المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية

المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية23%

المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية مؤلف:
الناشر: مؤسسة العهد الصادق الثقافية
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 260

المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية
  • البداية
  • السابق
  • 260 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 112838 / تحميل: 7167
الحجم الحجم الحجم
المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية

المنقذ الأعظم عقيدة ومشروع الكتب السّماوية

مؤلف:
الناشر: مؤسسة العهد الصادق الثقافية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

المحتسب كالمجاهد مع الإمام منقذ العالم(١) ، وأنَّ المنتظر المخلص في ولائه من أهل الجنَّة(٢) ، وأنَّ الإيمان في دولة الباطل أفضل منهُ في دولة الحقّ.(٣)

د : وفي قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُ‌وا وَصَابِرُ‌وا وَرَ‌ابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٤) . وجوب الثبات على الاعتقاد بإمامة المهدي عليه السلام وانتظاره وتوقّع ظهوره، فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام:(اصبروا على أداء الفرائض، وصابروا عدوكم، ورابطوا إمامكم المنتظر) (٥) .

٢: في العهدين

«أشعيا» يبشّر الجميع بالقائم المنقذ:

في جانب آخر من (سفر اشعيا -ع -) نجد اشارات صريحة بظهور مُنقذ العالم وكيفية حكمه وارتباطه بالله تعالى، التي لها دلالات لما ورد عن الرسول(ص) والائمة (ع) وعموم المسلمين بخصوص الامام المهدي (عج )، وقد جاءت الاشارة الى الامام (عج ) بأحد القابه المهمّة وهو «القائم »:

(١٠ وفي ذلك اليوم سَيرفَعُ « القائمُ » رايةً للشعوب والامم التي تَطلبُهُ وتَنتظرُهُ ويكونُ محلُّهُ مَجداً).(٦)

____________________

(١) انظر: مجمع البيان ج ٩ ص ٢٣٨. الكافي، ج ٢ص ٢١. المحاسن، ص ١٧٣.

(٢) انظر: الكافي ج ٨ ص ٧٦. البحا ج٤٦ ص ٣٦١.

(٣) انظر: الكافي، ج١ ص ٣٣٣. الإختصاص، ص٢٠. كمال الدين، ج٢ ص ٦٤٥.

(٤) سورة آل عمران: آية ٢٠٠.

(٥) انظر: معجم أحاديث الإمام المهدي (ع)، ج ٥، ص ٦٦-٦٧. الزام الناصب: ج ١ ص٥٣.

(٦) سفر أشعيا ١١: ١٠:ألأصل العبرى،العهد القديم، ص٦٢٥. وسنقف على ترك كلمة (يسَّى) دون ترجمة على التوالي.(أهل البيت فى الكتاب المقدس)، ص ١٢٣ - ١٢٧.

١٦١

وكما هو واضح فانّ هذه الفقرة باطلاقها تؤكّدعلى: أنّ كلّ الشعوب والامم تطلبه وتنتظره قبل مجيئه،وليس قسماً من هذه الشعوب والأمم، وهذا يدلّ على معرفة هذه الشعوب والامم بهذا الرجل الالهيّ المقدس، فهي تعرفه بكلّ أبعاد المعرفة: معرفة فطريّة ومعرفة عقلية ومعرفة سماويّة.

حيث زرع الله عزّ وجلّ في فطرتهم معرفة خليفته الأعظم المدّخر، وأوحى اليهم ذلك عبرَ مختلف العصور، وأدركوا ذلك أيضاً بعقولهم من خلال الأدلّة الهائلة التي لاتحدّ ولاتحصى:

ومنها انّ الخالق القادر الحكيم الذي أتقن صنع كلّ شيء في الوجود بدءً بالفيروس الصغير الذي لايُرى بالعين المجرّدة وانتهاءً بأعظم مجرّةٍٍ تمّ أكتشافها لحدّ الآن؛ فمن دواعي حكمته وربوبيّته أن يُمضي حكمَهُ في الأرض، ويُرينا عدلَهُ وقسطَهُ بواسطة ممثّله الشرعي الدّال عليه والحاكم بأسمه، ولايترك الدنيا هكذا على علاّتها، والشعوبَ لقمةً سائغةً لازال يمضغها بفكّيه فرعون وهامان وجنودهما وبقوانين وضعيّة قد تبرّأَ منها كلّ شريف.

فهذه الشعوب والأمم: تطلبُهُ ناصراً ومعيناً ومغيثاً ومنقذاً لما أصابها من حيفٍٍ وظلم على مدى تعاقب العصور!.

وهي تنتظرُهُ: إنتظارَ الحبيب لحبيبه، انتظاراً فيه الأملُ والرجاءُ، كشوق الأرض الجدباء لقطر السماء؛ وتحنّ اليه حنيناً منقطع النظير.

وبعدما بيّنت الفقرة العاشرة انتظار الشعوب والأمم وطلبهم للقائم، ذكرت نتيجة هذا الطلب والانتظار المقدّس عندما يحلّ بينهم حيث قالت: ( ويكونُ محلهُ مجداً): أي يكون وجودُهُ بين شعوب الأرض وأممها مفخرةً

١٦٢

كبرى، وبركةً ونعمةً، وأرتقاءً بمستوى الانسانيّة الى أعلى ذُرى المجد والعزّة والكرامة ومباركة الربّ جلّ وعلا.

وبسبب أهميّة هذا النصّ وهذه الفقرة منه خاصّة فقد عمد (أعداء الحقّ والصّدق) الى طمس الحقيقة الالهية الدامغة وتشويشها لقلب معناها أو لصرفه عن الأذهان قدَرَ الامكان وقد نجحوا في ذلك الى أمد غير بعيد. ولإماطَة اللّثام عن هذه المحاولة البائسة وكشفها، نشير الى أمرين:

الأول: إنّ اللفظة المخصوصة (يسّسي) (١) التي وردت في الفقرة(١٠) من النصّ العبري، تعني: (سيرفع)، وقد جاءت بصيغة الاستقبال لدخول حرف (الياء) عليها(٢) . والماضي منه (ناسا) بمعنى: (رفع)(٣) ، ومترجم (العهد القديم) في النسخة العربيّة(٤) لم يترجم لفظة (يسّسي) العبريّة والتي تعني: (سيرفع)، بل أبقاها على حالها من غير ترجمة الى اللّغة العربيّة محاولةً منه لبس المعنى واثارة الغموض حول مفهوم - القائم - (عج).

____________________

(١) (اهل البيت (ع ) في الكتاب المقدس ) ص ١٢٧-١٢٨، عن سفر أشعيا ١١: ١٠، ص ١٠٠٥، النسخة العربية. وجاءت في المصادر كلمة (يسَّي) بسينٍ واحدةٍ مشدَّدةٍ ومفتوحةٍ، ولعلّ صاحب (أهل البيت في الكتاب المقدس) أثبتها بسينيين للتوضيح فأُضيفت الشدَّة إشتباهاً.

(٢) قواعد اللغة العربية، ص٩٨.

(٣) المعجم الحديث، عبري - عربي، ص ٣١٥.

(٤) العهد القديم، سفر إشعياء، الإصحاح ١١، الفقرة، ١٠، الكتاب المقدّس باللغة العربية، مصر: فقد أردف كلمة (يسّي) بالقائم، فقال: يسّي القائم...الخ.

١٦٣

وأمّا الأمر الثاني: انّ لفظة (عوميد) جاءت (كاسم فاعل)(١) وتعني (القائم)(٢) ...الخ.(٣)

وأما ما جاء في الكتاب المقدس، طبعة أُولى، بيروت،دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، العهد القديم، الإصدار الثاني ١٩٩٥، في سفر إشعيا ١١: (١ و ١٠) فهو من الروعة بمكان، ويستحقُّ التأمُّل، وهو كالآتي:

(١ يخرُجُ فرعٌ من جذع يَسَّى(٤) وينمو غُصنٌ من أُصوله).ثمّ يبيّن عبر ثمانية فقرات صفات ومؤهلات وخيرات هذا الموعود المبارك، ويخلص في القول الى:

____________________

(١) قواعد اللغة العربية، ص٣٨.

(٢) (اهل البيت (ع ) في الكتاب المقدس ) ص ١٢٧-١٢٨ بتصرّف.

(٣) المعجم الحديث: ٣٤٩.

(٤) يسّي: هو والدُ داود (ع)، وقد بشّرت التوراة بأن المنقذ ومخلص العالم هو من نسل داود(ع) حيناً، وحينأً آخر من نسل يوسف (ع)... الخ، غير ان مفسري التوراة يصرون على القول أنَّ هذه الشخصيات تمثّلُ المسيح (ع)...، فهل الحقّ كذلك؟ لكن لو رجعنا على سبيل التمثيل لا الحصر: الى المزمور ٧٢، في الكتاب المقدّس، مصر: حيث جاء فيه:

(١ اللهم اعط احكامك للملك و برك لابن الملك* ٢ يدين شعبك بالعدل و مساكينك بالحق* ٣ تحمل الجبال سلاما للشعب و الاكام بالبر* ٤ يقضي لمساكين الشعب يخلص بني البائسين و يسحق الظالم* ٥ يخشونك ما دامت الشمس و قدام القمر الى دور فدور* ٦ ينزل مثل المطر على الجزاز و مثل الغيوث الذارفة على الارض* ٧ يشرق في ايامه الصديق و كثرة السلام الى ان يضمحل القمر* ٨ و يملك من البحر الى البحر و من النهر الى اقاصي الارض* =

١٦٤

(في ذلك اليوم يرتفعُ أصلُ يسَّى رايةً للشعوب. تطلُبُهُ الأُمم ويكونُ موطنهُ مجيداً، ١١ وفي ذلك اليوم يعودُ الربُّ فيمُدُّ يدَهُ لافتداء بَقيَّة شعبه في أشُّورَ ومصرَ وفتروسَ وكوشَ وعيلامَ وشنعارَ وحماةَ وفي جُزُر البحر، ١٢ ويرفعُ الربُّ رايةً في الأُمم...).(١)

وهنا سؤالٌ يطرحُ نفسهُ وهو:

____________________

= ٩ امامه تجثو اهل البرية و اعداؤه يلحسون التراب* ١٠ ملوك ترشيش و الجزائر يرسلون تقدمة ملوك شبا و سبا يقدمون هدية* ١١ و يسجد له كل الملوك كل الامم تتعبد له* ١٢ لانه ينجي الفقير المستغيث و المسكين اذ لا معين له* ١٣ يشفق على المسكين و البائس و يخلص انفس الفقراء* ١٤ من الظلم و الخطف يفدي انفسهم و يكرم دمهم في عينيه* ١٥ و يعيش و يعطيه من ذهب شبا و يصلي لاجله دائما اليوم كله يباركه* ١٦ تكون حفنة بر في الارض في رؤوس الجبال تتمايل مثل لبنان ثمرتها و يزهرون من المدينة مثل عشب الارض* ١٧ يكون اسمه الى الدهر قدام الشمس يمتد اسمه و يتباركون به كل امم الارض يطوبونه* ١٨ مبارك الرب الله اله اسرائيل الصانع العجائب وحده* ١٩ و مبارك اسم مجده الى الدهر و لتمتلئ الارض كلها من مجده امين ثم امين تمت صلوات داود بن يسى*).مع ملاحظة الإختلاف في ألفاظ الترجمة (وكلا المعنيين واحد) في: الكتاب المقدس، طبعة أُولى، بيروت،دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، العهد القديم، الإصدار الثاني ١٩٩٥م،ص ٧٨٧، المزمور ٧٢. ونضيرُ هذا كثير.

فهل يمكن أن يكون هذا المسيح (ع) وهو لم يقم بشيءٍ من هذا؟ انظر: المهدي المنتظر بين الدين والفكر البشري، ص ٥٧ وما بعدها، تحت عنوان: المخلّص في التوراة.

(١) الكتاب المقدس، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، العهد القديم، ص ٩٢٤، سفر إشعيا ١١: (١،١٠، ١١، ١٢).

١٦٥

من هو القضيب المبارك الذي يخرجُ في آخر الزمان كمنقذٍ لكلّ الشعوب والأُمم وهو من ذريّة الأنبياء (عليهم السلام)، ومن جذع (يَسَّى) كما في هذا النصّ وغيره في الكتاب المقدّس، وتارةً في نصوص أُخر قال إنَّه من نسل يوسف (ع)(١) ، و(يَسَّى) هذا، هل هُوَ (يس) في قوله تعالى:

( يس ﴿١﴾ وَالْقُرْ‌آنِ الْحَكِيمِ ﴿٢﴾ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْ‌سَلِينَ ) (٢) ؟

و(ياسين) (٣) في قوله تعالى:( سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ) (٤) ؟

وفي إنجيل برنابا سُمّيَ بـ (مسّيا)؟.(٥)

ولو أنا تمعنّا في سفر إشعياء النبيّ (ع)(٦) ، الإصحاح ٦٥: ١١ - ٢٥، وقارنّاها مع:

____________________

(١) وفي نصوص أُخرى، أنه من نسل يوسف (ع)، انظر: المهدي المنتظر بين الدين والفكر البشري، ص ٥٧.

(٢) سورةُ يس: ١- ٣.

(٣) أحدُ أسماء النبيّ محمد (ص) وقد وردَ في القرآن.

(٤) انظر: المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص٤٨، وما بعدها.

(٥) وشرحُهُ في انجيل برنابا، في الفصل الثامن والثمانون: ١٥-١٨، برنابا: من تلاميذ المسيح (ع)، ونسخة الإنجيل المنسوبة اليه، ترجمها العلامة المسيحي اللبناني الدكتور خليل سعادة من الإنكليزية الى العربية، وهي من خزائن الفاتيكان باللغة الإيطالية.

(٦) انظر: العهد القديم، سفر إشعياء، الإصحاح ٦٥، الفقرة: ١١-٢٥، الكتاب المقدّس باللغة العربية ٧٣ سفراً، مصر. فقد جاءت كما يلي:(١١ اما انتم الذين تركوا الرب و نسوا جبل قدسي و رتبوا للسعد الاكبر مائدة و ملاوا للسعد الاصغر خمرا ممزوجة* ١٢ فاني اعينكم للسيف و تجثون كلكم للذبح لاني دعوت فلم تجيبوا تكلمت فلم تسمعوا بل عملتم =

١٦٦

الآيات المباركة ٤ - ٨ من سورة الإسراء(١) ، لخلصنا الى نتيجةٍ مهمّةٍ كما أثبتها العلاّمة محمد الصادقي في كتابه (الإسلام في الكتب السماوية)

____________________

= الشر في عيني و اخترتم ما لم اسر به* ١٣ لذلك هكذا قال السيد الرب هوذا عبيدي ياكلون و انتم تجوعون هوذا عبيدي يشربون و انتم تعطشون هوذا عبيدي يفرحون و انتم تخزون* ١٤ هوذا عبيدي يترنمون من طيبة القلب و انتم تصرخون من كابة القلب و من انكسار الروح تولولون* ١٥ و تخلفون اسمكم لعنة لمختاري فيميتك السيد الرب و يسمي عبيده اسما اخر* ١٦ فالذي يتبرك في الارض يتبرك باله الحق و الذي يحلف في الارض يحلف باله الحق لان الضيقات الاولى قد نسيت و لانها استترت عن عيني* ١٧ لاني هانذا خالق سماوات جديدة و ارضا جديدة فلا تذكر الاولى و لا تخطر على بال* ١٨ بل افرحوا و ابتهجوا الى الابد في ما انا خالق لاني هانذا خالق اورشليم بهجة و شعبها فرحا* ١٩ فابتهج باورشليم و افرح بشعبي و لا يسمع بعد فيها صوت بكاء و لا صوت صراخ* ٢٠ لا يكون بعد هناك طفل ايام و لا شيخ لم يكمل ايامه لان الصبي يموت ابن مئة سنة و الخاطئ يلعن ابن مئة سنة* ٢١ و يبنون بيوتا و يسكنون فيها و يغرسون كروما و ياكلون اثمارها* ٢٢ لا يبنون و اخر يسكن و لا يغرسون و اخر ياكل لانه كايام شجرة ايام شعبي و يستعمل مختاري عمل ايديهم* ٢٣ لا يتعبون باطلا و لا يلدون للرعب لانهم نسل مباركي الرب و ذريتهم معهم* ٢٤ و يكون اني قبلما يدعون انا اجيب و فيما هم يتكلمون بعد انا اسمع* ٢٥ الذئب و الحمل يرعيان معا و الاسد ياكل التبن كالبقر اما الحية فالتراب طعامها لا يؤذون و لا يهلكون في كل جبل قدسي قال الرب). وللوقوف على النص بجماله وروعته، انظر: سفر أشعيا ٦٥: ١١-٢٥،العهد القديم، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، الكتاب المقدس، ص ٩٩٠. والفرقُ في الترجمة واضحٌ!

(١) سورة الإسراء: الآيات، ٤-١٠:( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْ‌ضِ مَرَّ‌تَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرً‌ا ﴿٤﴾ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ‌ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا ﴿٥﴾ ثُمَّ رَ‌دَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّ‌ةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ‌ نَفِيرً‌ا ﴿٦﴾ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ =

١٦٧

مفسّراً أقوال إشعياء اللنبيّ (ع) الآنفة الذكر على الشكل التالي: هذه الآياتُ البيّناتُ تُبشّرُ عن زمنٍ منيرٍ تبدَّلت شريعة إسرائيل الى أُخرى، وكذلك خيرةُ الله عن إسرائيل لمختارين آخرين، فلا اسمَ إلاّ اسم القائد الديني ألأخير.(١)

مضافاً الى ذلكَ أنَّ العهد الجديد يذكرُ الى جانب المسيح شخصيةً أُخرى وهي شخصية الأمين الصادق، فقد ورد في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي:

(ثم رأيتُ السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يُدعى أميناً وصادقاً بالعدل يحكم ويحار، وعيناهُ كليب نارٍ، وعلى رأسه تيجانٌ كثيرةٌ ولهُ اسمٌ مكتوبُ ليسَ أحدٌ يعرفهُ إلاّ هو(٢) ، وهو متسربلٌ بثوبٍ مغموس بدمٍ ويدعى أسمهُ كلمةُ الله، والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونهُ على خيلٍ بيضٍ لابسينَ بزاً أبيض ونقيّاً).(٣)

____________________

=أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَ‌ةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّ‌ةٍ وَلِيُتَبِّرُ‌وا مَا عَلَوْا تَتْبِيرً‌ا ﴿٧﴾ عَسَىٰ رَ‌بُّكُمْ أَن يَرْ‌حَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِ‌ينَ حَصِيرً‌ا ﴿٨﴾ إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْ‌آنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ‌ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرً‌ا كَبِيرً‌ا ﴿٩﴾ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَ‌ةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) . ومفاد هذه الآيات المباركة في: الصحيح من سيرة النبى الأعظم (ص): ج٣ ص٣٥-٣٦.

(١) انظر: الإسلام في الكتب السماوية، ص ٢٣٧-٢٣٨.المسيح الموعود والمهدي النتظر، ص٥٣ وما بعدها.

(٢) هذا الاسم: هل هو اسمُ الله الأعظم؟، والذي يحمله هل هو صاحبُ الخلافة ألأسمائية (الخلافة والإمامة التي قال بها القرآن الكريم) عند أهل الله... الخ، للمزيد: دروس السيد كمال الحيدري، شرح فصوص الحكم للقيصري، ص٥٦ وما قبلها وما بعدها.

(٣) العهد الجديد، سفر الرؤيا (رؤيا يوحنا اللاهوتي)، الإصحاح ١٩، الفقرة ١١، الكتاب المقدّس باللغة العربية ٧٣ سفراً، مصر.

١٦٨

فمن هو الصادقُ الأمين الراكب على الفرس الأبيض؟، هل هو يسوع المسيح؟، إنّ الكلامَ عن المسيح يسبقُ هذا المقطع، ثم إنَّ يسوع (ع) يُسمّى أحياناً باسمه وأحياناً بابن الإنسان، فيبقى أن يكون النبيُّ محمد (ص) أو المهدي(ع).

ولما كانت الآثار الإسلامية لاتتحدَّث عن قدوم للرسول (ص) وبهذا الشكل، لاعندما جاء أولاً ولا في آخر الزمان، فيبقى أنهُ المهدي (ع) لتطابق هذه الأوصاف مع بعض مايرد في المصادر الإسلامية.(١)

ثانياً: الضيقُ والحرجُ والعسرُ وتضرُّر المؤمنين

١: في القرآن الكريم والروايات الشريفة

ويكون كلُّ ذلك قبيل الظهور المبارك ويعمُّ جميعَ الموحدين في العالم(٢) ، بسبب تسلّط مؤسسات الكفر والجور والظلم العالمية، وطول مدّة الإنتظار المؤلم لمنقذ العالم التي يملُّهاُ الكثيرون بسبب ضعف إيمانهم ووهن عقيدتهم. ولكنَّ الله سبحانه وتعالى تكفَّلَ بلطفهِ وكرمه بتسديد المؤمنين وتثبيتهم على على طريق الحقّ الذي رسمهُ لهم، وذلك في قوله تبارك وتعالى:( يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَ‌ةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّـهُ مَا يَشَاءُ ) (٣) .

____________________

(١) المهدي المنتظر بين الدين والفكر البشري، ص ٦١-٦٢، بإيجاز وتصرّثف.

(٢) انظر: المهدي المنتظر بين الدين والفكر البشري، ص ١٤١-١٤٣.

(٣) سورة ابراهيم: آية ٢٧.

١٦٩

فقد جاء في كمال الدين وتمام النعمة: قال حمّاد بن زياد: سألت موسى بن جعفر: يابن رسول الله! أويكون في الائمة من يغيب؟ قال: نعم، يغيب عن ابصار الناس شخصه، ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره، وهو الثاني عشر، يسهّل الله له كل عسير... الى ان يقول (عليه السلام):«وله غيبةٌ يطول أمدها خوفاً على نفسه، يرتدُّ فيها أقوام ويثبت آخرون،فطوبى لشيعتنا المتمسكين بحبلنا في غيبة قائمنا، الثابتين على موالاتنا والبرائة من اعدائنا، أولئك منا و نحن منهم، فقد رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة، فطوبى لهم ثم طوبى لهم، هم والله معنا في درجتنا» (١) .

أقول: ومن اكبر الامتحانات غبيبة الحجة، ليميز الخببيث من الطيّب، والمؤمن من المنافق، والمخلص من المرتاب، فعلى هذا لا يظهر حتى يتميّزوا كما في الخبر:(لا والله لا يأتيكم إلاّ بعد اليأس، ولا والله لا يأتيكم حتى تتميّزوا ولا والله لا يأتيكم حتى تمحّصوا، ولا والله لا يأتيكم حتى يشقى من شقي ويسعد من سعد.) (٢) وقوله:(لايأتيكم إلاّ بعد اليأس ) ، يعني بعد أن ينتظره المنتظر حتى ييأس...(٣) .

وفي هذه الايام، فان الامتحان يعسرُ شيئاً فشيئاً، وتضيق الحلقة على المؤمنين والموحدين في كل الدنيا، جرّاءَ الهجمة الشرسة لاقطاب الاستكبار والكفر العالمي، وما زالوا يحشّدونَ العُدَّةِ والعدد، ويرصّونَ

____________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة، ص ٣٦٨. كفاية الأثر، ص٢٧. بحار الأنوار، ج ٥١ ص ١٥٠.

(٢) غيبة النعماني، ص٢٠٨-٢٠٩. الكافي، ج ١، ص ٣٣٠ و ٣٣١.

(٣) نور الأبصار: ص٣٥٠ـ ٣٥٤.

١٧٠

الصفوفَ، ويبذلون الأموال الطائلة، ويخطِّطونَ ليلَ نهار، لإحكام القبضةِ على العالم كما يزعمون، لذا فانّ الاختبارات القادمة والفتن الآتية ستكون أشدّ وطئةً واقوى من سابقتها، وستكون النجاة لمن إتّقى، وتمسّك بالعروة الوثقى وحبلَ الله المتين، وسيكون المدُّ والتسديد الإلهي بأروع صوره.

٢: في العهدين

في سفر إشعياء (ع): أنَّ المؤمنين يتضرَّرون قبل مجيء يوم الله الأعظم، ويكونون جرّاء الضيق والشدَّة كالمرأة الحامل التي تتلوّى من ألم المخاض:

(١٦ يا رب في الضيق طلبوك سكبوا مخافتة عند تاديبك اياهم* ١٧ كما ان الحبلى التي تقارب الولادة تتلوى و تصرخ في مخاضها هكذا كنا قدامك يا رب* ١٨ حبلنا تلوينا كاننا ولدنا ريحا لم نصنع خلاصاً في الارض...

٢٠ هلم يا شعبي ادخل مخادعك و اغلق ابوابك خلفك اختبئ نحو لحيظة حتى يعبر الغضب* ٢١ لانه هُوَ ذا الرب يخرج من مكانه ليعاقب إثمَسُكان الارض فيهم فتكشف الارض دماءها و لا تغطي قتلاها في ما بعد*).(١)

____________________

(١) العهد القديم، سفر إشعياء، الإصحاح ٢٦، الفقرات ٢-١٨ و ٢٠-٢١، الكتاب المقدّس باللغة العربية ٧٣ سفراً، مصر. سفر أشعيا ٢٦: ٢-١٨ و ٢٠-٢١،العهد القديم، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، الكتاب المقدس، ص ٩٣٨-٩٣٩.

١٧١

١٧٢

المبحث الثاني: أوصافُ القائم المنقذ

لقد أثنى الله تباركَ وتعالى على وليِّهِ وخليفتهِ (منقذ العالم) وذكرهُ بأسماءٍ وصفاتٍ ونعوتٍ تبيِّنُ مقامَهُ ومَنزلتهُ عندَ ربِّهِ عزَّ وجلَّ، وتحكي تلكَ المهمَّة العظمى الملقات على عاتقهِ (عليه الصلاةُ والسلام) والمدَّخر أساساً لأجلها، وجاء ذلكَ في الكتب السماوية المقدَّسة وصحف الأنبياء والروايات الشريفة المباركة على حدٍّ سواء، وبلغَ ذلكَ من الكثرة والسعةِ مالا نستطيع الوقوف عليهِ هنا ولكن نذكرُ شيئاً منها على نحو الإختصارِ والإجمال، حيث نبدأُ اولاً: بأوصافهِ في القرآن والروايات، وثانياً: بأوصافهِ في العهدين.

اولاً: أوصاف القائم المقذ في القرآن والروايات

١: أنه الكوكب الدري:

في قوله تعالى:( اللَّـهُ نُورُ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ مَثَلُ نُورِ‌هِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّ‌يٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَ‌ةٍ مُّبَارَ‌كَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْ‌قِيَّةٍ وَلَا غَرْ‌بِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‌ نُّورٌ‌ عَلَىٰ نُورٍ‌ يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِ‌هِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِ‌بُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (١) .

أن المهدي عليه السلام هو الكوكب الدري في الآية. فعن (أمير المؤمنين عليه السلام):

____________________

(١) سورة النور: آية ٣٥.

١٧٣

النور: القرآن، والنور اسم من أسماء الله تعالى، والنور النورية، والنور ضوء القمر، والنور ضوء المؤمن وهو الموالاة التي يلبس لها نورا يوم القيامة والنور في مواضع من التوراة والإنجيل والقرآن حجة الله على عباده، وهو المعصوم... فقال تعالى:( وَاتَّبَعُوا النُّورَ‌ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فالنور في هذا الموضع هو القرآن، ومثله في سورة التغابن قوله تعالى:( فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَ‌سُولِهِ وَالنُّورِ‌ الَّذِي أَنزَلْنَا ) يعني سبحانه القرآن وجميع الأوصياء المعصومين، من حملة كتاب الله تعالى، وخزانه، وتراجمته، الذين نعتهم الله في كتابه فقال:( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ وَالرَّ‌اسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَ‌بِّنَا ) فهم المنعوتون الذين أنار الله بهم البلاد، وهدى بهم العباد، قال الله تعالى في سورة النور:( اللَّـهُ نُورُ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ مَثَلُ نُورِ‌هِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّ‌يٌّ ) إلى آخر الآية، فالمشكاة رسول الله صلى الله عليه وآله والمصباح الوصي، والأوصياء عليهم السلام والزجاجة فاطمة، والشجرة المباركة رسول الله صلى الله عليه وآله والكوكب الدري القائم المنتظر عليه السلام الذي يملأ الأرض عدلا).(١)

____________________

(١) المحكم والمتشابه، ص ١١٢، عن تفسير النعماني.وعنه البحار، ج ٩٣ ص ٣. معجم أحاديث الإمام المهدي (ع)، ج ٥، ص ٢٧٤-٢٧٥. بحار الأنوار، ج٩٠ ص ٢١.

١٧٤

٢: أنَّهُ القوَّة وأصحابهُ الركن الشديد:

في قوله تعالى:( قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُ‌كْنٍ شَدِيدٍ ) (١) .

- (عن الإمام الصادق (ع) في قوله الله: قالَ لو أنَّ لي بكم قوَّةً أو آوي الى ركنٍ شديد: قال قوَّة القائم والركن الشديد: الثلاث مئة وثلاثة عشر أصحابه).(٢)

٣: أنَّهُ بقيَّةُ الله:

في قوله تعالى:( بَقِيَّتُ اللَّـهِ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (٣) .

روى محمد بن يحيى، عن جعفر بن محمد قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الدينوري عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله رجل عن القائم يسلم عليه بإمرة المؤمنين؟ قال: لا ذاك اسم سمى الله به أمير المؤمنين عليه السلام، لم يسم به أحد قبله ولا يتسمى به بعده إلا كافر، قلت جعلت فداك كيف يسلم عليه؟ قال: يقولون: السلام عليك يا بقية الله، ثم قرأ:( بَقِيَّتُ اللَّـهِ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (٤) .

____________________

(١) سورة هود: آية ٨٠.

(٢) تفسير العياشي، ج٢ ص ١٥٦. تفسير القمي، ج١ص ٣٣٥. البحار، ج ١٢ص١٥٨ وص١٧٠. اثبات الهداة، ج٣ ص ٥٥١.

(٣) سورة هود: آية ٨٦.

(٤) الكافي، ج١ ص ٤١١. تفسير فرات الكوفي، ص ١٩٣.

١٧٥

٤: أنَّهُ السراط السوي:

في قوله تعالى:( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَ‌اطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ ) (١) .

روى (محمد بن العباس عن محمد بن همام عن محمد بن إسماعيل العلوي عن عيسى بن داود عن موسى بن جعفر عن أبيه عليه السلام في قول الله عز وجل:( فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَ‌اطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ ) قال: الصراط السوي هو القائم عليه السلام، والهدى من اهتدى إلى طاعته، ومثلها في كتاب الله عز وجل:( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ‌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ) (٢) قال: إلى ولايتنا)(٣) .

٥: وأنَّهُ يُسلِمُ لهُ من في السماوات والأرض:

في قولهِ تعالى:( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ طَوْعًا وَكَرْ‌هًا ) (٤) .

عن ابن بكير قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله:( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ طَوْعًا وَكَرْ‌هًا ) قال: (أنزلت في القائم عليه السلام إذا خرج (أمرَ) باليهود و النصارى والصابئين والزنادقة وأهل الردة والكفار في شرق الأرض وغربها، فعرض عليهم الاسلام فمن أسلم

____________________

(١) سورة طه:آية ١٣٥.

(٢) سورة طه: آية ٨٢.

(٣) كنز الفوائد: ١٦٢. بحار الأنوار، ج ٢٤، ص ١٥٠.

(٤) سورة آل عمران:آية ٨٣.

١٧٦

طوعا أمره بالصلاة والزكاة وما يؤمر به المسلم ويجب لله عليه، ومن لم يسلم ضرب عنقه حتى لا يبقى في المشارق والمغارب ‹ صفحة ١٨٤ › أحد الا وحد الله، قلت له: جعلت فداك ان الخلق أكثر من ذلك؟ فقال: ان الله إذا أراد امرا قلل الكثير وكثر القليل)(١) .

٦: وأنهُ هو (الغيب والآية)(٢) :

في قوله تعالى:( الم ﴿١﴾ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَ‌يْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَ‌زَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) .(٣)

في كمال الدين: (حدثنا علي بن أحمد بن موسي - رحمه الله - قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد، عن علي بن أبي حمزة عن يحيى بن أبي القاسم قال: سألت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله عزو جل:( الم ﴿١﴾ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَ‌يْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) فقال: المتقون شيعة علي عليه السلام والغيب فهو الحجة الغائب. وشاهد ذلك قول الله عزو جل:( وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّ‌بِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّـهِ فَانتَظِرُ‌وا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِ‌ينَ ) (٤) فأخبر (عزّو جلّ)

____________________

(١) تفسير العياشي، ج ١، ص ١٨٣-١٨٤. البحار ج ١٣ ص١٨٨. اثبات الهداة ج ٧ ص ٩٦. البرهان ج ١ ص ٢٩٦. الصافي ج١ ص٢٧٦.

(٢) أي هو المصداق الأكمل للغيب، وآية من آيات الله الكبرى.

(٣) سورة البقرة: ١-٣

(٤) سورة يونس: آية ٢٠.

١٧٧

أن الآية هي الغيب، والغيب هو الحجة، وتصديق ذلك قول الله (عزو جل):( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (١) يعني حجة)(٢) .

وفي كمال الدين وتمام النعمة أيضاً: (حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل - رحمه الله - قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، عن عمر بن عبد العزيز، عن غير واحد، عن داود ابن كثير الرقي، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل:( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) قال: من أقر بقيام القائم عليه السلام أنه حق)(٣) .

٧: ومن بقيَّةِ أسمائهِ وأوصافه ونعوتهِ الشريفة:

أ: في جمالهِ وعدلهِ والرِّضى بخلافته:

- (عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: المهدي من ولدي وجهه كالقمر الدري اللون لون عربي الجسم جسم إسرائيلي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا يرضى بخلافته أهل السماوات وأهل الأرض والطير في الجو يملك عشرين سنة)(٤) .

ب: في عددٍ من أوصافهِ وأسمائهِ وكراماتهِ:

- (عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام - وهو على المنبر -: يخرج رجل من ولدي في

____________________

(١) سورة المؤمنون: آية ٥٠.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة، ص ١٧-١٨.

(٣) كمال الدين وتمام النعمة، ص ١٧.

(٤) بحار الأنوار، ج ٥١، ص ٩١.

١٧٨

آخر الزمان أبيض اللون، مشرب بالحمرة، مبدح البطن(١) عريض الفخذين، عظيم مشاش المنكبين(٢) بظهره شامتان: شامة على لون جلده(٣) وشامة على شبه شامة النبي صلى الله عليه وآله، له اسمان: اسم يخفى واسم يعلن، فأما الذي يخفى فأحمد وأما الذي يعلن فمحمد، إذا هز رايته أضاء لها ما بين المشرق والمغرب، و وضع يده على رؤوس العباد فلا يبقى مؤمن إلا صار قلبه أشد من زبر الحديد، و أعطاه الله تعالى قوة أربعين رجلا، ولا يبقى ميت إلا دخلت عليه الفرحة (في قلبه) وهو في قبره، وهم يتزاورون في قبورهم، ويتباشرون بقيام القائم صلوات الله عليه)(٤) .

ج: في إشياق الجنَّة وحبِّ الله ورسولهُ للقائم المنقذ:

- (عن جابر بن عبد الله، عن النبيِّ (ص): الجنَّةُ تشتاقُ الى أربعةٍ من أهلي، قد أحبَّهم اللهُ وأمرني بحبّهم:عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين والمهدي الذي يصلّي خلفهُ عيسى بن مريم)(٥) .

____________________

(١) مبدح البطن أي واسعه وعريضه-والبداح: المتسع من الأرض. والبدح-بالكسر -: الفضاء الواسع وامرأة بيدح أي بادن. والأبدح: الرجل الطويل (السمين والعريض الجنين من الدواب (القاموس).

(٢) مشاش: جمع المشاشة-بالضم-وهي رأس العظم الممكن المضغ.

(٣) الشامة علامة تخالف البدن الذي هي فيه اما باللون أو التورم، وهي الخال.

(٤) كمال الدين وتمام النعمة، ص ٦٥٣.

(٥) كشف اليقين، ص١١٧. كشف الغمة، ج١ص٥٢. المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي، ص٢٧٤.

١٧٩

د: في شجاعتهِ الإلهية وكرمهِ وعلمهِ وخُلُقِهِ:

- (عن سليمان بن هلال قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن الحسين بن علي عليهم السلام قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين نبئنا بمهديكم هذا؟ فقال: إذا درج الدارجون، وقل المؤمنون، وذهب المجلبون، فهناك، فقال: يا أمير المؤمنين عليك السلام ممن الرجل؟ فقال: من بني هاشم من ذروة طود العرب وبحر مغيضها إذا وردت، ومجفو أهلها إذا أتت، ومعدن صفوتها إذا اكتدرت لا يجبن إذا المنايا هلعت، ولا يحور إذا المؤمنون اكتنفت ولا ينكل إذا الكماة اصطرعت مشمر مغلولب طفر ضرغامة حصد مخدش ذكر سيف من سيوف الله رأس قثم نشق رأسه في باذخ السؤدد، وغارز مجده في أكرم المحتد، فلا يصرفنك عن تبعته صارف عارض ينوص إلى الفتنة كل مناص إن قال فشر قائل وإن سكت فذو دعاير.

ثم رجع إلى صفة المهدي عليه السلام فقال: أوسعكم كهفاً، وأكثركم علماً وأوصلكم رحماً اللهم فاجعل بيعته خروجاً من الغمة واجمع به شمل الأمة فأنى جاز لك فاعزم ولا تنثن عنه إن وفقت له ولا تجيزن عنه إن هديت إليه هاه وأومأ بيده إلى صدره شوقاً إلى رؤيته)(١) .

هـ: أنَّه محبوب في عموم الخلائق:

- (عن الإمام الصادق (ع) قال: المهدي محبوبٌ في الخلائق يُطفيء الله بهِ الفتنة الصمّاء)(٢) .

____________________

(١) الغيبة، النعماني، ص ٢١٢. اثبات الهداة، ج٣ ص ٥٣٧. بحار الأنوار، ج ٥١، ص ١١٥.

(٢) بشارة الإسلام، ص١٨٥.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260