الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن18%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88514 / تحميل: 8140
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

و ليس لك فيه إلّا الرسالة بل هم يظلمون بذلك آياتنا و يجحدونها.

فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات:( ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) في معنى قوله تعالى:( وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) (لقمان: ٢٣) و قوله:( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ ) (يس: ٧٦) و غير ذلك من الآيات النازلة في تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا على قراءة التشديد.

و أمّا على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنّهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه، و لا يبطلون حجّتك بحجّة و إنّما يظلمون آيات الله بجحدها و إليه مرجعهم.

و قوله:( وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) كان ظاهر السياق أن يقال: و لكنّهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أنّ الجحد منهم إنّما هو عن ظلم منهم لا عن قصور و جهل و غير ذلك فليس إلّا عتوّاً و بغياً و طغياناً و سيبعثهم الله ثمّ إليه يرجعون.

و لذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلّم إلى الغيبة فقيل:( بِآياتِ اللَّهِ ) و لم يقل: بآياتنا، للدلالة على أنّ ذلك منهم معارضة مع مقام الاُلوهيّة و استعلاء عليه و هو المقام الّذي لا يقوم له شي‏ء.

و قد قيل في تفسير معنى الآية وجوه اُخرى:

أحدها: ما عن الأكثر أنّ المعنى: لا يكذّبونك بقلوبهم اعتقاداً، و إنّما يظهرون التكذيب بأفواههم عناداً.

و ثانيها: أنّهم لا يكذّبونك و إنّما يكذّبونني فإنّ تكذيبك راجع إليّ و لست مختصّاً به، و هذا الوجه غير ما قدّمناه من الوجه و إن كان قريباً منه، و الوجهان جميعاً على قراءة التشديد.

و ثالثها: أنّهم لا يصادفونك كاذباً تقول العرب: قاتلناهم فما أجبنّاهم أي ما صادفناهم جبناء، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‏ ما كُذِّبُوا ) إلى آخر الآية. هداية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سبيل من تقدّمه من الأنبياء، و هو سبيل الصبر في ذات الله،

٦١

و قد قال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (الأنعام: ٩٠).

و قوله:( حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) بيان غاية حسنة لصبرهم، و إشارة إلى الوعد الإلهيّ بالنصر، و في قوله:( وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ) تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد و حتم له، و إشارة إلى ما ذكره بقوله:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) (المجادلة: ٢١)، و قوله:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) (الصافّات: ١٧٢).

و وقوع المبدّل في قوله:( وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ) في سياق النفي ينفي أيّ مبدّل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدّل مشيّته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه و يقهره على خلاف ما شاء فيبدّل ما أحكم و يغيّره بوجه من الوجوه.

و من هنا يظهر أنّ هذه الكلمات الّتي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل اُمور خارجة عن لوح المحو و الإثبات، فكلمة الله و قوله و كذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الّذي لا مطمع في تغييره و تبديله، قال تعالى:( قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ( ص: ٨٤) و قال تعالى:( وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ) (الأحزاب: ٤) و قال تعالى:( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) (يونس: ٥٥) و قال تعالى:( لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ ) (الزمر: ٢٠) و قد مرّ البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى و ما يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى:( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ) (البقرة: ٢٥٣).

و قوله في ذيل الآية:( وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) تثبيت و استشهاد لقوله:( وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) إلخ، و يمكن أن يستفاد منه أنّ هذه السورة نزلت بعد بعض السور المكّيّة الّتي تقصّ قصص الأنبياء كسورة الشعراء و مريم و أمثالهما، و هذه السور نزلت بعد أمثال سورة العلق و المدّثّر قطعاً فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة الثالثة من السور النازلة بمكّة قبل الهجرة، و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ - إلى قوله -فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) قال الراغب: النفق الطريق النافذ و السرب في الأرض النافذ فيه قال:( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ ) ، و منه نافقاء اليربوع، و قد نافق اليربوع و نفق، و منه النفاق و هو الدخول في

٦٢

الشرع من باب و الخروج عنه من باب، و على ذلك نبّه بقوله:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أي الخارجون من الشرع، و جعل الله المنافقين شرّاً من الكافرين فقال:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ، و نيفق السراويل معروف، انتهى.

و قال: السلّم ما يتوصّل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثمّ جعل اسماً لكلّ ما يتوصّل به إلى شي‏ء رفيع كالسبب قال تعالى:( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) ، و قال:( أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ ) ، و قال الشاعر: و لو نال أسباب السماء بسلّم. انتهى.

و جواب الشرط في الآية محذوف للعلم به، و التقدير كما قيل: و إن استطعت أن تبتغي كذا و كذا فافعل.

و المراد بالآية في قوله تعالى:( فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) الآية الّتي تضطرّهم إلى الإيمان فإنّ الخطاب عنى قوله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ) إلخ، إنّما اُلقي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق القرآن الّذي هو أفضل آية إلهيّة تدلّ على حقّيّة دعوته، و يقرب إعجازه من فهمهم و هم بلغاء عقلاء فالمراد أنّه لا ينبغي أن يكبر و يشقّ عليك إعراضهم فإنّ الدار دار الاختيار، و الدعوة إلى الحقّ و قبولها جاريان على مجرى الاختيار، و إنّك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الإيمان و تلزمهم على ذلك فإنّ الله سبحانه لم يرد منهم الإيمان إلّا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الإيمان و الطاعة، و لو شاء الله لآمن الناس جميعاً فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس و لا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف الإلهيّة.

و أمّا ما احتمله بعضهم: أنّ المراد: فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية الّتي أرسلناك بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية و خاصّة قوله:( وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) فإنّه ظاهر في الاضطرار.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالمشيّة أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الإيمان فيضطرّوا إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة.

لكنّه سبحانه فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيّته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى:( وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها، وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي

٦٣

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (السجدة: ١٣) يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله:( قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( ص: ٨٥) فبيّن تعالى أنّ عدم تحقّق مشيّته لهداهم جميعاً إنّما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنّه سيغويهم أجمعين إلّا عباده منهم المخلصين.

و قد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصّة آدم و إبليس:( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ، وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (الحجر: ٤٣) و قد نسب ذلك إليهم إبليس أيضاً فيما حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة:( وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ - إلى أن قال -إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) (إبراهيم: ٢٢).

فالآيات تبيّن أنّ المعاصي و منها الشرك تنتهي إلى غواية الإنسان و الغواية تنتهي إلى نفس الإنسان، و لا ينافي ذلك ما يظهر من آيات اُخر أنّ الإنسان ليس له أن يشاء إلّا أن يشاء الله منه المشيّة كقوله تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا، وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) (الإنسان: ٣٠)، و قال تعالى:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (التكوير: ٢٩).

فمشيّة الإنسان في تحقّقها و إن توقّفت على مشيّة الله سبحانه إلّا أنّ الله سبحانه لا يشاء منه المشيّة إلّا إذا استعدّ لذلك بحسن سريرته، و تعرّض منه لرحمته، قال تعالى:( وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) (الرعد: ٢٧) أي انعطف و رجع إليه، و أمّا الفاسق الزائغ قلبه المخلد إلى الأرض المائل إلى الغواية فإنّ الله لا يشاء هدايته و لا يغشاه برحمته كما قال:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (البقرة: ٢٦) و قال:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (الصفّ: ٥) و قال:( وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ ) (الأعراف: ١٧٦).

و بالجملة فالدعوة الدينيّة لا تسلك إلّا سبيل الاختيار، و الآيات الإلهيّة لا تنزل

٦٤

إلّا مع مراعاة الاختيار، و لا يهدي الله سبحانه إليه إلّا من تعرّض لرحمته و استعدّ لهدايته من طريق الاختيار.

و بهذا تنحلّ شبهة اُخرى لا تخلو عن إعضال، و هي أنّا سلّمنا أنّ إنزاله تعالى آية تجبرهم على الإيمان و تضطرّهم إلى قبول الدعوة الدينيّة ينافي أساس الاختيار الّذي تبتني عليه بنية الدعوة الدينيّة لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعاً على حدّ مشيّته إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصّة أن يشاءوا ثمّ ينزّل آية تسوقهم إلى الهدى، و تلبسهم الإيمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم و حرّيّتهم في العمل.

و ذلك أنّه و إن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنّه ينافي الناموس العامّ في عالم الأسباب، و نظام الاستعداد و الإفاضة فالهدى إنّما يفاض على من اتّقى الله و زكّى نفسه و قد أفلح من زكّاها و لا يصيب الضلال إلّا من أعرض من ذكر ربّه و دسّي نفسه و قد خاب من دسّاها، و أصابه الضلال هو أن يمنع الإنسان الهدى قال تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (الإسراء: ٢٠) أي ممنوعاً فالله سبحانه يمدّ كلّ نفس من عطائه بما يستحقّه فإن أراد الخير اُوتيه و إن أراد الشرّ اُوتيه أي منع من الخير، و لو شاء الله لكلّ نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير و تنكبّ على الإيمان و التقوى من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العامّ و إفساد أمر الأسباب.

و تؤيّد ما ذكر الآية التالية أعني قوله تعالى:( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) إلى آخر الآية على ما سيجي‏ء من معناها.

قوله تعالى: ( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) الآية كالبيان لقوله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ) إلى آخر الآية فإنّ ملخّصه أنّك لا تستطيع صرفهم عن هذا الإعراض، و الحصول على آية تسوقهم إلى الإيمان، فبيّن في

٦٥

هذه الآية أنّهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم و لا سمع حتّى يشعروا بمعنى الدعوة الدينيّة و يسمعوا دعوة الداعي و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذه الهياكل المتراءاة من الناس صنفان: صنف منهم أحياء يسمعون، و إنّما يستجيب الّذين يسمعون، و صنف منهم أموات لا يسمعون و إن كانوا ظاهراً في صور الأحياء و هؤلاء يتوقّف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله، و سوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) (السجدة: ١٢)

فالكلام مسوق سوق الكناية، و المراد بالّذين يسمعون المؤمنون و بالموتى المعرضون عن استجابة الدعوة من المشركين و غيرهم، و قد تكرّر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة و السمع، و وصف الكفّار بالموت و الصمم كما قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) (الأنعام: ١٢٢) و قال تعالى:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏ وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) (النمل: ٨١) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قد تكرّر في بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف الّتي حملها الجمهور من المفسّرين على الكناية و التشبيه، و أنّ لها معنى من الحقيقة فليراجع.

و في الآية دلالة على أنّ الكفّار و المشركين سيفهّمهم الله الحقّ و يسمعهم دعوته في الآخرة كما فهّم المؤمنين و أسمعهم في الدنيا، فالإنسان مؤمناً كان أو كافراً لا مناص له عن فهم الحقّ عاجلاً أو آجلاً.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و

٦٦

جهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشقّ ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ - إلى قوله -نَفَقاً فِي الْأَرْضِ ) ، يقول: سرباً.

أقول: و الرواية على ما بها من ضعف و إرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالّة على نزول السورة دفعة، و إن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثمّ الإشارة بالآية إلى السبب المحقّق بعنوان الانطباق‏.

٦٧

( سورة الأنعام الآيات ٣٧ - ٥٥)

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ  قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ٣٧) وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم  مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ( ٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ  مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ( ٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ( ٤٢) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( ٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا  وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( ٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ  انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ( ٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ( ٤٧) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ  فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا

٦٨

يَفْسُقُونَ( ٤٩) قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ  إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ  أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ( ٥٠) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ  لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( ٥١) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ  مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ( ٥٢) وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا  أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ( ٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ  كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٥٤) وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ( ٥٥)

( بيان)

احتجاجات متنوّعة على المشركين في أمر التوحيد و آية النبوّة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ ) إلى آخر الآية، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لمّا صدر هذا القول منهم و بين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الّذي كان ينزل عليهم سورة سورة و آية آية، و يتلى عليهم حيناً بعد حين تعيّن أنّ الآية الّتي كانوا يقترحونها بقولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) هي آية غير القرآن، و أنّهم كانوا لا يعدّونه آية تقنعهم و ترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات و التهوّسات.

٦٩

و قد حملهم التعصّب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنّه ليس بربّهم، فقالوا:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و لم يقولوا: من ربّنا أو من الله و نحوهما إزراءً بأمره و تأكيداً في تعجيزه أي لو كان ما يدّعيه و يدعو إليه حقّاً فليغر له ربّه الّذي يدعو إليه و لينصره و لينزل عليه آية تدلّ على حقّيّة دعواه.

و الّذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أنّ الوثنيّة يرون لآلهتهم استقلالاً في الاُمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدّعون لهم من مقام الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبّره من الأمر من غير أن يختلّ تدبيره من ناحية غيره، و كذلك إله البرّ و إله البحر و إله الحبّ و إله البغض و سائر الآلهة، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرّف فيه فقد قسّم الأمر بين أعضاده و إن كان هؤلاء شفعاءه و هو ربّ الأرباب، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدلّ على نفي اُلوهيّتها.

و كان يحضّهم على هذه المزعمة و يؤيّد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقّونه من يهود الحجاز أنّ يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شي‏ء من النظام الجاري، و خرق العادة المألوفة في عالم الأسباب.

و ثانيهما: أنّ الآيات النازلة من عندالله سبحانه إذا كانت ممّا خصّ الله به رسولاً من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنّما هي بيّنات تدلّ على صحّة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذوراً للناس المدعوّين كالعصا و اليد البيضاء لموسى و إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و خلق الطير لعيسى، و القرآن الكريم لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لكنّ الآية لو كانت ممّا اقترحها الناس فإنّ سنّة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها و إلّا نزل عليهم العذاب و لم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح و هود و صالح و غير ذلك، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك، كقوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) (الأنعام: ٨) و قوله:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ) (الإسراء: ٥٩).

٧٠

و قد اُشير في الآية الكريمة أعني قوله:( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى‏ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ، إلى الجهتين جميعاً.

فذكر أنّ الله قادر على أن ينزّل أيّ آية شاء، و كيف يمكن أن يفرض من هو مسمّى باسم( الله ) و لا تكون له القدرة المطلقة، و قد بدّل في الجواب لفظة( الربّ ) إلى اسم( الله ) للدلالة على برهان الحكم، فإنّ الاُلوهيّة المطلقة تجمع كلّ كمال من غير أن تحدّ بحدّ أو تقيّد بقيد فلها القدرة المطلقة، و الجهل بالمقام الاُلوهيّ هو الّذي بعثهم إلى اقتراح الآية بداعي التعجيز.

على أنّهم جهلوا أنّ نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم، و أنّ اجتراءهم على اقتراحها تعرّضٌ منهم لهلاك جمعهم و قطع دابرهم، و الدليل على أنّ هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات:( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) (الأنعام: ٥٨).

و في قوله تعالى:( نُزِّلَ ) و( يُنَزِّلَ ) مشدّدين من التفعيل دلالة على أنّهم اقترحوا آية تدريجيّة أو آيات كثيرة تنزّل واحدة بعد واحدة كما يدلّ عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله:( وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ - إلى أن قال -أَوْ تَرْقى‏ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) الآيات: (الإسراء: ٩٣) و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا ) (الفرقان: ٢١) و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) (الفرقان: ٣٢).

و روي عن ابن كثير أنّه قرأ بالتخفيف.

قوله تعالى: ( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) إلى آخر الآية، الدابّة كلّ حيوان يدّب على الأرض و قد كثر استعماله في الفرس، و الدبّ بالفتح و الدبيب هو المشي الخفيف.

و الطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، و جمعه الطير كالراكب، و الركب و الاُمّة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنّة واحدة أو زمان واحد

٧١

أو مكان واحد، و الأصل في معناها، القصد يقال: أمّ يؤمّ إذا قصد، و الحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء و نحوه من الاُمور الاجتماعيّة.

و الظاهر أنّ توصيف الطائر بقوله:( يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) محاذاة لتوصيف الدابّة بقوله:( فِي الْأَرْضِ ) فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان أرضيّ و لا هوائيّ، مع ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوّز فإنّ الطيران كثيراً ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أنّ الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله:( يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ )

( كلام في المجتمعات الحيوانيّة)

و الخطاب في الآية للناس، و قد ذكر فيها أنّ الحيوانات أرضيّة كانت أو هوائيّة هي اُمم أمثال الناس، و ليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة و عدد فإنّ الاُمّة لا تطلق على مجرّد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراريّ أو اختياريّ يقصده أفراده، و لا أنّ المراد مجرد كونها أنواعاً شتّى كلّ نوع منها يشترك أفراده في نوع خاصّ من الحياة و الرزق و السفاد و النسل و المأوى و سائر الشؤن الحيويّة فإنّ هذا المقدار من الاشتراك و إن صحّح الحكم بمماثلتها الإنسان لكنّ قوله في ذيل الآية:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) يدلّ على أنّ المراد بالمماثلة ليس مجرّد التشابه في الغذاء و السفاد و الإواء بل هناك جهة اشتراك اُخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله، و ليس ملاك الحشر إلى الله في الإنسان إلّا نوعاً من الحياة الشعوريّة الّتي تخدّ للإنسان خدّاً إلى سعادته و شقائه، فإنّ الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذّ الغذاء و أوفق النكاح و أنضر المسكن و لا يكون مع ذلك سعيداً في حياته لما ينكبّ عليه من الظلم و الفجور أو أن يحيط به جماع المحن و الشدائد و البلايا و هو سعيد في حياته مبتهج بكمال الإنسانيّة و نور العبوديّة.

بل حياة الإنسان الشعوريّة و إن شئت فقل: الفطرة الإنسانيّة و ما يؤيّدها من

٧٢

دعوة النبوّة تسنّ للإنسان سنّة مشروعة من الاعتقاد و العمل إن أخذ بها و جرى عليها و وافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا و الآخرة، و إن استنّ بها وحده سعد بها في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة معاً، و إن لم يعمل بها و تخلّف عن الأخذ ببعضها أو كلّها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا و الآخرة.

و هذه السنّة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير و الطاعة، و الزجر عن الشرّ و المعصية، و إن شئت قلت: الدعوة إلى العدل و الاستقامة، و النهي عن الظلم و الانحراف عن الحقّ فإنّ الإنسان بفطرته السليمة يستحسن اُموراً هي العدل في نفسه أو غيره، و يستقبح اُموراً هي الظلم على نفسه أو غيره ثمّ الدين الإلهيّ يؤيّدها و يشرح له تفاصيلها.

و هذا محصّل ما تبيّن لنا في كثير من الأبحاث السابقة، و كثير من الآيات القرآنيّة تفيد ذلك و تؤيّده كقوله تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) (الشمس: ١٠)، و قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (البقرة: ٢١٣).

و الإمعان في التفكّر في أطوار الحيوانات العجم الّتي تزامل الإنسان في كثير من شؤن الحياة، و أحوال نوع منها في مسير حياتها و تعيّشها يدلّنا على أنّ لها كالإنسان عقائد و آراءً فرديّة و اجتماعيّة تبني عليها حركاتها و سكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني الإنسان تقلّباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد و الآراء.

فالواحد منّا يشتهي الغذاء و النكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أنّ من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدّخره في ملكه، و أن يتزوّج و أن ينسل و هكذا، و أنّ من الممنوع المحرّم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمّل مصيبة الفقر و هكذا فيتحرّك و يسكن على طبق ما تخدّ له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق.

٧٣

كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظّمة الّتي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء و السفاد و المأوى بما لا نشكّ به في أنّ له شعوراً بحوائجه و ما يرتفع به حاجته، و آراءً و عقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع و دفع المضارّ كما في الإنسان، و ربّما عثرنا فيها من أنواع الحيل و المكائد للحصول على الصيد و النجاة من العدوّ من الطرق الاجتماعيّة و الفرديّة ما لم يتنبّه إليه الإنسان إلّا بعد طيّ قرون و أحقاب من عمره النوعيّ.

و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل و النحل و الأرضة على عجائب من آثار المدنيّة و الاجتماع، و دقائق من الصنعة و لطائف من السنن و السياسات لا تكاد توجد نظائرها إلّا في الاُمم ذوي الحضارة و المدنيّة من الإنسان.

و قد حثّ القرآن الكريم على معرفة الحيوان و التفكّر في خلقها و أعمالها عامّة كقوله تعالى:( وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (الجاثية: ٤) و دعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالأنعام و الطير و النحل و النمل.

و هذه الآراء و العقائد الّتي نرى أنّ الحيوان على اختلاف أنواعها في شؤن الحياة و مقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة و الزاجرة لم تخل عن استحسان اُمور و استقباح اُمور، و لم تخل عن معنى العدل أو الظلم.

و هو الّذي يؤيّده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أيّ نوع من الحيوان في أخلاقها، فكم بين الفرس و الفرس و بين الكبش و الكبش و بين الديك و الديك مثلاً من الفرق الواضح في حدّة الخلق أو سهولة الجانب و لين العريكة.

و كذا يؤيّده جزئيّات اُخرى من حبّ و بغض و عطوفة و رحمة أو قسوة أو تعدّ و غير ذلك ممّا نجدها بين الأفراد من نوع و قد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان، و وجدناها مؤثّرة في الاعتقاد بالحسن و القبح في الأفعال، و العدل و الظلم في الأعمال ثمّ إنّها مؤثّرة أيضاً في حياة الإنسان الاُخرويّة، و ملاكاً لحشره و محاسبة أعماله و الجزاء عليها بنعمة أو نقمة اُخرويّة.

و ببلوغ البحث هذا المبلغ ربّما لاح لنا أنّ للحيوان حشراً كما أنّ للإنسان

٧٤

حشراً فإنّ الله سبحانه يعدّ انطباق العدل و الظلم و التقوى و الفجور على أعمال الإنسان ملاكاً للحشر و يستدلّ به عليه كما في قوله تعالى:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ( ص: ٢٨) بل يعدّ بطلان الحشر في ما خلقه من السماء و الأرض و ما بينهما بطلاناً لفعله و صيرورته لعباً أو جزافاً كما في الآية السابقة على هذه الآية:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ( ص: ٢٧).

فهل للحيوان غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أنّ للإنسان حشراً إليه؟ ثمّ إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله و توزن و ينعّم بعد ذلك في جنّة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ و هل استقرار التكليف الدنيويّ عليه ببعث الرسل و إنزال الأحكام؟ و هل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنّه إنسان؟.

هذه و جوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف:

أمّا السؤال الأوّل (هل للحيوان غير الإنسان حشر؟) فقوله تعالى في الآية:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) يتكفّل الجواب عنه، و يقرب منه قوله تعالى:( وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (كوّرت: ٥).

بل هناك آيات كثيرة جدّاً دالّة على إعادة السماوات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجنّ و الحجارة و الأصنام و سائر الشركاء المعبودين من دون الله، و الذهب و الفضّة حيث يحمى عليهما في نار جهنّم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة و جنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة.

و أمّا السؤال الثاني، و هو أنّه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث و تحضر أعماله و يحاسب عليها فينعّم أو يعذّب بها فجوابه أنّ ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد و سوقهم إلى أمر بالإزعاج، و أمّا مثل السماء و الأرض و ما يشابههما من شمس و قمر و حجارة و غيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (إبراهيم: ٤٨) و قوله:( وَ الْأَرْضُ

٧٥

جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (الزمر: ٦٧) و قوله:( وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) (القيامة: ٩) و قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ، لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) (الأنبياء: ٩٩).

على أنّ الملاك الّذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحقّ قال تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (السجدة: ٢٥) و قوله:( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (آل عمران: ٥٥) و غير ذلك من الآيات.

و مرجع الجميع إلى إنعام المحسن و الانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله:( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) (السجدة: ٢٢) و قوله:( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (إبراهيم: ٤٨) و هذان الوصفان أعني الإحسان و الظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.

و يؤيّده ظاهر قوله تعالى:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) النحل: ٦١ فإنّ ظاهره أنّ ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهيّة كان ذلك لأنّه ظلم و الظلم شائع بين كلّ ما يسمّى دابّة: الإنسان و سائر الحيوانات فكان ذلك مستعقباً لأن يهلك الله تعالى كلّ دابّة على ظهرها هذا و إن ذكر بعضهم: أنّ المراد بالدابّة في الآية خصوص الإنسان.

و لا يلزم من شمول الأخذ و الانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور و الإرادة، و يرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسيّاته و روحيّاته، و الضرورة تدفع ذلك، و الآثار البارزة منها و من الإنسان تبطله.

و ذلك أنّ مجرّد الاشتراك في الأخذ و الانتقام و الحساب و الأجر بين الإنسان و غيره لا يقضي بالمعادلة و المساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقّة و المناقشة مجرى واحداً فيوقف العاقل و السفيه و الرشيد و المستضعف في موقف واحد.

٧٦

على أنّه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم و دقائق النباهة ما ليس بكلّ البعيد من مستوى الإنسان المتوسّط الحال في الفقه و التعقّل كالّذي حكى عن نملة سليمان بقوله:( حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى‏ وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (النمل: ١٨) و ما حكاه من قول هدهد لهعليه‌السلام في قصّة غيبته عنه:( فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) إلى آخر الآيات: (النمل: ٢٤) فإنّ الباحث النبيه إذا تدبّر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم و الشعور لها ثمّ قدّر زنته لم يشكّ في أنّ تحقّق هذا المقدار من الفهم و الشعور يتوقّف على معارف جمّة و إدراكات متنوّعة كثيرة من بساط المعاني و مركّباتها.

و ربّما أيّد ذلك ما حصّله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم و تربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال الّتي لا تكاد تظهر إلّا من موجود ذي إرادة لطيفة و فكر عميق و شعور حادّ.

و أمّا السؤال الثالث و الرابع أعني أنّه: هل الحيوان يتلقّى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه و وحي ينزل عليه؟ و هل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث ممّا لا فائدة فيه و لا نتيجة له إلّا الرجم بالغيب، و الكلام الإلهيّ على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرّض لبيان شي‏ء من ذلك، و لا يوجد في الروايات المأثورة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته صلوات الله و سلامه عليهم ما يعتمد عليه في ذلك.

فقد تحصّل أنّ المجتمعات الحيوانيّة كالمجتمع الإنسانيّ فيها مادّة الدين الإلهيّ ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانيّة و يمهّدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهّد دين الفطرة الإنسان للحشر و الجزاء، و إن كان المشاهد من حال

٧٧

الحيوان بالقياس إلى الإنسان - و تؤيّده الآيات القرآنيّة الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان و أفضليّته من عامّة الحيوان - أنّ الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانيّة و لا كلّف بدقائق التكاليف الإلهيّة الّتي كلّف بها الإنسان.

و لنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى:( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) يدلّ على أنّ المجتمعات الحيوانيّة الّتي توجد بين كلّ نوع من أنواع الحيوان إنّما تأسّست على مقاصد نوعيّة شعوريّة يقصدها كلّ نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور و الإرادة كالإنسان.

و ليس ذلك مقصوراً على المقاصد الطبيعيّة أعني مقاصد التغذّي و النموّ و توليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت و يتهيّأ به إلى حياة اُخرى ترتبط بالسعادة و الشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور و الإرادة.

و ربّما اعترض عليه أنّ القوم تسلّموا أنّ غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار، و لذلك يعدّ أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعيّة غير اختياريّة لما يشاهد من حالها أنّها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرّة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته، و الهرب إذا صادف ما يخافه من عدوّ غالب كالفأرة إذا رأت هرّة أو الغزالة إذا شاهدت أسداً فلا معنى للسعادة و الشقاوة الاختياريّتين في الحيوان غير الإنسان.

لكنّ التأمّل في معنى الاختيار و الحالات النفسيّة الّتي يتوسّل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختياريّة يدفع هذه الشبهة و ذلك أنّ الشعور و الإرادة الّذين يتمّ بهما فعل الإنسان الاختياريّ بالحقيقة إنّما اُودعا في الإنسان مثلاً لأنّه نوع شعوريّ يتصرّف في المادّة الخارجيّة للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه ممّا يضرّه، و لذلك جهّزته العناية الإلهيّة بالشعور و الإرادة فهو يميّز بشعوره الحيّ ما يضرّه ممّا ينفعه فإذا تحقّق النفع أراد ففعل فما كان من الاُمور بيّن النفع و لا يحتاج في الحكم بكونه ممّا ينتفع به إلى أزيد من وجدانه و حصول العلم به أراده من فوره و فعله و تصرّف فيه من غير

٧٨

توقّف كما في موارد الملكات الراسخة غالباً مثل التنفّس، و أمّا ما كان من الاُمور غير بيّن النفع موسوماً بنقص من الأسباب أو محفوفاً بشي‏ء من الموانع الخارجيّة أو الاعتقاديّة لم يكف مجرّد العلم بتحقّقه في إرادته و فعله لعدم الجزم بالانتفاع به.

فهذه الاُمور هي الّتي يتوقّف الانبعاث إليها إلى التفكّر مثلاً فيها من جهة ما معها من النواقص و الموانع و التروّي فيها ليميّز بذلك إنّما هل هي من قبيل النافع أو الضارّ؟ فإن أنتج التروّي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلّقة بها و فعلت كما لو كانت بيّنة النفع غير محتاجة إلى التروّي فيها، و ذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاءً يمكنه أن يسدّ به خلّة الجوع فربّما شكّ في أمره أنّه هل هو غذاء طيّب صالح لأن يتغذّى به أو أنّه غير صالح فاسد أو مسموم أو مشتمل على موادّ مضرّة؟ و أنّه هل هو ماله نفسه و لا مانع من التصرّف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم و نحوه أو مال غيره و لا يجوز التصرّف فيه؟ و حينئذ يتوقّف عن المبادرة إلى التصرّف فيه، و لا يزال يتروّى حتّى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقاً لما ينتفع فلا يتوقّع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرّف فيه.

و إن لم يشكّ في أمره و كان بيّناً عنده من أوّل الأمر أنّه طيّب صالح للتغذّي إرادة إذا علم بوجوده من غير تروّ أو تفكّر، و لم ينفكّ العلم به عن إرادة التصرّف فيه قطعاً.

فمحصّل حديث الاختيار أنّ الإنسان إذا لم يتميّز عنده بعض الاُمور الّتي يتصرّف فيها أنّها نافعة أو ضارّة ميّز ذلك بالتروّي و التفكّر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب، و أمّا لو تميّز من أوّل الأمر إرادة ففعله من غير مهل و لم يحتج إلى تروّ أصلاً فالإنسان يختار ما يرى نفعه بتروّ أو من غير تروّ و لا تروّي إلّا لرفع الموانع عن الحكم.

ثمّ إنّك إذا تأمّلت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادئ اختيارهم أعني الصفات الروحيّة و الأحوال الباطنيّة من شجاعة و جبن و عفّة و شره و نشاط و كسل و وقار و خفّة، و كذا في قوّة التعقّل و ضعفه و إصابة النظر و خطائه فكثيراً مّا يرى الشره نفسه مضطرّة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها

٧٩

لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهّر، و ربّما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمّة أو مقتلة عذراً لنفسه ينفي عنه الاختيار، و لا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر و أيّ زجر بدنيّ أمراً فوق الطاقة، و لا يرى لأيّ مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، و ربّما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصوّر، واه و لا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجّحات إلّا تلهّياً و لعباً، و أفعال الصبيان غير المميّزين اختياريّة معها بعض التروّي و لا يعبأ بها و بأمرها البالغ الرشيد، و كثيراً ما نعدّ في محاوراتنا فعلاً من أفعالنا اضطراريّاً أو إجباريّاً إذا قارن أعذاراً اجتماعيّة غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، و النومة يعتذر بالكسل و السارق أو الخائن يعتذر بالفقر.

و هذا الاختلاف الفاحش في مبادئ الاختيار و أسبابه و العرض العريض في مستوى الأفعال الاختياريّة هو الّذي بعث الدين و سائر السنن الاجتماعيّة أن يحدّوا الفعل الاختياريّ بما يراه المتوسّط من أفراد المجتمع الإنسانيّ اختياريّاً، و يبنوا على ذلك صحّة تعلّق الأمر و النهي و العقاب و الثواب و نفوذ التصرّف و غير ذلك، و يعذروا من لم يتحقّق فيه ما يتحقّق في الفعل الاختياريّ الّذي يأتي به الإنسان المتوسّط من المبادي و الأسباب، و هو المتوسّط من الاستطاعة و الفهم.

فهذا الوسط المعدود اختياراً النافي لاختياريّة ما دونه إنّما هو كذلك بحسب الحكم الدينيّ أو الاجتماعيّ المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع و إن كان الأمر بحسب النظر التكوينيّ أوسع من ذلك.

و الإمعان فيما تقدّم يعطي أن يجزم بأنّ الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة و إن كان أضعف ممّا نجده في المتوسّط من الناس من معنى الاختيار و ذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات و خاصّة الحيوانات الأهليّة من آثار التردّد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل و كذا الكفّ عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدلّ على أنّ في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل و الترك، و هو الملاك في أصل الاختيار و إن كان التروّي ضعيفاً فيها جدّاً غير بالغ حدّ ما نجده في الإنسان المتوسّط.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

هل كان صعباً تطبيق قواعد الإسلام في الحياة اليومية؟

كنت أتقصّد التفريق بين الممارسات الإسلامية والثقافة الإسلامية وذلك ما كان يختلط على الناس. «كوني أوروبية، اعتناقي الإسلام لا يعني بالضرورة ارتدائي العباءة في لندن» فالعباءة هي زي ثقافي ولكن اللباس الفضفاض هو المطلوب في الإسلام وليس الأمر محصوراً بارتداء العباءة. فأنا أصلّي، أدفع الصدقات والخمس، أمتنع كلياً عن شرب الكحول والمحرّمات ولكن ليس المطلوب مني أن ألبس العباءة مع أنني أمتلك واحدة أستمتع بارتدائها في المنزل. ولكن بطبيعة الحال، أثناء تواجدي في أوروبا - أرتدي الزي الأوروبي مع مراعاة الحجاب.

فأنا أرى الكثير من الممارسات والقيم الإسلامية في أوروبا كاحترام حقوق الإنسان والحفاظ على النظافة والبيئة وهذه القيم الإسلامية وللأسف مفقودة اليوم عند أغلبية المجتمعات الإسلامية. وهذا بالذات ما عناه المستشرق محمد أسد عندما قال: «تستطيع أن ترى الكثير من الإسلام في أوروبا والقليل من المسلمين، والكثير من المسلمين في الشرق ولكن القليل من الإسلام الحقيقي».

ما هي التحديات التي يفرضها تخلي المرء عن ديانته الأولى واعتناقه لديانة أخرى؟

إنّ التحول إلى الإسلام له تحدياته، خصوصاً على صعيد وجود بيئة مماثلة للتعايش معها. فمثلاً من الصعوبات التي تطرح: وجود زوج لائق لامرأة اعتنقت الإسلام، حيث تصبح الواحدة منا عالقة بين عالمين. فأنا شخصياً امرأة مطلَّقة وأعاني أحياناً من لسعة الوحدة.كذلك المسلمون يتحمسون كثيراً لاعتناق الآخرين لديانتهم ولكنني دائماً أقول، ماذا عن البيئة الحاضنة فيما بعد؟ حيث يبدأ العمل الحقيقي عندها. فهم يشجعون الناس على اعتناق الإسلام ومن ثم يتركونهم وحدهم لمصيرهم. أنا محظوظة ربما بإنشاء شبكة من الصداقات. ولكن كم مرّ علي من الأعياد لم أستطع الإحتفال بها كوني كنت وحيدة. فالعيد كان بالنسبة إليّ أداء الصلاة ومن ثم متابعة اليوم بشكل عادي للأسف.

ولكنني أجد إيجابية في ذلك أحياناً، عندما ينتهي بي الأمر في الأعياد بالعشاء مع أحد الذين اعتنقوا الإسلام كذلك ولا يجد من يعيّد معه.

٣٠١

فالعزلة هي ما يترتب علينا عند اعتناقنا مذهباً ما وتخلينا عن مذهب آخر، ففي عيد الميلاد، لا أكون فرداً مرحّباً به في عائلتي كوني اخترت سلوك طريق آخر. وفي شهر رمضان أجد نفسي وحيدة حيث لا يوجد من يتسحّر معي أو يتناول معي الإفطار إلا إن دعاني أحدهم. ولكنّ العزاء دائماً أنّ الله بصحبتي وهو خير صاحب.

وإن كان الإيمان بالله هو الذي يجعلني أقاوم تلك التحديات ولكنني سمعت عن كثيرين اعتنقوا الإسلام حديثاً قد عادوا وانكفؤوا عن ذلك بسبب عدم وجود الدعم المعنوي الكافي من المجتمع الإسلامي المحيط. ومنذ فترة التقيت بامرأة كانت قد اعتنقت الإسلام لفترة عشر سنوات ولكنها عادت لتصبح اليوم وزيرة مسيحية مجدداً.

أخيراً ما الرسالة التي وجهتها إلى الناس من خلال كتابك؟

لقد وجهت رسالة من خلال كتابي إلى الناس الذين يتعلقون اليوم بالمظاهر المادية للحياة. الكثير من الشبان يحلمون بما كنت أمتلكه في الـ «أم تي ڤي» من تسلية ومعارف وشهرة وثقافة.. كنت أمتلك كل ذلك ويمكنني القول بأنّني لم أكن أشعر بالسعادة ولا أفكّر أبداً باسترجاع حياتي السابقة. ذلك الفراغ الذي كنت أحسّ به قبل اعتناقي للإسلام امتلأ اليوم من خلال وجود هدف لحياتي وعلاقة مميزة مع الله وحلم بالجنة.

وتختم بايكر بالقول: أكثر ما يقلقني اليوم هو أنّ غالبية سكان بريطانيا يبنون معارفهم عن الإسلام من خلال ما تمليه عليهم وسائل الإعلام. فالناس هنا لا يذهبون إلى المكتبات ويشترون الكتب ليتعرفوا على الإسلام، بل يكتفون بقراءة الدايلي مايل أو مشاهدة التلفاز لتكوين رأيهم عن الإسلام. كل ما ينقصنا هو التعليم والتثقيف. ولذلك أنا دائماً جاهزة لإجراء المقابلات، لكي أتكلم وأشرح أكثر عن الإسلام. فمثلاً عندما تتصل صحيفة الصن بأحدهم لإجراء حوار، يمتنع عن القبول، ولكنني أفعل لأنّ إلقاء قطرة واحدة من الحقيقة في ذلك المحيط الشاسع يمكن أن يكون له أثر».

٣٠٢

بايكر اليوم تبقي نفسها منشغلة بتحسين صورة الإسلام في بريطانيا. وكانت واحدة من الذين نظموا حملة «ألهمني الرسول محمد (ص)» في لندن التي هدفت إلى تقديم صورة مشرقة عن الإسلام من خلال ملصقات يتم وضعها في مواقف الحافلات وعلى سيارات الأجرة وكانت صورتها ظهرت على إحدى الملصقات وقد كتب تحتها «أؤمن بحماية البيئة وكذلك الرسول محمد (ص)». وقد تلقّت وسائل الإعلام تلك الحملة بالقبول. وفي الآونة الأخيرة أجرت معها شبكة البي بي سي لقاءً حول الفيلم المسيء للإسلام «براءة المسلمين».

الأخ يحيى

انطباعات من مسلم جديد

القرآن: الوحي الأخير

استدركت ضرورة وحتمية بعث نبي جديد بعد النبي عيسى (ع) نتيجة الابتكارات المنسوبة إلى الوحي الإلهي فكانت الحاجة لنبي آخر بعد عيسى (ع) مع وحي آخر بعد الإنجيل. لهذا بعث الله محمداً (ص) مع آخر رسالة، (أي القرآن)، لإعادة كل البشرية إلى الإيمان وعبادة إله واحد هو الله، دون شركاء أو وسطاء. وفقاً للمسلمين، القرآن الكريم، مصدر دائم لهداية الناس، وقد قدم توضيحاً عقلانياً للدور التاريخي الرائع للنبي عيسى (ع)، فقد ورد اسم (عيسى) خمساً وعشرين مرة في القرآن الكريم الذي يتضمن سورة اسمها مريم تيمناً باسم والدة نبي الله عيسى: السيدة مريم بنت عمران (عليها السلام).

فالحتمية الإلهية لنزول وحي جديد، وجدتها في الآيات القرآنية التالية التي أقنعتني جدا:) وَمَا کَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ یُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَتَفْصِیلَ الْکِتَابِ لا رَیْبَ فِیهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِینَ ﴿37﴾﴾ [يونس: 37]، و﴿ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْیَقِینِ ﴿51﴾ ﴾ [الحاقة: 51]. تزامناً، كنت أشعر بالقلق خوفاً من حصول تحريف في القرآن الكريم لأنها كانت مشكلة كبيرة مع الكتب السماوية السابقة. فقرأت بأن القرآن لن يتغير أو لن يتم إلغاؤه:﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴿9﴾ ﴾ [الحجر: 9].

٣٠٣

وعرفت لاحقاً أن بعض الظواهر العلمية مذكورة في القرآن، وهذا ما يؤكد مصداقية الاعتقاد بأن القرآن هو كلام الله. فهناك آيات تصف تكوين الجنين داخل رحم أمه، وتكوين الجبال، وأصل الكون، والمخ، والبحار، والأمواج والسحب. إنه فوق استيعاب أي شخص أن يتصور أنّ هذه الحقائق كانت مكتشفة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، ذلك أنه تم الكشف عن هذه الحقائق وتم تأكيدها في الآونة الأخيرة بواسطة علميات أُجريت بآليات متطورة.

الإسلام: جوهر وذروة الأديان السماوية

يعتقد المسلمون أن الغرض الأساسي لخلق الجنس البشري هو عبادة الله. كما قال في القرآن الكريم،﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِیَعْبُدُونِ ﴿56﴾ ﴾ [الذاريات: 56] وبحسب عالم إسلامي معروف في الغرب فإن «النظام الأكثر اكتمالا من العبادة المتاحة للإنسان اليوم هو النظام الموجود في دين الإسلام، وكلمة «الإسلام» تعني «التسليم والخضوع لإرادة الله (عزّ وجل)»، على الرغم من أنه يشارالى الإسلام عادة باسم ثالث الديانات التوحيدية الثلاث، فإنه ليس ديناً جديداً على الإطلاق. إنه دين جاء به جميع أنبياء الله للبشرية. فالإسلام هو دين آدم وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام).

ويضيف العالم «بما أن الله واحد، والبشر هو نوع واحد، فبالنتيجة الدين الذي سيبعثه الله للناس هو دين موحد، فالحاجات الروحية والاجتماعية البشرية هي ذاتها والطبيعة البشرية لم تتغير منذ تم إنشاء أول رجل وامرأة

وبما أن رسالة الله كانت دائما هي نفسها، أدركت أنه من واجب جميع البشر البحث عن الحقيقة في التدين وليس مجرد القبول والاتباع الأعمى للدين الذي يتولاه مجتمعهم أو الوالدين، وفقاً للقرآن،﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّیْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُکُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُکْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِیَّاهُ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ ﴿40﴾ ﴾ [يوسف: 40].

٣٠٤

وفيما يتعلق بالفطرة، قال النبي محمد (ص)، ما معناه كل مولود يولد على الفطرة لكن والديه يحولانه إلى اليهودية أو المسيحية أو المجوسية. وعلاوة على ذلك، قال الله تعالى:﴿ فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حَنِیفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ ﴿30﴾ ﴾ [الروم: 30].

كذلك، تعلمت أنه لا يوجد دين آخر مقبول عند الله الى جانب الإسلام، كما قال بوضوح في القرآن الكريم:﴿ وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الإسْلامِ دِینًا فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِی الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِینَ ﴿85﴾ ﴾ [آل عمران: 85].

فاستنتجت أن الانسان قد يهمل هدى الله ويقيم لنفسه معايير خاصة للمعيشة. ولكن في نهاية المطاف، سوف يكتشف أنه لم يكن يتبع إلا سراباً.

عابر

واصلت قراءة القرآن والتعرف على أقوال وأفعال النبي محمد (ص)، فلاحظت أن الإسلام يرى الإنسان (العبد) كرجل عابر لهذه الحياة، والآخرة هي الدار المقر.

فنحن هنا لفترة قصيرة، ولا يمكن أن نأخذ أي شيء معنا من هذه الحياة إلا إيماننا بالله وأفعالنا الحسنة. وبالتالي، ينبغي أن نكون مثل المسافر الذي يمر عبر الأراضي فقط ولا يأخذ أي شيء منها.يجب علينا أن نفهم أن معنى أن نكون على قيد الحياة هو أن نكون تحت اختبارات متواصلة. فهناك المعاناة والفرح والألم والغبطة. هذه الاختبارات من الخير والشر هدفها بلورة الصفات الروحية العليا فينا. نحن غير قادرين على الاستفادة من هذه التجارب إلا إذا بذلنا قصارى جهدنا، بحيث يكون لدينا ثقة كاملة بالله وتقبل ما يقدر الله لنا بصبر.

٣٠٥

الطريق إلى الجنة

كان لا بد من معرفة المزيد عن الجنة إذ إنها بالتأكيد الهدف النهائي الذي يسعى إليه كل فرد، يقول الله،﴿إِنَّمَا یُؤْمِنُ بِآیَاتِنَا الَّذِینَ إِذَا ذُکِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا یَسْتَکْبِرُونَ ﴿15﴾ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ یَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ یُنْفِقُونَ ﴿16﴾ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِیَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْیُنٍ جَزَاءً بِمَا کَانُوا یَعْمَلُونَ ﴿17﴾ ﴾ [السجدة: 17] فصرت على بينة أن سروري غداً هو أبعد من كل خيال، إذ سأعيش هذا الفرح العارم في ظل الخالق.

كنت أتساءل أي النفوس تستحق هذه المكافأة؟ هذا الثواب أعظم من أن يكون له ثمن. قيل لي أن الثمن هو الايمان الحقيقي بالله والطاعة له ولنبيه محمد (ص) وآل بيته (عليهم السلام).

أدركت أن البشرية يجب أن تعبد الله لتحقيق البر والوضع الروحي اللازم لدخول الجنة.هذا يعني أنه على البشر الفهم أن العبادة لا غنى عنها كما الأكل والتنفس وليست مجرد معروف يقومون به تجاه الله.لذلك نحن بحاجة لقراءة القرآن لمعرفة أي نوع من الناس يريدنا الله أن نكون ونحاول أن نصبح على هذا النحو. إذاً هذا هو الطريق إلى الجنة.

التغلب على عقبة:

في هذه المرحلة، شعرت بأنني 80٪ أريد أن أصبح مسلماً، ولكن ما كان يدفعني إلى الخلف أنني كنت قلقاً من ردّة فعل عائلتي وأصدقائي لو علموا بأنني أصبحت مسلماً.

فأعربت عن قلقي لأخ مسلم فقال لي أنه في يوم القيامة، لا أحد سيكون قادراً على مساعدتك، لا والدك، ولا والدتك أو أي من أصدقائك. لذلك، إذا كنت تعتقد أن الإسلام هو الدين الحق، يجب أن تتقبله وتعيش حياتك لإرضاء واحد أحد هو الذي خلقك، وهو الله.

وهكذا، أصبح جلياً بالنسبة لي أننا جميعا في قارب واحد؛ وأن كل نفس ذائقة الموت ثم سنكون جميعاً مسؤولين عن معتقداتنا وعن أفعالنا أمام الله.

٣٠٦

شريط فيديو ذو مغزى:

في هذه المرحلة من بحثي عن الحقيقة، كنت على وشك اعتناق الاسلام. شاهدت محاضرة إسلامية على شريط فيديو حول الغرض من الحياة. وكان الموضوع الرئيسي لهذه المحاضرة أن الغرض من الحياة يمكن تلخيصه في كلمة واحدة، هي الإسلام (التسليم لإرادة الله).

على عكس الأديان أو المعتقدات الأخرى، فإن مصطلح «الإسلام» لا يرتبط بأي شخص أو مكان معين. قد أسمى الله الدين في الآية القرآنية التالية:﴿ إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ ﴾ [آل عمران: 19] فأي شخص يعتنق الإسلام يسمى مسلماً بغض النظر عن عرق ذلك الشخص أو جنسه أو جنسيته. هذا هو واحد من الأسباب التي تجعل الإسلام دينآً عالمياً.

قبل بحثي عن الحقيقة، لم أنظر بجدية إلى الإسلام كخيار بسبب الصورة السلبية المستمرة عن المسلمين في وسائل الإعلام. وقد أظهر مقطع من شريط الفيديو كيف أن المسلمين وعلى الرغم من تميز الإسلام بالمعاييرالأخلاقية العالية، ليسوا جميعاً متمسكين بهذه المعايير.و يمكن قول الشيء نفسه عن أتباع الديانات الأخرى.

فهمت أخيراً أننا لا نستطيع أن نحكم على الديانات من خلال تصرفات أتباعها وحدها، كما فعلت، لأن عامة البشر غير معصومين. على هذا الحساب، لا ينبغي لنا أن نحكم على الإسلام من تصرفات أنصاره، ولكن عن طريق الوحي (القرآن الكريم) وسنة النبي محمد (ص) وأهل بيته (عليهم السلام).

النقطة الأخيرة التي التقطتها هي أهمية الامتنان لله. فالله يذكر في القرآن أنه ينبغي لنا أن نكون ممتنين لحقيقة أنه خلقنا:﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَکُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِکُمْ لا تَعْلَمُونَ شَیْئًا وَجَعَلَ لَکُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ ﴿78﴾ ﴾ [النحل: 78].

٣٠٧

الحقيقة تكشف عن نفسها:

بمجرد انتهاء العرض،اختبرت كشف النقاب عن روحي، شعرت أنّ عبئاً كبيراً من الخطايا زال عن كتفي. وعلاوة على ذلك، شعرت بنفسي كأنني أرتفع عن الأرض وأحلّق، رافضاً المسرات المؤقتة في هذا العالم من أجل الأفراح الأبدية في الآخرة.

هذه التجربة، إلى جانب عملية طويلة من التفكير، حلت أحجية «الغرض من الحياة». وكشفت أن الإسلام هو الحقيقة، وبالتالي كان علي تحديد هدفي من الحياة، ومعتقدي، اتجاهي وأفعالي.

فدخلت بوابة الإسلام بالإعلان عن نية الإيمان بالقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

أُبلغت بأن هذه الشهادة تؤكد الاعتقاد بجميع الأنبياء والمرسلين من الله، جنباً إلى جنب وبالتالي فإن كل رسول ونبي هو تحديث واستكمال لدين واحد حتى وصلنا إلى آخر الأنبياء محمد (ص) وإلى الوحي النهائي من الله [القرآن].

انطباعات من مسلم جديد:

أثناء بحثي عن الحقيقة، الدرس الذي تخطى جميع الدروس، هو أن كل المعبودات الأخرى ما عدا الله هي مجرد أوهام.

فالإذعان لإرادة الله أشعرني بالسلام مع الخالق، مع الآخرين، وأخيراً، مع نفسي. ونتيجة لذلك، بت أشعر بالامتنان جداً، وهذا من رحمة الله، الذي أنقذني من أعماق الجهل وصعد بي إلى نور الحقيقة.

الإسلام، الدين الحق في جميع الأوقات والأماكن ولكل الشعوب، هو رمز كامل للحياة إذ يوجّه الإنسان لتحقيق الغرض من وجوده على الأرض، ويعد له اليوم الذي سيعود فيه الى خالقه.

اتباع هذا المسار بطريقة ورعة تمكن الواحد منا من اكتساب رضوان الله فنكون أقرب إليه وسط المسرات التي لا نهاية لها من الجنة والخلاص من عذاب جهنم. مكافأة إضافية بأن تكون حياتنا الحالية أسعد بكثير عندما نتخذ مثل هذا الخيار.

٣٠٨

التمتع بالضلالة:

وقد أعطى اعتناق الاسلام لي أكثر من نظرة ثاقبة في الطبيعة الوهمية لهذه الحياة. على سبيل المثال، إحدى الركائز الأساسية للإسلام هي تحرير الإنسان. فعندما يطلق مسلم على نفسه اسم «عبد الله»، ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على التحرر من العبودية لجميع الأشكال الأخرى، وعلى الرغم من أن الإنسان المعاصر قد يظن أنه متحرر، وهو في الحقيقة عبد لرغباته. مخدوع ومضلل من هذه الحياة الدنيوية. يقول الله تعالى:﴿ أَرَ‌أَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴿43﴾ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَ‌هُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 43، 44].

لذلك يجب علينا ألا ندع حماسنا للاستمتاع بمتع هذه الحياة الزائلة يعرِّض فرصة الاستمتاع بملذات الجنة للخطر. كما يقول الله في القرآن:﴿ زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِینَ وَالْقَنَاطِیرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَیْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِکَ مَتَاعُ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴿14﴾ قُلْ أَؤُنَبِّئُکُمْ بِخَیْرٍ مِنْ ذَلِکُمْ لِلَّذِینَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِینَ فِیهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِیرٌ بِالْعِبَادِ ﴿15﴾ ﴾ [آل عمران: 14، 15].

ولذلك، فإن المنافسة الحقيقية في هذه الحياة ليست على تراكم الثروة أو الرغبة في الشهرة، بل بالقيام بالاعمال الصالحة لإرضاء الله، مع الاحتفاظ بالجزء القانوني من التمتع في هذه الحياة.

الطريق الصحيح إلى الله:

هناك العديد من البدائل الدينية المتاحة للإنسان، والأمر متروك له لاختيار أي ديانة يرغب في اتباعها. إنَّه أشبه بالتاجر مع العديد من السلع أمامه، وهو الذي يختار أي سلعة ليتاجر بها. من الواضح أنّه سوف يختار ما يعتقد أنّه الأكثر ربحاً. ومع ذلك، فإن التاجر يبقى غير متأكد وغير ضامن للربح؛ حيث يمكن أن يكسب اليوم ويمكن أن يخسر غداً كل شيء.

في المقابل، فإن المؤمن في وحدانية تسليمه لله، يكون متأكداً تماماً أنّه إذا كان يتبع طريق الهداية [القرآن وسنة النبي محمد (ص)، وآل بيته (عليهم السلام)] سيكون بلا شك مصيره النجاح والثواب في نهاية هذا الطريق، ولحسن الحظ، يبدأ هذا النجاح أيضاً في بداية اختيار هذا المسار.

٣٠٩

أنا مسلمة جديدة...

رقية وارث مقصود

ليس من أمر أسهل من اعتناق الإِسلام - لحظة يدرك الإنسان أن الله حق وأن الله موجود حقاً ويقر بأن النبي العربي محمد (ص) هو حقاً خاتم رسل الله ضمن سلسلة الأنبياء الآخرين المذكورين في الإنجيل يكون قد خطى فعلياً الخطوة الأولى.

تسمى لحظة الإشراق هذه التقوى والإحسان. فجأة تدرك أن الله يراك ويعرفك وإن كنت لا تعرفه ولا تراه.

الخطوة الثانية في مسيرة اعتناق الإِسلام هي التعبير وبوضوح عن لحظة الإيمان هذه - أي نطق الشهادة: «أشهد» لتتوالى الخطوات طوال حياتك.

كيف أعيش كمسلمة:

أن تصبح جزءاً من الجالية المسلمة المحلية وتلج في نمط الحياة هذا أمر يختلف تماماً عن مجرد أن تصبح مسلماً على مستوى العقل.

فهذا يتطلب من الكثيرات من معتنقات الإِسلام درجة عالية من العزم والثقة. فأنتِ لن تواجهي عائلتك وأصدقائك الذين يعتقدون أنك قد أصبت بالجنون فقط، ولكن كامرأة عليك أيضاً أن تستجمعي قواك للدخول إلى عالم المسجد حيث الرجال العابسو الوجوه ذوو اللحى الطويلة لن يكلموك.

فإن كنت واحدة من معتنقات الإِسلام في بعض نواحي إنكلترا الشمالية حيث يغلب على المساجد الطابع الآسيوي، يجدر بك أن تعلمي الكثير عن الثقافات الآسيوية بالإضافة إلى تعلّم الإِسلام.

تنجلي تلك العبسات عن حياء ورقة وتقوى وصداقة صادقة وضيافة وكرم؛ ولكن يعتبر من الفظاظة أن يبدو الرجل وكأنه متحمس للتحدث مع النساء أو للنظر إليهن أكثر من نظرة واحدة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من المساجد لا تحوي بعد على مصلّى للنساء.

٣١٠

اكتساب الثقة:

لكننا نحن الذين نعتنق الإِسلام نكتسب الثقة شيئاً فشيئاً، فلم نعد نشعر بأنه علينا أن نتظاهر بأننا عرب أو باكستانيون لنشعر بالانتماء.

فنحن نعلم الآن أن المسلمين متواجدون في كل مكان حول العالم من الأسكيمو إلى أستراليا.

يمكننا أن نختار أسماء عربية، كما يمكننا أن نبقى على أسمائنا القديمة فهذا الأمر ليس ذا قيمة حقاً.

على النساء اختيار ملابس معينة كالبنطال الفضفاض والسترة الطويلة أو التنورة الطويلة. وإن كنا لا نشعر بالانسجام في المساجد المحلية لأننا لا نتقن اللغة العربية، فنحن بدأنا بتنظيم مساجد داخل البيوت ونشكل جماعات فيما بيننا وندعو الآسيويين أيضاً ليكونوا ضيوفنا.

أطياف متعددة من المسلمين.... عائلة واحدة:

بدأنا نحن - معتنقو الإِسلام الجدد - بالقراءة بما فيه الكفاية وبتحصيل العلم بما يمكِّننا من التعبير عن آرائنا حول الأمور من حولنا. فنحن عندنا النضج الكافي لندرك أن ليس كل المسلمين قديسين. فالبشر بشر وجلّنا بعيد عن الكمال.

هكذا نتغلب على الشعور بالخيبة عندما نكتشف أن ليس كل مسلم يحيا كما ينبغي على المسلم أن يحيا للوصول إلى الكمال وبالتالي لا نستسلم أو نتهمهم بالنفاق؛ بل على العكس نبذل أقصى جهدنا لنحيا حياتنا بأفضل طريقة ممكنة.

شيئاً فشيئاً يدرك كافة معتنقي الإِسلام وجود الكثير من أنواع المسلمين.

بعض المسلمين روحانيون في حين أن آخرين يهتمون بظاهر العبادات.

لكن شعورنا يزداد بأنه بإمكاننا أن نجد مكاناً لأنفسنا إلى جانب الآخرين في هذه الأمة الواسعة والعائلة الممتدة، وطالما أننا نقوم بأقصى جهدنا فإن الله سيثيبنا على نوايانا الحسنة.

٣١١

جيمي بور

من عارضة أزياء إلى امرأة مسلمة

السلام عليكم، إسمي جيمي

وُلدت وترعرعت على المسيحية الحديثة غير الطائفية ولم أجد فيها أجوبة لما كنت أبحث عنه، ولمدة 31 عاماً كمسيحية، لم أشعر يوماً بالله. حاولت وبكل ما بوسعي ولكني لم أشعر به على الإطلاق. كنت عارضة لبلادي ولمدة خمس سنوات، تعاطيتُ الكثير من المخدرات خلال تلك الفترة كنت أستخدمها كمساعد لفقدان الوزن وكنت أستخدمها لمرة واحدة لأُبعد نفسي عن الإكثار من تناول الطعام. كنت أعتقد بأنني قوية لأتجنب الإدمان على المخدرات التي تحوّل كل من يستخدمها إلى مدمن. بدأتُ أفكر بأني سآخذها لأسبوعين إلّا أنني أصبحتُ مدمنة ليل نهار. أخذتني المخدرات إلى الحضيض والدمار الكامل، فقد كان زوجي يتعاطى المخدرات كذلك. ما دفعه ليكون عنيفاً معي، حتى أني كنت خائفة على حياتي.

قررت أن أتوقف عن تعاطيها، فليس هذا ما أريده لحياتي. فقلت له أنني سأتوقف عنها، ضحك وقال: «لن تستطيعي التوقف». فقلت: «سأتوقف عنها». وتوقفت عن تناولها ذلك اليوم ولم أنظر إلى الخلف مرة أخرى، ولم يكن لديَّ أي برنامج لإعادة التأهيل أو أي مساعدة خارجية أو نظام دعم. كان زوجي يضحك، محاولاً أن يثنيني عن عزمي حتى أعود لتناولها من جديد، وبعد ذلك رُزقت بولدي الصغير. تغيّرت نظرتي إلى الحياة بأكملها. فقد أحببتُ ذلك الطفل الصغير الرائع والذي يحتاج إلى أم صالحة، أحببته كثيراً. فأردت تغيير كل شيء كنت قد ركزت عليه سابقاً، لأجله.

كنت في السابق قادرة على فعل أي شيء أريد أن أقوم به، فقد كنت جزءاً من مشاهد هوليوود التي يرغب الجميع بأن يكون جزءاً منها. لم أكن شخصاً جيداً، كنت في السابق، أشرب الكحول وأتعاطى المخدرات. ولكنني لم أعد أريد القيام بهذه الأمور بعد الآن.

٣١٢

قمتُ بالبحث عن الإِسلام لفترة قبل أن أصبح مسلمة، أردتُ أن أعرف وبشكلٍ أساسي سبب كراهية العالم للمسلمين بهذا القدر، لأنني رأيت ما رأيتُ في نشرات الأخبار، ورأيتُ الظلم والعنف وهذا ما دفعني للبحث عن الحقيقة ولمعرفة ما إذا كان الإِسلام كذلك. بدأتُ البحث عن الموضوع، وكلما بحثت أكثر كلما غصت أعمق في الموضوع. فوجدتُ الحقيقة.

تفاجأ الكثير من الناس عندما تخليتُ عن كل الملذات السابقة لأجل أن أكون مسلمة. والغريب هو أنني عندما نطقت الشهادتين أسست بتلاشي الرغبات للقيام بتلك الأمور وبشكل كامل. إنه لشيء رائع أن أستمتع وأشعر بالسلام في قلبي كوني مسلمة.

أعتقد أن الشيء الأساسي الذي أثار إعجابي بالإِسلام هو احترام المرأة. فهناك الكثير من الاحترام للمرأة والأمور التي تقوم بها النساء، حياتنا نحن النساء ليست سهلة، فلدينا الكثير لنفكر فيه ونقلق بشأنه، كعائلاتنا وأزواجنا وأطفالنا. فتربية الأطفال هو أمر صعب جداً، بالإضافة إلى الأعمال المنزلية والطبخ والاعتناء بأزواجنا.. إنها وظيفة صعبة.

وفي الواقع فإن الإِسلام يحترم المرأة لتلك الأسباب. كان سبباً لفصلنا عن الرجال في المساجد حتى لا يتشتت الرجال. يفهم الإِسلام القوة الكامنة في جاذبيتنا ومظهرنا وهو ما يتأثر به الرجال، والإِسلام يحترم هذا الأمر. ما إن أدركتُ هذا حتى تمكنت الفكرة مني وأردتُ أن أصبح مسلمة. اعتناقي للإِسلام أشعرني بالاختلاف فقد جعلني أشعر بالسلام المطلق. كنت في السابق أشعر بعدم الاستقرار، فالكثير من الأشياء كانت في حالة عدم استقرار، والسبب في هذا هو عدم اتخاذ قرار بشأنها. لم يكن لديَّ أيَّ هدف في ذهني ولم يكن هناك سبب لوجودي، لكن اعتناقي للإِسلام أعطاني السلام والأمان والتوازن وهو ما احتجت إليه في حياتي، إسلامي جعل من الأشياء حقيقة، وتستحق أن أكون هنا من أجلها، فأخيراً صار هناك هدف لحياتي وأنا أفهم الآن ما هو الغرض منها. لا نملك الفرصة دوماً للالتقاء بالناس الذين نحتاجهم بصورة جوهرية لنفهمهم. هذا ما جعلني أتردد على المسجد لأتقرب إلى الناس وأفهمهم. وكلما زاد ترددي إلى المسجد، كلما ازداد عدد النساء اللواتي أحطن بي واعتنين بي ومنحنني العطف الموجود في الإِسلام.

٣١٣

لم أفكر أبداً ولو لمرة واحدة في حياتي بأني سأصبح مسلمة على الإطلاق. فقناعاتي تجاه المسلمين كانت مغلوطة للغاية فأنا لم أحبهم، فقد كنت أعتقد بأنهم سيئون ولم أكن لأفكر ولو لمرة بأني سأكون واحدة منهم. ولكن اليوم أنا فخورة وسعيدة جداً، وأريد أن أرتدي الحجاب ليعرف الناس أني مسلمة، حتى لو كرهوني فأنا لا أهتم. أنا أريد أن أبيِّن لهم أن الله موجود في أي شخص وليس فقط في الشرق أوسطيين.

٣١٤

راكيل: مسلمة أميركية...

ضابطة شرطة سابقة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إسمي راكيل، وقد اعتنقت الإسلام.

لقد كنت ضابطة شرطة في مدينة ديترويت وعملت هناك منذ عام 1996 وحتى عام 2004 وقد أُطلق علَيّ النار عام 2002، وكان ذلك أثناء تأدية وظيفتي وكدت أفارق الحياة.

لم أكن أذهب إلى الكنيسة في واقع الأمر، لقد نشأت في منزل مسيحي، فأبواي قسين مسيحيين، وقرأت الكثير عن الكاثوليكية.

لقد لاحظت أن الإسلام منطقي من الناحية الفكرية، أنا لم أحلل الأديان الأخرى وأدرسها، إلّا أنها تبدو وكأنها تحمل الكثير من صنع الإنسان، وأفكاره بدلاً من شريعة الله الأصلية، وهذا كان يزعجني كثيراً. ثم وجدت الإسلام، أكثر دقة تاريخياً ومن حيث أصالة النصوص، ولم يتم تشويهه من خلال الكثير من الترجمات المختلفة.

أعتقد أنه في عام 2002، تم إنقاذ حياتي لسبب، وأعتقد أن هذا السبب هو أن أتمكن من اعتناق الإسلام وأن أصبح مسلمة. لم أكن أعرف كيف أعبد الله، لم أعرف ما هو الدين الذي ينبغي أن أؤمن به، حتى التقيت ببعض الأصدقاء المسلمين، وقد حدثوني باستفاضة، وفسَّروا لي الكثير. لقد كنت أشعر بالقلق حيال إعلان الشهادة لأنني لا أعرف الكثير من الكلمات الإسلامية حتى الآن، فساندتني إحدى الأخوات التي كانت ترعاني في المسجد، وساعدتني حتى أعلن شهادتي وكان الأمر رائعاً فعلاً. لقد استمتعت بمجرد الإعلان أني أشهد أن لا لا إله إلّا الله أمام كل من في المسجد وكان ذلك أبرز الأحداث بالنسبة لي. لم أعد أخاف الموت فيجب أن لا نخشى إلّا الله، ونتحلى بالإيمان، لأنَّ الله واحد وأنا أعرف ذلك لأنني كنت على شفير الموت ولو كنت قد توفيت ذلك اليوم، لا أعرف إن كنت في هذه الحالة سيكون مصيري إلى نار جهنم أم لا، أما الآن فتملأني الثقة والطمأنينة والسعادة لأنني أعرف مصيري إن حدث لي شيء اليوم.

٣١٥

كان سيصيبني الجنون إن تابعت عملي كضابطة شرطة، لأن الناس يهاجمون المسلمين في ديترويت دون سبب على الإطلاق، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، كان الأمر فظيعاً وقد أزعجني، وكنت أردّ بأن كونهم مسلمين لا يعني أنهم متطرفون حيث أزعجني ما رأيت - كضابطة شرطة - في الشوارع والأسلوب الذي كانت تتم به معاملتهم فقد كان في ذلك انعدام للضمير.

أعرف أن تعلُّم لغة جديدة قد يكون محبطاً للبعض، فهي في الأساس ثقافة جديدة، وليست ديناً فحسب، بل أسلوب حياة. وبالنسبة لي لم يكن ذلك محبطاً، كل ما في الأمر هو رغبتي في تعلمها بسرعة أكبر، وأريد أن أتقنها بمفردي، لكن هذا ليس سهلاً وعلَيَّ أن أتعلم كل شيء تقريباً عبر الإنترنت حتى كيفية ارتداء الحجاب، إنها تجربة مذهلة. بدأت أمتنع عن الكثير من المحرمات كشرب الكحول ولم أعد أتناول لحم الخنزير، وبالطبع أشتري الآن لحماً حلالاً. أصبحت في الأربعين وكنت أعرف أنني أرغب في إدخال هذه التغييرات إلى حياتي، وآن الأوان لأنعم بالسلام والهدوء في حياتي وأتقرب إلى الله، وكنت مستعدة تماماً لهذا التغيير وكنت أعرف أن هذا ما تفتقده حياتي. عندما أصلي، أشعر أنَّ الصلاة مؤثرة جداً وأشعر بقدر هائل من الحماية.

أقرأ القرآن الكريم كل يوم، وأجد فيه آداب الإسلام وأتعلم شيئاً جديداً، والناس يقدمون الكثير من المساعدة، فبالرغم من اختلاف العرق، لا يصدر الناس عليك أحكاماً إذا دخلت وأنت أمريكي. بل يقدمون الكثير من الدعم، فالكل يعاملك بكل لطف ويساعد في تعليمك وتوجيهك.

أكثر ما يعجبني في الإسلام هو الحجاب، فأنا أستمتع به، لأكون صادقة تماماً، لا سيما هنا في لاس فيغاس حيث ينظر الرجال إلى النساء بشكل غريب وهذا يثير الخوف. وهكذا أشعر بمزيد من الراحة والأمان. أما في ما يتعلق بإخبار أصدقائي عن اعتناقي الإسلام، لست متأكدة من ردود أفعالهم فمثلاً أفضل صديقاتي من الطفولة تعمل في الواقع في الكنيسة الكاثوليكية، وأعرف أن رد فعلها لهذا سيكون سيئاً، وقد لا نكون أصدقاء بعد الآن. والبعض أظهروا لي الكثير من الدعم أو طرحوا أسئلة مثيرة للاهتمام كذلك، فكان من اللطيف أن أتمكن من أن أنقل أفكاري لهم. من أبرز الأسئلة التي طرحها أصدقائي بصفة خاصة، سواء من الرجال أو النساء، لماذا تغطين رأسك؟ ولماذا تغطين ذراعيك؟

٣١٦

لا سيما عندنا في لاس فيغاس، لأن المجتمع هنا مختلف للغاية مقارنة حتى بالمجتمعات الأمريكية العادية، الناس هنا يرتدون ألبسة مكشوفة خاصة النساء، فقلت بكل بساطة، الأمر يتعلق بالاحتشام، وقد لاحظت أن الناس ينظرون إليّ بشكل مختلف، حتى أن بعض أصدقائي ذكروا أن بعض الناس ينظرون إليّ بمزيد من الإحترام لأنّ الرجال لا ينظرون إليّ كشيء، بل ينظرون إلى وجهي. في ما يتعلق بأفراد أسرتي فهو سيف ذو حدين، إنني أفتقدهم كأشخاص، لكنني لا أفتقد دينهم على الإطلاق. وقد كانوا في غاية القسوة معي، فقد كانت لديّ تجارب رهيبة ومخيفة للغاية، كان والداي يصطحبانني منذ صغري لحضور ممارسات طرد الأرواح الشريرة. فكان لذلك أثر عاطفي هائل على نفسي طوال الوقت. والداي لا يعرفان أنني اعتنقت الإسلام، لم يكن أمامي سوى خيار واحد في رأيهما، وكان إما اختيار أن أكون مسيحية ذات شخصية جذابة مثلهما أو لا يحترمانني مطلقاً وقد أقصياني من العائلة وكان ذلك قبل أن أعتنق الإسلام.

أفضِّل أن تكون لي أسرة مسلمة وأن يكون الله في حياتي، الله الحق، وليس مجموعة من القواعد والقوانين التي أرساها البشر، لقد تسبب دينهما بالكثير من الألم لي، لكن هذا الدين ليس كذلك.

أنا أريد أن أنشر هذا الدين، وأنشر الحب وأنشر السعادة وأنشر السلام، وأوضح للناس أنه يلزم القضاء على كل هذه النماذج النمطية، وأن الإسلام ليس إرهاباً، وأنه رائع للغاية وهذا ما أرغب أنا شخصياً في أن أوضحه للناس.

٣١٧

أسلم بعد جنازة صديقه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وُلِدتُ وترعرعت في مدينة هاليفاكس في نوفا سكوتيا، أبي رجل أبيض من منطقة برنس إدوارد في كندا وأمي امرأة سوداء من مجتمع يُدعى لوكاس فيل في نوفا سكوتيا.

أمي كانت مسيحية ولقد اعتدت الذهاب معها إلى الكنيسة، وحتى عندما توقفت هي كنت أنا الوحيد من أفراد عائلتي الذي يذهب إلى هناك، عندما كبرت وأصبحت في مرحلة آخر المراهقة، توقفت عن الذهاب إلى الكنيسة، فلم أكن مهتمّاً بمفهوم الدين.

لا زلت أؤمن بالله والعديد من المعتقدات الدينية المسيحية لكنني لم أؤمن بهذا التنظيم الديني.

لقد كنت أعيش في منطقة دارتموت، هي تقع على ميناء مدينة هاليفاكس، ترعرعت هناك حيث كان يوجد عائلة باكستانية كبيرة مسلمة، كنت صديقاً لهم وتعلّمت منهم عن الإسلام بعض الأشياء، فقد كان أحد أفرادها متديّناً، فقد كنت أراه دائماً يذهب إلى المسجد ويصلّي، كان عمري 16 سنة تقريباً عندما أصبحتُ مهتمّاً بالدين الإسلامي وبدأت بالاستفسار عنه، من أصدقائي. وحين بلغت السابعة عشرة - وفي الصيف الذي ما بين الأول الثانوي والثاني الثانوي - انتقلت مع أبي وزوجته من دارتموت للعيش في هاليفاكس، حيث كان هناك العديد من العرب المسلمين، وكانت هذه النقلة بمثابة الصدمة الثقافية بالنسبة لي، لأنني كنت أعيش في كول هاربور، حيث المسلمون قلّة لا تراهم في كل مكان، وبالتالي لا ترى الحجاب أو أيّ شيء من هذا القبيل، بينما في بدفورد يوجد العديد من المسلمين العرب الذين يمكنك معرفتهم بسيماهم. بعد فترة من وصولي إلى هناك، عرف أحد الإخوة العراقيين أنني مهتم بالإسلام فجاء وقال لي بأنهم يقيمون صلاة الجمعة كل أسبوع في المدرسة الثانوية التي كنت أرتادها في وقت استراحة الغداء، فدعاني.

ذهبنا إلى هناك يوم الجمعة والحمد لله كانت تجربة جيدة جداً. كان الخطيب شاباً يافعاً مرحِّباً ومضيافاً وصلّيت معهم على الرغم من أنني لم أعِ ما أفعل، فلقد كنت أقلّدهم. بعد الصلاة تحدّثت إلى الخطيب ورجل آخر كان يأتي للصلاة كل جمعة.

٣١٨

وفي أحد الأيام وبعد انتهائنا من الصلاة سألني ذلك الرجل: «ما رأيك بالإسلام؟» فقلت له: «أنا أؤمن بالدين الإسلامي وأعتقد أنه الدين الصحيح والطريقة المُثلى للحياة» فأجابني: «إذاً يجب أن تصبح مسلماً!» تفاجأت حينها لأنني كنت صغيراً ولا زال أمامي الكثير لأتعلّمه. قال لي: «يجب أن تُسلم لأنك لا تعلم متى ستموت» عندها ضحكت لأنني كنت أبلغ من العمر السابعة عشرة فقط وما زلت صغيراً على الموت، سأموت عندما أصبح جَدَّاً في الثمانينات ويمتلئ شعري شيباً وأحفادي من حولي، فلم أكترث لما كان يقوله.

ذهبت إلى هناك 4 أو 5 مرات بعدها، إلى أن جاءت إجازة الصيف فلم أعد أذهب إلى المدرسة. لكن في يوم من أيام الإجازة الصيفية، كنت أعمل في مطعم، حيث تلقّينا اتصالاً مفاجئاً في وقت الإغلاق من المديرة، التي أخبرتنا فيما بعد أنَّ خالد توفي في حادث اصطدام سيارة. من هو خالد؟ خالد هو أحد الإخوة الفلسطينيين كان يعمل معنا في المطعم لمدة قصيرة وكان صديقي أيضاً فلقد كنا نرتاد نفس المدرسة وتخرجّنا منها معاً. عندما سمعت الخبر لم أصدّقه لأوّل وهلة. هاتفتُ المديرة التي نقلت إلينا الخبر وعندما سمعت صوتها تبكي عرفت حينها بأنه قد مات فعلاً.

لم أستوعب ما الذي يحدث في ذلك الوقت، لكنني في طريقي إلى البيت ماشياً، انهرت باكياً. كانت المرة الأولى التي عرفت فيها أنَّ أحداً توفي في نفس عمري، فكلانا كنا نبلغ الثامنة عشرة من العمر، فقد صدمتني هذه الفاجعة في الصميم..

يوم دفن الجثّة، تعلّمت كيفية الوضوء حيث هاتفت صديقي وعلّمني كيف أتوضأ. وذهبنا أنا وصديقي إلى المسجد في دارتموت لصلاة الجنازة ثم بعد ذلك توجهنا إلى مقبرة المسلمين.

كان الجو مفعماً بالحزن فإخوته وأبوه كانوا هناك والجميع منخرط في البكاء.

عندما وضعوا التراب فوق جثمانه بدأت أنا بالبكاء الشديد، أثناء ذلك شاهدت الشيخ الذي قال لي يجب أن تسلم لأنك لا تعلم متى ستموت. كان هذا بمثابة إشارة لي من عند الله أني قد أموت قريباً وأنَّ كلام الشيخ كان صحيحاً وأنني يجب أن أسلم.

٣١٩

ذهبت إليه مباشرة وأخبرته أنني أريد أن أسلم فقال لي: «أهلاً أليكس، كيف حالك؟ من الرائع رؤيتك مرة أخرى، أتمنى أنك ما زلت مهتمّاً بالإسلام». وسبحان الله في تلك اللحظة، وفي ذلك المكان عند المسجد بجانب المقبرة قلت: «أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله».

بعد ذلك مباشرةً حان وقت صلاة المغرب، وسألني أحد الإخوة إذا كنت أعرف كيفية الوضوء، فقلت نعم. ثم ذهبت إلى دورة المياه لأتوضأ لكنني نسيت مراحل الوضوء فمكثت هناك وقتاً طويلاً محاولاً التذكر. وعندما فرغت من الوضوء كانوا قد انتهوا من صلاة المغرب لكن الشيخ لم يصلِّ بعد وكان بانتظاري ثم صلّينا معاً والحمد لله نشأت بيننا صداقة طيبة من بعد ذلك، فقد استمريت في مقابلته يومياً بعد ذلك لمدة أسبوع حيث علمني سورة الفاتحة وأركان الإسلام.

قبل الإسلام لم أكن أعرف ما الذي يجب أن أفعله وما الذي أريده وما الطريقة المُثلى للعيش.

كنت أعيش وفقاً لفلسفتي الخاصة منجرفاً إلى العديد من العادات السيئة ولكن الحمد لله هداني ربي إلى الطريق الصحيح قبل الوقوع في الطريق السيء.

الكثير قد يجادل بأنَّ السبب وراء اعتناقي الدين الإسلامي هو عاطفتي. ولكن لم تكن الأسباب كذلك، لأنني كنت مقتنعاً أصلاً بأنَّ الدين الإسلامي هو الدين الحق لكنني كنت بحاجة إلى دفعة في الاتجاه الصحيح. فهذه الحادثة جعلتني أعي أنني قد أموت في أي دقيقة وكانت الحادثة إشارة لي بما أنني كنت مقتنعاً بالإسلام فلماذا أنتظر حتى أبلغ العشرين أو الثلاثين أو الأربعين من عمري؟ ولهذا أسلمت وبذلت جهداً في تعلّم الإسلام وأركانه ومبادئه.

أتوق إلى شهر رمضان هذا العام، وأستمتع باختباره مجدداً. نؤدي الشعائر الدينية بشكل أفضل كقراءة الأدعية والذهاب إلى المسجد دوماً وتلاوة القرآن الكريم.

أنا الآن أكثر اقتناعاً من قبل بأنَّ الدين الإسلامي هو الدين الصحيح لأنني رأيت براهين القرآن الكريم ومعجزاته.

حياتي بعد الإسلام تحسّنت كثيراً، فالإسلام هداني إلى الاتجاه الصحيح للحياة وهو أن أعيش حياة مستقيمة ومتديّنة بعد أن كنت متخبطاً قبل ذلك.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423