الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88384 / تحميل: 8085
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٧

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

و ليس لك فيه إلّا الرسالة بل هم يظلمون بذلك آياتنا و يجحدونها.

فما في هذه الآية مع قوله في آخر الآيات:( ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) في معنى قوله تعالى:( وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) (لقمان: ٢٣) و قوله:( فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ ) (يس: ٧٦) و غير ذلك من الآيات النازلة في تسليتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا على قراءة التشديد.

و أمّا على قراءة التخفيف فالمعنى: لا تحزن فإنّهم لا يظهرون عليك بإثبات كذبك فيما تدعو إليه، و لا يبطلون حجّتك بحجّة و إنّما يظلمون آيات الله بجحدها و إليه مرجعهم.

و قوله:( وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) كان ظاهر السياق أن يقال: و لكنّهم، فالعدول إلى الظاهر للدلالة على أنّ الجحد منهم إنّما هو عن ظلم منهم لا عن قصور و جهل و غير ذلك فليس إلّا عتوّاً و بغياً و طغياناً و سيبعثهم الله ثمّ إليه يرجعون.

و لذلك وقع الالتفات في الكلام من التكلّم إلى الغيبة فقيل:( بِآياتِ اللَّهِ ) و لم يقل: بآياتنا، للدلالة على أنّ ذلك منهم معارضة مع مقام الاُلوهيّة و استعلاء عليه و هو المقام الّذي لا يقوم له شي‏ء.

و قد قيل في تفسير معنى الآية وجوه اُخرى:

أحدها: ما عن الأكثر أنّ المعنى: لا يكذّبونك بقلوبهم اعتقاداً، و إنّما يظهرون التكذيب بأفواههم عناداً.

و ثانيها: أنّهم لا يكذّبونك و إنّما يكذّبونني فإنّ تكذيبك راجع إليّ و لست مختصّاً به، و هذا الوجه غير ما قدّمناه من الوجه و إن كان قريباً منه، و الوجهان جميعاً على قراءة التشديد.

و ثالثها: أنّهم لا يصادفونك كاذباً تقول العرب: قاتلناهم فما أجبنّاهم أي ما صادفناهم جبناء، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‏ ما كُذِّبُوا ) إلى آخر الآية. هداية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سبيل من تقدّمه من الأنبياء، و هو سبيل الصبر في ذات الله،

٦١

و قد قال تعالى:( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) (الأنعام: ٩٠).

و قوله:( حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا ) بيان غاية حسنة لصبرهم، و إشارة إلى الوعد الإلهيّ بالنصر، و في قوله:( وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ) تأكيد لما يشير إليه الكلام السابق من الوعد و حتم له، و إشارة إلى ما ذكره بقوله:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) (المجادلة: ٢١)، و قوله:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) (الصافّات: ١٧٢).

و وقوع المبدّل في قوله:( وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ) في سياق النفي ينفي أيّ مبدّل مفروض سواء كان من ناحيته تعالى بأن يتبدّل مشيّته في خصوص كلمة بأن يمحوها بعد إثباتها أو ينقضها بعد إبرامها أو كان من ناحية غيره تعالى بأن يظهر عليه و يقهره على خلاف ما شاء فيبدّل ما أحكم و يغيّره بوجه من الوجوه.

و من هنا يظهر أنّ هذه الكلمات الّتي أنبأ سبحانه عن كونها لا تقبل التبديل اُمور خارجة عن لوح المحو و الإثبات، فكلمة الله و قوله و كذا وعده في عرف القرآن هو القضاء الحتم الّذي لا مطمع في تغييره و تبديله، قال تعالى:( قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ( ص: ٨٤) و قال تعالى:( وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ ) (الأحزاب: ٤) و قال تعالى:( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) (يونس: ٥٥) و قال تعالى:( لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ ) (الزمر: ٢٠) و قد مرّ البحث المستوفى في معنى كلمات الله تعالى و ما يرادفها من الألفاظ في عرف القرآن في ذيل قوله تعالى:( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ) (البقرة: ٢٥٣).

و قوله في ذيل الآية:( وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) تثبيت و استشهاد لقوله:( وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) إلخ، و يمكن أن يستفاد منه أنّ هذه السورة نزلت بعد بعض السور المكّيّة الّتي تقصّ قصص الأنبياء كسورة الشعراء و مريم و أمثالهما، و هذه السور نزلت بعد أمثال سورة العلق و المدّثّر قطعاً فتقع سورة الأنعام على هذا في الطبقة الثالثة من السور النازلة بمكّة قبل الهجرة، و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ - إلى قوله -فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) قال الراغب: النفق الطريق النافذ و السرب في الأرض النافذ فيه قال:( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ ) ، و منه نافقاء اليربوع، و قد نافق اليربوع و نفق، و منه النفاق و هو الدخول في

٦٢

الشرع من باب و الخروج عنه من باب، و على ذلك نبّه بقوله:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) أي الخارجون من الشرع، و جعل الله المنافقين شرّاً من الكافرين فقال:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) ، و نيفق السراويل معروف، انتهى.

و قال: السلّم ما يتوصّل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثمّ جعل اسماً لكلّ ما يتوصّل به إلى شي‏ء رفيع كالسبب قال تعالى:( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ) ، و قال:( أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ ) ، و قال الشاعر: و لو نال أسباب السماء بسلّم. انتهى.

و جواب الشرط في الآية محذوف للعلم به، و التقدير كما قيل: و إن استطعت أن تبتغي كذا و كذا فافعل.

و المراد بالآية في قوله تعالى:( فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ) الآية الّتي تضطرّهم إلى الإيمان فإنّ الخطاب عنى قوله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ) إلخ، إنّما اُلقي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق القرآن الّذي هو أفضل آية إلهيّة تدلّ على حقّيّة دعوته، و يقرب إعجازه من فهمهم و هم بلغاء عقلاء فالمراد أنّه لا ينبغي أن يكبر و يشقّ عليك إعراضهم فإنّ الدار دار الاختيار، و الدعوة إلى الحقّ و قبولها جاريان على مجرى الاختيار، و إنّك لا تقدر على الحصول على آية توجب عليهم الإيمان و تلزمهم على ذلك فإنّ الله سبحانه لم يرد منهم الإيمان إلّا على اختيار منهم فلم يخلق آية تجبر الناس على الإيمان و الطاعة، و لو شاء الله لآمن الناس جميعاً فالتحق هؤلاء الكافرون بالمؤمنين بك فلا تبتئس و لا تجزع بإعراضهم فتكون من الجاهلين بالمعارف الإلهيّة.

و أمّا ما احتمله بعضهم: أنّ المراد: فتأتيهم بآية هي أفضل من الآية الّتي أرسلناك بها أي القرآن فلا تلائمه سياق الآية و خاصّة قوله:( وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) فإنّه ظاهر في الاضطرار.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالمشيّة أن يشاء الله منهم الاهتداء إلى الإيمان فيضطرّوا إلى القبول فيبطل بذلك اختيارهم هذا ما يقتضيه ظاهر السياق من الآية الشريفة.

لكنّه سبحانه فيما يشابه الآية من كلامه لم يبن عدم مشيّته ذلك على لزوم الاضطرار كقوله تعالى:( وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها، وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي

٦٣

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (السجدة: ١٣) يشير تعالى بذلك إلى نحو قوله:( قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ( ص: ٨٥) فبيّن تعالى أنّ عدم تحقّق مشيّته لهداهم جميعاً إنّما هو لقضائه ما قضى تجاه ما أقسم عليه إبليس أنّه سيغويهم أجمعين إلّا عباده منهم المخلصين.

و قد أسند القضاء في موضع آخر إلى غوايتهم قال تعالى في قصّة آدم و إبليس:( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ، وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (الحجر: ٤٣) و قد نسب ذلك إليهم إبليس أيضاً فيما حكى الله سبحانه من كلامه لهم يوم القيامة:( وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ - إلى أن قال -إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) (إبراهيم: ٢٢).

فالآيات تبيّن أنّ المعاصي و منها الشرك تنتهي إلى غواية الإنسان و الغواية تنتهي إلى نفس الإنسان، و لا ينافي ذلك ما يظهر من آيات اُخر أنّ الإنسان ليس له أن يشاء إلّا أن يشاء الله منه المشيّة كقوله تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا، وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) (الإنسان: ٣٠)، و قال تعالى:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) (التكوير: ٢٩).

فمشيّة الإنسان في تحقّقها و إن توقّفت على مشيّة الله سبحانه إلّا أنّ الله سبحانه لا يشاء منه المشيّة إلّا إذا استعدّ لذلك بحسن سريرته، و تعرّض منه لرحمته، قال تعالى:( وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ) (الرعد: ٢٧) أي انعطف و رجع إليه، و أمّا الفاسق الزائغ قلبه المخلد إلى الأرض المائل إلى الغواية فإنّ الله لا يشاء هدايته و لا يغشاه برحمته كما قال:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (البقرة: ٢٦) و قال:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (الصفّ: ٥) و قال:( وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ ) (الأعراف: ١٧٦).

و بالجملة فالدعوة الدينيّة لا تسلك إلّا سبيل الاختيار، و الآيات الإلهيّة لا تنزل

٦٤

إلّا مع مراعاة الاختيار، و لا يهدي الله سبحانه إليه إلّا من تعرّض لرحمته و استعدّ لهدايته من طريق الاختيار.

و بهذا تنحلّ شبهة اُخرى لا تخلو عن إعضال، و هي أنّا سلّمنا أنّ إنزاله تعالى آية تجبرهم على الإيمان و تضطرّهم إلى قبول الدعوة الدينيّة ينافي أساس الاختيار الّذي تبتني عليه بنية الدعوة الدينيّة لكن لم لا يجوز أن يشاء الله إيمان الناس جميعاً على حدّ مشيّته إيمان من آمن منهم بأن يشاء من الجميع أن يشاءوا كما شاء من المؤمنين خاصّة أن يشاءوا ثمّ ينزّل آية تسوقهم إلى الهدى، و تلبسهم الإيمان من غير أن يبطل بذلك اختيارهم و حرّيّتهم في العمل.

و ذلك أنّه و إن أمكن ذلك بالنظر إلى نفسه لكنّه ينافي الناموس العامّ في عالم الأسباب، و نظام الاستعداد و الإفاضة فالهدى إنّما يفاض على من اتّقى الله و زكّى نفسه و قد أفلح من زكّاها و لا يصيب الضلال إلّا من أعرض من ذكر ربّه و دسّي نفسه و قد خاب من دسّاها، و أصابه الضلال هو أن يمنع الإنسان الهدى قال تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (الإسراء: ٢٠) أي ممنوعاً فالله سبحانه يمدّ كلّ نفس من عطائه بما يستحقّه فإن أراد الخير اُوتيه و إن أراد الشرّ اُوتيه أي منع من الخير، و لو شاء الله لكلّ نفس صالحة أو طالحة أن تشاء الخير و تنكبّ على الإيمان و التقوى من طريق الاختيار كان في ذلك إبطال النظام العامّ و إفساد أمر الأسباب.

و تؤيّد ما ذكر الآية التالية أعني قوله تعالى:( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ) إلى آخر الآية على ما سيجي‏ء من معناها.

قوله تعالى: ( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ) الآية كالبيان لقوله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ) إلى آخر الآية فإنّ ملخّصه أنّك لا تستطيع صرفهم عن هذا الإعراض، و الحصول على آية تسوقهم إلى الإيمان، فبيّن في

٦٥

هذه الآية أنّهم بمنزلة الموتى لا شعور لهم و لا سمع حتّى يشعروا بمعنى الدعوة الدينيّة و يسمعوا دعوة الداعي و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذه الهياكل المتراءاة من الناس صنفان: صنف منهم أحياء يسمعون، و إنّما يستجيب الّذين يسمعون، و صنف منهم أموات لا يسمعون و إن كانوا ظاهراً في صور الأحياء و هؤلاء يتوقّف سمعهم الكلام على أن يبعثهم الله، و سوف يبعثهم فيسمعون ما لم يستطيعوا سمعه في الدنيا كما حكاه الله عنهم بقوله:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) (السجدة: ١٢)

فالكلام مسوق سوق الكناية، و المراد بالّذين يسمعون المؤمنون و بالموتى المعرضون عن استجابة الدعوة من المشركين و غيرهم، و قد تكرّر في كلامه تعالى وصف المؤمنين بالحياة و السمع، و وصف الكفّار بالموت و الصمم كما قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) (الأنعام: ١٢٢) و قال تعالى:( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏ وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) (النمل: ٨١) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قد تكرّر في بعض الأبحاث السابقة معنى آخر لهذه الأوصاف الّتي حملها الجمهور من المفسّرين على الكناية و التشبيه، و أنّ لها معنى من الحقيقة فليراجع.

و في الآية دلالة على أنّ الكفّار و المشركين سيفهّمهم الله الحقّ و يسمعهم دعوته في الآخرة كما فهّم المؤمنين و أسمعهم في الدنيا، فالإنسان مؤمناً كان أو كافراً لا مناص له عن فهم الحقّ عاجلاً أو آجلاً.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ إسلام الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، دعاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و

٦٦

جهد به أن يسلم فغلب عليه الشقاء فشقّ ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ - إلى قوله -نَفَقاً فِي الْأَرْضِ ) ، يقول: سرباً.

أقول: و الرواية على ما بها من ضعف و إرسال لا تلائم ظاهر الروايات الكثيرة الدالّة على نزول السورة دفعة، و إن كان يمكن توجيهها بوقوع السبب قبل نزول السورة ثمّ الإشارة بالآية إلى السبب المحقّق بعنوان الانطباق‏.

٦٧

( سورة الأنعام الآيات ٣٧ - ٥٥)

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ  قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( ٣٧) وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم  مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ  ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ( ٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ  مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( ٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ( ٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ( ٤٢) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٤٣) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( ٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا  وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( ٤٥) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ  انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ( ٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ( ٤٧) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ  فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( ٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا

٦٨

يَفْسُقُونَ( ٤٩) قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ  إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ  قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ  أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ( ٥٠) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَىٰ رَبِّهِمْ  لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( ٥١) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ  مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ( ٥٢) وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا  أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ( ٥٣) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ  كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( ٥٤) وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ( ٥٥)

( بيان)

احتجاجات متنوّعة على المشركين في أمر التوحيد و آية النبوّة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ ) إلى آخر الآية، تحضيض منهم على تنزيل الآية بداعي تعجيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لمّا صدر هذا القول منهم و بين أيديهم أفضل الآيات أعني القرآن الكريم الّذي كان ينزل عليهم سورة سورة و آية آية، و يتلى عليهم حيناً بعد حين تعيّن أنّ الآية الّتي كانوا يقترحونها بقولهم:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) هي آية غير القرآن، و أنّهم كانوا لا يعدّونه آية تقنعهم و ترتضيه نفوسهم بما لها من المجازفات و التهوّسات.

٦٩

و قد حملهم التعصّب لآلهتهم أن ينقطعوا عن الله سبحانه كأنّه ليس بربّهم، فقالوا:( لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) و لم يقولوا: من ربّنا أو من الله و نحوهما إزراءً بأمره و تأكيداً في تعجيزه أي لو كان ما يدّعيه و يدعو إليه حقّاً فليغر له ربّه الّذي يدعو إليه و لينصره و لينزل عليه آية تدلّ على حقّيّة دعواه.

و الّذي بعثهم إلى هذا الاقتراح جهلهم بأمرين: أحدهما: أنّ الوثنيّة يرون لآلهتهم استقلالاً في الاُمور المرجوعة إليهم في الكون مع ما يدّعون لهم من مقام الشفاعة فإله الحرب أو السلم له ما يدبّره من الأمر من غير أن يختلّ تدبيره من ناحية غيره، و كذلك إله البرّ و إله البحر و إله الحبّ و إله البغض و سائر الآلهة، فلا يبقى لله سبحانه شأن يتصرّف فيه فقد قسّم الأمر بين أعضاده و إن كان هؤلاء شفعاءه و هو ربّ الأرباب، فليس يسعه تعالى أن يبطل أمر آلهتهم بإنزال آية تدلّ على نفي اُلوهيّتها.

و كان يحضّهم على هذه المزعمة و يؤيّد هذا الاعتقاد في قلوبهم ما كانوا يتلقّونه من يهود الحجاز أنّ يد الله مغلولة لا سبيل له إلى تغيير شي‏ء من النظام الجاري، و خرق العادة المألوفة في عالم الأسباب.

و ثانيهما: أنّ الآيات النازلة من عندالله سبحانه إذا كانت ممّا خصّ الله به رسولاً من رسله من غير أن يقترحه الناس فإنّما هي بيّنات تدلّ على صحّة دعوى الرسول من غير أن يستتبع محذوراً للناس المدعوّين كالعصا و اليد البيضاء لموسى و إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و خلق الطير لعيسى، و القرآن الكريم لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لكنّ الآية لو كانت ممّا اقترحها الناس فإنّ سنّة الله جرت على القضاء بينهم بنزولها فإن آمنوا بها و إلّا نزل عليهم العذاب و لم ينظروا بعد ذلك كآيات نوح و هود و صالح و غير ذلك، و في القرآن الكريم آيات كثيرة تدلّ على ذلك، كقوله تعالى:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ) (الأنعام: ٨) و قوله:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ) (الإسراء: ٥٩).

٧٠

و قد اُشير في الآية الكريمة أعني قوله:( وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى‏ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ، إلى الجهتين جميعاً.

فذكر أنّ الله قادر على أن ينزّل أيّ آية شاء، و كيف يمكن أن يفرض من هو مسمّى باسم( الله ) و لا تكون له القدرة المطلقة، و قد بدّل في الجواب لفظة( الربّ ) إلى اسم( الله ) للدلالة على برهان الحكم، فإنّ الاُلوهيّة المطلقة تجمع كلّ كمال من غير أن تحدّ بحدّ أو تقيّد بقيد فلها القدرة المطلقة، و الجهل بالمقام الاُلوهيّ هو الّذي بعثهم إلى اقتراح الآية بداعي التعجيز.

على أنّهم جهلوا أنّ نزول ما اقترحوه من الآية لا يوافق مصلحتهم، و أنّ اجتراءهم على اقتراحها تعرّضٌ منهم لهلاك جمعهم و قطع دابرهم، و الدليل على أنّ هذا المعنى منظور إليه بوجه في الكلام قوله تعالى في ذيل هذه الاحتجاجات:( قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) (الأنعام: ٥٨).

و في قوله تعالى:( نُزِّلَ ) و( يُنَزِّلَ ) مشدّدين من التفعيل دلالة على أنّهم اقترحوا آية تدريجيّة أو آيات كثيرة تنزّل واحدة بعد واحدة كما يدلّ عليه ما حكي من اقتراحهم في موضع آخر من كلامه تعالى كقوله:( وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ - إلى أن قال -أَوْ تَرْقى‏ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) الآيات: (الإسراء: ٩٣) و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا ) (الفرقان: ٢١) و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) (الفرقان: ٣٢).

و روي عن ابن كثير أنّه قرأ بالتخفيف.

قوله تعالى: ( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) إلى آخر الآية، الدابّة كلّ حيوان يدّب على الأرض و قد كثر استعماله في الفرس، و الدبّ بالفتح و الدبيب هو المشي الخفيف.

و الطائر ما يسبح في الهواء بجناحيه، و جمعه الطير كالراكب، و الركب و الاُمّة هي الجماعة من الناس يجمعهم مقصد واحد يقصدونه كدين واحد أو سنّة واحدة أو زمان واحد

٧١

أو مكان واحد، و الأصل في معناها، القصد يقال: أمّ يؤمّ إذا قصد، و الحشر جمع الناس بإزعاج إلى الحرب أو جلاء و نحوه من الاُمور الاجتماعيّة.

و الظاهر أنّ توصيف الطائر بقوله:( يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) محاذاة لتوصيف الدابّة بقوله:( فِي الْأَرْضِ ) فهو بمنزلة قولنا: ما من حيوان أرضيّ و لا هوائيّ، مع ما في هذا التوصيف من نفي شبهة التجوّز فإنّ الطيران كثيراً ما يستعمل بمعنى سرعة الحركة كما أنّ الدبيب هو الحركة الخفيفة فكان من المحتمل أن يراد بالطيران حيث ذكر مع الدبيب الحركة السريعة فدفع ذلك بقوله:( يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ )

( كلام في المجتمعات الحيوانيّة)

و الخطاب في الآية للناس، و قد ذكر فيها أنّ الحيوانات أرضيّة كانت أو هوائيّة هي اُمم أمثال الناس، و ليس المراد بذلك كونها جماعات ذوات كثرة و عدد فإنّ الاُمّة لا تطلق على مجرّد العدد الكثير بل إذا جمع ذلك الكثير جامع واحد من مقصد اضطراريّ أو اختياريّ يقصده أفراده، و لا أنّ المراد مجرد كونها أنواعاً شتّى كلّ نوع منها يشترك أفراده في نوع خاصّ من الحياة و الرزق و السفاد و النسل و المأوى و سائر الشؤن الحيويّة فإنّ هذا المقدار من الاشتراك و إن صحّح الحكم بمماثلتها الإنسان لكنّ قوله في ذيل الآية:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) يدلّ على أنّ المراد بالمماثلة ليس مجرّد التشابه في الغذاء و السفاد و الإواء بل هناك جهة اشتراك اُخرى تجعلها كالإنسان في ملاك الحشر إلى الله، و ليس ملاك الحشر إلى الله في الإنسان إلّا نوعاً من الحياة الشعوريّة الّتي تخدّ للإنسان خدّاً إلى سعادته و شقائه، فإنّ الفرد من الإنسان يمكن أن ينال في الدنيا ألذّ الغذاء و أوفق النكاح و أنضر المسكن و لا يكون مع ذلك سعيداً في حياته لما ينكبّ عليه من الظلم و الفجور أو أن يحيط به جماع المحن و الشدائد و البلايا و هو سعيد في حياته مبتهج بكمال الإنسانيّة و نور العبوديّة.

بل حياة الإنسان الشعوريّة و إن شئت فقل: الفطرة الإنسانيّة و ما يؤيّدها من

٧٢

دعوة النبوّة تسنّ للإنسان سنّة مشروعة من الاعتقاد و العمل إن أخذ بها و جرى عليها و وافقه المجتمع عليه سعد في الحياتين: الدنيا و الآخرة، و إن استنّ بها وحده سعد بها في الآخرة أو في الدنيا و الآخرة معاً، و إن لم يعمل بها و تخلّف عن الأخذ ببعضها أو كلّها كان في ذلك شقاؤه في الدنيا و الآخرة.

و هذه السنّة المكتوبة له تجمعها كلمتان: البعث إلى الخير و الطاعة، و الزجر عن الشرّ و المعصية، و إن شئت قلت: الدعوة إلى العدل و الاستقامة، و النهي عن الظلم و الانحراف عن الحقّ فإنّ الإنسان بفطرته السليمة يستحسن اُموراً هي العدل في نفسه أو غيره، و يستقبح اُموراً هي الظلم على نفسه أو غيره ثمّ الدين الإلهيّ يؤيّدها و يشرح له تفاصيلها.

و هذا محصّل ما تبيّن لنا في كثير من الأبحاث السابقة، و كثير من الآيات القرآنيّة تفيد ذلك و تؤيّده كقوله تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) (الشمس: ١٠)، و قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (البقرة: ٢١٣).

و الإمعان في التفكّر في أطوار الحيوانات العجم الّتي تزامل الإنسان في كثير من شؤن الحياة، و أحوال نوع منها في مسير حياتها و تعيّشها يدلّنا على أنّ لها كالإنسان عقائد و آراءً فرديّة و اجتماعيّة تبني عليها حركاتها و سكناتها في ابتغاء البقاء نظيره ما يبني الإنسان تقلّباته في أطوار الحياة الدنيا على سلسلة من العقائد و الآراء.

فالواحد منّا يشتهي الغذاء و النكاح أو الولد أو غير ذلك، أو يكره الضيم أو الفقر أو غير ذلك فيلوح له من الرأي أنّ من الواجب أن يطلب الغذاء أو يأكله أو يدّخره في ملكه، و أن يتزوّج و أن ينسل و هكذا، و أنّ من الممنوع المحرّم عليه أن يصبر على ضيم أو يتحمّل مصيبة الفقر و هكذا فيتحرّك و يسكن على طبق ما تخدّ له هذه الآراء اللائحة لنفسه من الطريق.

٧٣

كذلك الواحد من الحيوان - على ما نشاهده - يأتي في مبتغيات حياته من الحركات المنظّمة الّتي يحتال بها إلى رفع حوائج نفسه في الغذاء و السفاد و المأوى بما لا نشكّ به في أنّ له شعوراً بحوائجه و ما يرتفع به حاجته، و آراءً و عقائد ينبعث بها إلى جلب المنافع و دفع المضارّ كما في الإنسان، و ربّما عثرنا فيها من أنواع الحيل و المكائد للحصول على الصيد و النجاة من العدوّ من الطرق الاجتماعيّة و الفرديّة ما لم يتنبّه إليه الإنسان إلّا بعد طيّ قرون و أحقاب من عمره النوعيّ.

و قد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه، كالنمل و النحل و الأرضة على عجائب من آثار المدنيّة و الاجتماع، و دقائق من الصنعة و لطائف من السنن و السياسات لا تكاد توجد نظائرها إلّا في الاُمم ذوي الحضارة و المدنيّة من الإنسان.

و قد حثّ القرآن الكريم على معرفة الحيوان و التفكّر في خلقها و أعمالها عامّة كقوله تعالى:( وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (الجاثية: ٤) و دعا إلى الاعتبار بأمر كثير منها كالأنعام و الطير و النحل و النمل.

و هذه الآراء و العقائد الّتي نرى أنّ الحيوان على اختلاف أنواعها في شؤن الحياة و مقاصدها تبنى عليها أعمالها إذا لم تخل عن الأحكام الباعثة و الزاجرة لم تخل عن استحسان اُمور و استقباح اُمور، و لم تخل عن معنى العدل أو الظلم.

و هو الّذي يؤيّده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد أيّ نوع من الحيوان في أخلاقها، فكم بين الفرس و الفرس و بين الكبش و الكبش و بين الديك و الديك مثلاً من الفرق الواضح في حدّة الخلق أو سهولة الجانب و لين العريكة.

و كذا يؤيّده جزئيّات اُخرى من حبّ و بغض و عطوفة و رحمة أو قسوة أو تعدّ و غير ذلك ممّا نجدها بين الأفراد من نوع و قد وجدنا نظائرها بين أفراد الإنسان، و وجدناها مؤثّرة في الاعتقاد بالحسن و القبح في الأفعال، و العدل و الظلم في الأعمال ثمّ إنّها مؤثّرة أيضاً في حياة الإنسان الاُخرويّة، و ملاكاً لحشره و محاسبة أعماله و الجزاء عليها بنعمة أو نقمة اُخرويّة.

و ببلوغ البحث هذا المبلغ ربّما لاح لنا أنّ للحيوان حشراً كما أنّ للإنسان

٧٤

حشراً فإنّ الله سبحانه يعدّ انطباق العدل و الظلم و التقوى و الفجور على أعمال الإنسان ملاكاً للحشر و يستدلّ به عليه كما في قوله تعالى:( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ( ص: ٢٨) بل يعدّ بطلان الحشر في ما خلقه من السماء و الأرض و ما بينهما بطلاناً لفعله و صيرورته لعباً أو جزافاً كما في الآية السابقة على هذه الآية:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) ( ص: ٢٧).

فهل للحيوان غير الإنسان حشر إلى الله سبحانه كما أنّ للإنسان حشراً إليه؟ ثمّ إذا كان له حشر فهل يماثل حشره حشر الإنسان فيحاسب على أعماله و توزن و ينعّم بعد ذلك في جنّة أو نار على حسب ما له من التكليف في الدنيا؟ و هل استقرار التكليف الدنيويّ عليه ببعث الرسل و إنزال الأحكام؟ و هل الرسول المبعوث إلى الحيوان من نوع نفسه أو أنّه إنسان؟.

هذه و جوه من السؤال تسبق إلى ذهن الباحث في هذا الموقف:

أمّا السؤال الأوّل (هل للحيوان غير الإنسان حشر؟) فقوله تعالى في الآية:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) يتكفّل الجواب عنه، و يقرب منه قوله تعالى:( وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (كوّرت: ٥).

بل هناك آيات كثيرة جدّاً دالّة على إعادة السماوات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجنّ و الحجارة و الأصنام و سائر الشركاء المعبودين من دون الله، و الذهب و الفضّة حيث يحمى عليهما في نار جهنّم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة و جنوبهم إلى غير ذلك في آيات كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الروايات في هذه المعاني لا تحصى كثرة.

و أمّا السؤال الثاني، و هو أنّه هل يماثل حشره حشر الإنسان فيبعث و تحضر أعماله و يحاسب عليها فينعّم أو يعذّب بها فجوابه أنّ ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد و سوقهم إلى أمر بالإزعاج، و أمّا مثل السماء و الأرض و ما يشابههما من شمس و قمر و حجارة و غيرها فلم يطلق في موردها لفظ الحشر كما في قوله تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (إبراهيم: ٤٨) و قوله:( وَ الْأَرْضُ

٧٥

جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (الزمر: ٦٧) و قوله:( وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) (القيامة: ٩) و قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ، لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها ) (الأنبياء: ٩٩).

على أنّ الملاك الّذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحقّ قال تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (السجدة: ٢٥) و قوله:( ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (آل عمران: ٥٥) و غير ذلك من الآيات.

و مرجع الجميع إلى إنعام المحسن و الانتقام من الظالم بظلمه كما ذكره في قوله:( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) (السجدة: ٢٢) و قوله:( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) (إبراهيم: ٤٨) و هذان الوصفان أعني الإحسان و الظلم موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة.

و يؤيّده ظاهر قوله تعالى:( وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) النحل: ٦١ فإنّ ظاهره أنّ ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهيّة كان ذلك لأنّه ظلم و الظلم شائع بين كلّ ما يسمّى دابّة: الإنسان و سائر الحيوانات فكان ذلك مستعقباً لأن يهلك الله تعالى كلّ دابّة على ظهرها هذا و إن ذكر بعضهم: أنّ المراد بالدابّة في الآية خصوص الإنسان.

و لا يلزم من شمول الأخذ و الانتقام يوم القيامة لسائر الحيوان أن يساوي الإنسان في الشعور و الإرادة، و يرقى الحيوان العجم إلى درجة الإنسان في نفسيّاته و روحيّاته، و الضرورة تدفع ذلك، و الآثار البارزة منها و من الإنسان تبطله.

و ذلك أنّ مجرّد الاشتراك في الأخذ و الانتقام و الحساب و الأجر بين الإنسان و غيره لا يقضي بالمعادلة و المساواة من جميع الجهات كما لا يقتضي الاشتراك في ما هو أقرب من ذلك بين أفراد الإنسان أنفسهم أن يجري حساب أعمالهم من حيث المداقّة و المناقشة مجرى واحداً فيوقف العاقل و السفيه و الرشيد و المستضعف في موقف واحد.

٧٦

على أنّه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم و دقائق النباهة ما ليس بكلّ البعيد من مستوى الإنسان المتوسّط الحال في الفقه و التعقّل كالّذي حكى عن نملة سليمان بقوله:( حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى‏ وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (النمل: ١٨) و ما حكاه من قول هدهد لهعليه‌السلام في قصّة غيبته عنه:( فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ، إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) إلى آخر الآيات: (النمل: ٢٤) فإنّ الباحث النبيه إذا تدبّر هذا الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم و الشعور لها ثمّ قدّر زنته لم يشكّ في أنّ تحقّق هذا المقدار من الفهم و الشعور يتوقّف على معارف جمّة و إدراكات متنوّعة كثيرة من بساط المعاني و مركّباتها.

و ربّما أيّد ذلك ما حصّله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم و تربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال الّتي لا تكاد تظهر إلّا من موجود ذي إرادة لطيفة و فكر عميق و شعور حادّ.

و أمّا السؤال الثالث و الرابع أعني أنّه: هل الحيوان يتلقّى تكليفه في الدنيا برسول يبعث إليه و وحي ينزل عليه؟ و هل هذا الرسول المبعوث إلى نوع من أنواع الحيوان من أفراد ذلك النوع بعينه؟ فعالم الحيوان إلى هذا الحين مجهول لنا مضروب دونه بحجاب فالاشتغال بهذا النوع من البحث ممّا لا فائدة فيه و لا نتيجة له إلّا الرجم بالغيب، و الكلام الإلهيّ على ما يظهر لنا من ظواهره غير متعرّض لبيان شي‏ء من ذلك، و لا يوجد في الروايات المأثورة عن النبيّ و الأئمّة من أهل بيته صلوات الله و سلامه عليهم ما يعتمد عليه في ذلك.

فقد تحصّل أنّ المجتمعات الحيوانيّة كالمجتمع الإنسانيّ فيها مادّة الدين الإلهيّ ترتضع من فطرتها نحو ما يرتضع الدين من الفطرة الإنسانيّة و يمهّدها للحشر إلى الله سبحانه كما يمهّد دين الفطرة الإنسان للحشر و الجزاء، و إن كان المشاهد من حال

٧٧

الحيوان بالقياس إلى الإنسان - و تؤيّده الآيات القرآنيّة الناطقة بتسخير الأشياء للإنسان و أفضليّته من عامّة الحيوان - أنّ الحيوان لم يؤت تفاصيل المعارف الإنسانيّة و لا كلّف بدقائق التكاليف الإلهيّة الّتي كلّف بها الإنسان.

و لنرجع إلى متن الآية فقوله تعالى:( وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) يدلّ على أنّ المجتمعات الحيوانيّة الّتي توجد بين كلّ نوع من أنواع الحيوان إنّما تأسّست على مقاصد نوعيّة شعوريّة يقصدها كلّ نوع من الحيوان على اختلافها بالشعور و الإرادة كالإنسان.

و ليس ذلك مقصوراً على المقاصد الطبيعيّة أعني مقاصد التغذّي و النموّ و توليد المثل المحدودة بهذه الحياة الدنيا بل ينبسط ذيله على ما بعد الموت و يتهيّأ به إلى حياة اُخرى ترتبط بالسعادة و الشقاوة المرتضعتين من ثدي الشعور و الإرادة.

و ربّما اعترض عليه أنّ القوم تسلّموا أنّ غير الإنسان من أنواع الحيوان محروم من موهبة الاختيار، و لذلك يعدّ أفعال الحيوان كأفعال النبات طبيعيّة غير اختياريّة لما يشاهد من حالها أنّها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب كالهرّة إذا رأت فأرة أو الأسد إذا رأى فريسته، و الهرب إذا صادف ما يخافه من عدوّ غالب كالفأرة إذا رأت هرّة أو الغزالة إذا شاهدت أسداً فلا معنى للسعادة و الشقاوة الاختياريّتين في الحيوان غير الإنسان.

لكنّ التأمّل في معنى الاختيار و الحالات النفسيّة الّتي يتوسّل بها الإنسان إلى إتيان أفعاله الاختياريّة يدفع هذه الشبهة و ذلك أنّ الشعور و الإرادة الّذين يتمّ بهما فعل الإنسان الاختياريّ بالحقيقة إنّما اُودعا في الإنسان مثلاً لأنّه نوع شعوريّ يتصرّف في المادّة الخارجيّة للانتفاع بها في بقاء وجوده بتمييز ما ينفعه ممّا يضرّه، و لذلك جهّزته العناية الإلهيّة بالشعور و الإرادة فهو يميّز بشعوره الحيّ ما يضرّه ممّا ينفعه فإذا تحقّق النفع أراد ففعل فما كان من الاُمور بيّن النفع و لا يحتاج في الحكم بكونه ممّا ينتفع به إلى أزيد من وجدانه و حصول العلم به أراده من فوره و فعله و تصرّف فيه من غير

٧٨

توقّف كما في موارد الملكات الراسخة غالباً مثل التنفّس، و أمّا ما كان من الاُمور غير بيّن النفع موسوماً بنقص من الأسباب أو محفوفاً بشي‏ء من الموانع الخارجيّة أو الاعتقاديّة لم يكف مجرّد العلم بتحقّقه في إرادته و فعله لعدم الجزم بالانتفاع به.

فهذه الاُمور هي الّتي يتوقّف الانبعاث إليها إلى التفكّر مثلاً فيها من جهة ما معها من النواقص و الموانع و التروّي فيها ليميّز بذلك إنّما هل هي من قبيل النافع أو الضارّ؟ فإن أنتج التروّي كونها نافعة ظهرت الإرادة متعلّقة بها و فعلت كما لو كانت بيّنة النفع غير محتاجة إلى التروّي فيها، و ذلك كالإنسان الجائع إذا وجد غذاءً يمكنه أن يسدّ به خلّة الجوع فربّما شكّ في أمره أنّه هل هو غذاء طيّب صالح لأن يتغذّى به أو أنّه غير صالح فاسد أو مسموم أو مشتمل على موادّ مضرّة؟ و أنّه هل هو ماله نفسه و لا مانع من التصرّف فيه كاحتياج مبرم مستقبل أو صوم و نحوه أو مال غيره و لا يجوز التصرّف فيه؟ و حينئذ يتوقّف عن المبادرة إلى التصرّف فيه، و لا يزال يتروّى حتّى يقطع بأحد الطرفين فإن حكم بالجواز كان مصداقاً لما ينتفع فلا يتوقّع بعد ذلك دون أن يريد فيتصرّف فيه.

و إن لم يشكّ في أمره و كان بيّناً عنده من أوّل الأمر أنّه طيّب صالح للتغذّي إرادة إذا علم بوجوده من غير تروّ أو تفكّر، و لم ينفكّ العلم به عن إرادة التصرّف فيه قطعاً.

فمحصّل حديث الاختيار أنّ الإنسان إذا لم يتميّز عنده بعض الاُمور الّتي يتصرّف فيها أنّها نافعة أو ضارّة ميّز ذلك بالتروّي و التفكّر فاختار أحد الجانبين أو الجوانب، و أمّا لو تميّز من أوّل الأمر إرادة ففعله من غير مهل و لم يحتج إلى تروّ أصلاً فالإنسان يختار ما يرى نفعه بتروّ أو من غير تروّ و لا تروّي إلّا لرفع الموانع عن الحكم.

ثمّ إنّك إذا تأمّلت حال أفراد الإنسان المختارين في أفعالهم وجدتهم ذوي اختلاف شديد في مبادئ اختيارهم أعني الصفات الروحيّة و الأحوال الباطنيّة من شجاعة و جبن و عفّة و شره و نشاط و كسل و وقار و خفّة، و كذا في قوّة التعقّل و ضعفه و إصابة النظر و خطائه فكثيراً مّا يرى الشره نفسه مضطرّة مسلوبة الاختيار في موارد يشتهي الانهماك فيها

٧٩

لا يعبأ بأمرها العفيف المتطهّر، و ربّما يرى الجبان أدنى أذى يصيبه في مهمّة أو مقتلة عذراً لنفسه ينفي عنه الاختيار، و لا يرى الشجاع الباسل الآبي عن الضيم الموت الأحمر و أيّ زجر بدنيّ أمراً فوق الطاقة، و لا يرى لأيّ مصيبة هائلة في سبيل مقاصده من بأس، و ربّما اختار السفيه خفيف العقل بأدنى تصوّر، واه و لا يرى العاقل اللبيب ترجيح الفعل بأمثال تلك المرجّحات إلّا تلهّياً و لعباً، و أفعال الصبيان غير المميّزين اختياريّة معها بعض التروّي و لا يعبأ بها و بأمرها البالغ الرشيد، و كثيراً ما نعدّ في محاوراتنا فعلاً من أفعالنا اضطراريّاً أو إجباريّاً إذا قارن أعذاراً اجتماعيّة غير ملزمة بحسب الحقيقة كشارب الدخان يعتذر بالعادة، و النومة يعتذر بالكسل و السارق أو الخائن يعتذر بالفقر.

و هذا الاختلاف الفاحش في مبادئ الاختيار و أسبابه و العرض العريض في مستوى الأفعال الاختياريّة هو الّذي بعث الدين و سائر السنن الاجتماعيّة أن يحدّوا الفعل الاختياريّ بما يراه المتوسّط من أفراد المجتمع الإنسانيّ اختياريّاً، و يبنوا على ذلك صحّة تعلّق الأمر و النهي و العقاب و الثواب و نفوذ التصرّف و غير ذلك، و يعذروا من لم يتحقّق فيه ما يتحقّق في الفعل الاختياريّ الّذي يأتي به الإنسان المتوسّط من المبادي و الأسباب، و هو المتوسّط من الاستطاعة و الفهم.

فهذا الوسط المعدود اختياراً النافي لاختياريّة ما دونه إنّما هو كذلك بحسب الحكم الدينيّ أو الاجتماعيّ المراعى فيه مصلحة الدين أو الاجتماع و إن كان الأمر بحسب النظر التكوينيّ أوسع من ذلك.

و الإمعان فيما تقدّم يعطي أن يجزم بأنّ الحيوان غير الإنسان غير محروم من موهبة الاختيار في الجملة و إن كان أضعف ممّا نجده في المتوسّط من الناس من معنى الاختيار و ذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات و خاصّة الحيوانات الأهليّة من آثار التردّد في بعض الموارد المقرونة بالموانع من الفعل و كذا الكفّ عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية، فجميع ذلك يدلّ على أنّ في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل و الترك، و هو الملاك في أصل الاختيار و إن كان التروّي ضعيفاً فيها جدّاً غير بالغ حدّ ما نجده في الإنسان المتوسّط.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) ( عبس: ٢٧ ـ ٣١ )، ثمّ قال: ( هذا كله عرفناه فما الأبّ ؟ ) ثمّ رفع عصا كانت في يده فقال: ( هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن تدري ما الأبّ، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه )(١) .

(ز): خمسةُ أشخاصٍ أُخذوا في الزنا

أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في زنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ وكان أمير المؤمنين حاضراً فقال: « يا عمر، ليس هذا حكمهم »، قال عمر: أقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدم الثاني فرجمه حتّى مات وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، فتحير الناس وتعّجب عمر فقال: يا أبا الحسن خمسة نفر في قصّة واحدة، أقمت عليهم خمس حكومات ( أي أحكام ) ليس فيها حكم يشبه الآخر ؟ قال :

« نعم أما الأوّل: فكان ذميّاً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني: فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث: فغير محصن زنا فضربناه الحدّ.

وأمّا الرابع: فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس: فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه ».

فقال عمر: ( لا عشت في أمّة لست فيها يا أبا الحسن )(٢) .

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نص صريح، وقد واجهت كبار الصحابة بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح، على أنّه لو كان

__________________

(١) المستدرك للحاكم ٢: ٥١٤، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١١: ٢٦٨، الكشّاف ٣: ٣١٤.

(٢) الكافي ٧: ٢٦٥.

١٢١

الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها، لأجابوا عليها دون تحيّر أو تردد. ولأصابوا فيما أجابوا. وهذا يدل بصراحة لا إبهام فيها، على أنّ الاُمّة كانت بحاجة شديدة إلى إمام عارف بأحكام الإسلام معرفةً كافيةً كاملةً وحامل لنفس الكفاءات والمؤهلات النفسيّة والفكريّة التي كان يتحلّى بها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فيما عدا مقام الوحي والنبوة )، إذ بهذه الصورة فحسب، كان من الممكن أن يلي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويخلفه في قيادة الاُمّة ويسد مسدّه، من حل معضلاتها، ومعالجة مشاكلها التشريعية والفكريّة المستجدّة، دون أن يحدث له ما حدث للصحابة من العجز والارتباك، ومن التحيّر والمفاجأة ـ كما عرفت ـ.

وإليك بقية الأوجه التي تدلّ على هذا الادّعاء المدعم بالدليل :

* * *

٢. الفراغ في مجال تفسير القرآن وشرح مقاصده

لم يكن القرآن الكريم حديثاً عاديّاً، وعلى نسق واحد، بل فيه: المحكم والمتشابه والعامّ، والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمنسوخ والناسخ، مما يجب على المسلمين أن يعرفوها جيداً ليتسنّى لهم أن يدركوا مقاصد الكتاب العزيز ومفاداته(١) .

ثمّ لـمّا كان هذا الكتاب الإلهيّ، جارياً في حديثه مجرى كلام العرب وسائراً على نهجهم في البلاغة وطرقها فإنّ الوقوف على معانيه ورموزه ولطائفه كان يتوقف على معرفة كاملة بكلامهم وبلاغتهم.

أضف إلى كل ذلك، أنّ القرآن إذ كان كتاباً إلهياً حاوياً لأدقّ المعارف وأرفعها

__________________

(١) ولقد أشار الإمام عليّعليه‌السلام إلى هذه الاُمور بقوله :

« خلّف ( أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) فيكم كتاب ربّكم، مبيّناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه وخاصّه وعامّه وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسّراً مجمله ومبيّناً غوامضه » نهج البلاغة: الخطبة رقم (١).

١٢٢

درجةً، ومنطوياً على علوم لم تكن مألوفةً في ذلك العصر، وعلى أبعاد عديدة(١) تخفى على العاديين من الناس، فإنّ الإطلاع على هذه الأبعاد والأوجه والحقائق كان يقتضي أن يتصدى لشرحها وتفسيرها وبيان مفاهيمها العالية جليلها ودقيقها: النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يليه في العلم والكفاءة والمؤهلات الفكريّة صيانةً من الوقوع في الاتجاهات المتباينة، والتفاسير المتعارضة التي تؤول إلى المذاهب المتناقضة والمسالك المتناحرة ـ كما حدث ذلك في الاُمّة الإسلاميّة ـ مع الأسف.

ولو سأل سائل :

إنّ القرآن الكريم يصف نفسه بأنه كتاب مبين إذ يقول:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) ( المائدة: ١٥ ).

كما يصف نفسه بأنّه نزل بلسان عربي مبين فيقول:( وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) ( النحل: ١٠٣ ).

ويقول في آية اخرى بأن الله سبحانه وتعالى يسّره للذكر حيث يقول مكرّراً:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) ( القمر: ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠ ).

ويصرّح في موضع آخر بأنّه سبحانه يسره بلسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الدخان: ٥٨ ).

ومع ذلك كيف يحتاج إلى التفسير والتوضيح، وما التفسير إلّا رفع الستر وكشف القناع عنه ؟.

كيف يحتاج إلى مبيّن ومفسّر قد قال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: « إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ».

وقال الإمام عليّعليه‌السلام في شأنه: « كتاب الله تبصرون به وتنطقون به

__________________

(١) ولقد أشار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هذا بقوله :

« له ظهر وبطن وظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره انيق وباطنه عميق له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه » الكافي ( كتاب القرآن ) ٢: ٥٩٨ ـ ٥٩٩.

١٢٣

وتسمعون به وينطق بعضه ببعض »(١) .

لأجبنا: صحيح أنّ القرآن الكريم يصف نفسه بما ذكر، ولكنّه يصف نفسه أيضاً بأنّه نزل حتى يبيّنه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله للناس إذ يقول تعالى:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ).( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ( النحل: ٦٤ ).

فقد وصف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في هاتين الآيتين، بأنّه مبيّن لما في الكتاب لا قارئ فقط.

فكم من فرق بين القراءة والتبيين ؟.

بل يذكر القرآن الكريم بأنّ بيان القرآن عليه سبحانه، فهو يبيّن للرسول والرسول يبيّن للناس، كما يقول سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩ ).

إنّ وجود هاتين الطائفتين من الآيات في القرآن، يكشف لنا عن أنّ القرآن رغم وضوحه من حيث اللفظ والمعنى والظواهر، ورغم أنّه منزّه عن الشباهة بكتب الألغاز والأحاجي إذ أنّه كتاب تربية وتزكية وهداية عامّة، فإنّه يحتاج إلى ( مبيّن ) ومفسّر لعدّة أسباب :

أوّلاً: وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في آياته.

ثانياً: كون آياته ذات أبعاد وبطون متعددة.

ثالثاً : ، غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

كلّ هذه الاُمور توجب أن يراجع من يريد فهم الكتاب مصادر تشرح هذه الأمور، وإليك مفصل هذا القول فيما يأتي :

أوّلاً: إنّ القرآن كما ذكرنا ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب إلهيّ اُنزل للتربية

__________________

(١) نهج البلاغة: الخطبة ١٢٩ ( طبعة عبده ).

١٢٤

والتعليم ولهداية البشريّة وتهذيبها، وذلك يقتضي أن ينزل القرآن بألوان مختلفة من الخطاب تناسب ما تقتضيه طبيعة التربية والتعليم، ومن هنا نشأ في أسلوب القرآن: المطلق والمقيّد، والعام والخاصّ، والمنسوخ والناسخ، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمبيّن كمفاهيم الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها فهي رغم كونها واضحة في أول نظرة ولكنّها مجملة من حيث الشروط والأجزاء والموانع والمبطلات والتفاصيل.

فكان لابدّ أن يتولّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بيان مجمله ومطلقه ومقيده وما شابه ذلك، وقد فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بقدر ما تطلّبه ظرفه واقتضته حاجة المسلمين بيد أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكشف القناع عن جميع تفاصيل هذه الاُمور وجزئياتها قاطبة، لعدم الحاجة إلى ذلك، وتحيّناً للظروف المناسبة، وانتظاراً للحاجات والحالات المستجدّة. وإن كان قد أخبر عن اُصولها واُمهاتها أو معظمها، فتعيّن أن يخلّف النبيّ ـ من يماثله بالعلم والدراية بالوحي الإلهيّ المدوّن في الكتاب العزيز، ليسدّ مسدّه في بيان ما يتعلق بالكتاب من اُمور مستجدّة، ويكشف النقاب عن بقية الجزئيات والتفاصيل لتلك المجملات حسب الظروف والحاجات الجديدة والضرورات الطارئة، ممّا أودع النبيّ عنده من معارف الكتاب وعلومه، ويخرج إلى الاُمّة من تلكم المعارف شيئاً فشيئاً.

نعم، قال شيخ الطائفة الطوسيّرحمه‌الله في تفسير قوله سبحانه:( حم *وَالْكِتَابِ المُبِينِ ) ( الزخرف: ١ ـ ٢ والدخان: ١ ـ ٢ ).

( إنّما وصف بأنّه مبين، وهو بيان مبالغة في وصفه بأنّه بمنزلة الناطق بالحكم الذي فيه، من غير أن يحتاج إلى استخراج الحكم من مبيّن آخر، لأنّه يكون من البيان ما لا يقوم بنفسه دون مبيّن حتّى يظهر المعنى فيه )(١) .

ولكن الصحيح أنّ توصيف القرآن بكونه كتاباً مبيّناً، هو وضوح انتسابه إلى الله، بحيث لا يشك أحد في كونه كلام الله والآية نظير قوله سبحانه( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ

__________________

(١) التبيان ٩: ٢٢٤ ( طبعة النجف الأشرف ).

١٢٥

فِيهِ ) ( البقرة: ٢ )، أي لا ريب أنّه منّزل من جانب الله سبحانه.

أضف إلى ذلك أنّ الجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) ( النحل: ٤٤ ) وقوله سبحانه:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثمّ إنّعَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة: ١٦ ـ ١٩، ، يقضي، بأنّ المراد هو وضوح مفاهيمه الكليّة لا خصوصياته وجزئياته كما أوضحناه.

ثانياً: لـمّا كان القرآن كتاباً خالداً انزل ليكون دستور البشريّة مدى الدهور، ومعجزة الرسالة الإسلامية الخالدة، تطلّب ذلك أن يكون ذا أبعاد وبطون يكتشف منه كل جيل، ما يناسب عقله وفكره وتقدّمه وترقّيه في مدارج الكمال والصعود، وقد أشار الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى هذا الأمر حيث قال عن القرآن وعلّة خلوده وغضاضته الدائمة: « إنّ الله تعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس، فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة »(١) .

فكأنّ القرآن الكريم ـ في انطوائه على الحقائق العلميّة الزاخرة، وعدم إمكان التوصل إلى أعماقه ـ هو النسخة الثانية لعالم الطبيعة الواسع الأطراف، الذي لا يزيد البحث فيه والكشف عن حقائقه وأسراره، إلّا معرفة أنّ الإنسان لا يزال في الخطوات الاولى من التوصّل إلى مكامنه الخفيّة وأغواره، فإنّ كتاب الله تعالى كذلك لا يتوصّل إلى جميع ما فيه من الحقائق والأسرار، لأنّه منزّل من عند الله الذي لا يضمّه أين ولا تحدّده نهاية، ولا تحصى أبعاد قدرته، ولا تعرف غاية عظمته.

إذن، فكون القرآن أمراً مبيّناً لا ينافي أن تكون له أبعاد متعدّدة، وأفاق كثيرة، يكون البعد الواحد منه واضحاً مبيّناً دون الأبعاد الاُخرى.

ولهذا، فإنّ الوقوف على البطون المتعددة بحاجة إلى ما روي من روايات وأخبارحول الآيات، وما ورد في السّنّة من النصوص المبيّنة والأحاديث الموضّحة ،

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ١: ٢٨.

١٢٦

حتّي تكشف بعض البطون والأبعاد الخفيّة كما هو الحال في بعض أحاديث النبيّ وأهل بيته: وإن كان بعض هذه البطون تنكشف لنا بمرور الزمن وتكامل العقول ونضج العلوم.

وبتعبير آخر: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد معاني الآية القرآنيّة، وإن كان ممكناً للجميع، غير أنّ وضوح بعد واحد ومعلوميّته لا تغني عن الإحاطة بالأبعاد والأوجه الاخرى لها.

إنّ فهم بعد واحد من أبعاد الآيات التالية :

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنبياء: ٢٢ ).

( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ) ( المؤمنون: ٩١ ).

( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ) ( النمل: ٨٢ ).

وكذا الآيات الواقعة في سورة الحديد، وما بدأ من السور بالتسبيحات.

أقول: إنّ فهم بعد واحد من أبعاد هذه الآيات وإن كان أمراً ميسّراً للجميع، ولكن لا يمكن لمن له أدنى إلمام بمفاهيم القرآن وأسلوب خطاباته أن يدّعي، أنّ جميع أبعاد هذه الآيات مفهومة للجميع بمجّرد الوقوف على اللغة العربيّة والاطّلاع على قواعدها.

كلاّ، فإنّ الوقوف على مغزى هذه الآيات وأبعادها وبطونها وآفاقها، يحتاج إلى جهود علميّة واطّلاع شامل ودقيق على السنّة المطهّرة، وما جاء فيها حول الآيات من توضيحات وبيانات.

وقد تمكّن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرفع النقاب عن جملة من هذه الأبعاد في حدود ما سمحت له الظروف، واستعدّت له النفوس المعاصرة، فكان لابدّ من وجود من يخلّفه

١٢٧

للقيام بهذه المهمة الخطيرة، فيما يأتي من الزمان، ولمن يأتي من الأفراد والجماعات.

ثالثاً: لقد نزل القرآن الكريم بالتدريج في مناسبات مختلفة كانت تستدعي نزول آيات من الوحي الإلهيّ المقدسّ ولذلك، فقد كان القرآن ـ في عصر تنزّله ـ محفوفاً بالقرائن التي كانت تبيّن مقاصده، وتعيّن على فهم أهدافه وغاياته.

ولهذا فإنّ القرآن وإن كان مبيّناً في حين نزوله بيد أنّ مرور الزمن، وبعد الناس عن عهد نزوله، وانفصال القرائن الحالية عن الآيات صيّر القرآن ذا وجوه وجعل آياته ذات احتمالات عديدة، لغياب علل النزول وأسبابه التي كانت قرائن حاليّة من شأنها أن توضّح مقاصد الكتاب وتفسر عن غاياته.

وهذا أمر يعرفه كلّ من له إلمام بالقرآن الكريم، وتاريخه، وعلومه.

ولأجل ذلك، يطلب الإمام عليّعليه‌السلام من ابن عباس عندما بعثه للمحاجّة مع الخوارج أن لا يحاججهم بالقرآن، لأنّه أصبح ذا وجوه إذ يقولعليه‌السلام : « لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه تقول ويقولون. ولكن حاججهم بالسنّة فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً »(١) .

وإليك نماذج من الاختلاف الموجود في هذه الآيات بين الاُمّة، ولا يمكن رفع هذا الاختلاف إلّا بإمام معصوم تعتمد عليه الاُمّة، وتعتبر قوله قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

١. قال سبحانه في آية الوضوء:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ( المائدة: ٦ ).

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الاُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ( أَرْجُلَكُمْ ) على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) نهج البلاغة: الرسالة (٧٧).

١٢٨

فأيّ الرأيين هو الصحيح ؟(١) .

٢. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) ( المائدة: ٣٨ ).

وقد اختلفت الاُمّة في مقدار القطع وموضع اليد :

فمن قائل: إنّ القطع من اُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج(٢) .

٣. أمر الله سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:( وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ) ( النساء: ١٢ ).

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بأعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما قال:( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ) ( النساء: ١٧٦ ).

فما هو الحل وكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمة إبهام في مورد هاتين الآيتين بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام، الذي يرفع الستار عن الوجه الحقّ بما

__________________

(١) وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه المحلّى، والفخر الرازيّ في تفسيره والحلبيّ في كتاب منية المتملّي في شرح غنية المصلّي فلاحظ المحلّى ٣: ٥٤، لاحظ المسألة (٢٠٠) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها، ومفاتيح الغيب ١١: ١٦١ ( طبع دار الكتب العلمية ).

(٢) راجع الخلاف للطوسيّ ( كتاب السرقة ): ١٨٤.

١٢٩

عنده من علوم مستودعة.

ولهذا أيضاً عمد علماء الإسلام إلى تأليف كتاب حول شأن نزول الآيات، كالواحديّ وغيره، جمعوا فيها ما عثروا عليه من وقائع وأحاديث في هذا السبيل.

على أنّ بعض الآيات ما لم يضّم إليها، ما ورد حولها من شأن النزول لكانت غير واضحة المقصود، وإليك نماذج من ذلك :

١. قوله سبحانه:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( البقرة: ١٨٩ ).

فيقال، أي مناسبة بين السؤال عن الأهلّة والإجابة عنها بأنّها مواقيت للناس وبين قوله:( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا ) وعلى فرض وضوح المناسبة، ماذا يقصد القرآن من هذا الدستور( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) ؟ أليس هذا توضيحاً للواضح ؟ ولكن بالمراجعة إلى ما ورد حوله يظهر الجواب عن كلا السؤالين.

٢. قوله سبحانه:( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) ( النمل: ٨٢ ).

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلمهم ومع من تتكلم ؟.

٣. وقوله سبحانه:( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إلّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ( التوبة: ١١٨ ).

إلى غير ذلك من هذه الآيات التي تتضح الحقيقة فيها بالمراجعة إلى ما حولها من الأحاديث الصحيحة.

هذا هو مجمل القول في علّة احتياج القرآن إلى مبيّن، وللوقوف على تفصيله لابدّ من بسط الكلام والتوسع في الحديث، وقد ألفّنا في ذلك رسالةً خاصّة.

١٣٠

إنّ إيقاف الاُمّة على مقاصد الكلام الإلهيّ، من دون زيادة أو نقصان، ومن دون تحريف أو تزييف، ومن دون جهل أو شطط يحتاج إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو من يتحلى بمثل ما يتحلى به النبيّ من كفاءات علمية ومؤهلات فكريّة ويكون مضافاً إلى ذلك عيبةً لعلمه، وأميناً على سره، ومؤدّباً بتأديبه، وناشئاً على ضوء تربيته، حفاطاً على خطّ الرسالة من الشذوذ، وصيانةً للفكر الإسلاميّ من الانحراف، وصوناً للاُمّة من الوقوع في متاهات الحيرة والضلال والأخذ بالأهواء والأضاليل.

لقد كان من المتعيّن على الله بحكم الضرورة والعقل، وانطلاقاً من الاعتبارات المذكورة، أن يقرن كتابه بهاد يوضح خصوصياته، ويبيّن أبعاده، ويكشف عن معالمه، ليؤوب إليه المسلمون عند الحاجة، وترجع إليه الاُمّة عند الضرورة ويكون المرجع الصادق الأمين لمعرفة القرآن حتّى يتحقّق بذلك غرض الرسالة الإلهيّة، وهو الإرشاد والهداية، ودفع الاختلاف والغواية الناشئة من التفسيرات الشخصيّة العفويّة للقرآن الكريم.

إنّ ترك أمر الاُمّة وعدم نصب من يقدر ـ فيما يقدر ـ على هذه المهمّة القرآنيّة الخطيرة على ضوء ما استودع عنده النبيّ من معارف وعلوم إلهيّة قرآنيّة يؤدّي إلى اختلاف الاُمّة في الرأي والتفسير، وهو بدوره يؤدّي لا محالة إلى ظهور الفرق والمذاهب المختلفة الشاذّة كما يشهد بذلك تأريخ الاُمّة الإسلاميّة.

يقول منصور بن حازم، قلت لأبي عبد الله ( جعفر بن محمّد الصادق )عليه‌السلام :

إنّ الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله.

قال: « صدقت ».

قلت: إنّ من عرف أنّ له ربّاً فينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضىً وسخطاً، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعة المفترضة، وقلت للناس: تعلمون أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجّة من الله على خلقه ؟ قالوا: بلى، قلت: فحين

١٣١

مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجّة على خلقه ؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجّيء والقدريّ والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّةً إلّا بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيّم القرآن ؟(١) فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه ؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال أنّه يعرف ذلك كلّه إلّا عليّاًعليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّاًعليه‌السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضةً، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال ( الإمام الصادق ): « رحمك الله »(٢) .

كما ورد شاميّ على الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فقال له: « كلّم هذا الغلام »، يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم، ثمّ دار بينهم حديث فقال الغلام للشاميّ: أقام ربّك للناس حجّةً ودليلاً كيلا يتشتتوا أو يختلفوا، يتألّفهم ويقيم أودهم ويخبرهم بفرض ربّهم.

قال: فمن هو ؟

قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال هشام: فبعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: الكتاب والسنّة.

قال هشام: فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنّة في رفع الاختلاف عنّا ؟

قال الشاميّ: نعم.

قال: فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياّك ؟

__________________

(١) أي من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومأوّله ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهيّ أو بإلهام رباني، أو بتعلم نبويّ ( راجع مرآة العقول ).

(٢) الكافي ١: ١٦٨ ـ ١٦٩.

١٣٢

قال: فسكت الشاميّ.

فقال أبو عبد الله للشاميّ: « مالك لا تتكلم ؟ ».

قال الشاميّ: إن قلت: لم نختلف كذبت، وإن قلت: إنّ الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهّما يحتملان الوجوه، وإن قلت: قد اختلفنا وكلّ واحد منّا يدّعي الحقّ، فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنّة إلّا أنّ لي عليه هذه الحجّة(١) .

أجل، لابدّ من قائم بأمر القرآن وهاد للاُمّة إلى مقاصده وحقائقه، لكي لا تضلّ الاُمّة ولا تشذّ عن صراطه المستقيم.

وهذا الهادي الذي يجب أن يقرن الله به كتابه هو من عناه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله الذي تواتر نقله بين السنّة والشيعة.

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٢) .

وروي هكذا أيضاً: « إنّي قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: الثّقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، إلّا وأنهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض »(٣) .

فقد صرح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم افتراق الكتاب والعترة، وهذا دليل على علمهم بالكتاب علماً وافياً وعدم مخالفتهم له قولاً وعملاً.

كما أنّه جعلهما خليفتين بعده، وذلك يقتضي، وجوب التمسك بهم كالقرآن

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٢.

(٢ و ٣) رواه أحمد بن حنبل في مسنده ٥: ١٨٢ و ١٨٩، والحاكم في مستدركه ٣: ١٠٩، ومسلم في صحيحه ٧: ١٢٢، والترمذيّ في سننه ٢: ٣٠٧، والدارميّ في سننه ٢: ٤٣٢، والنسائيّ في خصائصه: ٣٠، وابن سعد في طبقاته ٤: ٨، والجزريّ في اسد الغابة ٢: ١٢، وغيرها من كتب المسانيد والتفاسير والسير والتواريخ واللغة من الفريقين.

وقد أفرد دار التقريب رسالةً ذكر فيها مسانيد الحديث ومتونه ونشره عام ١٣٧٥ ه‍.

١٣٣

ولزوم اتّباعهم على الإطلاق لعلمهم بالكتاب وأسراره وبمصالح الاُمّة واحتياجاتها المتعلقة بالقرآن.

وهو من حيث المجموع، يدلّ على حاكميّة العترة النبويّة وسلطتهم وولايتهم على الناس بعد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

٣. الفراغ في مجال تكميل الاُمّة روحياً

إنّ نظرةً دقيقةً إلى الكون، تهدينا إلى أنّ الله خلق كلّ شيء لهدف معيّن هو غاية كماله، وعلّته الغائيّة، وقد زوده بكلّ ما يبلّغه إلى ذلك الكمال، ويوصله إلى تلك الغاية المنشودة.

ولم يكن « الإنسان » بمستثنى من هذه القاعدة الكلية الكونيّة، فقد زوده الله تعالى ـ بعد أن أفاض عليه الوجود ـ بكل ما يوصله إلى كماله الماديّ

ولم يكن معقولاً أن يهمل الله تكامل الإنسان في الجانب المعنويّ، وهو الذي أراد له الكمال المادّيّ وهيّأ له أسبابه، وقيّض وسائله.

ولمّا كان تكامل الإنسان في الجانبين: المادّيّ والمعنويّ لا يمكن إلّا في ظلّ الهداية الإلهيّة خاصّةً، وكانت الهداية فرع الإحاطة بما في الشيء من إمكانات وخصوصيّات وأجهزة وحاجات، وليس أحد أعرف بالإنسان من خالقه فهو القادر على هدايته، وتوجيهه، نحو التكامل والصعود إلى كماله المطلوب.

من هنّا تطلّب الأمر إرسال الرسل إلى البشر ليضيئوا للبشريّة طريق الرقيّ والتقدّم، بالتزكية والتعليم والتربية، ويساعدوها على تجاوز العقبات والعراقيل، ليبلغوا بها إلى الكمال الذي أراده الله لها.

وقد قام انبياء الله ورسله الكرام ـ بكلّ ما في مقدورهم ووسعهم ـ بهداية البشريّة على مدار الزمن، وحقّقوا من النجاحات والنتائج العظيمة ما غيّر وجه التاريخ البشريّ ،

١٣٤

وكان منشأ الحضارات الإنسانيّة العظمى، ومنطلقاً للمدنيّات الخالدة.

لقد كان دور الأنبياء والرسل في تكميل البشريّة معنويّاً وروحيّاً، دوراً أساسيّاً وعظيماً، بحيث لولاه لبقيت البشريّة في ظلام دامس من التخلّفات الفكريّة والجاهليّات المقيتة.

ولقد كان هذا الدور منطقيّاً وطبيعيّاً، فالبشريّة بحكم ما تتنازعها من أهواء ومطامع، ويكتنفها من جهل بالحقّ والعدل، لا يمكنها بنفسها أن تشقّ طريقها نحو التكامل المنشود فكم من مرّة ابتعدت البشريّة عن العناية الربانيّة والهدايّة الإلهيّة، فسقطت في الحضيض، ونزلت إلى مستوى الطبيعة البهيميّة وعادت كالأنعام بل أضلّ.

ولقد أشار الإمام السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام إلى حاجة البشريّة إلى الهدايّة الإلهيّة، وأثر هذه الهداية في تكامل البشريّة سلباً وإيجاباً، إذ قال في دعائه الأوّل في الصحيفة السجاديّة: « الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانيّة إلى حدّ البهيميّة، فكانوا كما وصف في محكم كتابه( إِنْ هُمْ إلّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) »(١) .

ولقد كان إيصال هذه الهداية الإلهيّة التكميليّة الضروريّة إلى البشر غير ميسور إلّا عن طريق إرسال الرسل وبعث الأنبياء الأصفياء الهداة.

إنّ دراسةً سريعةً خاطفةً لحالة العالم الإنسانيّ، وخاصّة حالة المجتمع العربيّ الساكن في الجزيرة العربية قبيل الإسلام، وما كان يعاني منه الإنسان من تخلف وتأخّر وسقوط، وما تحقق له من تقدّم ورقيّ واعتلاء في جميع الأبعاد الأخلاقيّة والفكريّة والإنسانيّة بفضل الدعوة المحمديّة، والجهود التي بذلها صاحب هذه الدعوة المباركة ،

__________________

(١) الصحيفة السجادية: الدعاء الأوّل.

١٣٥

وبفضل ما قام به من عناية ورعاية وإراءة الطريق الصحيح، يكشف عن مدّعى تأثير الهداية الإلهيّة في تكامل المجتمع الإنسانيّ.

إنّ توقف تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ على إرسال الرسل، وهداية الأنبياء ورعايتهم، هو نفسه يستدعي، وجود الخلف المعصوم العارف بالدين، للنبيّ، ليواصل دفع المجتمع الإسلاميّ في طريق الكمال، ويحفظه من الانقلاب على الأعقاب، والتقهقر إلى الوراء، كيف لا، ووجود الإمام المعصوم العارف بأسرار الشريعة ومعارف الدين، ضمان لتكامل المجتمع، وخطوة كبيرة في سبيل إرتقائه الروحيّ والمعنويّ.

فهل يسوغ لله سبحانه أن يهمل هذا العامل البنّاء الهادي للبشريّة إلى ذروة الكمال ؟.

إنّ الله سبحانه جهّز الإنسان بأجهزة ضروريّة وغير ضروريّة، ليوصله إلى الكمال المطلوب حتّى أنّه تعالى قد زودّه بإنبات الشعر على أشفار عينيه وحاجبيه وتقعير الأخمص من القدمين، لكي تكون حياته لذيذة غير متعبة، فهل تكون حاجته إلى هذه الاُمور أشد من حاجته إلى الإمام المعصوم الذي يضمن كماله المعنوي ؟(١) .

وما أجمل ما قاله أئمة أهل البيت: في فلسفة وجود الإمام المعصوم المنصوب من جانب الله سبحانه، ومدى تأثيره في تكامل الاُمّة :

أ ـ يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كي ما إذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أتمّه لهم »(٢) .

ب ـ روى أبو بصير عن الإمام الصادق [ جعفر بن محمّد ] والإمام الباقر [ محمّد بن عليّ ]عليهما‌السلام : « إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل »(٣) .

__________________

(١) هذا الاستدلال مأخوذ من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيّات الشفا وكتاب النجاة ( له أيضاً ): ٣٠٤.

(٢ و ٣) الكافي ١: ١٧٨.

١٣٦

ج ـ قال الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نهج البلاغة: « أللّهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته »(١) .

وفي حوار طويل جرى بين هشام بن الحكم وهو شاب وبين عمرو بن عبيد العالم المعتزليّ البصريّ، أشار إلى الفائدة المعنويّة الكبرى لوجود الإمام المعصوم فقال هشام: أيّها العالم إنّي رجل غريب أتأذن لي في مسألة ؟

فقال: نعم.

فقال: ألك عين ؟

قال: نعم.

قال: فما تصنع بها ؟

فقال: أرى بها الألوان والأشخاص.

قال: فلك أنف ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أشمّ به الرائحة.

قال: ألك فم ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: أذوق به الطعام.

قال: فلك اُذن ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

__________________

(١) نهج البلاغة: قصار الكلمات.

١٣٧

فقال: أسمع به.

قال: ألك قلب ؟

فقال: نعم.

قال: فما تصنع به ؟

فقال: اميّز به كلّما ورد على هذه الجوارح والحواس.

قال: أو ليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب ؟

فقال: لا.

قال: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟

فقال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته، أو ذاقته، أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشكّ.

قال هشام: فإنّما أقام الله القلب لشكّ الجوارح [ أي لضبطها ] ؟

قال: نعم.

قال: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا مروان، فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها ( إماماً ) يصحّح لها الصحيح ويتيّقن به ما شكّ فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لايقيم لهم ( إماماً )يردون إليه شكّهم وحيرتهم ويقيم لك ( إماماً ) لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك ؟!

قال هشام: فسكت ولم يقل لي شيئاً(١) .

وغير خفي على القارئ النابه، أنّ لزوم الحاجة إلى الإمام المعصوم ليس بمعنى تعطيل أثر الكتاب والسنّة وإنكار قدرتهما على حلّ الكثير من المشكلات والاختلافات، بالنسبة إلى من يرجع إليهما بنيّة صادقة، وتجرّد عن الآراء المسبقة.

__________________

(١) الكافي ١: ١٧٠.

١٣٨

غير أنّ هناك مسائل واُموراً عويصةً ـ خصوصاً فيما يرجع إلى المبدأ والمعاد وإلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله ـ فلا مناص للاُمّة من وجود إمام عارف معصوم يخلِّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقوم مقامه في تكميل المجتمع الإسلاميّ في جميع شؤونه.

وصفوة القول: أنّ تكامل البشريّة الروحيّ والمعنويّ كما أنّه منوط ببعثة الأنبياء ووجود الرسل، فهو كذلك منوط بوجود الإمام المعصوم الذي يتسنى له بما اوتي من علم وعصمة وملكات عالية وكفاءات قياديّة أن يوصل هداية المجتمع الإسلاميّ إلى ذرى الكمال الروحيّ والارتقاء المعنويّ بلا تعثّر ولا إبطاء، ولا تقهقر ولا تراجع.

ومن المعلوم، أنّ الاُمّة لا تقدر على معرفة ذاك الإمام، إلّا بتنصيب من الله سبحانه وتعيينه.

٤. الفراغ في مجال الرد على الأسئلة والشبهات

لقد تعرض الإسلام منذ بزوغه لأعنف الحملات التشكيكية، وكان هدفاً لسهام الشبهات والتساؤلات العويصة والمريبة، التي كان يثيرها اعداء الإسلام والنبيّ والمسلمين من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين.

وقد قام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته بردّ هذه الشبهات وتبديد تلك الشكوك وصدّ الحملات التشكيكيّة بحزم فريد، وتفوّق عليها بنجاح كبير مستعيناً بالوحي الإلهيّ.

وقد كانت هذه الشبهات تتراوح بين التشكيك في أصل وجود الله أو توحيده أو صدق الرسالة الإسلاميّة أو المعاد والحشر، وغيرها من الاُمور الاعتقاديّة وبعض الاُمور العمليّة.

ولا شكّ، أنّ هذه الحملات كانت تجد اذناً صاغيةً بين بعض المسلمين، وتوجب بعض التزعزع في مواقفهم إلّا أنّها كانت تتبدّد وينعدم أثرها بما كان يقوم به الرسول الأكرم المعلم من ردّ ودفع قاطع وحاسم.

١٣٩

نماذج من الأسئلة العويصة

عندما راجعت قريش يهود يثرب لمعرفة صدق ما يدّعيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن لم يخبر بها فالرجل متقوِّل فروا فيه رأيكم :

١. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم ؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجب.

٢. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه ؟

٣. وسلوه عن الروح ما هي ؟

فأقبلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وطرحوا عليه الأسئلة المذكورة، فأخبرهم عن أجوبتها، وأخبرهم بأنّ الأوّل، هم أصحاب الكهف الذين ذكرهم القرآن في سورة الكهف، والثاني، هو ذو القرنين الذي ذكره الله في سورة الكهف أيضاً، وأمّا الثالث فقد أوكل علمه إلى الله بأمره حيث قال:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء: ٨٥ )، وقد أخبر بكل ذلك بما أوحى الله تعالى إليه(١) .

كما قدم جماعة من كبار النصارى وعلمائهم إلى المدينة لمحاججة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستدلوا لاعتقادهم في المسيحعليه‌السلام بكونه ولداً لله، بأنّه لم يكن له أب يعلم وقد تكلّم في المهد، وهذا لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، فأجابهم بما أوحى إليه الله سبحانه بأنّ أمر عيسى ليس أغرب من أمر آدم الذي لم يكن له لا أب ولا أمّ. فهو أعجب من عيسى الذي ولد من أمّ حيث قال الله في هذا الصدد:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران: ٥٩ )(٢) .

وعن أمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام أنّه اجتمع يوماً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل خمسة أديان: اليهود والنصارى والثنويّة والدهريّة ومشركو العرب.

ثمّ وجّه كلّ طائفة من هذه الطوائف أسئلة عويصة ومشكلة إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

(٢) سيرة ابن هشام ١: ٣٠٠ و ٥٧٥.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423