الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 423
المشاهدات: 85383
تحميل: 7389


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 85383 / تحميل: 7389
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 7

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و ليس لك فيه إلّا الرسالة بل هم يظلمون بذلك آياتنا و يجحدونها.

فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات:( ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) في معنى قوله تعالى:( وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) (لقمان: ٢٣) و قوله:( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ ) (يس: ٧٦) و غير ذلك من الآيات النازلة في تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا على قراءة التشديد.

و أمّا على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنّهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه، و لا يبطلون حجّتك بحجّة و إنّما يظلمون آيات الله بجحدها و إليه مرجعهم.

و قوله:( وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) كان ظاهر السياق أن يقال: و لكنّهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أنّ الجحد منهم إنّما هو عن ظلم منهم لا عن قصور و جهل و غير ذلك فليس إلّا عتوّاً و بغياً و طغياناً و سيبعثهم الله ثمّ إليه يرجعون.

و لذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلّم إلى الغيبة فقيل:( بِآياتِ اللَّهِ ) و لم يقل: بآياتنا، للدلالة على أنّ ذلك منهم معارضة مع مقام الاُلوهيّة و استعلاء عليه و هو المقام الّذي لا يقوم له شي‏ء.

و قد قيل في تفسير معنى الآية وجوه اُخرى:

أحدها: ما عن الأكثر أنّ المعنى: لا يكذّبونك بقلوبهم اعتقاداً، و إنّما يظهرون التكذيب بأفواههم عناداً.

و ثانيها: أنّهم لا يكذّبونك و إنّما يكذّبونني فإنّ تكذيبك راجع إليّ و لست مختصّاً به، و هذا الوجه غير ما قدّمناه من الوجه و إن كان قريباً منه، و الوجهان جميعاً على قراءة التشديد.

و ثالثها: أنّهم لا يصادفونك كاذباً تقول العرب: قاتلناهم فما أجبنّاهم أي ما صادفناهم جبناء، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‏ ما كُذِّبُوا ) إلى آخر الآية. هداية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سبيل من تقدّمه من الأنبياء، و هو سبيل الصبر في ذات الله،

٦١

و قد قال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (الأنعام: ٩٠).

و قوله:( حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) بيان غاية حسنة لصبرهم، و إشارة إلى الوعد الإلهيّ بالنصر، و في قوله:( وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ) تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد و حتم له، و إشارة إلى ما ذكره بقوله:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) (المجادلة: ٢١)، و قوله:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) (الصافّات: ١٧٢).

و وقوع المبدّل في قوله:( وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ) في سياق النفي ينفي أيّ مبدّل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدّل مشيّته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه و يقهره على خلاف ما شاء فيبدّل ما أحكم و يغيّره بوجه من الوجوه.

و من هنا يظهر أنّ هذه الكلمات الّتي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل اُمور خارجة عن لوح المحو و الإثبات، فكلمة الله و قوله و كذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الّذي لا مطمع في تغييره و تبديله، قال تعالى:( قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ( ص: ٨٤) و قال تعالى:( وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ) (الأحزاب: ٤) و قال تعالى:( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) (يونس: ٥٥) و قال تعالى:( لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ ) (الزمر: ٢٠) و قد مرّ البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى و ما يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى:( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ) (البقرة: ٢٥٣).

و قوله في ذيل الآية:( وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) تثبيت و استشهاد لقوله:( وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) إلخ، و يمكن أن يستفاد منه أنّ هذه السورة نزلت بعد بعض السور المكّيّة الّتي تقصّ قصص الأنبياء كسورة الشعراء و مريم و أمثالهما، و هذه السور نزلت بعد أمثال سورة العلق و المدّثّر قطعاً فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة الثالثة من السور النازلة بمكّة قبل الهجرة، و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ - إلى قوله -فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) قال الراغب: النفق الطريق النافذ و السرب في الأرض النافذ فيه قال:( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ ) ، و منه نافقاء اليربوع، و قد نافق اليربوع و نفق، و منه النفاق و هو الدخول في

٦٢

الشرع من باب و الخروج عنه من باب، و على ذلك نبّه بقوله:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أي الخارجون من الشرع، و جعل الله المنافقين شرّاً من الكافرين فقال:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ، و نيفق السراويل معروف، انتهى.

و قال: السلّم ما يتوصّل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثمّ جعل اسماً لكلّ ما يتوصّل به إلى شي‏ء رفيع كالسبب قال تعالى:( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) ، و قال:( أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ ) ، و قال الشاعر: و لو نال أسباب السماء بسلّم. انتهى.

و جواب الشرط في الآية محذوف للعلم به، و التقدير كما قيل: و إن استطعت أن تبتغي كذا و كذا فافعل.

و المراد بالآية في قوله تعالى:( فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) الآية الّتي تضطرّهم إلى الإيمان فإنّ الخطاب عنى قوله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ) إلخ، إنّما اُلقي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق القرآن الّذي هو أفضل آية إلهيّة تدلّ على حقّيّة دعوته، و يقرب إعجازه من فهمهم و هم بلغاء عقلاء فالمراد أنّه لا ينبغي أن يكبر و يشقّ عليك إعراضهم فإنّ الدار دار الاختيار، و الدعوة إلى الحقّ و قبولها جاريان على مجرى الاختيار، و إنّك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الإيمان و تلزمهم على ذلك فإنّ الله سبحانه لم يرد منهم الإيمان إلّا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الإيمان و الطاعة، و لو شاء الله لآمن الناس جميعاً فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس و لا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف الإلهيّة.

و أمّا ما احتمله بعضهم: أنّ المراد: فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية الّتي أرسلناك بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية و خاصّة قوله:( وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) فإنّه ظاهر في الاضطرار.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالمشيّة أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الإيمان فيضطرّوا إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة.

لكنّه سبحانه فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيّته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى:( وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها، وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي

٦٣

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (السجدة: ١٣) يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله:( قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( ص: ٨٥) فبيّن تعالى أنّ عدم تحقّق مشيّته لهداهم جميعاً إنّما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنّه سيغويهم أجمعين إلّا عباده منهم المخلصين.

و قد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصّة آدم و إبليس:( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ، وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (الحجر: ٤٣) و قد نسب ذلك إليهم إبليس أيضاً فيما حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة:( وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ - إلى أن قال -إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) (إبراهيم: ٢٢).

فالآيات تبيّن أنّ المعاصي و منها الشرك تنتهي إلى غواية الإنسان و الغواية تنتهي إلى نفس الإنسان، و لا ينافي ذلك ما يظهر من آيات اُخر أنّ الإنسان ليس له أن يشاء إلّا أن يشاء الله منه المشيّة كقوله تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا، وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) (الإنسان: ٣٠)، و قال تعالى:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (التكوير: ٢٩).

فمشيّة الإنسان في تحقّقها و إن توقّفت على مشيّة الله سبحانه إلّا أنّ الله سبحانه لا يشاء منه المشيّة إلّا إذا استعدّ لذلك بحسن سريرته، و تعرّض منه لرحمته، قال تعالى:( وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) (الرعد: ٢٧) أي انعطف و رجع إليه، و أمّا الفاسق الزائغ قلبه المخلد إلى الأرض المائل إلى الغواية فإنّ الله لا يشاء هدايته و لا يغشاه برحمته كما قال:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (البقرة: ٢٦) و قال:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (الصفّ: ٥) و قال:( وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ ) (الأعراف: ١٧٦).

و بالجملة فالدعوة الدينيّة لا تسلك إلّا سبيل الاختيار، و الآيات الإلهيّة لا تنزل

٦٤

إلّا مع مراعاة الاختيار، و لا يهدي الله سبحانه إليه إلّا من تعرّض لرحمته و استعدّ لهدايته من طريق الاختيار.

و بهذا تنحلّ شبهة اُخرى لا تخلو عن إعضال، و هي أنّا سلّمنا أنّ إنزاله تعالى آية تجبرهم على الإيمان و تضطرّهم إلى قبول الدعوة الدينيّة ينافي أساس الاختيار الّذي تبتني عليه بنية الدعوة الدينيّة لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعاً على حدّ مشيّته إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصّة أن يشاءوا ثمّ ينزّل آية تسوقهم إلى الهدى، و تلبسهم الإيمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم و حرّيّتهم في العمل.

و ذلك أنّه و إن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنّه ينافي الناموس العامّ في عالم الأسباب، و نظام الاستعداد و الإفاضة فالهدى إنّما يفاض على من اتّقى الله و زكّى نفسه و قد أفلح من زكّاها و لا يصيب الضلال إلّا من أعرض من ذكر ربّه و دسّي نفسه و قد خاب من دسّاها، و أصابه الضلال هو أن يمنع الإنسان الهدى قال تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (الإسراء: ٢٠) أي ممنوعاً فالله سبحانه يمدّ كلّ نفس من عطائه بما يستحقّه فإن أراد الخير اُوتيه و إن أراد الشرّ اُوتيه أي منع من الخير، و لو شاء الله لكلّ نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير و تنكبّ على الإيمان و التقوى من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العامّ و إفساد أمر الأسباب.

و تؤيّد ما ذكر الآية التالية أعني قوله تعالى:( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) إلى آخر الآية على ما سيجي‏ء من معناها.

قوله تعالى: ( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) الآية كالبيان لقوله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ) إلى آخر الآية فإنّ ملخّصه أنّك لا تستطيع صرفهم عن هذا الإعراض، و الحصول على آية تسوقهم إلى الإيمان، فبيّن في

٦٥

هذه الآية أنّهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم و لا سمع حتّى يشعروا بمعنى الدعوة الدينيّة و يسمعوا دعوة الداعي و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذه الهياكل المتراءاة من الناس صنفان: صنف منهم أحياء يسمعون، و إنّما يستجيب الّذين يسمعون، و صنف منهم أموات لا يسمعون و إن كانوا ظاهراً في صور الأحياء و هؤلاء يتوقّف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله، و سوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) (السجدة: ١٢)

فالكلام مسوق سوق الكناية، و المراد بالّذين يسمعون المؤمنون و بالموتى المعرضون عن استجابة الدعوة من المشركين و غيرهم، و قد تكرّر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة و السمع، و وصف الكفّار بالموت و الصمم كما قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) (الأنعام: ١٢٢) و قال تعالى:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏ وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) (النمل: ٨١) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قد تكرّر في بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف الّتي حملها الجمهور من المفسّرين على الكناية و التشبيه، و أنّ لها معنى من الحقيقة فليراجع.

و في الآية دلالة على أنّ الكفّار و المشركين سيفهّمهم الله الحقّ و يسمعهم دعوته في الآخرة كما فهّم المؤمنين و أسمعهم في الدنيا، فالإنسان مؤمناً كان أو كافراً لا مناص له عن فهم الحقّ عاجلاً أو آجلاً.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و

٦٦

جهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشقّ ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ - إلى قوله -نَفَقاً فِي الْأَرْضِ ) ، يقول: سرباً.

أقول: و الرواية على ما بها من ضعف و إرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالّة على نزول السورة دفعة، و إن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثمّ الإشارة بالآية إلى السبب المحقّق بعنوان الانطباق‏.

٦٧

( سورة الأنعام الآيات ٣٧ - ٥٥)

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ  قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ٣٧) وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم  مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ( ٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ  مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ( ٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ( ٤٢) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( ٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا  وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( ٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ  انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ( ٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ( ٤٧) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ  فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا

٦٨

يَفْسُقُونَ( ٤٩) قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ  إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ  أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ( ٥٠) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ  لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( ٥١) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ  مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ( ٥٢) وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا  أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ( ٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ  كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٥٤) وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ( ٥٥)

( بيان)

احتجاجات متنوّعة على المشركين في أمر التوحيد و آية النبوّة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ ) إلى آخر الآية، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لمّا صدر هذا القول منهم و بين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الّذي كان ينزل عليهم سورة سورة و آية آية، و يتلى عليهم حيناً بعد حين تعيّن أنّ الآية الّتي كانوا يقترحونها بقولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) هي آية غير القرآن، و أنّهم كانوا لا يعدّونه آية تقنعهم و ترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات و التهوّسات.

٦٩

و قد حملهم التعصّب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنّه ليس بربّهم، فقالوا:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و لم يقولوا: من ربّنا أو من الله و نحوهما إزراءً بأمره و تأكيداً في تعجيزه أي لو كان ما يدّعيه و يدعو إليه حقّاً فليغر له ربّه الّذي يدعو إليه و لينصره و لينزل عليه آية تدلّ على حقّيّة دعواه.

و الّذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أنّ الوثنيّة يرون لآلهتهم استقلالاً في الاُمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدّعون لهم من مقام الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبّره من الأمر من غير أن يختلّ تدبيره من ناحية غيره، و كذلك إله البرّ و إله البحر و إله الحبّ و إله البغض و سائر الآلهة، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرّف فيه فقد قسّم الأمر بين أعضاده و إن كان هؤلاء شفعاءه و هو ربّ الأرباب، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدلّ على نفي اُلوهيّتها.

و كان يحضّهم على هذه المزعمة و يؤيّد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقّونه من يهود الحجاز أنّ يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شي‏ء من النظام الجاري، و خرق العادة المألوفة في عالم الأسباب.

و ثانيهما: أنّ الآيات النازلة من عندالله سبحانه إذا كانت ممّا خصّ الله به رسولاً من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنّما هي بيّنات تدلّ على صحّة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذوراً للناس المدعوّين كالعصا و اليد البيضاء لموسى و إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و خلق الطير لعيسى، و القرآن الكريم لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لكنّ الآية لو كانت ممّا اقترحها الناس فإنّ سنّة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها و إلّا نزل عليهم العذاب و لم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح و هود و صالح و غير ذلك، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك، كقوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) (الأنعام: ٨) و قوله:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ) (الإسراء: ٥٩).

٧٠

و قد اُشير في الآية الكريمة أعني قوله:( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى‏ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ، إلى الجهتين جميعاً.

فذكر أنّ الله قادر على أن ينزّل أيّ آية شاء، و كيف يمكن أن يفرض من هو مسمّى باسم( الله ) و لا تكون له القدرة المطلقة، و قد بدّل في الجواب لفظة( الربّ ) إلى اسم( الله ) للدلالة على برهان الحكم، فإنّ الاُلوهيّة المطلقة تجمع كلّ كمال من غير أن تحدّ بحدّ أو تقيّد بقيد فلها القدرة المطلقة، و الجهل بالمقام الاُلوهيّ هو الّذي بعثهم إلى اقتراح الآية بداعي التعجيز.

على أنّهم جهلوا أنّ نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم، و أنّ اجتراءهم على اقتراحها تعرّضٌ منهم لهلاك جمعهم و قطع دابرهم، و الدليل على أنّ هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات:( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) (الأنعام: ٥٨).

و في قوله تعالى:( نُزِّلَ ) و( يُنَزِّلَ ) مشدّدين من التفعيل دلالة على أنّهم اقترحوا آية تدريجيّة أو آيات كثيرة تنزّل واحدة بعد واحدة كما يدلّ عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله:( وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ - إلى أن قال -أَوْ تَرْقى‏ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) الآيات: (الإسراء: ٩٣) و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا ) (الفرقان: ٢١) و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) (الفرقان: ٣٢).

و روي عن ابن كثير أنّه قرأ بالتخفيف.

قوله تعالى: ( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) إلى آخر الآية، الدابّة كلّ حيوان يدّب على الأرض و قد كثر استعماله في الفرس، و الدبّ بالفتح و الدبيب هو المشي الخفيف.

و الطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، و جمعه الطير كالراكب، و الركب و الاُمّة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنّة واحدة أو زمان واحد

٧١

أو مكان واحد، و الأصل في معناها، القصد يقال: أمّ يؤمّ إذا قصد، و الحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء و نحوه من الاُمور الاجتماعيّة.

و الظاهر أنّ توصيف الطائر بقوله:( يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) محاذاة لتوصيف الدابّة بقوله:( فِي الْأَرْضِ ) فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان أرضيّ و لا هوائيّ، مع ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوّز فإنّ الطيران كثيراً ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أنّ الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله:( يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ )

( كلام في المجتمعات الحيوانيّة)

و الخطاب في الآية للناس، و قد ذكر فيها أنّ الحيوانات أرضيّة كانت أو هوائيّة هي اُمم أمثال الناس، و ليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة و عدد فإنّ الاُمّة لا تطلق على مجرّد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراريّ أو اختياريّ يقصده أفراده، و لا أنّ المراد مجرد كونها أنواعاً شتّى كلّ نوع منها يشترك أفراده في نوع خاصّ من الحياة و الرزق و السفاد و النسل و المأوى و سائر الشؤن الحيويّة فإنّ هذا المقدار من الاشتراك و إن صحّح الحكم بمماثلتها الإنسان لكنّ قوله في ذيل الآية:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) يدلّ على أنّ المراد بالمماثلة ليس مجرّد التشابه في الغذاء و السفاد و الإواء بل هناك جهة اشتراك اُخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله، و ليس ملاك الحشر إلى الله في الإنسان إلّا نوعاً من الحياة الشعوريّة الّتي تخدّ للإنسان خدّاً إلى سعادته و شقائه، فإنّ الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذّ الغذاء و أوفق النكاح و أنضر المسكن و لا يكون مع ذلك سعيداً في حياته لما ينكبّ عليه من الظلم و الفجور أو أن يحيط به جماع المحن و الشدائد و البلايا و هو سعيد في حياته مبتهج بكمال الإنسانيّة و نور العبوديّة.

بل حياة الإنسان الشعوريّة و إن شئت فقل: الفطرة الإنسانيّة و ما يؤيّدها من

٧٢

دعوة النبوّة تسنّ للإنسان سنّة مشروعة من الاعتقاد و العمل إن أخذ بها و جرى عليها و وافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا و الآخرة، و إن استنّ بها وحده سعد بها في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة معاً، و إن لم يعمل بها و تخلّف عن الأخذ ببعضها أو كلّها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا و الآخرة.

و هذه السنّة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير و الطاعة، و الزجر عن الشرّ و المعصية، و إن شئت قلت: الدعوة إلى العدل و الاستقامة، و النهي عن الظلم و الانحراف عن الحقّ فإنّ الإنسان بفطرته السليمة يستحسن اُموراً هي العدل في نفسه أو غيره، و يستقبح اُموراً هي الظلم على نفسه أو غيره ثمّ الدين الإلهيّ يؤيّدها و يشرح له تفاصيلها.

و هذا محصّل ما تبيّن لنا في كثير من الأبحاث السابقة، و كثير من الآيات القرآنيّة تفيد ذلك و تؤيّده كقوله تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) (الشمس: ١٠)، و قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (البقرة: ٢١٣).

و الإمعان في التفكّر في أطوار الحيوانات العجم الّتي تزامل الإنسان في كثير من شؤن الحياة، و أحوال نوع منها في مسير حياتها و تعيّشها يدلّنا على أنّ لها كالإنسان عقائد و آراءً فرديّة و اجتماعيّة تبني عليها حركاتها و سكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني الإنسان تقلّباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد و الآراء.

فالواحد منّا يشتهي الغذاء و النكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أنّ من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدّخره في ملكه، و أن يتزوّج و أن ينسل و هكذا، و أنّ من الممنوع المحرّم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمّل مصيبة الفقر و هكذا فيتحرّك و يسكن على طبق ما تخدّ له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق.

٧٣

كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظّمة الّتي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء و السفاد و المأوى بما لا نشكّ به في أنّ له شعوراً بحوائجه و ما يرتفع به حاجته، و آراءً و عقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع و دفع المضارّ كما في الإنسان، و ربّما عثرنا فيها من أنواع الحيل و المكائد للحصول على الصيد و النجاة من العدوّ من الطرق الاجتماعيّة و الفرديّة ما لم يتنبّه إليه الإنسان إلّا بعد طيّ قرون و أحقاب من عمره النوعيّ.

و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل و النحل و الأرضة على عجائب من آثار المدنيّة و الاجتماع، و دقائق من الصنعة و لطائف من السنن و السياسات لا تكاد توجد نظائرها إلّا في الاُمم ذوي الحضارة و المدنيّة من الإنسان.

و قد حثّ القرآن الكريم على معرفة الحيوان و التفكّر في خلقها و أعمالها عامّة كقوله تعالى:( وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (الجاثية: ٤) و دعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالأنعام و الطير و النحل و النمل.

و هذه الآراء و العقائد الّتي نرى أنّ الحيوان على اختلاف أنواعها في شؤن الحياة و مقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة و الزاجرة لم تخل عن استحسان اُمور و استقباح اُمور، و لم تخل عن معنى العدل أو الظلم.

و هو الّذي يؤيّده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أيّ نوع من الحيوان في أخلاقها، فكم بين الفرس و الفرس و بين الكبش و الكبش و بين الديك و الديك مثلاً من الفرق الواضح في حدّة الخلق أو سهولة الجانب و لين العريكة.

و كذا يؤيّده جزئيّات اُخرى من حبّ و بغض و عطوفة و رحمة أو قسوة أو تعدّ و غير ذلك ممّا نجدها بين الأفراد من نوع و قد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان، و وجدناها مؤثّرة في الاعتقاد بالحسن و القبح في الأفعال، و العدل و الظلم في الأعمال ثمّ إنّها مؤثّرة أيضاً في حياة الإنسان الاُخرويّة، و ملاكاً لحشره و محاسبة أعماله و الجزاء عليها بنعمة أو نقمة اُخرويّة.

و ببلوغ البحث هذا المبلغ ربّما لاح لنا أنّ للحيوان حشراً كما أنّ للإنسان

٧٤

حشراً فإنّ الله سبحانه يعدّ انطباق العدل و الظلم و التقوى و الفجور على أعمال الإنسان ملاكاً للحشر و يستدلّ به عليه كما في قوله تعالى:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ( ص: ٢٨) بل يعدّ بطلان الحشر في ما خلقه من السماء و الأرض و ما بينهما بطلاناً لفعله و صيرورته لعباً أو جزافاً كما في الآية السابقة على هذه الآية:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ( ص: ٢٧).

فهل للحيوان غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أنّ للإنسان حشراً إليه؟ ثمّ إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله و توزن و ينعّم بعد ذلك في جنّة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ و هل استقرار التكليف الدنيويّ عليه ببعث الرسل و إنزال الأحكام؟ و هل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنّه إنسان؟.

هذه و جوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف:

أمّا السؤال الأوّل (هل للحيوان غير الإنسان حشر؟) فقوله تعالى في الآية:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) يتكفّل الجواب عنه، و يقرب منه قوله تعالى:( وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (كوّرت: ٥).

بل هناك آيات كثيرة جدّاً دالّة على إعادة السماوات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجنّ و الحجارة و الأصنام و سائر الشركاء المعبودين من دون الله، و الذهب و الفضّة حيث يحمى عليهما في نار جهنّم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة و جنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة.

و أمّا السؤال الثاني، و هو أنّه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث و تحضر أعماله و يحاسب عليها فينعّم أو يعذّب بها فجوابه أنّ ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد و سوقهم إلى أمر بالإزعاج، و أمّا مثل السماء و الأرض و ما يشابههما من شمس و قمر و حجارة و غيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (إبراهيم: ٤٨) و قوله:( وَ الْأَرْضُ

٧٥

جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (الزمر: ٦٧) و قوله:( وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) (القيامة: ٩) و قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ، لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) (الأنبياء: ٩٩).

على أنّ الملاك الّذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحقّ قال تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (السجدة: ٢٥) و قوله:( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (آل عمران: ٥٥) و غير ذلك من الآيات.

و مرجع الجميع إلى إنعام المحسن و الانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله:( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) (السجدة: ٢٢) و قوله:( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (إبراهيم: ٤٨) و هذان الوصفان أعني الإحسان و الظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.

و يؤيّده ظاهر قوله تعالى:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) النحل: ٦١ فإنّ ظاهره أنّ ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهيّة كان ذلك لأنّه ظلم و الظلم شائع بين كلّ ما يسمّى دابّة: الإنسان و سائر الحيوانات فكان ذلك مستعقباً لأن يهلك الله تعالى كلّ دابّة على ظهرها هذا و إن ذكر بعضهم: أنّ المراد بالدابّة في الآية خصوص الإنسان.

و لا يلزم من شمول الأخذ و الانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور و الإرادة، و يرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسيّاته و روحيّاته، و الضرورة تدفع ذلك، و الآثار البارزة منها و من الإنسان تبطله.

و ذلك أنّ مجرّد الاشتراك في الأخذ و الانتقام و الحساب و الأجر بين الإنسان و غيره لا يقضي بالمعادلة و المساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقّة و المناقشة مجرى واحداً فيوقف العاقل و السفيه و الرشيد و المستضعف في موقف واحد.

٧٦

على أنّه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم و دقائق النباهة ما ليس بكلّ البعيد من مستوى الإنسان المتوسّط الحال في الفقه و التعقّل كالّذي حكى عن نملة سليمان بقوله:( حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى‏ وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (النمل: ١٨) و ما حكاه من قول هدهد لهعليه‌السلام في قصّة غيبته عنه:( فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) إلى آخر الآيات: (النمل: ٢٤) فإنّ الباحث النبيه إذا تدبّر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم و الشعور لها ثمّ قدّر زنته لم يشكّ في أنّ تحقّق هذا المقدار من الفهم و الشعور يتوقّف على معارف جمّة و إدراكات متنوّعة كثيرة من بساط المعاني و مركّباتها.

و ربّما أيّد ذلك ما حصّله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم و تربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال الّتي لا تكاد تظهر إلّا من موجود ذي إرادة لطيفة و فكر عميق و شعور حادّ.

و أمّا السؤال الثالث و الرابع أعني أنّه: هل الحيوان يتلقّى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه و وحي ينزل عليه؟ و هل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث ممّا لا فائدة فيه و لا نتيجة له إلّا الرجم بالغيب، و الكلام الإلهيّ على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرّض لبيان شي‏ء من ذلك، و لا يوجد في الروايات المأثورة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته صلوات الله و سلامه عليهم ما يعتمد عليه في ذلك.

فقد تحصّل أنّ المجتمعات الحيوانيّة كالمجتمع الإنسانيّ فيها مادّة الدين الإلهيّ ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانيّة و يمهّدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهّد دين الفطرة الإنسان للحشر و الجزاء، و إن كان المشاهد من حال

٧٧

الحيوان بالقياس إلى الإنسان - و تؤيّده الآيات القرآنيّة الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان و أفضليّته من عامّة الحيوان - أنّ الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانيّة و لا كلّف بدقائق التكاليف الإلهيّة الّتي كلّف بها الإنسان.

و لنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى:( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) يدلّ على أنّ المجتمعات الحيوانيّة الّتي توجد بين كلّ نوع من أنواع الحيوان إنّما تأسّست على مقاصد نوعيّة شعوريّة يقصدها كلّ نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور و الإرادة كالإنسان.

و ليس ذلك مقصوراً على المقاصد الطبيعيّة أعني مقاصد التغذّي و النموّ و توليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت و يتهيّأ به إلى حياة اُخرى ترتبط بالسعادة و الشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور و الإرادة.

و ربّما اعترض عليه أنّ القوم تسلّموا أنّ غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار، و لذلك يعدّ أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعيّة غير اختياريّة لما يشاهد من حالها أنّها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرّة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته، و الهرب إذا صادف ما يخافه من عدوّ غالب كالفأرة إذا رأت هرّة أو الغزالة إذا شاهدت أسداً فلا معنى للسعادة و الشقاوة الاختياريّتين في الحيوان غير الإنسان.

لكنّ التأمّل في معنى الاختيار و الحالات النفسيّة الّتي يتوسّل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختياريّة يدفع هذه الشبهة و ذلك أنّ الشعور و الإرادة الّذين يتمّ بهما فعل الإنسان الاختياريّ بالحقيقة إنّما اُودعا في الإنسان مثلاً لأنّه نوع شعوريّ يتصرّف في المادّة الخارجيّة للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه ممّا يضرّه، و لذلك جهّزته العناية الإلهيّة بالشعور و الإرادة فهو يميّز بشعوره الحيّ ما يضرّه ممّا ينفعه فإذا تحقّق النفع أراد ففعل فما كان من الاُمور بيّن النفع و لا يحتاج في الحكم بكونه ممّا ينتفع به إلى أزيد من وجدانه و حصول العلم به أراده من فوره و فعله و تصرّف فيه من غير

٧٨

توقّف كما في موارد الملكات الراسخة غالباً مثل التنفّس، و أمّا ما كان من الاُمور غير بيّن النفع موسوماً بنقص من الأسباب أو محفوفاً بشي‏ء من الموانع الخارجيّة أو الاعتقاديّة لم يكف مجرّد العلم بتحقّقه في إرادته و فعله لعدم الجزم بالانتفاع به.

فهذه الاُمور هي الّتي يتوقّف الانبعاث إليها إلى التفكّر مثلاً فيها من جهة ما معها من النواقص و الموانع و التروّي فيها ليميّز بذلك إنّما هل هي من قبيل النافع أو الضارّ؟ فإن أنتج التروّي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلّقة بها و فعلت كما لو كانت بيّنة النفع غير محتاجة إلى التروّي فيها، و ذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاءً يمكنه أن يسدّ به خلّة الجوع فربّما شكّ في أمره أنّه هل هو غذاء طيّب صالح لأن يتغذّى به أو أنّه غير صالح فاسد أو مسموم أو مشتمل على موادّ مضرّة؟ و أنّه هل هو ماله نفسه و لا مانع من التصرّف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم و نحوه أو مال غيره و لا يجوز التصرّف فيه؟ و حينئذ يتوقّف عن المبادرة إلى التصرّف فيه، و لا يزال يتروّى حتّى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقاً لما ينتفع فلا يتوقّع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرّف فيه.

و إن لم يشكّ في أمره و كان بيّناً عنده من أوّل الأمر أنّه طيّب صالح للتغذّي إرادة إذا علم بوجوده من غير تروّ أو تفكّر، و لم ينفكّ العلم به عن إرادة التصرّف فيه قطعاً.

فمحصّل حديث الاختيار أنّ الإنسان إذا لم يتميّز عنده بعض الاُمور الّتي يتصرّف فيها أنّها نافعة أو ضارّة ميّز ذلك بالتروّي و التفكّر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب، و أمّا لو تميّز من أوّل الأمر إرادة ففعله من غير مهل و لم يحتج إلى تروّ أصلاً فالإنسان يختار ما يرى نفعه بتروّ أو من غير تروّ و لا تروّي إلّا لرفع الموانع عن الحكم.

ثمّ إنّك إذا تأمّلت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادئ اختيارهم أعني الصفات الروحيّة و الأحوال الباطنيّة من شجاعة و جبن و عفّة و شره و نشاط و كسل و وقار و خفّة، و كذا في قوّة التعقّل و ضعفه و إصابة النظر و خطائه فكثيراً مّا يرى الشره نفسه مضطرّة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها

٧٩

لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهّر، و ربّما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمّة أو مقتلة عذراً لنفسه ينفي عنه الاختيار، و لا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر و أيّ زجر بدنيّ أمراً فوق الطاقة، و لا يرى لأيّ مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، و ربّما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصوّر، واه و لا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجّحات إلّا تلهّياً و لعباً، و أفعال الصبيان غير المميّزين اختياريّة معها بعض التروّي و لا يعبأ بها و بأمرها البالغ الرشيد، و كثيراً ما نعدّ في محاوراتنا فعلاً من أفعالنا اضطراريّاً أو إجباريّاً إذا قارن أعذاراً اجتماعيّة غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، و النومة يعتذر بالكسل و السارق أو الخائن يعتذر بالفقر.

و هذا الاختلاف الفاحش في مبادئ الاختيار و أسبابه و العرض العريض في مستوى الأفعال الاختياريّة هو الّذي بعث الدين و سائر السنن الاجتماعيّة أن يحدّوا الفعل الاختياريّ بما يراه المتوسّط من أفراد المجتمع الإنسانيّ اختياريّاً، و يبنوا على ذلك صحّة تعلّق الأمر و النهي و العقاب و الثواب و نفوذ التصرّف و غير ذلك، و يعذروا من لم يتحقّق فيه ما يتحقّق في الفعل الاختياريّ الّذي يأتي به الإنسان المتوسّط من المبادي و الأسباب، و هو المتوسّط من الاستطاعة و الفهم.

فهذا الوسط المعدود اختياراً النافي لاختياريّة ما دونه إنّما هو كذلك بحسب الحكم الدينيّ أو الاجتماعيّ المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع و إن كان الأمر بحسب النظر التكوينيّ أوسع من ذلك.

و الإمعان فيما تقدّم يعطي أن يجزم بأنّ الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة و إن كان أضعف ممّا نجده في المتوسّط من الناس من معنى الاختيار و ذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات و خاصّة الحيوانات الأهليّة من آثار التردّد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل و كذا الكفّ عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدلّ على أنّ في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل و الترك، و هو الملاك في أصل الاختيار و إن كان التروّي ضعيفاً فيها جدّاً غير بالغ حدّ ما نجده في الإنسان المتوسّط.

٨٠