و هو الرجوع

٤٠١

إلى المصالح و المفاسد العامّة المعلومة عند العقل الفطريّ حتّى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعة المشرفة به و بسائر بني نوعه إلى التهلكة فما ذا يبقى من الخير في مجتمع إنسانيّ لا يرحم فيه الصغير و الضعيف، و يطفّف فيه الكيل و الوزن، و لا يعدل فيه في الحكم و القضاء، و لا يصغي فيه إلى كلمة الحقّ، و لهذه النكتة ختمت الآية بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) .

و الغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهي عن التفرّق و الاختلاف في الدين باتّباع سبل غير سبيل الله، و اتّباع هاتيك السبل من شأنه أنّ التقوى الدينيّ لا يتمّ إلّا بالاجتناب عنه.

و ذلك أنّ التقوى الدينيّ إنّما يحصل بالتبصّر في المناهي الإلهيّة و الورع عن محارمه بالتعقّل و التذكّر، و بعبارة اُخرى بالتزام الفطرة الإنسانيّة الّتي بني عليها الدين، و قد قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) (الشمس: ٨) و قد وعد الله المتّقين إن اتّقوا يمددهم بما يتّضح به سبيلهم و يفرّق به بين الحقّ و الباطل عندهم فقال:( وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) (الطلاق: ٢) و قال:( إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) (الأنفال: ٢٩).

فهو على صراط التقوى ما دام ملازماً لطريق التعقّل و التذكّر جارياً على مجرى الفطرة، و إذا انحرف إلى الخارج من هذا الصراط و ليس إلّا اتّباع الأهواء و الإخلاد إلى الأرض و الاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الأهواء و العواطف إلى الاسترسال و العكوف على مخالفة العقل السليم و ترك التقوى الدينيّ من غير مبالاة بما يهدّده من شؤم العاقبة كالسكران لا يدري ما يفعل و لا ما يفعل به.

و الأهواء النفسانيّة مختلفة لا ضابط يضبطها و لا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها و لذلك لا تكاد ترى اثنين من أهل الأهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية، و قد عدّ الله سبحانه لهم في كلامه سبلاً شتّى كقوله:( وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) (الأنعام: ٥٥) و قوله:( وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (الأعراف: ١٤٢) و قوله:( وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (يونس: ٨٩) و قوله في المشركين:( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ

٤٠٢

لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (النجم: ٢٣) و أنت إن تتّبعت آيات الهدى و الضلال و الاتّباع و الإطاعة وجدت في هذا المعنى شيئاً كثيراً.

و بالجملة التقوى الدينيّ لا يحصل بالتفرّق و الاختلاف، و الورود في أيّ مشرعة شرعت، و السلوك من أيّ واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الّذي لا تخلّف فيه و لا اختلاف فذلك هو الّذي يرجى معه التلبّس بلباس التقوى، و لذلك عقّب الله سبحانه قوله:( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) بقوله:( ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .

و قال في روح المعاني: و ختمت الآية الاُولى بقوله سبحانه:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) و هذه - يعني الثانية - بقوله:( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏ ) لأنّ القوم كانوا مستمرّين على الشرك و قتل الأولاد و قربان الزنا و قتل النفس المحرّمة بغير حقّ غير مستنكفين و لا عاقلين قبحها فنهاهم لعلّهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها و يتركوها، و أمّا حفظ أموال اليتامى عليهم و إيفاء الكيل و العدل في القول و الوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه و يفتخرون بالاتّصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلّهم يذكّرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازيّ. انتهى.

و أنت خبير بأنّ الّذي ذكره من اتّصافهم بحفظ أموال اليتامى و إيفاء الكيل و العدل في القول لا يوافق ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهليّة، على أنّ الّذي فسّر به التذكّر إنّما هو معنى الذكر دون التذكّر في عرف القرآن.

ثمّ قال: و قال الإمام - يعني الرازيّ - في التفسير الكبير: السبب في ختم كلّ آية بما ختمت أنّ التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الاُولى ظاهرة جليّة فوجب تعقّلها و تفهّمها و التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية - يعني الثانية - اُمور خفيّة غامضة لا بدّ فيها من الاجتهاد و الفكر الكثير حتّى يقف على موضوع الاعتدال و هو التذكّر. انتهى.

و ما ذكره من الوجه قريب المأخذ ممّا قدّمناه غير أنّ الاُمور الأربعة المذكورة في الآية الثانية ممّا يناله الإنسان بأدنى تأمّل، و ليست بذلك الخفاء و الغموض الّذي وصفه، و لذا التجأ إلى إرجاع التذكّر إلى الوقوف على حدّ الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك

٤٠٣

معنى الآية فإنّ مقتضى السياق رجوع رجاء التذكّر إلى أصل ما وصّى به فيها، و الّذي يحتاج منها بحسب الطبع إلى الوقوف حدّ اعتداله هما الأمران الأوّلان أعني قربان مال اليتيم و إيفاء الكيل و الوزن، و قد تدورك أمرهما بقوله:( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ) فافهم ذلك.

ثمّ قال في الآية الثالثة: قال أبو حيّان: و لمّا كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف و أمر سبحانه باتّباعه و نهى عن اتّباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى الّتي هي اتّقاء النار إذ من اتّبع صراطه نجا النجاة الأبديّة، و حصل على السعادة السرمديّة انتهى.

و هو مبنيّ على جعل الأمر باتّباع الصراط المستقيم في الآية ممّا تعلّق به القصد بالأصالة و قد تقدّم أنّ مقتضى السياق كونه مقدّمة للنهي عن التفرّق باتّباع السبل الاُخرى. و توطئة لقوله:( وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) .

قوله تعالى: ( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) إلى آخر الآية، لمّا كان ما ذكره و وصّى به من كلّيّات الشرائع تكاليف مشرّعة عامّة لجميع ما اُوتي الأنبياء من الدين، و هي اُمور كلّيّة مجملة صحّح ذلك الالتفات إلى بيان أنّه تعالى بعد ما شرعها للجميع إجمالاً فصّلها حيث اقتضت تفصيلها لموسىعليه‌السلام أوّلاً فيما أنزل عليه من الكتاب، و للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ.

فمعنى الآية: أنّا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينيّة آتينا موسى الكتاب تماماً تتمّ به نقيصة من أحسن منهم من حيث الشرع الإجماليّ و تفصيلاً يفصّل به كلّ شي‏ء من فروع هذه الشرائع الإجماليّة ممّا يحتاج إليه بنو إسرائيل و هدى و رحمة لعلّهم بلقاء ربّهم يؤمنون. هذا هو الّذي يعطيه سياق الآية المتّصل بسياق الآيات الثلاث السابقة.

فقوله:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) رجوع إلى السياق السابق الّذي قبل قوله:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) الآيات، و هو خطاب الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصيغة

٤٠٤

المتكلّم مع الغير، و قد اُفيد بالتأخير المستفاد من لفظة( ثُمَّ ) أنّ هذا الكتاب إنّما اُنزل ليكون تماماً و تفصيلاً للإجمال الّذي في تلك الشرائع العامّة الكلّيّة.

و قد وجه المفسّرون قوله:( ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) بوجوه غريبة:

منها: أنّ في الكلام حذفاً و التقدير: ثمّ قل يا محمّد آتينا موسى الكتاب.

و منها: أنّ التقدير: ثمّ اُخبركم أنّ موسى اُعطي الكتاب.

و منها: أنّ التقدير: ثمّ أتل عليكم: آتينا موسى الكتاب.

و منها: أنّه متّصل بقوله في قصّة إبراهيم:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) و النظم:( و وهبنا له إسحاق و يعقوب ثمّ آتينا موسى الكتاب) .

و الّذي دعاهم إلى هذه التكلّفات أنّ التوراة قبل القرآن و لفظة( ثُمَّ ) تقتضي التراخي و لازمه نزول التوراة بعد القرآن و قد قيل قبل ذلك:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) . و ما تقدّم من البيان يكفيك مؤنة هذه الوجوه.

و قوله:( تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) يبيّن أنّ إنزال الكتاب لتتمّ به نقيصة الّذين أحسنوا من بني إسرائيل في العمل بهذه الشرائع الكلّيّة العامّة، و قد قال تعالى في قصّة موسى بعد نزول الكتاب:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها ) (الأعراف: ١٤٥) و قال:( وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة: ٥٨) و على هذا فالموصول في قوله:( عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) يفيد الجنس.

و قد ذكروا في معنى الجملة وجوهاً اُخرى فقيل: المعنى: تماماً على إحسان موسى بالنبوّة و الكرامة، و قيل: المعنى: إتماماً للنعمة على الّذين أحسنوا من المؤمنين، و قيل: المعنى: إتماماً للنعمة على الأنبياء الّذين أحسنوا، و قيل: المعنى: تماماً لكرامته في الجنّة على إحسانه في الدنيا، و قيل: المعنى تماماً على الّذي أحسن الله إلى موسى من الكرامة بالنبوّة و غيرها، و قيل: إنّه متّصل بقصّة إبراهيم و المعنى: تماماً للنعمة على إبراهيم.

و ضعف الجميع ظاهر.

و قوله:( وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) أي ممّا يحتاج إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم

٤٠٥

ممّن بعدهم، و هدىً يهتدي به و رحمة ينعمون بها. و قوله:( لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ) فيه إشارة إلى أنّ بني إسرائيل كانوا يتثاقلون أو يستنكفون عن الإيمان بلقاء الله و اليوم الآخر، و ممّا يؤيّده أنّ التوراة الحاضرة الّتي يذكر القرآن أنّها محرّفة لا يوجد فيها ذكر من البعث يوم القيامة، و قد ذكر بعض المورّخين منهم أنّ شعب إسرائيل ما كانت تعتقد المعاد.

قوله تعالى: ( وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ) إلى آخر الآية، أي و هذا كتاب مبارك يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة فاتّبعوه إلخ.

قوله تعالى: ( أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى‏ طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) إلخ،( أَنْ تَقُولُوا ) معناه كراهة أن تقولوا، أو لئلّا تقولوا، و هو شائع في الكلام، و هو متعلّق بقوله في الآية السابقة:( أَنْزَلْناهُ ) .

و قوله:( طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) يراد به اليهود و النصارى اُنزل عليهما التوراة و الإنجيل، و أمّا كتب الأنبياء النازلة قبلهما ممّا يذكره القرآن مثل كتاب نوح و كتاب إبراهيمعليهما‌السلام فلم يكن فيها تفصيل الشرائع و إن اشتملت على أصلها، و أمّا سائر ما ينسب إلى الأنبياءعليهم‌السلام من الكتب كزبور داودعليه‌السلام و غيره فلم تكن فيها شرائع و لا لهم بها عهد.

و المعنى أّا أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا: إنّ الكتاب الإلهيّ المفصّل لشرائعه إنّما اُنزل على طائفتين من قبلنا هم اليهود و النصارى و إنّا كنّا غافلين عن دراستهم و تلاوتهم، و لا بأس علينا مع الغفلة.

قوله تعالى: ( أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى‏ مِنْهُمْ ) إلى آخر الآية أي من الّذين اُنزل إليهم الكتاب قبلنا، و قوله:( فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) تفريع لقوليه:( أَنْ تَقُولُوا ) ( أَوْ تَقُولُوا ) جميعاً، و قد بدّل الكتاب من البيّنة ليدلّ به على ظهور حجّته و وضوح دلالته بحيث لا يبقى عذر لمعتذر و لا علّة لمتعلّل، و الصدف الإعراض و معنى الآية ظاهر.

٤٠٦

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير قال: كنت جالساً عند أبي جعفرعليه‌السلام و هو متّكٍ على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات الّتي لم ينسخهنّ شي‏ء من الأنعام قال: شيّعها سبعون ألف ملك:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثمّ تلاه:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ) إلى ثلاث آيات.

ثمّ قال: فمن وفى بهنّ فأجره على الله، و من انتقص منهنّ شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، و من أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء عفي عنه.

أقول: و الرواية لا تخلو عن شي‏ء فإنّ فيما ذكر في الآيات الشرك بالله و لا تكفي فيه عقوبة الدنيا و لا تناله مغفرة في الآخرة بنصّ القرآن، قال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) (النساء: ٤٨) و قال:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) (البقرة: ١٦٢).

على أنّ ظاهر الرواية كون هذه الأحكام ممّا يختصّ بهذه الشريعة كما يشعر به ما نقل عن بعض الصحابة و التابعين‏ كالّذي رواه في الدرّ المنثور، عن جمع عن ابن مسعود قال: من سرّه أن ينظر إلى وصيّة محمّد الّتي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ - إلى قوله -لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، و نظيره ما روي عن منذر الثوريّ عن الربيع بن خيثم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام :( الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) قال: ما ظهر من نكاح امرأة الأب و ما بطن منها الزنا.

٤٠٧

أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائيّ و البزّاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن ابن مسعود قال: خطّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطّاً بيده ثمّ قال: هذا سبيل الله مستقيماً، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمين ذلك الخطّ و عن شماله ثمّ قال: و هذه السبل ليس منها سبيل إلّا عليه شيطان يدعو إليه، ثمّ قرأ:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) .

و فيه، أخرج أحمد و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: كنّا جلوساً عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخطّ خطّاً هكذا أمامه فقال: هذا سبيل الله، و خطّين عن يمينه و خطّين عن شماله فقال: هذا سبيل الشيطان ثمّ وضع يده في الخطّ الأوسط و قرأ:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ) الآية.

و في تفسير القمّيّ: أخبرنا الحسن بن عليّ عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمّد بن سنان عن أبي خالد القمّاط عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) قال: نحن السبيل فمن أبى فهذه السبل فقد كفر.

أقول: و هو من الجري، و الّذي ذكرهعليه‌السلام مستفاد من قوله تعالى:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (الشورى: ٢٣). إذا انضمّ إلى قوله:( قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) (الفرقان: ٥٧).

و قد وردت عدّة روايات من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ عليّاً هو الصراط المستقيم، و قد تقدّمت الإشارة إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٤٠٨

( سورة الأنعام الآيات ١٥٨ - ١٦٠)

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ  يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا  قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ ( ١٥٨ ) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ  إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( ١٥٩ ) مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا  وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١٦٠ )

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها و هي تتضمّن تهديد من استنكف من المشركين عن الصراط المستقيم و تفرّق شيعاً، و تبرئة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المفرّقين دينهم، و وعداً حسناً لمن جاء بالحسنة و إنجازاً للجزاء.

قوله تعالى: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) استفهام إنكاريّ في مقام لا تنفع فيه عظة و لا تنجح فيه دعوة فالاُمور المذكورة في الآية لا محالة اُمور لا تصحب إلّا القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل بإذهابهم و تطهير الأرض من رجسهم.

و لازم هذا السياق أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم بآية العذاب كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ) (الحجر: ٨).

٤٠٩

و يكون المراد بإتيان الربّ هو يوم اللقاء و هو الانكشاف التّامّ لآية التوحيد بحيث لا يبقى عليه ستر كما هو شأن يوم القيامة المختصّ بانكشاف الغطاء، و المصحّح لإطلاق الإتيان على ذلك هو الظهور بعد الخفاء و الحضور بعد الغيبة جلّ شأنه عن الاتّصاف بصفات الأجسام.

و ربّما يقال: إنّ المراد إتيان أمر الربّ و قد مرّ نظيره في قوله تعالى:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ) (البقرة: ٢١٠) في الجزء الثاني من الكتاب.

و يكون المراد بإتيان بعض آيات الربّ إتيان آية تلازم تبدّل نشأة الحياة عليهم بحيث لا سبيل إلى العود إلى فسحة الاختيار كآية الموت الّتي تبدّل نشأة العمل نشأة الجزاء البرزخيّ أو تلازم استقرار ملكة الكفر و الجحود في نفوسهم استقراراً لا يمكنهم معه الإذعان بالتوحيد و الإقبال بقلوبهم إلى الحقّ إلّا ما كان بلسانهم خوفاً من شمول السخط و العذاب كما ربّما دلّ عليه قوله تعالى:( وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) (النمل: ٨٢).

و كذا قوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) (السجدة: ٢٩) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالفتح هو الفتح للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء بينه و بين اُمّته بالقسط كما حكاه الله تعالى عن شعيبعليه‌السلام في قوله:( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) (الأعراف: ٨٩) و حكاه عن رسله في قوله:( وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (إبراهيم: ١٥).

أو تلازم بأساً من الله تعالى لا مردّ له و لا محيص عنه فيضطرّهم الله الإيمان ليتّقوا به أليم العذاب لكن لا ينفعهم ذلك فلا ينفع من الإيمان إلّا ما كان عن اختيار كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) (المؤمن: ٨٥).

فهذه أعني إتيان الملائكة أو إتيان الربّ أو إتيان بعض آياته اُمور تصاحب القضاء بينهم بالقسط و هم لكونهم لا تؤثّر فيهم حجّة و لا تنفعهم موعظة لا ينظرون إلّا ذلك و إن

٤١٠

ذهلوا عنه فإنّ الواقع أمامهم علموا أو جهلوا.

و ربّما قيل: إنّ الاستفهام للتهكّم، فإنّهم كانوا يقترحون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّل عليهم الملائكة أو يروا ربّهم أو يأتيهم بآية كما اُرسل الأوّلون فكأنّه قيل: هؤلاء لا يريدون حجّة و إنّما ينتظرون ما اقترحوه من الاُمور.

و هذا الوجه غير بعيد بالنسبة إلى صدر الآية لكنّ ذيلها أعني قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) إلخ، لا يلائمه تلك الملاءمة فإنّ التهكّم لا يتعدّى فيه إلى بيان الحقائق و تفصيل الآثار.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، يشرح خاصّة يوم ظهور هذه الآيات، و هي في الحقيقة خاصّة نفس الآيات و هي أنّ الإيمان لا ينفع نفساً لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع و اختيار أو آمنت قبله و لم تكن كسبت في إيمانها خيراً و لم تعمل صالحاً بل انهمكت في السيّئات و المعاصي إذ لا توبة لمثل هذا الإنسان، قال تعالى:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) (النساء: ١٨) فالنفس الّتي لم تؤمن من قبل إيمان طوع و رضىً أو آمنت بالله و كذّبت بآيات الله و لم تعتن بشي‏ء من شرائع الله و استرسلت في المعاصي الموبقة و لم تكتسب شيئاً من صالح العمل فيما كان عليها ذلك ثمّ شاهدت البأس الإلهيّ فحملها الاضطرار إلى الإيمان لتردّ به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك، و لم يردّ عنها بأساً و لا يردّ بأسه عن القوم المجرمين.

و في الآية من بديع النظم و لطيف السياق أنّه كرّر فيها لفظ( رَبُّكَ ) ثلاث مرّات و ليس إلّا لتأييد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه خصمه و هم المشركون حيث كانوا يفتخرون بأربابهم و يباهون بأوثانهم ليعتزّ بربّه و يثبت به قلبه و يربط جأشه في دعوته إن نجحت و إلّا فبالقضاء الفصل الّذي يقضي به ربّه بينه و بين خصمه ثمّ أكّد ذلك و زاد في طمأنة نفسه بقوله في ختام الآية:( قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) أي فانتظر أنت ما هم منتظرون، و أخبرهم أنّك في انتظاره، و مرهم أن ينتظروه فهو الفصل و ليس بالهزل.

و من هنا يظهر أنّ الآية تتضمّن تهديداً جديّاً لا تخويفاً صوريّاً و به يظهر فساد

٤١١

ما ذكره بعضهم في دفع قول القائل: إنّ الاستفهام في الآية للتهكّم فقال: إنّ هذه الآيات الثلاث هي ما ينتظرونه كغيرهم في نفس الأمر فلا يصحّ أن يراد بهذا البعض شي‏ء ممّا اقترحوه لأنّ إيتاء الآيات المقترحة على الرسل يقتضي في سنّة الله هلاك الاُمّة بعذاب الاستئصال إذا لم تؤمن به، و الله لا يهلك اُمّة نبيّ الرحمة. انتهى.

و فيه: أنّ دلالة الآيات القرآنيّة على أنّ هذه الاُمّة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط و الحكم الفصل ممّا لا سترة عليها كقوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ - إلى أن قال -وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) إلى آخر الآية: (يونس: ٤٧ - ٥٣).

و قد استدلّ بالآية على أنّ الإيمان لا أثر له إذا لم يقترن بالعمل و هو حقّ في الجملة لا مطلقاً فإنّ الآية في مقام بيان أنّ من كان في وسعه أن يؤمن بالله فلم يؤمن أو في وسعه أن يؤمن و يعمل صالحاً فآمن و لم يعمل صالحاً حتّى لحقه البأس الإلهيّ الشديد الّذي يضطرّه إلى ذلك فإنّه لا ينتفع بإيمانه، و أمّا من آمن طوعاً فأدركه الموت و لم يمهله الأجل حتّى يعمل صالحاً و يكسب في إيمانه خيراً فإنّ الآية غير متعرّضة لبيان حاله بل الآية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على أنّ النافع إنّما هو الإيمان إذا كان عن طوع و لم يحط به الخطيئة و لم تفسده السيّئة.

و في قوله:( لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ ) الفصل بين الموصوف و الوصف بفاعل الفعل و هو إيمانها و كأنّه للاحتراز عن الفصل الطويل بين الفعل و فاعله، و اجتماع( فِي إِيمانِها ) و( إِيمانُها ) في اللفظ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) إلخ، وجه الكلام السابق و إن كان مع المشركين و قد ابتلوا بتفريق الدين الحنيف، و كان أيضاً لأهل الكتاب نصيب من الكلام و ربّما لوّح إليهم بعض التلويح و لازم ذلك أن ينطبق قوله:( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) على المشركين بل عليهم و على اليهود و النصارى لاشتراك الجميع في التفرّق و الاختلاف في الدين الإلهيّ.

٤١٢

لكن اتّصال الكلام بالآيات المبيّنة للشرائع العامّة الإلهيّة الّتي تبتدئ بالنهي عن الشرك و تنتهي إلى النهي عن التفرّق عن سبيل الله يستدعي أن يكون قوله:( الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) موضوعاً لبيان حال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع من كان هذا وصفه فالإتيان بصيغة الماضي في قوله:( فَرَّقُوا دِينَهُمْ ) لبيان أصل التحقّق سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل لا تحقّق الفعل في الزمان الماضي فحسب.

و من المعلوم أنّ تمييز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إخراجه من اُولئك المختلفين في الدين المتفرّقين شيعة شيعة كلّ شيعة يتبع إماماً يقودهم ليس إلّا لأنّه رسول يدعو إلى كلمة الحقّ و دين التوحيد، و مثال كامل يمثّل بوجوده الإسلام و يدعو بعمله إليه فيعود معنى قوله:( لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) إلى أنّهم ليسوا على دينك الّذي تدعو إليه، و لا على مستوى طريقك الّذي تسلكه.

فمعنى الآية أنّ الّذين فرّقوا دينهم بالاختلافات الّتي هي لا محالة ناشئة عن العلم - و ما اختلف الّذين اُوتوه إلّا بغياً بينهم - و الانشعابات المذهبيّة ليسوا على طريقتك الّتي بنيت على وحدة الكلمة و نفي الفرقة إنّما أمرهم في هذا التفريق إلى ربّهم لا يماسّك منهم شي‏ء فينبّئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون و يكشف لهم حقيقة أعمالهم الّتي هم رهناؤها.

و قد تبيّن بما مرّ أن لا وجه لتخصيص الآية بتبرئتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المشركين أو منهم و من اليهود و النصارى، أو من المختلفين بالمذاهب و البدع من هذه الاُمّة فالآية عامّة تعمّ الجميع.

قوله تعالى: ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الآية تامّة في نفسها تكشف عن منّة إلهيّة يمتنّ بها على عباده أنّه يجازي الحسنة بعشر أمثالها، و لا يجازي السيّئة إلّا بمثلها أي يحسب الحسنة عشرة و السيّئة واحدة و لا يظلم في الإيفاء فلا ينقص من تلك و لا يزيد في هذه، إن أمكن أن يزيد في جزاء الحسنة فيزيد على العشر كما يدلّ عليه قوله:( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ

٤١٣

لِمَنْ يَشاءُ ) (البقرة: ٢٦١) و أمكن أن يعفو عن السيّئة فلا يحسب حقّ المثل الواحد.

لكنّها أعني الآية باتّصالها بما تقدّمها و انتظامها معها في سياق واحد تفيد معنى آخر كأنّه قيل بعد سرد الكلام في الآيات السابقة في الاتّفاق و الاجتماع على الحقّ و التفرّق فيه: فهاتان خصلتان حسنة و سيّئة يجزى فيهما ما يماثلهما و لا ظلم فإنّ الجزاء يماثل العمل فمن جاء بالحسنة فله مثلها و يضاعف له و من جاء بالسيّئة و هي الاختلاف المنهيّ عنه فلا يجزى إلّا سيّئة مثلها و لا يطمعنّ في الجزاء الحسن، و عاد المعنى إلى نظير ما استفيد من قوله:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (الشورى: ٤٠) أنّ المراد به بيان مماثلة جزاء السيّئة لها في كونها سيّئة لا يرغب فيها لا إثبات الوحدة و نفي المضاعفة.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ) قال: طلوع الشمس من المغرب و خروج الدابّة و الدخان، و الرجل يكون مصرّاً و لم يعمل عمل الإيمان ثمّ تجي‏ء الآيات فلا ينفعه إيمانه.

أقول: و قوله: الرجل يكون مصرّاً إلخ تفسير لقوله:( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) على ما قدّمناه و يدلّ عليه الرواية الآتية.

و فيه، عن أبي بصير عن أحدهماعليهما‌السلام : في قوله:( أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) قال: المؤمن العاصي حالت بينه و بين إيمانه كثرة ذنوبه و قلّة حسناته فلم يكسب في إيمانه خيراً.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) الآية قال: إذا طلعت الشمس من مغربها فكلّ من آمن في ذلك اليوم لا ينفعه إيمانه.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد في مسنده و الترمذيّ و أبويعلى و ابن

٤١٤

أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ) قال: طلوع الشمس من مغربها.

أقول: و الظاهر أنّ الرواية من قبيل الجري و كذا ما تقدّم من الروايات و يمكن أن يكون من التفسير، و كيف كان فهو يوم تظهر فيه البطشة الإلهيّة الّتي تلجئ الناس إلى الإيمان و لا ينفعهم. و قد ورد طلوع الشمس من مغربها في أحاديث كثيرة جدّاً من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و من طرق أهل السنّة عن جمع من الصحابة كأبي سعيد الخدريّ و ابن مسعود و أبي هريرة و عبدالله بن عمر و حذيفة و أبي ذرّ و عبدالله بن عبّاس و عبدالله بن أبي أوفى و صفوان بن عسّال و أنس و عبدالرحمن بن عوف و معاوية و أبي أمامة و عائشة و غيرهم و إن اختلفت في مضامينها اختلافاً فاحشاً.

و الأنظار العلميّة اليوم لا تمنع تبدّل الحركة الأرضيّة على خلاف ما هي عليه اليوم من الحركة الشرقيّة أو تبدّل القطبين بصيرورة الشماليّ جنوبيّاً و بالعكس إمّا تدريجاً كما يبيّنه الأرصاد الفلكيّة أو دفعة لحادثة جوّيّة كلّيّة هذا كلّه إن لم يكن الكلمة رمزاً اُشير بها إلى سرّ من أسرار الحقائق.

و قد عدّت في الروايات من تلك الآيات خروج دابّة الأرض و الدخان و خروج يأجوج و مأجوج و هذه اُمور ينطق بها القرآن الكريم، و عدّ منها غير ذلك كخروج المهديّعليه‌السلام و نزول عيسى بن مريم و خروج الدجّال و غيرها، و هي و إن كانت من حوادث آخر الزمان لكن كونها ممّا يغلق بها باب التوبة غير واضح.

و في البرهان، عن البرقيّ بإسناده عن عبدالله بن سليمان العامريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما زالت الأرض إلّا و لله فيها حجّة يعرف فيها الحلال و الحرام، و يدعو إلى سبيل الله، و لا تنقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين يوماً قبل يوم القيامة فإذا رفعت الحجّة و اُغلق باب التوبة لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أن ترفع الحجّة، و اُولئك من شرار خلق الله، و هم الّذين تقوم عليهم القيامة.

أقول: و رواه أبوجعفر محمّد بن جرير الطبريّ في كتاب مناقب فاطمة بسند آخر عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

٤١٥

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن النضر عن الحلبيّ عن معلّى بن خنيس عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً ) قال: فارق القوم و الله دينهم.

أقول: أي باختلاف المذاهب، و قد مرّ حديث اختلاف الاُمّة ثلاثاً و سبعين فرقة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية قال: كان عليّعليه‌السلام يقرؤها: فارقوا دينهم.

أقول: و القراءة مرويّة عنهعليه‌السلام من بعض طرق أهل السنّة أيضاً على ما في الدرّ المنثور، و غيره.

و في البرهان، عن البرقيّ عن أبيه عن النضر عن يحيى الحلبيّ عن ابن مسكان عن زرارة قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام و أنا جالس عن قول الله تبارك و تعالى:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) يجري لهؤلاء ممّن لا يعرف منهم هذا الأمر؟ فقال: إنّما هي للمؤمنين خاصّة. قلت له: أصلحك الله أ رأيت من صام و صلّى و اجتنب المحارم و حسن ورعه ممّن لا يعرف و لا ينصب؟ فقال: إنّ الله يدخل اُولئك الجنّة برحمته.

أقول: و الرواية تدلّ على أنّ الأجر بقدر المعرفة، و في هذا المعنى روايات واردة من طرق الفريقين.

و هناك روايات كثيرة في معنى قوله:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) الآية رواها الفريقان و أوردوها في تفسير الآية غير أنّها واردة في تشخيص المصاديق من الصوم و الصلاة و غيرها، تركنا إيرادها لذلك.

٤١٦

( سورة الأنعام الآيات ١٦١ - ١٦٥)

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا  وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ١٦١ ) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ١٦٢ ) لَا شَرِيكَ لَهُ  وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( ١٦٣ ) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ  وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا  وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( ١٦٤ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ  إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٦٥ )

( بيان)

الآيات ختام السورة و هي تحتوي على خلاصة الغرض من دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السورة و أنّه متلبّس بالعمل بما يدعو إليه، و فيها خلاصة الحجج الّتي اُقيمت فيها لإبطال عقيدة الشرك.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إلى آخر الآيتين. القيم بالكسر فالفتح مخفّف القيام وصف به الدين للمبالغة في قيامه على مصالح العباد، و قيل: وصف بمعنى القيّم على الأمر.

يأمر الله سبحانه أن يخبرهم بأنّ ربّه الّذي يدعو إليه هداه بهداية إلهيّة إلى صراط مستقيم و سبيل واضح قيّم على سالكيه لا تخلّف فيه و لا اختلاف ديناً قائماً على مصالح الدنيا و الآخرة أحسن القيام - لكونه مبنيّاً على الفطرة - ملّة إبراهيم حنيفاً مائلاً عن التطرّف بالشرك إلى اعتدال التوحيد و ما كان من المشركين، و قد تقدّم توضيح هذه المعاني في تفسير الآيات السابقة من السورة.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ - إلى قوله -أَوَّلُ

٤١٧

الْمُسْلِمِينَ ) النسك مطلق العبادة، و كثر استعماله في الذبح أو الذبيحة تقرّباً إلى الله سبحانه.

أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانياً أن يخبرهم بأنّه عامل بما هداه الله إليه متلبّس به كما أنّه مأمور بذلك ليكون أبعد من التهمة عندهم و أقرب إلى تلقّيهم بالقبول فإنّ من أمارة الصدق أن يعمل الإنسان بما يندب إليه، و يطابق فعله قوله.

فقال: قل: إنّي جعلت صلاتي و مطلق عبادتي - و اختصّت الصلاة بالذكر استقلالاً لمزيد العناية بها منه تعالى - و محياي بجميع ما له من الشؤن الراجعة إليّ من أعمال و أوصاف و أفعال و تروك، و مماتي بجميع ما يعود إليّ من اُموره و هي الجهات الّتي ترجع منه إلى الحياة - كما قال: كما تعيشون تموتون - جعلتها كلّها لله ربّ العالمين من غير أن اُشرك به فيها أحداً فأنا عبد في جميع شؤني في حياتي و مماتي لله وحده وجّهت وجهي إليه لا أقصد شيئاً و لا أتركه إلّا له و لا أسير في مسير حياتي و لا أرد مماتي إلّا له فإنّه ربّ العالمين، يملك الكلّ و يدبّر أمرهم.

و قد اُمرت بهذا النحو من العبوديّة، و أنا أوّل المسلمين لله فيما أراده من العبوديّة التامّة في كلّ باب و جهة.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ ) إظهار الإخلاص العبوديّ أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شؤن العبادة و الحياة و الموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة و الاعتقاد بأنّ مالك الموت و الحياة هو الله تعالى، و الدليل على ما ذكرنا قوله:( وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ ) فظاهر أنّه أمر بجعل الجميع لله سبحانه بمعنى واحد لا بجعل الأوّلين له إخلاصاً و تسليماً و الاعتقاد بأنّ الأخيرين له إلّا بتكلّف.

و في قوله:( وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) دلالة على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل الناس من حيث درجة الإسلام و منزله فإنّ قبله زماناً غيره من المسلمين، و قد حكى الله سبحانه ذلك عن نوح إذ قال:( وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (يونس: ٧٢) و عن إبراهيم في قوله:( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) (البقرة: ١٣١) و عنه و عن ابنه إسماعيل في قولهما:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) (البقرة: ١٢٨) و عن لوط في قوله:( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (الذاريات: ٣٦) و عن ملكة سبأ في قوله:( وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ )

٤١٨

(النمل: ٤٢) إن كان مرادها الإسلام لله. و قولها:( وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) (النمل: ٤٤) و لم ينعت بأوّل المسلمين أحد في القرآن إلّا ما يوجد في هذه الآية من أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبر قومه بذلك، و ما في سورة الزمر من قوله:( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعبدالله مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) (الزمر: ١٢).

و ربّما قيل: إنّ المراد أوّل المسلمين من هذه الاُمّة فإنّ إبراهيم كان أوّل المسلمين و من بعده تابع له في الإسلام، و فيه أنّ التقييد لا دليل عليه، و أمّا كون إبراهيم أوّل المسلمين فيدفعه ما تقدّم من الآيات المنقولة.

و أمّا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم و إسماعيل في دعائهما:( وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) (البقرة: ١٢٨) و قوله:( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) (الحجّ: ٧٨) فلا دلالة فيهما على شي‏ء.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، هذه الآية و الّتي بعدها تشتملان على حجج ثلاث هي جوامع الحجج المذكورة في السورة للتوحيد، و هي الحجّة من طريق بدء الخلقة، و الحجّة من طريق عودها، و الحجّة من حال الإنسان و هو بينهما و بعبارة اُخرى الحجّة من نشأة الحياة الدنيا و النشأة الّتي قبلها و الّتي بعدها.

فالحجّة من طريق البدء ما في قوله:( أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) و من المعلوم أنّه إذا كان ربّ كلّ شي‏ء كان كلّ شي‏ء مربوباً له فلا ربّ غيره على الإطلاق يصلح أن يعبد.

و الحجّة من طريق العود ما يشتمل عليه قوله:( وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ) إلى آخر الآية، أي إنّ كلّ نفس لا تعمل عملاً و لا تكسب شيئاً إلّا حمل عليها و لا تزر وازرة وزر اُخرى حتّى يحمل ما اكتسبته نفس على غيرها ثمّ المرجع إلى الله و إليه الجزاء بالكشف عن حقائق أعمال العباد، و إذا كان لا محيص عن الجزاء و هو المالك ليوم الدين فهو الّذي تتعيّن عبادته لا غيره ممّن لا يملك شيئاً.

و الحجّة من طريق النشأة الدنيا ما في قوله:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ ) إلخ، و محصّله أنّ هذا النظام العجيب الّذي يحكم في معاشكم في الحياة الدنيا و هو مبنيّ على خلافتكم في الأرض و اختلاف شؤنكم بالكبر و الصغر و القوّة و الضعف و الذكوريّة و الاُنوثيّة و الغنى

٤١٩

و الفقر و الرئاسة و المرؤسيّة و العلم و الجهل و غيرها و إن كان نظاماً اعتباريّاً لكنّه ناشٍ من عمل التكوين منتهٍ إليه فالله سبحانه هو ناظمه، و إنّما فعل ذلك لامتحانكم و ابتلائكم فهو الربّ الّذي يدبّر أمر سعادتكم، و يوصل من أطاعه إلى سعادته المقدّرة له و يذر الظالمين فيها جثيّاً، فهو الّذي يحقّ عبادته.

و قد تبيّن بما مرّ أنّ مجموع الجملتين:( وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) سيق لإفادة معنى واحد و هو أنّ ما كسبته نفس يلزمها و لا يتعدّاها، و هو مفاد قوله:( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (المدّثّر: ٣٨).

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ) الخلائف جمع خليفة أي يستخلف بعضكم بعضاً أو استخلفكم لنفسه في الأرض و قد مرّ كلام في معنى هذه الخلافة في تفسير قوله تعالى:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (البقرة: ٣٠) في الجزء الأوّل من الكتاب، و معنى الآية ظاهر بما مرّ من البيان، و قد ختمت السورة بالمغفرة و الرحمة.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن ابن مسكان عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( حَنِيفاً مُسْلِماً ) قال: خالصاً مخلصاً ليس فيه شي‏ء من عبادة الأوثان.

أقول: و رواه في البرهان، البرقيّ بإسناده عن ابن مسكان عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و فيه:( خالصاً مخلصاً لا يشوبه شي‏ء) و هو بيان المراد لا تفسير بالمعنى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لا يقول: درجة واحدة إنّ الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنّما تفاضل القوم بالأعمال.

أقول: و هو من نقل الآية بالمعنى فإنّ الآية هكذا:( وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ‏ ) و في موضع آخر( وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) (الزخرف: ٣٢) و الظاهر أنّ قوله:( بعضها فوق بعض) من كلامهعليه‌السلام و الحديث إنّما ورد في تفسير مثل قوله تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ) لا في تفسير الآية الّتي نحن فيها فإيراده في ذيل هذه الآية من سهو الراوي، و ذلك أنّ قولهعليه‌السلام في ذيله:( إنّما تفاضل القوم بالأعمال) لا ينطبق على الآية كما لا يخفى.

تمّ و الحمد لله‏

٤٢٠