المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية

المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية23%

المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية مؤلف:
الناشر: مؤسسة العهد الصادق الثقافية
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 260

المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية
  • البداية
  • السابق
  • 260 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 112814 / تحميل: 7166
الحجم الحجم الحجم
المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية

المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية

مؤلف:
الناشر: مؤسسة العهد الصادق الثقافية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أشرقت الارض بنور ربها، ووضع ميزان العدل بين الناس، فلا يظلم أحد أحدا، وهو الذي تطوى له الارض، ولا يكون له ظل، وهو الذي ينادي مناد من السماء يسمعه جميع أهل الارض: ألا إن حجة الله قد ظهر عند بيت الله فاتبعوه، فان الحق فيه ومعه، وهو قول الله (عزوجل) :( إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) (١) .وقول الله (عزوجل) :( يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِ‌يبٍ ﴿٤١﴾ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُ‌وجِ ) (٢) ،أي خروج ولدي القائم المهدي (ع)» .(٣)

وفي قولهُ تعالى في سورة (ق) أيضاً:( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِ‌يبٍ ﴿٤١﴾ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُ‌وجِ ) . مكان قريب. عن الصادق (رض) قال: «ينادي المنادي باسم القائم واسم أبيه (ع)، والصيحة في هذه الآية صيحة من السماء، وذلك يوم خروج القائم (ع) ».(٤)

وأيضاً في تفسير القمّي: (ينادي المنادي باسم القائم عليه السلام واسم أبيه عليه السلام. قوله:( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُ‌وجِ ) ، قال:

____________________

(١) سورة الشعراء: آية ٤.

(٢) سورة: ق: آية ٤١-٤٢.

(٣) ينابيع المودة لذوي القربى، ج ٣ ص ٢٩٧.

(٤) ينابيع المودة لذوي القربى: ج ٣ ص ٢٥١-٢٥٢.

١٤١

صيحة القائم من السماء ذلك يوم الخروج، قال: هي الرجعة).(١)

وقولهُ تعالى:( إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) (٢) عن عمر بن حنظلة قال: سألت جعفر الصادق (رض) عن علامات قيام القائم. قال: «خمس علامات قبل قيام القائم (ع): الصيحة، وخروج السفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني . قال: فتلوت هذه الآية، فقلت له: أهي الصيحة؟ قال:نعم، لو كانت الصيحة خضعت أعناق أعداء الله (عزوجل)» .

وعن أبي بصير وأبي الورد، هما، عن الباقر (رض) قال: «هذه الآية نزلت في القائم وينادي مناد باسمه واسم أبيه من السماء ».(٣)

قال عمرو بن حنظلة: سمعت ابا عبد الله (ع) يقول: «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني وقتل النفس الزكية بين الركن والمقام اسمه محمد بن الحسن، ليس بين قيام قائم آل محمد وبين قتل النفس الزكيّة إلا خمس عشرة ليله، والصيحة تكون في شهر رمضان ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين منه، وهو صوت جبرئيل من السماء ينادي في اول النهار: إنّ فلان بن فلان، أعني الحجة بن الحسن هو الامام، ألا إنّ الحقّ في علي وشيعته، وهو نداءٌ عام يسمع كلّ قوم بلسانهم . قال الراوي: قلت فمن يخالف الامام فقد نودي باسمه؟

____________________

(١) تفسيرالقمي، ج ٢، ص ٣٢٧،قوله( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِ‌يبٍ ) قال:...الخ. معجم أحاديث الامام المهدي (ع)، ج ٥ ص ٤٢٥، حديث ١٨٦١.

(٢) سورة الشعراء: آية ٤.

(٣) ينابيع المودة لذوي القربى: ج ٣، ص ٢٤٥ـ ٢٤٦.

١٤٢

قال:لا يدعهم ابليس حتى ينادي في آخر النهار: ألا ان الحقّ في السفياني وشيعته، فيرتاب المبطلون عند ذلك ».(١)

وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص): «يخرج المهدي وعلى رأسه غمامة، فيها مناد ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه ».(٢)

وعن عبد الله بن عمر أيضاً قال: قال رسول الله (ص): «يخرج المهدي وعلى رأسه ملك ينادي: هذا المهدي فاتبعوه ».(٣)

٢: في العهدين

نلاحظ ذلك أيضاً وهو غاية في الوضوح والدقّة، من خلال البشارة الخالدة لـ «يوحنا ع » في موضوع النداءِ السماويّ الخاصّ بمنقذ العالم، فقد جاء في «سفر يوحنا»: (ثم رأيت ملاكاً طائراً في وسط السماء معه بشارة ابديّة ليبشّر الساكنين على الارض وكلّ امةٍ وقبيلةٍ ولسانٍ وشعبٍ منادياً بصوتٍ عظيم: خافوا الله واعطوه مجداً لانه قد جاءت ساعة حكمه واسجدوا لصانع السماء والارض والبحر وينابيع المياه )(٤) .

ومن خلال التمعّن في هذا النصّ تتّضح امور عديدة منها:

أوّلا: إنّ كلمة (رأيت) من الفعل وتاء الفاعل تفيد أنّ هذه الرؤية الربانيّة هي بحكم الواقعة والمتحقّقة لامحالة، وإن تأخّر وقت حدوثها بالحسابات الماديّة. وأنّ الملك في وضع الطيران وأنّه قد توسّط السماء،

____________________

(١) نور الأبصار، ص٤١٦.

(٢) كشف الغمة، ج٢ ص٩٧٠-٩٧١.

(٣) نفس المصدر.

(٤) سفر يوحنا ١٤: ٦-٧، العهد الجديد، ألأصل العبرى، ص ٤٧٤.

١٤٣

يوحي أنّ الملك مرسل من قبل الله عزّ وجلّ وقد بعث لتبليغ أمر مهم جدّاً ماحدث ولن يحدث على وجه الأرض الاّ مرّة واحدة! لذلك فهو يتوسّط السماء لكي يكون بمسمع ومرأى من الجميع!.

ثانيا: إنّ البشارة التي يبشّر بها هذا الملك (أبديّة) بمعنى: أنّها ليست وليدة ساعتها ويومها وعصرها، وليست كشيءٍ سهل يأتي ثمّ يعبر ويمرّ وكأنّه لم يكن في يوم من الأيّام،كلاّ والف كلاّ، بل هي: بشارة مقدّسة وأصيلة حتميّة الوقوع والتحقّق لأنّ المبشّر الأوّل بها هو الله تبارك وتعالى لسكّان السموات والأرض، وأنّ هذه البشارة المباركة كانت موجودة ومعروفة لدى سكّان السموات ولدى شعوب وأمم الأرض منذ الأبد: أي منذ بدء الخليقة أو منذ مجيء الانسان الى الأرض...

ثالثا: إنّ هذا الملك يبشّرُ كلّ الساكنين على وجه الأرض ويتكلّم بلغة كلّ أمة وكلّ شعب وكلّ قبيلة وبكلّ لسان في آن واحد وهذا غاية في الإعجاز والرّوعة.

رابعا: يكون نداء الملك (بصوت عظيم) غير مألوف لدى سكّان الأرض ولم يسمعوا بمثله من قبل، ويوجّب على الناس المخافة من الله تعالى وأن يعطوه مجده وقدره لأنّه قد جاءت لتوّها ساعة حكمه في الأرض بواسطة المنقذ الدّخر لهذا الغرض! وكأنّ الله عزّ وجلّ لم يحكم في الأرض قط(١) ، وهذا حقّ وصدق لأنّ الله عزّ وجلّ بريء من جميع

____________________

(١) انظر: المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص ١١٩- ١٢٤.في موضوع: ملكوت الله عند السيد المسيح، يعني حكم الله في آخر الزمان وحتميته ووقت حدوثه.

١٤٤

الأحكام الوضعيّة الجائرة التي حكمت الأرض بأيدي الجبابرة والطغات المجرمين الذين أهانوا وقتلوا ومثّلوا بأنبياءه وأولياءه وأحبّاءه.

وهذا مايُسمى بـ (ملكوت الله عند السيد المسيح -ع-)، ويعني حكم الله في آخر الزمان(١) ، وأنَّ الكتاب المقدس وخاصةً العهد الجديد منهُ مليءٌ بالبشارةِ بملكوت الله تبارك وتعالى على لسان السيد المسيح (ع) حتى ورد ذكر ذلك في الصلوات المسيحية التي تقرأُ كُلَّ يوم.

وأنَّ هذا الملكوت حتميٌّ قطعيٌّ(٢) ، كما جاء في البشارة التي دوَّنها (متى) في الإنجيل:

(١٧ لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس او الانبياء ما جئت لانقض بل لاكمل ١٨ فاني الحق اقول لكم الى ان تزول السماء و الارض لا يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ١٩ فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى و علم الناس هكذا يدعى اصغر في ملكوت السماوات و اما من عمل و علم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات).(٣)

وأما وقتُ حدوث هذا الملكوت المنتظر، فقد جاء في إنجيل متى:

١٢ ويعمُّ الفساد، فتبردُ المحبَّةُ في أكثرِ القلوب ١٣ ومَن يثبُت إلى

____________________

(١) للمزيد انظر: المهدي والمسيح، في موضوع: ملكوت الله عند السيد المسيح (ع). المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص ١١٩ وما بعدها، وشرح ملكوت الله في ص ١٢٦.

(٢) انظر: المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص ١١٩-١٢٠.

(٣) العهد الجديد، متى، الإصحاح ٥، الفقرات ١٧-١٩، الكتاب المقدّس باللغة العربية ٧٣ سفراً، مصر. مع فرق يسير في العبارات.

١٤٥

النهاية يخلص ١٤ وتجيءُ النهايةُ بعدما تُعلنُ بشارةُ ملكوت الله هذه في العالم كُلِّه، شهادةً لي عند الأُمم كلّها).(١)

وتفسير هذه النبؤة: (أي نهاية التدبير الإلهي الحاضر، وإقامة ملكوت الله على وجهٍ نهائيّ...).(٢)

وأخبر إنجيل لوقا أنَّ ملكوت الله يأتي نتيجةً لإستضعاف المؤمنين والظلم الذي يقع عليهم(٣) :

(٢٠ و رفع عينيه الى تلاميذه و قال: طوباكم ايها المساكين لان لكم ملكوت الله ٢١ طوباكم ايها الجياع الان لانكم تشبعون، طوباكم ايها الباكون الان لانكم ستضحكون ٢٢ طوباكم اذا ابغضكم الناس و اذا افرزوكم و عيروكم و اخرجوا اسمكم كشرير من اجل ابن الانسان ٢٣ افرحوا في ذلك اليوم و تهللوا فهوذا اجركم عظيم في السماء لان اباءهم هكذا كانوا يفعلون بالانبياء).

ويُفصحُ النصُّ المقدَّس عمّا يكونُ من عاقبةُ أهلِ الباطل بقوله:

(٢٤ و لكن ويل لكم ايها الاغنياء لانكم قد نلتم عزاءكم ٢٥ ويل لكم ايها الشباعى لانكم ستجوعون ويل لكم ايها الضاحكون الان لانكم ستحزنون و تبكون ٢٦ ويل لكم اذا قال فيكم جميع الناس...).(٤)

____________________

(١) متى، ٢٤: ١٢-١٤،العهد الجديد، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، الكتاب المقدس،ص ٤٥.

(٢) المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص ١٢١ وما بعدها، عن: العهد الجديد، ص ١٠٣. الرهبانية اليسوعية، طبعة ١٩٨٩ م.

(٣) للمزيد انظر: المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص ١٢٥ وما بعدها.

(٤) العهد الجديد، لوقا، الإصحاح ٦، الفقرات ٢٠-٢٦، الكتاب المقدّس باللغة العربية ٧٣ سفراً، مصر.

١٤٦

هذا وقد جاء في الصلاة المسيحية:

(ليَتَقَدَّس اسمكَ ١٠ ليأتِ مَلَكوتُكَ لتكُن مشيئتُكَ في الأرض كما في السماء...).(١)

خامسا: ثمّ يأمر سكّان الأرض بأشرف عبادة ألا وهي السجود (حيث أقرب ما يكون العبد لربّه عند أشتغاله بهذه العبادة)؛ ولكن السجود لمن؟، لصانع السموات والأرض والبحر وينابيع المياه، فقد وردت كلمة (صانع) في غاية الدّقة والبلاغة والإعجاز، لأنّها ملائمة لروح العصرالحديث وما ستصل اليه البشريّة من مستوى علمي الى حين حصول هذا النداء السماويّ، حيث التقدّم الصناعي الهائل لدى البشريّة حتّى يخيّل للبعض أنّهم قادرون على صنع كلّ شيء! ولكنّ هذا الملك المنادي من السماء يوقفهم عند حدّهم ويوقظهم من غفوتهم ويقرّهم بالعجز التّام، ذلك لأنّهم مهما بلغ بهم التطوّر والتقدّم الصناعاتي والتّقنيات والتكنلوجيا... لم ولن يستطيعوا صنع سماء مبنيّة بهذه السعة وبهذه القوانين الكونيّة المرعبة الخارقة لكلّ القوانين الطبيعيّة، بل وحتّى لخيال الانسان وإدراكاته؛ وأرض مدحيّة بهذا الحجم وماتحتويه من مستلزمات العيش على سطحها بكلّ رفاهيّة؛ وبحارا بهذه المساحات الشاسعة والتّنوّع العجيب؛ وينابيع المياه العذبه التي فجّرها الجواد الكريم بهذه الكثرة والإنتشار والسقي المتواصل للحرث والنسل.

سادسا: تعدّ هذه البشارة الإلهيّة بمثابة شرحٍ وافٍ للنداء السماويّ

____________________

(١) متى، ٦: نهاية الفقرة: ٩-١٠،العهد الجديد، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، الكتاب المقدس، ص١٠.

١٤٧

المحتوم الذي يتزامن مع ظهور بقيّة الله في أرضه وأمل الانسانية، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا النداء بـ (الصيحة بالحق ) كما جاء في قوله عزّ وجلّ:( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِ‌يبٍ ﴿٤١﴾ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُرُ‌وجِ ) . (١)

لذا فكُلُّ ماتقدَّمَ في هذه البشارة، ثابتٌ في القرآن والسنَّة المطهَّرة، وهو حقٌّ وصدقٌ، لأنَّ منقذَ البشريّة (عجّل الله تعالى فرجه المبارك) يُنادى باسمه واسم ابيه ونسبه الشريف وينوّه عن مقامه الكريم حين ظهوره المبارك بواسطة وحي الله الأمين جبرَئيل (عليه السلام).(٢)

ثانياً: الدجّالُ والخسفُ وسفكُ الدماءِ

١: في القرآن الكريم

قوله تعالى:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ‌ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْ‌جُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ‌ كَيْفَ نُصَرِّ‌فُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) (٢) .

عن القمّي: عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله: هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم هو الدّجال والصّيحة، او من تحت أرجلكم وهو الخسف، او يلبسكم شيعا وهو اختلاف في الدين وطعن بعضكم على بعض، ويذيق بعضكم بأس بعض وهو أن يقتل بعضكم بعضا وكلّ هذا في

____________________

(١) سورة ق: ٤١ - ٤٢.

(٢) للإطلاع انظر: المسيح المنتظر ونهاية العالم، ص ١٨٥-١٩٠.

(٣) سورة الأنعام: آية ٦٥.

١٤٨

أهل القبلة بقول الله أنظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون.(١)

عن النبيّ (ص):(ليأتيّنَّ على هذه الأُمة يومٌ يُمسون يتساءَلون، بمن خُسِفَ الليلة كما يتساءَلون بمن بقيَ من آل فلان، وهل بقيَ من آل فلان فلان) .(٢)

وعن أمير الؤمنين (ع):(... بين يدي القائم موتٌ أحمر، وموتٌ أبيض... فالموت الأحمر السيف، وأما الموت الأبيض فالطاعون) .(٣)

وعن الصادق (ع):(قدام القائم موتان، موتٌ أحمر وموتٌ أبيض حتى يذهب من كلِّ سبعةٍ خمسة) .(٤)

٢: في العهدين

جاء في رسالة يوحنا الأولى في باب (المُسَحاء الدجالون):

(يا أبنائي الصغار، جاءت الساعة الأخيرة. سمعتم أنَّ مسيحاً دجّالاً سيجيءُ...).(٥)

وجاء في سفر الرؤيا:

____________________

(١) تفسير القمي، ج ٢،ص ٢٠٤. بحار الأنوار، ج ٩ ص ٢٠٥، و ج ٥٢ ص ١٨١. الزام الناصب: ج٢ ص١١٣-١١٤، وج٢ ص٩٨.

(٢) الملاحم والفتن، ص ١٣٢، نقلاً عن فتن السليلي.

(٣) الغيبة للنعماني، ص ٢٧٧. الإرشاد، ص ٣٥٩. الغيبة للطوسي، ص ٢٦٧. بحار الأنوار، ج ٥٢، ص ٢١١. السراط المستقيم، ج ٢، ص ٢٤٩.

(٤) كمال الدين، ج٢ ص٦٥. بحار الأنوار، ج٥٢، ص٢٠٧. العدد القوية، ص٦٦.

(٥) يوحنا، الرسالة الثانية ٢: ١٨،العهد الجديد، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، الكتاب المقدس،ص ٣٨٦.

١٤٩

(١٣) ثم بوق الملاك السادس فسمعت صوتاً واحداً من اربعة قرون مذبح الذهب الذي امام الله(١٤) قائلا للملاك السادس الذي معه البوق فك الاربعة الملائكة المقيدين عند النهر العظيم الفرات (١٥) فانفك الاربعة الملائكة المعدون للساعة و اليوم و الشهر و السنة لكي يقتلوا ثلث الناس(١٦) و عدد جيوش الفرسان مئتا الف الف و انا سمعت عددهم (١٧) و هكذا رايت الخيل في الرؤيا و الجالسين عليها لهم دروع نارية واسمانجونية و كبريتية و رؤوس الخيل كرؤوس الاسود و من افواهها يخرج نار و دخان و كبريت (١٨) من هذه الثلاثة قتل ثلث الناس من النار والدخان و الكبريت الخارجة من افواهها (١٩) فان سلطانها هو في افواهها و في اذنابها لان اذنابها شبه الحيات و لها رؤوس و بها تضر...(١)

ثالثاً: اليأس الذي يعمُّ العالم

١: في القرآن الكريم والروايات الشريفة

في قوله تبارك وتعالى:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّ‌سُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُ‌نَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَ‌دُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِ‌مِينَ ) (٢) .

( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ‌ يُسْرً‌ا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ‌ يُسْرً‌ا ) (٣) .

____________________

(١) العهد الجديد، سفر الرؤيا (رؤيا يوحنا اللاهوتي)، الإصحاح ٩، الفقرات ١٣ـ ١٩، الكتاب المقدّس باللغة العربية ٧٣ سفراً، مصر.

(٢) سورة يوسف: آية ١١٠.

(٣) سورة الإنشراح: آية ٥.

١٥٠

جاء في الاحكام: باب القول فيما ذكر عن المهدي عليه السلام قال يحيى بن الحسين...: نرجو أن يكون الله قد قرب ذلك وأدناه، وذلك أنا نرى المنكر قد ظهر والحق قد درس وغير وقد قال الله سبحانه:( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ‌ يُسْرً‌ا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ‌ يُسْرً‌ا ) ، وقال:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّ‌سُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْـرُ‌نَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَ‌دُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِ‌مِينَ ) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(اشتدي أزمة تنفرجي) ، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(لان أكون في شدة انتظر رخاء أحب إلى من أن أكون في رخاء أنتظر شدة) (١) .

وفي عيون أخبار الرضا (ع): (... فقال المأمون: لله درك أبا الحسن عليه السلام فأخبرني عن قول الله عز وجل:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّ‌سُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُ‌نَا ) ، قال الرضا عليه السلام يقول الله عز وجل:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّ‌سُلُ ) من قومهم وظن قومهم ان الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن...)(٢) .

وفي كمال الدين وتمام النعمة: (... قال المفضل:فقلت:يا ابن رسول الله فإن (هذه) النواصب تزعم أن هذه الآية(٣) نزلت في أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلي عليه السلام فقال:لا يهدي الله قلوب الناصبة. متى كان الدين الذي ارتضاه الله ورسوله متمكنا بانتشار الامن في الأمة، وذهاب الخوف من

____________________

(١) الاحكام، ج ٢، ص ٤٦٨.

(٢) عيون أخبار الرضا (ع)، ج ٢، ص ١٧٩-١٨٠.

(٣)( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ) ، الآية ٥٥ سورة النور.

١٥١

قلوبها، وارتفاع الشك من صدورها في عهد واحد من هؤلاء، وفي عهد علي عليه السلام مع ارتداد المسلمين والفتن التي تثور في أيامهم، والحروب التي كانت تنشب بين الكفار وبينهم . ثم تلا الصادق عليه السلام:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّ‌سُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُ‌نَا ) (١) .

ولعلَّ في قوله سبحانه وتعالى:( إِنَّا لَنَنصُرُ‌ رُ‌سُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) (٢) ، ما يوحي الى ذلك النصر، إذ أنَّهُ عزَّ وجلَّ يتحدَّثُ عن نصرين كبيرين،الأول هو النصر الجماعي للرُّسُلِ(ع) بواسطة المنقذ، وذلك بعد الانتظار الطويل ويأس الشعوب، والثاني هو نصرُ الآخرة، واللهُ العالم.

وفي صحيح البخاري(٣) :

(حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة انه سال عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قوله:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّ‌سُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) أو كذبوا؟

قالت بل كذبهم قومهم، فقلت: والله لقد استيقنوا ان قومهم كذبوهم وما هو بالظن فقالت: يا عروة لقد استيقنوا بذلك قلت فلعلها أو كذبوا، قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها واما هذه الآية قالت: هم اتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم

____________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة، ص ٣٥٦-٣٥٧.

(٢) سورة غافر: آية ٥١.

(٣) صحيح البخاري، ج ٤، ص ١٢٣.

(١) وهذا الحال لايدومُ طويلاً، بل هي فترةٌ مرحلية وليست طويلة الأمد، كما يظهر من الأخبار الشريفة.

(٢) ينابيع المودة، ص٤٤. إحقاق الحق، ج١٣ ص ١٢٥.

(٣) إبن المنادي، الملاحم، ص٦٤. كنز العمال، ج١٤ ص ٥٩٢. إبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج١ ص ٢٧٦. احقاق الحق، ج١٣ ص ٣١٤. الإرشاد، ص١٢٨. بحار الأنوار، ج ٣٢ ص ٩. المسترشد، ص ٧٥. غاية المرام، ص ٢٠٨. منتخب كنز العمال، ج١٦ ص ٣٥.

١٥٢

النصر حتى إذا استيأست ممن كذبهم من قومهم وظنوا ان اتباعهم كذبوهم جاءهم نصر الله)، انتهى.

وعليهِ، واثرَ تلك الأحداث المروِّعة - التي قد بيَّنّا شيئاً منها في الموضوع السابق: الدجال والخسف وسفك الدماء - يُفقَدُ الأملُ من الشعوب والأُمم ويستشري اليأسُ وسوءُ الظنِّ بعدم الفرج، وينقطعُ الرجاء(١) :

فقد وردَ عن رسول الله (ص):(ياعليّ... وذلك الحين تغيّرت البلاد وضعفَ العباد واليأس من الفرج، فعند ذلك يظهر القائم المهدي من ولدي...) .(٢)

وعن عليٍّ (ع):(وليكونن من يخلفني في أهلِ بيتي، وذلك بعدَ زمانٍ كلِحٍ مصفح يشتدُّ فيهِ البلاءِ، وينقطعُ فيه الرجاءُ) .(٣)

- وعن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم ذكر الملاحم، وقال في آخرها:(ويباع الأحرار للجهد الذي يحل بهم، يقرون بالعبودية الرجال والنساء، ويستخدم المشركون المسلمين، ويبيعونهم في الأمصار، لا يتحاشى لذلك برّ ولا فاجر، يا حذيفة لا يزال ذلك البلاء على أهل ذلك الزمان حتى إذا أيسوا وقنطوا وأساؤا الظن أن لا يفرَّج عنهم إذ بعث الله رجلاً من أطائبِ عترتي وأبرارِ ذرّيَّتي عدلاً

____________________

(١) وهذا الحال لايدومُ طويلاً، بل هي فترةٌ مرحلية وليست طويلة الأمد، كما يظهر من الأخبار الشريفة.

(٢) ينابيع المودة، ص٤٤. إحقاق الحق، ج١٣ ص ١٢٥.

(٣) إبن المنادي، الملاحم، ص٦٤. كنز العمال، ج١٤ ص ٥٩٢. إبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج١ ص ٢٧٦. احقاق الحق، ج١٣ ص ٣١٤. الإرشاد، ص١٢٨. بحار الأنوار، ج ٣٢ ص ٩. المسترشد، ص ٧٥. غاية المرام، ص ٢٠٨. منتخب كنز العمال، ج١٦ ص ٣٥.

١٥٣

مباركاً زكياً لا يغادر مثال ذرة، يعز الله به الدين والقرآن والإسلام وأهله، ويذل به الشرك وأهله، يكون من الله على حذرٍ، لا يغتر بقرابته، لا يضع حجراً على حجرٍ، ولا يقرع أحداً في ولايته بسوط إلا في حد، يمحو الله به البدع كلها، ويميت به الفتن كلها، يفتح الله به كل باب حق، ويغلق به كل باب باطل، يرد الله به سَبي المسلمين حيث كانوا قلت: فسمِّ لنا هذا العبد الذي قد اختاره الله لامتك وذريتك، فقال:(اسمه كاسمي، واسم أبيه كاسم أبي، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لجعل الله مقدار ما يكون فيه جميع ما ذكرت) .(١)

٢: في العهدين

حيث أخبر يوحنا (ع) في سفر الرؤيا، أنّ الأنبياء والمقدّسين والمظلومين ينفذُ صبرهم في آخر الزمان ويطلبون من الله عزَّ وجلَّ الإنتقام والنصر:

(١٠ وصرخوا بصوتٍ عظيمٍ قائلين: حتّى متى أيّها السيد القدّوس والحق! لاتقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض...الى أن يقول حيث يستجيبُ الله لهم: قد جاء يوم غضبه العظيم، ومن يستطيع الوقوف).(٢)

وفي بشرى الخلاص: بشَّر اشعياء النبي (ع) في سفره المقدّس، جميع المساكين والبائسين واليائسين:

____________________

(١) الملاحم والفتن، ص ٢٦٤-٢٦٥. الأمالي، للشجري، ج٢ ص٢٧٧.

(٢) سفر الرؤيا ٦: ١٠، ١٧،العهد الجديد، الأصل العبري.

١٥٤

(١روحُ السيد الرب عليَّ، لان الرب مسحني لأُبشّرَ المساكين ارسلني لاعصب منكسري القلب لأُنادي للمسبيّين بالعتق و للماسورين بالاطلاق* ٢ لأُنادي بسنة مقبولة للرب و بيوم انتقام لالهنا لأُعزّي كل النائحين* ٣... لأَعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد، و دهن فرح عوضاً عن النوح، و رداء تسبيح عوضاً عن الروح اليائسة فيدعون اشجار البر غرس الرب للتمجيد* ٤ و يبنون الخرب القديمة يقيمون الموحشات الاول و يجددون المدن الخربة موحشات دور فدور*...، ٧ عوضاً عن خزيكم ضعفان و عوضاً عن الخجل يبتهجون بنصيبهم لذلك يرثون في ارضهم ضعفين بهجة ابدية تكون لهم* ٨ لاني انا الرب محب العدل مبغض المختلس بالظلم و اجعل اجرتهم امينة و اقطع لهم عهدا ابدياً * ٩ و يعرف بين الامم نسلهم و ذريتهم في وسط الشعوب كل الذين يرونهم يعرفونهم انهم نسل باركهُ الرب* ١٠ فرحاً افرح بالرب تبتهج نفسي بالهي لانه قد البسني ثياب الخلاص كساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة و مثل عروس تتزين بحليها* ١١ لانه كما ان الارض تخرج نباتها و كما ان الجنة تنبت مزروعاتها هكذا السيد الرب ينبت براً و تسبيحاً امام كل الامم*)(١) .

____________________

(١) العهد القديم، سفر إشعياء، الإصحاح ٦١، الفقرات كما مبيَّنة في النص، الكتاب المقدّس باللغة العربية ٧٣ سفراً، مصر.

١٥٥

١٥٦

الفصل الرابع:

أحداث ظهور منقذ العالم ومابعد الظهور

المبحث الأول:حالة العالم عند الظهور وكيفية الظهور

المبحث الثاني: أوصاف القائم المنقذ

المبحث الثالث: أوصاف حكومة منقذ العالم ودولته

١٥٧

١٥٨

المبحث الأول:حالة العالم قُبَيلَ الظهور وعند الظهور وبعدَهُ وكيفية الظهور

بما أنَّ ظهور منقذ العالم حدثٌ إلهيٌّ عظيمٌ، وآيةٌ من آياته الكبرى، وشأناً من شؤونه المقدّسة، ويوماً عارماً من أيامه التي لاتُنسى أبداً سواء قبل مجيئه أو بعدهُ؛ لذا فقد أجمعت الكتبُ المقدّسة وعمومُ الأنبياء والرسل (عليهمُ الصلاةُ السلامُ) على أنَّ هناكَ أحداثاً كبيرةً وعجائباً وغرائبأً ومعاجزاً تكونُ عندَ ظهوره وترافقهُ في دولته العالمية الكبرى. ومن المناسب هنا أن نذكُرَ شيئاً عن أحوال العالم قُبيلَ ظهورالمنقذ الموعود وعندَ ظهوره وبعدهُ وكيفية ذلك الظهور المبارك.

المبحث الأول: حالة العالم قُبَيلَ الظهور وعند الظهور وبعدَهُ وكيفية الظهور

ويتضحُ ذلك كله عبر الآيات الكريمة والروايات الشريفة، والنصوص المقدّسة في العهدين، الدالة على مواضيعها الخاصة المتعلّقة بتلك الفترة النيِّرة والمباركة من تاريخ البشرية على سطح هذا الكوكب، ونذكرُ شيئاً منها على نحو الإختصار:

أولاً: إنتظار القائم وطلب الشعوب لهُ:

١: في القرآن الكريم والروايات الشريفة

أ : في قوله تعالى:( فَانتَظِرُ‌وا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِ‌ينَ ) (١) .

____________________

(١) سورة يونس: آية ٢٠.

١٥٩

عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: سألتهُ عن شيءٍ في الفرج فقال:(أوليس تعلمُ أنَّ انتظار الفرج من الفرج، انَّ الله يقول: ( فَانتَظِرُ‌وا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِ‌ينَ ) ) .(١)

ب : في قوله تعالى:( وَارْ‌تَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَ‌قِيبٌ ) (٢) .

عن أحمد بن محمد، عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: سمعتهُ يقول:(ما أحسنَ الصبر وانتظار الفرج، أما سمعتَ قولَ العبد الصالح: فـ انتظروا إنّي معكم من المنتظرين. أوليس تعلمُ أنَّ انتظار الفرج من الفرج؟ ثم قال:انَّ الله تبارك وتعالى يقول: واتقبوا انّي معكم رقيبُ) .(٣)

ج : في قوله تعالى:( هَلْ يَنظُرُ‌ونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَ‌بُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَ‌بِّكَ ) (٤) .

عن الإمام الباقر (ع):(وقولهُ: ( هَلْ يَنظُرُ‌ونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَ‌بُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَ‌بِّكَ ) : من العذاب والموت والقائم،...) .(٥)

هذا وقد حثَّ الدين الإسلامي الحنيف على الإنتظار الإيجابي لفرج الله الأعظم بظهور منقذ العالم وعدم الياس من روح الله تعالى(٦) ، وأنَّ المنتظر

____________________

(١) تفسير العياشي، ج٢ ص ١٣٨. كمال الدين، ج٢ص٦٤٥ ز بحار الأنوار، ج ٥٢ ص ١٢٨.

(٢) سورة هود: آية ٩٣.

(٣) تفسير العياشي، ج٢ص٢٠ و ج٢ ص ١٥٩. وعنهُ البرهان ج٣ ص ٢٣٢. والبحار، ج١٢ص ٣٧٩.

(٤) سورة الأنعام: آية ١٥٨.

(٥) تفسير القمي، ج١ص ٣٨٤. وعنه الإيقاظ، ص٢٥٣.

(٦) انظر: الخصال، ج٢ ص ٦١٠. كمال الدين، ج٢ ص ٦٤٥. تحف العقول، ١٠٦.

١٦٠

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣

يسجدونها تقول الآية التي بعدها :( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) .

إنّ تكرار جملة( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ) دليل على التأكيد ، وعلى الاستمرار أيضا.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة( يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) دليل على أنّهم لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة ، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل ، وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان :

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

من الدروس المهمّة التي نستفيدها من الآيات أعلاه ، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية ، فإذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إنّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة بالرغم من أنّه كان موجودا في مخزون علم الله كاملا ، وقد تمّ عرضه في ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ، إلّا أنّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة ، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي إطار برنامج عملي دقيق.

وعند ما يقوم الخالق جلّ وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة وغير المتناهية عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا ، حيث أنّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

١٧٤

وحسب ، بل في عالم التكوين أيضا. إنّه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الانتصارات النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإيمان

الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإيمان، إذ تقول الآيات : إنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإنّ العلماء سيؤمنون بالله إلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدّة الوله والحبّ ، وتجري الدّموع من أعينهم، وإنّ هذا الخشوع والتأدّب يتصف بالاستمرار في كل عصر وزمان.

إنّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالاستهزاء والسخرية ، وإذا أثّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنّه سيكون تأثيرا ضعيفا خاليا من الحبّ والحرارة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أمّا القرآن فإنّه يؤكّد على عكس ذلك تماما ، إذ يقول في مواقع متعدّدة : إنّ العلم والإيمان توأمان ، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان عميق ثابت من دون علم ، والعلم في مراحلة المتقدمة يحتاج إلى الإيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

١٧٥

الآيتان

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) )

سبب النّزول

وردت آراء متعدّدة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون متهمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يدعونا إلى إله واحد ، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1) .

__________________

(1) يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

١٧٦

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالق بأسماء متعدّدة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعدّدة تتناسب مع أفعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحدهعزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساسا ، فانّ الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبّر عن ذاته ، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له ، وإنّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا ، حتى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه ، نراه يقول : «ما عرفناك حق معرفتك».

إنّ الله تعالى في قضية معرفتنا إيّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة ، بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته ، وذكر نفسه بأسماء متعدّدة في كتابه العظيم ، ومن خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إلى ألف اسم.

وطبيعي أنّ كل هذه أسماء الله ، وأحد معاني الأسماء العلّامة ، لذا فإنّ هذه علامات على ذاته الطاهرة ، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة

١٧٧

واحدة ، وهي لا تقلّل من شأن توحيد الذات والصفات.

وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر ، حيث تعطينا معرفة ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإسلامية ، بالأسماء الحسنى ، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونها : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى ، والأسماء التسعة والتسعين بالذات ، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف ، في قوله تعالى :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

لكن علينا أن نفهم أنّ الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب ، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنّة ومستجاب الدعوة ، بل إنّ الهدف هو التخلّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء ، مثل (العالم ، والرحمن ، والرحيم ، والجواد،والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنّة ومستجابي الدعوة.

وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاء فيه :

يقول هشام بن الحكم : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره واشتقاقها فقلت : الله ممّا هو مشتق؟

قالعليه‌السلام : «يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟».

قال هشام : قلت : زدني.

قالعليه‌السلام : «للهعزوجل تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان

١٧٨

كلّ اسم منها هو إلها ، ولكن اللهعزوجل معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره.

يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق»(1) .

والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

لذلك فإنّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إنّ المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر والإخفات ، فهي تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير من المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيّد هذا المعنى.(2)

وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه(3) .

لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الاعتدال ، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنّ الجهر هو بمعنى (الصراخ) ، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية :

__________________

(1) توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

(2) ـ يمكن مراجعة نور الثقلين ، ج 3 ، ص 233 فما بعد.

١٧٩

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسع نفسك ، واقرأ بين ذلك»(1) .

أمّا الإخفات والجهر في الصلوات اليومية ، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ له حكم آخر، أو مفهوم آخر ، أي له أدلة منفصلة ، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهما وإدراكا من جهتين :

الأولى : لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونة بالوقار والهدوء والأدب ، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بإلقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت ، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين ، هم على خطأ ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات ، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.

الثّانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو :( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاتهعزوجل . إنّ هذه الآية ـ في

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 234.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260